تعليقات أمريكيين على مقال للشيخ أحمد كفتارو
هذه التعليقات من جهاز المعلومات الدولي، وكل إنسان يستطيع أن يطَّلع عليه عبر الكمبيوتر والأقمار الصناعية، قال: كانت تعليقات كثيرة، ومنها
• أمريكي مسيحي يخاطب فادي: هذا هو الدين الحقيقي يا شيخ أحمد كفتارو، نحن بأمسِّ الحاجة لتعاليمك وحكمتك هنا في أمريكا، شكرًا لفادي لغَرْس بذور التسامح، وإن مثل هذه المقالات هي أعمدة التفاهم.. سأحتفظ بهذه المقالة لأُريها لكل متعصِّب جاهل، شكرًا لك يا فادي على هذه المقالات، صدِّقني إنها أغنتني عن الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد، وإن تعليم التعاون بين الأديان هي أحد فضائل الشيخ أحمد كفتارو بارك الله فيه، وإن أفكاره تُغني عقولنا، وأرجو أن تكلِّمنا أكثر عن هذا الإنسان مفتي سوريا.
• أمريكي آخر وهو أمريكي سوري: فادي أرجو أن تنشر هذه المقالات في الإنترنت تحت اسم “سورية”، وإنه من دواعي فخري أن يكون لدينا مثل هذا المفتي الرائع.
• أمريكي مسيحي: أرجو أن تخبرنا أكثر عن هذا الإنسان الشيخ كفتارو، لقد أُعجبتُ جدًّا بالمقالة عن تعاون الأديان، وأعتقد أنه سيحصل على يد الشيخ أحمد شيء عظيم في مستقبل الأمة، وأُحب أن أسمع منه رأيه عن التعايش مع اليهود.. شكرًا لك من الأعماق على نشر حياة الشيخ كفتارو، وأنا أستمع إليها بشكل رائع.
[استطراد الشيخ على التعليق:] في التعايش مع اليهود تعرفون قصة السارق المسلم مع المتَّهَم اليهودي، وقد كان اليهوديُّ بريئًا، وكيف دافع عنه الوحي والقرآن وأثبت له براءته، وأَرجَع التهمة على السارق المسلم، وتعرفون كيف انتصر الإسلام للوثني، والوثني لا يعرف الله عزَّ وجلَّ، عكس اليهودي الذي يعبد الله عزَّ وجلَّ لكنْ بترتيبٍ معين.
• أمريكي آخر: شكرًا لك على نَشْرك مقالات الشيخ أحمد كفتارو في القسم المسيحي في الإنترنت، ولقد استمتعتُ في قراءة هذه المحاضرة التي تمثِّل حركة رائعة صادرة من سورية، وإن أي محاولة لتقليص عدم التفاهم والتشدد هي محاولة جيدة، وأرجو أن تتابع في نشر رسائل المحبة.
[الشيخ يعلق على هذا الكلام مع ابتسامة ظاهرة في حديثه:] هذه سورية التصحيح، والتصحيح ليس فقط بالصناعة والتجارة، وبوجود رئيسنا ولله الحمد صار هناك تصحيح في الفهم الإسلامي، ليس في سورية فقط، بل في سورية وفي مشارق الأرض وفي مغاربها، أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يديم عليه الصحة والعافية، وأن يحقِّق على يده إن شاء الله نصر هذه الأمة وعزتها ورفعتها. [قول سماحة الشيخ: “سورية التصحيح”، يشير بذلك إلى الحركة التصحيحية التي قام بها حافظ الأسد، وكانت سوريا تحتفل بها كثيراً كل سنة.. ثم كلام الشيخ عن الرئيس والدعاء له، يُبَيِّن الحكمة في الخطاب التي وهبها الله تعالى للشيخ، فمع أنه كان يعاني كثيراً من الرئيس وحكومته، الذين كانوا يقفون في وجهه في مشاريعه الإسلامية، ويتبنون التيار الاشتراكي الشيوعي المحارب للإسلام، إلا أنه ما كان يرد الإساءة بمثلها، بل يجابه ذلك بصبر وحكمة عظيمة ليحافظ على الدعوة.. وبالتوفيق الإلهي للشيخ وبهذه الحكمة بقي مجمعه الإسلامي عامراً، وبقيت دعوته العالمية مستمرة].
• مدير التعليم الديني في المركز الكاثوليكي في أسنتيكا: شكرًا لك يا فادي لنشر هذا المقال، وسأحتفظ به كمرجع لي.
• طالب سوري في إحدى الجامعات: استمتعتُ كثيرًا في قراءة هذه المحاضرات، وأود أن أعرضها على دكاترة الجامعة لكي يضمِّنوها في المنهاج العام عن الدين.
هذا تعريف في الدين بهذا النطاق، فغير المسلم والشعب الأمريكي عندما يطَّلع على الإسلام ماذا يكون ردُّ الفعل في نفسه؟ هو ما سمعتموه.
فلو صار التعريف بالإسلام على المستوى الأوسع في الأقمار الصناعية، فيُنشَر في كلِّ يومٍ ساعةٌ للتعريف بالإسلام والتعريف عنه، فهذا أقوى مِنْ مدافعنا وطائراتنا ودبابتنا وصواريخنا، فتلك صواريخ للتدمير والمآسي والثكالى والأيتام والفقر والخراب، أمَّا بصاروخ التعريف بالإسلام فتصير بدل العداوة المحبةُ، وبدل الجفاء الإقبالُ، وبدل الحروب التعاون، وبدل ما يُنظَر إلى العالم الإسلامي بالنظرة المتخلِّفة يُنظَر إلى الإسلام النظرة المتقدِّمة والتي هي فوق تقدُّمهم.
وهم لم يتقدَّموا، وإنما تقدَّمت الآلة، فقد كان مركوبهم حيوانًا كحصان أو حمار، فصار مركوبهم حديدًا بسرعة أكثر، وصار الحمار يطير، فالذي ترقّى هو الحمار، أمَّا صاحب الحمار فلا يزال في حيوانيَّته وفي وحشيَّته، وكان الإنسان يستضيء بالشمعة فصار يستضيء بالكهرباء، وكان الطريق طينًا فصار مُعبّدًا، فالذي ترقَّى هي الأشياء المادية غير الإنسان، ولكن هل ترقَّى الإنسان مِنْ قاسٍ إلى رحيم، ومِنْ ظالمٍ إلى عادل، ومِنْ معادٍ لكلِّ النَّاس، ولا يعرف إلَّا الأنا، إلى أنْ يُحب كل النَّاس ويُحب الخير لهم جميعًا؟ وهل انتقل مِن استئثاره بالخير لنفسه في الماديات والمعنويات إلى أنْ يُحب الخير لكل النَّاس؟ لا، بل إن الإنسان في تَرَدٍّ ولو ركب الطائرة، فالدبور يطير والبعوضة تطير، ولكن تقدُّم الإنسان في إنسانيته وأخلاقه وحكمته وروحانيته وربانيته، وفي أنْ يُحب للناس ما يُحبه لنفسه.
هل تتذكرون؟ ذكرتُ لكم حديثًا أن النبي ﷺ بعد كل صلاة كان يقول: ((اللَّهمَّ ربَّنا وربَّ كلِّ شيءٍ، أنا شَهيدٌ أنَّك أَنتَ الإلَهُ وَحدَكَ لا شَريكَ لكَ، وأنَّ مُحمَّدًا عَبدُك ورَسُولُك، وأنَّ عِبادَك كُلَّهم إِخوةٌ)) ، ونُتبِع الحديث بالحديث الآخر: ((لا يُؤمِنُ أحَدُكم حتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفْسِه)) .
أمثلة من تعامل الصحابة مع غير المسلمين
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه كان إذا ذبح ذبيحةً في بيته، وكان له جارٌ يهودي، كان يقول: “هل أهديتم مِنْ ذبيحتنا لجارنا اليهودي؟” ففي الإسلام المواطِن غير مسلم إذا كان مواطِنًا شريفًا يَتعامل مع إخوانه المواطِنين تعامُل المواطِن مع المواطِن، فلهم ما لنا مِنَ الحقوق، وعليهم مِنَ الواجبات ما علينا.
وتتذكرون قصة أمير حمص عندما قدَّم استقالته لسيِّدنا عمر رضي الله عنه واسمه سعيد بن عامر رضي الله عنه، وكان مِنْ خِيار الصحابة ورعًا وتقوًى وعدالةً، فسأله: لماذا؟ فقال له: غضبتُ مرة مِنْ نصرانيٍّ، فقلت له: أخزاك الله، فخيشتُ يوم القيامة أنْ يُحاسبني الله عزَّ وجلَّ على حديث النَّبيِّ ﷺ الذي يقول: ((مَن آذَى ذِمِّيًّا)) ما معنى “ذِميٍّ”؟ يعني: أعطاه المسلمون ذمَّة الله عزَّ وجلَّ، أي عهد الله وعهد رسوله ﷺ أن لا يُظلموه، وأنْ يُعطوه حقوقه، وأنْ يُعاملوه كما يُعاملون أنفسهم، فأعطوه ذمَّتهم وشرفهم وعهدهم، ولكون الذمة بمعنى الشرف والعهد نُسِبَ إلى الذميِّ، فالنَّبيُّ ﷺ يقول: ((مَنْ آذَى ذِمِّيًّا فَأَنا خَصمُه يَومَ القِيامةِ، ومَنْ كُنتُ خَصمَه فَقَد خَصمْتُه)) ، إذن لن يكسب الدعوى، فإذا كان النَّبيُّ ﷺ هو خصمه والله عزَّ وجلَّ هو القاضي، فهل يُخاصم النَّبيُّ ﷺ بباطل؟!
هذا هو الإسلام المجهول.. وهناك أناسٌ في أمريكا يُظهرون الإسلام بمظهر التعصب والجفاف، فيطيل اللحية ويلبس العمامة، وهذا شيءٌ مِنَ السنة، ولا إشكال فيه، ولكنَّ أبو جهل أيضًا كان له عمامة ولحية، وأبو لهب كان له عمامة ولحية، هذا كان شعار العرب عمومًا، وشعار الفُرس كانوا يحلقون اللحى ويتركون الشوارب، والآن أوروبا حلَقَت الكُلّ.
الإسلام هو الاستجابة لأوامر الله عزَّ وجلَّ
الإسلام أمره عظيم، وكلمة إسلام تعني الاستجابة لكلِّ أوامر الله عزَّ وجلَّ ونداءاته، والخضوع لكلِّ ما يدعو إليه الله عزَّ وجلَّ، فإنْ لم تكن أنت بهذا المستوى فلستَ مسلمًا، وإذا ادَّعيتَ الإسلام وأنت لستَ مسلمًا فاسمك منافق، فإذا قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ﴾ [الأحزاب:41] أليس هذا أمرًا؟ فهل استجبتَ لهذا الأمر؟ وهل لبَّيتَ هذا النداء في: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾؟ فإذا فعلتَ هذا فقد أسلَمتَ لهذا النداء واستجبتَ، وأنت به مسلم وأنتَ له مُستجيب.
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ [النور:30] هذا أمرٌ، فهل استجبتَ له؟ هل غضضتَ بصرك؟ فإنْ فعلتَ فأنت به مسلم.. الآن قد كسبتَ نقطتين في الإسلام.
﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة:83]، ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء:23-24] هل استجبتَ، وتواضعتَ لهما، ولم تنظر لهما نظرةً تزعجهما ولم تقل كلمةً تؤذيهما؟ فإنْ استجبتَ فقد أسلمتَ بهذه الآيات، وإنْ لم تستجب فقد كَفَرتَ، وإذا ادَّعيتَ الإسلام وأنت بهذا الحال فأنت منافق، تدَّعي الإسلام ولا تستجيب له، وهذه صفة المنافق.
ما أكثر ما يترك المسلمون اليوم من أحكام الإسلام!
لذلك إذا كان الإسلام ألف سهمٍ فكم سهمًا نحن آخذون مِنَ الإسلام؟ وكم سهمًا تاركون مِنه؟ فالقرآن كلُّه مِنْ أوَّله من سورة الفاتحة إلى سورة النَّاس، هل فهمتَ هذا القرآن كلمةً كلمة وجملةً جملة لكي تستجيب لها وتحوِّلها مِنْ قراءةٍ إلى عملٍ وإلى خُلق؟ فإذا نهى الله عزَّ وجلَّ عن شرب الخمر، فانتهيت عنه فقد أسلَمتَ، ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى﴾ [الإسراء:32] فإذا تُبْتَ عن الزنا فقد أسلَمتَ بهذا الحكم القرآني، ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [النساء:36] الإحسان إلى الجار، فإذا أحسنتَ إلى الجار فقد أسلمتَ بهذه الآية، وإذا لم تُحسِن إلى الجار فقد كفرتَ بهذه الآية، وإذا ادَّعيتَ أنَّك مسلمٌ ولم تتخلَّق ولم تستجب فأنت منافق، فهل أكثر النَّاس اليوم مسلمون أم كافرون؟ الكافِر هو الذي يترك أوامر الإسلام ولا يدَّعي الإسلام، وهذا اسمه كافر، أمَّا إذا ترك أوامر الإسلام وادَّعاه فاسمه منافق، والمسلم الذي عَرَف الإسلام وفهِمَه، فيقرأ القرآن للفهم، كما تقرأ الجريدة، فهل تقرأ الجريدة للثواب أم للبركة؟ يسألونك: ماذا في الجريدة؟ فتحكي لهم كلَّ ما قرأتَ، وإذا سألوك: ماذا فهمت مِنَ القرآن؟ [لم تفهم شيئاً]، فهذا أكبر الذنوب وأكبر الأخطار على إيمان الإنسان، ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة:18]، ﴿فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة:171].
معركة الإسلام اليوم
لو وُجِد تعريفٌ بالإسلام.. وما أحوج الدول العربية إلى التعريف بالإسلام! أَلَا تريد الدول أنْ تُحارب عدوَّها واستعمارها؟ فالحرب في أمريكا، [إن حرب الدول العربية مع العدو الصهيوني إسرائيل الذي هو محتلّ لأرض عربية، وما يعنيه سماحة الشيخ هنا أن الحرب الحقيقية للعرب والمسلمين أرضها أمريكا لا فلسطين، وقد قال هذا في درس آخر، وقال فيه أيضاً: من يكسب أمريكا يكسب المعركة]، ولكنْ ليست حرب تدميرٍ وتخريبٍ وسفكٍ للدماء، بل هي حربٌ على العداوات وحربٌ على الأحقاد وحربٌ لتحقيق التعاون والحب، فإذا صارت الكنيسة مسجدًا وصار الأمريكي يُقَبِّل يد الشَّيخ وصار يأتي إلى الكعبة، فهل هذا النصر أعظم أم إذا خربنا المدن، وقتلنا الأطفال، ويتَّمنا النساء في الطرفين؟ أيُّهما أفضل؟ وإذا صاروا مُريدين، وقدَّموا لنا كلَّ التكنولوجيا، فإذا قال الشَّيخ للمريد: ماذا عندك من التكنولوجيا؟ فهل سيبخل على الشَّيخ بشيءٍ مِنَ التكنولوجيا؟ الآن هم لا يعطوننا شيئًا ويُخفون عنا كلَّ شيء، والحاجز الذي بيننا وبينهم هو جهلهم بالإسلام.. ويوجد إسلاميُّون لأمرٍ ما، لا نعرفه، عقولهم عقل مراهق، يعطون صورة سلبية مِمّا يقومون به مِنَ الإرهاب وغيره، وهذا لا يُقرُّه الإسلام، وإنْ كان غباءً فالغباء أيضًا لا يُمثِّل الإسلام، فلو عرَضَ هؤلاء الإسلاميُّون الإسلامَ بجماله وروحانيته وبأخلاقه وبشرح قرآنه فوالله إن أمريكا أقرب إلى الإسلام مِنْ كثيرٍ ممَّن وُلِدوا مسلمين ومِنْ خمسين أبٍ مسلم، لأنَّ أولئك أمّةٌ تربَّت على تعشُّق الحقيقة والبحث عنها، وهكذا في أوروبا وفي اليابان.. إلخ.
الغاشية اسم من أسماء القيامة
نرجع إلى درسكم في سورة الغاشية، فالغاشية هي اسمٌ مِنْ أسماء يوم القيامة، والقيامة لها أسماءٌ كثيرة، فتُسمَّى القارعة، وتُسمَّى الواقعة، وتُسمَّى القيامة، ولها أسماءٌ كثيرةٌ متعددة، ومِنْ جملتها اسم الغاشية، والغاشية مثل غطاء الرأس عندما يضعه الإنسان ويُغطِّي كلّ رأسه، وسمِّيت الغاشية لِمَا فيها مِنْ أهوالٍ ومِنْ أخطارٍ وعواقب لشقاءٍ أبديٍّ للإنسان أو نعيمٍ أبديٍّ -والإنسان لا يعرف مصيره إلى أيِّ النتيجتين والنهايتين- ولما فيها من الازدحام ومن عَرْضِك على محكمة الله عزَّ وجلَّ، والملائكة تسوقك إلى المحكمة، وأضابير [سِجِلّات] أعمالك مِنْ يوم بلوغِك إلى يوم وفاتك كلها مُسجَّلة في صحف الملائكة، وستُعرَض أعمالك على الله عزَّ وجلَّ، واللهُ عزَّ وجلَّ يُذكِّرك بنعمه مِنْ حين لم تكن شيئًا مذكورًا إلى أنْ صرتَ حيوانًا منويًّا في النطفة، إلى أنْ جعل لك السمع والأبصار والأفئدة، وإلى أنْ خلقَ لكَ الشَّمس والقمر والفواكه والثمر والزوجات والوَلَد.. إلخ.
الله تعالى يقول لك: بماذا شكرتني؟ لقد أرسلتُ لك أشرف ملائكتي، وأشرف أنبيائي يحملون رسالاتي إليك، فبماذا استجبتَ لأوامري في رسالاتي؟ وماذا عملتَ بوصاياي؟ وماذا عملتَ بقانوني؟ هذه أسئلة في الحساب [عندما يُحاسَب الإنسان]، أمَّا في الجزاء [والعذاب]: ﴿نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم:6].. وعندما يرى الإنسان هذه المواقف وهذه المصائر وهذه المشاهدات يَغْشى الناسَ الخوفُ والرعب العظيم، وهذا قبل أنْ تتبيَّن النتائج، فكيف إذا تبيَّنت نتيجة الإنسان، [وعَلِم أنّه] ممَّن غضب الله عزَّ وجلَّ عليه، وممَّن أعرَضَ عن الله فأعرَضَ الله عزَّ وجلَّ عنه، وممَّن لم يبالِ بأوامر الله فلا يُبالي الله عزَّ وجلَّ به، وممَّن أعرَضَ عن أوامر الله فأعرَضَ الله عزَّ وجلَّ عنه! ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة:67].
من أهوال القيامة
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ [الغاشية:1] هل تعرِفُ ما أهوالها؟ وما هي أخطارها؟ وهل تعرف أين مصيرك؟ قد تكون في الدنيا ملِكًا، وقد تكون عظيمًا، وقد تكون غنيًا كبيرًا وأينما تذهب يُعظِّمك النَّاس ويُكَرِّمونك ويُحيُّونك في بيتك وفي الشارع وغيرهما، ويقولون: أتى الأفندي وأتى الوزير وأتى البيك وأتى القاضي.. ولكن هناك يوم القيامة يقول عنه عليه الصلاة والسلام: ((يُحشَرُ المتَكَبِّرونَ يَومَ القِيامةِ صُوَرُهُم صُوَرُ البَشرِ وأَجسامُهُم أَجسامُ النَّملِ الأَحمرِ))، جسمه بحجم النملة الحمراء الصغيرة، لكنَّ شكله شكل بني آدم، ((حتَّى تَطَأَه أَقدامُ أَهلِ الموقفِ)) ، فكما كانَ يَتعالَى ويَتكَبَّرُ على مَخلوقاتِ اللهِ في حالِ الدُّنيا، هكذا يذلُّه الله تعالى جزاء كِبره وتعاليه على مخلوقات الله يوم القيامة.
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ [الغاشية:1]؟ ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ﴾ [النور:24]، ماذا قلتَ في السَّهْرَة؟ وماذا تكلَّمتَ في السيارة؟ وبماذا اغتبتَ فلانًا؟ وبماذا طعنتَ في عِرض فلان؟ وكيف تعدَّيتَ على فلان؟ فأعمالك كلها مسجَّلةٌ على شريط فيديو إلهي، وتُعرَض أعمالك أمام الله عزَّ وجلَّ وأمام الأنبياء في المحكمة العليا الإلهية، ويقول لك الله عزَّ وجلَّ: أَمَا أرسلتُ إليك رسولي؟ أَمَا أنزلتُ عليك وحيي وقرآني؟ أَمَا فتحتُ لك المساجد؟ أَمَا هيَّأتُ لك العُلماء والشيوخ والمربِّين؟ أَمَا أنعمتُ عليك بنعمة السمع والبصر والزوجة والأولاد وكذا وكذا؟ فبماذا شكرتني على نعمي عليك؟ ماذا سيكون جوابك إذا أتى حُكم المحكمة: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30)﴾؟ اجعلوا الأغلال “والجَنَازِيْر” [السلاسل الحديدية] في رقبته، ﴿ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)﴾ أدخلوه إلى جهنم، ﴿ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا﴾ طولها ﴿سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ﴾ [الحاقة:30-32] يَشُكُّوْنَه في سلسلة إلى جهنم مثلما يُشَكُّ اللحم ويُشْوَى. [كلمة: “يَشُكُّونه” وكلمة “يُشَكّ” تُستخدَم في العامِّيَّة بمعنى إدخال سيخ الشواء الحديدي بقطعة اللحم لشوائها، وبهذه الطريقة يُشوى الدَّجاج والخروف، حيث يدخلون سيخ شواء كبير من خلفه ويُخرِجونه عند رقبته].
الإيمان أن تؤمن بالقرآن كله
هذا كلام الله عزَّ وجلَّ! فإنْ شككتَ بحرفٍ منه فأنت كافر، وإنْ آمنت به ولم تتُب إلى الله عزَّ وجلَّ ولم ترجع إلى صراط الله فليتكَ كنتَ مجنونًا، فالمجنون ليس عنده إدراكٌ، وهو معذورٌ، أمَّا أنت فعاقلٌ وتعقل بأنَّ الماء ماء، والنار نار، والأرض أرض، والسماء سماء، ولكنك لا تعمل بمقتضى عقلك، فسيُعاملك الله عزَّ وجلَّ بهذه المعاملة [من العذاب] حسب ما نطَقَ في قرآنه الكريم.
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ [الغاشية:1]؟ كما تقول: هل تدري ماذا يحدث؟ هل تدري ما الذي يحدث في البلد؟ أي هناك أمرٌ عظيمٌ في البلد.. فمعنى ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ [الغاشية:1] هل تعرف ما الغاشية؟ الغاشية أمرٌ عظيمٌ يكون فيه مستقبلك إلى أبدِ الآباد، فالمسجون يتخلَّص مِنْ سِجنه بعد سنةٍ أو سنتين أو عشر سنوات أو خمس عشرة سنةً أو بالموت، أمَّا هناك: ﴿لَا يَمُوتُ فِيهَا﴾ فيستريح، ﴿وَلَا يَحْيَى﴾ [طه:74] الحياة السعيدة الهنيئة.
التهيُّؤ للغاشية
لقد ذهب مِنْ عمرك القسم الكبير، ولم يبقَ منه إلَّا القليل، فمتى ستستدرِك وتتوب إلى الله عزَّ وجلَّ؟ ومتى ستتهيَّأ للقاء الغاشية؟ هو يقرأ الغاشية فإذا سألته: ما معنى الغاشية؟ لا يعرفها.. ولماذا سُمِّيت بالغاشية؟ لأنَّ عذابها وخوفها ورعبها كما قال الله تعالى: ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا﴾ كيف ستنجون مِنْ يومٍ ومِنْ أهواله! ﴿يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾ [المزمل:17]، الطفل الذي عمره سنتان يشيب مِنْ أهوالها، فهل خوف الكبير أكثر أم خوف الصغير الذي لا يدرك؟ وإنْ شابَ الذي عمره سنتان فهل تُفكِّر ماذا سيحدث لك وأنت في ذلك الموقف؟ أنت ستشيب ويسقط شعرك وكذلك جلدة رأسك إنْ لم يسقط رأسك مِنْ شدة الخوف، فهل استعددتَ لهذا اليوم؟
وهناك أناسٌ في ذلك اليوم: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّ عَرشِه، يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ)) فهم جالسون على “المنَصَّة” إلى جانب الرئيس أو إلى جانب الملِك عن اليمين وعن الشمال، [المنَصَّة: أجمل مكان وأهمه للجلوس في ملعب أو مسرح وما شابه، حيث يجلس فيها الناس المُمَيَّزون جداً]، ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّ عَرشِه، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ)) انظروا كيف قدَّر الإسلام رجلَ الدولة، وكم كرَّمه، وكم قدَّسَه! فجعله في أعلى درجات القرب إلى الله عزَّ وجلَّ إذا عَدَل وأنصَف ولم يظلم وأدَّى إلى كلِّ ذي حقٍّ حقه، ولا يُشتَرط بأنْ يكون الإمام العادل رئيس جمهورية فقط، فحتى لو كان شرطيًّا يتقي الله عزَّ وجلَّ ولا يظلم ويحافظ على النظام ويحافظ على القانون ويرفُق بالنَّاس فقد يَدخل في هذا الحكم، ولو كان هذا المقام له درجاتٌ، لكنَّ العدل يرفع شأن العادِلين.
((وَشَابٌّ نَشَأَ في طاعةِ اللهِ تَعالَى))، مِنْ أول شبابه أكرَمه الله عزَّ وجلَّ برفاقٍ صالحين، وبمجالس العِلم والذكر والتقوى، حتَّى أمضى عمره ولقيَ ربه.. نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا منهم.
((وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ)) ، كيف يكون قلبه معلقًا بالمساجد؟ هل قلبه معلق بأعمدتها أم بثُرَيَّاتِها أم بسجّادِها؟ [ثُرَيَّات: جمع ثُرَيّا، وكما أنّ الثُرَيّا مجموعة من النجوم، كذلك تُستَخدَم هذه الكلمة في اللهجة السورية بمعنى مجموعة من المصابيح الكهربائية، وتُكَوِّن بمجموعها قطعة واحدة تُزَخرَف بها المساجد والبيوت وغيرها من الأبنية]، بل إن قلبه متعلِّقٌ بالحكمة في المساجد، وبمجالس العِلم والذكر والتقوى والتزكية في المساجد، إلى آخر الحديث.
وهناك أناسٌ: ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾ [القمر:48] ومِنْ شعورهم.. ﴿فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي﴾ بشعر رأسه، ﴿وَالْأَقْدَامِ﴾ [الرحمن:41] تُمسكُه الملائكة مِنْ شعر رأسه ومِنْ قدميه، فيصير مثل الكرة، ويرمونه فيتدحرج مِنْ رأس جبل جهنم إلى قعرها وأسفلها.
المراد من حديث الغاشية الإيمان بها
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ [الغاشية:1]؟ فهل آمنتَ بالغاشية؟ وهل آمنتَ بالقيامة؟ وهل آمنتَ بالواقعة؟ وهل آمنتَ بالقارعة؟ نرى أكثر المسلمين منهم الذي يغشُّ والذي يكذب والذي يأكل الحرام، وينظُر إلى الحرام، والذي يجلس في مجلس الحرام، ويستمع إلى الكلام الحرام، ولا يتورَّع عن فعل محارِم الله عزَّ وجلَّ، ويُهمل فرائض الله عزَّ وجلَّ ولا يُبالي بها، فهل آمَنَ هذا بالغاشية؟ وهل آمن بالقيامة؟ وهل آمن بالقرآن؟ وهل آمن بأنَّ النَّبيّ ﷺ كان صادقًا فيما أخبَر؟ وهل آمن بأنَّ الذي يُكلِّمه هو الله عزَّ وجلَّ؟ إذن هذا ليس بمؤمن ولم يشُمَّ رائحة الإيمان.
لماذا؟ لأنه هل يصير أحدكم نجارًا عند بائع الصَّبَّار؟ [الصَّبَّار: تِيْن الصَّبّار، وهو نبات شوكي لذيذ الطعم.. وبَيْعُه مُبَرَّداً في الصيف على عربات في الطريق من العادات الشعبية في دمشق]، فإذا عمل أجيراً عند بائع الصَّبّار هل يصير نجارًا؟ وإذا عمل عند الحَدَّاد هل يصير نجارًا؟ وإنْ كان عند “الجليلاتي” [صانع الجِلَال، أو السَّرْج أي رحل الدابة] فهل يصير صَيدليًّا؟ فيجب أن يطلب الإسلام مِنْ مدارس الإسلام ومِنْ مجالس الإيمان، وأن يبحث المسلم عن المعلِّم المربِّي والمزكي الحكيم ولو حبوًا على يديه ورجليه، ولو على الثلج والوحل والمطر، ولو لمدة عشرين يومًا أو خمسين يومًا حتَّى يصل، وهكذا فعل المسلمون في عهد رسول الله ﷺ حين هاجروا مِنْ مكة إلى المدينة، لماذا؟ لينتسبوا إلى مدرسة القرآن والإيمان والإسلام، وليكونوا مسلمين حقًّا، فالذي يصير نَجّارًا يُهاجر لصحبة معلِّم النِّجارة، والحَدّاد يُهاجر إلى دُكّان ومعلِّم الحِدَادة، والصيدلي إلى كلية الصيدلة، والحَشَّاش والسِّكِّيْر يُهاجر إلى الخمارات، ومَن أصحابه مِنَ المهاجرين والأنصار؟ الحشاشون والسِّكِّيرون: [الحَشَّاش: مدمن الحشيش، والحشيش نوع من المخدرات، والسِّكِّير: مدمن الخمر]
عَنِ الْمَرءِ لا تَسأَلْ وَسَل عَن قَرينِهِ
فَكلُّ قرينٍ بِالْمُقارَنِ يَقتدي
النَّاس في الغاشية على قسمين
قال: ما هو حديث الغاشية؟ قال: لها أحاديثُ كثيرة، قال: فحدِّثنا عن بعضها، قال: النَّاس على قسمين: قسمٌ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾ [الغاشية:2]، قسمٌ مِنَ النَّاس يظهر على وجوههم الذل والهوان والخوف والرعب وسواد الوجه مِنْ سوء أعمالهم وفسقهم وكُفرهم وجورهم وطغيانهم وغشِّهم وإيذائهم لمخلوقات الله وتركهم لفرائض الله وارتكابهم لمحارم الله عزَّ وجلَّ، وهؤلاء يُحشرون يوم القيامة: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران:106] يخرج مِنْ قبره ووجهه أسود مثل الفحم، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾ [الغاشية:2]، فعندما يظهر على وجهه أثر الغضب الإلهي والسواد من الكفر والآثام والمعاصي هل يرفع رأسه أم يكون رأسه منخفضًا؟ ﴿وُجُوهٌ﴾ وجوهُ أولئك النَّاس ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾ [الغاشية:2] خاشعة: يعني ذليلة مهانة وحقيرة نادمة ومَخْزِيَّة.. وأنت عندما قرأتَ هذه السورة هل قدَّرت ماذا سيكون وجهك يوم الغاشية؟ هل ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾ [الغاشية:2] أو: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ﴾ [الغاشية:8-9]؟ أو: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)﴾ مثل الفجر عندما يَطْلع ويُسفِر ويظهر النور، فهناك وجوهٌ يَخْرُج النور منها يوم القيامة مثلما يَخْرُج نور الفجر عند إسفاره وانفجاره.. ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)﴾ غَبَرَة الذل والمعاصي والفسق والآثام، ﴿تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)﴾ غبارٌ مع سواد، ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ [عبس:38-42].. ولا تظن أن الكافر هو الذي لا يكون مسلمًا كأن يكون مجوسيًّا أو كذا.. بل إنك إذا تركت الصَّلاة فأنت بها كافر، وإذا لم تغضَّ بصرك عن الحرام فأنت كافرٌ بـ: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ [النور:30]، وإذا كنتَ تغتاب النَّاس فأنت كافرٌ بقوله تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [الحجرات:12]، وإذا كنتَ لا تؤدي الزكاة فأنت كافرٌ بكلِّ آيات الزكاة، ولذلك قال النَّبيُّ ﷺ: ((مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ فَقَدْ كَفَرَ)) .
الرجوع إلى الله قبل ساعة الموت
لذلك يجب أنْ نكتسب الفرصة قبل أنْ يُفاجئنا الموت الذي لم يُحدَّد له وقتٌ معينٌ يأتي به إلينا، فأخونا أبو غُنَيْم عليه رحمة الله كان مِنْ كبار الإخوان والمحِبِّين، [أبو غُنَيم رحمه الله تعالى: من الذاكرين ومن أهل القلوب، ومن الملتزمين بدروس الشيخ، وقد كان عامِّيّاً، لكن كانت له دروس في بعض المساجد، وكان له تأثير كبير في النفوس وجاذبية، ومما عُرِف عنه أنّ ما كان يسمعه من الشيخ أحمد كفتارو يتكلم به في دروسه وفي دعوته، ولا يزيد على ذلك]، حضر الدرس يوم الجمعة، [هذا الدرس، وهو درس الجمعة الذي يقيمه سماحة الشيخ أحمد كفتارو في مجمع وجامع أبي النور قبَيْل أذان الظهر]، وهو راجعٌ بسيارته إلى “جُوْبَر” [حي من أحياء دمشق الجنوبية]، توفَّاه الله عزَّ وجلَّ في السيارة، وكان لا يُعاني مِنْ شيء، وكان يتحدَّث مع أولاده، وقال لابنه وقد مرَّ على دُكّان “مَحْمَصَة”: انزل واشترِ لنا بعض “الموالِح”، [مَحْمَصَة: مكان بيع بعض الأطعمة المُحَمَّصة، والتي تُؤْكَل للتسلية، مثل الفستق وبذور البطيخ واليقطين وبذور دوار الشمس وغيرها من الأشياء التي تُحَمَّص بالملح، وتُسَمّى مَوَالِح]، قال ابنه: نزلتُ وأخذتُ كيلو ورجعتُ، وكان قد سلَّم روحه في السيارة، فكيف إذا حدثتْ معك هذه الحادثة؟ وإذا لم تحصل في السيارة فسوف تحصل بغيرها، يعني إذا نجوت من الموت في السيارة فهل نجوت من الموت؟ لا، فقد يأتيك الموت في كلِّ لحظة، وإذا أرسلوا لك خبرًا بأنْ جهِّز نفسك فالمُخابَرات [سُلطَة الأمْن] تريدك، فإذا كنتَ ترتدي ثيابًا متسخة بالطين أو ملابس مهترئة أو تلبس القُبْقَاب [حذاء خشبي]، فهل تبقى على حالتك أم ترتدي اللباس المناسب؟ وإذا لم يُعيِّنوا لك الوقت تقول: ربما في أي لحظة يأتون إلي، فلهذا يجب أن أكون جاهزًا.. فهل نحن مهيَّؤون إذا أتانا الطلب للقاء الله عزَّ وجلَّ؟ وهل هيأنا أنفسنا لاكتساب كمال رضى الله عزَّ وجلَّ وللتوبة الكاملة وللصدق في إيماننا، حتى نلقى الله عزَّ وجلَّ مع الصادقين ومِنَ الصادقين؟
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ [الغاشية:1] هل استعددتَ للغاشية؟ وهل تزوَّدتَ؟ ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة:197]، هل تزوَّدتَ للغاشية؟ وهل تعلَّمتَ؟ وهل علَّمتَ؟ النَّبيُّ ﷺ يقول: ((لَيسَ مِنِّي إلَّا عالِمٌ أو مُتعلِّمٌ)) ، وهل هاجرتَ إلى وارِث رسول الله ﷺ كما هاجر أصحابه رضي الله عنهم إلى نبيِّهم ﷺ؟
رحِمَ الله أم حسن التي كانت تساعد عائلتي في البيت -رحمة الله عليها وغفر الله لها- كان بلدها على حدود تركيا، فمرةً سألتُها: ما الذي جاء بك إلى الشام؟ [الشَّام في اللهجة السورية الشعبية هي دمشق، حيث يقول أهل سوريا عن دمشق: الشّام، ولا يستخدمون اسم دمشق إلا في اللغة الفصحى]، قالت لي: واللهِ يا شيخي أنا كنتُ أستمع إلى حديثك في الراديو أنا وزوجي أبو الحسن، [كانت لسماحة الشيخ بعض الدروس في الراديو في الستينات والسبعينات من القرن العشرين]، ومرةً بعد مرة قال لها زوجها: واللهِ أنا أريد أنْ أرى هذا الشَّيخ، لقد أحبه قلبي، فأريد أنْ أذهب إلى الشام وأراه، فأتى إلى الشام، وجاء إلى الجامع ثم رجع إليها وقال لها: هَيّا يا امرأة، واللهِ لا يوجد أمامنا إلَّا الهجرة إلى الشَّيخ.. فهاجرا مِنْ حدود تركيا، رحمة الله عليها وغفر الله لها ولنا، كان حبها حبًّا بلا حدود، وكانت تقول: واللهِ لو طرتموني ولو رميتموني واللهِ أضرب الباب بالأحجار، [يقول ذلك سماحة الشيخ وهو يضحك].. رحمة الله عليها وغفر الله لها.. كانت تقول لي: إذا أبعدتموني أموت.
هذه هي الهجرة، لأنَّهم عرفوا بعض المعرفة وعن بُعد.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن لا يجعل ستارَةً على عيوننا ولا على عقولنا ولا على قلوبنا، فنهر بردى ينبع من الزبداني، [وهي قرية مرتفعة]، ولا ينتفع منه سكانها بشيءٍ، وأرض الغوطة البعيدة عنها نحو أربعين أو خمسين كيلومتر هي التي تشرب منه، فإذا لم تُخفِض الأرض نَفْسَها لماء الحياة وتتواضع له لا تنقلب صحراؤها إلى جنة.. نسأل الله أن يوفقنا.
التحضير والاستعداد ليوم الغاشية
ما معنى ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ [الغاشية:1]؟ يعني هل استعددتَ للغاشية؟ هل جَرَدْتَ أعمالك وفتَّشتَ ما أعمالك وحسناتك وسيئاتك؟ [التاجر دائماً يقوم بجَرْد بضاعته، ليعرف ما عنده وهل هو رابح أم خاسر، وهنا يستعير سماحة الشيخ هذا المعنى لتكون عملية الجَرْد للحسنات والسيئات]، ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَة﴾ [القارعة:6-7] وهل كثُرَت حسناتك على سيئاتك؟ وهل محوتَ سيئاتك بالحسنات؟ قال النَّبيُّ ﷺ: ((إذا عَمِلتَ سَيِّئةً فَأَتبِعِها بحَسَنَة تَمحُها، وخالِقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسنٍ)) ، فإذا قال الله عزَّ وجلَّ لك: هل فهمتَ الغاشية؟ وهل عرفتَ حديث الغاشية؟ أجل، وهل استعددتَ للغاشية؟ وماذا حضَّرتَ لها؟ فهل أنت واثِقٌ مِنْ أنَّ حسناتك أكثر مِنْ سيئاتك، ونورك أكثر مِنْ ظلامك، ورضاء الله عزَّ وجلَّ أكثر مِنْ سخطه، وطاعاتك أكثر مِنْ ذنوبك؟ وهل تُبْتَ مِنْ خطاياك؟ وهل تركتَ قرناء السوء واستبدلتهم بالصالحين؟ وهل تركتَ مجالس الجهل والإثم إلى مجالس التقوى والعلم والذكر؟ هذا معنى ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ [الغاشية:1]، فهل آمنتَ بها؟ وهل عمِلتَ بمقتضاها؟ وهل استعددتَ للسفر إليها؟ تسأله: ما هي الغاشية؟ يقول: أنا لا أعلم.
قال: الناس قسمان: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾ [الغاشية:2]، فإذا كان الشخص قاتلًا، والأمن أمسكوا به وربطوه وأخذوا يضربونه بالسياط فكيف يكون؟ هل يكون رأسه مرفوعًا؟ وعندما يدخلونه إلى الاستنطاق هل يكون رأسه مرفوعًا ومبتسمًا ضاحكًا أم ذليلًا حقيرًا مهانًا يائسًا يتمنى أنَّه لم يُخلق؟ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ﴾ [الغاشية:2-3] طوال حياتها في الدنيا في الشغل والعمل -والنَّصَب: هو التعب- فتتعب في دنياها.. وفي النهاية عند موتها كلُّ أعمال دنياها: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان:23] جَمَع الثروة والجاه، وصار وزيرًا أو ملِكًا أو سلطانًا أو مليارديرًا، صار وصار.. [وفي كلّ حياته كان كما قال الله تعالى:] ﴿عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ﴾ [الغاشية:3]، والنهاية: ﴿فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان:23]، ومتى وضعوه في الكفن والقبر يفقد كلّ ما فرح به وباع دِينه وآخرته وجنَّته ورضاء ربه من أجله، وبقي أمامه الغاشية، فهو مِنْ أي نوعٍ مِنَ الناس في الغاشية؟
قال: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ﴾ [الغاشية:2-3] عملها في الدنيا الذي نَصَبَت وتعِبَت وشقيَت به وهلَكَت في الشرق والغرب كله صار هباءً منثورًا، ﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾ [الغاشية:4] إلى نار جهنم.. يقول النَّبيُّ ﷺ: ((غُسِلَتْ نارُ الدُّنيا سَبْعِينَ مَرَّةً حتَّى خَفَّتْ حَرارَتُها عَن حَرارةِ نَارِ جَهَنَّمَ)) ، فنار جهنم أشدُّ حرًّا من نار الدنيا بسبعين ضعفًا، وهناك: ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم:6]، الحجارة تصير حطبًا فتَحْرِقُها وتحتَرِق بها، [أنت تَحرِق الحجارةَ وأنت تَحْتَرِق بها]، فكيف ستتحمَّلها وأنت لا تستطيع أنْ تتحمَّل لذعة سيجارة؟
قصة العابد وحرق أصابعه بنار الشمعة
يُقال بأنَّ امرأةً انقطعت في الطريق مِنْ كثرة الثلوج، وربما كانت فَلاحة تعمل في أرضها، وعند رجوعها صارت الثلوج إلى الركبة فلم تستطع المشي، ولم تجد مأوًى لها إلَّا زاوية رجل من العُبَّاد في البرية، فأوت إلى غرفته.. وخلوة الرجل بالمرأة الأجنبية شرعًا لا تجوز، ولكنْ في مثل هذه الحال مِنَ التهلكة “الضرورات تبيح المحظورات”، فاستغاثت به، وفتَح لها وجلست، وبعد ساعة لم ترَه إلَّا وقد وضع أصبعه على نار الشمعة، فحرق رأس الأصبع وتألَّم من حرارة النار، فتعجَّبت منه، وبعد ساعةٍ أحرق أصبعه الثاني، إلى أنْ طلع الفجر وكان قد أحرَقَ أصابعه كلها، فخافت المرأة وقالت في نفسها: إنَّ هذا الرجل مجنون، وربما يتعدَّى عليها.. فلمَّا أصبح الصباح خرج أهلها يتفقدوها حتَّى وصلوا إلى مكان هذا الرجل العابد، فسألوه، فقال لهم: هي موجودة، فقالوا لها: هل اعتدى عليكِ؟ قالت: لا، ولكنَّ هذا مجنون، كيف تقولون عنه: إنه صالح؟ قالوا لها: ما المشكلة؟ قالت: طوال الوقت كان يحرق أصابعه، فسألوه: لماذا؟ فقال لهم: عندما دخلتْ ابنتكم إليَّ راودني الشيطان أن أعصي ربي بها، فتذكَّرتُ القرآن وتذكَّرتُ الغاشية ونارها الحامية وجهنم والوقوف بين يدي الله عزَّ وجلَّ، فقلتُ: يا نفسي أريد أنْ أسألك سؤالًا.. فقالت النفس: لا تهتم “من الآن إلى جهنم يُدبِّرها ربُّ جهنم”، [هذه مقولة شعبية، ومعناها العام: لا تهتم ولا تفكِّر في ذلك، فهذا أمر بعيد]، قال: لا، ولكن أريد أنْ أُجرِّبكِ على نار الشمعة، فإذا تحملتِها فافعلي ما تشائين، لأنَّ الشمعة بسيطة، وعندما وضعتُ أصبعي على نار الشمعة، قلت لها: كيف؟ قالت: كفى.. فسحب أصبعه، ثمَّ بعد ساعة راودته نفسه مِنْ جديد فقال لها: إذن نجرب الأصبع الثاني؟ وهكذا حتَّى طلع الفجر، قال: فعلتُ ذلك مجاهِدًا لنفسي وناصحًا لها، وقد حصل الذي حصل.. فقالوا: بما أنَّك عففتَ فنحن سنزوِّجُك إياها ومهرها علينا، والمنزل علينا وكل النفقات علينا، وكما وَرَد: ((مَن تَرَكَ شَيئًا للهِ عَوَّضَه اللَّهُ خَيرًا مِنهُ في دِينِه ودُنياهُ)) .
موعظة النفس بذكر حديث الغاشية
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ [الغاشية:1] هذه الآية إذا صادفَت القلب النقي والعقل الذكي تكفيه درسًا له طَوَال حياته، فإذا أراد أنْ يُقدِم على الكلمة الكاذبة أو الفاحشة أو النظرة الحرام أو الاستماع إلى الغِيبة والنميمة أو الفواحش أو الجلسة الحرام أو الأكل الحرام أو البيع الحرام، يتذكَّر كلمة الغاشية، ويتذكَّر: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾ [الغاشية:1-2] ذليلة خائبة، تودُّ أنْ تبتلعها الأرض ولا تُحشَر في ذلك الموقف في محكمة الله رب العالمين الذي يقول: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7-8] ويأتي الغبي الجاهل الذي لا مربّيَ له ولا معلِّم ويقول مباشرة: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة:173]، وينسى هذا القرآن الذي يقول: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:8]، ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [البقرة:234]، ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة:237]، ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ﴾ عندما تتحدث أنت وشخصان أو ثلاثة همسًا وسرًّا، ﴿إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ﴾ [المجادلة:7]، وإذا كنتَ وحدك وتريد أن تفعل شيئًا فهل تؤمن أنَّ الله عزَّ وجلَّ معك؟ ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4].
هذا هو القرآن الذي يجب الإيمان به، أمَّا أن تقول: “آمنتُ بالقرآن” وأنت لا تعرف معنى الإيمان، ولا تعرف معنى القرآن فبذلك يضحك الشيطان عليك، وأنت تضحك على نفسك، وهذا سببٌ مِنْ أسباب تخلُّف المسلمين وضعفهم وما وصَلَ إليه المسلمون اليوم.
القرآن كتاب الدنيا والآخرة، وكتاب العزِّ والقوة والغِنى والشرف والكرامة في الدنيا والآخرة، ولَمَّا فتح النَّبيُّ ﷺ مكة لقيَ أبا سفيان، فأخذ يدعوه إلى الإسلام فقال له: ((يا أَبا سفيانَ جِئتُكُم بخَيرِ الدُّنيا وَالآخِرةِ))، لم آتِكم بالآخرة وبالجنة فقط، بل ((بخير الدنيا والآخرة، فأَسلِمْ تَسلَمْ)) .. فالإسلام ليس الآخرة فقط، هذا خطأ، ولكن الدنيا قبل الآخرة، ولذلك عندما أسلم أبو سفيان رضي الله عنه، ماذا كانت النتيجة؟ ابنه يزيدُ صار حاكم فلسطين، يعني رئيس جمهورية فلسطين بقسميها الإسرائيلي والفلسطيني، ومعاويةُ رضي الله عنه صار أمبراطور الدولة الإسلامية، وتسلسل الحكم في ذرِّيَّته مئة سنة، فهل هذه آخرة أم دنيا، وهل قبَض الدنيا أولًا أم الآخرة؟
النبوَّة أَمْرَان
العرب في الإسلام هل أخذوا أولًا كمبيالة الدنيا أم كمبيالة الآخرة؟ [كُمبيالة: ورقة مالية رسمية مثل شيك]، ووَعْدُ القرآن هو: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾ [النحل:30] والإحسان [والدنيا الحسنة تكون] بالعقل الحكيم، والحكمة هي: “فعل ما ينبغي -بأن تؤدي واجبك- في الوقت الذي ينبغي، وعلى الشكل الذي ينبغي”، والحكمة ووضع الأمور في مواضعها هي ثُلث الإسلام، [والإسلام يتألف من ثلاثة أشياء: العلم والحكمة والتزكية]، فيجب أن تكون حكيمًا في كلامك وطعامك وشرابك وابتسامتك ووقتك وسهرك ولبسك ومنزلك، والحكمة: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة:269]، والنبوَّة شيئان: ﴿وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء:79] الحكمة: هي العقل الكامل الناضج الذي لا يُخطئ هدفه، والعِلم: هو العلم بحقائق الأمور، فعندما تعرف العقرب بحقيقته فما نتيجة هذا الحُكْم؟ أن تدوسه بحذائك، وعندما تعرف الألماسة بحقيقتها فما نتيجة هذه المعرفة والعلم؟ أن تضعها قلادةً في عنق زوجتك، وعندما تكون جائعًا ويكون عندك عِلم بوجود “صَفِيْحَة” في المطبخ فما مقتضى العِلم؟ [صَفِيْحَة: هكذا تُسمَّى في دمشق، وهي أكلة شعبية تُخبَز بالفرن، تتألف من لحم وعجين]، مقتضى العلم أن تذهب لتأكل ممَّا قسم الله لك.. فالنبوَّة عِلمٌ وعقلٌ حكيم.. وعقلٌ بلا عِلم، أو عِلمٌ بلا عقل يكون في غير الأنبياء، [أما الأنبياء فيعطيهم الله بالنبوة العلم والحكمة، وأما التزكية] فإنّ الله عزَّ وجلَّ يُزكِّي نفس النبي في أصل خِلقتها.
أمَّا غير الأنبياء فيحتاجون مزكِّيًا ومهذِّبًا ومربٍّيًا، فأنت تحتاج إلى المزكَّي لتُضيف التزكية إلى العِلم والحكمة، فابحث عن المزكِّي ليُطهِّر لك نفسك مِنْ رذائلها وأخلاقها وعيوبها ونقائصها وكذبها وكسلها وجهلها وجاهليَّتها، ولتكون الإنسان السعيد في الدنيا قبل الدار الآخرة.. هذا هو القرآن، وهذا هو الإسلام، وهذه هي الحياة السعيدة، وهذا هو المستقبل الشريف الكريم في الشخص وفي العائلة وفي المجتمع وفي الدولة وفي العالَم.
مسؤولية المسلم في هذه الحياة
فالمسلمون مسؤولون مسؤوليةً كبرى، وكلُّ واحدٍ منكم كلكم صغيركم وكبيركم ذكرًا أم أنثى، ما تتعلَّموه يجب أن تُعلِّموه لغيركم، كان النَّبيُّ ﷺ يقول: ((بَلِّغُوا عَنِّي ولو آية)) ولو حَدِيثًا واحِدًا.. عند رجوع النَّبيِّ ﷺ من الطائف في بطن نخلة -وهو اسم مكان- وفي صلاة الفجر أتى الجن واقتدوا بالنَّبيِّ ﷺ، ثمَّ التقوا به وحدثت القصة المعروفة.. قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ﴾، وأنتم ألا تستمعون القرآن الآن؟ ﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا﴾ لكي نفهم معاني القرآن وماذا طلب القرآن منا، ﴿فَلَمَّا قُضِيَ﴾ انتهى مجلس القرآن، ﴿وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ﴾ بأيِّ صفة؟ هل نائمين أم لاعبين أم آكلين أم شاربين؟ قال: ﴿وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ [الأحقاف:29]، يعني إنّهم بلَّغوهم كلَّ ما سمعوه من النَّبيِّ ﷺ، وهؤلاء الجن والعفاريت، فهل أنت أفضل أم الجِنِّي؟ الجني عندما سمع الكلمة ذهب فورًا ليُبلِّغها لغيره، وغيرُه يبلِّغُها لغيره.
وهل الله عزَّ وجلَّ يقصُّ علينا الحكايات في القرآن للتسلية؟ بل يقص علينا لكي يعلِّمنا إذا سمعنا العِلم والقرآن والحكمة أن لا نكون احتكاريين، بل نُبلِّغها إلى غيرنا ونعلِّمها للآخرين، ونُعلِّمها بأعمالنا قبل أنْ نُعلِّمها بأقوالنا، ولا نكون فقيه اللسان جهول القلب، بل فقيه اللسان وفقيه القلب وفقيه العمل، يُقرَأ العِلم في أعمالنا وفي أقوالنا وفي كلِّ تصرُّفاتنا.
الهدف من قراءة القرآن فهمه والعمل به
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ [الغاشية:1] نعم أتاني، وهل أتاك أنَّ بجانبك يوجد حَنَش [أي ثعبان] ثخين؟ هل أنت متأكد؟ ما هذا الكلام؟ انظر إلى يمينك، فعندما ترى أنّ الحديث صادقًا ماذا يكون موقفك؟ هل تمدُّ يدك إلى فمه وتقول له: مرحبًا؟ أو تأخذه وتضعه في حضنك، أو تحمله وتضعه شالًا على رقبتك، أو تلفُّه على قُبَّعَتك؟! هل هكذا إذا جاءك حديث الأفعى؟ وإذا كنتَ عطشانًا وأتاك حديثٌ بأنَّ مياه الفيجة جاءت، فما نتيجة عِلمك بمجيء الفيجة؟ تركض إلى الفيجة وتملأ أوانيك بالماء لحوائجك، [الفِيْجَة: لها معنيان باللهجة السورية، فهي نبع قريب من دمشق، ذائع الشهرة بلذة مائه، وتُؤخَذ كل مائه بأنابيب ويَشْرَب منه أهل دمشق، كما أنّ صنبور الماء يسمى: فِيْجَة، ويسمى أيضاً: حَنَفِيَّة.. وقول سماحة الشيخ هنا: “مياه الفيجة جاءَتْ، وما نتيجة علمك بمجيء الفيجة؟” يعني: وصل الماء إلى صنبور الماء الذي في البيت أو غيره.. ولذلك يُقَال باللهجة الشعبية: “جاءت الفِيْجَة وانقطعت الفيجة”، يعني جاءت الماء التي في الصنبور، أو انقطعت الماء].. فإذا أتاك حديث الغاشية وعِلمها وحقيقتها فماذا يكون أثر الإيمان؟
ثم يُفصِّل الله لك الغاشية: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾ [الغاشية:2]، هل تريد أنْ تلقى الله عزَّ وجلَّ بوجه المجرمين، وبوجه الطغاة، وبوجه الفاسقين والكافرين والمنافقين والغشاشين والمخادعين، أم بوجه الصادقين المؤمنين المتَّقين الخاشعين والأمناء الأمينين والمزكِّين الصالحين؟ هكذا يُقرَأ القرآن، وهذه هي القراءة التي قال الله عزَّ وجلَّ عنها: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ﴾ [المزمل:20].
﴿عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ﴾ [الغاشية:3] لماذا صارت ﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾ [الغاشية:4]؟ لأن أعمالها التي عملتْها وتعِبَتْ بها ذهبتْ كلَّها هباءً منثوراً: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان:23].
﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾ [الغاشية:4] بعد كلية الحقوق وبعد الجامعة، وبعد الدكتوراه، وبعد القَصْر، وبعد “الصَّيْفِيَّة” [قضاء عطلة فصل الصيف أو التَّنَزُّه في فصل الصيف]، وبعد السيارة المرسيدس، والملايين والأملاك، والوزارات والملوك وكذا، كيف إذا كانت بعد كل هذا: ﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾ [الغاشية:4]! فالأعمال بخواتيمها، فإذا أخذوك إلى مكانٍ، وأطعموك أحسن الطعام، وأحسن الشراب، وألبسوك أحسن اللباس، ثم رمَوكَ مِنْ فوق المئذنة إلى الأسفل، فهل هذه المُقَدِّمة [من الطعام والشراب واللباس]، هل هي مقدِّمة جيدة مع هذه النتيجة؟ فإنْ كانت المُقَدِّمة هي الدنيا وكانت نتيجتها ﴿نَارًا حَامِيَةً﴾ [الغاشية:4] فهل هي رابحة؟
الحرص على جنة الدنيا والآخرة والخوف من عذاب النَّار
إذًا لماذا لا نكون في جنة الدنيا وجنة الآخرة؟ ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن:46]، ﴿وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ [النحل:122] الحياة الحسنة، فالمؤمن الواعي ذو العقل الحكيم، ذو النفس المزكَّاة الذي تعلَّم -واللهِ- إن الله يُعزُّه في الدنيا قبل الدار الآخرة، وهذا كلام الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون:8].
﴿تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾ [الغاشية:5] في جهنم.. وبسبب النَّار والحرارة يصير الإنسان عطشان، ويريد أنْ يشرب، فيأخذونه إلى ﴿عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾ [الغاشية:5]، والعين تغلي مثل إبريق الشاي عندما تغلي ماؤه، ويقال له: اشرب، وعندما يشرب، قال الله تعالى: ﴿يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)﴾ أمعاؤه وجلده يذوبون، هذا كلام القرآن! هل هذا فقط؟ قال: ﴿وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾ [الحج:20-21] أيضًا فوقها سياطٌ وعصيٌّ ومِزْرَبَّات مِنْ الحديد، [المِزْرَبَّة يُقصَد بها الأداة الغليظة مثل العصا التي يُضَرَب بها المجرم]، واللهِ إنكم لا تتحمَّلون “خَيْزَرَانَة” ولا قضيب “صَفْصَاف”، [خَيْزَرانَة: أي ضربة واحدة بقضيب الخيزران.. والصَّفْصَاف: شجر أغصانه مستقيمة، ولذلك تُستخدَم أحياناً في العقوبة مثل قضيب الخيزران].. فهل نؤمن بكلام الله عزَّ وجلَّ؟ ولو أن شرطيًّا قال لك: سأصفعك، فهل تُقارَن هذه الصفعة بـ ﴿مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾، وهل تُقارَن بـ ﴿عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾ [الغاشية:5]، وهل تُقارَن بـ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ﴾ [الغاشية:2-3]؟ الشرطي من أجل صفعةٍ أو حتى لا يكتب لك مخالفة تتذلل له وتقول: سأفعل ما تأمر به.. ولا تعود إلى مخالفته، وإذا كان الشرطي معك هل تُخالفه وتمشي بالسيارة على اليسار؟ فكيف إذا كان الله عزَّ وجلَّ معك يسمع ما تقول وينظُر ما تفعل ويعلم سرائر نفسك؛ يعلم ما في داخلك وبماذا تفكر وماذا ستفعل؟ ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر:19].. فما أعظم هذه التربية الإسلامية! وما أعظم هذا الإنسان الذي يَخْرُج مِنْ مصنع القرآن! ولكنَّ المصنع يُخرِج [ويُنتِج] عندما يكون مديره وعمالُه موجودين، أمَّا مصنعٌ بلا مديرٍ ولا عمال فيصدأ، ولا يُخرِج شيئًا، والآن أين مديرو مساجدنا وصنَّاعُها؟ وأين دروسها والتزكية والعلوم فيها؟ أسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يُبْدِلها ما هو خير، ويملأها عِلمًا وحكمةً وتزكيةً.
من أنواع العذاب في الآخرة
﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ﴾ [الغاشية:6].. فندق فيه كلُّ شيء، توجد فيه عينٌ جارية، لكنها عينٌ آنية، ويوجد فيه شُغْل، لكنها: ﴿عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ﴾ [الغاشية:3] يصعد إلى جبال جهنم ويرمونه مِنْ أعلى جنهم إلى أعمق قعر وديانها، ثمَّ يصعد إلى الأعلى.. وَرَد في حديث للنَّبيِّ ﷺ بأنَّ المؤتمَن -صاحب الأمانة- إذا لم يُؤدِّ أمانته يُلقى في جهنم، وتُلقى أمانته مِنْ رأس جبلٍ إلى أسفله، ويُقال له: انزل وأحضرها، فينزل ويحملها، حتَّى يصل إلى رأس الجبل، ثمَّ تُلقى إلى قعر الوادي، فيبقى هكذا عذابه إلى أنْ يحكم الله عزَّ وجلَّ فيه حكمه الأخير .. هذا لمن لم يُؤدِّ الأمانة.
وما معنى الإيمان بالقرآن؟ هل أن تقول: آمنتُ؟ وما معنى الغَدَاء؟ هل أن تقول: تغدَّيتُ؟ وما معنى الزواج؟ هل أن تقول: تزوَّجتُ؟ وما معنى الإيمان؟ الإيمان أن تُصدِّق بأنَّ هذه نَظَّارَة، فتضعها على عينيك وتقرأ بها، وإن وضعتَها أسفل قدمك ودستَ عليها فهل هذا إيمانٌ أم كفر؟ وهل إيمان النَّاس إيمانٌ حقيقي أم إيمانٌ شيطاني؟ هل يغشُّون الله عزَّ وجلَّ أم يغشُّون أنفسهم؟ ومن يَضرُّون؟ الذي لا يمشي على الطريق المستقيم هل هو رابح في آخر الطريق وفي منتصفه وفي أوَّله؟ نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يُعطينا العقل؛ عقل الموفَّقين لا عقل “المُعَتَّرِين” [المعتَّر: المخذول والتعيس] المخذولين الأشقياء المحرومين الكافرين المنافقين المغرورين، [تسأله: لماذا لا تمشي على الصراط المستقيم؟] يقول لك فورًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة:173].
المتخلفون عن غزوة تبوك وتوبة الثلاثة
الثلاثة الذين تخلَّفوا في غزوة تبوك عن الجهاد، عندما رجَع النَّبيُّ ﷺ من تبوك دعاهم وسألهم: ((ما عُذرُكم؟)) قالوا: يا رسول الله لا عُذرَ لنا .. وسبعون شخصًا مِنَ المنافقين اعتذروا وهم كاذبون، فقَبِل النَّبيُّ ﷺ عُذرهم، ولكنَّ القرآن فضحهم وقال عنهم: كاذبون، وثلاثةٌ كانوا صادقين فقالوا: يا رسول الله لا عُذر لنا، فأمر الصحابة بأن لا يُكلِّموهم ولا يجلسوا معهم.
هذا جندي متخلِّفٌ عن الجندية، ما حكمه الآن في المحاكم العسكرية؟ ماذا يفعلون به؟ من يعرف يرفع أصبعه.. السجن لسنة، انظر إلى الحكم الإسلامي! لا سجن ولا تَدْمُر ولا أيّ شيء! [تَدْمُر: مدينة سورية تشتهر بآثارها التاريخية، وفيها السجن العسكري، وله صيته الواسع لِمَا كان فيه من تعذيب وقتل للسجناء]، والحكومة عندما تعمل شيئاً تعمله كحكومة، ولكنَّ النَّبيَّ ﷺ والنبوّة والوحي له ترتيبٌ آخر.. فكانوا لا يجلس معهم أحد، ولا يردون عليهم السَّلام، ومرة ذهب أحدهم إلى بستان ابن عمه، وعندما طرق باب بستانه رَدّ عليه، فلما سمع صوته لم يعد يكلمه، قال له: افتح لي، فلم يفتح له، فقفز من فوق الجدار، ودخل إلى البستان وسلَّم عليه فلم يرد، قال: أَلَا تعلم أنِّي أحبُّ الله ورسوله؟ فلم يردَّ عليه، فعاد مِنْ فوق الجدار ، وبعد خمسة عشر يومًا أمرهم النبي ﷺ أن لا يُخالطوا نساءهم.. فأمرهم بمقاطعة نسائهم أيضًا .. فأيُّ حكمٍ في الدنيا يُنفَّذ بكلِّ هذه الدقة وبكلِّ أمانة وبلا شرطة وبلا قيود وبلا سجن إلَّا بتربية الإيمان؟ فاعتزلتهم نساؤهم أيضًا، وبقوا خمسين ليلةً لا يسكن لهم دمعٌ في عيونهم من البكاء.. هذا هو الإسلام، إذا أذنب المسلم فهو يعرف ما معنى لدغة الذَّنْب، ولدغة الأفعى بعد ساعة أو ساعتين أو بعد ثلاث أو خمس ساعات يسكن أَلَمها، ولكن إنْ لدغك الإيمان وعاقبك فلا خمسون يومًا ولا خمسون شهرًا.. حتَّى تاب الله عزَّ وجلَّ عليهم، ونَزَلت آياتٌ في سورة التوبة: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾ [التوبة:118] كادوا يختنقون، لماذا؟ بسبب ذنبٍ واحد، ونحن نقوم بمليون ذنب، ولا نشعر بشيء، لماذا؟ لأنَّ قلوبنا ميتة، والميت إذا ضربه شخصٌ بخنجر فهل يقول: آخ؟ وإنْ قلع له عينه أو قطع رقبته هل يقاوم؟
……………………………… مَا لِجُرْحٍ بِمَيّتٍ إِيلامُ
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن لا يُميت قلوبنا.. والمؤمن الحي يشعر بالذنب القليل.. فلمَّا أعرض النَّبيُّ ﷺ عن ابن أم مكتوم رضي الله عنه، آخذه الله عزَّ وجلَّ فورًا وعاتبه وجعل عتابه مخلَّدًا دائمًا إلى يوم القيامة في: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ [عبس:1].. هذا هو الفقه في الدِّين.
طعام أهل جهنم
﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ﴾ [الغاشية:6] الضريع: شوكٌ ينبت في الصحارى، تأكله الجمال إذا كان أخضرَ، أمَّا إذا كان يابسًا فيكون سمًّا ولا يصلح إلَّا للنار، قال: فغدائهم الضريع، فإنْ قالوا لهم: غيِّروا لنا الطعام، فيغيِّرونه إلى الزقوم، وإنْ قالوا أيضًا: نريد غيره، فمِنْ غسلين مِنْ عصارة أهل النَّار، وهذا كلام الله عزَّ وجلَّ وليس كلام جرائد ولا كلام قِيْل عن قال، ولا كلام حديثٍ ضعيف، هو كلام رب العالمين، فهل أنت مؤمنٌ بالقرآن؟ وإذا آمنتَ بأنَّ هذه أفعى فهل تأخذها وتُقبِّلها؟
هل نحن مؤمنون بالقرآن الإيمان الحقيقي أم الإيمان الذي يضحك الشيطان فيه علينا بأن نأخذ القرآن ونقبِّله؟! بهذا نحن قبَّلنا جلد تَيْس أو جلد جَدْي أو كرتون، ليس المهم أن تُقبِّل الجِلْد، بل أن تَقبَل كلام الله عزَّ وجلَّ عِلمًا وعملًا، وهذا لا يكفي، بل وتعليمًا بأعمالك وبأخلاقك وبسلوكك، وفي جلساتك وسهراتك وفي الباص [الحافلة]، وأين ما كنتَ، ذكرًا أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا، وهكذا كان المسلمون في زمن رسول الله ﷺ، ففي الحرب كان المسلم يلتحق بالحرب وعمره ثلاثة عشر عامًا، إلى أين هو ذاهب؟ هل هو ذاهب إلى نزهة أم إلى رحلة استكشافية؟ ذاهبٌ إلى الموت وهو طفل.. هكذا كان إيمانهم، والذي عمره تسعون سنةً ورِجْله عرجاء يذهب إلى الجهاد، إلى أين يذهب؟ إلى الموت، هذا هو الإيمان، فالإيمان إذا لم يُصدِّقه العمل هو أمانٍ، والأماني لا توصل إلى شيءٍ لا في الدنيا ولا في الآخرة.
النسب وحدَه لا ينفع الإنسان
والنسب لا يوصل إلى شيءٍ لا في الدنيا ولا في الآخرة، فأبو لهب كان عمَّ النَّبيِّ ﷺ، والعمُّ مثل الأب، ولأنَّه رفض الإيمان فماذا قال الله عزَّ وجلَّ عنه؟ قال: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد:1]، ولم يذكر الله عزَّ وجلَّ [اسم أبي جهل مثلاً] فلم يقُل: “تبت يدا أبي جهل”، مع أنَّ أبا جهلٍ كان أنحس وألعن منه، لكنْ لأنَّه قريب النَّبيِّ ﷺ، فهو مع قرب عين الماء منه يشتكي العطش ويُوَلْوِل، فـ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ [المسد:1] مليون مرة، فالمسألة أننا يجب أنْ نكون مسلمين حقيقيين، مؤمنين حقيقيين بالقرآن، ونقرأ السورة [قراءة حقيقية]، وهذه السورة وحدها تكفيك طول العمر.. والقرآن كله: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة:25].. فما رأيكم أنْ تأكلوا غداءً مِنْ ضريع ﴿لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ﴾ [الغاشية:7]؟
أصحاب الوجوه الناعمة
قال: هذا قِسم، والقِسم الثاني: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ﴾ [الغاشية:8]، ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ [المطففين:24]، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ [عبس:38] مضيئةٌ وجميلةٌ مملوءةٌ بالنضرة والجمال والفرح، والسرور في عينيها وفي خدودها وفي ابتسامتها، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ﴾ [الغاشية:8-9] عندما تأخذ كتابها بيمينها، وتعرف منزلتها في الجنة لقاء أنها: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [الذاريات:17-19] ويقولون: الحمد لله الذي وفَّقنا لهذه الأعمال حتَّى قطفنا وجنينا منها هذه الثمار وهذه العطاءات الإلهية.. وهل يرضون عن عملهم في الدنيا أم لا؟ والقِسم الآخر: يمشي على هواه في لهوه وفي فسقه وفي لعبه وفي فجوره وفي جهله وفي جاهليته، فهل سيكون لسعي نفسه راضيًا؟ بل يقول: يا ليتني! يا ليتني! ﴿يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ﴾! وإذا كان قد جمع المال مِنَ الحرام وفَسَق وفَجَر يقول: ﴿يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ﴾ يا ليتني لم أكُن في الحياة! ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ﴾ هذا إذا كان غنيًّا، وإذا كان مَلِكًا أو حاكمًا وكان طاغيًا وجائرًا يقول: ﴿هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾، والنتيجة ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ﴾ اجعلوا الأغلال في عنقه، ﴿ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ﴾ [الحاقة:27-31] إلى آخر الآيات.
منازل المتحابين في الله عزَّ وجلَّ
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ﴾ [الغاشية:8] النعيم والنعمة والنعومة والسعادة تُقرَأ في وجوههم، ﴿ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ [عبس:39]، ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾ [الغاشية:10] يقول عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ أَهلَ الجَنَّةِ لَيَرونَ مَنازِلَ المتحِابِّينَ في اللهِ كما يَنظرُ أَهلُ الأَرضِ إلى الكَواكِبِ في السَّماءِ)) ، هل النجوم والكواكب عاليةٌ أم ليست عالية؟ هكذا ينظر أهل الجنة العموميون إلى أهل الحبِّ في الله عزَّ وجلَّ، هل رأيتَ أحدًا تحبُّه في الله؟ فإنْ أحببتَه في الحشيش ماذا تصير؟ حشاشًا، وإنْ أحببتَه لأنَّه مقامر فماذا تصير؟ مقامرًا، وإنْ أحببتَه لأجل التقرُّب بحبِّه إلى الله عزَّ وجلَّ؟ فهؤلاء هم المتحابُّون في الله عزَّ وجلَّ، قال ﷺ: ((إنَّ أَهلَ الجَنَّةِ لَيَرونَ مَنازِلَ المتَحِابِّينَ في اللهِ كما يَنظرُ أَهلُ الأَرضِ إلى الكَواكِبِ في السَّماءِ))، مع الفارق في علوِّ الدرجات، فما رأيكم هل تريدون أنْ تبقوا تحت أم فوق، أم في ﴿نَارًا حَامِيَةً﴾ [الغاشية:4] أم ﴿تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾ [الغاشية:5]؟ الذي يريد أن يكون في ﴿عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾ فليرفع لي أصبعه.
الجنة يلزمها العمل
والذي يريد أنْ يكون من أصحاب ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ﴾ [الغاشية:2-3] فليرفع لي إصبعه.. يعني الذي يريد عمليًّا [الجنّة] يمشي [في طريقها]، أمَّا بالتمني والأهواء والأماني فهذا لا يحصل على شيء أبدًا، واللهِ إن كأس الشاي بالأهواء لا تحصل عليها، ولا تحصل عليها إلَّا إنْ دفعتَ ثمنها، وهذا الدفتر لا تحصل عليه إلَّا بثمنه، والمذياع بثمنه، والنَّظّارة بثمنها، فهل سعادة الأبد بلا ثمن وبالكذب؟ هل تريد أنْ تزرع الذُّرَة لتحصد فستقًا؟ مع أنَّ الفستق جيد، فإنْ زرعتَ الشوك وتظن أنَّك ستحصد الزنبق فهل هذا فيه عقل؟ فأيُّ منزلةٍ تريدون؟
لقد قَسَم الله عزَّ وجلَّ أهل الغاشية إلى قِسمين: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾ [الغاشية:2]، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ﴾ [الغاشية:8] فهل تريدون الأول أم الثاني؟ الذي يريد الأول يرفع أصبعه.. ولكن لا تكن بالعمل مِنْ قِسم: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾ [الغاشية:2] فلا تبالي إن كان حلالًا أو حرامًا، يجوز أو لا يجوز، وتنسى كلَّ شيء إلَّا مصلحتك وشهواتك وأهواءك وغشك وكذبك وفجورك، وبهذه الأعمال لا يصلح أن تكون من الناجين، ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4]، ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [النساء:123]، المسألة ليست بالأماني، هل هذه الجُبَّة تصير بالأماني؟ [يشير سماحة الشيخ إلى الجُبَّة التي يلبسها]، هذه النَّظّارة إنْ ذهبتَ إلى بائع النظارات وقلت له: أعطني نظارةً “على أساس أنك ابن حلال”، [على اعتبار أنك أيها البائع إنسان جيد]، فهل يعطيك؟ أو هل يعطيك “نكّاشة أسنان”؟ [عود تخليل وتنظيف ما علق بين الأسنان]، أو كأس الشاي في المقهى هل يعطيك إياها بلا ثمن؟ فكيف نريد أنْ نأخذ سعادة الدنيا والآخرة بالكسل والخمول والأماني والغفلات والبطالة والوَلْدَنَة! هذا لا يصح.
الصحابة بذلوا أرواحهم ودماءهم وأموالهم، وهجروا أوطانهم وسفكوا دماءهم حتَّى نالوا الذي نالوه، فآتاهم الله عزَّ وجلَّ في الدنيا حسنة وإنهم في الآخرة لمن الصالحين: ﴿وَءَاتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [النحل:122].. فشمِّروا، ونحن لا نعرف الموت متى يكون، وفي هذين الشهرين أو الثلاثة كم أخًا فقدنا مِنْ إخواننا؟ وكلُّهم ماتوا فجأةً، الأخ عدنان القادري رحمه الله كان محاميًا، عند صلاة الظهر وقع وهو خارجٌ من المسجد، وأخونا بشير الجبان رحمة الله عليه، وأبو غنيم، وفؤاد مارديني، وعددٌ مِنْ إخوانكم، أسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يغفر لنا ولهم، والشيخ أحمد الكناكري، وكلهم فجأةً، لذلك استعِدوا قبل أنْ نتفاجأ ونندم ولا ينفعنا الندم.
الجنة لا تُنال بالأمنيات
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ﴾ [الغاشية:8] هل تُنعِّم وجهك؟ يوجد أناسٌ يُنعِّمون أرجلهم بالمِبْرَد، ويُنَعِّمون غيرها بالمرهم وما شابه، ويُنعِّمون أجسامهم، ويدهنون جسدهم ويغسلونه بالصابون لأجل أنْ يُنعِّموه، نعِّمه الآن لأجل الآخرة، لأجل التنعيم الأبدي الخالد، الْمِبْرَد هنا وأين تظهر النعومة؟ تظهر هناك، [المِبْرَد: أداة تعمل بالاحتكاك لجعل بعض الأشياء ملساء ناعمة، مثل الأظافر أو قطعة خشبية].. فنسأل الله عزَّ وجلَّ بفضله أنْ يجعلنا منهم بالعمل لا بالأمنية والتمني.
﴿لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ﴾ [الغاشية:9] عندما ترى ما أعطاها الله عزَّ وجلَّ تقول: واللهِ لو عملتُ طول حياتي سجدةً واحدةً، وما انصرفتُ عن السجود إلى غيره، واللهِ هي قليل بالنسبة لِما أعطاني الله عزَّ وجلَّ مِنَ العطاء الكثير، ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً﴾ [الغاشية:10-11] لا تسمع كلمة لغو، ولا كلمة كذب، ولا كلمة اكتئاب، ولا تهمة ولا شتيمةً: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا﴾ [الواقعة:25-26] وكلُّ كلامهم سلامٌ وأمان وسرور.. ((اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إلَّا عَيْشُ الآخِرَةِ)) .
﴿فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ﴾ [الغاشية:12] ليست عينًا، بل عيون وأنهار: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [النساء:122]، ﴿فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ﴾ [الغاشية:13] وَرَد في الأحاديث: ((أَدنَى أَهْلِ الجنَّةِ مَنزلةً مَن يَنظرُ مِن سَرِيرِه في مُلكِهِ في الجَنَّةِ مَسيرةَ أَلفَي سَنةٍ يرَى أَقصاهَا كَما يَرَى أَدناهَا))، لو فَكَّرْنا بأكبر مزرعة، فالغوطة مثلًا كم مسيرتها؟ ثلاثون كيلومترًا؟ بكم ساعة تُقطَع هذه المسافة؟ بربع يوم، [الغوطة منطقة في ريف دمشق، تتألف من عدة قرى، وكلها أماكن زراعية وبساتين مثمرة]، فكيف إن كان الله عزَّ وجلَّ سيعطيك ملكًا مسيرته ألفا سنة؟
خسارة من لا يفهم كلام الله عزَّ وجلَّ
فهذا الذي لا يفهم كلام الله عزَّ وجلَّ، ماذا يكون؟ يعني الحمار إنْ كلَّمته عن هذه المعاني هل يفهم؟ وإنْ كلمتَ الإنسان عن هذه المعاني ولم يفهم شيئًا، فمَن الأفضل هو أم الحمار؟ الحمار أفضل، لأنَّه لم يؤتَ قوةً ليفهم كلام القرآن، فهو لا يفهم إلَّا بلغة الحمار، أمَّا نحن فالله عزَّ وجلَّ يخاطبنا بلغة الإنسان، فكم نحن في جهلٍ وفي غفلةٍ وفي غرور! قال ﷺ: ((إنَّ أَدنَى أَهْلِ الجنَّةِ مَنزلةً مَن يَنظرُ مِن سَرِيرِه في مُلكِهِ في الجَنَّةِ مَسيرةَ أَلفَي سَنةٍ يرَى أَقصاهَا كَما يَرَى أَدناهَا))، فكم أعلاهم منزلةً وكم هي مملكته؟ قال: ((وإنَّ أَعلى أَهلِ الجَنَّةِ مَنزلةً ودَرجةً مَن يَرى رَبَّهُ كُلَّ يومٍ مرَّتَينِ)) ، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ﴾ [القيامة:22] وجوهم مملوء مِنَ النضرة والجمال، ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة:23] ولا يرون نعيمًا في الجنة أعظَم مِنَ النظر إلى وجه الله الكريم.. اللَّهم اجعلنا مِنَ الناظرين إلى وجهك الكريم بفضلٍ منك يا أكرَم الأكرمين.
﴿فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ﴾ [الغاشية:13-14] ما هو الكوب؟ الذي ليس له رقبةٌ وليس له مَمْسَك، [أي ليس له يَد]، هذا اسمه الكوب.. ﴿وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ﴾ [الغاشية:14] على الأنهر، وأينما تريد أن تشرب فالكؤوس موجودة، وعلى الطاولات وغيرها، ولكن على ترتيب الآخرة لا على ترتيب الدنيا، فهناك: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة:17].. ﴿فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ﴾ [الغاشية:13-15] المتَّكَآت، فأين ما ذهبت تجد الأَسِرَّة والمتَّكَآت لتسند ظهرك، ﴿وَزَرَابِيُّ﴾ سجاد ﴿مَبْثُوثَةٌ﴾ [الغاشية:16].
الله تعالى يحدثنا عن الجنة بلغة الدنيا
الله عزَّ وجلَّ يخاطبنا بلغة الدنيا، أمَّا الحقيقة: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة:17] ويقول الله عزَّ وجلَّ: ((أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ)) ، مهما تصوَّرت فنعيم الجنة أعظم، والله عزَّ وجلَّ يقول: فيها سررٌ وأنهار وقصورٌ وعيونٌ.. إلخ، فهو يُفهِّمنا بحسب لغتنا، أمَّا الحقيقة فهي فوق وأعظَم وأجلُّ وأكبر مِنْ كل هذا، وكان عليه الصلاة والسلام يقول في حديثٍ آخر: ((أَلَا هل مِنْ مُشَمِّرٍ إلى الجَنَّةِ؟)) يلزمها تشمير، وليس تشمير اليدين، بل تشميرًا بالهمة والإرادة، فأمامنا حياة الخلود والنعيم الذي تعجَز عن إدراكه العقول، ((ورأس أصبعٍ من الجنة خيرٌ مِنَ الدنيا وما فيها)) ، فكَمْ مِنَ الجنون أنْ يُعرِض الإنسان عن كلام الله عزَّ وجلَّ ويعيش بأهوائه وجهله وجاهليته غافلًا عاصيًا مدبِرًا مُعرِضًا؟ ((أَلَا هل مِن مُشَمِّرٍ إلى الجَنَّةِ؟)) وبماذا يكون التشمير؟ بالهمة وبالذكر وبالطاعة وبالإنابة وبصحبة الصالحين وبمحاسبة النفس، هذا هو التشمير، ((فإنَّ الجَنَّةَ ورَبِّ الكَعبةِ لا خَطَرَ لها))، يعني لا مثيل لها، ((هِي وَرَبِّ الكَعبةِ نُورٌ كُلُّها يَتَلَأْلَأُ)).. يقول النَّبيُّ ﷺ عن الزوجة هناك: ((تَلبَسُ سَبعينَ حُلَّةً)) سبعين فستانًا، وهل هناك امرأة في الدينا تلبس سبعين ثوباً؟ قال: ((يُرَى مُخُّ ساقِها)) النخاع في عظم ساقها مِنْ تحت سبعين فستانًا وسبعين ثوبًا.
((هي ورَبِّ الكعبةِ نورٌ كلها يَتَلَأْلَأُ ورَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ)) كلُّها مروجٌ وخَضارٌ وأشجارٌ، والريح تهب فيها، وترى النسيم والربيع والورود تذهب يمينًا وشمالًا، ((وقَصْرٌ مَشِيدٌ)) قصورٌ عالية، ((ونَهْرٌ مُطَّرِدٌ)) أنهارٌ ملأى أحلى مِنَ العسل، وأشدُّ بياضًا مِنَ الثلج، وأطيب رائحةً مِنَ المسك، ((وزَوجةٌ حَسناءُ جَميلةٌ، ومُقامٌ في أَبدٍ في دارٍ سَلِيمةٍ))، حياة الأبد وفي دارٍ سليمةٍ مِنَ الأمراض، ومِنَ المزعجات ومِنَ الظالمين، ومِنَ الغبار ومِنَ الغريق، ومِنَ الحر ومِنَ البرد، ((أَلَا هل مِن مُشَمِّرٍ لها؟)) قالوا: نعم يا رسول الله، نحن المشمرون لها، قال: ((قولوا: إن شاء اللهُ)) فقال القوم: إنْ شاء الله .
((أَلَا هل مِن مُشَمِّرٍ للجِنَّةِ)) وكيف ستشمِّرون؟ بالذِّكر الكثير، تشمِّرون بـ: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء:36]، يجب عليك أنْ تحفظ جوارحك عن معصية الله عزَّ وجلَّ، فهذا هو التشمير، وبماذا يكون التشمير؟ ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران:191]، وبماذا يكون التشمير؟ ((إنَّ أَهلَ الجَنَّةِ لَيَنظُرونَ لِدَرجاتِ المتحابِّينَ في اللهِ كَما يَنظُرُ أَهلُ الأَرضِ إلى كَواكبِ السَّماءِ)) ، أن تُحبَّ أحباب الله، هذا هو التشمير.. والتشمير في عمل الطِّيْن أنْ تُشَمِّر بنطالك وأكمامك عن يديك، أمَّا تشمير الآخرة فهو بالعمل الجاد الصادق الْمُخلص والعمل الكثير.
اللَّهم اجعلنا مِنَ الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، اللَّهم اجعلنا مِنْ أهل القرآن عِلمًا وعملًا وتعليمًا وتبليغًا.. النبي ﷺ كان يقول: ((أَلا أُخبرُكُم بالأجوَدِ اللَّهُ الأجَودُ، وأنا)) يعني النبي ﷺ، ((أجوَدُ بني آدمَ، وأجوَدُهم بَعدِي رَجلٌ تَعلَّمَ عِلمًا فنَشَرَه، يُحشَرُ يَومَ القِيامةِ أُمَّةً وَحدَهُ)) ، فالذي تتعلَّمه علِّمه بلسانك وأعمالك وسلوكك وقلبك وإخلاصك، ولا يكن لسانُك بشكل وعملك عكس ما تقول، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف:2-3] ما هو المقْت؟ هو أشدُّ الغضب، فإنْ قلتم شيئًا وعملتم عكسه فسيغضب الله عزَّ وجلَّ عليكم غضبًا شديدًا، يعني يمقُتُكم، وإذا كان أشدَّ المقت يعني: غضبٌ على غضب، أي غضب مضاعف ﴿أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف:3].. فهل أنتم مستعدون للتشمير؟ ((أَلَا هل مِنْ مُشَمِّرٍ إلى الجَنَّةِ)) قالوا: نحن المشمِّرون لها، قال: ((قولوا: إن شاء اللهُ)).. ((هي ورَبِّ الكعبةِ نورٌ كُلُّها يَتَلَأْلَأُ، ورَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وقَصْرٌ مَشِيدٌ، ونَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وزوجةٌ حسناءُ جميلةٌ، وإقامةٌ في أَبدٍ في دارٍ سَليمةٍ)).. “هل بَقِيَ حاجةٌ” [هل من داعٍ بعد هذا] للذهاب إلى الزبداني وإلى المصايف وإلى لبنان وإلى أوربا وإلى سويسرا؟ ((اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إلَّا عَيْشُ الآخِرَةِ)).
أخونا أحمد راجح أجرى عملية جراحية، ادعوا له بالشفاء، وأسأل الله ربي أن يشفيه ويعافيه، وأن يرده علينا ردّاً سليماً صحيحاً معافى.
[فضيلة الشيخ أحمد راجح رحمه الله تعالى: هو من العلماء والرعيل الأول الذين تربوا على يد سماحة الشيخ وتعلموا منه من صغر سنهم، والذين كان عددهم قرابة اثني عشر شيخاً، وعلى أكتافهم قامت أكثر حلقات الذكر والعلم والتربية في مسجد أبي النور ومجمع الشيخ أحمد كفتارو، وكان رحمه الله معروفاً بقوته في التدريس والخطابة وبخطابه الحكيم المؤثِّر، وكان أخوه في الله فضيلة الشيخ رمضان ديب، وقَلَّما كُنّا نرى واحداً دون الآخر].