مراجعةٌ للآيات الأولى من سورة التّغابن
نحن لا نَزَالُ في تفسير سورة التّغابن، والتّغابن مأخوذٌ من الغَبْن؛ وهو الإنسان الخاسر في تجارته أو في بيعه أو في شرائه، والمخدوع في معاملاته، فيقول الله عزَّ وجلّ: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ [التغابن:5] يعني عقوبةَ كُفْرِهم وفِسقهم وتمرُّدهم على أمر الله عزَّ وجلّ، كقوم نوحِ وكفرعون وجنوده، وكقوم صالحٍ قبيلة ثمود، وعادٍ قوم هود، وكلّ من كفروا بالله على مرِّ التاريخ.
﴿فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ [التغابن:5] فهم لم يذوقوا [في الدّنيا] كلَّ الوبال جزاء كُفْرِهم، بل كالّذي يذوق من الطعام بِخنْصره، أمَّا بقيَّة الجزاء والعقوبة [سيجدونه في الآخرة] كما قال الله تعالى: ﴿أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾ [نوح:25] [ينالهم] عذاب الدّنيا ويتبعه عذاب الآخرة.
﴿فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ هذا في الدّنيا ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ﴾ [التغابن:5] أي في الدّار الآخرة، ﴿ذَلِكَ﴾ وهذان العذابان والقِصَاصَان والعقوبتان ﴿بِأَنَّهُ كَانَت تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [التغابن:6] برسالات الله السَّماوية الواضحة للعقول، والّتي تَخْضَعُ لها النّفوسُ والقلوب، فلا تشكُّ فيها النّفوس المخلصة.
﴿فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا﴾ [التغابن:6] بأنبيائهم ورفضوا رسالاتهم، وتولَّوا عن الله عزّ وجلّ وعبادته، إلى [عبادة] أحجارٍ وأوثانٍ وخرافاتٍ وأوهام، فأهلكهم الله عزّ وجلّ، واستغنى عن وجودهم، والله غنيٌ عن عبادتهم، فالدّين لم يُنَّزِله الله عزّ وجلّ على الإنسان -سواءً كان عبادةً أو أوامرَ أو نواهي- لمصلحة الله: ﴿إن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر:7] والله حميدٌ لا يحتاج أن نحمَدَه ونسبَحَه ﴿يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [الجمعة:1].
والواقع أنَّ الله غنيٌّ عن تسبيح أهل السماوات والأرض أيضاً، ولكن هذا الذّكر أو التسبيح هو الّذي يَنْهَض بروح الإنسان، فتزداد من نور الله، وتقوى روحه بِصِلَتِهَا بِرُوح الله، فالذّكر أو التسبيح أو التكبير أو الصّلاة، كلّ ذلك من أجل حياة روح الإنسان، لتَسْعَد بِصِلَتِها بِرُوح الله عزّ وجل.
فهذا كان خطاباً لكفّار قريش، وكان تهديداً لهم، فمع وثنيتهم ومع عنادهم صاروا بهذا القرآن العظيم خير أمَّةٍ أُخرجت للنّاس، والخطاب لا يزال قائماً، وتهديد الله عزَّ وجلَّ لا يزال حكمهُ سارياً، والمسلمون الآن يذوقون وبال أمرهم [بسبب إعراضهم عن هذا الخطاب].
ولكنَّ الله يقول: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾ [القمر:22] للتَّذكُّر وللعِظَة: ﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ [القمر:22] فلماذا لا يتذَّكرون؟ ولماذا إلى كتاب ربهم لا يرجِعون؟ ولماذا إلى هديِ الله عزَّ وجلَّ لا يَثُوبُون؟ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق:37] فإذا كان القلب ميِّتاً، والعقل لاهياً وغافلاً [فكيف يتَذَّكر] ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الرعد:19] ﴿لَأٓيَٰتٍ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ (190) الَّذينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامَاً وَقُعُودَاً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران:190-191].
الهجرة والصحبة وأهميتهما
وقد ورد في حديث رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: ((لا إسلام لِمَنْ لا هِجْرَةَ لَهُ)) فالهِجرة كانت انتقال المسلم من مكَّة؛ حيث كانت دار الكُفر والوثنية، إلى المدينة التي كانت دار الإسلام، ودار العِلمِ والحكمةِ والتزكية ﴿يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة:129].
فإذا أراد الإنسان أن ينال الإيمان، ولكنَّه لم يدخل مدرسة ثقافة كتاب السماء، ولم يلْتَقِ بأستاذ السّماء، كمن أراد أن يتعلَّمَ لغةً أجنبيةً بِلا مدرسةٍ ولا مُدَّرِسٍ ولا صحبةٍ لمن يفقهُ هذه الّلغة، فهل يصِل إلى النُطق والمعرفة لِهَذهِ اللُغة؟ فكذلك كانت الهِجرة تعني الانتساب والسلوك في مدرسة العِلْم والحكمة والتزكية.
واجبنا تجاه القرآن هو الفهم وليس القراءة فحسب
والمسلم في هذا العّصْر هل فكّر في كتاب الله؟ فهو يقرأ وينْطِق كالببغاء بلا فهمٍ لما تَنْطِق به، كلّ يوم ينْطِق ستين مرَّة يقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ وعند الأموات يقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6] وفي كلّ مناسبةٍ يقرأ سورة الفاتحة، وهي أول سورة في القرآن، أمَّا السّورة الثانية فهي سورة البقرة، فلمَّا يقرأ القارئ في السّورة الأولى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6] فهو يطلب الهداية من الله، فيجيبه الله عزَّ وجلَّ في السّورة الثانية: ﴿الم﴾ [البقرة:1]، وتكون الهداية في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:1-2].
هل تريد الهداية؟ أنا سأقدم لك الهداية على “صيْنِيَّة” [طبق] من الألماس، وفي الحال وبلا تأخير، تأتي سورة الفاتحة وبعدها مباشرةً سورة البقرة؛ ففي الفاتحة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة:6–7] لا صراط الضَّالين ولا المغضوب عليهم، ومباشرةً أجابه الله تعالى أن الهداية في: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ الَّذي لا ريب في صحتهِ، ولا ريبَ في ربّانيتهِ، ولا ريب بأنهُ يُسعِدُ من استضاء بنورهِ، ومَشَى خلف رايتهِ، ﴿هُدىً﴾ ليس للقارئين، بل: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِين﴾ [البقرة:2] المتَّقي الذّي يستجيب لأوامر الله ويقف عند حدوده.
إذا أتاك كتابٌ من أجيرك، أو من أيِّ إنسانٍ من النَّاس، وفتحت هذا المكتوب، فهل تفتحهُ لتقرأهُ فحسب أم لتفهمهُ؟ وهل المـُسْلم والمـُسْلمة عندما يقرأون القرآن يقرأونه للعلم والفَهم والتَّدبر، أمْ للتّلاوةِ بِلا قصد عِلمٍ ولا فهمٍ ولا تدبُّر؟
ذمَّ الله عزَّ وجلَّ اليهود ونَدَّد بِهم، لأنهُم يقرأون توراتَهُم على هذهِ الطَّريقة، بِلا فِهمٍ ولا قَصْدِ عملٍ ولا تطبيق، فقال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ يعني مَثَلُ اليهود في قراءتِهم لكتاب الله تلاوةً، ﴿ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾ هل صار هنا تناقض؟ لا، فهم حَمَلُوهَا بأفواههم ولم يحملوها فهماً وعملاً، ولم يحْمِلُوها بقلوبهم وإيمانهم وعقيدتهم، فهم: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5] فلو وضَعْنا المكتبة على ظَهْرِ الحِمار، فإنَّه لا ينتفع بعلومها، إنما كُلّ ما يُصيبهُ منْها أنهُ يحْمِل أثقالها وأوزانها، وقد تكسِرُ ظَهْرِه وتقْضِي على حياتِهِ، فذمَّ الله اليهود لأنَّهم هكذا قرؤوا توراتهم، والآن ألا يقرأ المسلمون القرآن كما قرأ اليهود [توراتهم]؟ حيث استحقوا مذمَّةَ اللهِ لهم، وتشبيهَهُم بالدَّواب والبهائم.
القرآن يقول: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ﴾ [التغابن:5] -والخطاب لكفّار قريش- أخبارُ الهالكين الكَفَرة من قبلكم، فتوبوا وثوبوا.. فهل يدْرُس المسلمون واقعهم وضعفهم وتمزُّقهم وتسلُّط الأعداء عليهم وإذلالهم عندما يقرأون هذه الآية؟ وقد احتل الأعداء فلسطين منذ خمسين سنة، فهل شعروا بِألم ما وَقَع؟ وهل يعملون حَسْبَ القرآن على إصلاح هذا الخطأ، واستدراكِ ما وَقَع من طريق: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة:6-7]؟ فالصحابة حين قرأوا: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ أجابهم الله أنَّ الهُدىَ هو: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:2].
ولكن مثلنا كمن يمشي في الظلام، ويستنجد ويقول: أرجوكم أعطوني “لُكْس” [مصباح]، فيقال له: تفضل، المصباح موجود في الغرفة المجاورة، ثم يقول: أنجدوني أنا أمشي في العتمة، أعطوني مصباحاً، فيُقال له: تفضل هذا هو المصباح، لكنه يعيد سؤاله مئات وآلاف المرات.. فماذا يُقال عن مثل هذا الإنسان؟ ومثلنا أيضاً كمن يقول: أنا عطْشَان وسيقتلني العَطَش فأغيثوني وأنقذوني، فيقال: خُذْ هذا هو الماء واشرب! لكنه يُكَرِّر مقالته مرات ومرات، [ولا يأخذ الماء ليشرب].
﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5] فهل من مصلحة الحِمار أن يبقى الحِمْل على ظهره، أمْ أنْ يُوَضَع الحِمْل عن ظَهرِه؟ وإن كانت قراءة القرآن على الطّريقة الحمارية، أو على الطّريقة اليهودية، فالأفضل عدم القراءة.
ربَّ تالٍ يتلو القُرَانَ بفِيهِه وهو يُفْضِي به إلى الخُذلان
((رُبَّ تَالٍ يتلو الْقُرْآَن وَالْقُرْآَنُ يَلْعَنُهُ)) فالقرآن يقول: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود:18] وقد يكون القارئ ظالماً جائِراً على زوجته أو على أجيرهِ أو جاره أو شريكهِ.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [سورة ق:37] إذا قيل لك كُلْ خُبْزاً أو كُلْ لحَماً، فهذا يعني أنَّ الخُبز ليس هو الّلحم، والّلحم ليس هو الخُبز، وكذلك القلب ليس هو الفِكر، والفِكر ليس هو القَلب؛ فالفِكر هو التّفهُم الفكريّ والعقلي لما تقرأهُ، أمَّا القلب؛ فكانَ بعض أهلِ القلوب يُعرِّفه بقولهِ
قلوبٌ إذا منه خَلَتْ فنُفُوسُ لأحرفِ وَسْوَاس الّلعينِ طُرُوسُ
“قلوبٌ إذا منه خَلَت فنفوس”: إذا خلا القلب من الشّعور بجلال الله وعظمته، وخلا من ذكر الله وصار فارغاً منه ومن مخافتِه وخشيته، فهو نفسٌ أمَّارةٌ بالسُّوء.. “لأحرف وَسْوَاس الّلعين طُرُوس”: الطَّرَس هو الصفحة، والطُّرُوس هي الصّفحات.. فإذا خَلا القلب من ذِكْرِ الله يصير دفتراً وورقاً يكتب الشيطان فيه ما يُوَسْوِسُ به لصاحبه.
وإن مُلِئَت منه ومن نورِ ذِكرِه فتلكَ بُدورٌ أشرقتْ وشموسُ
“وإنْ مُلِئَت منه”: الصُّحفُ الّتي هي قَلبُك.. إنْ مُلِئَت من جلال الله ومن عظمتهِ ومن الحَياء مِنه، “ومن نور ذِكْرِه، فتلك بدورٌ أشرقت وشموس”.
كيف كان أصحاب رسول الله ﷺ يقرأون القرآن؟ كانوا يقولون: كنَّا نقرأه عشر آياتٍ فلا نتجاوزها، حتى نُتقنَها عِلْمَاً وفهماً وتدبُّراً وتطبيقاً وعَمَلاً .. إنّ أوامر الدولة لما تأتيك وفيها أربع أو خمس مواد، لماذا تقرؤها؟ تقرؤها لِتتَفهَّمها ولتنفِّذها، رجاءَ ثوابها وخوفاً من عقابِ تَرْكِها، فهل المسلم والمسلمة -وعلى كل المستويات- هكذا يقرؤون القرآن؟
نقرأ في القرآن عن نوح عليه السّلام، فكمْ مرَّة ذُكِر نوحٌ وقومُه في القرآن؟ وكيف أغرقهم الله عزَّ وجل؟ وكم مرَّة نقرأ عن فرعون وجُنده في القرآن؟ وعن قوم صالحٍ، وقوم هود، وهكذا عن الأنبياء من قَبْل وعن مَن كفروا بهم، فهل نُفَتِّش أنفسنا، ونرى هل سَيْرُنا كسَيرِ كفَرَةِ قوم نوح أو قوم موسى أو قوم صالح؟
وجوب الهجرة إلى أستاذ القرآن
﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ﴾ [التغابن:5] والنّبأ هو الخبَرُ الهامُّ الّذي يتعلَّق عليه شيءٌ عظيم، والقرآن خبرٌ إلهيٌّ هام، يَتعلَّق على قَبوله سعادة الإنسان، وعلى إهماله ورفْضِه هلاكه وشقاؤه.
﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ﴾ هذا السؤال للتَّبْكِيت وللتَّوْبِيخ، فما هو مدى انفعال شعورنا عند قراءة هذه الآية أو عند سماعها؟ [فالإجابة يجب أن تكون:] واللهِ يا ربِّ نحن مقصِّرون ونحن عُصاة ومُخالِفون، فيا ربِّ قد ذكَّرتنا وكرَّرت تذْكيرَنا، فاشهد علينا أننا تائبؤن عمَّا مضى مستغفرون مما مضى.
والتَّوبة تحتاج إلى الهجرة بعدها.. فالمسلمون في زمن النَّبي ﷺ، لم يكتفِ الإسلام بإسلامهم وهم خارجَ مدرسته وبعيدين عن أستاذه، فكيف [بمُسلِمِي] هذا الزَّمان؟ وهل يَصِحُّ إسلامٌ بلا هِجرة؟ الهجرة إلى مدرسة العلم، [التي تُدرِّسُ] علوم القرآن والحكمة ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ لَا يُعَلِّمُونَ جِيرَانَهُمْ ولَا يُفَقِّهُونَهُمْ ولا يُفطّنونَهُمْ)) .
والعَقْل يحتاج إلى تحريك، لأنَّ هناك جمُود عقلي وفكريّ وفهمي، مُضافاً إلى عدم الفقه في كتاب الله، هذا الكتاب الَّذي أنشأ الدّولة العالَمِيَّة، والأُمّة العالَمِيَّة، والثّقافة العالَمِيَّة، والوحدة العالَمِيَّة، والنّصر العالَميّ.
المسلمون يقرأون القرآن.. فلو سألت القارئ وسألت الدجاجة -وكلاهما يَسْمَعَان القرآن مِن الراديو- ماذا فَهِمتِ أيَّتها الدجاجة؟ وماذا فَهِمت أيُّها الدّيك؟ وماذا فَهِمت أيُّها الحِمار؟ وماذا فهِمتَ أيُّها الإنسان؟ -سواءً كان معك شهادة عالية أو متوسّطة أو ابتدائية- وإذا بهم في الفَهْمِ كلُّهم سواء.. ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ [الجمعة:5].
النّبي ﷺ قال عن القرآن: ((فِيهِ نَبَأُ مَنْ قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَنْ بَعْدَكُمْ)) فهل نفْهم كلام النّبي ﷺ؟ ومعنى الخبر للاتِّعاظ ولليقظة وللتأهُّب لما يقْتضِيه كلام الله وإنذارهُ وتعْيلمهُ.
﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرحمن:1-2] يقول لكَ المعلِّم وهو الله عزَّ وجل: تعالَ إليَّ حتّى أُعلِّمك وأُلقي عليك تعاليمي.
﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان:30] مع أنَّهم كانوا هكذا، لكنَّهم ببركة الهجرة إلى رسول الله ﷺ، والصُّحبة للمُعلِّم الحكيم المـُزكّي أخذوا شهادةَ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران:110].
الفهم القرآني على النحو المراد
نقرأ في القرآن: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6] والمسلمون ممزَّقُون، فيهدينا الله في كتابه الكريم إلى قوله: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة:71] ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الانفال:46] فما فَهِمْنَا ذلك، فَيُعيد ويُكرّر: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران:103] كذلك أيضاً لا نفْهَمُها، فإلى متى [سنستمر على هذه الحال]؟
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني في سماعهم للقرآن: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ [البقرة:171]، فَسَمَاع الكَفَرة للقرآن كَسَمَاع الدّواب للرَّاعي عندما يكون مع غنمهِ، فيناديها بالصِّياح دون أن يتكلَّم معها بألفاظٍ ذات معنى، ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني في سَمَاعِهم للقرآن ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ يعني على دوابِّه ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ﴾ [البقرة: 171] صمٌ لايسمعون ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا﴾ أي سمعنا صوتاً ﴿وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ [الأنفال:21] معنىً ولا فهماً ولا عَملاً.
﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ﴾ فالحمير والبِغَال والخِنْزير والأفعى من الدوابّ، والكلب الكَلْبَان [المسْعُور] من الدواب، ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ﴾.. هل الحمار أكثر شراً أم الخِنْزير؟ الخِنْزير، وهل الغنمة أكثر شراً أم الذئب؟ الذئب، فهو الشرير الـمُؤذي، قال: ولكن الأكثر شراً من كُلِّ الدَّوَابِّ هُم: ﴿الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُون﴾ [الأنفال:22]، وفي آية أخرى: ﴿صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡي ٌفَهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ﴾ [البقرة:18] يعني عن غَيِّهم وعن ضلالتهم لا يَرجِعون، بل مُسْتقِرون وثابتون ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة:6].
﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [التغابن:5] فالمسلم والمسلمة عندما يقرأون أو يسمعون من أي قارئٍ أو تالٍ –سواءٌ كان إنساناً أو آلةً- فهل يسمعون القرآن على أنَّه وسيلة هِدايةٍ يستنيرون بنورِها؟ والنُّور حينما يكون أمامك ليكشف لك الطَّريق، ويُحذِّرَك منْ أنْ تسقُط في وَهْدةٍ أو وادٍ أو بِئْرٍ، فإذا ألقيتَ بنفسِك فيها، فهل تكون قد انتفعْتَ بهذا النُّور؟
هكذا هم المسلمون، والقرآن نورٌ يُحذّرُهم من السقوط في الهَلَكَات، فإذا بِهم كما قال عليه الصلاة والسلام: ((إنِي ممسك بِحُجَزِكُمْ)) يعني بزَنَانيِرِكم، كمن يمسك بزنَّار الآخر كي لا يسقُط في الهاوية، ((وأنتم تتهافتون فِي النَّارِ كَتَهَافُتِ الْفَرَاشِ)) .
والقراءات هي أربعة عشر قراءة، وهنَّ “السبعة” و “الثلاثة” فيصْبِحنَ عشرة، وأربعةٌ فوقها فيصير العدد أربعة عشر قراءةً، وكلّ نوع من هذه القراءات لها مرتبةٌ في القوة والصحة.. إلخ.
لكنَّ القرآن ذَكَرَ القراءة الخامسة عشر وهي: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5] فإذا سألكم سائل أنَّ البلاد العربية تقرأ على قراءة حَفْص، فبأيِّ قراءةٍ أنتم تقرأون، على حفص أم على واحدة من “السبعة” أو “العشرة” أو “الأربعة عشر” أو على “الخامسة عشر”؟ أنا أخاطبكم [بهذا الخطاب] من القرآن وهذا ليس من عندي.. فنسأل الله ألَّا يجعل قراءتنا كما ذَكَر الله عزّ وجلَّ عن قراءة الصُمِّ البُكمِ العُميِ: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5].
﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ﴾ [التغابن:5] لماذا أتى هذا النَّبأ؟ لنعمل بما يقْتضِيه، وإذا كان هذا النَّبأ يحثُّ على العَمَل فعلينا أنْ نُسابِق إليه، وإذا كان يُحذِّر من العمل فعلينا أنْ نُحْجِم عنه، عند ذلك نكون قد قرأنا القرآن كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ [البقرة:121] وهو الفَهْم والتدبُّر للعمل والتطبيق: ﴿أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [البقرة:121] وإذا لم تقرأ القرآن حق القراءة؛ فهماً وعِلْمَاً وعملاً فأنت لا تؤمن به بشهادة القرآن.. فلا تفرح بالـمُصحف إنْ كانَ مُذهَّباً ومجلَّداً وكان ورقه مُصَقّلاً، فأنت تبحث عن ورقٍ وعن كرتونٍ وعن دِهان.
كان قرآنهم [الذي كان بين يدَيِ الصحابة] مكتوباً على الحِجارة وعلى العِظَام.. ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ [البقرة:121] أعطاهم الله القرآن فتلوه حق تلاوته، عِلْماً وعَمَلاً ثم تعْلِيمَاً، وكان النَّبي ﷺ يقول: ((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً)) وَلَوْ آيَةً واحدة، والقرآن يقول: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيرِ وَيَأْمُرونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران:104] فهذا الكلام مُوجَّه بشكل خاصٍّ وشخصيٍّ لكلّ واحد منَّا، فعندما نَسْمَع هذه الآية: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة:6-7] وحتّى نكون من السعداء، يقول لنا الله: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيرِ﴾ [آل عمران:104] إذاً نجيب: حاضر يا رب، فنحن طلبنا منك فما بخلتَ علينا وأعطيتنا ما نُريد.. فهل قُمْتَ لتُعَلِّمَ جيرانك؟ عليك أولاً أن تتعلَّم أنت القرآن، لا تلاوة الألفاظ، بل فهم المعاني، وقبل ذلك يجب أنْ تُوضَعَ المعاني في القلب، فهل لك قلبٌ حيٌّ بذكر الله وبنوره؟
من أين تُؤخَذ القلوب؟ ومن أين تُؤخَذ الصِّيْغَة؟ من سوق الصَّاغة [الصِّيْغَة كلمة عامية لحُلِي المرأة الذهبية، وسوق الصَّاغَة: سوق الذهب]، والفِجْل والبندورة والخضار من أين تُؤخَذ؟ من “سوق الهَال” [سوق الخضار والفواكه]، فإذا ذهبت لسوق الخضار وقلت للخُضَريِّ [بائع الخضار]: هل لديك الدَّواء الفُلانيّ؟ يقول لك: هل أنت مجنون؟ وهل تَرانِي أبِيع في صيدلية؟ وإذا ذهبت إلى الصيدليِّ وسألته هل يوجد عندك بطاطا أو كُرُمّ؟ [الكُرُم: في اللهجة الدمشقية، وهو المَلْفُوف] فيقول إنَّك مجنون.
فهل فهِمتَ القرآن لتُهاجِر إلى الله؟ كما قال القرآن في كثير من المواضع: ﴿الْمُهَاجِرِينَ﴾ [التوبة:100] ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ [آل عمران:195] وهل فهمنا كلام الله عزَّ وجل؟ إننا نقرأ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6] [فيسْتَنْكِر الله من فِعْلنا] ويقول لنا: قد طلبتم منِّي الهِدايَة فبيَّنتُها لكم أكثر من خمسين مرَّة في اليوم، ولكنكم لا تهتدون! لماذا؟ لأنه: ﴿طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [النحل:108] ولأنَّهم ما سلكوا الطَّريق الَّذي يَصِلُون به إلى الهداية وهي الهجرة: ((لا إسلام لِمَنْ لا هِجْرَةَ لَهُ)) .
من أين يُؤخَذ الإسلام الَّذي هو العِلْم والحِكمة وتزَكْيِة النَّفس؟ وهل سيجلس النَّبي ﷺ في بيتك [لِيُعَلِّمَك]؟ لا، إنَّما هو في مكانه قد أدّى الـمُهمَّة وبلَّغ الأمانة وأدّى الرسالة، لكنَّه قال: ((الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)) هؤلاء هم نُوّابه.. وكما قال أحدهم
أُمرتَقبَ النّجومِ منَ السَّماءِ
نجومُ الأرضِ أبهرُ في الضِّياءِ
فتلك تُنِيرُ وَقْتاً ثمَّ تَخْفَى
وهـــذهِ لا تـُكَـــدَّرُ بالخَـفَــــاءِ
هِدَايةُ تلكَ في ظُلَمِ اللّيالي
هِدَايةُ هذهِ كَشْفُ الغِطاء
“فتلك تُنِيرُ وقتاً”: أي [نجوم السَّماء] فإذا جاء الغَيْم “ثمَّ تَخْفى، وهذه”: أي نجوم الأرض الذين هم وَرَثَةُ الأنبياء، وهم العلماءُ العارفون بالله، “وهـــذهِ لا تـُكَـــدَّرُ بالخَـفَــــاءِ”، “هِدَايةُ تلك”: هِدَايةُ نجوم السَّماء “في ظلَم اللّيالي”؛ إنْ كنت في الصّحراء أو في البحر فإنَّها تُحَدِّد لك اتجاه الطَّريق، و “هِدَايةُ هذهِ”: نجُوم الأرض الّذين هم وَرَثَة رسول اللّه ﷺ “كَشْفُ الغِطاء”: ﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق:22].
﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ﴾ [التغابن:5] ماذا كان النَّبأ؟ هلاكهم بتمرُّدهم على الله، وعدم إصْغَائِهم لأوامر الله ونداءاته: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ [النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحشر:18]، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ﴾ [الإنفطار:6].
﴿فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ [التغابن:5] هذه فلسطين مُحْتلَّةٌ منذ خمسين سنة، هل استطعنا أن نُحرِّر [مقَدَار] عَرْض إصبعٍ منها؟ القرآن يقول: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا﴾ [الأنفال:46] فهل اتَّحد العرب؟ وهل رفعوا الحُدود الَّتي وضعها الاستعمار فيما بينهم؟ وهم يقولون هذه من آثار أعدائنا ليفرِّقونا! وهل رجعوا إلى كِتاب الله الذي به كانوا خير أُمَّةٍ أُخرِجت للنَّاس؟
“جلادستون” رئيس وزراء إنجلترا أخذ الـمُصْحف في مجلس العموم البريطاني، وقال: “ما دام هذا القرآن بين أيدي الـمُسلمين -يعني أمامهم وهم وراءه به يقتدون- فلا نستطيعُ أن ننتصر عليهم”، وأمَّا إذا جعلوه خلفهم: ﴿وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيًّا﴾ [هود:92]، [تكون النتيجة]: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة:67].
فكلُّ واحد منكم إنْ أراد أنْ يفهم هذه الآية، عليه أن يرجع فيقرأ القرآن ليَفْهَم وليعمل، ثمَّ يُعلِّم أهل رِيفِه وجيرانه وإخوانه وأصدقائه.. تَشْتَغِل أكثر أو أقلَّ من عَشْرَة أو اثنتي عَشْرة ساعةٍ لأجل دُنياك وحَشْوِ بطنك، كالحيوان الَّذي يَحْشُو أمعاءهُ، فماذا تفعل لِتُنِير قلبك، وتملأ روحك من نور الله وروحه؟
الوضوح في البيان وحُجِّية الدَّعوى تقْتضِي العمل
﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فذاقوا وبال أمرهم﴾ [التغابن:5] بلى يا ربِّ قد أتى، ولكنَّنا طرشانٌ وصمٌّ [الطُّرشان: الصُّمّ الذين لا يسمعون].. أجيبوا الله! [الشيخ يخاطب الحضور] فإمَّا أن تقولوا سمعنا وفَهِمْنا وعَمِلنا، أو تقولوا لا نُريد أن نسمع ولا أنْ نَعْمَل، فليكن كلّ واحدٍ منَّا صريحاً.. وما دام الإعْراضُ حاصلاً، فلعلك إذا نطقت بهذه الكلمات يتحرَّك فيك شيءٌ من الحياة العقلية والإدراكية والرّوحية، فينفعك هذا السؤال وهذا التذكير [وتصحح علاقتك مع الله ومع القرآن].
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [التغابن:5] في الآخرة، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [التغابن:6] كلام كلّه منطقٌ وحُجَج: ﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يا إِبْرَاهِيمُ﴾ [الأنبياء:62] من الَّذي كَسَر الأصنام؟ ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ [الأنبياء:63] فهل هناك أبْيَن وأوضح للعقْل من سخافة عقولِهم وبُطْلَان وثَنِيّتِهم؟
القرآن يدعو إلى وِحدَانية الله، وإلى: ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [فاطر:1] وإلى مَنْ ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه:7] وإلى مَنْ: ﴿جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ﴾ [النحل:16] ثمَّ ماذا كانت النتيجة؟ وهل صَدَقَ الله وَعدَهُ؟ ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ﴾ [النور:55] فلمَّا آمَن العرب الإيمان الحقّ، وعَمِلوا الصّالحات -العَمَل الصادق- فهل جعلهم الله عزَّ وجلَّ خلفاءه في أرضه؟ أم أخلف وعده؟
وبعد أن لم يكونوا شيئاً مذْكُوراً، ومن دون دَولةٍ، وبلا مفهوم الأُمَّة بالمعنى الصّحيح، وكانوا كوحوش الفَلَاة لا تَجمَعهم جامِعة، وكلّ ما في الأمر أنَّهم كانوا يقْتَتِلون مِنْ أجل فَرَسٍ أو حِمار أربعين سنة، فبهذا النّور: ﴿آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا﴾ [التغابن:8] فلم تمضِ سبعون أو ثمانون سنة، إلا وكانت دولتهم تمتد مِن أسوار الصّين إلى حدود فرنسا.. فمِن أين أتاهم هذا؟ ومِن أيِّ مبدأ؟ ومِن أيِّ كتاب؟
فهل نقرأ القرآن الآن بقلوبٍ حيةٍ وبعقولٍ واعيةٍ وبأفكارٍ متدبِّرةٍ؟ فإلى متى [هذا الإعراض]؟ على كلّ واحدٍ منكم أن يعْتَبِر نفسه أنَّه المسؤول عن كلِّ الـمُسلمين، وأنَّه هو الـمُخاطَب بالقرآن وحده، وعليه أنْ يقوم ويقول: والله يا ربِّ قد أتاني النَّبأ، وأنا مقصِّرٌ فاشهد عليّ أنِّي تُبْت، وسأُصلح بيتي أولاً ثمَّ جيراني ثمَّ أصحابي.. واجْعَلْ لهم جَلسةً في يومٍ من أيام الأسبوع، تشربون فيها فنجاناً من القهوة أو كأساً من الشّاي [وتدعوهم إلى الهداية].
والصّحابة -رِضوان الله عليهم- ما كان عندهم كُتبٌ ولا مكتبة، ولكنْ كانت مكتبتهم في قلوبِهم، وكانت قلوبُهم تَسْتَمِدُّ من خِزانة الله وعُلومِه الّتي وسِعت السّماوات والأرض: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام:90] فهل تعاهدونني على هذا؟ وهل ذلك قولاً أم عملاً، فمن يعاهد قولاً يرفع يده.. لكن لا تكذبوا علي.. ومن يعاهد عملاً يرفع يده كي أراه.. وسيكون الخير بإذن الله إذا نويت وصدقت، وابدأ بنفسك أولاً
اِبدأ بنفسك فانْهَهَا عن غَيِّها
فإذا انْتَهتْ عنهُ فأنتَ حكيمُ
لا تَنْه عنْ خُلقٍ وتأتيَ مِثْلَهُ
عارٌ عليكَ إذا فعلتَ ذمِيمُ
هل تعاهدون؟ وهل اتفقنا؟ ولكن أيُّ عهد؟ ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً﴾ [النحل:92] كانت تغزل غَزْلَها وبعد أن تنتهي تَنْقِضُه من جديد.. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ﴾ يعني يعاهدونكَ ﴿إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح:10]، والنَّبي ﷺ يقول: ((لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بك رجلاً)) يعني إنساناً واحداً ((خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ)) .
الأجساد مساكن مؤقتةٌ للأرواح
﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الزَّعْم: هو الِادعاء بشيءٍ لا حقيقة له، فادَّعُوا شيئاً كاذِباً: ﴿أَن لَّن يُبْعَثُوا﴾ [التغابن:7] أنَّه لا توجد قيامةٌ ولا آخرة، وإذا دُفِنَ الشخص في قبره، فهو كمَثَلِ “الكْدِيش” [الكدِيْش: النوع الرديء من الخيل، وكان يستخدم كثيراً عند الفلاحين في سوريا] ومثَلِ الحِمَار، يُربِّي هذا الجسد بالفيتامينات والبروتينات والسكريات والبقلاوة والنمورة لتكون آخرته مَرْعىً للدُّود، [البَقلاوة: حلوى مشهورة عالمياً، والنَّمُّورَة: حلوى مشهورة في سوريا] كما نُغذِّي البقرة لنأخذ حليبها وعُجُولها.. فإذا لم يوجد الإيمان في هذا الجسد، فإنّنا نُربِّيه ليكونَ مأْكَلةً للدُّود.
فأول ما يأَكُل منكَ الخُدُودَ الحمراء والعيون الجميلة والعنق والشعر.. إلخ، فتختلط مع القيح والقذر والروائح القاتلة.. ولكنَّ الله تعالى لا يجعلُ بني آدم كالحمير في مصيرهم؛ فطائس وَدوداً وذُباباً وروائح مُنْتِنة، فهذه الأجساد كنايةٌ عن مسكنٍ مؤقتٍ بالإيجار لسُكْنى الرَّوح، لِتَتعلَّم وتتهذَّب ولِتَستعِدّ أن تكونَ مِن سُكانِ الفَرادِيس العُليا، في حياةٍ تَعْجَزُ العُقُولُ عن إدراكِ سعادتها ونَعيمِها: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة:117] وهذه تحتاج إلى العمل، بينما المسلم يقول: “إنَّ الله غفور رحيم” وكفى، وكأنَّ الجنَّة بيده وكلَّ شيءٍ بيده، فهذه أمانيّ: ﴿وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ﴾ فردَّ الله عليهم وقال: ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ أنَّ الجنَّة لكم: ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة:111] ﴿بَلَىٰ﴾ يَدْخُلها: ﴿مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ فإذا استجاب لأوامر الله، وصَدَق في إيمانه لله عملاً وخُلُقاً وإخلاصاً، وهو مُحْسِنٌ في أداء واجِبَاتِهِ: ﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة:112]
﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا﴾ [التغابن:7] فهل أنتم مؤمنون بالبعث؟ وهل أعمالُكم عَمَلَ من يؤمن بالقيامة وبالبعث وبالجنّة وبالنّار وبالحساب؟ فإذا كَذَبتَ في بيعِكَ أو شرائِكَ، أو غَششْت أو سرقت أو تعدّيت في مالٍ، أو مع إنسانٍ أو مع دابَّة، [فما هو جزاؤك؟].
النّبي ﷺ قال: ((دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبستها حتى ماتت فلا هيَّ أطعَمتها ولا هيَّ تركتها تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ)) .
لكنْ متى سيعذبها الله؟ سيُعذبها يوم البعث، يَوم القيامة، يَومَ الواقِعِة، يَومَ الحَاقَّة، سَمَّاه الله بأسماء كثيرة، لعلَّك باسم من هذه الأسماء، تستيقظ وتتذكَّر وتُفتِّح العينين في مشيِكَ، فلا تقع في وادٍ أو في بِئرٍ فَتَهلِك مع الهَالكين.. المسْلِم عندما يَغضب يظلِم ويخون ويغدر، أو يُحَدّث فَيكذِب، أو يغتاب النّاس فيذكر مذامَّهم أو يُفسِدُ ما بينهم، أو يتعدَّى أو يغصِب، أو يَظلم الضّعيف، أو [يأكل مال] اليتيم، أو يمنع الزّكاة.. إلخ.
بِرّ والد الروح ووالد الجسد
وكم مرَّة أوصى الله تعالى في القرآن بحقِّ الجار؟ فقال: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ [النساء:36]، وكم مرَّة أوصى بالوالدين فقال: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ عبادة الله أولاً ثمّ في المرحلة الثانية: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ [الإسراء:23]، كم مرة قال: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾؟ قال: حتى لو كانوا كَفَرة: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ [لقمان:15] فلو كانوا شيوعيِّين، أو عبَّادي صَنم، أو يهوداً أو نصارى، فإنّ عَدم إسلامهم لا يُسقِطُ حقوق الأبوّة عن الأبناء، فهل تراعي مع أبيك وصية الله: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ [الإسراء:23]؟
وهل أنتِ تراعين أمك وأباك؟ ليس البرّ إدخال السرور على قلوبِهم فحسب، بل يجب تقديم كُلّ ما تَقرُّ بِه أعيُنهم من قَولٍ أو عملٍ: ﴿فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ﴾ [الإسراء:23] ولو كان هناك كَلِمة فيها إيذاء أقل من كلمة “أُفٍ” لذكرها الله تعالى.. والذي يَسبّ أباه وأمّه، أو يضربهم أو يتعدَّى عليهم بشتى أنواع التعّديات، فهل هذا مسلم؟ إنَّ المسلم هو الذّي يستجيب لأمر الله وندائه.. والوالدان نوعان: أحدهما من كان سَبَبَ وجودك الجسدي، وهُناك والد أعظم وأقْدَس وأكبر، والذي هو سبب وجودك الرَّباني والإيمانيّ والعلميّ والتربويّ والأخلاقي، ويعلِّمك الكتاب والحكمة ويُزكِّيك.
ما معنى قول الله عز وجل: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [الأحزاب:6]؟ -زوج أمك الذي لم تتزوّج غيره هو أبوك- فمعنى: ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [الأحزاب:6] [أنه صلى االله عليه وسلم أبو المؤمنين] -وفي قراءة لابن مسعود رضي الله عنه: “وهو أبوهم” .. وبعد النّبي عليه الصلاة والسلام إذا كنت بلا أب فهذا يعني أنك ابنٌ من “حرام”، أليس كذلك؟ وإذا لم يكن لك أبٌ فأبوك إمَّا “كدِيْش” أو حمار أو بغل، أو يكون الشيطان.. [الكدِيْش: أردأ أنواع الخيل، وهو مستخدم عند الفلاحين بكثرة في سوريا] ومن لا شيخ لهُ وليس له إمامٌ يدعوه إلى الخير وإلى السّعادة وإلى العِلْم وإلى الحكمة فشيخه الشيطان، والدنيا إمَّا ليلٌ وإمَّا نهار، والإنسان إمَّا عِلْم وإمَّا جَهل، وإمَّا إيمانٌ وإمَّا كفرٌ أو نِفاق.
﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [الأحزاب:6] ثمَّ إنَّ النّبي ﷺ قال: ((الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)) فأمّك وأبوك ربّوا جسدك، وغذّوا بسعيِهم بَدنَك، فأين أبوك الذّي يُربِّيَ عقلك بالحكمة، ونفسك بالتزكية، ووجودك بعلوم القرآن.. أين هو؟
وهل أنت ابنُه حقاً؟ أو أنَّك متبنَّى أو مدَّعٍ أنك ابنه، لكنَّ الحقيقة أنَّك لست ابنَهُ، فإذا سمعنا: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ [الإسراء:23] فهل فكرت بالعمَلِ بهذه الآية؟ ثمَّ أين مقامك وموقفك من الاستجابةً لها عملاً وواقعاً، وهل أمّك راضية عنك؟ والنبي ﷺ المفسِّر لكلام الله عزَّ وجل كان يقول: ((أُمَّكَ ثم أُمَّكَ ثم أُمَّكَ، ثم أَبَاكَ، ثم أُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ فَأَدْنَاكَ)) .
أمَّا عن المعلّم، فقد قال الشاعر
قُم للمعلّم وفِّه التّبجيلا
كاد المعلّم أن يكون رسولا
أرأيت أعظم أو أجل ّمن الذي
يبني ويُنشئُ أَنْفُساً وعقولا
وقال غيره
يَبني الرِّجالَ وغيرهُ يبني القُرى
شتّان بين قُرىً وبين رجالِ
وقال الله في حقّ مَن لم يكن لهم هذا البَنَّاء: ﴿وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً﴾ [الفتح:12] معنى بُوراً: إمَّا هلكى، أو من الأرض البُور التي لا تُنبت إلا الشوك وما لا فائدة ولا خيرَ فيهِ.
﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى﴾ سواء كان اليتيم قريبك أو لم يكن قريبك، ﴿والمسَاكِين﴾ [النساء:36] وإلى آخر الآيات.
فالقرآن: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص:29] بعد ذلك يوجد الحساب -الآن نحنُ في المدرسة، لكن في آخر السنة يوجد لدينا اختبار- ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ [القارعة:6] ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾ [القارعة:8]، فهل هذا [التفكير] موجودٌ في ذاكرة المسلم والمسلمة؟ وهل تَحسب حِساباً ليوم القيامة وللميزان؟ وهل تخفّ وقتها موازينك فتخيب وتخسر أمْ تثقُل فتنجح وتربح؟
إنكار البعث وجحوده قولاً وفعلاً
﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا﴾ [التغابن:7] فهُناك صرَّحوا بجحود البعث والقيامة والحساب، ويا ترى أليست أعمال المسلمين اليوم تَنطِق بجحود القيامة؟ فهناك الذي يبيع ويغش، والذي يسرق، والذي يخون، والذي يَعقُّ الوالدين، والذي يُسيء إلى الجَّار، والذي يمنع الزكاة، والذي يَغتاب [النَّاس]، والذي يأكُل الحرام، والذّي يَظلِم، فهل هذا مؤمنٌ بيوم الحِساب؟ وهل هو مؤمنٌ بيوم البعث؟ وهل هو مؤمنٌ بكلام الله في القرآن؟ إذاً هذا كافر.
فلو قال أحدهم: أنا لا أؤمن بيوم القيامة، فما حكمه الشرعي؟ حكمه على كُلّ المذاهب الإسلامية أنَّه كافر.. فأُيهُما أبْلَغ: إذا قال لك أحدهم: أنا لا أحبك فلا تُريني وجهك لأني أبغُضك، ثمَّ أخذ حفْنة من الذَّهب ووضعها في جيبك، وآخر قال لك: أنا أحبك وروحي فداءٌ لك، ثم ثقب جيبك وأخذ الذَّهب، أيُّهما أصدق قولاً وحديثاً، هل هو القوَّال أم الفعَّال؟
فإذا قلتَ إنك مُسلمٌ وقلتِ إنَّكِ مُسلمة، لكنَّ أعمالكما كُلّها عكس الإسلام، فالبِرُّ [عندك] عقوق، والأمانة خيانة، والعهد نقضٌ، والوعد إخلافٌ، وخَشية الله جُرأةٌ عليهِ، فأيُّ إسلامٍ هذا؟
تَعصي الإِلَهَ وَأَنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ
هَذا لَعَمْري في الأنامِ بَديعُ
بديع: أي أمر غريب وشاذ.
لَو كانَ حُبُّكَ صادِقاً لَأَطَعتَهُ
إِنَّ المـُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطيعُ
وقال غيره
وإنْ قيلَ لي ماذا تُحِبّ وما الذي
تهواهُ منهُ لقُلتُ ما هوَ آمِري
وقال آخر
وإن قيل لي جُزْ على جمر الغَضَا
لمشيتُ مُمْتَثِلاً ولم أتوقفِ
فنسأل الله أن يرزقنا الحبَّ، لأن الحُبَّ هو الذّي تُحصِّل به لذَّة الطّاعة والانقياد، والحُبّ هو الذّي يُقرِّب إليك البعيد، ويُذلِّل لك الصِعاب في سبيل اكتساب رِضاء المحبوب، فهل تُحب الله الحُبَّ الصادق؟ كيف تحبُّه وأنتَ لم تدخل في مدرسة أحبابه؟ -فإذا لم تدخل المدرسة لتعلُّم اللغة الإنكليزية فلن تتعلَّمها، وإذا لم تدخل مدرسة الحِدادة لن تصير حداداً- فكيف تُريد أن تكون من أحباب الله، وأنتَ تقضي لَيْلَك ونهارك مع أعدائهِ، ومع المحجوبين عنهُ والجاهِلين به؟
﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا﴾ [التغابن:7] صرَّحوا بذلك وقالوا: ﴿ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ [ق:3] ما هذه القيامة؟ هذه مجرد خُرافة، ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ [الصافات:16] فالمسلمون في زماننا أعمالهم وأقوالهم تقول عنهم: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا﴾ [التغابن:7] والله بماذا أجابهم؟ [وقد قدَّم لهم الهداية من قَبْلُ جواباً لقوله:] ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6] أجابهم بقوله: ﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي﴾ قل لهم يا محمد واهدهم: ﴿لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ﴾ [التغابن:7]، فغداً تُعرض عليك أعمالك أمام الله عزِّ وجل؛ من فِسقك وزِناك وخيانتك وغشّك وكذبك وظلمك وعدوانك، وذلك بواسطة الفيديو الإلهي.. والإنسان اليوم يستطيع أن يحفظ صورة عمل الإنسان، أليس كذلك؟ فأيّهُما أقْدَر: الله عزِّ وجل أم الإنسان؟ ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾ [النور:25]. يوفيهم الله دينهم الحق: جزاءهم الحق.
فهل أنتم مِن الذين زعموا ألَّن يبعثوا أم مِن الذّين آمنوا؟ وهل من الذين آمنوا بالقَول باللسان أم بالعمل وفي كُل ميادين الحياة؟ ﴿الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة:41] فهل تعاهدونني على الإيمان بيوم البعث وبالآخرة وبالقيامة والحساب وأنَّ أعمالنا وكلماتنا كُلّها مُسجّلة؟ ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18]، ((الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ)) فهل أنت آمنت بهذه الآية الصَّغيرةِ اللّفظ؟
مراقبة الله تُنْجي من الوقوع في المعاصي
وهل تلاحظ أنّك عندما تتكلم، فإنَّ “المُخَابَرات” الإلهية وراءك تسجِّل ما عليك؟ لو لاحظت أنَّ وراءك “مُخْبِراً” من بني البشر، فسوف تحفظ لسانك من كُلِّ كلمة لا تتناسب مع الجوِّ الذي أنت فيه، فما بالك بمخابرات الله! [مُخْبِر”: من يسجِّل أعمال الناس وأقوالهم سرّاً، وينقلها لسلطات الأمن في الدولة، والتي تسمى مُخَابَرَات، ومن البدهي أن المقصود بالمُخَابَرات الإلهية هنا الملائكة التي تسجل الأعمال]، والله يقول لك: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ﴾ [ق:18] هناك قاعدة أصولية: “النكرة في سياق النفي تَعُمّ”، فما معنى ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ﴾؟ يعني: أي قول يقوله، من خيرٍ أو شرٍّ، ﴿لَدَيْهِ رَقِيبٌ﴾ يراقبه وينتظره ليكتب، و﴿عَتِيدٌ﴾ [ق:18] حاضرٌ لا يغيب.. فهل آمنتم بهذه الآية؟ وهل تعاهدونني بأنّكم إذا تكلَّمتم ألّا تنسَوا الرّقيب العتيد؟ وخاصّة إذا ما غضبت فتسبّ الدينَ وتسبَّ اللهَ، أو تَضْرب أو تتعدّى أو تَظْلم الضّعيف، وإذا بِعْت بيعاً فتُخفي العيب فتصير غشّاشاً، والنّبي ﷺ يقول: ((مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا)) .
والناس يعتقدون خطأً أن من غشنا نحن المسلمين فقط فليس منا، وأنه يجوز له أن يغش غير المسلمين، فهذا المفهوم فيه نقص، والنبيّ ﷺ قال: ((من غشَّ)) بالعموم، فلا يجوز أن يغش اليهودي ولا النصراني ولا أي إنسان، ولو كان على غير دينه، فالدين المعاملة.. والنّبي ﷺ يخبرنا أنَّ الذي يَغشُّ النَّاس ليس من المسلمين، فكيف إذاً غَششت نفسك، أو أباك أو أمّك أو زوجتك أو زوجِكِ، أو قريبكَ أو بعيدكَ أو البائع أو المشتري؟ فإذا كُنت مؤمناً بيوم البعث والحِساب فلا تكون غشّاشاً، ولا تَغشّ إلا عندما تُحجَب عن إيمانك، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) فلو كان إيمانه قوياً بيوم الحِساب وبالجنّة وبالنّار وبوقوفه بين يدي الله عندما يقوم بالزِّنا، هل يجرؤ أن يزني؟ ((وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) بأنَّ الله يراه وبأن الله سيحاسبه.
فنسأل الله أن يرزقَنا الإيمان الذي يحجُزنا عن معاصي الله، وأن يرزقَنا الصّلاة التي تنهى عن الفحشاء والـمُنكر، هذا كلّه إسلامُ الدّين، فأين نحن من تحقيق إسلامِ الدّولة؟ فإسلام الدّولة فَرعٌ عن إسلامِ الدّين، ومن مدرسة: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة:129].
فلمَّا قَبِل العرب الإسلام ديناً ودولةً، وبحسب الدستور الإلهيّ والقرآن الرّباني، صاروا سادة الأرض وسادة ملوكها وأباطرتها، وقضوا على الاستعمارين؛ الفارسي الشرقي والاستعمار الغربي، في وقتٍ واحدٍ، وهم قلةٌ وأولئك كانوا كُثر، وهم ضعفاء وأولئك أقوياء.. ولكن ْكما قال عمر لأبي عُبيدة رضي الله عنهما: “نحنُ قومٌ أعزنا الله بالإسلام، ومهما نُرِد العزة بغيره يذلُّنا الله” .
فهل تعاهدونني على الإيمان بيوم البعث قولاً وعملاً؟ من أراد أن يعاهدني فليرفع يده.. [الشيخ يخاطب الحضور]؛ مع أمّك ومع أبيك، وفي بيعك وشرائك، وفي غضبك وفي رضاك، وفي طمعك وفي شهواتك وفي أهوائك ورغباتك.. فإذا اشتهيت شهوةً فقل: يا ربِّ ماذا تشتهي أنت؟ وإذا رغبتَ بشيءٍ فقل: ماذا ترغب أنت يا رب؟ وعندما تغضب وتأمرك نفسك أن تضرب أحدهم، فقل: هل أضرب يا ربِ أم لا؟
فهذا هو الذي يؤمن بيوم البعث والحِساب.. وعندما تريد أن تنطق [هل تفكّر في نفسك وتقول:] هل هذا الكلام يُرضي الله وهل يسمعه ويُسجَّله علي؟ وهل هذه المعاني القرآنية -التي هي جزءٌ من الإسلام- منقوشة في نفسك، حتى تنعكس في أعمالك وأقوالك؟ فإذا لم تكن هذه المعاني موجودةٌ عندكَ كمُسلمٍ وعندكِ كمُسلمةٍ، فأنتم: ﴿مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة:41].
واقرأ سورة المنافقين: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ [المنافقون:1] فإذا كنّا نَشهد أنّك رسول الله، هذا يعني أنْ نتقبَّل الرّسالة ونعمل بمُقتضاها، وإذا قلنا إنّك لرسول الله ورفضنا الرّسالة والعمل بها، فالله يقول: ﴿وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون:1]
فلا تزعل إذا قال لك أحدهم: “يا منافق وياكذّاب” فأنت تَكذِب على الله، ومنافقٌ بأغلى شيءٍ في الوجود، فتدّعي الإسلام وأنت به جاحدٌ وأنت عنه مُعرض.. لماذا؟ لأنّك لم تهاجر إلى الله ورسوله، ولأنّك لم تُهاجر إلى مدْرسة العِلْم والحكمة والتزكية، والنّبي ﷺ يقول: ((لا إسلام لِمَنْ لا هِجْرَةَ لَهُ)) .
وكان عليه الصلاة والسلام يقول: ((لا يؤمن أحدُكم حتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ مالهِ ووَلَدِهِ وَنَفْسِهِ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ)) فإذا كان الله ورسوله أحبّ إليك مما سواهما، حينها يصير رضاؤهما أحبَّ إليك من رضاء كُلّ مخلوقات الله، ولا يَستكمِل عبدٌ الإيمانَ حتى يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما.
وهل يمكن أن “تَعصي الإِلَهَ وَأَنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ” هذا تناقض.. فلا يكون حدّاداً إلا في مدرسة الحدادين، ولا نجاراً إلا في جامعة النَّجارين، فيجب أن تَحمِل “القُفَّة” وتَخدُم، [القُفَّة: وعاء مطاطي لحمل الأخشاب الصغيرة ونِشارَة الخشب والأوساخ وغيرها] وتصبر على الصَفْع على الرَّقبة، فالعِلْم لا يُنال بالعزِّ، بل يُنَالُ بالحبِّ وبالصدق وبالخدمة والارتباط [بالمعلِّم]، فترى أجيرَ النجّار دائماً يكون وراء معلِّمه، ومعلّمه يأمره: هاتْ وخذْ واذهبْ وتعال.. وإذا غضب منه ربما يصْفعه.. فيجب أن يصبر على جَفْوَة المعلِّم والمربِّي.
المعلِّم يضرب ابن الخليفة تعليماً
كان الخلفاء يُوْدِعون أولادهم عند العُلماء المربِّين، فقد كان لابن الخليفة مربٍ خاص به، كذلك كان أبناء أصحاب الطاقة والاستطاعة من الأغنياء يجعلون لأولادهم مُربِّين.. وكان المسجد يحتوي على العِلْم والحكمة والتزكية، ومن أين تُؤخذ هذ الأمور؟ هل من الأعمدة أم من “الثُرَيّات” أم من السُّجّاد؟ [الثُّرَيّات: مجموعة من المصابيح تكون في كتلة واحدة، وتُزَيَّن بها البيوت وغيرها، وتتدلى من وسط القُبَّة في المساجد].
ونحن نفرح إذا عمّرنا مسجداً -وجزاهم الله كل خير على ذلك- لكنْ هل عمَّرنا الإِمَام؟ فمسجد النّبي ﷺ من أين تأتي حُرمته؟ تأتي من النبيِّ ﷺ وتعاليمهُ، و”الكعبة” أصلها مسجدٌ بناه إبراهيم عليه السلام، فلماذا صار لها هذه القُدسية؟ لأنها تُمثِّل شريعة الله التي أنزلها على إبراهيم عليه السلام.
والمسلمون يُعمِّرون المصانع بِلا عُمّالٍ وبلا آلات، فقط من جدران، فهل يُنتِج معمل السجَّاد سجَّاداً بِلا عُمَّال وبِلا آلاتٍ؟ وكذلك لا ينتج حتى لو كانت فيه آلات ولم يكن فيه عمال.. فنحن في ضياع فهميٍّ وعقليٍّ وإدراكي.
فالمعلِّم بعد أن أنهى تَعْلِيم ابن الخليفة ومَنَحَه الشهادة وأراد أن يُودِّعه، قال: أحضروا “الفَلَقَة” [الفَلَقَة: كلمة في العامِّيّة السورية، وهي عقوبة تأديبة معروفة، حيث تُرفَع الرِّجْلان للأعلى ويُضرَب بالعصا على أسفل القدمين] فقيل: لـمَ؟ قال: سأخبركم، فأتوه بها، فقال: ضعوها في رِجْلَي وليَّ العهد.. فكان المـُعلِّم هو المؤدِّب ولو كان التلميذ هو ابن الخليفة! فهو [بمكانة] ابن المعلِّم فلا يَنْظُر إلى أنَّه ابنٌ للخليفة.
فوضعوها في رجْلِيه وأمرهم أن يضربوه، فضُرب ضرباً شديداً ومؤلماً.. وكان من قُدسية المـُعلِّم أن لا يسأله الخليفة عن سبب ضربه لولده وتأديبه له، لأنَّ هذا الأمر من اختصاص المـُعلِّم.. وهكذا يجب أن تكون مع المعلِّم المربِّي المؤدِّب.
فابن الخليفة سكت عن ذلك، ولكنَّه ضَمَرها في قلبه، فلمَّا مات أبوه وبُويِعَ لهُ بالخلافة قال: أحضروا المعلِّم.. فأتَوا به، فقال له: قد علّمتني حتى صِرتُ عالماً فجزاك الله خيراً، وعلّمتني الحكمة حتى صُرت حكيماً فجزاك الله خيراً، وكذا وكذا وكذا.. إلخ، لكنَّ الأمر الأخير الذي فعلتَه بي [أمر الضرب] فما نسيته، وأنتظر السّاعة التي اقتصُّ بها منك وآخذ بثأري، فما كان ذنبي؟ وقل لي ما هو الخطأ أو الخطيئة التي فعلتُها حتى عاقبتني بها ذلك العقاب؟
قال المعلّم: ما عَملتَ خطأً ولا خطيئةً ولا أذنبتَ ذنباً، فقال: إذا لماذا كانت “الفَلَقَة”؟ قال: هذه “الفَلَقَة” هي أفضل شيءٍ علّمتُك إياه وربيّتك عليه، قال: لماذا؟ قال: أذقتكَ الظّلم لتتذوق آلامه فلا تظلم ضعيفاً ولا من لا ناصر له، فقال له: جزاك الله خيراً.. هاتِ يدك ورجلك كي أقبِّلهما، فهذا هو أعظم ما علّمتني إياه.
زعم الإيمان وحقيقة الإيمان
﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا﴾ [التغابن:7] هل أنتم من الذين كفروا أم من الذين آمنوا؟ والكذَّاب: هل هو من الذين كفروا أم من الذين آمنوا؟ والـمُغتاب والحاسد والحاقد والغشَّاش، والتي تَهجُر زوجها، والذي يَظلم زوجته، و”الحَمْاية” [أم الزوج] التي تتعدَّى على “كِنَّتها” [زوجة الابن]، و”الكِنَّة” التي يحبُّها زوجها وتطرد “حَماتَها”، هؤلاء هل هم من الذين كفروا أم من الذين آمنوا؟
وادِّعاؤك للإيمان هو زعمٌ كزعم الكفّار أنهم: ﴿لَّن يُبْعَثُوا﴾.. ﴿قُلْ﴾ ممن هذا الخطاب وإلى من؟ من الله عزَّ وجلَّ إلى النّبي ﷺ، يقول له: قل لهم وردَّ عليهم: ﴿قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي﴾ واحلف لهم يميناً: ﴿لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ﴾ [التغابن:7] ستُتلى عليكم كلّ أعمالكم وستُشاهدونها، ثم يُقال لك: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء:14].
يُسأَل الأشخاص المتقدمون للوظائف، ما هي شهادتك؟ فمن كانت شهادته دكتوراه، إذاً هو بالمرتبة الممتازة، والذي شهادته “سَرْتَفِيكَا” [الابتدائية] يضعونه بوظيفة “آذِن” [عامل الخدمة]، أمَّا من ليس عنده شهادة، فيجعلونه يحفر “السْيَاقَات”: [السّواقي: ويُقصَد بها مجاري المياه النجسة]، فهل يكون هذا ظلماً؟ لا.. فالله لا يضع أحداً في جهنم ظلماً، [وحينها يقال للإنسان]: ﴿كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء:14].
أنت الآن في هذه الحياة لكنْ بلحظةٍ واحدةٍ تخرج من الدنيا، رغم صحتك وقوتك وشبابك، فعلى ماذا تعتمد؟ هل تعتمد على: ﴿غفورٌ رحيم﴾؟ هذا الجهل بالإسلام والقُرآن.. الذين تخلَّفوا عن النّبي ﷺ في غزوة تبوك، منهم الـمُنافقون الذين اعتذروا بأعذارٍ كاذبة -والنّبي ﷺ كان يحكم بالظاهر- لكنَّ القرآن فَضَحهم فقال: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ﴾ [التوبة:94].
وأمَّا الثلاثة الذين كانوا من المؤمنين الصادقين فقالوا: والله يا رسول الله مالنا من عذر.. فأمَرَ النّبي ﷺ بمقاطعتهم، وعدم مكالمتهم وعدم التسليم عليهم، ثم أمر زوجاتهم أن تعتزلهم.. ونحن نرتكب خمس مئة ألف ذنبٍ ثم نكون كالطُرْشَان كأننا لم نسمع شيئاً، كالميِّت مهما لدغته الثعابين والعقارب فلا يقول: آه، ألا يكون هذا موتاً؟ أمَّا هم فكانوا لا ينامون الليل [من عظيم ما أصابهم]، ولا يحدِّثهم أحدٌ في النهار، ولا يُسلِّمُ أحدٌ عليهم، حتى زوجاتهم.
فهكذا كانت التّربية الإسلامية، وهكذا بنى النَّبي ﷺ الإسلام في نفوس المسلمين من أصحابه الكرام رضوان الله عليهم، فأين نحن [من هذه التّربية]؟ يقولون: إنَّ سبب ما نحن فيه من ضعف وتمزُّق وتسلُّط العدو هو الاستعمار والصهيونية، ولكننا نحن من نخلق الصهيونية والاستعمار.
وهل خلَق الصحابة الاستعمار أم أنَّهم أفنوا دولة الاستعمار؟ وأزالوا الاستعمار عن كُلّ شعوب الأرض وليس عن بلادهم فقط؟ -أنتم الموجودون في الجامع- [الخطاب للحضور] والله لو صَدَقْتُم الله وأصبحتم مسلمين حقاً [لرفعكم الله في الدنيا والآخرة].. هل ترضى أن يُعطيَك أحدهم مئة ليرة مزوَّرة؟ وهل تقبل أنْ نُحْضِرَ لك في ليلة العرس عروساً من البلاستيك؟ حتَّى ولو كانت أحلى من العروس الحقيقية في اللون والطول والعَرْض، ولو كان فستانها بعشرين ألف ليرة.. إلخ؟ فهل ترضى بذلك؟
فيجب ألَّا ترضوا أن يكون إسلامكم مزوَّراً، ولا أن يكون إسلامكم من البلاستيك، ولا أن يكون إسلامكم بالقول.. لو كان لك دَيْن على أحد ما مبلغاً قدره مئة ألف، ثم أعطاك ورقة مكتوبٌ عليها مئة ألف، وقال لك تفضل هذا دَيْنك، تقول له: يا هذا أنت تكذب عليّ وتستهزء بي.
ونحن نَهْزأ بالله وبكلام الله وبالقرآن، وهل يستطيع أحد أن يهزأ بالله عزَّ وجل؟ والواقع أنَّنا نهزأ بأنفُسنا: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء:142]، ﴿إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ (14) ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ﴾ [البقرة:14-15].
والله عزَّ وجلَّ يَمُدُّهم، وهو لا يُؤاخِذ الإنسان في الحال: ﴿وَلَوۡ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهۡرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمۡ إِلَىٰٓ أَجَلٍ مُّسَمّىۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِۦ بَصِيرَۢا﴾ [فاطر:45]، فلا يحتاج أن يأتوا بالشهود: ﴿فإنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ [فاطر:45].
﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا﴾ [التغابن:7] فهل تزعمُون أنَّكم لن تُبعثوا؟ أمْ تَدّعون أنَّكم ستُبعَثُون؟ وهل تَدَّعون البعث قولاً أمْ عملاً؟ فهل نعاهد الله على هذا؟ ونسأله تعالى أنْ يثبَّتنا على الإيمان بالبعث وبالقيامة وباليوم الآخر، قولاً وعملاً ظاهراً وباطناً، لنكون مِمن يؤمن بالقرآن ومن: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ به﴾ ويعمل بِخلاف القرآن: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [البقرة:121].
واللهِ [لو آمنتم حقاً] فستنجحون في الدّنيا قبل الأخرة.. إذا عاملت أباك على مُقتضى البعث وعلى مُقتضى القُرآن، [فأنت من الناجحين حتماً، وإذا كان عملك سيئاً]، ولم يكن هناك جزاء لكنت نجوت بأفعالك، فإن كذبتَ على الله تنجو، لكن ألا يوجد جزاء؟ وهل يمكن أن تحتال وتُعطي المحامي مالاً ليتشارك فيه مع القاضي لتنجو يوم القيامة؟
قصة القاضي المرتشي
كقصة المرأة الغنية الثرية، التي ماتت وخلَّفت ثروة ًكبيرةً ولم يكن لها وَرَثَة، فادَّعى أحدهم أنَّه ابن أخيها وهو كاذبٌ ولا يَقْرب لها بصلة، فذهب إلى القاضي وهو يعرف حال هذا القاضي -وليس كل القضاة عادلون- كما قال النَّبي ﷺ: ((قَاضِيَانِ فِي النَّار، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، أما الذي في الجنة عرف الحق فعمل به، واللذان في النار رجل جهل الحق فعمِل بجهله، وآخر عَلم الحق فحاد عنه عن عِلمٍ وقصد)) .
فذهب هذا الرجل إلى بيت القاضي، وأخذ معه “قُفَّةً” [وعاء مطاطي لحمل الأغراض] من تمرٍ مَسحُوبٌ منه النَوَى، ووَضَع مكانه الغَازِي، هل تعرفون الغازي؟ هو من ذهب رقيق، يقدمونه هدايا للأولاد عند ولادتهم، ثم غَلَّف الغازي ووضعه في التمر بدلاً من النوى.. ودقَّ الباب وأعطى الخادِم “القُفَّةً”، وأخبره أن يُعطيَها للقاضي هديةً لفضيلته، فنظر القاضي وقال له: من هذا؟ قال له: فلان، فعرفه القاضي لأنَّ له قضية عنده، ولم يعجبه بأن يأتي له بقُفَّةٍ من التمر فقط وهو لديه قضية، وأمر الخادِم بأنْ يردَّها إليه.. هل فهمتم؟ أنا أكلمكم باللغة العامية حتى تفهموا جميعاً.
فلما ردَّها الخادِمُ إليه، قال له الرجل: قل لفضيلة القاضي أن يتذوَّق تمرة واحدة، ثم له الَخيَار إن شاء قَبِلها وإن شاء ردَّها، فأخبر الخادِم القاضيَ بذلك، فتعجَّب القاضي من طلبه ثم أخذ تمرة وأكلها، فأحسَّ عند مضغها بشيء داخل التمرة لا يشبه النواة العادية، فأخرجها من فمه فوجدها قطعة ذهبٍ ملفوفة، فأخذ الثانية فإذا بها كمَثَل الأولى، ثم الثالثة.. فكانت ألف تمرة بألف قطعة من الذهب “الغازي”، فقال للخادِم: دعه يتفضَّل.
فلما دخل الرجل رحَّب به القاضي وأهَّل وسهَّل، وأجْلسَه في صَدْر المجلِس، وقال له: خيراً إن شاء الله؟ قال: قد توفِّيت عمَّتي -وهو كذَّاب- وأرجوك أن تقبل الدَّعوى التي أنا قائم بها من أجل تثبيت النسب، وكان موعد الدَّعوى بعد شهرين، فقال له: تعالَ غداً فنجعل لك جلسة، وفي جَلْسَة المحكمة قال القاضي: وقد ثبت لنا من خلال كذا وكذا.. إلخ، بأنَّ فلاناً هو ابن أخت المتوفاة وهو وارثها، ثم التفت إليه فقال: “أكْثِر لنا من التَمَرات نُكْثِر لك من العمَّات والخالات”. [هنا يضحك الشيخ ويضحك معه الحضور كثيراً]
أمَّا في محكمة الله فليس هناك تمرات ولا عمَّات ولا خالات: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة:281] فهل نحن نؤمن بالقرآن؟
﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا﴾ أولئك صرحوا بأقوالهم.. فنسأل الله أن يحفظ أقوالنا وأعمالنا، ونكون من المؤمنين بالآخرة إيماناً صادقاً قولاً وعملاً سراً وجهراً، ﴿قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [التغابن:7] لا يوجد هناك ما هو صعْبٌ على الله، فهو يأتي بكل أعمالك بلحظة وحدة، ويعرض لك حياتك كُلها.
القرآن ضياء للمؤمنين
﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ فالإيمان بالله تعالى وبرسوله ﷺ، هو ما وَقَر في القلب وصدَّقه العمل: ((لَيْسَ الإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَلا بِالتَّحَلِّي، ولكنَّ الإِيمَانَ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ)) .
﴿وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا﴾ [التغابن:8] فالنُّور في السَّيارة يكشف لك الطريق، ويُريك الحُفرة أو الـمُنعطف وكذا.. إلخ، أمَّا إذا كانت السَّيارة بِلا نور وتمشي في الظُلمات فتكون النتيجة الهلاك.
وإذا أطفأت نور القرآن والإيمان من قلبك، ومشيت في ظلمات الأهواء والأغراض والشهوات، فسَتهْلِك في الدُنيا قبل الآخرة: ﴿خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج:11] فليفتِّش كل واحدٍ في نفسه عن أيّ واجبٍ تركه ليُؤَدِّيه، سواء كان حقّاً من حقوق الله أو من حقوق الخلق، ويَسْتدرِك ما كان واجباً فيما مضى، وما يجب عليه في المستقبل، وتوبوا إلى الله توبةً نصوحاً.. والتَّوبة النصوح هي: أن تترك الذنب فلا تعود إليه.
﴿فَآمِنُوا﴾ صدِّقوا.. فإذا قال لك أحدهم، وأنت تعرفه صادقاً ومخلصاً ومحباً: إنَّ هذا سمٌّ، فهل تشربه؟ لا.. لماذا؟ لأنَّك آمنت بصدق كلامه، وإذا قال لك أحدهم: هذا “شيك” بمئة ألف دولار وأنت تاجر وتعرف بالشيكات، وهو هديةٌ مني إليك، فهل ترفضهُ؟
فوالله إنَّ القرآن أغلى من كُل ما في هذه الدُنيا، ومعصية الله عزَّ وجلَّ هي السمُّ القاتل؛ لا لجسدٍ يعيش خمسين أو ستين سنة، بل هي السمُّ القاتل لسعادة الأبد.. فنسأل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، ولا يجعلنا من الذين قالوا: ﴿سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا﴾ [النساء:46].
﴿وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا﴾ فإذا آمنتم: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [التغابن:8] ويرى إيمانكم هل هو بالقول أم بالعمل؟ فلا تظنُّوا أنَّ الله تعالى يُغَشُّ بالكلام وكثرة الحديث ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا﴾ والله يقول: ﴿وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:8].
التهيُّؤ ليوم الجمع
﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ﴾ [التغابن:9] يعني اذكروا وتذكَّروا وتهيَّؤوا: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ﴾ [التغابن:9] يوم يجمع الله الأوَّلِين والآخِرين، ويتجلَّى الله على خلقه ويُنصَب الميزان: ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ﴾ [الزمر:69] وأحضرت الملائكةُ كتاب وسِجِلَّات كلّ إنسان، ﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيَّينَ وَالشُّهَدَاءِ﴾ [الزمر:69] ويُسأَل النبيُّون هل بلَّغتم؟
﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾ يتمنُّون ألا يكونوا على وجه الأرض ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء:41-42]، فهل نتصوَّر هذا اليوم ونستعد له؟ إن فعلنا ذلك فهذا هو الإيمان، أمَّا إن كنَّا بِلا تفهُّمٍ وبلا استعدادٍ ولا عملٍ فهذا إيمان القول؛ يقولون: ﴿آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ ولكنَّ الله يقول: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:8]، فهل تحبون أن يكون إيمانكم مرفوضاً من عند الله أم أن يكون مقبولاً؟
والإنسان يكون كالإمبراطور في الدنيا أمَّا يوم القيامة فماذا يكون؟ يقول ﷺ: ((يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ صورتهم صورة بني آدم، وأجسامهم أجسام الذَّرِّ)) الذَّر يعني: النمل الأسود [الصغير]، وذلك بمقدار كبريائهم على الخَلْق وعدوانهم بقوَّتهم على النَّاس، فيجعلهم الله تحت أقدام النَّاس في موقف القيامة.
جزاء من آمن وأصلح في الآخرة
﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا﴾ [التغابن:9] فهذا قد مشى على صراط الله عزَّ وجل، وبدّل سيئاته بالحسنات واستقام على ذلك، فهو مِمَن: ﴿قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ [فصلت:30].
﴿يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ﴾ فيغفر الله له الذنوب الماضية إلا حقوق النَّاس، فيجب عليه أن يرضيَهم أو يُرجع إليهم الحقوق، على حسب طاقته واستطاعته، ﴿وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التغابن:9] فهل هذا مغبونٌ أم رابح؟ هو رابح، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [التغابن:10] وهذا هل هو مغبونٌ أم رابح؟ وهل أنتم من بني مغبون أم من بني رابح؟ فاللهم ثبِّتنا بقولك الثابت، واجعلنا من الذين يستمعون القَوْل فيتّبعون أحسنه.