تكرار القرآن لذكر يوم القيامة
نحن الآن في التعليق على سورة ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ [التكوير:1] والبدء بتفسير ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾ [الانفطار:1].
بالنسبة لسورة التكوير كان الصحابة يقولون للنبي عليه الصلاة والسلام: “شبتَ يا رسول الله ولم تبلغ أوان الشيب”، فقال: ((شَيَّبَتْني هُودٌ وأَخَواتُها)) ، يعني شبتُ من قراءة سورة هود وأخواتها، لأن سورة هود فيها ذِكر ما أنزل الله بالأمم من عذابه وأليم عقابه على أعمالهم وكفرهم وجحودهم، وسورة الواقعة من أخوات هود، لأن فيها ذكر حال الإنسان في عالم الخلود، إما سعادة الخلود وإما شقاوة وتعاسة الخلود.
ومن أخواتها سورة النبأ سورة ﴿عَمَّ﴾، كذلك كلها تدور حول القيامة وحول محاسبة الله للإنسان على أعماله في حياته الدنيا، ومن أخواتها ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا﴾ [المرسلات:1]، كل السورة تدور حول القيامة، يقول الله تعالى فيها: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات:15]، يعني المكذبين بالآخرة، ومن جملة أخوات هود سورة ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ [التكوير:1].
الإيمان بيوم القيامة من أركان الإيمان
الإيمان بالآخرة أو بالقيامة أو باليوم الآخر أو بمحاسبة الله للإنسان ركن من أركان الإيمان، إذا فقده الإنسان لا يُعتبَر مؤمنًا بل هو كافر، ويحق عليه مثل قول الله تعالى: ﴿وَيْلٌ﴾ أي الهلاك والدمار وخسار الأبد ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ أي في الآخرة ﴿لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات:15]، وفي المقابل السعادة والنجاح والتقدُّم للمؤمنين المصدِّقين، لأن الإيمان هو الإيمان بلقاء الله وبمحاكمة الله وبالملائكة الموكلين بتسجيل أعمالك أيها الإنسان من قول أو عمل أو مجلس أو بيع أو شراء أو ظلم أو عدوان أو خيانة أو غيبة، ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18]، فهناك رقيب عليك من طرف الله عزَّ وجلَّ يسجل عليك كل أعمالك، ولو كنتَ إمبراطور العالم أو “زَبّالاً” [عامل نظافة] صعلوكًا.. ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ﴾ [ق:18] يراقبك ماذا عملتَ؟ ماذا نظرتَ؟ ماذا سمعتَ؟ إلى أين مشيتَ؟ ماذا فعلَت يدُك؟
هذا هو الإيمان بالقرآن.. الناس يفرحون أنهم حفظوا القرآن، ولكن هل حفظتَ هذه الآية: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ﴾؟ يراقب كل حركة حتى تُسَجَّل، و﴿عَتِيدٌ﴾ [ق:18]، يعني حاضرًا لا يغيب ولا يفارقه.
كان عليه الصلاة والسلام يقول: ((إنَّ مَعَكم مِن مَلائكةِ اللهِ مَن لا يُفارِقُكم في ليلٍ ولا نهارٍ إلَّا عِندَ الجِماعِ، وَعِندَ قَضاءِ الحاجةِ، فَأَكرِمُوهم واستَحيُوهُم)) ، استحيوا منهم أن تعملوا الأعمال القبيحة.. فإذا أراد الإنسان أن يعمل عملًا قبيحًا يتستر وينظر يمينًا وشمالًا هل يراه أحد، وذلك كي لا يرى نقائصه ومعايبه، مع أنه لو رآه إنسان عادي لا يضره ولا يسجل عليه ما يؤذيه، ولكنه يفعل ذلك حياءً وخجلًا، أما ملائكة الله ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)﴾ يحفظون الأعمال ﴿كِرَامًا﴾ كراماً عند الله، وكلامهم مقبول وغير مرفوض، ﴿كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار:10-12].
القرآن كتاب العلم والعمل والتعليم
القرآن ليس للتلاوة فقط، وليس لحفظ ألفاظه فقط، بل إن القرآن لفهم معانيه ثم العمل به، ثم تعليم مبادئه للآخرين، فإذا فعل الإنسان هذا المنهاج فعَلِم وعَمِل وعَلَّم، يُدعَى عظيمًا في الملكوت الأعلى .
ماذا أوجدَت هذه الثقافة القرآنية في تاريخ الإنسان؟ أوجدت الأباطرة الملائكة، كأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وصلاح الدين وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم، وأوجدت أعظم رجال السياسة العالمية، ولكن الملائكيين.
عندما ضرب ابن عمرو بن العاص قبطيًّا من عامة الناس وشكاه إلى عمر رضي الله عنه، استدعاه عمر من مصر إلى المدينة -وعمرو بن العاص رضي الله عنه هو فاتح مصر- ولما ثبت له عدوانه على النصراني أعطى القضيب للنصراني وقال له: “اضربه على رأسه كما ضربك على رأسك” فضربه، وهل استطاع عمرو بن العاص أن يعمل “فيتو” بأن هذا القصاص يطبق على الضعفاء لا على الأقوياء، وعلى العامة لا على العظماء؟
في الإسلام لا يوجد “فيتو” للأقوياء ليتحكموا بالضعفاء.. قال: فضربه أمام رجال الدولة وعظماء الصحابة، وقد قالوا: “ونحن نحب أن يضربه”، وما أحد منهم تحمس لأن نصرانيًّا يضرب مسلمًا، وفي أي مكان؟ في مدينة رسول الله ﷺ، وبحضور من؟ بحضور عظماء رجال الدولة، ولم يقدم محاميًا ولا احتملَت القضية شهورًا أو سنين، بل كان الحكم فوريًّا، قال: حتى اشتفى وشبع ضربًا، فقال له: “اضرب بالقضيب على رأس أبيه عمرو”، النصراني يضرب ابن فاتح مصر، ويُؤمَر أن يضرب رأس أبيه فاتح مصر! هذه مهما أراد الكتَّاب والروائيون أن يصوِّروا العدالة هل يستطيعون أن يصوِّروها بهذا الشكل؟
فقال القبطي: لا يا أمير المؤمنين، أنا ضربتُ ضاربي، وأخذتُ حقي، فقال عمر رضي الله عنه للنصراني: “والله لو ضربتَه لَمَا منعك منا أحد”، ثم التفت عمر إلى عمرو فاتح مصر وقال له: “متى استعبدتم الناس” أي أنتم فتحتم البلاد لا لتُذلوا شعوب العالَم، بل لتنقلوهم من ذل الاستعمار إلى عزة الاستقلال، “متى استعبدتم الناس” هل تريدون أن تجعلوهم عبيدًا؟ “وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟”، الأصل في الإسلام أن الإنسان حرٌّ، ولذلك فإن كل ما ورد في القرآن عن الأرِقَّاء ما ورد كيف يُسترَقُّون أو يُستعبَدون، بل ورد كيف يُحرَّرون وكيف يعتَقُون.
الإيمان بيوم القيامة يرقى بالمجتمع
هذه الثقافة هي ثقافة القرآن التي من أركانها الإيمان باليوم الآخر وبحياة الخلود بعد فناء الجسد، فأي النظرتين والعقيدتين أرقى؟ هل الذي يلحد بالآخرة ويعتقد أنه كحمار يعيش ليأكل ويشرب ويتزوج زوجةً مثلَه حمارةً، ثم يموت ويأكله الدود وينتهي الأمر، أم العقيدة التي تقول له: ستنتقل من العالَم الذي أنت فيه على ضوء أعمالك وأخلاقك وروحانيتك وربانيتك إلى عالَم الأبد والخلود، فإن سرتَ على النهج المستقيم فلك من النعيم ما تعجز العقول عن إدراكه؟ ((ما لا عَينٌ رَأتْ، ولا أُذُنٌ سَمعتْ، ولا خَطَرَ على قَلبِ بَشرٍ)) ، وكما يقول القرآن: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة:17] فليس الأمر مِثْلَ رجل كنيسة يبيعك قراريط في الجنة، بل: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة:17].
هذه هي الثقافة القرآنية، ولكن مع عميق الأسف لا يُقرَأ القرآن من أجل أن تُفهَم معانيه، ولا من أجل أن تُحوَّل من قراءة ومعانٍ مفهومة إلى أعمال منظورة ومشهودة.. والعرب على أميتهم كانوا قبائل، ولم يكونوا أمة موحَّدة، ولم تكن لهم دولة ولا ثقافة.. إلخ، وبسنوات قليلة استطاعوا أن يمثِّلوا هيئة الأمم ومجلس الأمن، ولكن بلا “فيتو”.
قصاص الله تعالى للمظلوم من الظالم
أتى المهاجرون من الحبشة إلى النبي ﷺ، فقال لهم: ((ما أَعجبُ ما رَأيتُم في الحبشةِ؟)) فقال أحدهم: رأيتُ يا رسول الله امرأة فقيرة تحمل جَرَّة على رأسها، فأتى بعض أبناء الأغنياء المترَفِين -أي البَطْرانين- من وراء ظهرها ودفعها فوقعَت على وجهها وانكسرت جرتها، فقامت والتفتت إليه وقالت له: ستعلم يا غُدَرُ -أي يا غدَّار- إذا جمع الله الأولين والآخرين إلى ميقات يوم معلوم، ستعلم موقفك عنده وموقفي معك عنده، وستعلم كيف يأخذ الله للضعيف حقه من القوي.
الإيمان بالآخرة هو الإيمان بـ ((شَيَّبتْني هُودٌ وأَخواتُها)) ، ولماذا النبي ﷺ شاب من قراءتها والآن المسلمون لا يشيبون من قراءتها؟ لماذا عمر رضي الله عنه نَفَّذَ العدالة على أعظم قُوَّاد الدولة من أجل رجل فقير وغير مسلم؟ العدالة ليست للمسلمين ضد غير المسلمين، بل العدالة للجميع.
كان النبي ﷺ يستدين أكثر ما يستدين من غير المسلمين، فاقترض من يهودي، فأتى اليهودي قُبَيل الوقت المحدد للدفع، فأمسك النبيَّ ﷺ من صدره وشدَّه حتى أثَّر الشدّ في عنقه، وقال له: “أنتم يا بني عبد المطلب مُطل”، لا تؤدون الحق في وقته.. ومن هو النبي اتجاه هذا اليهودي؟ النبي ﷺ فوق أنه مَلِك القلوب والأرواح والعقول هو رجل الدولة أيضًا، ولكنه عندما عرض عليه جبريل عليه السَّلام وخيَّره نيابة عن الله عزَّ وجلَّ قائلًا: ((إنَّ اللهَ يُخيِّرُك أنْ تَكونَ مَلِكًا نَبيًّا أو عَبدًا نَبيًّا))، أي تأخذ لقب الملك مع النبوة، فيقال لك: الملِك النبي محمد، فقال: ((لا، بل عَبدًا نَبيًّا)) .
ولما رأى الصحابة اليهودي وجرأته وما فعله مع رسول الله ﷺ مما لا يليق مع إنسان عادي.. كان بإمكانه أن يقول له: لقد تأخرتَ عليَّ.. ولا يشدّه ويقول له: أنتم مطل، وأنتم لا تدفعون الحق في وقته.. فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا اليهودي.. وهناك رواية عن شخص آخر [غير اليهودي]: أضرب عنق هذا المنافق.. فقال ﷺ: ((يا عمرُ هَلَّا كُنتُم مع صاحِبِ الحِقِّ؟))، إذا صار هناك اختلاف بين نبيكم وبين يهودي والحق مع اليهودي، فهل تكونون مع نبيكم أم مع الحق؟ ((هَلَّا كُنتُم مع صاحِبِ الحِقِّ، إنَّ لِصاحِبِ الحَقِّ مَقالَةً)) ، له الحق أن يعاتبني ويتكلم بكلام غير عادي معي، لأنه أحسن، ((قُم إليهِ يا عُمرُ))، وقد كان عمر رضي الله عنه قد سحب السيف ويريد كلمةً فقط من النبي ﷺ حتى يرمي عنقه، ((قُم يا عُمرُ، فَأَدِّ إلَيهِ حَقَّهُ وَزِدْه عَلى حَقِّهِ))، إذا كان الدين مئة فأعطه مئة وعشرين، ((لأَنَّكَ رَوَّعتَهُ)) ، لأنك أرعبتَه وخوَّفتَه.
قولوا لي: في القرن العشرين قرن الديموقراطية والعدالة والمساواة من غرب أميركا إلى اليابان وما بينهما هل أُنصِف الإنسان وأُعطي حقوقه مع اختلاف الدين والقومية واللون والمكانة كما أعطاه قانون الله عز وجل ودستور السماء للإنسان؟
جهاد المسلمين لنشر العلم ومحاربة الجهل
مشى المسلمون العرب في ظل القرآن علمًا وعملًا وتعليمًا وجاهدوا لا ليستولوا على الشعوب وثروات الشعوب، بل جاهدوا الاستعمار الروماني ليحرروا الشعوب من الاستعمار الروماني، وحاربوا الاستعمار الفارسي ليحرروا الشعوب من الاستعمار الفارسي، ثم جاهدوا بعد ذلك ليحرروا الشعوب من الجهل والفوضى والتخلف والفقر والخرافات، ثم جعلوا مئات الشعوب شعبًا واحدًا، بل عائلةً واحدة ((كَالجَسدِ الواحِدِ إذا اشتَكَى مِنه عُضوٌ تَداعَى لَه سائِرُ الجَسدِ بِالسَّهرِ والحُمَّى)) .
وأنتم أيها الإخوان نساءً ورجالًا، هل آمنتم بسورة ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ [التكوير:1]؟ هل آمنتم بآيات ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾ [التكوير:1-2] وإذا وإذا [إلى تتمة الآيات، حتى:] ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾ [التكوير:14]؟ يعني ستعرض أعمالك التي كتبَتْها وحفظَتْها الملائكة في صحائفها، ستعرض عليك وستراها منظورةً في محكمة الله، والقاضي والحاكم هو الله الحق الذي لا يظلم مثقال ذرة، وسيحاسبك حتى لو ظلمتَ هِرَّة.. النبي ﷺ يقول: ((دَخَلَتِ امرَأَةٌ نارَ جَهَنَّمَ في هِرَّةٍ حَبَسَتْها حتَّى ماتَتْ، لا هي أَطعَمَتْها، ولا هي تَرَكَتْها تَأكلُ مِن خَشاشِ الأَرضِ)) ، فكيف إذا ظلمتَ ضعيفًا أو زوجةً أو أجيرًا أو فقيرًا ولم تعطه حقه من مالك! القرآن يقول: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [الذاريات:19] باشتراكية الإسلام لم يسلب الإسلامُ الغنيَّ ثروتَه، بل أبقى الغني غنيًّا وجعل الفقير غنيًّا، فالإسلام ضد الفقر، وضد الجهل، ((طَلَبُ العِلمِ فَريضةٌ عَلى كُلِّ مُسلمٍ)) .
المسلمون حملوا الخير لما فتحوا البلاد
لَمَّا فتح المسلمون بخارى وسمرقند ووصلوا إلى الصين حملوا معهم العلم والثقافة والإنسانية والعدالة والمساواة للجميع، فالصغير والكبير والغني والفقير والصعلوك والملوك في الحق وفي القانون سواء.
((كَادَ الفَقرُ أنْ يَكونَ كُفرًا)) ، لقد حارب الإسلام الفقر كما حارب الكفر -والكفر هو الجهل بالله وبشريعة الله- لينقل هذا الكافر إلى ثقافة الله وإلى مدرسة الله وإلى الأخلاق الإلهية، فما مضت سنوات عدة حتى صارت الشعوب من الصين إلى البحر الأطلسي تحت لواء ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:10]، ((لا فَضلَ لِعَربي على أَعجمِي))، ولا لغني على فقير ولا لشريف على وضيع ((إلَّا بِالتَّقوَى)) .
فهل إنسان هذا العصر في أمريكا وفي اليابان وما بينهما وصل إلى هذا المستوى في الرقي الإنساني والعدالة الإنسانية وفرضية العلم على كل أفراد العالَم؟ لأن الإسلام أرسله الله رسالة للعالمين، وهذا يعني أنّ العلم للعالمين، و((كَادَ الفَقرُ أنْ يَكونَ كُفرًا)) ، يعني مكافحة الفقر لكل شعوب العالَم، والنبي ﷺ يقول: ((ما آمَنَ بي -ساعةً مِن نَهارٍ- مَن أَمسَى شَبعانَ وجارُهُ جائِعٌ إلى جَنبِه وَهو يَعلمُ)) .
وليس المقصود أن تسمعوا الدرس فقط، فسماع الدرس مثل إلقاء البذار على الأرض لأجل الزراعة، فإذا لم تكن الأرض محروثة، ولم تكن منقَّاة من الأحجار والأعشاب، ولم تُسَمَّد، فبإلقاء البذر وحده لا يَنْبُت، بل تأكله الطيور وتسحبه النمل، ولا يكون حصاد ولا نفع للإنسان.
القرآن ذكرى لأصحاب القلوب
لذلك قال الله عزَّ وجلَّ ووضح هذا المعنى بقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ يعني في القرآن في آياته، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى﴾ [ق:37]، لماذا قال: لذكرى؟ لأن الإنسان عندما يَسمع حُكمَ القرآن يجد أن هذا هو الحكم الإنساني الفطري الذي يجب أن يكون، حتى ولو لم يكن وحياً سماوياً، فهو دين الفطرة: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم:30].
فواجب كل واحد منا أن يكون له قلب حيٌّ بذكر الله، وأن تكون له نفس تطهَّرت بتوبة صادقة من معاصي الله ومن مخالفات الله، والقرآن وحده لا يكفي، ولا بدّ أن يكون لك القلب الحي بالله والنفس التائبة المزكاة، والله عز وجل يقول في حق القلوب النجسة الوسخة إذا سمعَت القرآن: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ﴾ -سورة كاملة- فأصحاب القلوب النجسة الميتة الغافلة ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا﴾ [التوبة:124]؟ وكانوا يدَّعون أنهم مسلمون، وسمَّاهم القرآن بالمنافقين.. فإذا كان الإنسان يقرأ القرآن أو يسمعه ولا يَنْبُت فيه علمًا وعملًا وأخلاقًا وسلوكًا فهذه الآية: ﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا﴾ تنطبق عليه.
لو وُضِع عقرب في هذه الطَّاقِيَّة -وهي قطعة قماش- وكان مغطّى، فإنك تأخذ “الطَّاقِيَّة”، [الطَّاقِيَّة هي القُبَّعة الخفيفة التي يلبسها الرجال المسلمون عادة في المساجد]، ولكن إذا كُشِف لك ما فيها من عقرب، وأنت تؤمن بوجود العقرب وخصائصه، هل تستطيع أن تمد يدك على ما فيها؟ لا، لأنه صار لديك يقين بما في هذه الطَّاقِيَّة، وكذلك: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ﴾ [التوبة:124] وكان القلب ميتًا غافلًا عن الله وما دخل في مدرسة تزكية النفس وما عثر على من يزكي نفسه، ﴿يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا﴾ [التوبة:124].
تعليم الكتاب والحكمة والتزكية
كان من مهمات ومواصفات رسول الله ﷺ وواجباته التي أوجبها الله عليه قوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ يعلمهم القرآن أي معانيه وأحكامه وأخلاقه ووصاياه، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ ينمي العقل ويغذيه حتى يصونه من الأخطاء ويصونه من الوقوع في الأضرار والآثام، لأن الحكمة هي: “الصواب في القول وفي العمل”، ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة:129].
وأنت أيها المسلم بعد وفاة رسول الله ﷺ هل فتشتَ عن وارثٍ للنبي؟ وماذا يرث من النبي؟ يرث أن يعلمهم الكتاب، لا يعلمهم ألفاظه، بل معانيه وروحانيته، ويعلمهم الحكمة، ويزكي نفوسهم، فهل فتشتَ عن هذا العالِم الوارث؟ ((العُلماءُ وَرَثَةُ الأَنبياءِ)) ، أبو بكر رضي الله عنه هل صار مسلمًا بنفسه أم بمن عَلَّمه الكتاب والحكمة وزكَّاه؟ وعمر رضي الله عنه هل صار بنفسه أم بمدرسة ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة:129]؟
صحبة الرسول المعلم خرَّجت الصحابة
عمر رضي الله عنه قبل الإسلام كان دَلَّال جِمال، أي وسيطًا في بيع الجِمال بين البائع والشاري، وأبو بكر رضي الله عنه كان بَزَّازًا، أي صاحب دكان بائع ثياب، وبمدرسة الإسلام كيف نقله الإسلام من أي مكانة إلى أي مكانة؟ خلَّده التاريخ، وهل هذا لأنهم صنعوا له تمثالًا طوله خمس مئة متر وعرضه سبع مئة متر؟ لقد خلَّدتهم أعمالهم، خلَّدتهم ثقافتهم وإيمانهم الحي وإسلامهم العملي الحكيم المزكَّى، وكانوا في كل ميادين الحياة السبَّاقين إلى العزة والكرامة، وذلك في الحروب وفي الاقتصاد وفي الصناعات وفي الحضارات.
وهكذا إنسان هذا العصر لا يمكن أن يتحقق له سلام إلا بذلك.. الآن يتكلمون عن السلام في هيئة الأمم ومجلس الأمن، مع أنهم هم الذين يشعلون الحروب “مِنْ تَحْتْ لِتَحْتْ” [أي بالسِّر والخفاء والدَّهاء]، ويضعون البنزين على النار، [البَنْزِيْن وقود السيارات والطائرات]، ومن طريق مجلس الأمن، لأنهم من الداخل لا يريدون عدلًا ولا سلامًا، إنما يريدون استعبادًا واستيلاءً وعدوانًا وغصبًا.
فواجب كل إنسان أن ينتسب إلى مدرسة الله عزَّ وجلَّ، وأن يتعلم البرنامج الإلهي لنفسه شخصيًا ولعائلته وأسرته ولمن حوله من الناس من قريب أو بعيد.
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ [آل عمران:110]، فإذا كان خالق الوجود يقول: خير أمة، فهل أمريكا خير أمة؟ وهل صار الاتحاد السوفييتي خير أمة؟ وهل صارت اليابان خير أمة؟ وهل صارت ألمانيا خير أمة؟ أما العرب الذين كانوا أُمِّيِّين ومتخلفين وجياعًا ومتقاتلين [فقد صاروا خير أمة] بعشرين سنة، ومن دون تلفزيون ولا راديو ولا صحف ولا وزارة تربية ولا وزارة إعلام، بل بالمسجد فقط، وهو مسجد كانوا يُصلُّون فيه على التراب والرَّمل، وليس فيه حصير، وسقفه من جريد النخل، لكن فيه المعلمُ سيدُ المعلمين وسيد الحكماء، والذي تخرج من مدرسة السماء، وأستاذه خالق هذه الأكوان.. والإنسان الذي يدخل هذه المدرسة ويحظى بالمعلم الحقيقي ويكون الطالب النجيب المجد المجتهد، هل تظنون أن يفشل أو يخسر أو يتخلَّف أو يَذِلّ؟
حياة الإنسان بعد موته
اللهم ردنا والمسلمين وعبادك أجمعين إلى كتابك الكريم وإلى صراطك المستقيم قبل أن يأتي يوم ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾ [التكوير:1-2]، يعني يخرب نظام هذا العالم فتندثر أرضنا والكواكب وتصير هباءً منثورًا، وننتقل إلى مجرة وإلى عالم الله به أعلم، وكما يقول النبي ﷺ: ((ما شَبَّهتُ خُرُوجَكُم مِن الدُّنيا))، يعني بالموت، فعندما يموت الإنسان يخرج من الدنيا إلى أي عالَم؟ النبي ﷺ يَذكُر لنا العالَم الذي سننتقل إليه، فليس من الممكن أن نعرفه إلا بطريقة التشبيه والمثال، قال: ((ما شَبَّهتُ خُرُوجَكُم مِن الدُّنيا إلى ذَلكَ العالَمِ -سَعَةِ رَحمةِ اللهِ- إلَّا كَما يَخرُجُ الجَنِينُ))، ما الجنين؟ الولد في بطن أمه، ((إلَّا كَما يَخرجُ الجَنينُ مِن بَطنِ أُمِّه إلى سَعةِ الدُّنيا)) ، فهل يوجد من يبيع ذلك العالَم بهذا العالَم الذي هو في بطن أمه؟ نسأل الله أن يرزقنا الفقه في الدين.. فإذا صار ذلك اليوم، واندثر عالَمنا، وعُرِضَت أعمالنا ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾ [التكوير:14].. ستعرض أعمالك في كتاب ﴿لَا يُغَادِرُ﴾ يعني لا يترك ﴿صَغِيرَةً﴾ من أعمالك ﴿وَلَا كَبِيرَةً﴾ من كلام أو نظر أو سمع أو سهرة أو ذهاب أو إياب أو مال أو أخذ أو بيع أو شراء أو حلال أو حرام ﴿إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف:49].
بمدرسة الإيمان استغنى المجتمع عن المحاكم
بهذه المدرسة الإلهية استغنى المجتمع عن القضاة، واستغنى المجتمع عن الشرطة ورجال الأمن، واستغنى المجتمع عن السجون وعن المحاكم بأنواعها، وعن الموازنات المالية الضخمة التي تؤمِّن وجود هذه الأمور لتحقيق الأمن، فبأي شيء حصل السلام والأمن؟ بالقانون الإلهي.
مرة أتى إلى النبي ﷺ أحد زعماء نصارى العرب المسمى بعَدِيّ بن حاتم، فخلع النبي ﷺ عباءته أو رداءه وأجلسه عليه، وجلس النبي ﷺ على التراب، وقال له: ((يا عَديُّ أَسلِمْ)) وكان نصرانيًّا، وبعد أَخْذٍ ورَدٍّ قال له: ((إنْ طالَتْ بِكَ حَياةٌ يا عَديُّ سَتَرَى المرأَةَ تأتِي مِنَ الحِيرةِ)) يعني من العراق ((إلى مَكَةَ)) المرأة الظعينة وحدها ((لا تَخافُ في طَرِيقِها أَحَدًا إلَّا اللهُ)) ، أما قاطع طريق أو سارق أو معتدٍ فلا.
الإسلام الحقيقي
هذا السلام من طريق الإسلام، ولكن ليس إسلامنا نحن، فالمسلمون الآن في الشرق والإسلام في الغرب، الإسلام في السماء والمسلمون في الأرض، ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ وإسلامهم يعني ادعاء الإسلام، ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات:14]، فهل عرفتَ قلبك؟ وهل عرفتَ الإيمان؟ وكيف يدخل الإيمان في القلب؟ ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج:46].. المسلم اليوم يتخرج في الأزهر، ويأخذ الدكتوراه، ولكن هل صار لديه فقه هذه الآية: ﴿الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج:46]؟ هل عرف قلبه؟ هل تفتحت عينا قلبه؟
ولذلك لا تنغرُّوا بصلاتكم وحدها ولا بتلاوتكم للقرآن ولا بالشهادات العلمية، [ولا تصيرون مؤمنين] حتى تدخلوا في إسلام القرآن دخولًا عمليًّا، وهو القلب.
القلب الحقيقي
هل لك قلب؟ هل ذهبت إلى مدرسة القلوب لتتثقف بثقافة القلوب ويصير لك قلب؟ كان بعضهم يقول
كانَ لِي قَلبٌ أَعِيشُ بِهِ
ضاعَ مِنِّي في تَقَلُّبِهِ
هل يقصد أن هذا القلب الذي يضخ الدم قد ضاع؟ إذا ضاع يموت، إذًا يقصد القلب الرباني، القلب الذي هو موضع نظر الله، القلب الذي هو مرآة تنعكس فيه أنوار الله حكمةً وأخلاقًا ربانيةً وحكمةً عاليةً وأعمالًا صالحة.
رَبِّ فَارْدُدْهُ عَليَّ فَقَدْ
عِيلَ صَبرِي في تَطَلُّبِهِ
“رب فاردده”: كيف يُرَدُّ؟ وكيف يضيع؟ يضيع بالذنوب، يضيع بالغفلات، يضيع بمجالسة البَطَّالِين، “فاردده”: كيف يُرَدُّ؟ بمجالسة أهل القلوب وبمجالسة أطباء القلوب، أما بالدعاء والتمني فإنه لا يصير شيء بمجرد الدعاء فقط، الله تعالى قال: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا﴾ [التوبة:105]، و﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النمل:90].
وَأَغِثْ ما دامَ بي رَمَقٌ
يا غِياثَ المستَغِيثِ بِهِ
“ما دام بي رمق”: فما دمتَ في الحياة اجتهد حتى يحيا قلبك ولا تموت بلا قلب.. ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء:88-89].
فهل عرفتَ القلب السليم؟ هل عرفتَ أهل القلوب ومدرسة القلوب وأطباء القلوب؟ يجب عليك أن تصحبهم وترتبط بهم برابطة الحب التي هي أقوى من الفولاذ حتى يتحقق فيك: ((المرءُ على دِينِ خَلِيلِه، فَليَنظُرْ أَحَدُكُم مَن يُخالِلْ)) ، كما نقول: إبراهيم الخليل، فالخِلَّة أن تسري محبته في عروقك وفي مشاعرك وفي أحاسيسك حتى تنتقل إليك صفاته وأخلاقه وروحانيته، ولذلك كانت الهجرة إلى صحبة رسول الله ﷺ فرضًا على المسلمين.. “وأغث ما دام بي رمق”: قبل أن أموت.
وبعضهم كان يقول
إنَّ بَيتًا أنتَ ساكِنُه
غَيرُ مُحتاجٍ إلى السُّرُجِ
أنت يا حبيبي كُلُّك أنوار، فإذا جلستَ في بيتٍ فلا حاجة للكهرباء، [أي المصابيح الكهربائية]، لأن وجهك يشع أكثر من الشمس ومن القمر.. وهذا القائل يقصد أن القلب إذا سكن فيه حب الله عزَّ وجلَّ وسكن فيه ذكر الله ومجالسة الله وزالت من سمائه غيومُ الغَفَلات وغيومُ تَعَلُّقِ النفس بالأمور الزائلات، يظهر فيه بزوغ الفجر وإسفارُه قبل بزوغ الشمس، فإذا أشرقت الشمس ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾ [الزمر:69]، ينعكس نور الله في قلب المؤمن، ويتمثَّل أعمالًا هائلة وأخلاقًا ملائكية وحِكمًا ربانية.. وكما أن الشمس مصدرُ حياةِ مَن في الأرض يصير هو [أي صاحبُ القلب] مصدرَ حياةِ الفضائل لكل من اتصل قلبه بقلبه بطريق الحب.. والحبُّ شعبةٌ، بل أعلى شعبة من شعب الإيمان.
محكمة الله يوم القيامة
نعود للآية: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾ [التكوير:14]، كيف بك إذا صرتَ في محكمة الله، وعُرِضَت أعمالك عليك من حين البلوغ إلى آخر نَفَس عند وفاتك؛ الكذبُ لَمَّا كذبتَ، والخيانة لَمَّا خنتَ، والمؤَذِّنُ لَمَّا أذَّن ولم تستجب، والحرام لما أكلتَ، والغش لَمَّا غششت، يظهر الفيلم أمام الله كيف تمزج الحليب بالماء، وكيف تمزج السَّمْن البَلَدِيّ بالسمن غير البَلَدِيّ، وتحلف الأيمان المغلَّظة أن هذا الثوب حرير أصلي بَلَدِيّ. [تُستَخدَم كلمة “بَلَدِيّ” في اللهجة السورية عند الحديث عن أشياء من الطبيعة بمعنى طبيعي وأصلي وغير مُصَنَّع أو مَغشوش، فيُقال: سَمْن بَلَدِي وهو السَّمن الحيواني من الغنم، وهو أغلى أنواع السمن في سوريا، وغير البَلَدِيّ هو النباتي، ويقال: حرير بلدي أي طبيعي وغير مُصَنَّع، كما يُقال: زيت بلدي عن زيت الزيتون].
أحدهم بائع قماش سألني سؤالًا، قال لي: يا شيخي، الزبائن يقولون لنا: هل هذا حرير بَلَدِي؟ فنجيبهم: هذا حرير “بَلَا دِيْنْ”.. يوهمه أنه بلدي، [يقول “بَلا دِيْن” بسرعة، فيحذف الألف من “بَلا” والنون من “دِيْن”، فيسمعها الزُّبُون “بَلَدِيْ”، وكلمة “بَلَا” في العامية السورية، وتعني: مِن غَيْر]، قال لي: هذا الكذب هل يصح أم لا يصح؟ قلت له: هذا صدقٌ أنحَسُ من الكذب، فهل تضحك على الله أم على الملائكة أم على القرآن؟
يوم القيامة يعلم كل إنسان ما عمل
﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾ [التكوير:14]، ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ [الطارق:9]، أسرارك الداخلية تُكشَف عنها الستائر، وأسرارك تصير ظواهر، وأين؟ أمام مَن؟ لو كنتَ أمام شرطي أو أمام ابنك أو أجيرك فإنك تذوب خجلًا، فكيف بك أمام الأنبياء وأمام رب العالمين وأمام مصيرك الأبدي؟ هل آمنتَ بكلمة: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾ [التكوير: ]؟ عندما تعمل السوء من حرام أو معصية أو إثم أو اعتداء أو كذب أو مخالفة لأمر من أوامر القرآن هل تعلم أن عملك هذا سيُعرَض أمام الله عزَّ وجلَّ؟ وسيسألك الله: أما بَلَّغتُك أن لا تعمل هذا؟ وإذا تركتَ أمر الله: أما بَلَّغتُك أن تعمل هذا؟ ويُعرَض مجسَّمًا بمكانه وزمانه وكل صوره، فماذا ستجيب الله تعالى؟ القرآن يقول هكذا، والنبي ﷺ يقول: ((يا فاطمةُ بنتَ محمدٍ اشتري نَفْسَكِ مِن اللهِ أنا لا أُغنِي عنكِ مِن اللهِ شَيئًا)) ، أنا ألستُ أباك؟ وألستُ سيدَ ولد آدم وخاتمَ النبيين؟ أنا لا أنفعكِ يوم القيامة.
كل الناس محاسَبون
ومر معكم في الأسبوع الماضي عندما نادى النبي ﷺ جاريته الصغيرة ولم تلبِّ، ووجدها تلعب فقال لها: ((لولا خَشيةُ القِصاصِ لَأَوجَعتُكِ بِهَذا السِّواكِ)) ، هذا هو الإيمان بقوله تعالى: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾ [التكوير:14]، لقد عرف النبي ﷺ بأنه لو ضربها بالسواك سيحاسبه الله تعالى حتى وإن كان نبيًّا.. سيدنا يونس عليه السَّلام ألم يكن نبيًّا؟ فلما أبطأ قومه عن الاستجابة لدعوته وللإيمان سَنةً وسنتين وعشراً وعشرين والله أعلم.. وما آمنوا، فمَلَّهم وتركهم وركب البحر والتقمه الحوت، وذكره الله تعالى في القرآن فقال: ﴿وَذَا النُّونِ﴾ [الأنبياء:87] النون هو اسم الحوت، يعني اذكر يا محمد صاحب الحوت وهو يونس عليه السَّلام.. ولماذا “اذكره”؟ لتتذكَّر أن لا تفعل مثله، وإذا عملتَ مثله أعمل فيك مثل ما فعلتُ به، حتى وإن كنتَ نبيًّا، يقول النبي ﷺ: ((نَحنُ مَعاشِرَ الأنبياءِ يُشَدَّدُ عَلَينا)) ، وفي سورة عبس لما أعرض النبي ﷺ عن الفقير لتكريم الأغنياء، نزل الوحي حالًا، وأي وحي؟ ليس سرًّا بينه وبين الله، بل جهرًا، وليس جهرًا بلحظة وانتهى الأمر، بل إلى يوم القيامة تبقى ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ [عبس:1].
فإذا كان الله تعالى يؤاخذ أنبياءه هذه المؤاخذة.. آدم عليه السَّلام أخرجه الله من الجنة بسبب تفاحة أكلها.. وماذا حدث؟ وماذا صار؟ [ماذا حدث أو ماذا صار؟ مصطلح في اللهجة العامية بمعنى: لِمَ هذا الاهتمام الكبير فالأمر تافه وحقير.. وهذه مقولةُ ضعيفِ الإيمان والعقل، فهو ينتقد فعل الله تعالى ويرى معصيته شيئاً صغيراً تافهاً.. ويأتي سماحة الشيخ بهذه المقولة للرد عليها]، يعني هل ستُمَشِّي اللهَ كما تشاء أم ستَمشِي أنت على شريعة الله؟ الإنسان صار يظن نفسه فوق الله عزَّ وجلَّ ويريد أن يُمَشِّي اللهَ كما يشاء وعلى شرعه هو لا على شرع الله، قال
تَضَعُ الذُّنوبَ عَلى الذُّنوبِ وَتَرتَجِي
دَرَجَ الجِنانِ وَطِيبَ عَيشِ العابِدِ
وَنَسيتَ أنَّ اللهَ أَخرَجَ آدَمًا
مِنها إلى الدُّنيا بِذَنبٍ واحِدِ
“منها”: من الجَنَّة.
ويونس نبي الله عليه السَّلام لَمَّا ترك قومه وترك الدعوة إلى الله وضعه الله في سجن وزنزانة بَحْرِية، وأين وضعه؟ في قاع البحار، حتى: ﴿نَادَى فِي الظُّلُمَاتِ﴾، ظلمة الليل وظلمة أمواج البحر وظلمة بطن الحوت ﴿أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ﴾ [الأنبياء:87]، أنت الحَكَم.. وأحباب الله يسارع الله بمؤاخذتهم عند حصول المخالفة، فالثوب الأبيض ما إن تصيبه أوساخ حالًا يغسله صاحبه، أما الثوب الوسخ فمهما أتى عليه وسخ لا يغسله صاحبه، يقول: أضعه في النار لأنه لا يستحق أن يُغسَل.
﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ [الصافات:143]، “لا إله إلا أنت”: أنت القاضي وأنت الحكم وأنت السميع وأنت البصير، ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ﴾ سبحانك أن تكون ظالمًا، فأنا قد ظلمت نفسي، ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء:87-88]، والمؤمن أيضًا إذا أذنب واعترف بذنبه، وندم على خطيئاته، وعزم على أن يُبَدِّل سيئاته حسنات ينقذه الله عزَّ وجلَّ ويتوب عليه ويغفر له ما مضى.. فرجع يونس عليه السَّلام إلى قومه فآمن به قومه أجمعون، فربح الدنيا وربح الآخرة.
الله تعالى يُقْسِم بمخلوقاته
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنََّسِ﴾ [التكوير:15]، ما الخنس؟ النجوم التي تختفي وتُحجَب عن الناظرين بضوء الشمس في النهار، ﴿الْجَوَارِ﴾ يعني النجوم، نحن نراها ثابتة، ولكن هل هي ثابتة؟ سرعتها مئات ألوف الكيلومترات في الساعة، ومنها ما هو أعظم من الأرض بملايين ملايين المرات، ﴿الْكُنَّسِ﴾ [التكوير:16]، التي تظهر في الليل.. ولماذا أقسم الله بها؟ أي أيها الإنسان إذا متَّ فهل الله عاجز عن أن يعيدك إلى الخلق مرة أخرى؟ ألا تنظر إلى السماء وإلى هذه النجوم وإلى هذه الجواري الكنس الخنس التي تظهر وتختفي ليلًا ونهارًا؟ ألا تفكِّر في خالقها وفي صانعها وفي عظمتها وفي عظمة مبدعها وفي عظمة واضع نظامها وقانون سيرها؟
عظمة الله تعالى في خلقه
إن الذي يخاطبك هو خالق هذه الخنس الجواري الكنس، فالشرطي إذا خاطبك: امشِ على اليمين ولا تمشِ على اليسار هل تستطيع أن تخالفه؟ [اِمْشِ: في هذا السياق تُقال لسائق السيارة بمعنى: سِر بسيارتك على اليمين]، والطبيب يقول لك: لا تأكل بَقْلاوة وكُلْ نِخَالة، فإذا كنتَ عاقلًا تمشي على كلامه، وإذا قال لك: اترك الحلو وخُذ المُرّ، اترك المشتهَى وخذ زيت الخَرْوَع، فهل تخالف؟ [البَقْلاوَة: من أشهى الحلويات في سوريا، وهي كثيرة السُّكّر والدَّسَم، والنِّخالة: قِشْر حبات القمح، وزيت الخَرْوَع يُستَخدَم طبِيّاً، وخاصة للإسهال وتنظيف الأمعاء].
وها هو رب العالمين يُعلِّمك ويقول لك: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنََّسِ (15)﴾ يعني برب الخنس.. وهل هناك حاجة لأن أحلف لكم؟ ألا تفهمون أنتم؟ ﴿الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)﴾ وأقسم ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)﴾ أي عندما يقبل بظلامه، ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ [التكوير:15-18]، مَن يُدَوِّر الأرض حول نفسها؟ ومن يُسَيِّرها حول الشمس كل سنة دورة كاملة؟ هل تعمل بالبترول أم بالبطاريات؟ فهل عرفتَ عظمة هذا الخالق وهذا المُسَيِّر؟ هو الذي يخاطبك بـ ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾ [التكوير:14].
أُقْسِم بالخنس الجواري الكنس ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ [التكوير:19] إذا حلف لك إنسان عادي يمينًا فإنك تُصَدِّقه، وإذا حلف الله لك وما صدَّقتَه فهل احتقارًا بالمحلوف وعظمة خلق الله فيه أم احتقارًا بالحالف خالق كل شيء؟ وعندما لا تستجيب إلى الله عزَّ وجلَّ في أعمالك وفي سلوكك ولا تستجيب لأوامر الله فهذا معناه: يا الله إذا حلفتَ لن أصدقك، وإذا لم تحلف لن أصدقك، وأنا سأمشي كما أشاء وليس كما تشاء أنت، وعلى رغبتي لا على رغبتك، فأنا حيوان ولستُ إنساناً، ولا أعرف إلا الطعام والشراب والتناسل والتوالد.
القرآن ليس للسماع والغناء
أَمّا أن تقول: قرأتُ ختمةَ قرآنٍ.. ولكن ماذا فهمتَ؟ وما أثر القراءة في مجرى حياتك؟ يقول: افتحوا لنا الراديو على القارئ الفلاني.. ولكن هل تحاول أن تقرأ وتفهم كلام الله أم أنَّ المغني يغني لك بكلام الله؟ وهذا كما لو أتاك شيك بمئة ألف دولار، وأنت عريان وجائع ونائم على الرصيف في الزُّقَاق، فأخذتَ الشيك وصرتَ تقرؤه، ولم يكفك أن تقرأه، بل تعلمتَ التجويد في قراءته، تقرأ: “أَعْطوا إلى حامله”، “أَعْطوا إلى” واو بعدها ألف هذا مَدّ ماذا؟ هل هو طبيعي؟ هذا مدّ منفصل، كم حركة يُمَدّ؟ خمس حركات، فإذا قلت: “أعطوا إلى حامله مئة ألف دولار”.. إلخ، [سماحة الشيخ يقرأ “أعطوا إلى” بمد الواو خمس حركات مع شيء من التنغيم]، وأنت جائع وعارٍ ونائم على الرصيف، فالذي يمر بك ويراك بهذا الحال وأنت تقرأ هذه القراءة، والشيك محوَّل لاسمك، ماذا يقول عنك؟ فكيف أنت مع عطاء الله عزَّ وجلَّ في القرآن! وكيف أنت مع شيك الله! والقرآن هو شيك الله، والله يقول في ذلك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾ [الكهف:107] الفردوس للذين آمنوا وعملوا، فاذهب إلى بنك الإيمان وبنك الأعمال الصالحة لتقبض جنات الفردوس نُزُلًا، أما إذا قرأت الشيك ولو كان مليون دولار ومليار دولار وأنت في الشارع والذباب يقف عليك وعورتك مكشوفة وبطنك لاصق بظهرك من الجوع، ومن البرد أو من الحر تكاد أن تموت، وتقرأ الشيك، ماذا يقول الناس عنك؟ قولوا، [يجيب أحد الحضور بقوله: جاهل]، جاهل؟ هل هذا فقط؟ يقولون: حمار، [يَضحَك الحضور]، واللهِ إن الحمار لا يفعلها، فالحمار إذا قدَّمتَ له التبن يأكله، وإذا قدَّمتَ له البقلاوة لا يأكلها، يقول: إنّ هذا ليس مأكوله، وهو لا يخالف قانون الحمير.
وحال المسلمين الآن في قراءتهم للقرآن أنهم يقرؤونه لا ليفهموه، ولا لينفذوا أوامره، ولا ليتخلَّقوا بأخلاقه، ولا ليعملوا بوصاياه، وحالهم مثل هذا المثال.. ولذلك ما النتيجة؟ هل يفيد هذا الشيك هذا الحمار الإنساني؟ هل ينقله من الفقر إلى الغنى ومن الجوع إلى الشبع ومن البرد إلى الدفء ومن الذل إلى العز وإلى الكرامة؟
هكذا يقرأ المسلمون القرآن، ولا يزالون هكذا
زَمانُنا هَذا هَوَى
وأَهلُه كَما تَرَى
وَكُلُّهم بل جُلُّهُم
إلى وَرَى إلى وَرَى
“زماننا هذا هوى”: ليس بالهاء والواو، بل بالخاء والراء. [هكذا كما قالها الشاعر، ولكن الشيخ يأتي بوزن الكلمة وما يشبهها لطفاً منه وأدباً].
دواؤنا هو العلم الحقيقي
والدواء ما هو؟ الدواء أننا نحتاج إلى العلم الحقيقي والعالِم الحقيقي، والعلم ليس قراءةً، والعلم ليس شهادةً، بل العلم نورٌ يدخل في القلب بطريق دوام ذكر الله عزَّ وجلَّ وكثرة النوافل بعد الفرائض وبصحبة الصالحين ومحبتِهم، ومحبتُهم تكون بأن تحبهم أكثر من كل محبوب لك بعد الله ورسوله، وإذا أحببتَهم فليسوا هم المستفيدين، بل أنت المستفيد، وإذا أحببنا الله فهل الله يستفيد من محبتنا؟ وإذا أحببنا النبي ﷺ فهل النبي ﷺ يستفيد؟ مَن المستفيد؟ نحن، فهل بحثتَ عن عالِمٍ نبويّ تحبه لتكون ((المرءُ على دِينِ خَلِيلِه)) ؟ هل صرتَ خليلَه؟ وتصير خليله عندما تفرح لفرحه، وتحزن لحزنه، وتتخلل محبته في عروقك ودمك وكل مشاعرك، ويصير حبك له أكثر من كل محبوب بعد الله ورسوله؟
وما معنى ((العُلماءُ وَرَثَةُ الأَنبياءِ)) ؟ ماذا يرث من النبي ﷺ؟ يرث من النبي ما على النبي ﷺ من تعليم، فعليه أن يُعَلِّم، وما على النبي ﷺ من تزكية للنفوس، فعليه أن يزكي، وأن تكون عنده قوة تزكية النفوس ونقلها من الظلمات إلى النور، ومن قسوة القلوب إلى لينها بذكر الله، ومن رذائلها إلى فضائلها.. فالوارث عليه أن يرث ما على النبي من واجبات، وما للنبي من حقوق على المسلمين وتكريم، ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ﴾، عزَّروه يعني عظَّموه وكرَّموه ﴿وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف:157]، المُؤَذِّن يقول: “حي على الفلاح” ما الفلاح؟ يعني آمِنوا به وعزِّروه وانصُروه وأجِلُّوه تَصِلوا إلى الفلاح، ﴿اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران:200]، فالمؤذن ينادي: حي على الصبر والصمود، وصابروا، أي إذا صبر عدوك فعليك أن تصابره حتى يغلب صبرك على صبره، والمصابرة تكون بين ماذا؟ بين اثنين، كل واحد منهما يصبر حتى ينتصر على الآخر، “ورابطوا” الرباط في الجهاد هو الوقوف على الحدود أمام العدو، والرباط مع الشيطان لئلا يقتحم قلعة قلبك، والنبي ﷺ يقول عن ملازمة المساجد: ((فَذلِكُمُ الرِّباطُ، فَذلِكُمُ الرِّباطُ، فَذلِكُمُ الرِّباطُ)). [والحديث هو قوله ﷺ: ((ألا أخبرُكُم بما يَمحو اللَّهُ بِهِ الخطايا، ويرفعُ بِهِ الدَّرجاتِ: إسباغُ الوضوءِ علَى المَكارِهِ، وَكَثرةُ الخُطا إلى المساجِدِ، وانتظارُ الصَّلاةِ بعدَ الصَّلاةِ، فذلِكُمُ الرِّباطُ، فذلِكُمُ الرِّباطُ، فذلِكُمُ الرِّباطُ)) ].
وظيفة المسجد وإمام المسجد
والمساجد هي التي كانت في زمان النبي ﷺ، فمسجد النبي ﷺ كان دائمًا مملوءًا بالعلم والحكمة والتزكية، ومتى ما دخلتَ إلى مسجد النبي تجد النبي ﷺ وتجد أبا بكر رضي الله عنه وتجد عمر رضي الله عنه، فالمسجد بلا معلم الكتاب والحكمة والتزكية مثل علبة الكبريت إذا لم تكن فيها عيدان، [علبة الكبْرِيْت صندوق أعواد الثقاب]، ومثل السيارة إذا لم يكن فيها بنزين، فإذا ركبتَ بها ولا يوجد فيها بنزين متى تصل إلى بيروت؟ لو بقيتَ ألف سنة تبقى في مكانك.
فالمسجد هو في الحقيقة إمام المسجد، ومن هو الإمام؟ هو الذي يكون نائبًا عن رسول الله ﷺ؟ وهو ينوب عنه في أي شيء؟ إنّ نائب الطَّيَّار ينوب عنه بقيادة الطائرة، فإذا غاب الأصيل هل يُوْصِلك الوكيل إلى جَدَّة أم لا يُوْصِلك؟ وإذا أتى الوكيل وجلس خلف المِقود، وبقيت الطائرة في المطار فهل هذا وكيل؟ هذا يُذهِب على المسافرين الحج، يقولون له: يا أخي لماذا لا تمشي؟ بقي لعرفات يومان، يقول لهم: اصبروا، أنا وكيل، فكرموني وعظموني، وأنا نائب.. وبقي هكذا في اليوم التالي، ثم صار وقت عرفات، وأين هم؟ [لا يزالون في المطار].
المسجد يعني أن الصحابة رضي الله عنهم لما هاجروا، هل هاجروا إلى مسجد النبي أو إلى المدينة أو إلى رسول الله ﷺ؟ ورسول الله ما رسول الله؟ يعني ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ [البقرة:129]، فالمسجد الذي يُعَلِّم الكتابَ والحكمة ويزكي رائدَه وقاصدَه هو المسجد الحي، وهو المسجد العامر بهذه المعاني، ولماذا صار مسجد النبي ﷺ الركعة فيه بألف ركعة؟ لأنه ببركة الصحبة وروحانية رسول الله ﷺ تحيا القلوب وتصير صلاتك كلها خشوعاً وعقلك كله إدراكاً لمعاني القرآن، وبهذه القوة الكهربائية التي تملأ قلبك فإن قلبك يضخ الدم إلى كل أعضائك فيحييها بالأعمال الصالحة.. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
كان أصحاب رسول الله ﷺ يقولون للتابعين، والتابعون هم الجيل الثاني بعد الصحابة، فكانوا يقولون لهم: “أنتم” من أنتم؟ التابعون “أوتيتم القرآن قبل الإيمان”، يعني هل كان التابعون كفارًا؟ أجيبوني! أو هل الصحابة كانوا جهلاء لا يفهمون؟ التابعون يُصلُّون ويصومون ويحجّون ويزكّون، فما معنى كلام الصحابة لهم “أنتم أوتيتم القرآن قبل الإيمان، ونحن أوتينا الإيمان قبل القرآن”؟ يعني نحن حرثنا الأرض قبل أن نُلقي البذار، وأنتم تُلقون البذار قبل الحراثة، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول: ((اللهَ اللهَ في أَصحابِي))، أصحابه يعني الذين تخرَّجوا في مدرسة تربيته، وفي مدرسة محبته، وبذلوا أرواحهم ومهجهم وأموالهم وفارقوا أوطانهم وأهليهم ليكونوا تحت نظره وتعاليمه وتربيته ﷺ.. ((اللهَ اللهَ)) يعني اتقوا الله، اتقوا الله ((في أَصحابِي، لا تَجعَلوهم غَرَضًا بَعدِي)) مثل هدف يُجرَّب عليه النِّيْشَان، هل تصيبه أم لا تصيب! [النِّيْشان: شيء أو هدف يُوضَع بعيداً لرميه من سهام أو بندقية، وتُقال كذلك لعملية الرمي نفسها، فنقول: هذا نيشانه صحيح إن أصاب الهدف، وهذا نيشانه خطأ إن أخطأ الهدف]، وذلك بأن تذكر الصحابة بسوء أو تخطِّئهم وتقوم بفحصهم وتتبع عيوبهم، ((لَو أَنفَقَ أَحَدُكُم مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا)) جبل أُحد لو صار ذهبًا، وتصدَّقت به كله في سبيل الله ((ما بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِم))، المُدّ ملء الكفَّين، ((ما بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِم وَلا نَصِيفَهُ)) .
مَن أوصل الإسلام إلينا؟ إلى بلاد الشام وإلى العراق وإلى إيران وإلى الهند وإلى باكستان وإلى المغرب الأقصى؟ وإلى الآن بعد أربعة عشر قرنًا، وهذا القرن الخامس عشر ولا تزال بركاتهم تسري ببركة سيدنا رسول الله ﷺ.
[يشير سماحة الشيخ إلى ضيف أمريكي كان في مجلسه، وخرج للتَّوّ إلى موعد آخر، ويقول عنه:] أول من قام من مجلسكم هو أكبر مستشار لنيكسون، أتى من أمريكا إلى مسجد أبي النور -كما سمعتم من محاضرته قبل أسبوعين- أتى إلى هذا المكان حسب ما سمع ليتعلم الإسلام الحقيقي، وسمعتم عن شهاداته في الدكتوراه ومناصبه، فقد كان نائب مدير الأمن القومي في البيت الأبيض، وأكبر مستشار للرئيس نيكسون رئيس أمريكا، وهذا ببركة المسجد الأول مسجد رسول الله ﷺ.
والآن واللهِ إذا اشتغلتم بالإسلام صدقًا ستفلحون، ويجب عليكم أن تبدؤوا من القلب، فاللسان مترجم، وإذا قال الترجمان: أنا مؤمن، وقلبُك لم يكن مؤمناً، فالمترجم كاذب.. والذكر يحتاج إلى أستاذ الذكر.. إنك حتى تتعلم التجويد -حتى تنطق بالقلقلة والمدود والغنة والإخفاء والإظهار- تحتاج إلى أستاذ يعلمك كيف تنطق بها، فمن سيعلمك الإيمان؟ الإيمان ألا يحتاج إلى معلم؟ الإيمان الداخلي وهو إيمان القلب، ولا تكونوا كالذين ﴿قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة:41]، واللهِ لو كان طبيبُ القلب ومعلم القلب في المشرق وذهبتَ إليه من المغرب لَمَا كان سفرك ضائعًا.
السفر لطلب العلم
جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هل تعرفون من هو؟ هل تعرفه شيخ رجب؟ هو أحد أصحاب رسول الله ﷺ، قال: سمعتُ حديثًا يحفظه عبد الله بن أُنيس رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ، وأنا لا أعلم هذا الحديث، فسألت: أين إقامة عبد الله بن أُنيس رضي الله عنه؟ فقالوا: في الشام.. وجابر رضي الله عنه أين هو؟ في المدينة، وبين المدينة والشام بِسَيرِ الجِمَال شهر كامل، قال: فأمر براحلته أن تجهَّز وركبها، وبعد ثلاثين يومًا كان على باب عبد الله بن أنيس رضي الله عنه، فطرق الباب وخرجت الجارية وسألته: من أنت؟ وماذا تريد؟ قال: أنا جابر، وأريد عبد الله بن أُنيس، فدخلَت وقالت لعبد الله، قال لها: قولي له: من هو جابر؟ فسألته فقال لها: جابر بن عبد الله.. ولما بلَّغت عبدَ الله بن أنيس رضي الله عنه قام يجرُّ رداءه، وما أكمل لباس العباءة، فهذا صاحب رسول الله ﷺ.. وعانقه وكذا.. أهلًا وسهلًا.. خيرًا إن شاء الله، قال له: بلغني أنك تحفظ حديثًا عن رسول الله ﷺ فجئتُك من المدينة لأعلم هذا الحديث.
سبحان الله! سبحان الله! ما الذي دفعه؟ إنّه الإيمان، إيمان القلوب، كانت لهم قلوب، وقد أحيوها بـ ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ [السجدة:16]، أحيوها بـ ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [النور:37]، ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ﴾ [الأحزاب:23]، فإذا قايسنا أنفسنا على مقاييسهم أين نكون نحن؟ ومع ذلك نحن نستطيع أن نصير مثلهم.
النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((خَيرُ أُمَّتي أَوَّلُها وآخِرُها، وَبَينَ ذَلكَ وَسَطٌ أَعوَجُ، لَستَ مِنه ولَيسَ مِنكَ)) .
ابحث عن الحدادين تصير حدادًا، ابحث على النجارين وجالسهم ليل نهار تصير نجارًا، وهل خَلَت الأُمَّة؟ لا، الخير إلى يوم القيامة.
قال له: لقد بلغني الحديث.. اذكر لي الحديث، فقال له: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: ((يَحشُرُ اللهُ العِبادَ يَومَ القِيامةِ)) كل الخلق من نيكسون إلى كلنتون إلى غورباتشوف إلى اليابان إلى الملوك إلى الأمراء والأغنياء والفقراء والنساء والرجال، [نيكسون وكلينتون رؤساء أمريكا، وغورباتشوف آخر رؤساء الاتحاد السوفييتي].. ((يَحشُرُ اللهُ العِبادَ يَومَ القِيامةِ، ثُمَّ يُنادِيهم بِصَوتٍ يَسمَعُه البَعِيدُ كَما يَسمَعُه القَرِيبُ، فَيَقُولُ: أَنا الملِكُ أنا الدَّيَّانُ))، ما الدَّيّان؟ المحاسِب، كما نقول: “كما تَدِيْن تُدَان”، ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة:4]، يوم الحساب ويوم الجزاء، فهو القاضي وهو الحاكم.. ((ثُمَّ يُنادِيهم بِصَوتٍ يَسمعُه البَعيدُ كَما يَسمعُه القَريبُ، فَيَقولُ: أَنا الملِكُ أَنا الدَّيَّانُ)).. إنك إذا استدعاك رئيس مَخْفَر [رئيس مركز شرطة] تحسب له خمسين حسابًا.. لماذا استدعاني؟ ماذا فعلتُ؟ يا أولاد هل أحد منكم فعل شيئًا؟ وكذلك شرطي سير إذا أوقف سيارتك: قف على اليمين، تحسب له خمسين حسابًا، فكيف إذا أوقفك رب العالمين؟ ((ثُمَّ يَقُولُ: لا يَنبَغِي لأَحدٍ مِن أَهلِ النَّارِ أنْ يَدخُلَ النَّارَ، وَلَه عِندَ أَحدٍ مِن أَهلِ الجَنَّةِ حَقٌّ حتَّى أَقُصَّه مِنه))، حتى ولو كان من أهل جهنم وله حق عند أحد من أهل الجنة لا يدخل صاحب الجنةِ الجنةَ حتى أقصه منه وآخذ الحق للذي سيذهب إلى جهنم، ((وَلا يَنبَغِي لأَحدٍ مِن أَهلِ الجَنَّةِ أنْ يَدخُلَ الجَنَّةَ ولَه حَقٌّ عِندَ أَحدٍ مِن أَهلِ النَّارِ حتَّى أَقصَّه مِنه، حتَّى اللَّطمةِ))، إذا ضربتَ أجيرك أو شخصًا درويشًا بَسِيْطًا طَيَّارَة، [طَيَّارَة بالعامية الدمشقية أي صفعة على خلف الرقبة] فالطَّيَّارَة بِطَيَّارة، واللطمة بلطمة.
الخوف من حساب الله تعالى
في قصة عثمان رضي الله عنه لما فرك أذن خادمه، وتذكَّر القيامة قال له: تعال شُدّ أذني كما شددتُ أذنك، قال له: لا، قال: لماذا؟ قال له: أخاف أن أشدها أكثر مما شددتَها فتقاصصني يوم القيامة، دعها بلا قصاص، أقاصصك بها هناك.. هذا الخليفة الذي جيوشه وصلت إلى الصين وإلى أبواب إسبانيا، فهل يوجد هكذا في الديمقراطية؟ هل يوجد هكذا في أمريكا أو في أوروبا أو في الاتحاد السوفييتي؟ لماذا نزهد بالإسلام؟ إذا رأينا طفلًا يأخذ اللعبة ويترك الألماس فهل هذا يدل على عقل وعلى فهم؟ نسأل الله أن لا يجعلنا أطفال العقول.. يكون فيك عقل الدنيا لكن لا يكون فيك عقل الآخرة.. نسأل الله يجعل لنا عقل الدنيا مع الآخرة.
قال: ((حتَّى اللَّطمةِ))، “قلنا: كيف يا رسول الله، ونحشر حفاة؟” أي إذا كان قد أخذ ماله من أين سيرجع له المال؟ في الآخرة هل هناك مال؟ أو إذا كان قد أخذ حقًّا من حقوقه كبيته أو سيارته أو غير ذلك، وهناك لا توجد هذه الأشياء.. قالوا: “كيف ونحشر يوم القيامة حفاةً عراةً بُهْمًا؟” بُهْمًا يعني لا يوجد معنا شيء من متاع الدنيا، قال: ((الحَسَناتُ والسَّيِّئاتُ)) ، إذا كانت لك حسنات يأخذ من حسناتك، وإذا كنتَ “مَنْحُوساً” [ذا حَظٍّ سيء] وكُلُّك سيئات توضع سيئاته فوق سيئاتك وإلى جهنم.
هذا الحديث سافر جابر رضي الله عنه ليسمعه من مسافة كم؟ وهل ليسمعه أو ليعمل به؟ بل للعلم وللعمل.. اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.