معنى الغاشية
فنحن الآن في تفسير بعض آياتٍ مِنْ سورة الغاشية، وسبق معكم أنَّ الغاشية وصفٌ مِنْ أوصاف يوم القيامة، وسميت بالغاشية بسبب هول ما يراه الإنسان هناك مِنْ هولِ الموقف، واجتماعِ بني آدم مِنْ خلق آدم عليه السَّلام إلى آخر الدنيا للحساب وللوقوف أمام الله عزَّ وجلَّ في محكمته، والله عزَّ وجلَّ يسأل الأنبياء في محكمة الله: “هل بلَّغتم عبادي رسالتي وشريعتي؟” ولذلك كان النَّبيُّ ﷺ يقول في حجة الوداع مناديًا: ((أَلَا هل بَلَّغتُ؟)) لأنَّ الله عزَّ وجلَّ سيسأله: هل بلَّغتَ؟ فيقولون: نعم، فيقول: ((اللَّهمَّ فاشهَدْ)) ، ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [المائدة:109].
هناك يرى الإنسان أعماله صغيرها وكبيرها، علَنها وخفيَّها، كلَّها مسجلة عليه، وتشهد عليه أعضاؤه وجوارحه، وتشهد بقاع الأرض على خطاياه، وجهنم مشتعلة منتظرة، وكتاب أعماله لا يترك و﴿لَا يُغَادِرُ﴾ مِنْ أعماله ¬¬﴿صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا﴾ كتبها وسطَّرها و﴿أَحْصَاهَا﴾ [الكهف:49].. يومٌ مِنْ أهواله: ﴿يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾ [المزمل:17]، لذلك مِنْ أسمائه الغاشية، فيغشى الناسَ الهمُّ العظيم والرُّعب الكبير، والأنبياء يمرُّون على الصراط ويقولون: “اللَّهم سلِّم، سلِّم” .
الخوف من الله تعالى من لوازم الإيمان
لَمَّا تُوفي عثمان بن مظعون رضي الله عنه، وفي أثناء غُسله قالت زوجته: “هنيئًا لك الجنة!”، فغضِبَ رسول الله ﷺ، وقال لها: ((ما يُدريكِ أنَّه مِنْ أَهلِ الجَنَّةِ؟)) فدُهِشَت وقالت: يا رسول الله إنه صاحَبَك وآمن بِك وجاهَدَ معك، فقال: ((أَمَّا أَنَا فَلا أَدْرِ مَا يَفعَلُ اللهُ بِي)) ، والقرآن يقول أيضًا: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ [الأحقاف:9]، ﴿وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:175].
فهذه المعاني هي مِنْ لوازم المؤمِن صحيح الإيمان، فهو يخاف مِنَ الله عزَّ وجلَّ مع كلِّ صلاحه وتقواه، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا﴾ يعملون كلَّ الأعمال الصالحة ﴿وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾، قلبه ممتلئٌ مِنَ الخوف والوجل ﴿أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون:60]، يخاف أن لا تُقبَلَ منه أعماله، فكيف بالإنسان الذي يقول: إنَّه مسلمٌ، ويترك فرائض الله، ويرتكب محارِمَ الله، ولا يُصغي لنداءات الله عزَّ وجلَّ!
تلبية نداء الله عزَّ وجلَّ
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ مَنْ المنادي؟ الله، ومَنْ المنادى؟ كلُّ واحدٍ منَّا، ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [البقرة:278]، فهل سمعنا النداء؟ وهل استقرَّ النداء في القلب؟ عندما يستقر الطعام في المعدة يُهضَم ويُستقلَب ويصير دمًا يُغذِّي كلَّ الخلايا، ويُعطي الجسم القوة على العمل، فهل هَضَم القلب والعقل هذا النداء؟ وهل انقلب إلى إيمانٍ قويٍّ يأتي بالأعمال التي فَرَضها الله عزَّ وجلَّ؟ فإذا لم تكن هذه الأوصاف هي مواصفات إيمانك، فعلى ماذا يدلُّ ذلك؟ يدلُّ على ضعف إيمانك، فيجب عليك أنْ تذهب إلى المستشفى، ويجب عليك أنْ تُفتِّش عن طبيبٍ يُداوي قلبك المريض: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ [البقرة:10].
فالصحابة بذلوا أرواحهم في سبيل الله عزَّ وجلَّ، وسفكوا دماءهم وبذلوا كلَّ ما يملكون مِنْ أموال، و﴿كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾ [الذاريات:17]، وهاجروا إلى مدرسة الإيمان؛ إلى المدينة وإلى الطبيب، فتركوا أموالهم وأهليهم، وتعرَّضوا للموت والهلكة، وكلُّ ذلك في سبيل أنْ يبنوا إسلامهم البناءَ القرآني، وأنْ يُقرَأ القرآن في أعمالهم وفي أخلاقهم، وأنْ تُقرَأ حكمته في عقولهم وتصرُّفاتهم، وأنْ يَرَوا نصرة الله عزَّ وجلَّ لهم في شؤونهم وفي مشاقِّهم والأخطار التي تُحيط بهم جزاءًا لنصرتهم لدين الله عز وجل.
والقيامة سُمِّيت الغاشية والقارعة والواقعة، فهل آمن المسلم بها كما يُؤمن بالعقرب؟ إيمانه بالعقرب يجعله لا يمسه بيده، ولا يضعه داخل قميصه، وإيمانه بالذهب عندما يُقدَّم إليه هل يجعله يُعرِض عنه ويزهَد فيه؟ فالإيمان: ((لَيسَ بالتَّمَنِّي وَلا بالتَّحَلِّي)) .
الإيمان دليلٌ وجودي
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ﴾ [البقرة:113]، ﴿وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ ردَّ الله عزَّ وجلَّ عليهم فقال: ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ أنكم من أهل الجنة ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة:111].
مرةً اجتمع الصحابة واليهود، فأخذتْ كلُّ فئةٍ تقول: نحن أَولَى بالجنة منكم، اليهود يقولون: نحن ديننا أقدم وديننا قبل دينكم، والمسلمون يقولون: ديننا جديد وحديث، فأنزل الله عزَّ وجلَّ ردًّا على الطرفَين: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ﴾ [النساء:123]، فالإيمان دليلٌ وجوديٌّ يُفيد العمل به مِنْ عباداتٍ أو معاملاتٍ أو أخلاقٍ أو أيِّ تصرُّفٍ مِنْ تصرُّفاتك، فتتصرَّف حسبما يُخطِّطه لك الإسلام، وإذا مشيتَ هذا الممشى فلا يمكن أنْ تُخفِق في عملٍ ما ولا أنْ تفشل ولا أنْ تُهزَم في معركة.
أين المسلمون الآن مِنَ الإسلام! وأين المسلمون مِنَ القرآن! وأين هم بين الأمم! ولا يظنُّ أحدكم أنَّ المسؤول في ذلك هم الحكام والحكومات، فالحاكم هو مِنَ الأمَّة، فإذا كانت الأمَّة كلُّها مؤمنةً فسيكون الحاكم مؤمنًا.. فعلى كلّ واحدٍ منّا أنْ يعتبر نفسَه هو المسؤول وحده عن الإسلام، يتعلَّمه لالسانًا وأُذُنًا، بل يتعلَّمه من صاحب قلبٍ مليءٍ مِنْ خشية الله عزَّ وجلَّ ومليء من محبَّته ومعرفته، وتظهر هذه الخشية في أعماله وسلوكه وحبِّه وعِدائه ومرغوبه ومجهوده، إذ كيف تريد أنْ تصير نجارًا بدون مُعلِّم نجارة، هل هذا ممكن؟ وهل يمكن أنْ تكون سبَّاحًا بأن تتعلَّم السباحة مِنْ كتب السباحة وتقرأ عنها؟ هل يمكن أنْ تصير طيَّارًا بسماع دروس الطيران وبدون أنْ تتعلَّم إلى جانب المعلِّم؟ فإذا لم تفتِّش عن المعلِّم المربِّي الحكيم المزكِّي فإنّه بمقدار ما يَنقُص مِنْ بناء شخصيتك إيمانًا وحكمةً وعِلمًا يكون نقصُ دينك وإيمانك ونجاحك في هذه الحياة.
أسباب العداوة للإسلام
نعود إلى تفسير الآية: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ [الغاشية:1] يعني هل أتاك الإيمان والتصديق بها والعمل بمقتضاها؟ بأنْ تكون أعمالك كلُّها موافقةً لسعادتك في أيام مشاهَدتها.
الآن وصلتم إلى قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية:17].. كان كفار قريش -كما هو حال كثيرٍ مِنَ المسلمين الآن- منهم مَنْ يُصرِّح ويُجاهر ويتباهى بعدم الإيمان وبالإلحاد وبالتنقيص من الإسلام والدين، لأنَّه لم يرَ الإسلام بصورته الوَضَّاءَة، وبصورته الحقيقية، فرأى ملكة الجمال وعليها ثوبٌ مِنَ البلاستيك بصورة غوريلا، وقد وضعوا أيضاً داخل البلاستيك “شريطَ مُسجِّلٍ” يُصدِر صوت الغوريلا، [شريط مُسَجِّل: أداة إلكترونية يُسجَّل فيها الصوت ويُعاد سماعه]، وجعلوا لها جهازًا لتمشي مشية الغوريلا، وفي ليلة عرس ملكة الجمال وقبل نصف ساعة دخلت العروس بصورتها البلاستيكية المزوَّرة وبصوتها المسجَّل إلى العرس، فماذا يكون حال المحتفِلات والمنتظِرات لملكة الجمال؟ أظنُّ أنهنَّ سيطأ بعضهنَّ على بعض، وتسمع الولاويل [الصراخ والبكاء والنواح] بدل الزغاريد، وهكذا حال الإسلام والمسلمين في وقتنا الحاضر.
فإذا لم نبذل الجهد لنُوجِد العالِم المربِّي بعد أنْ يكون مُربًّى، والمزكِّي بعد أنْ يكون قد تزكَّى، والحكيم بعد أنْ يكون قد تعلَّم الحكمة مِنَ الحكماء، وإلَّا فستبقى الأغنام ترعاها الذئاب، ويَخْرُج الربيع بمَطَرةٍ واحدةٍ ثم ينقطع المطر، فييبس الربيع ويُصبح: ﴿هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا﴾ [الكهف:45].
تذكير الله تعالى لنا بعظيم خلقه ونعمه
يقول الله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية:17] عندما يقرأ المسلم هذه الآية هل يفهمها؟ وإذا كان المقصود النظر بالعين فإنّ الحمار يرى الجِمال بعينه، أليس كذلك؟ والكلاب ترى الجِمال بعينها، والبدوي أيضًا يرى الجِمال، لكنْ هل استفاد؟
﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ﴾ [الغاشية:17] هذا أمرٌ إلهي، أي انظروا، والأمر الإلهي وراءه منافع وسعاداتٌ لِمَن يمتثل أمر الله عزَّ وجلَّ، وأنتم أَلَا ترون الجِمال، بماذا ترونها؟ بأعينكم.. وهنا قوله في الآية: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ﴾ هل المقصود به النظر بالعين أم النظر بالفكر والدراسة في عظيم صُنع الله عزَّ وجلَّ؟ إنّ هذا الحيوان مع عظيم جثته وعظيم قوَّته فإن خمسين جملًا يقودهم طفلٌ صغيرٌ وتنقاد له، لأنَّه هو الذي سخَّرها: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا﴾ [الزخرف:13].. فالمقصود مِنَ النظر: نظر العقل والفكر.
الإيمان بيوم القيامة يحث على العمل الصالح
كان كفار قريش يُنكرون القيامة، ويُنكرون الغاشية، ويُنكرون الحياة بعد الموت، ويقولون: ﴿مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس:78]؟ ولماذا يُنكرون القيامة؟ ليتخلَّصوا مِنْ مسؤوليات جرائمهم وجناياتهم وذنوبهم وفواحشهم، لأنَّك إنْ آمنتَ بالقيامة [فلا سبيل إلى تلك الفواحش] وعليك أنْ تسير في طريق الاستقامة، مَلِكًا كنت أو أمبراطورًا أو عمر بن الخطاب رضي الله عنه أو عبدًا مملوكًا، ومتى ما آمنتَ بالقيامة صرتَ الإنسان الفاضِل الكامِل، فالإيمان بالقيامة يحثُّك على الأعمال الفاضلة وعلى الأعمال الصالحة وعلى الأخلاق الكريمة، ويُقيُّدك ويحجزك عن كلِّ النقائص والرذائل والأمور الخسيسة والأمور المُخزِية والأمور التي تجعلك خاسرًا دائمًا وغير رابح.
فكانوا يُنكرون القيامة، ويقولون: بعدما تصير ترابًا كيف سترجع إنسانًا؟! فقال الله عزَّ وجلَّ لهم: انظروا إلى الجِمال، مَنْ الذي خلق هذه المخلوقات؟ وماذا كانت؟ كانت نطفةً مثل كلِّ النطف في كل الأحياء مِنْ إنسانٍ وحيوانٍ، فمَن صنَعها؟ ومَنْ كبَّرها؟ ومَنْ خلَق سمعها وبصرها؟ وقبل أنْ تكون نطفًا كانت تبنًا وشعيرًا ومرعى، فمَن حوَّل هذا التبن إلى دم، والدم إلى نطفةٍ، والحيوان في النطفة إلى هذا المخلوق العظيم؟ فالذي خلقك وخلَقَ هذه الحيوانات مِنْ نطفة، والنطفة من الدم، والدم مِنَ المأكولات: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة:40]؟ فعندما تقرأ القرآن تجد أنّ الله تعالى يقول لك: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ﴾ [الغاشية:17]؟ هذا استفهامٌ بمعنى الأمر، يعني: انظر، فهل نظرتَ؟ ولماذا لم تنظر؟ ولماذا لم تفكِّر؟ وإذا فكَّرت فهل تأثَّرت بتفكيرك؟ وهل تفكيرك ونظرك أصلَحَ عيوبك، وأصلح نقائصك، ومشيتَ على الصراط المستقيم؟
القراءة المطلوبة للقرآن الكريم
هل نقرأ نحن القرآن كما أراد الله عزَّ وجلَّ أنْ يُقرَأ؟ لا واللهِ يا بني! لا واللهِ! إنّ الصحابة كانوا أمِّيين لا يقرؤون ولا يكتبون، ولكنْ بوجود المربِّي الذي يُعلِّمهم الكتاب: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ﴾ [البقرة:129]، لا يُعلِّمهم ألفاظه وكيف ينطقون بها، بل كان يُعلِّمهم معانيه وحقائقه، وبقوَّة روحانيته كان كلامه ينقلب فيهم مباشرة إلى عمل وإلى أخلاق وإلى صدقٍ ويقين.. فنحن في أزمة فَقْدِ المعلِّم بالمواصفات القرآنية، الذي يُعلِّمهم الكتاب، لا قراءة كلماته.. فشَرِيْطُ المُسَجِّل يقرأ القرآن أفضل منَّا جميعًا؛ نغمةً وتجويدًا وترتيلًا.. والقرآن: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾ ما معنى مبارك؟ يعني: كثيرُ العطاء، وكثيرُ الخيرات والبركات، ﴿لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص:29] يجب عليك أنْ تقف عند الآية، هل فهمتها؟ وهل عمِلت بها؟ وهل صارت خُلقك؟ وهل صار الكلام عملًا فيك؟ وهل قمتَ لتعلِّمه للآخرين؟
أنتم الذين في المسجد لستم كلَّكم، بل يكفي نصفكم -النصف الأيمن أو النصف الأيسر- ورُبعكم يكفي.. إنْ قرأتم القرآن وفهمتموه وقمتم تعلِّمونه كما ينبغي أنْ يُتعلَّم واللهِ ستكون الأُمَّة كلُّها سعيدةً، وكذلك النساء عليهن أن يقمن بذلك، وهذا فرضٌ على كلِّ مسلمٍ ومسلمة، والله عزَّ وجلَّ أعدَّ للمعلِّم بالمواصفات الصحيحة ما ورَدَ في حديث رسول الله ﷺ عندما قال: ((أَلَا أُخبرُكُم بالأَجوَدِ)) مَنْ أجوَد ما في هذا الوجود؟ ((اللَّهُ الأجَودُ، وأَنا)) يعني النَّبيَّ ﷺ ((أَجوَدُ بني آدمَ، وأجوَدُهم بَعدِي رَجلٌ تَعلَّمَ عِلمًا)) هل هذا فقط؟ قال: ((فعَلَّمَه، يُحشَرُ يَومَ القِيامةِ أُمَّةً وَحدَهُ)) ، فما أعظَم أنْ يُرشِّحك النَّبيُّ ﷺ وأنت إنسانٌ فردٌ لتكون أُمَّةً! وما الثمن لأنْ تصير أمَّةً؟ قال: أنْ تتعلَّم وتُعلِّم، أنْ تتقي الله عزَّ وجلَّ وتُعلِّم النَّاس التقوى، وأنْ تتعلَّم خشيَته وتُعلِّم النَّاس خشية الله عزَّ وجلَّ، وأنْ تتعلَّم الحكمة.
قراءة القرآن الحقيقة
الحكمة يا بني.. المسلمون اليوم كم كتابًا في الفقه يقرؤون فيه عن الوضوء؟ في الصف الأول والثاني، وفي الابتدائي والإعدادي والثانوي.. إلخ، الوضوء لا يحتاج إلى تعليم بهذا الأسلوب، فقد توضَّأ سيِّدنا جبريل عليه السَّلام أمام النَّبيِّ ﷺ مرةً فتعلَّم منه الوضوء، وتوضَّأ النَّبيُّ ﷺ أمام الصحابة رضي الله عنهم فتعلَّموا الوضوء وانتهى.. أمَّا خشية الله ومحبة الله ومراقبة الله والحياء مِنَ الله والمسارعة إلى مرضاة الله عزَّ وجلَّ، والهجرة إلى مَنْ يُعلِّمك الكتاب والحكمة ويُزكِّيك فهل تعلَّمتها من القرآن؟ إذًا فنحن لا نقرأ القرآن، بل نحن نقرأ القرآن كقراءة اليهود للتوراة، قال الله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ حمَلوا تلاوتها وحِفظها ﴿ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾ يعني عملًا بها وتطبيقًا وتخلُّقًا بوحي الله عزَّ وجلَّ، ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5] هؤلاء حمَلوا التوراة كالحمار يحمل الكتب ويحمل خمسين نسخةً من التوراة، لكنْ ماذا فهم؟ وهم كذلك يقرؤون، فيحملون التوراة بقراءتها، وهم كالحمار الذي يحمِل الكتب على ظهره، ولكنْ ماذا استفاد من علومها؟ نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا نقرأ القرآن لا كقراءة اليهود لتوراتهم الذين شبَّههم الله عزَّ وجلَّ بالحمار.
قدرة الله تعالى في خلق الجمل
﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية:17] الله تعالى خَلَق الجمل وسخَّره وجعل فيه مِنَ القوة والطاعة وهيَّأه لسكان الصحراء، فهو يصبر على العطش، ويصبر على الجوع، ويحمل الأحمال الثقيلة، فهل شكَرت الله عزَّ وجلَّ؟ وهل عَرَفتَ أنَّه الذي خلقه وخلقك مِنْ لا شيء: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾ [الإنسان:1] قبل مئة سنةٍ هل كنَّا شيئًا مذكورًا؟ فلانٌ أحمد وفلانٌ محمود، وفلانٌ دكتور وفلانٌ مهندس، وفلانٌ شيخ وفلانٌ مفتي.. فالذي خلقك مِنْ لا شيء، ومِنَ العَدم: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة:40]؟
﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية:17] اقرأ عن خلق الإبل وتشريحها وخصائصها، ولقد درس الأجانب ما في الإبل، ونظروا فيها نظرة تأمُّل، ودرسوا خصائصها في صبرها على العطش والجوع، وقالوا بأنَّ سنَم الجمل خَزَّانٌ خلقه الله عزَّ وجلَّ للغذاء عند الجوع، ولِيَصْنع الماء عند فقد الماء، فهو يصير نبعًا للماء لمدةٍ محددة، فالدهن الذي فيه يحوي على مادة الهيدروجين ويأخذ الأكسجين مِنَ الهواء، وعند فقد الماء يصنع الماء من تَرَكُّب الأكسجين مع الهيدروجين، وله خزاناتٌ خاصة في كرشه تَخْزِنُ الماء لحالة الحاجة، فمَن الذي جعله مهيَّئًا لأبناء الصحراء لمساعدتهم في جوهم الحار وفي أسفارهم البعيدة القليلة الماء؟ ومن الذي جعل فيه هذه الاحتياطات؟ فهو يمشي الأيام الطوال بلا أكلٍ ولا شربٍ ولا يزال بقوَّته، وذلك لِما أودَع الله عزَّ وجلَّ فيه مِنْ خصائص، هل هذه الأشياء حدثت صدفةً بلا صانع؟ فالله سبحانه صنع الجمل مِنْ لا شيء، وخلق الكون مِنْ لا شيء، وأنتم يا كفار قريش تُنكرون البعث بعد الموت، وإذا كنتم تُبعَثون بعد الموت فلماذا؟ لتُحاسَبوا، فهل آمنتم بالحساب؟ وهل آمنتم بجزاء المحسن بالإحسان، والمسيء بما يستحق؟
العرب بالقرآن سادوا الدنيا
إنّ كفار قريش سمعوا وكذَّبوا وأعرضوا سنةً وسنتين وثلاثًا وأربعًا وفي النهاية استجابوا ولبُّوا، وصاروا في النهاية أبا بكرٍ وعمر وعثمان رضي الله عنهم وصنعوا بدرًا وصنعوا أحدًا وصنعوا القادسية وصنعوا اليرموكَ، وأوصلوا الإسلام إلى قلب فرنسا، وإلى قلب الصين في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، أي بعشرين أو ثلاثين سنةً بعد وفاة النبي ﷺ.
والآن وبعد أنْ استقلَّ العالَم العربي والإسلامي منذ خمسين سنةً ماذا فعلوا؟ [يذكر سماحة الشيخ هذه المدة على سبيل العموم، فتاريخ هذا الدرس في نهاية 1995م، وتاريخ استقلال سوريا عن فرنسا في 1946م، فهي خمسون سنة إلا بضعة أشهر]، هل تقدَّموا أم تخلَّفوا، انتصروا أم انهزموا، قووا أم ضعفوا، تعلَّموا أم جهِلوا؟ لماذا؟ لأنَّنا: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان:30] لا أريد أنْ أتكلَّم عن الماضي، أنتم الآن أنفسكم، يجب على كلِّ واحدٍ منكم أنْ يرجع إلى بيته وإلى حَيِّه وإلى سوقه ليُعلِّم ما تعلَّم وما سمِع، ويَذكُر اللهَ عزَّ وجلَّ ذكرًا كثيرًا، ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي﴾ سواءٌ القرآن أو ذِكْر الله عزَّ وجلَّ ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾، لأنَّه كان أعمى عن قراءة كتاب الله كما ينبغي، ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا﴾ يعني أهملتَها وأعرضتَ عنها، ولم تبالِ بها كما يفعل النَّاسي، ﴿وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾ [طه:124-126] فكما عاملتَ كلام الله عزَّ وجلَّ وقرآنه بالإهمال والنسيان هكذا سوف تُعامَل يوم القيامة بالإهمال كالمَنْسِيِّ المُهْمَل الذي لا يُبالَى به أين مصيره.
دراسة الأحياء وخصائصها
﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية:17] عندما كنتُ عائدًا هذا الأسبوع مِنْ مؤتمر جنيف ومعي الأخ فاروق آقبيق وكان يقرأ مجلةً أوروبيةً، [الأستاذ فاروق آقبيق رحمه الله تعالى، كان المترجم الخاص لسماحة الشيخ والمرافق له في أسفاره، وترجم كثيراً من محاضراته العالمية، وكان من تلامذته الملازمين له من طفولته، كما كان يُدَرِّس اللغة الإنكليزية في مجمع الشيخ، وخاصة في الكُلِّيَّة]، فقرأ لي فيها مقالًا عن الحشرات، وأنَّ الأوروبيين اكتشفوا ثلاثين مليون نوع مِنَ الحشرات، واستطاعوا أنْ يكتشفوا خصائص سبعة آلاف حشرة وما فيها مِنْ منافع، كالعناكب وغيرها وقال: إنهم استخرجوا سمَّ بعضها، فوجدوه يصلُح لإذابة الجلطة وتجمُّد الدم في عروق القلب، فإذا حُقن بهذا السُّم مَنْ حدثت له الجلطة بنسبٍ معينةٍ في عرق الدم، ووصل السم إلى مكان الجلطة تذوب الجلطة وتنتهي كما تذوب كرة الثلج إنْ أصابتها الشَّمس.. ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى﴾ الحشرات وإلى العناكب ﴿كَيْفَ خُلِقَتْ﴾؟ هؤلاء يعملون بالقرآن وهم لا يقرؤونه، فكيف لو قرؤوه! هؤلاء يعملون بمعاني القرآن ولم يروا مُعلِّم القرآن.
الاجتهاد في الدعوة إلى الله
في المؤتمر في جنيف التي يعتبرونها أعظَم بلدٍ في الرقي والتقدُّم والأخلاق أعانَ الله عزَّ وجلَّ ولأول مرةٍ في تاريخ العالَم المسيحي أنهم اعترفوا وأقرُّوا وطلبوا العفو مِنَ المسلمين لعدوانهم الذي فعلوه على المسلمين في الحروب الصليبية، وأنَّها كانت حربًا عدوانيةً، وكانت حربًا ظالمةً وجائرةً، ولذلك يقولون: نطلب العفو ونعتذر ممَّا فعله آباؤنا وأجدادنا.. وواللهِ لو وُجِدَ مئة داعٍ بالمعنى الحقيقي وبالكفاءات اللازمة في أيِّ بلدٍ أوروبيٍّ واللهِ ليغيِّرونها بسنةٍ أو سنتين، ولو وُجِدَ في أمريكا ألف داعٍ بهذه المواصفات، ليس حامل شهادة، فهذه الشهادة ورقة تَصلُح أن تُلصَق بالجدار، بل يجب أن يكون مع الشهادة نورُ الله يتلألأ في القلب، وحكمتُه تلألأ في العقل، وفضائلُ القرآن تظهر في مرايا الأخلاق والأعمال والسلوك.
فإذا لم يُنتج برنامج مدارسنا الشرعية هذا الإنتاج فوالله وجودها كالعَدم.. ضع واحدًا وألف صفرٍ قبله فكم سيكون العدد؟ واحد، وإنْ أخذنا صفرًا ووضعناه على اليمين، فكم يصير الواحد؟ عشرة، وإذا كانا صفرين! وإذا كانوا ثلاثة! فبدل أن تضعوا هذه الأصفار في ناحية اليسار ضعوها في ناحية اليمين، وأنتم تستطيعون أن تفعلوا ذلك، فكلُّ واحدٍ منكم في بيته: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء:214]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم:6] هذا قرآن.. فما الفائدة مِنْ أنْ تقرأه على القراءات السبع وعلى العشر وعلى الأربع عشرة ولا تُنفِّذ منه حرفًا واحدًا؟ ما الفائدة من أنْ ترى المنكر ولا تَنهى، وترى المعروف متروكًا ولا تَأمر؟ عليك أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر و﴿بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل:125].. ثمَّ ماذا تنتظر؟ الموت في كلِّ لحظة، قد يكون الإنسان في قوَّته وفي شبابه وفي عضلاته وفي آماله وفي همومه وفي لحظةٍ واحدةٍ يصير جثةً هامدة: ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ [الحاقة:28-29].
فمتى سنستيقظ مِنْ نومَة أهل الكهف؟ أهل الكهف ناموا ثلاث مئة وتسع سنوات، ونحن نائمون منذ أكثر مِنْ خمس مئة سنة، فنومنا أطول مِنْ نوم أهل الكهف، وتأتينا عِصيٌّ متنوعة كالاستعمار الفرنسي والإنجليزي والألماني والطلياني ثمَّ إسرائيل والصهيونية ولم نستيقظ، فإلى متى؟ لأنَّنا لا نقرأ القرآن ولا نسمعه ولا نفهمه، فهل تُعاهدونني أنتم الذين في الجامع أنْ تُعلِّموا غيركم ما تتعلَّمونه؟ وقبل كلِّ شيء: ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ﴾ [التحريم6]، قبل كلِّ شيء علِّم نفسك.
واجب الدعوة إلى الله تعالى
ما معنى ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ﴾ [الغاشية:17]؟ الذي خلَق الإبل بهذه المواصفات مِنَ العدم أليس قادرًا على أنْ يخلقك مرةً ثانيةً ليُحاسبك؟ والمقصود الآن مِنَ الآية: هل تحاسب نفسك على نظرك إذا نظرتَ إلى حرام، وعلى سمعك إذا سمعتَ الحرام، وعلى خطوات رجليك إذا مشيتَ إلى حرام؟ وهل تحاسب نفسك إذا أهمَلتَ عائلتك؟ ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ﴾ تبدأ بنفسك، ثمَّ ﴿وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم:6] فهل ربَّيتَ أولادك؟ وهل ربَّيتَ بناتك؟ هل أمَرتَ بالمعروف؟ وهل نهيتَ عن المنكر؟ هل دعوتَ إلى الله عزَّ وجلَّ بالحكمة والموعظة الحسنة؟ التاجر مع التجار، والطبيب مع الأطباء والمرضى، والحاكم مع المحكوم، والجار مع جاره، والإنسان في الحافلة، ((وَلَأنْ يَهدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا واحِدًا خَيرٌ لَكَ ممَّا طَلَعتْ عَليه الشَّمسُ وغَرَبتْ)) .
نحن نذهب لزيارة النَّبيِّ ﷺ، فنبكي عند الشُّبَّاك، ونضع يدينا على النحاس، فهل يُفيدنا هذا شيئًا ونحن مُعرِضون عن كلامه؟ النَّبيُّ ﷺ يقول لنا: افعلوا، ونحن نقول: لا نفعل، النَّبيُّ ﷺ يقول: ((لَأنْ يَهدِيَ اللهُ بِك رَجلًا وَاحِدًا)) فنقول: يا رسول الله نحن لا نهدي أحدًا، ولا نُذكِّر أحدًا، ولا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر، فيقول لنا: إذن ماذا تستفيدون مِنْ شُبَّاكي؟ ودموعكم دموع الكاذبات العاهرات.
نحن نحتاج إلى إسلام العمل، وإلى قرآن العمل وقراءة العمل والفهم، ولا بدَّ قبل ذلك مِنْ أنْ تذهب إلى طبيبٍ يُداوي قلبك الذي لا يتأثَّر بالقرآن، ويداوي عقلك المجمَّد بالثلاجة فلا يأخذ معاني القرآن الكريم ولا يهضمها ليحوِّلها إلى عمل.
الذكرى تكون لصاحب القلب
يجب علينا أن نبدأ العمل حسب الترتيب؛ حسب القرآن، والله يقول: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق:37] ما هو القلب؟ بعض العارفين بالله يقول
قلوبٌ إذا مِنه خَلَتْ فنُفُوسُ
لِأَحرُفِ وَسواسِ اللَّعِينِ طُروسُ
وإنْ مُلِئتْ مِنه ومِن نُورِ ذِكرِه
فتِلكَ بُدُورٌ أَشرَقَتْ وشُمُوسُ
“قلوبٌ إذا منه خَلتْ”: إذا خلت القلوب مِنْ ذكر الله عزَّ وجلَّ، “فنفوسُ”: نفوسٌ أمَّارةٌ بالسوء، “لأحرف وسواس اللعين طُرُوْسُ” الطُّرُوْس: هي الدفاتر، يعني إذا كان قلبك غافلًا عن الله عزَّ وجلَّ فسيكون دفترًا ليكتب الشيطان فيه أوامره لتنفذها كما يرضى الشيطان ويرغب، “وإن مُلئت منه” أي القلوب ملئت مِنْ خشية الله عزَّ وجلَّ وهيبته ومحبَّته.
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يُنير قلوبنا بنوره، ولا يكون ذلك بالدعاء فقط، فمرة أتى رجلٌ إلى عمر رضي الله عنه يشكو له أنَّ جماله قد جرِبَت، فقال له: ادعُ لي يا أمير المؤمنين بشفائها، قال له: “أنا أدعو لك، ولكنْ اجعل مع الدعاء قطرانًا”، والقطران: هو دواء الجرب، فيجب أن يجمع الدعاء والقطران، كذلك نحن نريد دعاءً وعملًا، نريد قراءةً وفهمًا وعملًا، وهذه لحيتي! [تعبير شعبي يُقصَد به إثبات حدوث شيء ما]، إنْ لم تروا الإسلام يعود لعزته ولقوته ولحكمته ولِفَرَحِ كلِّ مجتمعٍ به، فهؤلاء الأوربيون علمانيون يعني ملحدين، وقد ألحدوا وتركوا الكنيسة، وكنائسهم تباع كمتاجر ومخازن ومحلاتٍ لعرض الأزياء، فتفضلوا يا مسلمين وبلِّغوا رسالة الله عزَّ وجلَّ، وهم يكونون لذلك ممتنين ومقدِّرين ومحترِمين.. إنَّ فَرَجَنا بيدنا ولا نعرف كيف نتدبَّر أمرنا، وأنا لن أدعو لكم، بل اعملوا أولًا وسأدعو لكم، أحضروا القطران أولًا ثم أدعو لكم بأنْ يشفي جمالكم مِنَ الجرب، لأنَّني إنْ دعوتُ لكم ستظنون أنَّ الدعاء يكفي، وهو لا يكفي.. أسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يرزقنا العِلم والفَهم.
خَلْقُ الجبال
﴿وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ﴾ [الغاشية:19]، الجبال: ﴿وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ﴾ [الأنبياء:31] إنّ داخل كُرَتنا الأرضية كلُّه نار مثل نار الشَّمس، والجمر عندما تمرُّ عليه نصف ساعة أَلَا تصير عليه طبقةٌ من الصفوة والرماد؟ وكذلك هذه النَّار التي كانت أرضًا صار عليها طبقةٌ رقيقةٌ، يقال: إن عمقها حوالي مئة كيلومتر، وإذا خَرَقتَ هذه القشرة التي هي مئة كيلومتر، ماذا يخرج مِنْ هذا الخرق؟ تخرج النَّار كما تخرج مِنَ البراكين في رؤوس الجبال.. ولقد غلَّف الله عزَّ وجلَّ الأرض بطبقةٍ صوَّانية، ومِنْ قوة النَّار فإنَّ هذه الطبقة تتموَّج، فوضع عليها الجبال بِثِقَلِها حتَّى يُسْكِن تموُّجَ هذه الطبقة وتَحَرُّكَها: ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل:15] يعني لئلا تميدَ ولا تضطرب ولا تتحرك.
فهل نظرنا في الجبال وهندستها وكيف وضعها الله عزَّ وجلَّ كي تصير أرضنا صالحة لنسكن فيها ونعيش فيها آمنين مطمئنين، ونذكر المهندس الصانع الخالِق العظيم؟ فالذي صنع هذه الصنعة ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة:40]؟ هذا الخطاب كان لعابدي الأصنام، وبعد سنة وسنتين وثلاث وأربع وخمس وعشر وعشرين سنة، هل فهموا أم لم يفهموا؟ وأنت أيها المسلم كم عمرك؟ أربعون أو خمسون أم ستون أو سبعون سنةً وأنت تقرأ القرآن الكريم، فهل فهمت مثلما فهم عبَّاد الأصنام وصاروا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما؟ فلِمَ لا تصير أبا بكر زمانك؟ ولِمَ لا تصير عمر زمانك وخالد زمانك؟
كلُّ عصرٍ فرعونُ فيه وموسى
وأبو الجهلِ في الورى ومُحمَّدُ
كن وارث النَّبيّ ﷺ
لن تصير مُحمَّدًا النَّبيَّ ﷺ، ولكنْ كن نائب النَّبيِّ ﷺ، وكن وارِث النَّبيِّ ﷺ، أم تريد أن تصبح نائب فرعون أو نائب هامان أو نائب قارون أو نائب إبليس؟ إبليس ضالٌّ ومُضِلٌّ، فالذي يكون ضالًّا في نفسه ويُضِلُّ غيره فهذا إبليس سهرته، وإبليس عائلته، وإبليس رفاقه.. هل كان الوثنيون أهلًا لقراءة القرآن أم مسلمو عصرنا وزمننا؟ والسبب بأنَّنا نحتاج إلى المذكِّر والحكيم والعالِم المعلِّم، ما هو العِلم؟ العِلم ليس القراءة، فالمستشرقون في العالَم الغربي [إِذَنْ علماء].. ولقد دخلتُ مرةً إلى مؤسسة استشراق في أوروبا، فكانت كلُّ الكتب الإسلامية المخطوطة والمطبوعة بين أيديهم، وكلُّ واحدٍ منهم يفتح الكتب وهو منهمكٌ في القراءة، ومع ذلك فما مردود تلك القراءة في نفوسهم؟ بعضهم ازدادوا كفرًا على كفرهم، ومنهم مَنْ آمن، ومنهم مَنْ ناصَرَ الإسلام، فالقراءة وحدها لا تكفي، بل يلزمك المعلِّم الذي يُعطيك روحَ العِلم ونورَه، ولقد كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول
شَكَوْتُ إلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي
فَأرْشَدَنِي إلَى تَرْكِ المعَاصي
لماذا لا يستقرُّ العِلم فيه وينقلِبُ إلى أعمال وأخلاق وفضائل وكمالات؟ قال: لأنَّ هناك معاصٍ، ولا تجتمع ظلمة المعاصي مع النور والطاعات في شخصٍ واحد.
وَأخْبَرَنِي بأَنَّ العِلْمَ نُورٌ
ونورُ الله لا يُهدى لعاصِ
العلم يحتاج إلى مؤسسات تعطيه النور
فأين العِلمُ النورُ! [أين العِلمُ الذي هو النورُ!]، والذي نؤسِّس له المؤسسات لنعطي العِلمَ النور، لا العِلمَ اللفظَ والكلمةَ فقط؟ [العلم الشائع هو ألفاظ وكلمات وكتب، ينقلها أهل العلم لطلبة العلم فيحفظونها، لكن هناك علم أعظم، لا يُؤخَذ عن طريق الكلام والألفاظ، بل عن طريق القلب، وهذا العلم هو النور الذي يقذفه الله في القلب، فيَسعَد به الإنسان ويُسعِد، ويُضِيئ له الحياة].
كان أحد الصحابة راعيًا، وكان يرعى غنمًا لأهله، فأسلم، فكان يترك غنمه في الوادي ويجلس إلى رسول الله ﷺ يستمع ويتعلَّم، وفي المساء يذهب إلى الوادي ويرجع بغنمه إلى داره.. وإذا كان الراعي ليس موجودًا فلن تشبع الأغنام جيدًا، فكانت أمه تؤنبه وتوبخه لأنَّه يُحضر الأغنام جائعة، وتُكلِّمه بالتقريع والملامة، فشكى إلى رسول الله ﷺ.. هو حريصٌ على مجلس العِلم والحكمة، ولكنَّه يدفع الثمن أيضًا بالملامة والتوبيخ مِنْ أمه، فقال له: ((إذا كانَ المساءُ فمُرَّ بغَنمِكَ عَليَّ))، وبعد أنْ انتهى مجلس النَّبيِّ ﷺ أحضر الغنم مِنَ الوادي إلى النَّبيِّ ﷺ، فمسح النَّبيُّ ﷺ على ضرع الغنم ودعا بالبركة، ثم أخذها إلى المنزل وجاءت أمُّه لتحلب الغنم، وإذ بها ترى كلَّ ضرعٍ مليئًا ومنفوخًا وأخذت تحلبها، فقالت له: أين رعيتَ هذا اليوم؟ ارعها هكذا في بقية الأيام كما رعَيتَها في هذا اليوم، قال لها: والله يا أماه ما رعَيتُها هذا اليوم إلَّا حيث كنتُ أرعاها، قالت له: إذن مِنْ أين هذا اللبن وهذه الضروع الممتلئة؟ قال لها: هذا مِنْ بركة مُحمَّد رسول الله ﷺ.. وروى لها القصة، فقالت له: إذن يجب أنْ نذهب إليه، قالت: فذهبنا إليه أي أمُّه وخالته ، وسمعنا كلامه، فكنَّا نرى النور يخرج مِنْ بين شفتيه .
“وأخبرني بأنَّ العِلم نورٌ”: هناك أناسٌ يرون النور، وهناك أناسٌ لا يرونه، والمهم أنْ يظهر فيك نور العِلم بالعمل الصالح والخلق الفاضل وتعليم الآخرين.
من دلائل وجود الله عزَّ وجلَّ
﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية:17] هل الإبل فقط مِنْ الآيات التي تدلُّ على الله عزَّ وجلَّ؟ أَلَا تدل الفَرَس على الله عزَّ وجلَّ؟ وكذلك البقرة والغنمة والكلب والشَّمس والقمر؟
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ
تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ
﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا﴾ أي العلامات التي تدلُّ على وجود الله عزَّ وجلَّ ﴿فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت:53].
﴿وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [الغاشية:20] الأرض على كرويَّتها جعلها الله عزَّ وجلَّ للإنسان كالبساط وكالفِراش الممهَّد، فلو لم يجعلها بهذا الشكل لَمَا كانت لِتصلح للسكنى، فمَنْ خلَق الأرض ومهَّدها وجعل فيها الجاذبية؟ عندما يصعدون في المركبات الفضائية ويتجاوزون حدود الجاذبية في المركبات لا يستطيع أحدهم أنْ يجلس، ولا ترى إلَّا هذا يقفز هنا والثاني هناك.. فإذا لم تكن الجاذبية على الأرض لكان كلُّ واحدٍ منكم يقفز، وربما جلس أحدكم فوق رأس الآخر، والآخر جلس على بطن الآخر.
فمَنْ الذي رتَّبَ ما يُسمَّى بالجاذبية؟ هل فكَّرنا في الجاذبية؟ وهل فكَّرنا فيمَنْ صنع الجاذبية؟ والجاذبية في كلِّ كوكبٍ تكون بحسب حجمه، ففي الكواكب التي هي أخوات الأرض مثل زحل الذي هو أكبر مِنَ الأرض بمرات فجاذبيته أكثر بمرات، ولو وصل الإنسان إلى هناك ووضع قدمه على الأرض وأراد أنْ يرفعها لا يستطيع أنْ يرفعها مِنْ قوة الجاذبية، والجاذبية على القمر الذي هو أصغر، فالإنسان الذي وزنه ستون كيلو غرامًا يصبح وزنه هناك ربَّما عشرة كيلوات، فمَنْ رتَّبَ هذا الترتيب؟ ومَنْ هندَسَ؟ ومَنْ خطَّط؟ هذا الخالق العظيم لهذا الكون العظيم يقول لك: أنت ماذا تُمثِّل في هذا الوجود؟ ففي كلِّ وقتٍ يخلق الله عزَّ وجلَّ مجرَّاتٍ وسُدمًا وكواكبَ وعوالِمَ اللهُ بها عليم، وأنت أيها الصعلوك، أنت أيها الذبابة، أنت أيها البَرْغَشَة، [البَرْغَشَة: حشرة طائرة تشبه البعوضة وأصغر منها، تحوم في البيت على الفواكه القديمة والزِّبَالة]، أنت أيها الذَّرَّة، أَلَا يستطيع أنْ يخلقك مرةً ثانية؟ هل لديك عقل؟ وهل استعملته في التفكير لتصل إلى الحقيقة؟
أَمْرُ الله تعالى بالنظر والتأمل
﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ﴾ [الغاشية:17] هذا النظر نظر التفكُّر والدراسة لتؤمن بالله عزَّ وجلَّ، ولتؤمن بأنَّه سيُعيدك وسيُحاسبك، ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [ص:27] فهل المسلمون الآن يقرؤون قرآن الفهم وقرآن العِلم والعمل؟ وهل يحوِّلون القرآن الكريم مِنْ كلامٍ إلى أعمال ومِنْ مسموعٍ إلى منظور؟
بالقرآن الكريم وحدَه استطاعوا وبالوسائل القديمة البدائية على أقدامهم وعلى حَدّ السيوف ورؤوس الرماح وبنصف قرنٍ أنْ يُوحِّدوا نصف العالَم، ويُمثِّلوا هيئة الأمم ومجلس الأمن بالقانون الإلهي العادل الإنساني الكامل، الذي يُقاصِص فيه الإسلام للقبطي مِن ابن عمرو بن العاص، وهل استطاع عمرو بن العاص أنْ يقول: “فيتو”؟ أنا فاتح مصر أَلَا يحقُّ لي أنْ يُعفى عن ابني مِن أجل شخصٍ عاديٍّ مِنَ النَّاس قبطي ضربه ابني؟ يعني ماذا حصل؟ هل ستُهينون فاتح مصر وابنه الذي يُمثِّل الإسلام والفتح والقيادة والجيش والعسكرية، لا يجوز أنْ تقيموا القصاص، [هل قال عمرو بن العاص رضي الله عنه ذلك؟ لم يقل أي شيء من ذلك]، وقال عمر رضي الله عنه للقبطي: “اضرب ابن الأكرمين”، وضربه، وقال له بعدها: “اضرب بالقضيب على صلعة أبيه”.
هذا هو القرآن، وهذا الذي كان العرب ليسوا شيئًا مذكورًا فصاروا به هم كلَّ الدنيا، وهم الذين نشروا العِلم والحضارة والأخلاق، وكتبوا التاريخ، ولم تكتبه أمَّةٌ في تقدُّم الإنسان كما كتبه الإنسان العربي بمدرسة القرآن، وهل مدرسة القرآن بكُتُبها فقط، أم بكِتَابِها ومُعلِّمها؟ المدرسة موجودةٌ وهي الجامع، والكتاب موجود، لكنْ أين المعلِّم؟ إذًا الكتاب لا يُفيد وحده، والجدران وحدها لا تُفيد.
لذلك اجتهِدوا ولا تيأسوا، وإننا إذا صدقنا الله عزَّ وجلَّ، وبذلنا ما نملك يبذل الله عزَّ وجلَّ لنا ما لا نملك: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق:2-3].
عظمة الله تعالى في خلق الأرض
﴿وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [الغاشية:20] هي كرة، لكنْ مِنْ سعتها تصبح كما إنْ صعدت النملة إلى القبة [قبة المسجد] فهل ترى القبة كرةً؟ بل تراها أرضًا ممهَّدةً، وإذا كانت الكرة بحجم دمشق هل يراها الإنسان كرةً؟ عندما يصعدون إلى الفضاء بالبعد الشاهق يرون الأرض كرةً، أمَّا مِنْ حيث صغر حجم الإنسان وسعة الأرض فلا يراها كرةً، وفي الصحراء لا يرى شيئاً بعد عشرين كيلومترًا، وذلك لانحنائها وكرويتها، [فلو لم تكن كرة لوجب أن يرى الجبال وغيرها من المعالم العالية التي تبعد عنه خمسين أو مئة كيلو متر].. فلقد جعلها الله عزَّ وجلَّ بقوانينه الربانية صالحةً للسكن، ودائمًا تضمُّنا إليها إذا ابتعدنا عنها كما تضمُّ الأم ابنها إلى حضنها، فإذا صعدتَ إلى الشجرة ولم تتمسَّك جيدًا تجذبك وتضعك في حضنها، ولو تكسَّرت عظامك، [يقول ذلك الشيخ وهو يضحك]، وتقول لك: لماذا فارقتَ أمك؟
وبعد ذلك قال الله عزَّ وجلَّ ﴿فَذَكِّرْ﴾ بالغاشية، وذكِّر بمن خلق الجِمال، ذكِّر البدوي الذي أمامه الجمل بمَنْ خلق هذه الجمال، وذكِّر بمَنْ خلق الجبال، وبمَنْ سطح الأرض.. فذكِّر بالله وبقرآنه وبأوامره وبنواهيه، ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ [الغاشية:21] هذا الخطاب للنَّبيِّ ﷺ، وبعد النَّبيِّ ﷺ نحن ألسنا مُكلَّفين بالتذكير؟ ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب:21] كم وكم أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ! ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ﴾ [النحل:125] الخِطاب للنَّبيِّ ﷺ، ومَن بعدَ النَّبيِّ ﷺ؟ إذا كانت هذه للنَّبيِّ ﷺ فقط فيجب أنْ تُحذَف من القرآن الكريم، بل هي موجهةٌ لكلِّ واحدٍ منَّا، ﴿ادْعُ﴾: التاجر يدعو التجار، والوزير يدعو الوزراء، والطبيب يدعو الأطباء، والمرأة تدعو المرأة، والشاب يدعو الشباب، والولد مع رفاقه في الشارع يجب أنْ يدعو الأطفال.
يقال: إنَّ بعض الأولياء كان يمشي في بعض الأزقَّة، فرأى أولادًا يلعبون، وولدًا يعتزلهم وهو يبكي، فظنَّ أنَّه فقَدَ وسائل اللعب وحزِنَ على نفسه فبكى، أو بكى لأمرٍ ما، فسأله: يا ولدي لمَ تبكِ؟ ولمَ لا تلعب مع الصبيان؟ إذا لم يكن معك ما تشتري به آلة اللعب فأنا أشتريها لك، أو خذ هذا المال واشترِها لنفسك.. قال: فنظر فيَّ وحملَقَ عينيه في وجهي، وبنظرة ازدراءٍ خاطبني: أيها الشَّيخ القليل العقل، أَوَلِلعب خُلِقْنا؟ أَوَلِلعب خُلِقْنا؟ أمامنا الحساب والقيامة وكذا وكذا.. قال: فدُهِشتُ مِنْ عِلمه وحكمته وإيمانه، فقلتُ له: يا بنيَّ أنت طفلٌ ليس عليك حساب، ولا توجد عليك مسؤولية، قال: أَوَمثلك أيها الشَّيخ يقول هذا الكلام؟ أنا رأيتُ أمي عندما تُوْقِد النَّار تُشْعِل الحطب الكبير بالحطب الصغير، فخشيتُ أنْ يُشعِل الله عزَّ وجلَّ بي نار جهنم ليحْرِق بي فرعون وهامان وقارون، فيجعلني الحطب الصغير ليحْرِق به الحطب الكبير، قال: فعلِمت أنَّه أوتي الحكمة وهو طفلٌ صغير.. هكذا كانت أطفالهم في رياض الأطفال.
سؤال حاخام لسماحة الشيخ: هل اليهود يدخلون الجَنَّة؟
فهل سنبقى نائمين نومة أهل الكهف؟ هل ستبقون نائمين أم يجب أنْ تستيقظوا؟ والنَّاس بخير، وأنا لم أرَ إنسانًا لا خير فيه، لا في الشيوعيين ولا المسيحيين ولا اليهود.
مرةً دُعيت إلى محاضرةٍ في واشنطن على ما أظن، وبعد انتهاء المحاضرة عادةً يناقشون المحاضِر، فعندما انتهت قام حاخام ورفع أصبعه يعني سائلًا، قلتُ له: تفضل ما سؤالك؟ فتلا عليَّ الآية القرآنية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة:62] قال لي: هذا قرآنكم، وبمقتضى قرآنكم هل يدخل اليهود الجنة أو لا يدخلون؟ فإذا قلتُ: لا يدخلون، فسيقول: انظروا كم يوجد في الإسلام تعصُّب، فهو يريد أنْ ينال مِنَ الإسلام، وإذا قلتُ: يدخلون فالدخول أيضًا له شرائط، وكان ابني أبو الفضل إلى جانبي وإلى جنبه ممثل الجامعة العربية وكان مسيحيًّا، قال له: أعان الله أباك على هذه الوقعة مع الحاخام، قال له: لا تهتم.. قلتُ له: اسمع الجواب، القرآن الكريم قسَمَ طوائف أبناء الأديان إلى قسمين: قسمٌ أصيل وقسمٌ مُزَيَّف، فالأصيل ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ فهؤلاء يدخلون الجنة، وأمَّا إذا انتسب إلى يهودية موسى عليه السَّلام، أو مسيحية عيسى عليه السَّلام، أو إسلام مُحمَّد ﷺ لفظًا وخالَفَه عملًا فهذا مسلمٌ ونصرانيٌّ ويهوديٌّ مزيَّف، فالأصيل من الأصناف الثلاثة يدخلون الجنة، والمزيَّفون إلى جهنم، فإذا كنتَ أصيلًا تدخل الجنة: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾، وإذا كنت مزيَّفًا فأنت تعرف مصيرك، فكان هو أول المصفِّقين.
أهمية واجب الدعوة إلى الله
فقوموا بالدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، وهذا فرضٌ مثل فرض صلاة الظهر، قوموا بها في جلساتكم وسهراتكم ومع رفاقكم، وفي الباص [الحافلة].. ومَثِّلوا القرآن.
﴿فَذَكِّر﴾ [الغاشية:21] هل هذا الكلام للنَّبيِّ ﷺ فقط؟ هذا يعني إذا ذهب النَّبيُّ ﷺ لوجب أنْ يذهب القرآن معه ﷺ.
عندما أُتِي بالهرمزان قائد جيش الفرس أسيرًا إلى عمر رضي الله عنه وكان عمر رضي الله عنه نائمًا في المسجد على الرمل، وقد وضع يده أو أشياء بسيطة تحت رأسه، فبحثوا عن سيِّدنا عمر رضي الله عنه حتَّى وصلوا إلى الجامع ورأوه نائمًا، فصار المسلمون يقولون بالإشارة أنْ لا تُحدثوا ضجةً لئلا يستيقظ عمر.. فلمَّا استيقظ عمر رضي الله عنه ورأى الهرمزان والجواهر والتاج الألماس، والعظمة والأبَّهة قال: الهرمزان عدو الله؟ قالوا: نعم الهرمزان، فقال: “الحمد لله الذي أذلَّ هذا وأشياعَه بالإسلام”، فهل نستطيع نحن أنْ نُذِلَّ بن غوريون؟ لا، [بن غوريون: أول رئيس وزراء لإسرائيل]، لأنَّ أبا بكرٍ وعمر رضي الله عنهم لم ينتصرا بالقومية ولا بالوطنية، [ونحن ننادي بالقومية والوطنية لا بالإسلام]، وقالوا: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام”، لا إسلام القول ولا إسلام التمني، بل إسلام العِلم والعمل والحكمة وتزكية النفوس بالمعلِّم الحكيم المزكِّي، فقال له الهرمزان: “أشهد بأنَّك نبي”، فقال عمر رضي الله عنه: “لستُ نبيًّا ولكن أعمل عمل الأنبياء” .
قال الله عزَّ وجلَّ للنَّبيِّ ﷺ: ﴿فَذَكِّرْ﴾ [الغاشية:21] فذكَّر النَّبيُّ ﷺ، وبتذكيره لمدة عشرين سنةً حضَّر وعلَّم وزكَّى ووحَّد نصف العالَم القديم، فكلمة “ذكِّر” موجَّهة لكلِّ واحدٍ منا، والله عزَّ وجلَّ يخاطبنا: يا أبا الحسن ذكِّر، وأنت ما اسمك؟ أبو شهاب، أين يكون الشهاب؟ في السماء، الشهاب ثاقب، فيجب عليك أنْ تُثْقِب قلوب مَنْ تجالسهم حتَّى تُدخِل فيهم حب الإيمان والإسلام والاستقامة على صراط الله عزَّ وجلَّ.
قال: “الحمد لله الذي أذلَّ هذا وأمثاله في الإسلام”، والإسلام: إسلام العِلم والحكمة، فإذا انتسب شخصٌ إلى الشيوعية ولم يُؤدِّ واجباتها ماذا يفعلون به؟ يطردونه، وهل يعتبرونه شيوعيًّا؟ فكيف إذا انتسب إلى الإسلام ولا يعمل بالإسلام عِلمًا ولا عملًا ولا تعليمًا؟ يجب عليك أنْ تتعلَّم وتعمل ثمَّ تُعلِّم، يقول سيِّدنا عيسى عليه السَّلام: “مَنْ تعلَّم وعمل ثمَّ علَّم دُعيَ عظيمًا في الملكوت الأعلى” ، أَلَا تريدون أنْ تكونوا مِنَ العُظماء؟ أنتم “الدراويش” إذا كنتم عظماء في الملأ الأعلى عند الله ألستم رابحون في ذلك، ولو كان الواحد منكم عاملًا؟ [يخاطب سماحة الشيخ بقوله “أنتم الدراويش” تلامذته من طلبة العلم، حيث أكثر طلاب العلم فقراء ودروايش.. وفي قوله: “ولو كان الواحد منكم عاملاً”، فإن العامل عموماً يُعَدّ من الدراويش الفقراء، لأنه يعمل بيده ليكسب أجرة يومه]، وإذا كنتَ أمبراطورًا هنا وعند الله عزَّ وجلَّ حقيرًا لستَ عظيمًا، فهل تربح في ذلك؟ أيهما الأربح؟ كونوا عظماء عند الله عزَّ وجلَّ، والمسألة بسيطة.
التذكير باللطف والحكمة
﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية:21-22] لا تذكِّر بالفظاظة والغلاظة والإجبار، إنما عليك البلاغ وعلى الله الهدى، نحن علينا أنْ نبذر البذور، والمطر يأتي بفضل الله عزَّ وجلَّ وكرمه، وهو راجع لمشيئته وحكمته.
﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية:22] أمَّا بالقسوة والإكراه والإجبار فالله تعالى يقول: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة:256]، و﴿بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل:125]، ليس فقط بالحكمة والموعظة الحسنة بل بالمال أيضًا، فالنَّبيُّ ﷺ أعطى مِنْ غنائم حنين لزعماء قريش، وأعطى لكل واحد منهم مئة جمل، فهذه: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل:125] وبالجِمال.. وسيِّدنا العباس رضي الله عنه قال للنَّبيِّ ﷺ: “إنَّ أبا سفيان يحب الفخر، فلو جعلتَ له شيئًا منه”، فقال النَّبيُّ ﷺ: ((مَن دَخلَ البَيتَ الحَرامَ فهُو آمِنٌ، ومَن أَغلَقَ دارَه فهو آمِنٌ، ومَن دَخلَ دارَ أَبي سُفيانَ فهو آمِنٌ)) ، وأعطاه مئة جملٍ، فقال له: ولابني، فأعطاه مئة جمل، قال له: ولابني الآخر، فأعطاه مئة جمل أخرى.
فالدعوة تحتاج مالًا وقوةً، ونحن عدَّتنا بسيطةٌ جدًا، [فنحن الآن بسطاء وليس عندنا مال ولا قوة]، ومع ذلك إذا صدقت الله عزَّ وجلَّ، وإذا وضعتَ بذرة التين في تربتها وسقيتَها سقايتها وغَذَّيتها تغذيتها وأعطيتَها حقها فستُعطيك حقك، وماذا تصير هذه البذرة الصغيرة؟ تصير شجرة، وإذا أهملتَها -ولو كانت مليون بذرة- سيأكلها النمل ولن تستفيد شيئًا، وتعيش بالأماني، وبالأماني لا يحصل شيء.
﴿فَذَكِّرْ﴾ [الغاشية:21] هذا الخِطاب للنَّبيِّ ﷺ، لكن هو أيضًا لأبي مصطفى، فالله يقول له: ﴿فَذَكِّرْ﴾، ولأبي الفضل وللأستاذ صلاح وللشيخ عبد الناصر وللأستاذ مختار وللأستاذ السائح، وهو خطاب لجميع النساء، [يَذكر سماحة الشيخ أسماء بعض الضيوف وبعض إخوانه من الجالسين قريباً منه].. يقول الله عزَّ وجلَّ لك: ﴿فَذَكِّرْ﴾ [الغاشية:21] أيها المؤمن، قد تقول: ولكنهم لا يهتدون، قال: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ [الغاشية:21]، ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ﴾ [آل عمران:20]، و﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية:22] ليس مِنْ طريق السيطرة والاستعلاء والعلو والغلاظة والفظاظة، بل بالحكمة والموعظة الحسنة.
ولقد كان يأتي النصراني إلى النبي ﷺ فيخلع النبي ﷺ رداءه أي عباءته ويفرشها له ويجلسه عليها، ويجلس النَّبيُّ ﷺ على التراب، تكريمًا للمدعو، سواء أكان يهودياً أو نصرانياً أو غيره، وهذا خُلق الداعي إلى الله عزَّ وجلَّ، وهذا مع ربَّانيَّته ومع حكمته ومع أخلاقه ومع عطائه.. إلخ، فإنْ صَدَقتم الله عزَّ وجلَّ فيما تملكون فسيمدكم الله عزَّ وجلَّ بما لا تملكون، والمهم هو الصدق والإخلاص مع الله عزَّ وجلَّ في الدعوة إليه.
﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا﴾ لكن ﴿مَنْ تَوَلَّى﴾ عنك وأعرَض عنك، ولم يصغِ إليك ﴿وَكَفَرَ (23)﴾ ورفض الدعوة، ﴿فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ﴾ أي حوِّله إلى الله عزَّ وجلَّ فهو يتدبَّر أمره، ﴿فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ﴾ [الغاشية:22-24].. يعذِّبه الله في الدنيا بالخزي وتسلُّط الأعداء والبلاء وغيرها، ويعذبه في الآخرة: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ﴾ “الفَلَقَة” الصغيرة في الدنيا ليهتدوا، وإنْ لم يهتدوا فأمامهم الفَلَقَة الكبيرة ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [السجدة:21]. [الفَلَقَة نوع من العقوبة وهي الضرب على أسفل القدمين بالعصا، ويقصد الشيخ بها هنا العذاب والعقوبة].
الذكر روح كل العبادات
قال ﴿فَذَكِّرْ﴾ [الغاشية:21] إذًا هل تقبلون هذه الكلمة من الله عزَّ وجلَّ؟ ماذا ستفعل يا أبا سليمان بعد ﴿فَذَكِّرْ﴾؟ [أبو سليمان يجيب: سأدعو في عمارتنا، ثم يقول له الشيخ:] اطرق عليهم الباب، وقل لهم: هذه الليلة أدعوكم إلى فنجان قهوة أو كأس شاي، [الدعوة إلى الشاي أو القهوة عادة سورية يُقْصَد بها جلوس الأصحاب وتجاذب أطراف الحديث]، فسيأتون، وإنْ لم يأتوا كلهم فربعهم أو نصفهم، وربما يستجيب منهم واحد، ثمَّ بعد مدة يصيرون اثنين، ثم ثلاثة.. وأهم شيء أنْ نشتغل بذكر الله عزَّ وجلَّ: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران:191] فالذكر روح كلِّ العبادات، وللذكر أستاذه وآدابه وتربيته وله شروطه.. إلخ.
﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية:21-22] أي يجب أن لا تعاملهم بالعنف، مثل الذين يُكفِّرون الناس ويقولون: هذا كافر، وهذا كذا، وهذا كذا.. فهذا ليس عملًا صحيحًا، لأنَّهم لم يتعلَّموا العِلم مِنْ مصادره، ولا تأدَّبوا بآدابه، ولا عرفوا طريقته وحكمته.
التوبة النصوح تمحو ذنوب العبد
﴿إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23)﴾ “إلَّا” هنا بمعنى: لكنْ، ﴿فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)﴾ اترك أمره إلى الله عزَّ وجلَّ، ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)﴾ [الغاشية:23-25] مرجِعُهم إلى الله عزَّ وجلَّ، وإلى محكمة الله: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور:24].
النَّبيُّ ﷺ يقول: ((إذا تابَ العَبدُ توبةً نصوحًا)) وما التوبة النصوح؟ أنْ تترك الذنب فلا تعود إليه إلَّا إذا عاد اللبن إلى الضَّرع، فإذا خرج الحليب من الثدي هل يعود إليه؟ وهكذا التوبة الصحيحة، أنْ تترك الذنب فلا تعود إليه كما لا يعود الحليب إلى الثدي الذي حُلِب منه، ﴿تُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا﴾ [التحريم:8].. ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم﴾ [النور:24]، يقول النَّبيُّ ﷺ: ((إذا تابَ العَبدُ تَوبةً نَصُوحًا)) فلا يرجع إلى قُرناء السوء، ولا يسهر سهرات السوء، ولا يذهب إلى نزهات السوء، بل يبحث عن الرفاق الصالحين، وعن مجالس العِلم والتقوى، وهذه علامة التوبة الصادقة، ((إذا تابَ العَبدُ تَوبةً نَصُوحًا أَنسَى اللَّهُ جَوارحَهُ))، أليست يداك ورجلاك وعيناك ستشهد عليك؟ فالله عزَّ وجلَّ يُنسِّيها ذنوبك لئلا تشهد عليك يوم القيامة: ((أَنسَى اللَّهُ جَوارحَهُ وَبقاعَ الأرضِ خطاياهُ)) ، فالمكان الذي سَكِرتَ فيه وعربدتَ وفعلتَ المشاكل يأتي يوم القيامة ليشهد عليك فيُنسِّيه الله عزَّ وجلَّ، ((أَنسَى اللَّهُ جَوارحَهُ وبِقاعَ الأَرضِ خَطاياهُ))، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا﴾ [التحريم:8] تنصحوا فيها أنفسكم وليست توبةً تغشُّوا أنفسكم بها.
﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)﴾ فإنْ لم يستجيبوا لكَ فاتركهم لنا، ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ [الغاشية:25-26] فحساب الله عزَّ وجلَّ عن الفتيل والنقير والقِطمير، وإنْ حاسَبك الحساب الأصلي: ((مَن نُوقِشَ الحِسابَ هَلَكَ)) وعُذِّب.
عليكم بالعمل بعد الدعاء
نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يتوب علينا توبةً نصوحًا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسَنه، وأن يجعلنا هادِين مَهديين، ولا يجعلنا ضالِّين ولا مُضلِّين، ويُفرِّج عنَّا وعن المسلمين بالعودة إلى كتاب الله عزَّ وجلَّ وسيرة سيِّدنا رسول الله ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم عَودًا جميلًا بفضلٍ منه وكرمٍ.. هذا الدعاء، فماذا بقي عليكم؟ “القطران” فيجب عليكم أنْ تعملوا خارج الجامع، أنا قمتُ بالدعاء، وأنتم عليكم أنْ تُقدِّموا القطران، وإنْ جمعتم الاثنين أَلَا يكون الإنتاج جيدًا؟ ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ [الروم:6] ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾ [الروم:47].