في تفسيرِ سورةِ المرسلات
نحنُ الآن في تفسيرِ سورةِ المرسلات، والمرسلات: هم الملائكة الّذين حملوا رسالات الله عزَّ وجلَّ إلى أنبيائِه ومخلوقاتِه، وهم أرواحُ الأنبياءِ الَّذين حملوا هذه الرّسالة، وأرواحُ ورثة الأنبياءِ الَّذين حملوا الرسالة بعدهم، وروحُ كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ تحمل رسالة الله عزّ وجل فتبلّغها لمخلوقاتِه ولو كانت نذراً يسيراً، كانَ عليه الصّلاة والسّلام يقول: ((بلِّغوا عنّي ولو آية)) ، ولو كانت آية واحدة، ويقول عليه الصّلاة والسّلام: ((النّاس صنفان: عالم ومتعلم)) لمْ يقلْ عالم أو متعلم، بل قال: عالم ومتعلم، فلا يتوقفُ عندما عَلِمَ، بلْ يواصل التّعلّم لما لا يَعْلَم ويَجْهَل.. إذاً فتعاليم النّبي عليه الصّلاة والسّلام تَفْرِضُ على كلِّ مسلم ومسلمة -مهما بلغَ من العلمِ أو مهما قلَّ عنده العلمِ- أنْ يزيد في علمه، وهذا أولاً، كما خاطب الله تعالى النّبي الكريم ﷺ في قوله تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه:144] ومهما قلَّ عِلْمُهُ عليه أنْ يعلِّمَ ما تَعَلَّمَه لغيرِهِ، فالّذي تتعلَّمُه يجبُ أنْ تعلِّمَه لغيرِك، فتعلّم المرأة زوجها، ويعلّم الزّوج أمه وأباه وجاره وشريكه وجليسه في السّهرة.. وموضوع الحديث الذي في السهرة كما بيّنه الإسلام بقوله تعالى: ﴿لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ﴾ [النساء:114]، أي لا خير في اجتماعاتهم إذا تحدّثَ أحدهم إلى الآخرِ ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ [النساء:114]، بخيرٍ، سواءً أكانت صدقة المالِ أو صدقةَ العلمِ أو صدقةَ الكلمةِ الطيبة، قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ [النساء:114]، كلّ ما هو معروفٌ عند الله قَبُولُه وحُسْنُه ورِضاءُ الله عن قائله.
﴿أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء:114]، إذا سمعت عن شخصين مُتخاصمَين أو مُتعاديَين أو مُتباعدَين فواجبٌ عليك مثل وجوب صلاة الظهر والعصر أن تُصلح بينهما، فقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [الأنفال:1]، فرض لأنّه أمر، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال:1]، فرض، وهذا فرض على كلّ المستويات بدءاً من الأفراد إلى العائلات إلى الأحياء إلى القرى إلى الدّول إلى المؤتمر الإسلامي [حالياً: منظمة التعاون الإسلامي] في جدّة الذي يضم أكثر من خمسين دولة، فماذا صنعتْ في الصومال؟ وماذا صنعت في أفغانستان؟ وماذا صنعت في الشيشان؟ وماذا صنعت في البوسنة والهرسك؟
ماذا صنعت في كلِّ بلدٍ لتدفعها إلى التّقدم والقوَّة والعلم وإلى كلِّ ما يعود عليه بالخير والمنفعة؟ وكلمة مؤتمر الدول الإسلامية.. إن شاء الله وعلى كلِّ حال.. فوجود المؤتمر كبذرة، نرجو الله لها الغَوْث في السماء والنّمو، حتى تُؤتي أكلها وكلّ حين بإذن ربها.
إلى ماذا يحتاج المسلمون؟
جعل الله سورة المرسلات يميناً مقدّساً، ألا يحبّ أحدكم أن يحلف الله به وبنفسه وبجهوده في نشر رسالة الله وتعليم النّاس دين الله؛ حلالهم وحرامهم؟ مع أنّ أكثر ما فقده النّاس ليس فقه الحلال والحرام، بل فقدوا فقه الإيمان؛ فقه الإيمان بالحلال والحرام.. لا يوجدُ إنسان -إلّا النّادر- لا يعرف الحلال والحرام، فكلّ مسلمٍ يعرف أنَّ الصّلاةَ فرضٌ والزّنا حرام، حتّى الحيوان يعرف الحلال والحرام، فالقطّ [الهِرّ] إذا أعطيته قطعة لحم من الطّعام أين يأكلها؟ يأكلها أمامك، لأنه يعرف أنّها برضاك وحلال، وإذا أدرت ظهرك وخطف قطعة لحم فأين يأكلها؟ على السّطح، هذا دليل الفقه ودليل العلم! [سماحة الشيخ يضحك هنا] فيعرف الحلال ويعرف الحرام، وأنت كذلك تعرف الحلال وتعرف الحرام، ولكنّ الهِرّ مؤمن بالآخرة؛ مؤمن أنه إذا خطف اللّحم سيأكل عصا تكسر ظهره، أمّا أنت فتعمل الحرام وغير مؤمن بالآخرة؛ بعصا الله، فعصا الله وقصاصه وعقابه يكون في الدنيا وفي الآخرة، وقد حلف الله بقوله: ﴿والْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا﴾ [المرسلات:1]، وحلف بقوله: ﴿فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا﴾ [المرسلات:2]، وهذا عندما تقوم بنشرِ الرّسالةِ مثل الرّياح العاصفة التي تزيلُ من طريقِها كلَّ ما يعارِضُها ويقفُ أمامها.
﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا﴾ [المرسلات:3]، تنشر دينَ اللهِ نشراً في مشارقِ الأرضِ وفي مغاربِها وبكلِّ طاقاتها.
﴿فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا﴾ [المرسلات:4]، تصير تفرّق بين الناس، فمنهم مؤمن ومنهم كافر، منهم تقي ومنهم فاسق.
﴿فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا﴾ [المرسلات:5]، الّتي تُذكِّر النّاس باللهِ وبلقائه ومحكمته وتسجيل أعمالك في صحائف الله في كتابٍ لا يغادرُ ولا يتركُ من أعمالِك صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها وكتبَها، فتُعرَضُ عليك في محكمةِ الله، ويقال لك: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ﴾ [الإسراء:14]، كتابَ أعمالك.. ماذا عملت؟ ﴿كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء:14]، فهل يتجرأ الذي يحمل شهادة الابتدائية أن يطلب رخصة طبيب أو رخصة مهندس؟ يقال له: اقرأ شهادتك! [فشهادتك ابتدائية]، وإن كانت شهادتك شهادة هندسة نعطيك لقب مهندس ونعطيك مكتب هندسة، وكذلك إن كانت شهادته شهادة طبيب، أما إن كانت شهادته الشهادة الابتدائية فهو بنفسه لا يطلب أن يكون مهندساً أو طبيباً لأنَّه يعرف أنه لا يستحق.
أتى رجلٌ إلى رسولِ اللهِ ﷺ وقدْ تخرَّج من مدرسةِ الثقافةِ الإلهيةِ، وذلك بعدما كانوا أمّيين لا يقرؤون ولا يكتبون، وكانوا خرافيين يعتقدون أنَّ الأحجار والأصنام هي الآلهة، ويعيشون في عاداتٍ خرافيَّة متخلِّفة جعلَتْهم مع وحوش الصحراء بمرتبة سواء، لا يعرفون إلَّا أكلهم وشربهم والتقاتل والتناحر؛ ليتغلَّب القويُّ على الضَّعيف ويأخذ ما عندَه ولو ماتَ جوعاً.
فأتى رجلٌ منتسبٌ لمدرسة الإيمان؛ الإيمان بمحكمة الله.. والمحكمة قد تكون معجَّلة في الدنيا، مثلما فعل الله بفرعون وجنوده، حيث أغرقهم في الدنيا، وهذه مِثْلُ “رَفْع الفَلَقَة” للمجرم للإقرار والاعتراف، [الفَلَقَة، والفعل: رَفَعَهُ فَلَقَة: مصطلح عامّي، وتكون برفع الرجلين إلى الأعلى والضرب بالعصا على أسفل القدمين، واستخدامها هنا كناية عن العقوبة الخفيفة الأَوَّلِيَّة، وتُستَخدم عادة مع المُتَّهَمين لِيُقِرّوا ويعترفوا بجريمتهم] أما النّطق بالحكم سجناً عشر سنوات أو خمس عشرة سنة فهذا في المحكمة النهائية، ﴿أُغْرِقُوا﴾ هذا في الدّنيا ﴿فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾ [نوح:25]، وهذا في الآخرة.
فأتى رجلٌ من طلَّاب هذه المدرسة في حياةِ النَّبي ﷺ وقد آمنَ، وصار عندَهُ علمُ الإيمانِ بالآخرةِ وبخلود الروحِ بعد مفارقة الجسد، وصار مؤمناً بالحسابِ وبأن اللهَ سيحاسبُه على القليل والكثيرِ، قال تعالى:﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7]، أي يرى ثوابه ومكافأته من الله عز وجل ولو بعد حين، ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:8] لو عملتَ من الشَّرِ مثقال ذرَّة سترى عقابَها وقصاصَها في الدّنيا أو الآخرة أو في الدّنيا والآخرة، وهناك ما يُعاقَب عليه في الدّنيا والآخرة، مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((كلُّ الذنوب يؤخِّر الله ما شاء منها)) أي يؤخر حسابَها وعقابَها إلى يومِ القيامةِ، ((إلَّا البَغْيَ)) الظلم والعدوان على الآخرين ((وعقوقَ الوالدين)) فإنَّ الله يعجّلُ لصاحبها العقوبة في الدّنيا مع ما يدَّخرُ له من العقوبة يوم القيامةِ.
هل ينقص المسلمين العلم؟
فالمسلمون لا ينقصهم العلم، فالقطط عندَها علمٌ تفرّق فيه بين الحلالِ والحرامِ، ينقصُ الناس الإيمان بالعلمِ أو العلم الّذي يُعطي الإيمانَ اليقيني، مثلما تعلم العقرب علماً يقينياً، فيعطيك ذلك ثمرة إيمانية بأنَّ تبتعد عنه ولا تمسّه بيدك، وعندَما يصير عندَك علمٌ بالذهبِ وعلمٌ بمن يعطيك منه قبضةً مِلء الكفِّ، وتعلم ذلك علماً يقينياً فتفتح يديك الاثنتين بدافع العلم الذي عَلِمْتَه عن الذّهب وعن عطاء الذهب.. كثير من الناس كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة:8]، هذا الإيمان القولي، ثم قال: ﴿وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:8]، وفي آية أخرى تقول: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ [المنافقون:1]، فالله لا يحتاج إلى شهادتهم، ثم قال: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون:1] ليحذر أحدنا من أن يظنّ أنه مؤمن، ويكون مؤمنَ التمني لا مؤمن الحقيقة والعمل، وقد قال النبي ﷺ: ((ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي)) أي بالتشبه؛ وذلك بأن تعفو لحيتك وتصلي الصلاة الصُّوْرِيّة، كما ورد معكم بالأمسِ: ((ليس كلّ مصلٍّ يصلي، إنَّما أتقبَّل الصَّلاة ممنْ تواضعَ لعظمتي، وكفَّ شهواته عنْ محارمي، ولمْ يصرْ على معصيتي))، هذا الإيمان فيما بين المؤمن وبينَ ربِّه، أما الإيمان فيما بينك وبين أخيك الإنسان، فقال: ((وأطعم الجّائع)) هذه حقوق الإنسان.. وقد جعلها الله ديناً وعقيدة تتوقف عليها سعادتك الأبدية أو شقاوتك الأبدية ((وأطعمَ الجَّائع وكسا العُرْيان ورحم المُصابَ)) إذا وقع أحدهم في مصيبة في مالِهِ أو بدنِهِ فيواسيه ويساعده ((وآوى الغريب)) والغريب أي غير المواطن، فعليك أن تؤويه وتساعده حسب قول النّبيّ الكريمِ عليه الصّلاة والسّلام: ((الإنسان أخو الإنسان أحب أم كره)) .
وإذا نظرنا إلى القرآن عندما يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:10]، فأين هيئةُ الأممِ من مبادئ السماء ومن رسالةِ السماء؟ والإسلام آخر دين، وقد حُفِظ بالقرآن فلم تَمَسه يَدُ الترجمات أو الأخطاء.. ممّا روي عن رسول الله ﷺ في رمضان أنه كان إذا دخل رمضان يطلق كلَّ أسيرٍ، والأسير هو العدو المحارب.. فتكريماً لرمضان يطلقُ ويسرّحُ ويعفو عن أعدائِه الوثنيين، ويعطي كلَّ سائل، ويطوي فراشه فلا ينام عليه حتى ينقضي رمضان، ويُشْغِل ليله بمناجاة ربّه وعبادته إلى أن ينتهي رمضان.
فأحد طلاب مدرسةِ اليومِ الآخرِ أو القيامة أو الدينونة، يعني أحد المسلمين أتى إلى النَّبي الكريم ﷺ قائلاً: ((يا رسول الله إنَّ لي مملوكَين)) أي عبدَين ((يكذبونني ويخونونني ويعصونني، وأنا أضربُهم وأشتمهم)) استيقظت فيه روحُ الإيمانِ بيوم القيامة ومحكمة الله، وعرف أنَّ محكمة الدُّنيا إذا لمْ تعطِ حقوق الضَّعيف والمظلوم فهناك محكمة الله التي لا تُضَيِّع حق مظلوم أو ضعيف قليلاً أو حقيراً، ((فكيف أنا منهم؟)) وكيف حالي معهم يوم القيامة في محكمة الله؟ ما المصير؟ فها قد حكيتُ لك ما يجري، فبيّن لي الموضوع حتى أمشي على الطّريقِ الصّحيحِ وحتى لا أكونَ خاسراً أو خائباً أو مَخزِيّاً أو مُعَذَّباً معاقَباً في محكمة الله، ((فكيف أنا منهم؟)) فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يُحسَب ما خانوك وعصَوْك وكَذَّبوك)) هذا يوضع في كَفَّة ((وعقابك إياهم)) يوضعُ في كَفَّةِ الميزان الأخرى ((فإنْ كان عقابك إياهم دون ذنوبهم)) إن عاقبتهم بأقلِ مما يستحقون ((كان فضلاً لكَ عليهم)) إنْ شئتَ أنْ تسامحَهم فيه وتطلبَ من اللهِ حقّكَ، ((وإنْ كانَ عقابك إيّاهم بقدر ذنوبهم، كان أمرُك كفافاً لا لك ولا عليهم، وإنْ كانَ عقابُك فوقَ ذنوبِهم)) أكثر ممّا يستحقون ((اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الفَضْلُ)) إن كانوا يحتاجون عشر ضربات بالعصا وضربتَهم خمس عشرة، فيزيد لهم خمس، فستُضْرَبهن في محكمة الله عزّ وجلَّ.. هذا كلام من؟ هذا كلام الذي قال عنه الله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾ [النجم :4].
((فجعلَ الرجلُ يبكي بينَ يدي رسول الله ﷺ)) لأنّه مؤمن، فعندما كان مؤمناً تقبّل حقائق العلم الغيبيّ السَّماوي ورسالة السّماء.. ((يبكي ويهتف)) صار يولول ويقول: الويل عليّ!لا يعرف، فهلْ يا ترى يزيد له أم يزيد لهم! وهل العقوبة تساوي الذنب؟ ((يبكي ويهتف، فقالَ النّبي الكريم ﷺ: ما لك؟ أما قرأت قول الله تعالى:)) ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [الأنبياء:47]، الموازين العادلة، ﴿فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ [الأنبياء:47]، وهذا مع الملك والسلطان والوزير والأمير ومدير الشركة والزوج والابن والأخ.. وإلخ.
قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء:47]، لا تحتاج إلى استئناف.. لأن قاضي البداية ربما أخطأ، فتقول: “أنا استأنف”.. فإن رأوا خطأً نقضوا الدعوة الأولى، وإن وُجِد خطأ أيضاً في محكمة الاستئناف فيمَيِّزون، وإذا كان هناك خطأ في الاستئناف ينقضون الحكم، أما حكمُ الله: ﴿لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ۚ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [الرعد:41]، لا يؤجّلها إلى شهر أو شهرين أو سنة أو عشرين سنة، [كما يحدث اليوم] وقد يبقى القاضي عشرين سنة ولا يفهم القضية، حتى ييأس صاحب الحق من حقّه ولا يذهب إلى المحكمةِ.. فهذه الثقافة وهذه التّربية وهذا الكتاب الواحد ماذا صنعَ؟ صنعَ أعظمَ أُمّةٍ أخرجت للناسِ، صنعَ أعدل دولة وجدت في التّاريخِ.. كان النبي ﷺ على منبره يقول: ((والله لو سَرقَتْ فاطمة بنت محمد لقطعت يدها)) ، وقال ذات مرة على المنبر: ((لَعَلِّي ألقى ربي)) أي لعلي أموت، وذلك حينما كان في مرضه، ((فمن كان له عندي حق من مالٍ)) إذا أخذت شيئاً من مالِه ((بلا حقّ فهذا مالي، أو في بدن)) قد ضربتُه ((فهذا بدني، ليأتِ ويضربني ويأخذ حقَّه، أو في عرض)) أي إذا شتمتُه ((فليأتِ وليشتمني، ولا يقل: بأنّ محمد يغضب من الحقِّ، فإنَّ محمد لا يغضبُ من الحقِّ)) فأيّ شَرْعٍ شَرَعَ لرجلِ الدّولة! وأيُّ شَرْعٍ شَرَعَ لرجلِ الدينِ!
الديمقراطية والإسلام
يقال: الديمقراطية! أي حكم الأكثرية، فإذا كانت الأكثرية مخطئة يكون الحكم خاطئاً وظالماً، أما في الإسلامِ فالحُكْم للحقِّ والحقيقةِ، ولو تبنّاه شخصٌ واحد فقط، فعندما ولي سيدنا أبو بكر رضي الله عنه الخلافة خطب، وكان من خطبته قوله: “أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن خالفتهما فلا طاعة لي عليكم.. إن استقمت فأطيعوني، وإن اعوججت فقوموني” الديمقراطية الحكم للشّعب، أمّا الذي فوق حكم الشّعب فهو الحكم للحق والحقيقة، فسيدنا عمر رضي الله عنه أقامَ قانوناً بتحديد الحَدِّ الأعلى لمهر النّساء بخمس مئة درهم، وذلك بدليل أنَّ النَبيَّ ﷺ لم يتزوَّج ولم يزوِّج بناته بأكثر من خمس مئةِ درهم، وأجمع الصّحابة كلهم على تشريع هذا القانون. [ليس المقصود بإجماع الصحابة هنا الإجماع الشرعي المعروف، لأنه خالف القرآن، بل بمعنى أنهم وافقوا جميعاً على هذا الأمر]
فقامت امرأة في آخر الصفوف.. يقولون: إن الإسلام لم يعط المرأة حقها، وجعل حقّها نصف حق الرجل، لنرى هل هذا صحيح؟ ويقولون: الحرية! إذا اتخذ قرار اليوم بأكثرية النواب وعارض القرار رجل أو امرأة وكان الحقُّ معه فهل يستجيب رئيس المجلس للحقّ أم للأكثرية؟ للأكثرية، إذاً هذا قد خالف العدل والحقيقة والواقع! أمّا الإسلام فاسمعوا.. فقالت المرأة: “ليس لك ذلك يا ابن الخطاب”، وفي رواية: “كذبت يا عمر” إن أردتَ أن تحدد مهور النساء بخمس مئة درهم.. فمن يستطيع أنْ يقول لرئيس الدولة: “كذبتَ”! وهذا في المجلس النيابي مجلس التشريع! قال لها: “وكيف؟” هذه هي المرأة في الإسلام! فهل هناك دولة الآن من أمريكا إلى اليابان إذا أجمع المجلس النيابي أو مجلس الشيوخ على شيء وعارضته امرأة يرجع عن قراره ويرضخ لاجتهاد المرأة؟ أمّا في الإسلام فهذا هو الواقع.. قالت له: “أما سمعت الله يقول: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾” [النساء:20]، أي إن كتبتَ لزوجتك مهراً قنطاراً من ذهبِ وطلقتها فأعطها مهرها، فالقرآن يُشرّع بجواز أنْ تعطي المهرَ ولو كان قنطاراً، “أتدري يا عمر كم هو القنطار؟” إن عارضت امرأة بعد إجماع المجلس كله، ماذا يقول رئيس مجلس الشيوخ أو النيابة في فرنسا أو انكلترا أو أمريكا أو اليابان؟ وهل يكون مع المرأة -وهي واحدةٌ من مئات- ويكون الرّأي للأكثرية؟ فقال عمر: “أصابت امرأة وأخطأ عمر!” وفي رواية: “أصابت امرأة وكذبَ عمر”، فهذه هي الرّسالة التي حلفَ الله بحامليها وبناشريها للناس، وفرّقوا فيها بينَ الحقِّ وبيَّنوه للنّاس حتى يسلكوه وبينَ الباطل حتى يجتنبوه.
ما توعدون به واقع
خمس أيمان لإثبات أي شيء؟ لإثبات ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ﴾ [المرسلات:7]، لإثبات وقوع القيامة وحساب اللهِ للإنسانِ على أعمالِه وعلى حسناته ليكافَأ عليها، وعلى سيئاتِه ليعاقَبَ عليها، حلف الله خمس أيمان بهذهِ النّفوس التي تحملُ رسالةَ اللهِ وتُعَرِّفُها للناسِ، فبقوّة إيمانها تعصفُ الباطلَ، ثمّ تنشر الرسالة في العالَم وتُفَرِّقُ بين الحقِّ والباطلِ وتلقي الذّكر في قلوب الخلق.. “عُذْرَاً”: حتّى لا يكون لأحدٍ عذرٌ عندَ اللهِ أنَّه لم يرسل إلينا رسولاً يعلمنا شريعتك، لا، فقد أرسل اللهُ الرسلَ لأجل أنْ يقطع عُذْرَ من يريدُ أنْ يعتذرَ بباطل، أو “نُذْراً”: إنذاراً للمذنب المخالف حتى يرتدع عن ظلمه ويتوب من ذنبه.
كثير من الناس اليوم مثل كفار قريش ومثل العرب في زمان النبي ﷺ عندما كانوا يُكَذِّبون بيوم القيامة ويكذبون بالبعث بعد الموت، قال تعالى: ﴿وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ﴾ [الواقعة:47-48] أتى عابد صنم إلى النبي ﷺ وأخذ عظمةَ مَيتٍ نخرها السّوس وفتتها بيده، وقال لسيدنا رسول الله ﷺ: من يحيي العظام وهي رميم؟ فردّ الله عليه بقوله تعالى: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [يس:79-81] في كل هذا يخاطب الله العقل والمنطق، ولا يقدّم لك شيئاً يخالف العقل والمنطق ثم يدعوك إلى الإيمان به، لا، فالإسلام كله منطق وكله برهان وكله عقلانية وكله حكمة، قال تعالى: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ [يس:81].
مراحل خلق الإنسان
فهنا يقول الله عز وجل للمنكرين والمكذبين بيوم القيامة: ﴿أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ﴾ [المرسلات:20]، فهل العقل البَدَائي يتقبّل أنّ الماءَ المهين ينقلبُ إلى إنسانٍ عادي أو إنسانٍ عظيمٍ؟ فالنّواة تنقلب ويحوّلها الله عز وجل إلى نخلة بعد أن يتلاشى وجودُها ويذوب هيكلُها تحت التراب، قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون:14].
انظر إلى القرآن والمدرسة القرآنية كيف تتماشى مع عقليةِ الإنسانِ بالإقناعِ والبرهانِ والدليل والتوضيح على ما غَمضَ على عقله! قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ﴾ [المرسلات:20]، فإذا كان هناك مَنِيّ على معطفك ألا تشعر بالحقارة ممن ينظر إليكَ؟ فتسرع لمسحه أو تغسله أو تخلع ثوبَك حتى لا تُمْتَهَن، لأنَّه قد أصاب ثوبَك الماءُ المهين.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾ [المؤمنون :13]، فيضبطه في الرّحِمِ ضبطاً فلا يتفلتُ ولا يفسدُ ولا يموتُ.. يأتي الحيوان المنوي ويتدفق مع مئات الملايين التي تَتَّجِهُ كلّها في الرّحم لاستقبال العروسة “البويضة” من المرأة، التي تأتي من شارع ما يسمى “قناة فالوب” فالبويضة تأتي من طريق “قناة فالوب” [والنطاف] تتوجّه إليها في نفسِ الطريقِ، والسابق من هذه الملايين المتسابقة هو الذي يأخذ العروس ويخطفها، ويرجع الباقون بِخُفّ حُنَيْن إلى الفناء.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾ [المؤمنون:13]، أي الماء أو هذه الذَّرّة ﴿فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [المرسلات:21-22] إلى وقت محدد معيّن؛ تسعة أشهر أو ما شاء الله، ﴿فَقَدَرْنَا﴾ فحددنا هذا الوقت؛ لأنَّه بدون هذا الوقت التي جعلها الله سبباً لا يتكوَّن الولد كاملاً، ﴿فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾ [المرسلات:23] تارة سبعة أشهر، وتارة تسعة أشهر، وعلمياً قالوا: بأنّ الولد لا يتجاوزُ هذه المدة، وما ذكره الفقهاء في الماضي فكان عن تقديرٍ واجتهادٍ وتخمين، أمّا العلم الآن فقد أثبت أنّ المدة القصوى تسعة أشهر، أليس كذلك؟ [يسأل الشيخ أحد الأطباء في المجلس، ويعقب على سؤاله للطبيب بقوله:] حتى لا نخطأ! كما قال تعالى: ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [الفرقان :59].
علم الله بما يضمره الإنسان
قال تعالى: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات:20] الذين يكذبون بيوم الدّين، والذين يكذبون بتحقيق وعد اللهِ بحسابِ الإنسان على أعمالِه الصالحة أو الطالحة وعلى مثاقيل الذَّر، قال تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ﴾ [النحل:19]، إذا كان في قلبك حقد فإنّ الله: ﴿يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ﴾ وكذلك إذا نويت الخيانة لإنسان أو الغشّ -هذا بالنية- أو نويتَ الإضرارَ بإنسانٍ.. ما معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [فاطر:38]؟ أي خذْ حذرك! وليكن صدرك دائماً طاهراً نقِياً، فلا تفكرْ ولا تضمرْ ولا تُخْفِ شيئاً، فيطّلع الله عليه ويحاسبك عليه.. قال تعالى: ﴿وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ﴾ [البقرة:284]، يا ترى ما حكم الإيمان بهذه الآية في الإسلام؟ فرض، وما حكم عدم الإيمان؟ كفر، فهل أنت مؤمن بأنّ الله سيحاسبك على ما تُسِرّ وعلى ما تعلن؟ فإن كان شراً وكنت مؤمناً كففت عن الشّرّ وعن البغي وعن الظلم وعن الخيانة وعن العدوان، فما دمت تظلم وتخون وتحقد وتؤذي وتنوي الأذى فإذاً أنت لست مؤمناً بالآخرة، وأنت كافر.. وهذا كلام الله وليس كلامي!
قال تعالى: ﴿وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ [البقرة:284]، عمّن تخفيه؟ عن الله عز وجل؟ تستحي أنْ تُظْهِر عيوبَك وخفايا نفسك أمامَ النَّاس، لأنك تخاف أن يحتقرك الناس أو يستصغرونك، ألا تستحي من الله؟ فأنت مؤمنٌ بالناسِ وكافرٌ باللهِ، تخافُ من كلامِ النّاسِ أو نقدهم أو عتبهم، ولكن لا تخاف من عقابِ اللهِ ولا من عتبه ولا من محكمته، فهل أنت مؤمن؟ هذا كلامُ الله! ونحن نقرأ القرآن بلا قلبٍ، ونقرأ القرآن بلا تدبرٍ، وقد حددَ الله الإيمان في القرآن بقوله: ﴿لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلۡبٌ أَوۡ أَلۡقَى ٱلسَّمۡعَ﴾ [ق:37] بأن يقرأ ويفكر، يقرأ ويتفهم، ليعمل ويطبّق وينفذ.. فإذا أخذ المسلم كتاب هندسةٍ وقرأَه وحفظَه عن ظهرِ قلب فهل يصير مهندساً؟ وإذا قرأ كتاب طبّ وحفظه عن ظهر قلبٍ مثل الذين يحفظون القرآن اليوم، فهل يصير طبيباً؟ لأنّ الكتاب يحتاج إلى معلم، ويحتاج إلى أستاذ، فأنتَ أيها المسلم: يا من تقرأ القرآن! من أستاذك الذي يعلّمك علوم القرآن؟ العلم الذي يُوجِب العمل ويثمر التقوى ويثمر الاستقامة حتى تصير قرآن العمل، فهذا المصحف قرآن الكتابة، والذي تقرأه قرآن التلاوة، فيجب أن يثمر قرآنُ الكتابة وقرآنُ التلاوة قرآنَ العمل حتى يُقْرَأ القرآنُ في أعمالِك، قال تعالى: ﴿وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ﴾ [البقرة:284].
يذكرون عن أمٍّ وابنتها، أن الأم قالت لابنتها: “امزقي الماء بالحليبِ” كانوا يبيعون الحليب، فقالت لها: اخلطي الحليب بالماء حتى يكثرَ، ونأخذ دراهم أكثر، فقالت البنت: “يا أماه أما سمعت عمر ينهى عن هذا؟” فقالت الأم: “ويحك! وأين عمر؟ فعمر لا يرانا”، فقالت البنت: “إذا كان عمر لا يرانا أليس الله يرانا؟” هذه فهمت قوله تعالى: ﴿وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ﴾ [البقرة:284]، هذا قرآن العمل! لذلك في عهد النبي ﷺ لم يكن هناك محاكم ولا قضاة ولا شرطة ولا سجون، وإذا وجد السّجين فمن الذي يأتي به ويقوده إلى السّجن؟ وأين السّجن؟ كان إيمانه يقوده إلى السّجن، وكان السجن في المسجد، يعني في المدرسة؛ في مدرسةِ العلمِ والإيمانِ.
عندما أذنب أبو لبابة رضي الله عنه -وتذكرون ذنبه الذي ذكرناه في الأسبوع الماضي- فإيمانه حَكَم عليه، فربط نفسه في سارية من سواري المسجد، وحلف بالله ألّا يأكل ولا يشرب حتى يموت أو يتوب الله عليه ، فكان المسلم لا يَتَحَمَّل ذنباً واحداً، أمّا المسلم الآن فبالاسم، كما قال الشاعر
تضع الذنوب على الذنوب وترتجي دَرَجَ الجنانِ وطيبَ عيشِ العابد
ونسيتَ أنّ اللهَ أخرج آدماً منها إلى الدنيا بذنبٍ واحدِ
“منها” من الجنة، فقد طرد الله عز وجل إبليس وجعلَه ألعنَ خلقِه، لأنه ترك كم سجدة؟ سجدة واحدة، وكم سجدة في صلاة الظهر؟ ثماني سجدات، أليس كذلك؟ وكم سجدة في صلاة العصر؟ ثماني سجدات، وفي صلاة المغرب ست سجدات، وكم في صلاة العشاء والفجر؟ كم سجدة صاروا؟ فإبليس ترك سجدة واحدة فصار ألعن خلق الله، وتارك الصلاةِ في اليومِ الواحدِ كم سجدةٍ يترك؟ أربعاً وثلاثين سجدة! وطُلِب من إبليس أن يسجد لآدم، والكعبة هي حجر نسجد باتجاهها، ونحن نمتثل أمر الله عزّ وجلَّ في السّجود، فالسجود لله.. فتاركُ الصلاةِ ليوم واحد يترك أربعاً وثلاثين سجدة وهي للهِ! ولا يرى نفسه أنَّهُ أصبحَ ألعن من إبليس، فالصلاة والزكاة والصوم وأوامر الله التي في القرآن، قال تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [النساء:36]، ابن السبيل: الغريب، وهذا من حقوق الإنسان ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ من إنسان وحيوان، فما أحوجنا إلى فقهِ القرآن!
أهمية تَعَلُّم الحكمة
اشتغل العلماء بفقه الفروع وأهملوا تعليم المسلمين فقه القرآن وفقه الإيمان وفقه الحكمة، قال تعالى: ﴿وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء:79]، ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة:129] فالمسلم عليه أن يحوز على الموادِ الثلاثةِ من علوم القرآن، بحيث تنتج العمل بأوامره والوقوف عند حدوده والانتهاء عن محارمه، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ ما الحكمة؟ جعلها الله عز وجل ثلث تعاليم الرسالة، وهي: “فعل ما ينبغي، في الوقتِ الذي ينبغي، على الشكل الذي ينبغي” فهل هنالك فقيه أو كتاب فقهٍ جعل باباً للحكمة؟ لقد جعلوا باباً للعتق وباباً للنكاح وباباً للمواريث، فهل في كتب الفقه باب الحكمة؟ أليس هذا من الفقه؟ ((مَن يُرِد الله بِهِ خيرًا يُفقِّهُهُ في الدّين)) أليست الحكمة من الدين؟ وقد جعلها الله جزءاً واحداً من ثلاثة أجزاء من مجموع الدين: ﴿ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ﴾ [البقرة:129] وجعلها نصف النبوة، قال تعالى: ﴿وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء:79]، لذلك يقع المسلمون في الأخطاء أفراداً وجماعات وحكومات ودُوَلاً لجهلهم بفقه الحكمة.
وتعريف الحكمة العلمي: “هي معرفةُ الأمورِ بحقائقِها وبواطنِها ومعرفة ارتباط المسَبَّبات بأسبابِها، خَلْقَاً وأمراً”.. حكمةُ الخَلْق: لماذا خلق الله هذه الحشرة أو هذا النبات؟ قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا﴾ [ص:27]، إذاً لم يخلقه الله إلا لحكمة.. يدرس الأجانبُ الديدان في قاعِ البحار، ولا يتركون عشباً إلّا ويدرسونه ليتبيّنوا الحكمة والغاية من وجوده، وذلك بدافعِ الفائدة، أمّا في الإسلام فبدافعِ الدِّين والواجب الإلهي، ونحن لا ندرس الكون لا ديناً ولا منفعة لنستفيد من العلم، ونقول نحن خير أمة! لقد كانوا خير أمة.. ونسأل الله أن يعيد الأمة الإسلامية إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله ﷺ، “ونحن قوم أعزّنا الله بالإسلام”، أي بالاستجابة إلى أوامر الله لا باللقب، فإذا لقّبتَ نفسَكَ بالطبيبِ لا تصير طبيباً، أما إذا تَعَلَّمْتَ وتدربْتَ في كلياتِ الطِّبِ، فيمكن أن تصير طبيباً.
“ومهما نرد العزَّة بغيره” بغير الإسلام والاستجابة لأوامر الله “يُذِلُّنا الله” فهل وجودُ إسرائيل عزٌّ للعرب والمسلمين أم ذُلٌّ؟ وهل تمزق المسلمين إلى أكثر من خمسين دولة عز أم ذل؟ قوة أم ضعف؟ ارتقاء أم انخفاض؟ يقول النّبي ﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كالْجَسَدِ الواحد)) .
ما نسمعه ونشاهده في التلفاز في البوسنة والهرسك والشيشان والصومال وأفغانستان.. فقد انتصر الأفغان في معركةِ الجهادِ الأصغرِ على الروس -على الشيوعيين- ولكن لمّا دخلوا في معركة الجهاد الأكبر، جهاد النَّفس والهوى هُزِموا، لذلك سماه النبي ﷺ الجهاد الأصغر، سماه أصغراً لأنَّ أمره هين، أمّا مخالفة النفس والهوى ومحو الأنا فقد سمّاها الجهاد الأكبر؛ فلأنَّهم لمْ يجاهدوا الجهادَ الأكبر، يَقتُلُ بعضُهم بعضاً، ويُدَمِّرون مدنَهم وبيوتَهم على نسائِهم وأطفالِهم وشيوخهم وصغارهم وكبارهم، قال تعالى:﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ﴾ [الحشر:2]، فلا بدَّ لكلِّ واحد منَّا -مسلم ومسلمة- أنْ يكونَ كما قال النَّبي ﷺ:((إنَّما النّاسُ صنفان: عالمٌ ومتعلمٌ)) ، لم يقل: عالمٌ أو متعلمٌ، بل قال: “عالم ومتعلم”، فكلُّ مسلمٍ عليه أنْ يجمعَ بينَ الصّفتين، فيكون عالماً ومتعلِّماً، ثم ينتقل إلى العالِم المعلِّم، فتتعلم ما يَنْقُصُكَ وتُعَلِّم ما ربحته واستفدْتَهُ وعلِمْته، يقول النبي الكريم ﷺ: ((بلغوا عنّي ولو آية)) ولو آية واحدة، ويقول: ((لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بك رجلاً واحداً، خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ)) .
القرار المكين
قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾ [المرسلات:21]، فالنطفة لا تسقط، بل تَعْلُق علوقاً ويحافظ عليها الرحم حفاظاً.. بعض إخواننا الأطباء قدَّمَ لي هذا الكتاب، بعنوان: “القرار المكين” كتبه أحد الأطباء حول هذه الآية: ﴿أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (21) إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾ [المرسلات:20-23]، كلّه بنظام وتوقيت ومنتهى الدَّقة.
مراقبة الله عز وجل
قال تعالى: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات:24]، للذي يقول: لا يوجد قيامة ولا يوجدُ بعث ولا حسابٌ، ويقول: ﴿مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس:78]، فالذي قَدِر على أنْ يخلقَه من ماءٍ مهين، ويجعلَه في قرارٍ مكين، فلا يَضِيْعُ ولا يَتْلفُ، وإلى قَدَرٍ مَعلوم، فهو المقَدِّر، ونِعْمَ المقدِّر! فكيف يُكَذِّب المُكذِّبُ بيوم القيامةِ؟ فالويل والهلاك والخُزي وسواد الوجه للمكذبين.
فالبائعُ الذي يحلف أيماناً كاذبة، هل هو مصدِّق بيوم الدين؟ والذي يخلطُ الماء بالحليبِ هل هو مصدّق بيوم الدين؟ والذي يسمعُ الأذانَ ولا يستجيب، هل هو مصدّق بيوم الدين؟ والذي آتاه الله مالاً ولا يزكي، هل هذا مصدّق بيوم الدين؟ بلسانه مصدق.. إذا قال لك أحدهم: “أنا أحبك”، ثم صفعك على خدك، وقال لك: “يا حبيبي، يا عيني، أنتَ معشوقي ومحبوبي”، وأخذَ نعلَهُ العتيق، ونزل به على رأسك ضرباً، وقال لك: “يا حبيبي، يا عيني” فأيّهما أصدق قوله أم عمله؟ فبقولِه محبٌّ أما بعمله فعدوّ.. فلا نكذِّب على أنفسنا.. علينا أن نصير مسلمين؛ يعني مسلمين حقاً.
قال تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء:23]، ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ [الإسراء:23] إذا كان شخص يؤذي أو يعق أو يفعل ما يفعل ويقرأ القرآن وقد يكون قد حفظه عن ظهر قلب أو حفظه على السبعة والعشرة والأربعة عشر، فهل استفاد شيئاً من القرآن؟ كونوا على ثقة! واللهِ من يصدق منكم في فقه القرآن.. هو كتاب واحد، وليس مكتبة من الأرض إلى السقف، اقرؤوه بفهم، والذي لا تفهمونه اسألوا عالِمَه، وقبل هذا ابذلوا كل جهدكم ليكون لكم قلب؛ لأن الله عز وجل شرط بأن القرآن لا يُهْضَم ولا يَتَمَثَّل ويَتَحَوَّل من كلمات إلى أعمال وأخلاق وإيمان إلّا ﴿لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق:37]، فعندما يَقْرَأ القيامة كأنَّه يشهدها، وعندما يقرأ الحساب كأنَّه يشهده، وعندما يقول له الله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد:4]، كأنَّما يشهد أنَّ الله معه.
((الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)) ، فهل يمكن لأحد منكم أنْ يصير نجاراً بلا مُعلم ومدرب، أو أنْ يصيرَ حداداً بلا معلم ولا مدرب، أو أنْ يصير طبيباً بلا معلم ولا مدرب؟ فأنتَ من الذي علمك الاسلام ودرّبك عليه؟ ومن الذي ربّى نفسَك لتتقبلَ واجباتِه وتَحذَر وتتجنب ما حرّمَ الله؟ مَن؟ ليس لك شيخ!
قصة الحَجّاج مع المتكاسلين عن الطاعة
يذكرون عن الحجاج المشهور، أنَّ أمّه قالت له يوماً: يا بنيَّ، اتّقِ الله في الناس! فأنت تقتلُ الناسَ وتسجنهم وتفعل وتفعل.. إلى آخره، قال لها: “واللهِ يا أماه إنهم مستحقون لذلك”.. ثم قال لها: “تعالي معي واشهدي بعينك”، مشَتْ معه فمرَّ على بَقّالٍ -يعني سَمّان- فرآه يصلي قاعداً، فلمَّا انتهى من صلاتِه، قال له: “هل عندك جَرَّةَ ماء؟” التي تسمى عندنا “حُقّ”.. وأين يضع السَّمَّان الجرار عادة؟ في الرف الأعلى، قال: “نعم يوجد”، قال له: “أعطني واحدة”، وإذا به يقفزُ من رفٍّ إلى رفٍّ إلى رفٍّ، وأخذ الجَرَّة وقدّمها له، وضرب عليها.. دليل على أنها سليمة، فقال له: أعطني أخرى، فإنه لم تعجبني.. وأعاد الأمر ثلاث مرات أو أربع، فجعله يقفز عدّة مرّات، ثم قال له: “لماذا تصلي وأنت جالس؟” قال له: “واللهِ إن رجليّ وركبتي تؤلمني”، قال له: “من أجل حُقٍّ تربحُ فيه مبلغاً زهيداً قفزت عشرين قفزة، أمّا لوقوفك بين يدي الله تقول: رجليَّ تؤلمني! ومن أجل الحُقِّ فأرجلك لا تؤلمك!” ثم قال لأمه: “ألا يستحق قطع الرأس؟”.
قال لها: “امشِ”، فدخلَ على معصرةِ الزّيتون، وذهب فرأى الذي يعصر الزّيتون، وكان رجلاً كبيراً في السِّن وظهره مقوّس، فقال له: “قنطار الزيتون كم يعصر من الزَّيت؟” فأجابه بدقة، ثم سأله عن نصف قنطار وربع قنطار والرطل، وهو يجيب بدقة، فقال له: ما أركان وشروط الصلاة؟ قال له: لا أعرف! ثم قال له: “ما معنى هذه الآية القرآنية؟” قال: “لا أعرف”، قال له: “في دنياك حتى الزّيتونة تعرف كم تُخْرِجُ من الزَّيتِ، وأنت فقيه فيها، أما في دينك فأنتَ معرِضٌ عنه”، فقال لأمه: “ألا يستحق قطع الرأس؟”
والشّاهد قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ [فاطر:45].
مسؤولية التعليم
أيها الإخوة: عليكم أن تعرفوا أن كلّ واحدٍ منكم الآن يتحمّل مسؤولية، وهي أنْ يُعَلِّم ما عَلِمَه، فيُعَلِّمه لمن لا يَعْلَمه؛ لزوجاتكم وأبنائكم وبناتكم، قال تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء:214]، وقال تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾ [الشعراء:214]، اجهر ولا تستحِ.. ماذا سيقولون لك؟ يقولون: “أنت شيخ”! قل: نعم أنا شيخ، وإن قالوا: رجعي، فقل: أنا رجعي. [في وقت هذا الدرس وقبله، أي في زمن انتشار الفكر الشيوعي والاشتراكي في العالم العربي وفي سوريا خاصة كانت كلمة “شيخ” مُمْتَهَنة، وكان الناس يقولون عن الشيخ والمصلِّي والملتزم بدينه: رجعي ومتخلف]
“ومهما نرد العزّة بغيره يذلّنا الله”، فإذا ذهبنا إلى غير الإسلام وأذلّنا الله؟ لذلك لا بدّ من الرّجوعِ إلى فقه ومدرسة كتاب الله.. رجعي: أي نرجع إلى إسلامنا وقرآننا، وهذا فرض.. فعلى المرأة بأن تُعَلِّم رفيقتها في جلسة عزاء أو في عرس، وبالحكمة والموعظة الحسنة، ((ولَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ إنساناً واحداً، خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)) .
فهل تعاهدونني على هذا؟ هل في المسجد فقط أم إذا خرجتم من المسجد أيضاً؟ الذي يعاهدني داخل المسجد وينسى خارجه يرفع يده لكي أراه! تخجلون مني.. يا ترى ألا نخجل من الله بأن عاهدنا وكذبنا؟ فالمسلم إذا حدَّث صدق، والمنافق إذا حدَّث كذب، هل تعاهدونني على أنَّ ما تَتَعَلَّمُونَه تُبَلِّغُونه لغيركم؟ وهل هذا داخل المسجد أم خارجه؟ فالذي يعاهد أن يكون ذلك خارج المسجد يرفع يده كي أراه! نسأل الله أن يُثَبِّتنا بقوله الثابت، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ﴾ أي يعاهدونك ﴿إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح:10].
من نعم الله عز وجل
ثم قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا﴾ [المرسلات:25]، كفاتاً تعني ضَامَّة، أي تضمُّ الإنسان أحياء على سطحها وأمواتاً في بطنها.
﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ﴾ [المرسلات:27]، الرواسي: الجبال، قالوا: “إنَّ قشرة الأرض التي نعيش عليها، وعليها جبالها وترابها بالنسبة لباطن الأرض مثل قشرة التفاحة الرقيقة بالنسبة لما في داخل الأرض”، هل هذا واضح ومفهوم؟ نحن نعيش على قشرة مثل ورقة السيجارة، وماذا في باطنها؟ باطنها بحر من النار ﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾ [الطور:6]، “سَجَرَ التَّنُّور”: إذا اشتعل والتهبَ وارتفعت نيرانه، فالله عز وجل أحاط هذا البحر من النّيران في داخل الأرض بطبقة صوانية، فتتصل جبالُنا بتلك الطبقة الصّوّانية التي تحيط بهذا البحر النِّيْراني المسجور، الذي كله من نار الله الموقدة.
﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ [المرسلات:27]، من الذي أوجد الطبقة الصّوَّانية وجعل منها الجبال؟ ولماذا الجبال؟ لتصدَّ الرَّياحَ، فتَحبِس الأمطارَ ضمن مساحة محدَّدَة، وجعلها الله مخازنَ لمياهِ الأمطار، حتى تخرجَ بالتدريج في فصول الربيع والصّيف والخريف.
﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم﴾ من مخازِنِها ﴿مَآءً فُرَاتاً﴾ [المرسلات:27] عذباً حلواً سائغاً للشاربين، فمن صمّم هذا التصميم؟ ومن قدّرَ هذا التّقدير؟ ومن صنعَ هذا التصنيع؟ هل هو عاجز على أنْ يعيدك يا إنسان بعد موتك مرة أخرى للحساب؟ قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7-8].. فكل ّهذه الآيات لإثبات الحياة بعد الموت ولإثبات القيامة بالطريق العقلي العلمي المنطقي البرهاني الإقناعي.
فإذا حفظت سورة المرسلات ولم تفهم معانيها ولم تَفهَمها فهماً يحقّق في أعمالك وحياتك ثمراتِها وسلوكَها فأنت ما قرأت القرآن، كما قال الشاعر
رب تالٍ يتلو القُرَانَ بِفِيْهِ وهو يفضي به إلى الخذلان
المسلمون يقرؤون القرآن في بيوتهم وفي مساجدهم وفي الإذاعات، فهل يا ترى انتصروا أم هم منهزمون؟ وهل تقدّموا أم هم متخلفون؟ وهل هم أعِزّاء أم أذلاء؟ هذه هي إسرائيل، وهي تتحدى العالم الإسلامي كلّه من إندونيسيا إلى المغرب؛ ماذا فعل المسلمون؟ لمْ يفعل المسلمون شيئاً، لأنّنا نقرأ القرآن بأفواهنا لا بقلوبنا، ولأنَّ القلب نادراً ما يخون، ولأنَّ القلبَ يحتاجُ إلى مدرسةِ القلوبِ ومعلِّم القلوبِ، كما قال الشاعر
“قلوبٌ إذا منه خَلتْ”: القلوبُ إذا خَلَتْ من ذكرِ الله ومن نور الله ومن عظمة الله.
قلوبٌ إذا منه خلت فنفوسُ لأحرف وَسْوَاسِ اللعِيْنِ طُرُوْسُ
“قلوبٌ إذا منه خلت فنفوسُ”: نفوسٌ أمّارة بالسوءِ، “لأحرف وَسْوَاسِ اللعِيْنِ طُرُوْسُ”: تصير دفتراً يكتب بها الشيطان وساوسه ورغباته، ونفسك الأمّارة بالسوء تكون شرطياً عنده تُنَفِّذُ ما يُكْتَبُ لها.
وإن مُلِئَتْ مِنهُ ومِن نُورِ ذكرهِ فتَلْكَ بُدُوْرٌ أَشْرَقَتْ وَشُمُوْسُ
“وإن مُلِئَتْ” هذه القلوب “منه” من جلال الله ومخافة الله ونور الله، “ومن نور ذكره، فتلك بُدُوْرٌ أشرقتْ وشموس”.
﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا﴾ [المرسلات:25] ضَامَّةً جامعةً لكلّ مخلوقات الأرض، أحياءً على ظهرها وأمواتاً في بطونها.
﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ﴾ [المرسلات:27]، فمن الذي خلق الأرض؟ ومن الذي خلق الموت والحياة؟ ومن الذي جعلَ على الكتلةِ النّارية الطبقةَ الصّوّانية؟ وبرزت من هذه الطبقة الصوانية الجبالُ لتصدَّ الرِّياح وتُقَسِّم نزول الأمطار بالتقسيم الإلهي، وجعلَ منها مخازنَ للمياهِ، حتى إذا كادَت أنْ تنضبَ المخازنُ ومنابعُ الأنهار يُشَغِّل الله عز وجل المحرّك الإلهي، فتُحَلِّي معاملُ التحلية الماءَ من البحار ويُخرجُها بخاراً، ويَسُوق الرياح لتلك السحب ويُنْزِلُها في الأماكن التي يريدها، فمن صنع كلّ هذا؟ فهل يا ترى خُرِمَت حَبّاتُ السُّبْحَةِ ونظمت هكذا بنفسها؟ وهل طُبِع هذا الكتاب بنفسه وجُلّد بنفسه؟ وهذا المذياع هل وُجد بنفسه؟ وهل هذا القلم وُجِد بنفسه؟ وهذا الكون بما فيه بنظامه من ذرَّاته إلى مجراته، قال تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة:111]، فالإسلام لا يخاف من العقل، بل الإسلام هو أبو العقل، وهو الذي يربّي العقل ويحوّله من نواة إلى نخلة.
فعندما أتى القرآن إلى العرب كان عقلهم لا يتجاوز صحراءهم ولا يتجاوز أميّتهم ولا يتجاوز تقاتلهم وتعاديهم، فماذا صنع فيهم القرآنُ لمّا علِموه حقَّ العلمِ، وهضموه بأفكارهم وقلوبهم، فتمثَّل فيهم أعمالاً وجهاداً وعلماً وحكمة وأخلاقاً ونفوساً مرسلات عرفاً وعاصفات عصفاً وفارقات فرقاً وناشرات نشراً وملقيات ذكراً؟ فماذا صنع بهم القرآن؟ صنع منهم ﴿خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ﴾ بماذا؟ قال تعالى: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه﴾ [آل عمران:110]، فالإيمان هو الذي قالت به الفتاة لأمها: “إنْ لم يرَنا عمر أفلا يرانا ربُّ عمر؟” هذا بعض مظاهر إيمانك بالله، أمّا إيمانك بكتاب الله فأنْ يتحول من قراءة وسماع إلى أعمال وأخلاق وسلوك من أقصر آية إلى أطول سورة، وإذا لم يتمثل القرآن فيك عملاً ضمن طاقتك وضمن الحكمة، فأنتَ لست مؤمناً بالقرآنِ، فجدّد إسلامك على يد من يعلّمك الكتاب والحكمة ويزكّي نفسك.. اللهمَّ آت نفوسنا تقواها وزكِّها أنتَ خير من زكاها، أنت وليها وأنت مولاها.
قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ﴾ [المرسلات:27]، شامخات في جهة السّماء والفضاء، ﴿وَأَسْقَيْنَاكُم﴾ [المرسلات:27]، فلو أنزل الله المطر بمِلْحِه فهل يمكن أن تكون حياة وأحياء على وجه الأرض؟ ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المطففين:10]، فهل أنت مصدِّق بكلام الله أم مكذِّب؟ فبالأقوال كلُّنا مصدقون، هل من أحدِ مكذِّب بلسانِهِ؟ وهلْ ينفعُ التّصديق باللِّسان وحده؟ فإذا لم يُثَنَّ ويُشَفَّعْ بتصديقِ العملِ بأن يَتَحول السّماعُ والتلاوة إلى أعمال فجدّد إسلامك وإيمانك، وجَدِّد دَمَك.. ألا يوجدُ أناس الآن يجددون دمهم ويغسلونه كل أسبوع لتعطل عمل الكليتين؟ كذلك إذا لم يكن قلبك يعمل بشكل صحيح، فابحث عن طبيب القلوب ليعالج مرض قلبك الذي يُؤْثِرُ الباطلَ على الحقِّ والنِّفاق على الإيمان والكسل على العمل، حتى إذا لقيت الله عز وجل تلقاه مؤمناً صادقاً، فتكسب سعادة أبد الآباد وخلودَ الخلود.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهمّ اجعلنا هادين مَهْديين ولا تجعلنا ضالين ولا مضلين ولا تخزنا في هذه الدنيا ولا يوم الدّين.