معنى كلمة التغابن
فنحن الآن في تفسير بعض آيات من سورة التغابن، وكما مرَّ معكم في الدرس السابق: التغابن من الغَبْن بين البائع والمشتري، فإذا اشترى المشتري سلعته بأكثر من ثمنها، كأنْ كانت تساوي مئة فاشتراها بخمس مئة، فهذا المشتري يُسمَّى مغبونًا، وإذا كان البائع سفيهًا أو طفلًا أو جهولًا بقيمة ما يبيع، وباع دارًا تساوي مليونًا بمئة ألف، فهذا البائع يُسمَّى مغبونًا.
أما التغابن في القرآن العظيم فهو من يبيع عُمُرًا يُقدَّر بألف سنة، بل بأكثر من ألف سنة، وغنى بلا حدود، وحياة أكثر من ألف سنة، فيها شباب بلا هرم، وعمر بلا مرضٍ ولا سقمٍ، وغنًى وثروة بلا فقرٍ ولا عدم، وسعادة ونعيم وسرور بلا همٍّ ولا غمٍّ ولا حزنٍ.
فالمغبون من يبيع هذا العمر وهذه الحياة، وفي عالَمٍ تُربتها من المسك، وحصباؤها من الدُّرِّ والياقوت، وجدرانها لَبِنةٌ من ذهب ولَبِنةٌ من فضة، في مجتمعٍ فيه: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا﴾ [الحجر:47] ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا﴾ [الواقعة: 25-26]، في عالَمٍ يَرى فيه المؤمنون ربهم كل أسبوع في مقدار أوقات الدنيا.
مَن يبيع هذه الحياة التي لا تقدَّر بألف سنة، ولا بمئة ألف سنة، ولا بمليون سنة، إنما هي حياة أبد الآباد، في شبابٍ ليس بعده هرم، وصحةٍ ليس معها مرضٌ ولا سَقَم، وعِزٍّ وسعادةٍ ليس معها ما يُعكِّرها.. من يبيع هذه الحياة بحياة تُقدَّر بخمسين أو ستين أو سبعين سنة أو أقل؟ من يبيع تلك الحياة ليشتري بها هذه الحياة؟
أيُّ حياة؟! حياة منغَّصة صحتها بالمرض والسقم، وسعادتها بالهمِّ والحزن، ونعمتُها كمنامٍ يراه الإنسان في الحلم، يرى نفسه مَلِكًا فيستيقظ فيجد نفسه على مَزْبَلَة [حاوية القمامة].
فالذي يبيع تلك ليشتري هذه هل هو رابحٌ أم مغبون؟ وإذا كنَّا في السوق ورأينا فيه المغبونين كُثُراً فماذا يكون ذلك السوق؟ هل هو سوق الربح أم سوق التغابن؟ ويا ترى هل أنتم رابحون أم مغبونون؟
المؤمن لا يكون مغبونًا في حياته
ورد: ((مَنِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ)) ، فإذا كان إيمانك اليوم كإيمانك البارحة، ولم يزد إيمانك اليوم عن إيمان أمس فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: أنت مغبون.. وكذلك إذا لم يكن شبابك خيرًا من مراهقتك في الإيمان وفي الإسلام، [إذا لم تزدد في شبابك إيماناً وإسلاماً عن مراهقتك فأنت مغبون]، والإسلام هو علوم القرآن، وعلوم القرآن تدخل في العقل والفكر، فتحوِّلها الإرادة إلى أعمالٍ صالحة، وإلى أعمالٍ ناجحة في دينك وفي دنياك.
ثم إذا لم يزدَدْ عقلك حكمةً في أمور حياتك الدينية أو الدنيوية أو السياسية، ولم تكن حكمتك اليوم أزيد من حكمتك بالأمس، ولم تكن حكمتك وعقلك وفطنتك لِما ينفع فتغتنمه، ولِما يضرُّ فتجتنبه، ولم تكن حكمتك تزيد في يومها هذا عن أمسِ، وغداً عن هذا اليوم فأنت مغبون، هل عرفتم من هو المغبون؟
[ولا تزداد فقط في العلم والحكمة]، بل يجب أيضاً أن يزيد إيمانك وإسلامك في المرحلة أو القسم الثالث، وهو تزكية النفس: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة:129]، والمسلم في عصرنا سواء كان طفلًا أو شابًّا أو شابَّةً، ذكرًا أو أنثى، تاجرًا أو صانعًا أو وزيرًا أو أميرًا هل حاز على حقيقة الإسلام وجوهره التي هي علوم القرآن؟ وهذه العلوم وهذه المدرسة تبدأ بإنتاج الرجل العالِم الحكيم الفاضل.. والعلم والحكمة هي أوصاف النبوة، فالله وصف الأنبياء بقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء:79]، الحُكْم يعني الحكمة، فكان الأنبياء كلهم حكماء يعرفون الأمور بحقائقها وأبعادها ومواطِنها وحدودها، ويعرفون ارتباط المسَبَّبات بأسبابها، ثم عند التطبيق والتنفيذ، كانوا تحت راية هذه الجملة: “فِعْل ما ينبغي”، فالجهاد واجب وينبغي، لكن “في الوقت الذي ينبغي”، وهذا لا يكفي، بل: “على الشكل الذي ينبغي”.
فحكمتهم مُرَشَّحَةٌ من ظلال حكمة الحكيم العليم الذي خلق هذا الكون من ذرَّاته إلى مجرَّاته على أدقِّ نظام وأكمل قانون.
وأنت أيها المسلم وأنتِ أيتها المسلمة، هل نحن مسلمون بحسب أهوائنا وأمانينا وظنوننا [أم مسلمون حقاً]؟ ﴿وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [النجم: 28]، و((لَيْسَ الإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي)) ولا بالأماني، ((ولَكِنَّ الإِيمَانَ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ)) .. فهل عرفتَ الإسلام بحقيقته وجوهره؟
إن علوم القرآن تكون بأن تقرأ القرآن لا للنغم ولا أن تسمعه للموسيقى والطرب، بل أن تسمع القرآن وتقرأه للفهم والعلم، وبعد الفهم والعلم من أجل العمل والتطبيق، وبعد العمل والتطبيق لا يكمل إسلامك حتى تقوم فتُعلِّم الناس ما تعلَّمتَه، قدرَ ما تستطيع أن تُعلِّمهم وتُرشِدَهم وتُعرِّفهم وتنفعهم.
كان عليه الصلاة والسلام يقول: ((نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً)) يعني إنسانًا، ((سَمِعَ مَقَالَتِي)) ليس فقط سمع، بل زاد: ((فَوَعَاهَا)) سمع القرآن للوعي والفهم، ((سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، فَبَلَّغَها كَمَا سَمِعَها)).
معنى ((نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً)) يعني بيَّض الله وجههُ وجمَّل صورته في أموره وفي جهاده وفي أعماله وفي لقاء ربه، ((فَبَلَّغَها كَمَا سَمِعَها، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ))، أنتَ سمعتَ من النبي عليه الصلاة والسلام وانتفعتَ خمسين بالمئة، ولعلَّك إذا بلَّغتَها لشخص آخر يطبِّقها مئةً على مئة، فهذا أيضًا في صحيفتك.
((فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ ولَيسَ بِفَقِيهٍ)) حَمَل العلم كلامًا ونُطقًا ولم يحمله عملًا وخُلُقًا وسلوكًا، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: ((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً)) ، ليس شرطًا أن لا تُبلِّغ وتدعو إلى الله حتى تصير عالِمًا نحريرًا، بل لو سمعتَ حديثًا واحدًا عن النبي عليه الصلاة والسلام، أو سمعتَ أدبًا واحدًا إسلاميًّا قرآنيًّا، وفهمتَه على الوجه الأتم علِّمْه لغيرك.
التجارة مع الله تجارة رابحة دائمًا
فالتغابن وسورة التغابن لماذا سماها الله عزَّ وجلَّ بهذا العنوان؟ يعني: احذروا أيها المسلمون وأيتها المسلمات أن تكونوا مغبونين في حياتكم الدنيا على هذه الأرض، فهل وعينا العنوان؟ وهل صرنا على مستوى تحذير الله عزَّ وجلَّ لنا، لئلا نُغبَنَ في تجارتنا في هذه الحياة؟ وإن تجارة الحديد والخشب والسيارات وغيرها مثل الكهرباء إذا انطفأتْ، فبلحظة واحدة تفقد كل شيء، فهل نَزَلْتَ في سوق التجارة الإلهية؟ ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الصف:10] الله عزَّ وجلَّ يسألكم، وإذا قال لك شخص: هل تحبُّ أن أدُلَّك على تجارة تربح منها مئة ألف ليرة؟ فإنك تقول: نعم أرجوك! “يدي بِزُنَّارك”! [مثل شعبي، بمعنى: ألتجئ إليك، أرجوك ساعدني وأنقذني، فأنا أتعلَّق بزُنّارِك أو حزامك]، والله عزَّ وجلَّ يسألنا: هل تحبُّون أن أدلَّكم على تجارة لا تخسر أبدًا، ولا تبور أبدًا ولا تكسد؟ إذا قرأتَ القرآن هل تجيب الله عزَّ وجلَّ أم إنك لا تفهم السؤال ولا يخطر على بالك الجواب؟ لأنَّك لا تقرأ القرآن بقلب، والقلب يحتاج إلى ذِكر وإلى صحبة وإلى هجرة.
وجوب الهجرة إلى المعلِّم
كان عليه الصلاة والسلام يقول: ((لا إيمانَ لِمَنْ لا هِجْرَةَ لَهُ)) ، فما معنى الهجرة؟ لقد كانت الهجرة هي النقلة والسفر إلى العلم وإلى الحكمة وإلى التزكية المجسَّمة بصحبة سيدنا رسول الله ﷺ، فهل فكَّرتَ بعد رسول الله ﷺ أن تُهاجر إلى وارثٍ محمديٍّ يعلِّمك الكتاب والحكمة ويزكِّي منك النفس الأمَّارة بالسوء؟ فإذا هاجرتَ يكون لك إيمانٌ، وإن لم تهاجر فـ: ((لا إيمانَ لِمَنْ لا هِجْرَةَ لَهُ)).. والمتقاعسون عن الهجرة في زمن رسول الله ﷺ ذكر الله مصيرهم السيئ في الآخرة عند الله عز وجل بسبب تقاعسهم وبقائهم في مكة، حيث كانت مكة دار الكفر والوثنية والأصنام، فلما هاجر منها النبي عليه الصلاة والسلام ما بقي فيها إلا أصنامها، فصار فيها البقاء محرَّمًا، وكانت الهجرة فريضة.. ولقد ذكر الله المتقاعسين الكسالى الذين آثروا مصالحهم أو كسلهم وتقاعسهم، وذكر حالتهم عند الموت فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [النساء:97] بقعودهم عن الهجرة إلى رسول الله ﷺ.
والهجرة إلى رسول الله ﷺ هي الهجرة إلى العلم لتتخلَّص من الجهل.. والعلم لا أن تقرأ وتكتب، فالحديد الآن يقرأ ويكتب [سماحة الشيخ يقصد بالحديد هنا آلة تسجيل الصوت والآلة الكاتبة اللذَيْن كان لهما انتشار عالمي واسع قبيل انتشار الكمبيوتر]، ولكن العلم هو الذي ينقلك من الظلمات إلى النور، وينقلك من الهوى والأنا إلى التقوى وتزكية النفس، وينقلك من الرذيلة إلى الفضيلة، ومن الحمق والطيش والبغي والعدوان إلى الحكمة والعقل ووضع الأشياء في مواضعها، [وهذا العلم والحكمة والتزكية تكون] من مدرسة كتاب الله وقرآنه.
ولقد قال الله تعالى عن الكسالى المتقاعسين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [النساء:97] عندما يأتيه ملك الموت يقول له: حان وقت الرحيل، يقول له: أنا مشغولٌ الآن، فالعمارة لم تنته بعد، فيقول له: سأقبض روحك، ألا تعلم من أنا؟ يقول له: سأتزوج، وقد بقي للزفاف ثلاثة أيام، أو هذه الليلة ليلة العرس، فيقول له: سأقبض روحك، والآخر يقول له: سآخذ شهادة الاختصاص، فيقول له: سأقبض روحك.. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ بماذا ظلموا أنفسهم؟ إذا ألقوها في الجهل وهجروا العلم، وإذا ألقوها بين المشركين وحُرِمُوا صحبة رسول الله ﷺ والصدِّيقين، هؤلاء ألم يظلموا أنفسهم؟ وإذا بقوا في الجاهلية وحُرِمُوا الحكمة وصحبة الحكماء هؤلاء أليسوا مغبونين؟ أليسوا ظالمي أنفسهم؟ ﴿قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ﴾ لماذا لم تهاجروا؟ ﴿قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْض﴾ لا يوجد معنا مال لنهاجر إلى النبي ﷺ، نحن مرضى، ويعتذرون بأعذارٍ هم فيها كَذَبةٌ، فيَرُدُّون عليهم: ﴿قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ يعني لم يكن لهم عذر، فهم يكذبون في الدنيا والآخرة وعلى الملائكة وعلى الله عزَّ وجلَّ، ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ لماذا؟ هم يصلُّون ويصُومُون ويقومون، ولكنهم ما رحلوا إلى مجالس العلم والحكمة والقرآن، ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ [النساء:97-98] طفل أو امرأة ليس لهما من يحميهما في سفرهما.. أم سلمة رضي الله عنها سافرتْ من مكة إلى المدينة وَحْدَها لفهمها فرضية ووجوب الهجرة.
الهجرةُ في طلب العلم
والهجرة كانت في زمن النبي ﷺ إلى حيث ما هو معروف من مدرسة النبي ﷺ التي من جملتها هجرةٌ أخرى، لا تخطر على بال كثيرٍ من الناس من الوجهة الإسلامية، وهي قوله عليه الصلاة والسلام: ((اطْلُبُوا الْعِلْمَ وَلَوْ في الصِّينِ)) .
فالذهاب إلى الصين هجرة، وماذا يوجد في الصين من العلم؟ هل هو علم الوضوء أو علم الصلاة أو الصوم أو الزكاة أو الحج؟ كانت الصين في عصر النبوة أعظم دول العالَم تقدُّمًا صناعيًّا ودنيويًّا وزراعيًّا، فهل فهمنا كلام النبي عليه الصلاة والسلام بحسب مقاصد رسول الله ﷺ؟
لَمَّا نزلت هذه الآية كان عُمُر أحد الصحابة يقارب الثمانين سنة وهو في مرض موته، [سماحة الشيخ يسأل الحضور:] ما اسمه؟ هل نسيتم؟ ضمرة بن جندب رضي الله عنه، فقام من فراش مرضه الأخير يُريد الهجرة، فقالوا له: أنت في مرض الموت، فقال: الله عزَّ وجلَّ يقول عن التقاعس عن الهجرة: ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ [النساء:97-98] وأنا بإمكاني أن أُهاجر.. وركب جمله، ولم يغادر مكة على بُعد بضعة أميال حتى تُوفيَ على جمله ، فصار المنافقون يهزؤون به ويتحسَّرون عليه، واتَّهموا النبي ﷺ أنه جعل هذا الضعيف يُهاجر فمات، مدَّعين أنهم غاروا على دينهم وغاروا على الإسلام.
وبعضهم قال: لم تُكتَب له هجرةٌ، لأنه ما وصل إلى المدينة، فأنزل الله بحقِّه: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ قَبِلَ الله هجرته وإن لم يَصِلْ، وأما تقصيره فيما مضى فبما أنه قد صحَّح وبدأ بطريق التصحيح فالله تعالى قال عن الماضي: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمً﴾ [النساء:100].
يكفيكم إلى هنا فيما يخصُّ مفهوم عنوان سورة التغابن، وبعد ذلك يجب أن تنظر هل أنت من الذين ربحوا في بيعهم وشرائهم في سوق الحياة الدنيا؟
“الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الآخِرَةِ” ، إذا زرع إنسان الفلَّ والياسمين والقمح والشعير فهل يكون رابحاً أم مغبوناً عند الحصاد؟ وإن زرع الشوك “والقُرَّيْص” وأنفق المال والسقاية، [القُرَّيْص: عشب يُشبِه في شكله النعنع، ولكنه عند ملامسته يَقرِص ويسبب حكة شديدة، ويُضرَب به المثل للإزعاج]، فهل يكون رابحاً أم مغبوناً عند الحصاد؟ ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [البقرة:16]، ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ﴾ [البقرة:86] وبالطرف الآخر: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [الصف:10-11].
حقيقة الإيمان الذي أراده الله
الإيمان بالله هو: ((مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ)) ، وليس إيمان الأماني مع الجهل وبلا هجرة وبلا معلِّم القرآن.. وعلومُ القرآن ليست قراءة ألفاظ القرآن من غير هجرة إلى معلِّم الحكمة والفِطنة ليعلِّمك الدنيا والآخرة.. والنبي ﷺ علَّم المسلمين وأصحابه حتى صاروا ملوك الأرض وأغنياء الأرض وعظماء العالَم في عالَم الأرض، ثم انتقلوا إلى أن يكونوا عظماء في عالَم السماء.
فأين الإسلام في عصرنا من المسلمين؟ وأين المسلمون من إسلام الحقيقة؟ لو كنا مسلمين لما كان حالنا كما قال الشاعر النجفي رحمة الله عليه
محمَّدُ هل لِهذا جِئتَ تَسعَى
وَهَل أَتباعُكَ هَمَلٌ مَشاعُ
أَإسلامٌ وَتَغلِبُهُم يَهودٌ
وَآسادٌ وَتَأكُلُهم ضِباعُ
أَيشغلُهُم عَنِ الجُلَّى نِزاعٌ
وَهذا نَزعُ مَوتٍ لا نِزاعُ
فالسياسيون متنازِعون، والمشايخ متنازِعون، هذا يقول: سني، وهذا يقول: شيعي، وهذا سلفي وهذا صوفي، وهذا شافعي وهذا حنفي.. هل هذا هو الإسلام؟ لماذا لا نرجع إلى إسلام القرآن؟
هل الشافعي أو الحنفي قال: اتَّخذوا من كلامي مذهبًا ولا تحيدوا عنه إلى علماء المسلمين الآخرين؟ بل كان يقول: “إذا عارض كلامي كلام رسول الله ﷺ وسلم فَاضْرِبُوا بكلامي عُرْضَ الْحَائِطِ” ، “وإذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي” .
مذهبنا مذهب رسول الله ﷺ، مذهبنا القرآن، وكل الأسماء التي بعد النبي عليه الصلاة والسلام كلها يجب أن تُحذَف، ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ﴾ هل قال: الشافعية أم الأحناف، السنة أم الشيعة، الصوفية أم السلفية؟ بل قال: ﴿الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الحج:78] وكل اصطلاح في أيِّ مذهب أو في أي طريقة صوفية، إذا وجدنا معناه في القرآن والسنة يجب أن نسميه بتسمية القرآن والسنة، لنَرجِعَ مسلمين كما كان المسلمون في زمن رسول الله ﷺ ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الحج:78] وفقط.
المهم من العلمِ العملُ به
وهذا المنطلق إذا حرصنا عليه، وفهمنا عنوان هذه السورة التغابن فعسانا أن نربح إذا بعنا حياتنا وعمرنا وأخذنا مقابلها إسلامًا حقيقيًّا وإيمانًا صادقًا، بذلنا عمرنا القصير الذي يفنى ويزول، وأخذنا مقابله علوم القرآن.. والعلم للعمل، فإذا تعلَّمتَ تشغيل مصابيح الكهرباء، وقالوا لك: متى حلَّ الظلام في الليل اضغط على هذا المفتاح بهذا الشكل، وقد تعلَّمتَ وحفظتَ تمامًا، فإذا أتى الليل وما استعملتَ مفاتيح الكهرباء وبقيتَ في الظلام، فماذا أفادك علمك؟ ربما مشيتَ ودُستَ [وطئت] على بطن ابنك، وعلى أنف زوجتك، وعلى أفعى فلدغتك، ثم تقول: “أنا عالِم بالكهرباء وبفائدتها وكيفية استعمالها”، لكن هذا العلم لم يظهر في ميدان العمل حرفٌ واحدٌ منه.
وإذا قيل لك: هذا السُّمّ قاتلٌ في وقته، ثم سُئلتَ في الامتحان: حدثنا عن السُّمِّ الفلاني، ما أضرارُه وما أخطاره؟ وأعطيتَ الجواب بالحرف، وأنت تحفظ الدرس من أول الصفحة إلى آخرها، وبعد أن انتهيتَ من الامتحان، تناولتَ كأس السُّمِّ وشربتَها، فماذا أفادك علمك؟ ((أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهِ)) .
هل هناك مسلم لا يفهم فريضة الصلاة؟ هل هناك مسلم يجد أنَّ الصلاة ليست فرضًا؟ هل هناك مسلم يفهم أنَّ الزكاة ليست فرضًا؟ هل هناك مسلم لا يفهم وجوب الوضوء للصلاة؟ هل هناك مسلم لا يفهم وجوب الحج على المستطيع؟ العلم قائم.
العلم الحقيقي هو الذي ينمو في القلب المؤمن
ولكن العلم الحقيقي الذي يُحيي فيك العمل والعزم والهمة هو الذي أشار إليه القرآن بقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة:282] العلم الذي لا يُنال إلا بالهجرة إلى من يعلِّم الكتاب والحكمة ويزكِّي النفوس، فإذا لم تحصل على هذا العالِم الذي ينقلك من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى علم العمل، وإلى تزكية النفس والحكمة في كل شؤونك، فلن تنجح.
مرة رأى النبي ﷺ رجلًا يتسوَّل، يعني شحَّاداً، فقال له: ((لِمَ؟)) قال: أنا فقير، فقال له: ((أَلَا يُوجدُ في بَيتِكَ مَتاعٌ؟)) أي بعض أغراض البيت، فأحضر له قِدرًا، فحوَّل النبي ﷺ المسجد إلى سوق حَرَاج، إشارة إلى أن المسجد كان يعلِّم الناس كل شيء، فكان المسجد وزارة الخارجية يُستقبَل فيه الدبلوماسيون، وكان المسجد أركان حرب، فخُطَطُ الحرب كانت تُخطَّطُ في المسجد، وكان المسجد الجامعة لكل علوم الحياة حسب ذلك العصر.. فقال النبي ﷺ: ((مَنْ يَشتَرِي؟)) فباعه بدرهمين، وقال له: ((خذ درهمًا فاشترِ به طعامًا لأهلك، واشتر بالدرهم الآخر فأسًا وائتِ بها إليَّ))، فنجَّر النبي ﷺ لفأسه خشبة وقال له: ((اذهَبْ وَاحتَطِبْ، وَلا تَأتِني إلَّا بَعدَ أيَّامٍ))، فأتاه بعد أيام فسأله النبي ﷺ: ((كيف؟)) قال: أغناني الله من فضله يا رسول الله .
المسجد كان يعلِّم الحياة ويعلِّم الاقتصاد، وما معنى أن يعلِّمنا النبيُّ ﷺ أن نرفع قطعة الخبز عن الأرض؟ ليس المقصود هو عين قطعة الخبز، إنما هذا رمز، فكل شيء يُمكن الانتفاع به ينبغي أن لا تضيَّعه، وكان ﷺ يلعق الإناء ، حتى يعلِّمنا أن لا نضيِّع شيئًا، أو أن نبذل شيئًا دون أن نستفيد منه إذا أمكننا الاستفادة منه.
هذا من العلم، وفوق هذا هو العلم الإلهي الذي ينكشف فيه للمؤمن في مرآة قلبه عن نور الله عزَّ وجلَّ، ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور:35] وهذا يحدث بانكشاف نور الله عزَّ وجلَّ في مرآة القلب، ذلك القلب المصقول الذي مُحيت منه ظلمات الذنوب بالتوبة الصادقة النصوح، وبالإخلاص لله عزَّ وجلَّ بالعمل، وهذه التوبة لا تُنال إلا بالصحبة والهجرة، ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِه، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)) ، ((الْجَلِيسُ الصَّالِحُ كَحَامِلِ الْمِسْكِ، إِمَّا أَنْ يَبِيعكَ، وَإِمَّا أَنْ يُعطيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَشمَّ مِنْهُ رائحةً طَيِّبَةً)) .
الحكمة من الأصول التي يبنى عليها الإسلام
إن الإسلام الذي كان في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام كان يعلِّم الناس كلَّ شيء؛ يعلِّمهم الحرب، ولكنْ أيّ حرب؟! ما علَّمهم إلا الحرب المنتصرة، فالقرآن أوجب القتال، لكن متى؟ حينما ضَمِنَ لهم النصر في القتال، ولذلك قال: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ [الحج:39]، وكان سيدنا عمر رضي الله عنه في مكة يحاول مقاتلة المشركين، وهذا كان مخالِفًا للحكمة، لأنَّ المسلمين ضعاف، وقتال الضعيف مع القوي هو لمصلحة القوي، والحكمة تَمْنَع من هذا القتال، فيمنعه النبي ﷺ ويقول: ((يا عُمرُ)) ويُبيِّن الحكمة ويقول: ((أَنتُمْ قَلِيلٌ)) .
لأنه فَعلَ ما ينبغي، فالجهاد ينبغي، لكن هل الوقت ينبغي؟ الوقت لا ينبغي، وهل الشكل ينبغي؟ لا ينبغي، والحكمة فعل ما ينبغي، مثل الأكل، ففي الأكل يجب أن تكون حكيمًا، فتأكل ما ينبغي، وما الذي ينبغي؟ أن لا تأكل الخبز بلا نخالته، فهذا أكل الخبز بما لا ينبغي.
علماء الأغذية قاموا بتجارب على الخبز الأبيض، فأحضروا عشرين دجاجة، وأطعموها من الخبز النقي الأبيض، وبعد عشرة أيام أو خمسة عشر يومًا، أُصيبت كلُّها بالكساح، فلم تعد قادرةً على المشي، فأخذوا نصفها وأَعادوا لها الخبز بنخالته، فبدأت تشفى من الكساح حتى رجعت إلى وضعها الطبيعي، وأما النصف الثاني فتركوها على الخبز الأبيض فما استكملت ثلاثين يومًا إلا ماتت عن بكرة أبيها.. فما هي الحكمة في أكل الخبز؟ حسب القرآن هل نأكله بنخالته أم بغير نخالته؟ لذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام قُدِّم له خبز منخول طحينُه فرفضه، وأمر بنقعه وإعادة نخالته إليه، ثم خَبزه، ثم بعد ذلك أكله ، ليفهِّمنا أن المسلم يجب أن يكون حكيمًا في أكله، وحتى في قصِّ أظافره، وفي تخليل أسنانه، وفي نظافة أصابعه وما تحت أظافره، ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام:38].
فأين المسلم من علوم القرآن المشروحة بتعاليم النبي عليه الصلاة والسلام في أقواله وأعماله وتقاريره؟ صلى الله وسلَّم عليه وآله وأصحابه الكرام، ونسأل الله أن يرزقنا الفقه في كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ.
فهل تعاهدونني على أن لا تكونوا مغبونين، فلا تبيعوا مجالس العلم بمجالس الجهل، ولا مجالس العلماء والحكماء بمجالس الحمقى والسفهاء، ولا تضيعوا من أعمالكم وقتًا تستطيعون فيه أن تبنوا إسلامكم دينًا ودنيا قلبًا وعقلًا؟
تسبيح مخلوقات الله تعالى
﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [التغابن:1] فكل ما في الكون بتكوينه وخَلْقه يدل على الخالق العظيم العليم الحكيم القادر المقتدر، ودائمًا الخط والكتابة يدلان على الكاتب، والخبز يدل على الخابز، والسيارة على مصمِّمها، وهذا الكون؟ “أَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ وَأَرْضٌ ذَاتُ فِجَاجٍ أَلَا تَدُلَّان عَلَى العليم الْخَبِيرِ؟” .
كما أنه في نفس الواقع من يُكشف عن قلبه الحجاب يرى ويسمع تسبيح الكون، ولكن لو أنه سمعه دائمًا لَمَا استطاع أن يأكل أو يشرب أو ينام، بل يُكشَف له تارةً ليتحقَّق له إيمانه.
كما ورد أنَّ وفدًا من العرب لَمَّا عَرَض النبي عليه الصلاة والسلام عليهم الإسلام قالوا: مَن يشهد لك بهذا؟ فأخذ النبي عليه الصلاة والسلام كفًّا من حصى وقال: ((هَذِه الحَصَيَاتُ تَشهدُ لي)) ، فإذا بالحصيات تسبِّح في كفِّ رسول الله ﷺ.
هي في الأصل تسبِّح، ولكن بقوة روحانية النبوة رُفِع الحجاب عن قلوبهم وأرواحهم، فسمعوا ما كان محجوبًا عن سمعهم وأبصارهم، وكما يقول القرآن العظيم: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء:44].
رعاية الحيوان في الإسلام
فإذا كانت الحصى تسبِّح وتذكر الله عزَّ وجلَّ دائمًا، فأنت أيها المسلم ما حالك مقارنة بالجماد والحيوان؟ كان عليه الصلاة والسلام يقول: ((اتَّقُوا اللَّهَ في هَذِهِ الْبَهَائِمِ العَجماءِ، كُلُوهَا صَالِحَةً)) يعني سمِّنوها ولا تتركوها جائعة عطشى، ((وارْكَبُوهَا صَالِحَةً)) ، ((وَلاَ تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ وَمَنابِرَ لأَحَادِيثِكُمْ فِي الأَسْوَاقِ والمجتمَعاتِ)) ، شخص راكبٌ على دابته يحدِّث إنسانًا، أو يخطب عليها ساعة أو ساعتين، والدابة إذا وقفت وهي تحمل الثقل تتعب.
صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله! حتى الحمير ما نسيها، وحتى البغال ما ضيَّع حقوقها، وحتى القِطّة قال عنها ﷺ: ((دَخَلَتِ امْرَأَةٌ نارَ جَهنَّمَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ)) ، صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله المبعوث رحمةً للعالمين.
المُلْك كله لله تعالى
﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ﴾ [التغابن:1] فإذا صارت لك صلة بوزير فإنك تتباهى وتقول: أنا صاحب الوزير، أنا صديقه، وفي الأمس أخذتُ له هدية، وناداني، وقعدتُ عنده.
فلماذا لا تنظر إلى ملك الملوك؟ فتتقرَّب إليه بمحابِّه من الأعمال حتى يحبك، وتذكره حتى يذكرك، وتتقرَّب إليه حتى يتقرَّب إليك: ((إذا تَقَرَّبَ عَبدِي إليَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِرَاعًا، وإِذا تَقَرَّبَ إليَّ ذِرَاعًا تَقرَّبْتُ مِنْه بَاعًا، وإذا أَقبَلَ إليَّ يَمْشِي أَقبلتُ إلَيهِ هَرْوَلَةً)) ، وفي الحديث القدسي: ((أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي)) الوزير قد يستطيع في الشهر أو الشهرين أن يعطيك من وقته ربع ساعة، أما ربُّ العالمين فكل وقت هو حاضر، وإذا زرته لتجالسه يجالسك، كما يقول: ((أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي))، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((أَلَا أَدُلُّكُم عَلى خِيَارِكُمْ؟)) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ((خِيارُكُم مَن إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللَّهُ بِهم))، وكذلك إذا جالستَ أولياء الله وأحباب الله، ((خِيارُكُم الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا، ذُكِرَ اللَّهُ بهم، أَلَا أَدُلُّكُم عَلى شِرَارِكُمْ؟ الْمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ)) الذين ينقلون الخبر ولو صادقًا بما يكدِّر الطرف الثاني على الطرف الأول، ويكون صادقًا فيما نقل.. فلا يجوز أن تنقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على وجه التفرقة وإيجاد المِحَن في النفوس.
((الْمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ))، يفرِّقون الأحباب والأصحاب بعضهم عن بعض، ((الْبَاغُونَ لِلْبُرَاءِ الْعَنَتَ)) الذين يتقصَّدون أن يَنسبوا إلى الأبرياء أشياء ليست موجودةً فيهم، من أجل الفساد والفتنة والتخريب، يَنسب إلى شخص بريء من شيء فيقول: فلان فعلَ.. وهو لم يفعل، فلان تزوج.. وهو لم يتزوج، فلان ذهب.. وهو لم يذهب، لأجل الفساد والتخريب، ((الْبَاغُونَ لِلْبُرَاءِ)) بالضم وليس بالفتح، يعني للبُرَآء ((الْعَنَتَ)) حتى يُوقعوهم في المشقَّات وفي الفساد.. إلخ.
إن الهجرة إلى العالِم الوارث المحمدي الذي تُذكِّرُك اللهَ رؤيتُه، وتتعلَّم من مجالسه الحكمة، وتتفقَّه بالقرآن بما يُمكن أن تتفقَّه، هي الطريق إلى أن تحيا القلوب بالله عز وجل، وأنا أعرف كثيرين وكثيرات من أبناء وبنات هذا المسجد، ممن يسمعون تسبيح الجماد وذِكر الجماد لله عزَّ وجلَّ، ولكن هذا لا يدوم، لأنه لو دام فإن الإنسان لا يستطيع الراحة ولا المنام.
فمِن رحمة الله عز وجل أننا لا نسمع تسبيح كل من يسبِّح، فالسارية تسبِّح والكرسي يسبح.. ولَمَّا صُنِع للنبي عليه الصلاة والسلام المنبر، وكان من قبل يتَّكئ على جذع النخل ففارقه إلى منبره الجديد، بكى الجذع حتى سمع الصحابة بكاءه، فوضع النبي عليه الصلاة والسلام يده عليه كما تضع الأم يدها على طفلها عند بكائه حتى سكت وهدأ، وقال له: ((أَتُريدُ أَنْ أَغْرِسَكَ بالدُّنيا فتَرجعَ أَخضرَ كَمَا كُنْتَ أَو أَغْرِسَكَ فِي الْجَنَّةِ فَيَأْكُلَ مِنك عِبادُ اللهِ الصَّالحونَ؟)) وأصغى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: ((اخْتَارَ الآخرةَ عَلى الدُّنيا)) .
فالخَشَبَة تفهم وهناك أناس لا يفهمون، والحجارة تفهم وهناك أناس لا يفهمون، يقول النبي ﷺ: ((إذا تابَ العَبدُ تَوبةً نَصوحًا أَنسَى اللَّهُ مَلائِكتَهُ وَحَفَظَتَه وبِقاعَ الأرضِ خَطاياهُ)) ، ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ﴾ [النور:24]، ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ﴾ [الدخان:29].
لله تعالى الملك والحمد
﴿لَهُ الْمُلْكُ﴾ [التغابن:1] هل منكم من لا يحب أن يكون صاحبه رئيس الجمهورية، وأن يتقرَّب منك، وإذا تقرَّبتَ منه شبرًا يتقرب منك ذراعًا، وإذا تقرَّبتَ ذراعًا يتقرَّب منك باعًا، وإذا ذهبتَ إليه مشيًا يركض إليك هرولةً؟ هل منكم من لا يحب؟ أَلَا تحبُّون؟ فإذا لم يكن رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء، يمكن أن يكون قائم مقام، أو مدير مَخْفَر، [المَخْفَر: قسم الشرطة]، أو شرطي السير الذي يوقفك في الطريق إذا كنتَ في السيارة.
فكيف بمالك الكون، مالك السماوات بلا حدود؟ وقد ذكرتُ لكم أنَّ مجرَّتين اكتُشِفَتَا حديثًا بينهما وبين الأرض سبعة عشر مليار سنة بسرعة الضوء.
﴿لَهُ الْمُلْكُ﴾ [التغابن:1] يتودَّد إلينا ويتحبَّب إلينا، وأرسل رسالةً ليُسعدنا، أَلَا يجب أن تسبِّحه؟ الحقيقة أنك تسبِّح نفسك، فالله منزَّهٌ عن الحاجة لتسبيحك، وأنت عقيدتك بحاجة إلى تنزيه، فإذا قلتَ: “سبحان الله”، يعني أنزِّه عقيدتي من كل شيءٍ لا يليق بكمال الله عزَّ وجلَّ، والله كاملٌ مقدَّسٌ منزَّهٌ في تشريعه وأحكامه وصفاته وأقدراه.. فنسأل الله أن يرزقنا الفهم والفقه في الدين.
﴿وَلَهُ الْحَمْدُ﴾ [التغابن:1] لأنه بيده الخير، مَن الذي وهبك العينين؟ مَن الذي جعل لهما أبوابًا مغلقة عند الغبار أو التراب أو عند النوم وهي الأجفان؟ ومَن الذي خلق الأهداب؟ فإذا كان هناك غبار وأغمضت عينيك فلا ترى، فشعر الأهداب مثل الشَّبَك ترى أمامك من غير أن يدخل الغبار إلى عينك، ومَن الذي جعل الدمع مثل التَّزْيِيْت الدائم؟ فلو كانت العين والأجفان من فولاذ لذابت من الحركة، ومع أنها عضو لطيف وبسيط إلا أنها تدوم خمسين وسبعين ومئة سنة ولا تذوب، لأنَّ هذا العضو يتشحَّم ويتزيَّت في كل لحظة، ولو زاد الزيت لسالت دموعك.. وفي فمك ست غُدد تفرز اللعاب بقَدَرٍ، فلو زاد سال لعابك على ثيابك، ولو نقص لجفَّ حلقك، فلا تستطع أن تبتلع الطعام ولا أن تنطق بالكلام، أليس له الحمد؟
رجلاك جعلهما بمستوى واحد، فلو كانت واحدة منهما أزيد من الثانية بخمسة سنتيمترات لكنتم كلكم عرجانًا، ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون:14]
عندما تضع الكأس على فمك كيف ستشرب لولا الشفاه؟ كنتَ ستستلقي على ظهرك ويضعون لك القمع، وإذا نسيتَ القمع فإن ثلاثة أرباع الكأس تخرج خارج الفم، وإذا وضعوها لك صبًّا تختنق.. فهل تشكر الله عزَّ وجلَّ على نعمة الشِّفَاه؟ أليس له الحمد؟ أليس له الشكر؟
القدرة الإلهية في كل التفاصيل
﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التغابن:1] قادر على العاصي أن يُنهيه بلحظة، هل تستطيع أن تمشي أمام شرطي السير على اليسار؟ أما إذا كان الشرطي غير موجود فإنك تُخالف، وإذا كانت الإشارة حمراء والشرطي موجود فهي تستطيع أن تُخالف؟ لا، لماذا؟ لأنه حاضر، أما إذا لم يكن موجودًا فإنك تُخالف.
فلماذا تُخالف الله عزَّ وجلَّ؟ هل تعتقد بوجوده أو بِغَيبَته؟ أليس هو ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ [الأنعام:73]؟ أليس ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:10]؟ هل آمنتَ بهذه الجملة من القرآن؟ وإذا آمنتَ بها هل تستطيع أن تعصي الله عزَّ وجلَّ بعينك أو بأذنك أو بلسانك أو بيدك أو برجلك أو بفكرك؟ ﴿وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [الأعراف:205]، ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:41].
وهل يمكن أن تتعلَّم اللغة الإنكليزية بلا معلِّم، والنِّجارة بلا نجار؟ فكيف تتعلَّم العلم والحكمة والتزكية وتصير من خير أمةٍ أُخرِجت للناس بلا معلم ولا حكيم ولا مزكٍّ؟ هل يمكن إذا زرعنا الشوك أن نجني العنب؟ وإذا تركنا الأرض بورًا هل يمكن أن تُنبت لنا التين والزيتون؟ ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول: ((طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)) ، و((لَيسَ مِنِّي إلَّا عالِمٌ أو مُتعلِّمٌ)) .
﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التغابن:1] فلئن أخَّر العاصي ولم يعاقبه فلأنه ذَكَر في دستوره القرآن: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ [فاطر:45].
العطاءات الإلهية
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [التغابن:2] عندما تصاب بأقل مرض تلجأ إلى الطبيب وتذهب إلى المستشفى وإلى أوروبا حرصًا على البقاء وعلى الحياة، فمن الذي أعطاك البقاء والحياة والوجود؟
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [التغابن:2] فهل شكرتَه على نعمة الوجود؟ وهل شكرته على نعمة العينين؟ ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ﴾ [البلد:8] إنه يذكِّرك، وهل دفعتَ ثمنهما؟ عندما تفقد عينًا واحدةً هل يستطيع كل أطباء العالم أن يرجعوا لك عينك؟ إنك ترضى أن يُرجعوها عينًا تبصر بها ولو كانت عين خاروف أو كلب أو جرذٍ أو هِرّ، والله عزَّ وجلَّ أعطاك عينين متشابهتين وأذنين مع أنَّ عينًا واحدة تكفي، لكنه خلق لك عينًا أخرى احتياطًا، والرئتان تكفي منهما واحدة، والكليتان تكفي منهما واحدة.
﴿لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [التغابن:1-2]، ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ [النحل:78]، ﴿سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [الحج:65]، ﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ [الأنعام:95]، ﴿خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ [الروم:21]، ومن التين والأعناب ﴿ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا﴾ [فاطر:27].
حرية الاختيار
مقابل كل هذه العطاءات بماذا قابلتَه؟ قال: ﴿فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ [التغابن:2] سبحان الله! كل هذا العطاء، وكل هذا الإحسان من نعمة الوجود والخلق إلى ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل:18]، فلماذا منكم مؤمنٌ ومنكم كافر؟ لأن الله عزَّ وجلَّ كرَّم الإنسان وجعله حُرًّا مختارًا، ولو شاء لجعلهم كلَّهم مؤمنين قال: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء:4]، ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [هود:118].
المشمشة لا تصير جوزًا، لأنه شاء أن تكون مشمشًا فقط، أما أنت فقد كرَّمك وجعل لك الحرية الكاملة فيما تعتقد وتختار، وأعطاك عقلًا إن استعملتَه بعيدًا عن الهوى والأنا فإنه يدلُّك على الخير، ويهديك إلى صراطٍ مستقيم، لكن ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الفرقان:43] الهوى يغلب على العقل ويغلب على العلم، أمَّا الإيمان والتقوى بمعناه الحي فيتغلَّب على الهوى والأنا، ومن هنا تكون سعادة الإنسان في دينه ودنياه.
قال: ﴿فَمِنْكُمْ كَافِرٌ﴾ [التغابن:2] ولم يجبرك الله على الكفر فلا طريق لك إلا الكفر، بل هذا باختيارك، وذلك باختيارك لجلسائك وأصحابك ومدرستك، فما تغذي به عقلك وفكرك من معلومات تَنْهَضِم وتتمثل أعمالاً وأخلاقاً وعقيدة.. هذا باختيارك لجلسائك وأصحابك وأصدقائك، ﴿وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ [التغابن:2] وكذلك المؤمن باختياره وإرادته، وهذا كله بتوفيق الله عز وجل.
﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [التغابن:2] معنى بصير أي سيحاسبكم، لأنه لا تخفى عليه منكم خافية في أنفسكم وفي أعمالكم، في جمعكم وفي انفرادكم، ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ﴾ إذا كان ثلاثة يسهرون ويتناجون ويتحدثون مع بعضهم ﴿إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ﴾ حتى لو كان واحدًا وحده أو كانوا اثنين، ﴿وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [المجادلة:7] معنى ينبئهم: ليحاسبهم ويثيبهم أو يعاقبهم.
الإيمان يكتمل بالعمل
هل نحن مؤمنون بهذا القرآن وبهذه الآيات؟ وهل أعمالنا تدلُّ على إيماننا؟ الإيمان بالقول سهل، أمَّا الإيمان بالعمل فهو الذي عليه المُعَوَّل
وَإذا الْمَقالُ مَعَ الفِعالِ وَزَنتَه
رَجَحَ الفِعالُ وَخَفَّ كُلُّ مَقالِ
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا ﴿مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة:41] عندما تؤمن من قلبك بأنَّ لدغة الأفعى قاتلة فهل يسمح لك هذا العلم والإيمان أن تضع أصبعك في فمها؟ فإذا قلتَ: إن سُمَّها قاتل، وهذه لونها كذا وصفاتها كذا.. ثم وضعتَ أصبعك في فمها فهل هذا يدلُّ على العلم أم على الجهل؟ هذا يدل على الجهل العملي، وعلى العلم الذي لا ينفع، وهو الذي استعاذ منه النبي عليه الصلاة والسلام كما يُستعاذ من الشيطان: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ)) ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن علمٍ لا ينفع، إياك أن يكون علمك مثل الشيطان يُستعاذ بالله منه.. “اللهم ارزقنا علمًا نافعًا”، والعلم النافع هو ﴿لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق:37]، والقلب من أين تأخذه؟ قُدُور الطبخ من أين تأخذها؟ من “العَصْرُوْنِيَّة” أو من “سوق النَّحَّاسِيْن”، [العَصْرُوْنِيَّة وسوق النَّحَّاسِيْن: سوقان في دمشق القديمة تُباع فيهما الأدوات المنزلية]، والرّزّ والسكر والشاي مِن أين تأخذها؟ وإذا ذهبتَ إلى سوق التبن وقلت للبائع: هل عندك شاي؟ أَلَا يضحك من كلامك؟ وقد يقول لك: أنا عندي شاي، لكنه شاي الحمير، وهو أرخص من شاي “البُزُوْرِيَّة” [البُزُوْرِيَّة: سوق شعبي في دمشق القديمة تُباع فيه البذور والحبوب وغيرها من الأطعمة كالسكر والشاي وما شابه]، تقول له: بكم الكيلو؟ يقول لك: بليرة سورية، فتشتري.. [تشتري التبن بدل الشاي]: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾ إذا استبدلتَ ثمرتَها: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾ يعني اشتهيتم ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [البقرة:61].
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا من يُعينُنا على أن نتخلَّص من الهوى، وينقلنا إلى التقوى، وينقلنا من الجهل إلى العلم بمعناه القرآني والنبوي، ومن الفوضى والحمق إلى الحكمة التي ذكرها القرآن العظيم، ومن تَدْسِيَة النفس إلى تزكيتها: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس:9-10] لقد خاب، خاب يا بني! فهل تسمع نصيحة الله؟ هل تصدق الله؟ هل تؤمن بكلام الله؟
وبماذا تكون التزكية؟ كانوا يهاجرون ويتركون أموالهم وأولادهم ونساءهم، ويتحمَّلون العذاب حتى يَصِلوا إلى النبي ﷺ، إلى مدرسة التزكية والعلم والحكمة.
الدعوة إلى التفكر في خلق الله تعالى
﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ [التغابن:3] كل شيء قائم على نظام وعلى قانون إلهي: ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾ [الملك:3] ابحث، دقِّق هل ترى من خلل في صنع الله وفي خَلْق الله؟ انظر إلى البعوضة، فيها الدورة الدموية وأعصابها وقلبها ورئتيها وشرايينها وعيونها.. ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ [الأعلى:3]، ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ [الملك:3].
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا﴾ [ص:27] ليس هناك شيء إلا خُلِق بحكمة ولغاية، لذلك فإن الشعوب المتحضِّرة تدرس الآن كل شيء في هذا الوجود، تدرس الديدان في قيعان البحار، وتدرس الذباب، وتدرس البَرْغَش، [البَرْغَش: حشرات تشبه البعوض وأصغر منها، وأجنحتها تشبه أجنحة الفراشة، تأتي إلى الأماكن الرطبة في البيوت، وتكثر على بقايا الفواكه والخضار]، وتدرس الطيور والأسماك والأعشاب والشوك، ولا تدع شيئًا، ونتيجة الدراسة: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ [آل عمران:191].
أما المسلمون.. فرحم الله الشيخ محمد عبده، كان يقول
وَلَستُ أُبالي أنْ يُقالَ: محمَّدٌ
أَبَلَّ أَمِ اكتَظَّتْ عَلَيهِ الْمَآتِمُ
وَلَكِنَّهُ دِينٌ أَردتُ صَلاحَه
أُحاذِرُ أنْ تَقضِي عَلَيهِ عَمائِمُ
وَلِلنَّاسِ آمالٌ يُرَجُّونَ نَيلَها
إذا مُتُّ ماتَتْ وَاضمَحَلَّتْ عَزائِمُ
“أن يقال محمدٌ”: هو محمد عبدُه لَمَّا كان مريضًا، “أبلَّ”: شُفِيَ، “أم اكتظت عليه المآتم”: أنا لستُ خائفًا من الموت.. “إذا متُّ ماتت”: قال هذا القول من حرصه وإشفاقه على المسلمين وعلى تخلُّفهم وضعفهم وتمزُّقِهِم.
وكان في الحقيقة -رحمة الله عليه- ثورةً مجدِّدةً للفهم الإسلامي، وأتى بعده من مدرسته علماء كبار مثل الجوهري الطنطاوي والشيخ رشيد رضا رحمه الله، وصار التَّوَجّه في كل العالم الإسلامي نحو وحدة المسلمين، ونحو إزالة هذه الفوارق التي باعدت بين المسلمين، وعادَت بين المسلمين، مع أن آثارها لا تزال باقية إلى الآن، وإن كانت إن شاء الله في اضمحلال وفي زوال.
وحدة المسلمين أهم واجب عليهم
هذه الإزالات لا تكفي، وهي إزالات للأمور السلبية، أما ما نحتاج إليه أيضاً فهو الأمور الإيجابية وهو البناء، فنبني إسلام القرآن، الذي هو علم وعقل حكيم وأخلاق فاضلة، ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ [المؤمنون:52].
وكُتبُنا التي تسمَّى الدينية واللهِ فيها أشياء وأشياء وأشياء.. لذلك يجب أن يكون مرجعنا القرآن، والمسلمون أمةٌ واحدة، وكل من قال: “لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله”، يُقبَل ولو فيه تقصيرات، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يَقبَل هذه الكلمة من منافقٍ، وهو يعلم كفر قلبه في باطنه.
المقداد بن الأسود -وفي رواية غيره، أو في واقعة أخرى- كان يُصارع كافراً في إحدى المعارك، فلمَّا صرعه قال: “لا إله إلا الله” فقام عنه، فلما قام غدر به الكافرُ وهاجم المقداد، وأعاد الكرة ثلاث مرات، ثم في المرة الثالثة قتله بعدما قال: “لا إله إلا الله” فذكر ذلك للنبي ﷺ فقال: ((ما تَقُولُ في “لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ” إذا أَتتْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُسائِلُكَ عَن دَمِه؟)) قال: يا رسول الله قَالَهَا تَعَوُّذًا، فقال ﷺ: ((لا عَنْ قَلبِه شَقَقْتَ، وَلا كَلامَهُ صَدَّقْتَ)) .
نحن لنا الظاهر، فتجد المسلم المصلِّي الصائم قد يُخالِفُك ببعض الأشياء، ولكن هذا لا يُخْرِجه من الإسلام، فأمامنا العدو الأكبر الآن، وهو الصليبية المتحالفة مع الصهيونية ومع الإلحاد للقضاء على الإسلام، بفتنٍ توجدها في البلاد الإسلامية فتَقْتُل المسلمين بعضَهم ببعض.
فالذي يقول: “لا إله إلا الله”، يجب أن نضع نعله على رأسنا، وليكن مخالِفًا خمسين مخالفة فيما بيننا وبينه، فهذا لا يُخْرِجه من الإسلام.. فما لم يرجع المسلمون للقرآن ولهدي النبي عليه الصلاة والسلام، وهي مدرسة القرآن ومدرسة رسول الله ﷺ لن ينجحوا.
ترك التعصب للمذاهب
والمذاهب فيها تعصُّب وتزمُّت وشقاق، وهذا في كل الكتب الإسلامية وكل المذاهب.. في كتب الشافعية والأحناف، بعضهم يقول: هل يجوز أن يتزوج الشافعي بحَنَفِيَّة؟ [سماحة الشيخ يسأل الحضور:] هل يجوز؟ مَن يقول: يجوز فليرفع أصبعه، أنا أقول: لا يجوز، إذ هل يجوز أن يتزوج الإنسان من “حَنَفِيَّة الماء”؟ [سماحة الشيخ يقول ذلك ملاطفاً وممازحًا، ويضحك ويضحك الحضور.. والحَنَفِيَّة: في اللهجة السورية هي صُنْبُور الماء]، ولكن المراد بالحنفية التي مذهبها حنفي، والجواب كما في بعض الكتب الفقهية، قال: نعم يجوز قياسًا على الكتابية، هل هذا دينٌ؟ هل هذا فقه؟ والله إن الجهل خيرٌ منه، هذا كان يسمَّى الفقه والعلم.. إلخ.
رحم الله الشيخ محمد عبده، قال
وَلَكِنَّهُ دِينٌ أَردتُ صَلاحَه
أُحاذِرُ أنْ تَقضِي عَلَيهِ عَمائِمُ
وَلِلنَّاسِ آمالٌ يُرَجُّونَ نَيلَها
إذا مُتُّ ماتَتْ وَاضمَحَلَّتْ عَزائِمُ
“إذا متُّ ماتت”: ولكن إذا مات لا تموت، فالله موجودٌ، والله أكبر، ولكن قال هذا من حرصه وغيرته وإخلاصه رحمة الله عليه، وأنا إذا متُّ.. ومن أنا يا بني! فخزائن الله مليئة، وأنا “بَرْغَشَة”، وغيري عليه أن يرى نفسه برغشة، [البَرْغَشة: جمعها بَرْغَش، وهي حشرة تشبه البعوضة وأصغر منها، وقد مر التعريف بها قبل قليل]، والفضل فضل الله، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:9].
اللقاء الأول بروجيه غارودي وعلى يد مَن أسلم
واليوم يقوم بالدعوة الإسلامية روجيه غارودي، وهوفمان، والسفير الألماني، وكلُّ واحد منهم فيلسوف من فلاسفة أوروبا، وذكرتُ لكم في الجمعة الماضية عن فيلمٍ استغرق صنعه أكثر من سنتين يُعرَض في تلفزيون لندن للتعريف بالإسلام.. هذا شُغْل [تدبير] الله عزَّ وجلَّ، وهذا دينه، وإن كنا لا نغار فالله يقول: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ [محمد:38] وهؤلاء الذين يدخلون في الإسلام حديثًا ينتقدُون التعصُّبات المذهبية، ولا يعترفون بها، بل يقومون بالدعوة بالرجوع إلى قرآن الله عزَّ وجلَّ وكتابه المشروح بسنة رسول الله ﷺ في أقواله وأعماله وتقريره، فَلْنَفهم مثلما يفهم هؤلاء المسلمون الجدد.
روجيه غارودي أول لقاء التقيتُ به في ليبيا، مَن كان معي منكم مِن الموجودين؟ محمد شيخاني ومروان شيخو والشيخ أحمد راجح والشيخ صالح السقا، [كل هؤلاء كانوا من تلامذة سماحة الشيخ الذين تربوا عنده منذ صغرهم، وكان الشيخ أحمد راجح والشيخ صالح السقا من الجيل الأول، وكان الدكتور محمد شيخاني والأستاذ مروان شيخو من الجيل الثاني.. رحمهم الله جميعاً].. وروجيه غارودي كان نائب رئيس المجلس النيابي في فرنسا، وفيلسوف الحزب الشيوعي في فرنسا، ويعتبر من أكبر الكتَّاب والفلاسفة في أوروبا، وقد أسلم وكان مصدر إسلامه من هذا الجامع، أسلم على يد الدكتور مدحت شيخ الأرض الذي هو أحد مريدي شيخنا وهو سفير السعودية في جنيف، كما أخبرني وأراني شهادة الإسلام بإمضاء الدكتور مدحت شيخ الأرض، وفي أثناء ما كنتُ أتكلم معه قام من كرسيه وقبَّل يد الإسلام، ثم أتى إلى دمشق بعد سنة، فجلستُ معه ورأيتُ حرارة إسلامه قد انخفضَتْ من مئة إلى خمسين، فدُهشتُ وتحرَّيتُ السبب في مجالسةٍ، وإذ به قد اجتمع ببعض المشايخ وقد خَرَّبوا إسلامه.
نرجع للشيخ محمد عبده
وَلِلنَّاسِ آمالٌ يُرَجُّونَ نَيلَها
إذا مُتُّ ماتَتْ وَاضمَحَلَّتْ عَزائِمُ
“إذا مت مات”: ولكنها لا تموت، ففضل الله كبير، و((أُمَّتِي كالمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ)) ، ولكن هذا من خوفه وحرصه على الإسلام، رحمة الله عليه.
فيا ربِّ إنْ قَدَّرتَ رُجعَى قَريبةً
إلى عالَم الأَرواحِ وَانفَضَّ خاتِمُ
“إلى عالم الأرواح”: إذا متُّ.
فبارِكْ عَلى الإسلامِ وارزقْهُ مُرشِدًا
رَشِيدًا يُضيءُ النَّهجَ وَاللَّيلُ قاتِمُ
يُماثِلُني نُطقًا وعِلمًا وحِكمةً
وَيُشبِهُ مِنَّي السَّيفَ وَالسَّيفُ صارِمُ
“ويشبه مني السيف”: أي إذا أراد أن يعمل عملًا فإنه يقطع، ولا يكون مثلَّمًا لا يصل للهدف.
وأبشروا، وأبشروا، وأبشروا، فمع كل ما نرى من ظلمات بعضها فوق بعض، وسحب داكنة فإن الإسلام أتٍ لا ريب فيه، وسيشمل العالَم كله، مصداقًا لقول رسول الله ﷺ.
وكلٌّ منَّا “بِحَسَبِه” [وعلى قدر طاقته يقوم بالدعوة] في أهله أو في جيرانه أو في إخوانه أو في أصحابه أو في سوقه أو في دائرته، والحمد لله فأنا في حياتي لم أجد إنسانًا لا خير فيه.
تصوير الله للإنسان في أحسن صورة
﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ [التغابن:3] لو جعل الله لكم قرونًا، هل هذه صورة حسنة؟ إذاً لكان أحدكم إذا قعد يقول للآخر: أبعد قرنك عني.. ولو جَعَل للإنسان ذيلًا أو شعراً يكسو جسده، أو لو أمشاه على أربع أو على بطنه هل يكون حسن الصورة؟
﴿وَصَوَّرَكُمْ﴾ [التغابن:3] أعطاه عقلًا يطوف به حول الكواكب، وسخَّر له كل ما في الأرض من حيوان ونبات ومعادن، وأرسل إليه الأنبياء والرسل ليجعل من الإنسانِ العالِمَ الحكيمَ الفاضل.
﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [التغابن:3] أي هناك حساب، فهل شكرتم الله على نعمه وعلى ما صوَّر وعلى ما أعطى؟ ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [المائدة:97] كلَّ شيء في هذا الوجود، ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام:59].
﴿وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [التغابن:4] الآن أنت في جلستنا هذه بِسِرِّك وبقلبك هل نويت أن تفعل شيئًا لنفسك لئلا تكون مغبوناً؟ وهل فتَّشت نفسك إن كنت مغبوناً أم رابحاً؟ ارجع واعمل حسابًا ليس على عجل، بل بالتأنِّي.. هل عينك رابحة؟ هل أذنك رابحة؟ هل لسانك رابح؟ هل ليلك رابح؟ هل تجارتك رابحة؟ [لما تتاجر مع الله] فإنك تربح الله عزَّ وجلَّ مع المال، وفي دراستك تربح الدراسة ومعها الإسلام.
الأخوة الإيمانية تحتاج إلى مربِّي القلوب ليعيد زرعها
﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة:71] الآن هل المسلمون بعضهم أولياء بعض؟ ليس مجرَّد أحباب، بل يجب أن يوالي بعضهم بعضاً ويناصر بعضهم بعضاً، ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يُسْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ)) ، والآن المسلمون في موضوع البوسنة والهرسك مثلًا، هل بعضهم أولياء بعض؟ هل العالم الإسلامي والمؤتمر الإسلامي الذي يضم أكثر من خمسين دولة هل فعلوا ما يُوجبه الإسلام عليهم من نصرة إخوانهم؟ اللهم لا.
في فلسطين، لو قمنا بقطيعة دبلوماسية للدول التي تناصر الصهيونية.. والشجاعة من الإيمان، فلِمَ لا نفعل؟ الإسلام يحتاج إلى زَرْع جديد وغَرْس جديد.. الفول لا يَخُرُج بلا مُزارع، والنافذة لا تصير بلا نجَّار، والإسلام الذي تصير به عالِمًا حكيمًا فقيهًا مزكًّى ومزكِّيًا هل يصير وحده؟ وهل تصير مسلمًا بمجرَّد أنك محمد بن محمود؟ [هل تصير مسلماً بمجرد الاسم والنسب؟]
مولانا خالد كان رئيس علماء العراق، وَجَد نفسه مع كل مكانته العلمية يحتاج إلى التزكية، فذهب إلى الحج لعله يلقى العالِم المزكِّي، فاجتمع بشيخه الشيخ عبد الله الدهلوي، فقال له: تعال إليَّ إلى الهند، فهاجر إلى الهند، وبقي في مدرسته ثمانية أشهر، مع الله خلوةً وذِكرًا وتوجُّهًا، فنال الشهادة التي تفوق خمس مئة ألف دكتوراه، فنوَّر اللهُ عزَّ وجلَّ به الشرقَ الأوسط كلّه.
فإذا لم تذكروا الله الذكر الكثير، ولم تتوضَّؤوا وضوء القلب لتكونوا أهلًا لمجالسة الله المجالسة المقدَّسة، ولم تتقدَّس النفوس والقلوب [وتتطهر] من الخطرات ومن تصوُّر المعصية والمخالفة والغفلة عن الله فلن تصيروا إلى حيث ما ذكر الله: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة:71].
من آداب الدعوة إلى الله
ثم قال: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [التوبة:71] وأنت هل تأمر بالمعروف إذا وجدتَ شخصًا تاركًا لفريضة؟ الناس لا يخطر ببالها هذا، وبعضهم يقول: إن حدثتُه سيزْعَل [سيغضب].. يا أخي مُرْهُ بالحكمة والموعظة الحسنة، وإذا غضب فَلْيغضب، أغضِبْه في سبيل الله.. مع أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن لا يكون بشكل مُغضِبٍ: ((مَنْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ فَلْيَكُنْ أَمرْهُ بِمَعْرُوفٍ)) .
تَواضَع له كما فعل النبي ﷺ حين أتى إليه عدي بن الحاتم وهو نصراني، فخلع النبي ﷺ رداءه ووضعه له وأجلسه عليه .. إذا علم أحد المتزمِّتِين بهذا الفعل يقول: هذا يُكرِّم الكفار، أليس كذلك؟ وإذا فعلها شيخ مع خُوْرِي يقولون: يا لطيف يا لطيف يا لطيف! انظروا! لقد وضع جبَّته وأقعده عليها؟ أعوذ بالله! مع أن النبي ﷺ وضع رداءه لعديٍّ وكان نصاريًّا.
وفتح ﷺ مسجده لنصارى نجران ليُصلُّوا صلاتهم الكنسية التي هي باسم الآب والابن وروح القدس، هل يجوز؟ الآن لو فعلناها في جامعنا، بأن أتانا وفدُ نصارى، وصار وقت صلاتهم، وقلنا لهم: صلُّوا، ألا “يَحُطُّون عِرْضَنا على بَيْرَق؟ [مثل شعبي بمعنى: ألا يفضحنا الناسُ وينتقدوننا أشد انتقاد، ويرمون عَرْضنا وشَرَفنا بأقبح الكلمات؟]، مع أنَّ هذا إنكارٌ لسنة النبي ﷺ، فسنة النبي ﷺ هي طريقة النبي ﷺ في الدعوة وهداية الخلق، وهي تختلف بحسب الزمان والمكان والإمكان والإنسان والأشخاص، فالقرآن في مكة أسلوبه غير أسلوبه في المدينة، والنبي ﷺ كان في حال الضعف على شيء، وفي حال القوة كان على شيء آخر.. إلخ، وهذا من الحكمة، ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة:269].
الله تعالى يعلم السر وأخفى
﴿وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [التغابن:4] قل لي ماذا يوجد في قلبك؟ إنك تستحي.. ولكن الله يرى، فهل تستحي مني، ولا تستحي من الله؟ لأنك غافل عن الله، لذلك علينا أن نذكر الله، ليس فقط بالمسبحة وقت الوِرد، وبعد الوِرد ننسى الله عزَّ وجلَّ، بل عليك أن تذكر الله تعالى في السوق عند البيع والشراء، وعند الغضب، وعند الهوى، وعند المصلحة، وعند الربح، ومع الناس ومع غير الناس، وكل ذلك مقروناً بالحكمة.
وإن الإسلام وحدةٌ كاملة: علمٌ وحكمةٌ وتزكيةٌ، والعلم يحتاج إلى معلِّم، والحكمة تحتاج إلى الحكيم، والتزكية تحتاج إلى المزكِّي، فهل فتَّشتَ عن العالِم المعلِّم الحكيم المزكِّي؟ فإذا أردتَ أن تتعلَّم اللغة الإنكليزية ألا تُفتِّش عن العالِم؟ وإذا ذهبتَ إلى “حَلْبُوْن” لتتعلَّم اللغة الإنكليزية، [حَلْبُوْن: قرية في ريف دمشق، تشتهر أن لأهلها لهجة خاصة تختلف عن لهجة أهل دمشق]، وتعلَّمتَ لهجتهم على أنها الإنكليزية، فهل هذا يمكن؟ فنسأل الله أن يُلهِمَنَا الحكمة والفقه في الدين.
بعد أن قال: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ قال: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [التغابن:4] فَلْنَخجل من الله عزَّ وجلَّ، وَلْنحاسب أنفسنا، وَلْننظر في ضمائرنا، وَلْننظر هل نحن عازمون وصادقون لنحقق إيماننا وإسلامنا الذي منه أن نقوم فنعلِّم الآخرين ونذكِّر الغافلين ونعلِّم الجاهلين ونُقرِّب بين المسلمين؟
ليست العظمة أن تقهر عدوك بل أن تحوله إلى صديق
ما أحوج المسلمين في هذا الوقت إلى التضامن وإلى الحكمة، ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت:34] العَظَمة لا أن تقهر عدوَّك، بل العَظَمة أن تحوِّل عدوك إلى صديق، ﴿كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت:34].
النبي عليه الصلاة والسلام لَمَّا بلغه وفاة زوج أم حبيبة بنت أبي سفيان، وقد كان أبو سفيان أعدى أعداء النبي ﷺ وكانت أم حبيبة رضي الله عنها مهاجرة، وزوجها عبد الله بن جحش توفي بالحبشة بعد أن تنصَّر، فأرسل النبي ﷺ إلى النجاشي ليخطِبَها لنفسه.
وفي المدينة وعند الصحابة وأحباب النبي ﷺ أَلَا يوجد نساء؟ أعدى أعدائه أبو سفيان وهو قائد العداوة المُرَّة، ويخطب ابنته الموجودة في القارة الثانية؟! هذه هي السياسة! فالنبي ﷺ هل كان سياسيًّا؟ كان أعظم سياسيٍّ وُجِدَ في العالَم، ولم يُخطِئ في سياسة ولم يفشل في سياسة.
فلما بلغ أبا سفيان الخبر نزلت عداوته من مئة إلى خمسين بالمئة، فالنبي ﷺ صار صهره، فقال: “هو الفحل لا يُضرَب على أنفه” ، وعند فتح مكة قال سيدنا العباس رضي الله عنه للنبي ﷺ: يا رسول الله إنَّ أبا سفيان رجل يحبُّ الفخر، فاجعل له منه نصيبًا، فقال: ((مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ)) .
هذه هي سنة النبي ﷺ.. اللحية أمرها سهل، وحَفُّ الشارب ووضع العمامة مسألة سهلة، أما سنة النبي ﷺ فهي في ميدان بناء الأمة والدولة والدين، وعلى المستوى العالمي، حيث لم يمض أقلَّ من مئة سنة إلا والمسلمون في قلب فرنسا، وتجاوزوا حدود الصين، وكانوا كلهم لا يزيدون على مئتي ألف، والآن المسملون مليار، وفلسطين منذ خمسين سنة.. وكلُّنا يعلم الحال، فهل هذا يدلُّ على الإسلام الحقيقي؟
لا نريد مَن هُمْ خارج الجامع، أنتم مَن في الجامع عليكم أن تُسلِموا الإسلام الحقيقي، واحفظوا عنوان التغابن، لأنه سيأتي بعد هذه الآيات: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [التغابن:9] هل هؤلاء مغبونون؟ لا، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [التغابن:10]، فاختر إمَّا أن تكون رابحًا أو مغبونًا.
ونسأل الله أن يجعلنا من الرابحين لرضاء الله بفهم كتابِ الله؛ كتابِ الله المشروح بسنة رسول الله ﷺ المتلاقية مع القرآن، وأن لا يجعلنا من المغبونين في سهراتنا ولا في أصحابنا ولا في كلامنا ولا في شبابنا ولا في غِنانا ولا في فقرنا، وأن يجعلنا من الرابحين لرضاء الله.. واللهِ إن رضاء الله يعود عليك بالربح في دينك وفي دنياك.