معنى التغابن
نحن في تفسير سورة التغابن، وكلمة التغابن مشتقة من الغَبْن، والغَبْن كما يحصل للبائع إذا باع سلعته بثمنٍ بخس فغُلب فيه وغُبِن في السعر، أو اشترى سلعةً بأكثر من ثمنها الحقيقي، وذلك من طريق الغش أو التغرير أو التدليس، وهذا يُسمّى مغبوناً.
وهذه العملية تُسمَّى التغابن، وهي خسارة البائع أو المشتري إذا خسر خسارةً أكثر من المعتاد بطريق الغش أو التدليس أو الجهل، وقد ورد في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((مَنِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ، ومن لم يكن يومه خيراً من أمسه)) ومن لم يكن يومه في العلم والتقوى والإيمان خيراً من أمسه، ((فهو محروم))، ((ومن لم يكن في زيادةٍ فَهُوَ في نُقْصَانٍ)) ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ [طه:114]، ((ومن كان في نقصان فَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ)) .
الإسلام إذاً ذمَّ التغابن، فعلى المسلم أن لا يكون مغبوناً في كل ما ينفعه من أمر دينه أو دنياه أو في ميدان العلم أو التقدُّم، وكذلك في كل ميادين الحياة، ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة:201]، ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ [طه:114] ((ومن لم يكن في زيادةٍ فَهُوَ في نُقْصَانٍ)).
فالإسلام كلُّه تقدّمٌ إلى الأمام، تقدّمٌ في كل ما يرفع ويُعزّ ويُعَظِّم شأن الإنسان في تحقيق سعادته، سواء منها الجسدية أو الروحية أو الفكرية، وسواء الحياتية؛ وبكل أنواع الحياة.
[يحضر في هذا الدرس ضيوف ألمان، لذلك يسأل هنا سماحة الشيخ المسؤولين عن الترجمة إن كانت ترجمة الدرس تصل إلى الضيوف ويسمعونها بشكل جيد].
الصحابة كالنجوم
هذا العنوان فهمه أصحاب رسول الله ﷺ وتلامذته من عَظَمَةِ مُعلِّمِهم ومزكِّيهم الذي علَّمهم الكتاب؛ علَّمهم علوم القرآن التي فيها عزَّتهم ونصرهم وتقدُّمهم العقلي والعلمي والأخلاقي والروحي والرباني، حتى صاروا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وحتى صاروا كالنجوم التي يهتدي بها المسافرون في صحارى الليل المظلمة أو في البحار المحيطِيَّة، فالمسافرون في البرِّ والبحر لم تكن عندهم البوصلة، فكانوا يهتدون بنجوم السماء، وكما كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ)) والاصطلاح العام أنَّ كل من رأى النبي عليه الصلاة والسلام وهو به مؤمن يقال له: صحابي، لكن النبي ﷺ قد يكون أراد معنىً أخصَّ من هذا، وهو اللاصقون به اللصوق الخاص الزائد، ولذلك كان يقول: ((هلّا تَارِكُوا لِي صَاحِبِي؟)) وقد كان يخاطب أشخاصاً مؤمنين به وناظرين إليه.. وعلى كل حال فالله سبحانه وتعالى أعلم.
وكان يقول: ((الْعُلَمَاء هم النُّجُومُ الذين يُهْتَدَى بِهم))، هم نجوم الأُمَّة التي تهتدي بنور علمهم، سواء في ميدان العقل أو ميدان الروح أو ميدان الحياة، ((الذين يُهْتَدَى بِهم، فإن غابت النُّجُومُ ضَلَّت الْهُدَاةُ)) ، [حيث يضل الذين يهتدون بالنجوم إذا غابت عنهم وهم يسافرون في البحار].
والمسلم لا يكون مغبوناً، لذلك عليه أن لا يبيع حياته الخالدة بحياة فانية، وأن لا يبيع حياته العلمية بحياة الجهل والجاهلية، وأن لا يبيع حياته الروحية بحياته الجسدية.
يا خادم الجسم كم تَشْقَى بخدمته وتَحْسِبُ الربحَ مما فيه خسران
أَقْبِلْ على النفس فاستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
فأنت بالنفس وبالروح لا بالجسم إنسان.
من هو المعبود؟
يقول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [التغابن:1] من هو الإله المعبود الذي يجب أن تخضع لحكمته العقولُ وتمتلئ بمحبته وعشقه الأرواح والقلوب؟ من هو هذا الإله؟ هل هو إنسانٌ يأكل ويشرب، وينام ويستيقظ، ويبول ويتغوط، ويقوى عليه إنسانٌ مثله بضربٍ أو قتلٍ أو إهانة؟ من صفات الله عز وجل أنه على كل شيء قدير، ومن صفاته العظيم، فلا أعظم منه، والعزيز فلا مثيل له.
لمحة عن السماوات
هذا الإله يُسبِّح له ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [التغابن: 1] السماوات في عصرنا الحديث هي ما خرج عن محيط كوكبنا الأرضي في عالم الفضاء.. ومن آخِر ما اكتشفه العلماء قريباً مما خرج عن محيط كوكبنا الأرضي مجرَّتين.. والمجرة هي مجموعة النجوم.. وفي مجرتنا أرضنا وشمسنا.
ونجومنا في وجهَي سطح الأرض تمثِّلان في نظر الناظر ستة آلاف نجم، وهذه التي تُرى بالعين المجردة، بينما عدد النجوم في مجرتنا آلاف الملايين، والتي أرضنا وشمسنا وقمرنا ونجومنا فيها.. والنجوم هي الشموس المشتعلة، والكواكب هي الأراضي المتجمدة، فيقال لأرضنا كوكبٌ ولا يقال لها نجمٌ، والقمر: كوكبٌ، أما الشمس فهي نجمٌ.
يوجد في مجرتنا مليارات الشموس، وكل شمسٍ حولها عددٌ من الكواكب تطوف حولها كما تطوف الأرض حول شمسها، وأما أعداد المجرات التي اكتشفها الإنسان كذلك تُعد بالمليارات.
وآخر ما اكتشفه العلمُ في أمريكا في السنين المتأخرة مجرتين، بينهما وبين أرضنا سبعة عشر مليار سنة ضوئية.. وسرعة الضوء في الثانية ثلاث مئة ألف كيلو متر، والضوء يدور حول الأرض في الثانية عشر مرات تقريباً، هذا في الثانية، فكم في الدقيقة وكم في الساعة وكم في اليوم وكم في السنة؟ فالمجرتان بينهما وبين أرضنا سبعة عشر مليار سنة ضوئية.. وهذا كله يُسَمّى سماءً.
هذا ما اكتشفه الإنسان الذي قال الله عنه: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً﴾ [الإسراء: 85]، وكما قال في القرآن العظيم: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ [البقرة:255] أما علمه الحقيقي فلا يحيطون بشيءٍ منه ولا من العلم في سماواته، مع ذلك يقول القرآن: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ [التغابن:1].
وجود مخلوقات في الكواكب الأخرى
لم يعرف الإنسان أحياء [كائنات حية] تسكن في هذه العوالم، ولكن القرآن يقول بأن في هذه العوالم من يسكنها: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [النحل:49]، ويقول: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [الشورى:29]، والمقصود من السماوات هنا: الكواكب في السماوات، وهي من آيات الله الدالة على عظمته ووجوده، لأن المصنوع يدل على وجود الصانع، والمخلوق يدل على وجود الخالق، والكتابة تدل على وجود الكاتب.. ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ العلامة على وجود الله، ﴿خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ ففي الأرض خلق بشراً، وفي عالم السماوات والكواكب: ﴿وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [الشورى: 29] تدبُّ على هذه الكواكب وتمشي عليها.
فالقرآن يثبت بأنَّ في الكواكب أحياء، ولكن كيف هم؟ ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء:85] ولكنه أثبت وجود الحياة والأحياء.. ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ﴾ سواءٌ في القيامة أو في الدنيا.. والناس اليوم يحاولون أن يصلوا إلى كوكب يكون مأهولاً.. ﴿وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ﴾ في القيامة أو في هذه الحياة ﴿إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ﴾ [الشورى:29]، إذا يشاء الله ذلك فهو قدير.
الصنعة تدل على الصانع
سورة التغابن تبدأ بـ: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ﴾ لهذا الخالق.. ماذا خَلَق؟ الذي يصنع الورق نقول عنه عالماً عظيماً، والذي اخترع المذياع عالم عظيم، والذي اخترع الساعة والسيارة والطائرة عالم عظيم، فكيف بالذي اخترع طائرة كوكب الأرض، والتي تطير بلا جناحين، وسرعة دورانها حول الشمس مئة ألف وثمانية آلاف كيلو متر! فسرعة كوكب الأرض حول الشمس مئة وثمانية آلاف كيلو متر.
وهناك طائرة الكونكورد، وهي تطير ثلاثة آلاف كيلو متر في الساعة، أمّا طائرة الله التي نحن نركبها، فتشقّ بنا عُباب الفضاء بلا بترول وبلا صوت، ولو كان لها صوت بحسب حجمها وكبرها لخررنا صرعى وموتى، وتعطَّل منَّا السمع، وتعطَّلت منّا كلّ ألوان الحياة.. هذه أرضنا التي تعَدّ في عالم الفضاء كذرّةٍ من ذرات الغبار الذي يُرى في الهواء.
يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض
﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ﴾ للإله الخالق، يعني يُعَظِّمُه وينزّهه ويقدّسه، ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [التغابن:1] فهذا التسبيح وهذا التعظيم قد يكون بلسان كل مخلوقٍ بِحَسَبِه.. وتفكير الإنسان في صنع هذا المخلوق يدل على عظمة الخالق.. وهذه الدلالة تنزيهٌ لهذا الخالق عن كل ما لا يليق بالله الخالق، وفي نفس الوقت إثباتٌ لعظمته وجلاله وقدرته وعلمه وحكمته ودقة قوانينه، وهذا معنىً من معاني التسبيح.. ومن طريق التفكير يقول الشاعر
وفي كل شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنه واحد
سيدنا المسيح عليه السلام، هل يستطيع أن يخلق شمساً؟ وهل يستطيع أن يخلق قمراً؟ وهل يستطيع أن يخلق نجوماً؟ هو مخلوق، خُلِق كما خُلِقَ كل إنسان، يأكل ويشرب وينام، وشأنه شأن كل إنسانٍ في الحياة الجسدية.
كل مخلوق يسبح الله بلسانه
كان هذا خطاباً للعرب، خاصةً للذين كانوا يعبدون الأحجار والأصنام، فقد انحط عقل الإنسان حتى وصل إلى أن ينظر إلى الجماد على أنه الإله الخالق، وينظر بشرٌ آخر إلى إنسانٍ مثلِه على أنه البَشَرُ الخالق، أما القرآن فيقول: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ﴾ يقدسه ويعظِّمه ويخرُّ ساجداً لعظمة ألوهيته.. يسبح له ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ [التغابن:1] لأنهم عرفوه حق معرفته؛ فعرفوا ربوبيته وألوهيته وحكمته ونورانيته.
﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ قد يكون هذا التسبيح بنظر الناظر في الخلق، فيدلُّ الخَلقُ وحكمة الصنع على عظمة الخالق والصانع، وقد يكون لكل مخلوقٍ من إنسانٍ وحيوانٍ ونباتٍ لغته الخاصة، ويسبِّح الله فيها.. فيسبِّح الله بلغته الخاصة به.
وهذا بيَّنه القرآن العظيم في سورة الإسراء بقوله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء:44]، فإذا العربي سبَّح الله فالفرنسي لا يفهم عليه، والفرنسي إذا سبَّح الله فالألماني لا يفهم عليه.
إخوان الشيخ ناظم الحقاني في زيارة مسجد أبي النور
وهنا إخواننا الذين يلبسون العمائم من ألمانيا، هؤلاء إخوانكم جاءوا من ألمانيا في طريقهم إلى الحج، وشيخهم هو الشيخ ناظم حفظه الله، وهو من أرشدهم إلى مسجدكم لنتشرَّف برؤيتهم وبلقياهم، وهم يزيدون على عشرة آلاف نقشبندي ممن يذكرون الله بقلوبهم.. وتُبَلِّغون شيخَكم الشيخ ناظم سلامي وأشواقي وتحياتي. [الشيخ ناظم الحقاني القبرصي رحمه الله: من أشهر مشايخ الصوفية والدعاة في أوربا، أسلم على يديه خَلْقٌ كثير، وقد توفي عام: 2014م].
الحيوان والجماد يسبح الله
﴿وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ﴾ [الإسراء:44] كذلك الحيوان له تسبيح، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((لاَ تَقتُلُوا الضّفدَعَ فَإِنَّ نَقِيقَهَا تَسْبِيحٌ)) ، وكان ابْن مَسْعُودٍ رضي الله عنه يقول: “كُنَّا في عهد رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إذا أكلنا معه نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ” ، فمن قوة نورانية رسول الله ﷺ وروحانيته كانت تنعكس هذه القوة النورانية في مرآة قلوبهم، فتَصْفُوا وتشفّ حتى يسمعوا ما يعجز عن سمعه هذا الجهاز الضعيف [المقصود بالجهاز الضعيف هنا الأُذُن البشرية].. الآن بهذا الجهاز هل نستطيع أن نسمع أصوات الإذاعات التي تملأ الفضاء؟ هذا عجزٌ ويحتاج إلى جهاز آخر، كذلك إذا أردت أن تسمع ما وراء الماديات فتحتاج إلى جهازٍ آخر وهو القلب، وهذا القلب يحتاج إلى إنعاش وإلى تغذية بذكر الله حتى تستقيم له حياته الكاملة، فإذا صارت له الحياة الربانية بذكر الله عز وجل يسمع كما سمع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه تسبيح الطعام، حيث كان ذلك ببركة انعكاس نور النبوة في مرآة قلوب أصحابه ﷺ الذين منهم عَبْد اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ رضي الله عنه.
قصة تسبيح الحصى بيد النبي ﷺ
مرةً أتى إلى النبي ﷺ وفدٌ من العرب فعرض الإسلام عليهم ودعاهم إليه، فقالوا له: من يشهد لك بأنك رسول الله، وأنّ ما تدعو إليه من عند الله؟ من يشهد؟ فتناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم حصيات من الأرض وقال: ((هذه الحصيات تشهد لي بأني رسول الله))، وإذا بكل الحاضرين يسمعون تسبيح الحصى في كفِّ رسول الله ﷺ، وناولها إلى عددٍ من أصحابه، فكان يُسمَعُ تسبيحُ الحصى في كف أصحابه أيضاً رضي الله عنهم وأرضاهم .
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء:44] ولكي تسمع ذلك تحتاج إلى الحاسة السادسة التي لا تحيا ولا تتغذى إلا بذكر الله.. وتقوى هذه الحاسة بصحبة أولياء الله ومحبتهم ومُخالَلَتِهم، فإذا استطعت أن تحبَّ وَلِّياً لله وتَتَخَلَّل محبتُه في شعورك وروحك وقلبك فإنّ ((الْمَرْء عَلَى دِينِ خَلِيلِه، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)) .
اتقوا الله في البهائم العجماء
إذن، فتسبيح الله وذكره يكون في غير الإنسان، كما ورد أيضاً في حديث رسول الله ﷺ وقد رأى قوماً في السوق وقوفاً على دوابهم، فقال: ((اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ العجماء))، التي لا تفهمون كلامها ولا آلامها ولا رغباتها، ((ارْكَبُوهَا صَالِحَةً واستعمِلُوهَا صَالِحَةً)) سالمة.
انظروا يا بني في الحديث إلى حقوق الحيوان في الإسلام! يقولون الآن “حقوق الإنسان” ولكنهم هم يذبحون الإنسان، يدّعون حقوق الإنسان.. والفظائع التي تجري في البوسنة والهرسك ما صارت في عصر من العصور، فضلاً عن القرن العشرين، وهذا تحت بصر وسمع هيئة الأمم ومجلس الأمن الذي ما هو إلا أداة للاستعمار والأقوياء في العالم.
انظروا في الإسلام إلى حقوق الإنسان! حيث كان الله سبحانه يأمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يساعد كل إنسان مهما اختلف لونه أو عِرقه أو دينه حتى ولو كان وثنياً! فكان يقدم المساعدات المالية للإنسان ولو كان وثنياً.
وفي حق الحيوان قال: ((اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ العجماء)) وقد رأى أصحابها راكبين عليها في الأسواق وهي واقفة، وقال: ((لاَ تَتَّخِذُوا هذه الدواب مَنَابِرَ)) لأحاديثكم وكراسي في الطرقات، فلا تركب الدابة وتتحدَّث مع شخص نصف ساعة، فإنّ الدابة تتعب عندما تكون حاملة وواقفة، أما إذا كانت ماشية فلا تشعر بثقل الراكب كما لو كانت واقفة.
ربّ مركوبة خيرٌ من راكبها
قال: ((لاَ تَتَّخِذُوا هذه الدواب منابر لأحاديثكم ولا كراسي في طرقاتكم، فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا، وَأَكْثَرُ ذِكْراً لِلَّهِ مِنْهُ)) ، أكثر معرفة.. فقد يكون الحمار خيراً من راكبه، لأنَّ الحمار يعرفُ اللهَ عز وجل، وقد أمره بطاعة الإنسان فاستجاب لأمر الله، وكذلك الجمل وكذلك الثور، ((فرُبَّ مركوبةٍ خيراً من راكبها وأكثر ذكراً لله منه)).
فأنت أيها الغافل الذي أمرك الله عز وجل بقوله: ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾ [الأحزاب:41] ووصف المسلمين بقوله: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران:191]، والتصوف هو هذا.. إضافة إلى تزكية النفس وتنقيتها من رذائل الأخلاق وتزيينها بفضائل الأخلاق، وهذا هو الطريق، سواء كان النقشبندي أو القادري أو الشاذلي أو أي شيء، فهو تزكية النفس، وما خرج عن هذا فهو خروجٌ عن الطريق والتزكية.
كما أنَّ المسلم إذا خرج عن الإسلام فهو بخروجه لا يمثِّل الإسلام، فالإسلام كله كمالٌ، والإسلام كله علومٌ، وكله أخلاقٌ، وكله عقلٌ وحكمة، فلا يجوز عند رؤية ناقصٍ في المسلمين أن نُنَقِّص الإسلام، أو رؤية ناقص في التصوف والطريق أن نُنَقِّص الطريقَ وتزكيةَ النفس.. ((فربَّ مركوبةٍ خيرٌ من راكبها وأكثر ذكراً لله منه)).
فإذا ركبت دابَّة أو حماراً قل له: هل أنت تذكر الله أكثر أم أنا؟ وإذا كنت أنت تذكر أكثر مني فيجب أن تكون أنت الراكب وأنا المركوب [لا يخفى على القارئ السليم أن ما يقوله سماحة الشيخ هنا -وهو شيخ الحكمة- لا يقصده حرفياً، وإنما هو أسلوب للحث على ذكر الله تعالى].. كما يقول بعض الشعراء في حق من كان يُنكر وجود الله من الذين كانوا يُسَمَّون بالفلاسفة والحكماء، قال بعض الشعراء عن هؤلاء المسمَّين زوراً بالحكماء
قال حمارُ الحكيمِ يوماً لو أنصفَ الدهرُ كنتُ أركبْ
لأنني جاهلٌ بسيطٌ وصاحبي جاهلٌ مُرَكَّبْ
“كنتُ أركب”: لماذا؟ لأن الرَّاكب ملحد ودَهرِيّ، ولأنني جاهلٌ بسيطٌ- والجاهل البسيط هو الذي يعرف جهلَه- وصاحبي جاهلٌ مُرَكَّب.. والجاهل المركَّب هو الذي لا يعرف جهلَه ويظن بحمقه أنه عالم.
﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ﴾ معظّماً ومنزّهاً ومعتقداً في الله كل كمال، منزِّهاً الله عن كل نقص في كلِّ ما في الوجود، ومن ينظر إلى دقة قانون الله ونظامه في الخَلْق [يُسبِّحه ويُنَزِّهه].. انظر إلى الهواء وكيف هو مركَّبٌ من الأوكسجين والأوزون وغازاتٍ متعددة وبمقادير محدّدة، فمن ركَّب هذا الهواء؟
فإذا نظرت إلى الهواء بتركيبه الكيماوي، تقول: سبحان الذي خلق الهواء! وكذلك لو اطّلعت على الكون.. تمرُّ حالة على بعض أهل الذكر إذا ذكروا اللهَ عز وجل فيَذكُر مَن حولَهم بِذكرِهم، ويتجلى [ويظهر] لهم ذِكْرُ مَن حولَهم، وقد ذكر اللهُ ذلك في القرآن العظيم في قوله تعالى: ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)﴾ [ص:17-19] فالله يذكر تسبيح الجبال.. ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء:44] فلا تكن أقل ذكراً لله وتعظيماً لله من الحجر أو من الحَطَب أو من الدواب! ((فرُبّ مركوبةٍ خيراً من راكبها وأكثر ذكراً لله منه)).
﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ﴾ تعظيماً وتنزيهاً وإجلالاً، ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ [التغابن:1] من أجرام وملائكة ومخلوقات من إنسٍ وجنّ وما الله بما وراءهم عليم، ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ﴾ [سورة التغابن:1] مالك الكون من نجومه وشموسه وكواكبه.. ومما عَرَف الإنسانُ منه بعلمه الضئيل أنه بلغ علمُه اكتشافَ مجرتين على بعد سبعة عشر مليار سنة ضوئية.. هذا علم الإنسان القليل: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً﴾ [الإسراء:85].
فهذه تُسبِّح الله وتؤمن بالله وتعرف عظمة الخالق، بينما الإنسان الجرثوم الفيروس الحقير التافه يَدَّعي العلم وهو أجهل الخلق بما ينبغي أن يُعرَف بالبديهة، لأنَّ الكتابة تدلُّ على الكاتب، والخبز يدلُّ على الخبَّاز، والصنعة تدلُّ على الصانع.
صنع الله كله كمال
﴿لَهُ الْمُلْكُ﴾ [التغابن:1] هو المالك، وهو المتصرف في هذا الكون بإيجاده وقوانينه والعلم بكل حركاته، ﴿وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ﴾ [التغابن:1] لأنَّ كل صنعه وخلقه كمال، وكله من ورائه الخير.. وساكن الأرض لا يجد شيئاً فيها- إذا درسه الدراسة العلمية- إلا ويرى فيه الحِكَم والمنافع التي يجهلها، ولذلك كان لا يكترث بها.. اكتشف العلماء في أفعى الكوبرا- التي لدغتُها تقتل من ساعتها- أنّ في سُمِّها مادةً يُعالَج بها مرض السرطان؛ ذلك المرض الخبيث.
ذكر لي أحدهم عن نبات “القُرّيص” -تعرفونه، هو نبات إذا مسَّه الإنسان بجلده يحكُّه ويؤذيه- ذكر لي بأنَّ ماءه المغلي إذا شُرِبَ يشفي من مرض الحساسية.. فلما تشعر أنه يَحكُّك كأنه يقول لك: أنا دواء الحك.. ويشفي من “الحُرقُص” الذي يصيب القدمين لبعض الناس عند نومهم.
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾ [ص:27] ما خُلِقَ شيء إلا وراءه حكمة؛ في أستراليا اكتشفوا خنفساء تقتل بعض الحشرات الزراعية التي تُفْنِي المزروعات وتَفتِك بها، فلما اكتشفوا حكمة خلقها ووظيفتها صاروا يصدرونها ويعملوا لها حقول تكثير وتناسل ويبيعونها بالأثمان الغالية، وتُوَزَّع على المزارع لمقاومة حشرات معينة.
جهل الإنسان وعلم ما سواه
﴿لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ﴾ [التغابن:1] فهذه العوالم لها سُكَّانها مما يمكن للعيون أن تبصرها وللأرواح أن تدركها، ومنها ما لا يستطيع الإنسانُ معرفته: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً﴾ [الإسراء:85].
إنّ كلّ هذا الكون معظِّم لله، مقدِّسٌ لله، ساجدٌ لله، خاضع لعظمة الله، وأنت أيها الإنسان.. خاصةً مَن أُخِذ بشيء من الغرور باسم ثقافةٍ أو شهادةٍ- شهادة ورقية أو شهادة لعلم ما- وإذا به يُنكر اللهَ وهو لم يعرفه بعد.. والأصل أن يُنكِر الإنسان شيئاً عرفه ودرسه، ثم لم يجد له وجوداً، لكنه أنكر وجود الله من دون أن يستعمل العقل ولا أن يدرس رسالات السماء ولا أن يُهَيِّئ لنفسه ما يُحْيِي فيه الحاسة السادسة حتى يعبد الله كأنه يراه.. ومقام الْإِحْسَان: ((أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)) .
فإذا كان يسبح له ما في السماوات وما في الأرض، فهل أنت أيها الإنسان تعظِّم الله وتنزِّهه؟ إنّ الحصى سبحت في كف رسول الله ﷺ، وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: “كنا نسمع تسبيح الطعام في عهد رسول الله ﷺ”، فالجماد يعبُد الله وكذلك الحجر: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء:44] فمن لا يعرف الله فالحجر خيرٌ منه، والدواب خيرٌ منه، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾ ليس كل الناس ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ [الحج:18]، من الجهل.
هل يستطيع عالِم الطب أن يدَّعي أنه عالم طيران؟ وعالم اللغة الانكليزية، هل يستطيع أن يدَّعي أنه صار يعلِّم اللغة الفرنسية؟ فهؤلاء المغرُورُون ببعض الشهادات عندما ينكرون وجود الله ووجود وَحْيِهِ ورسالاته إلى أنبيائه، يعلنون للوجود أنهم جهلة، وأنهم مغرورون وخاسرون، وهم لا يعرفون من الحياة إلا ما يعرفه الحيوان والحمار من حياته الجسدية.
أما الإيمان فيقول للإنسان: هذه الحياة الجسدية مقدِّمةٌ ضئيلةٌ أمام حياة الخلود في عالم الخلود.. فنسأل الله أن يرزقنا الإيمان الذي هو علم ومعرفة وحكمةٌ وعقلٌ وحقيقةٌ وواقع، ويكون هذا الإيمان لمن دخل كُلِّيّة الإيمان وجامعة الإيمان، وصار له المعلمُ الوراث النبوي الذي يعلِّمه الكتاب والحكمة ويزكيه.
﴿لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ﴾ [التغابن:1] من خلق لك العيون؟ فلو كنت أعمى لكنت تعرف قدر البصر وقدر العيون، ولو أزال الطبيب عنك غشاوة العين كالماء الأبيض أو الماء الأسود، فكم تمدحه وتحمده وتُقَدِّم له كل ما يُدْخِل على قلبه الرضا والسرور؟
فالذي خلق لك العينين، بماذا أحببتَه؟ وبماذا أجزلته؟ وبماذا عظمته؟ وبماذا حَمدْتَّه وشكرته؟ وخلق لك اللسان الناطق والسمع والبصر والأعصاب وترتيب العظام!
جالسْ من هو على كل شيء قدير
﴿لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التغابن:1] الذي خلق هذا الكون ما هي قدرته؟ إذا اتصل واحد من الناس بموظف كبير وجلس معه عشر دقائق، أو تكلم معه لخمس دقائق يخرج وهو منفوخاً [متكبراً]، ويقول: أنا اليوم جلست مع فلان.
اِعْرِف مَلِكَ الملوك، اِعرِف خالقَ الكون، وكن جليسه، لِتَتَقَدَّسَ بمجالسته، ولتتعلم الحكمة والعلم الرباني بمخالطة قلبك لِذِكْرِه، كما ورد في الحديث القدسي، يقول الله تعالى: ((أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي))
أصل الإنسان
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ بعد أن ذكر عالم الكون اللانهائي، من أرضه وسمائه ومجرَّاته وشموسه وأقماره انتقل إلى نفسك، فقال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [التغابن:2] من الذي خلقك؟ ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى﴾ [القيامة:37] أنت من النطفة، إذاً أنت ذَرَّة.. قالوا: لو وُضِعَت الإبرة في النطاف والمني يعلق برأسها خمسون ألف حيوان منوي.. وكل حيوان يصير منه إنسان.. فمدينتك التي كنتَ ساكناً فيها كانت على رأس إبرة، فأنت ماذا تُمَثِّل؟ والآن عندما صار لك شوارب تفتّلهم وتقول: لا يوجد الله! صرت تفتّلهم وتتمرَّد على أوامر الله! صرت تفتّلهم وترفض رسالة الله، التي هي القرآن المشروح بأعمال وأقوال وتعاليم النبي عليه الصلاة والسلام، فما أعظم هذا الجهل! وما أعظم هذا الغرور!
﴿لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التغابن:1] ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ﴾ يعني هذه الأجرام في السماوات، من الشموس والأقمار والكواكب والأرض والقمر.. والقمر أرض، وكوكبنا أرض، وأرضنا في الفضاء من يحمِلُها؟ ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [فاطر:41] يعني ما أمسكهما من أحد من بعده.
عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ فقهاء كَادُوا مِنْ فِقْهِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ
هل لك أن تجلس مع الله بعد استيقاظك وأنت هادئ الأعصاب، [إشارة إلى الذكر فجراً] وتتوجه بكل مشاعرك وبكل أحاسيسك إلى الله! تَتَخَيَّل نورَه يشع في مرآة قلبك، وتذكر كلمة “الله” فلعلها تصقل هذا القلب الملوَّث بالظلمات، ولعلّ الله عز وجل أن ينقله من خسوفه وكسوفه إلى إشراقه وإلى نورانيته فتحيا بالله، وتحيا مع الله: ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور:35]، ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر:22].
فما أحوج الإنسان! وخاصةً المسلمين في عصرنا ليُحَقِّقُوا إسلامَهم بأن تحيا قلوبُهم بالله عز وجل، ويكون ذلك بأن يلتقوا بوارثٍ محمدي يعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.
والوراث المحمدي عليه أن يرث من كل التركة؛ فالنبي ﷺ كان معلم الكتاب- القرآن- لا معلِّم النطق بألفاظه، بل معلِّم الاستجابة في الإنسان لكل فرائض القرآن ولكل وصاياه، والالتزام بكل فضائله ومكارم أخلاقه، ومعلِّمَ الحكمة؛ والحكمة: هي العقل الناضج الذكي الفطن الذي يعرف الأشياء بحقائقها ويَعْلَم ارتباط المسبَّبات بأسبابها، وكان النبي ﷺ كذلك يزكيهم، فيُنَقِّي النفس من كل النقائص ومن كل الرذائل، [وهكذا الوارث المحمدي يُعلِّم الكتاب والحكمة ويزكي النفوس].
ولما دخل العرب- قريش ومن في زمانهم- بالهجرة والصحبة في مدرسة سيدنا محمد بن عبد الله ﷺ، بأي شهادةٍ تَخَرَّجوا؟ تخرجوا بشهادة: ((عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ فقهاء، كَادُوا مِنْ فِقْهِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ)) .
إنّ النبي مهندسٌ وبنَّاءٌ لِأُمَّة؛ بنّاءٌ لعقولها بالحكمة، وبَنَّاءٌ لقلوبها بانعكاس نور الله في مرآة قلوبها، ومهندسٌ لبِنَاءِ النفس بالتزكية ومكارم الأخلاق.. وعلى هذا ترك النبي ﷺ أصحابه، فقاموا من بعده وعلموا الأمم ونشروا هذه التعاليم من حدود الصين إلى حدود فرنسا في أقل من مئة سنة، وكانوا الأعزّة في الأرض والسماء، وكانوا العلماء في الأرض وفي السماء، وكانوا أصحاب الحضارة في كل مشارق الأرض ومغاربها، فصلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله! ولله الحمد على ما أنعم من هذه الرسالة التي اختار لها سيدَنا محمد ﷺ، ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا هديه والمشي على سنته ظاهراً وباطناً، قلباً وعقلاً، جسداً وروحاً، لِنُعِيْد تجهيزَ الإسلام كما جَدَّدَه أولئك الأمّيون في نصف العالم في أقل من قرن، كما يقول نابليون.
البشارة بعودة الإسلام القريبة
وأبشِّركم بأنَّ الإسلام سيعود، وقريباً سيعود: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ [التوبة:32]، هؤلاء الجاهلون الأمِّيُّون أطفال العقول أسرى الشهوات؛ شهوات البطن والفرج، وقريباً ستشرق الشمس وتبزغ، وتزول الظلمات: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [الروم:4-5].
ومن الطلائع لهذه البشرى إخوانكم المتَعَمِّمُون أمامكم، هؤلاء من إخوانكم المؤمنين في ألمانيا، عددهم قبل سنتين تجاوز عشرة آلاف مؤمنٍ نقشبندي.. وبعض الناس قد يكرهون التصوف ويجهلونه.. والتصوف هو مقام الإحسان: ((أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ)) ، والتصوف هو معنى قول الله سبحانه: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ [الأعلى:14-15].
وكل ما خرج عن هذه الدائرة فهو خارجٌ عن التصوف، وإذا رؤيَ بعضُ من يُنسَب إلى التصوف ويَخرُج منه بعضُ الشذوذ فكما هو حال كثير من المسلمين الذين ينتسبون إلى الإسلام وتخرج منهم أشياء مخالفة للإسلام، فهل هذه المخالفة تضير الإسلام أو تعيبه؟ إنما الإسلام شيء والمسلمون شيءٌ آخر.
مقال الإسلام الحي في التلفزيون البريطاني
نكتفي إلى هنا في تفسير السورة، وأذكر لكم نبأً يسرُّكم ويسرُّ كلَّ مؤمنٍ، وهو خبر بصري، والآن رأيت هذا الخبر في جريدة “المسلمون”، تحت عنوان “الإسلام الحي في التلفزيون البريطاني”.. بريطانيا وأمريكا وألمانيا وروسيا كل هؤلاء عبيد الله، والدولة دولة الله، والله يُشغّل عساكره حسب ما يريد، فلا أحد يستطيع أن يتمرَّد على أمر الله عز وجل.. تقول الصحيفة
“يقوم تلفزيونbbc بعرض برنامج وثائقي عن الإسلام الحي على شكل حلقاتٍ أسبوعيةٍ من إعداد وتقديم البروفيسور “أكبر أحمد” الباحث في علم الإنسان في جامعة كامبريدج في بريطانيا، وهي حلقاتٌ يمكن اعتبارها أول محاولةٍ إعلاميةٍ غربيةٍ جادة في معالجة موضوع الإسلام كدينٍ عالميٍ صالحٍ لكل زمانٍ ومكان، وهو أيضاً في نفس الوقت ثقافةٌ وحضارةٌ لا تمت بِصِلَةٍ إلى السطحية الذهنية المتمثلة في النساء والإرهاب والخطر البديل”، لأنَّ المُعادين للإسلام ينشرون عن الإسلام في الغرب بأنه ظَلَم المرأةَ، وأنه إرهاب، وأنَّه بعد الشيوعية هو الخطر على الغرب.. فالأفلام هذه لهدم هذه المقولات وهذه الأفكار.
قال: “تم تصوير البرنامج في تسعة عشر بلداً من بينها الهند ومصر وتركيا والبوسنة ونيجيريا، وهي بلدانٌ شملها الإسلام بحضارته وعمرانه وتقاليده الاجتماعية، وتنقلها عدسات الــــ bbc بتصويرٍ دقيق للزمان والمكان والسيرة، وتلتقي مع علماء المجتمع وطلابه ومثقفيه في ست حلقات، استغرق إعدادها ما يزيد عن سنتين، ويتحدث البرنامج في الحلقة الأولى عن العقيدة الإسلامية والمثال النبوي الذي انطلقت منه الحضارة الإسلامية، وفي الحلقة الثانية يتحدَّث عن الإمبراطورية الإسلامية وامتدادها من شواطئ المغرب حتى جبال هملايا، وتركز الحلقة الثالثة على عصور النهضة في الإسلام، عندما كان المسلمون يحملون مشاعل العلم والمعرفة في الوقت الذي كان يعيش فيه الغرب في عصور الظلام، فيما تَظْهَر المرأةُ المسلمة في الحلقة الرابعة بصورةٍ تختلف كلّياً عن ما رسمه الغرب لها، فهي سيدة المنزل وأم الأولاد والجَدَّة التي تحظى باحترام الجميع، وهي نصف المجتمع، لها حق التعليم والعمل واختيار الزوج، مع التزامها باللباس الذي يحافظ عليها ويميِّز هويتها كامرأة مسلمة، وتنقلنا الحلقة الخامسة إلى إشكالية العلاقة بين المسلم والمجتمعات الغربية خارج الوطن الإسلامي، وفي الحلقة الأخيرة تتلَّخص قضايا المسلمين في جراح فلسطين والبوسنة وكشمير ومواقع أخرى تُقمَعُ فيها العقيدة.. ويَهدِفُ البرنامج كما قال البروفيسور “أكبر أحمد” إلى تعريف الغرب بحضارة الإسلام العريقة كي يعمل على تصحيح مفاهيمه الخاطئة بأنَّ الإسلام حقيقةٌ مُعاشَةٌ لا يمكن تجاوُزها”.