تاريخ الدرس: 1995/02/17
في رحاب التفسير والتربية القرآنية
مدة الدرس: 01:23:03
سورة المرسلات، الآيات: 28-50 / الدرس 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلوات وأكمل التحيّات المباركات الطّيبات على المبعوث رحمةً للعالمين سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين، وعلى أهل بيته الطّيبين الطّاهرين، وعلى أصحابه المجاهدين الذين باعوا أنفسهم وأرواحهم ومُهَجهم في سبيل الله، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعدُ:
على ماذا ركزت سورة المرسلات؟
نحن في تفسير بعض آيات من سورة المرسلات.. يقول الله عز وجل عن المكذبين برسالات الأنبياء وبرسالات وحي السماء: ﴿وَيْلٌ﴾ أي الهلاك والشّقاء والتّعاسة والعذاب والخزي للمكذّبين برسالة السّماء التي هي القرآن العظيم.. وقد ركزت سورة المرسلات أكثر ما يكون على الحياة الآخرة، حياة الخلود والاستقرار والدوام بلا انقطاع لحياة الإنسان، وركزت على النعيم الدّائم وعلى السّعادة الخالدة الأبدية التي لا يُغَيِّرُها أو يُنْقِصُها تعبٌ أو عذابٌ أو همٌّ أو مرضٌ أو شيخوخةٌ أو هرمٌ، وعلى نعيم الأبد وعلى عذاب الأبد الذي لا يجد فيه الإنسان راحةً ولا سعادةً ولا هدوءً، ويتمنى أنه لو لم يكن خُلق ويتمنى لو كان كالدواب التي ماتت وصار تراباً ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ [النبأ:40].
فتركز السّورة وأمثالها من السّور على غرس الإيمان بهذه الحياة الخالدة، فالكافر لا يعتقد أنّ حياته تتميز عن حياة البهائم والدواب والكلاب والحمير، يعني نهايته ونهاية الحمار واحدة، وكذلك فإن حياتهما واحدة، فكلاهما يأكل، وكلاهما يشرب وينام، وكلاهما يتناكح ويتناسل، ويتميز الحيوان عن الإنسان أنه لا همَّ عنده ولا تشويش لما بعد ساعته التي هو فيها، والإنسان يعيش بهموم ساعته ويومه وأسبوعه وشهره وسنته، ولو عاش مئة سنة يعيشها في الهموم والتشويش والأوهام والخيالات، بينما يعيش المؤمن في دنياه هذه برضائه بقضاء الله وقدره، ويعيش بشكره لله على نعمه -والشكر فرض- فينظر إلى مَن دُوْنه في الدنيا فيرى نفسه في حالة جيدة.. والفقير إذا رأى من هو أفقر منه يرى نفسه غنياً، والموجوع إذا رأى وفكَّر فيمن هو أكثر منه ألماً يشكر الله على ما هو فيه، والغني إذا نظر إلى نعمة الله عليه فقام بشكرها قلباً ولساناً وعملاً فهو في سعادةٍ في دنياه التي هي حياته المحدودة المعجَّلة، ثم ينتقل إلى حياة الأبد والخلود ونعيم الخلود وسعادة الخلود.. اللهم اجعلنا من أهل نعيمِ وسعادةِ الخلود.
كثرة ذكر القيامة في القرآن الكريم
فنصْف القرآن يدور حول الإيمان باليوم الآخر؛ لذلك يقول النبي ﷺ عن سورة الزلزلة: ((تَعْدِل نِصْف الْقُرْآن)) 1 ، لأنها تتعلّق كلها بالقيامة، تبدأ القيامة بالزلازل، وتكثر الزّلازل قُبيل خراب الدّنيا ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ [الزلزلة:2] معادنها وبترولها وحديدها ونحاسها ورصاصها ﴿وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا﴾ [الزلزلة:2]، وقال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا﴾ [طه:107] لا وادياً عميقاً ولا جبلاً شامخاً .
وقال أيضاً: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوش﴾ [القارعة:5] هذه مقدّمات يوم القيامة وخراب الكرة الأرضية، والنتيجة: ﴿لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ [الزلزلة:6] فأعمالك كلّها مسجلة بشرائط الفيديو الإلهية من حين بلوغك إلى آخر نَفَس من أنفاس حياتك، وتُحذَف المباحاتُ من الحساب، وتبقى طاعات الله عز وجل ومعاصيه مسجلة، فتُعرض أعمالك في محكمة قاضيها الله وشهودها أعمالك وجوارحك ولسانك ويدك ورجلك، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ﴾ [يس:65] بالفيديو إذا عمل أحدهم جناية وأُخِذَت له صورة والخنجر والمسدس في يده فهل يحتاج إلى شهود عندما تعرض الصورة وهو يطلق الرصاص على ضحيته أو عندما يغمد الخنجر في ضحيته؟ ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ﴾ وفِيْلْمَك ﴿كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء:14].
قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ﴾ من قبورهم ﴿أَشْتَاتًا﴾ جماعات ﴿لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ [الزلزلة:6]، وكما قال تعالى: ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النمل:90] فإذا زرع أحدهم “زِيْوَاناً” [نبات يخرج لوحده ليس له قيمة] ماذا يرى عند الحصاد؟ فهل ينتظر أن يحصد رزاً أو قمحاً وعدساً؟ وإذا زرع أحدهم زنبقاً فهل يمكن أن يحصد شوكاً أو عشباً لا خير فيه؟ ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ [الزلزلة:6] ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [النحل:118].
خطورة الحسد
فلماذا يحسد زارعُ الشوك زارعَ الزنبق؟ قل له: “إنك لم تزرع كما زرع، فَلُمْ نفسك ووبِّخ نفسك وعقلك وكن عدواً لنفسك الأمّارة بالسوء”، أما أن تكون عدواً للمُجِدّ المجتهد العاقل الحكيم الذي تعلّم الواجب وأدَّاه فأحسن أداءه وتذهب فتؤذيه فتعصي ربك وتخالف المنطق والعقل لا تستفيد شيئاً، فالحاسد الفقير إذا حسد المجدَّ المجتهد الغني فهل يصل له نصف ثروة الغني؟ وإذا كان رفيقان في المدرسة أحدهما جدَّ واجتهد ودرس وكان عنده عقل جيد حتى صار وزيراً أو رئيس وزراء، والآخر ضيَّع عمره في بطالة ولهو ولعب حتى صار خادماً وفي أدنى الدرجات، فإذا حسد رئيسَ الوزراء فهل يصير وزير عدلية؟ وهل يشاركه في الوزارة؟ كل ما في الأمر يزداد هَمَّاً وغماً وتَحَرُّقاً وعذاباً نفسياً، لذلك قالوا
لله درُّ الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله
إذا كان عاقلاً يقول: أنا الجاني على نفسي، وذاك يجب أن أتعلم منه، فإن لم أتعلم منه في الماضي فلأتعلم منه في الحاضر، فلعلي أستدرك بعض ما خسرته وبعض ما فاتني.
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7] إذا قُسِمَت الذّرّة إلى سبعين جزءاً، فكل جزء منها ما اسمه؟ اسمه مثقال، يخاطبنا الله عز وجل كي لا نحتقر عمل الخير مهما كان قليلاً وحقيراً، فتزن موازينُ الله مثاقيلَ الذّرّ وتكافئ عليها؛ إن خيراً فخير وإن شراً فشر، أمّا أن يشغل نفسه بالعذاب والحسد بأن يقول: “دَمَّره الله! من أين له هذا؟ لقد فعل كذا وسرق كذا ونَهَب كذا” فيقع مع الحسد في الغيبة ويقع في أعراض النّاس ويكسب غضب الله، بالإضافة إلى أن كلامه سيصل لمن تكلم عنه ويصير ممقوتاً من صاحب النعمة، فلا كسب دنيا ولا آخرة، إنّما ازداد هماً وحزناً وسُقْماً، ولذلك نسأل الله أن يحمينا من الحسد، فأول ذنب وقع في هذه الحياة حَسَدُ إبليس لآدم، فقال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ [الأعراف:12] وعليه أن يسجد لي لا أن أسجد أنا له! ونسي أن الأمر صادرٌ من الحضرة الإلهية.. وكذلك فإن الله عز وجل أمرنا أن نسجد نحو الكعبة، ولم نقل [معترضين] إنّ هذا حجر ونحن بشر! إنما نمتثل أمر الله عز وجل وكفى.
التشنيع على من كذب بيوم الدين
والخلاصة: فبعد كل آيتين أو ثلاث يقول الله تعالى: ﴿وَيْلٌ﴾ يعني الهلاك والشقاء والتعاسة للمكذبين بيوم القيامة ويوم الحساب ويوم يُوضَع الكتاب: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ﴾ كتاب الأعمال أمامك في محكمة الله، ﴿فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ﴾ [الكهف:49] الذين لم يكترثوا بأوامر الله ولم يكترثوا بقوانين وشريعة الله فأحلّوا الحرام وتركوا الفرائض وتركوا وصايا الله ووصايا أنبيائه ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ﴾ ففي يوم القيامة الويل لهم.. وإبليس كان الويل له في الدنيا قبل الآخرة، فهل من الممكن أن تقول لله: “أنا خير؟” إذا قال لك: “اسجد لقِرْد”..
قيل
واسجدْ لِقِرْدِ السُّوءِ في زمانه ودَارِهِ ما دمتَ في سُلطانِه
إذا وقعتَ بين يدَيْ ظالمٍ بيدِهِ كلُّ شيء وأنت فاقدٌ كلَّ شيء، فالحكمة أن تساير الأمور، والمؤمن يداري ولا يداهن، “ومداراة الناس نصف العقل”، والنبي ﷺ يقول: ((أُمِرْتُ بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أُمِرْتُ بأداء الفرائض)) 2 ، فإذا كانت عندك زوجة شَرِسة أو زوج شرس أو شريك أو عامل أو مَن بَيْنَك وبينه صِلَةٌ عليك أن تداريهم.. نسأل الله عز وجل ألا يبتلينا.
محكمة الله سبحانه وتعالى
فالخلاصة: سورة الزلزلة تعدل نصف القرآن لأنّها تتعلق بمحاكمة الإنسان في محكمة الله.. كان الناس والعلماء وكذلك كنت أنا، وكان المشايخ يعلموننا أن اقرأ سورة الزلزلة فتحصل على ثواب كأنك قرأت نصف القرآن، فنقرأ دون تفكير بمعنى وهدف السّورة، ونفكر في الثواب فقط.
ومعظم سورة المرسلات، بل كلها تتحدث عن يوم القيامة، وسورة النبأ عن القيامة، وسورة النازعات عن القيامة أيضاً، وسورة الإنسان -قبل المرسلات- معظمها في يوم القيامة.. يعني يجب أن يكون نصف تفكير المسلم والمسلمة في الحياة في محكمة الله، التي قاضيها لا يرتشي ولا يحابي، ولا يوجد فيها محامٍ يستطيع بذكائه قلب الحق باطلاً أو الباطل حقاً، ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ﴾ [يس:65] ولا يوجد شهودُ زورٍ، ولا يمكن أن ترشي الشهود ليغيروا ويبدلوا ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ﴾ لا تستطيع الكذب على الله ولا أن تدافع دفاع الباطل ﴿وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ﴾ [يس:65] يظهر الفيلم وأنت ذاهب إلى الجامع، إلى أين؟ إلى جامع أبي النور، لماذا؟ إلى مدرسة الله وإلى مدرسة القرآن وإلى ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا﴾ [المرسلات:1] ﴿وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس:65].
﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [فصلت:21] كيف ستنطق اليد والرجل وتشهدان؟ ﴿وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [فصلت:21] الذي خلقك من لا شيء ألا يستطيع أن يجعل يدك تنطق؟ فنسأل الله أن يرزقنا حقائق الإيمان.
والمقصود من قراءة القرآن الثّقافة في علومه حتى يصير فيك إيماناً يقينياً، فيحيا فيك الضّمير الإيماني، ((اسْتَفْتِ قَلْبَكَ ولو أَفْتَاكَ المفتون)) 3 .
النفس اللوامة
((إذا سرتك حسنتك)) إذا فعلت الخير والعمل الصّالح وفرحت من أعماق قلبك بما وُفِّقت له ((وساءتك سيئتك)) وإذا عملت السّوء ولامتك نفسُك وعاتبَتْك وذَكَّرَتْك ونَخَزَك ضميرُك الإسلامي ((إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن)) 4 وإذا عملت السوء ولم تشعر بألمه الداخلي في ضميرك، صار ضميرك شيطانياً يفرح بالسوء ويبغض الحق والحقيقة، لأنّ ضميرك الإيماني ميت.. فإذا سرتك حسنتك وساءتك سيّئتك فهذه النفس اللوامة التي جعلها الله في عظمته وقدسه يميناً مقدساً فقال: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [القيامة:1] يعني أقسم بيوم القيامة ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ [القيامة:2] يعني: وأقسم بالنفس اللوامة.. ما أحلى أن تكونَ يمينَ الله وقَسَمَه يَحْلِف بك وبنفسك! فهل عندما قرأنا “النفس اللوامة” اجتهدنا أن نزكي نفوسنا بالتوبة الصادقة عما مضى؟ لأن ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)) 5 ، و ((إِنَّ الإِسْلاَمَ يَجُبُّ -ويمحو- مَا قَبْلَهُ)) 6 ، أم نقرأ القرآن بقلب ميت وفكر معرض عن معاني وأهداف القرآن، فلا نزداد بقراءة القرآن إلا بُعداً عن الله وسَخَطاً منه علينا، ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ﴾ من المنافقين ﴿مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا﴾ ماذا استفدتم؟ ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [التوبة:124] فالأرض الخصبة التي يوضع فيها البذار الجيد إذا نزل المطر تُنْبِتُ من كل زوج بهيج، والأرض السبخة التي كلها ملح فمهما وضعت فيها من البذار الجيد تموت البذار ولا تُنْبِت شيئاً ويذهب التّعب والعمل أدراج الرياح، فإذا قرأت مثل سورة المرسلات، ومثل قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات:28] مكذبين بماذا؟ بيوم القيامة، فاسأل نفسك هل أنت مكذِّب بيوم القيامة في أعمالك؟ وهل تحاسِب نفسَك على أعمال لسانك وبماذا نطق؟ وهل تُكافَا عليه أم تُعاقَب عليه؟ وكذلك تحاسِب نفسَك على عينك وأذنك وتفكيرك، فتكون حينها مؤمناً بيوم القيامة.. لماذا يقول الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران:119]؟ أي لا تنوِ نية سوء للآخَرين، ولتَكن نيّتك صالحة حتّى لأعدائك! وهذه صفة المؤمن: ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ [الرعد:22]، يدفعون بالحسنة السيئة، وقال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت:35].
﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات:28] فإذا كنت تقرأ القرآن لتفهمه ولتعمل به ولتعلِّمه؛ ثلاث مسؤوليات: التلاوة ثم العلم ثم تعليم الآخرين بأقوالك وأعمالك، فعند ذلك تكون مسلماً وتكونين مسلمة، وإلّا: ((رُبَّ تَالٍ يتلو الْقُرْآَن وَالْقُرْآَنُ يَلْعَنُهُ)) 7 ، يقرأ ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران:61] وهو كاذب، فيلعن نفسه بلسانه وبتلاوته لكتاب الله عزَّ وجل.
من أهوال القيامة
يقول الله عز وجل: ﴿انْطَلِقُوا﴾ [المرسلات:29] يقال ذلك في مواقف القيامة للمكذبين بها، فالذي آمن بأن الصلاة ركن من أركان الإسلام، ولكنه لا يصلي فهذا كاذب بالقرآن، وآمن بأن الزكاة من أركان الإسلام ولا يزكي، وآمن بالحرام وهو يرتكبه، وآمن بالفرائض وهو يُضَيِّعها، فيقال لهؤلاء المكذبين: انطلقوا واذهبوا وامشوا، إلى أين؟ ﴿إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [المرسلات:29] كنتم تكذِّبون بأعمالكم! وكان إيمانكم بأقوالكم! وكنتم: ﴿مِنَ الَّذِيْنَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة:41] فعندما تؤمن بالحَيَّة والثعبان إيمان القلب، فهل تضع إصبعك في فمه؟ لماذا؟ لأنّ إيمانك بِسُمِّه إيمانٌ قلبي، وإذا علَّمتَ الطفل أنّ لدغة الأفعى قاتلة وصار ينطق بها، ولكن لا يفهم معناها ولا يعمل بمقتضاها، فهل يمنعه أن يضع إصبعه في فم الأفعى مع أنّ لسانه يقول بأنّ لدغتها قاتلة؟ ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [آل عمران:167].
فلا تكن طفل الإيمان ولا تكن طفل الإسلام! ففي دنياك لا أحد يستطيع أن يغلبك بقرشٍ واحد، وبدينك يأخذ الشّيطان كل دينك وكل إيمانك ولا تشعر بشيء، مثل الطفل إذا وضعت في حضنه مئة ألف ليرة ذهبية وجاء أحدهم ليأخذها، فهل يغار وهل يمانع؟ وإذا وضعتَ له في فمه “الـمَصّاصَة” [يُقال لها “اللّهَّاية” أيضاً، وهي القطعة التي توضع بفم الطفل الوليد ليمصَّها ويلتهي بها عن ثدي أمّه] وجاء أحدهم ليأخذها منه، فلإيمانه بها يقاتل ويمانع، وهذا حسب إيمانه وحسب علمه بما يُؤْخَذ منه.. نسأل الله ألا يجعلنا من أطفال الإيمان ورجال الدنيا لا رجال الآخرة، اللهم اجعلنا من رجال الدنيا ورجال الآخرة، ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [النور:37] يا الله! يا الله! حقّق فينا ما ذكرتَه من صفات الرجال الذين هم رجال في قاموسك يا رب العالمين.
فيقال للمكذبين بيوم القيامة ويوم الحساب ويوم الجزاء في محكمة الله: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات:28] وقد يكون هناك محكمة مستعجَلة، وفي الدّولة ألا يوجد محكمة مستعجلة؟ يوجد محكمة مستعجَلة وحساب سريع في الدّنيا كما أهلك الله قوم نوح في الدنيا وحاسبهم فأغرقهم، وهذا مقدمة العقوبة قبل عقوبة الدار الآخرة، وأهلك قوم صالح بصيحة جبريل، وبماذا أهلك قوم عاد بالدّنيا؟ ﴿فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا﴾ [الحاقة:7] وقوم لوط قلب الله بُلدانهم، فرفعها إلى السماء وجعل عاليها سافلها، وفرعون -وقد بَلَغَ ما بَلَغ- أهلكه الله بالغرق، وفي زمن النبي ﷺ أهلك الله أبا جهل وأبا لهب وأمثالهما كذلك.
فهناك محكمة لله في الدنيا، وهذه محكمة مستعجلة، وهذه العقوبة بعضاً مما يستحق ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى﴾ في الدنيا ﴿دُونَ﴾ قبل ﴿الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [السجدة:21].
إذا قال لك شرطيُّ سَيْرٍ: “إذا مشيت على الشمال سوف أكتب لك مخالفة”، فهل تسمع كلامه وتصغي لأوامره أم تخالف؟ فأنت تقول في الصلاة: “الله أكبر” أليس كذلك؟ ولكن حقيقتك تقول شرطي السير أكبر من الله؛ لأنني أخاف منه أكثر ممّا أخاف من الله، وأخاف من عقوبته أكثر ممّا أخاف من عقوبة الله.. والحشرة والدبور ماذا وضعوا على العُشّ؟ “الدّخول ممنوع”، وضعوها من غير كتابة بالحروف الهجائية، بل كتابة بحروف الحشرات والدبور، فهل تستطيع أن تخالف أمر الحشرات والدبور؟ فكيف يخاطبك الله بلغتك ولا تبالي، ويخيفك فلا تخاف، ويرغبك فلا ترغب، ويُطمعك فلا تطمع، ويعطيك فلا تشكر، بل تجني وتخالف ولا تخاف؟ وإذا كان أحدهم يقود سيارة مخالفاً في طريق ممنوع المرور فيه، تراه يكثر النظر يميناً وشمالاً ويراقب؛ هل هناك شرطي يراه؟ وعندما ترتكب ذنباً مع الله ألا يجب أن تلتفت هل يراك الله أم لا يراك؟ ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ [العلق:14]، ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام:60] جرحتم: الأعضاء اسمها جوارح، فاليد جارحة والعين جارحة، ويعلم ما تصنعه جوارحكم وأعضاؤكم في النهار، ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾ بعد ما أماتكم بالنومِ وهو الموت الأصغر، ثم يبعثكم إلى اليقظة في النّهار: ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ﴾ [الأنعام:60] حتى ينتهي البنزين الذي في خزان الوقود، ومتى ما انتهى وقودُك تجد يدَك توقفت، وعينك توقفت ولسانك ورجلك كلّهم توقفوا، ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ [الأنعام:60] إلى محكمته ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام:60]
واللهِ لو لم يكن هناك جهنم ولا عذاب ولا عقاب، إنّما فقط قوله: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة:28] [لكفى].. وقد خاطبك فقال: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ﴾ [البلد:8] ألم أعطك العيون؟ ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ [النحل:78] ﴿وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ﴾ [البلد:9] وخرجت من بطن أمك.. ولماذا لم تخرج من حلقها؟ من الذي أعطاك المخطط كيلا تخطئ في السير؟ وعندما خرجت فمن عَلَّمَك الرضاع؟ فبمجرد أن يضعوا فمك على ثدي أمك تبدأ بالرضاعة.. والنّجدين هما: الثّديين ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد:10] أي علمناه الرضاع، وهل هذا صار لوحده يا بني؟ فأنت كنت ذرة، ثم انقسمت هذه الذّرة إلى كبد له أكثر من خمسين وظيفة، وإلى الطحال والقلب وإلى الكليتين وإلى غير ذلك، وكلّ خلية فيك لها عمل خاص، فهل هذا صار لوحده؟ هذه القبعة هل صارت لوحدها؟ وهذا المذياع هل صُنِع لوحده؟ وهل صار الكتاب والمصحف لوحده بأن طُبِع وغُلِّف؟ وهل أنت لوحدك خُلِقت؟
إلهام الله عز وجل للمعلِّم بكلام يخص بعض الناس
﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ في يوم القيامة ويوم المحشر ويوم المبعث ليس هناك ملك ولا امبراطور ولا ملياردير ولا مدير شركة ولا رئيس وزارة ولا غني ولا تاجر ولا شيخ: ((حفاةً عراةً غُرْلاً، فَمَنْ كَسَا لِلَّهِ كَسَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَطْعَمَ لِلَّهِ أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَمَنْ سَقَى لِلَّهِ سَقَاهُ اللَّهُ وأروى ظمأه)) 8 .. يُؤْخَذون إلى الحساب، فيقال للمكذبين مباشرة: [ويل].. ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ﴾ [الرحمن:41] فالمجرم عندما تأتي الشرطة يَصْفَرُّ وجهه مباشرة [فوراً] وترجُف يداه.. والشيخ في بعض الأوقات يقول كلاماً، ويكون بعض الموجودين قد فعل الشيء الذي تلكم عنه الشيخ، فيظن أن الشيخ قد قصده بنفسه، والحقيقة أن الله قد ألهم الشيخ وأنطقه، وهذه رحمة به ليتنبه بحيث لا يُفضَح أمام الآخرين، فيقول: “إن الشيخ يَتَكَلَّم عليّ” [بمعنى أن الشيخ يعلم ويذكرني بسوء أمام الناس] فعليك أن تَشْكُر الله إذا قال لك الطبيب: إنك مريضٌ ومرضك كذا في العضو الفلاني.. فاشكر الله! فإن أساء وعاند فهذا يدل على أنه المذنب والمجرم. [كثير من الإخوة الذين كانوا يحضرون مجالس سماحة الشيخ مروا بهذه التجربة، وكانوا يقولون: كان شيخنا في الدرس يكلِّمني بدقائق الأمور، وكأنه يعرف تماماً حالي ويكشف ما في قلبي]
يُروى أنّ سيدنا سليمان أتاه رجل يشكو إليه أن دجاجاته سُرِقت، ويريد أن يرفع أمره إلى الحاكم حتى يكشف له السرقة، فقال له: “اصبر إلى يوم الجمعة”، وفي يوم الجمعة قال سيدنا سليمان على المنبر: “ما بال أحدكم يسرق دجاجات جاره فيذبحها وينتف ريشها، ثم يأتي إلينا وريش الدجاج على عمامته؟ وإذا لم يستحِ من الله ألا يستحي من مخلوقات الله حيث يُظْهِر نفسَه للناس أنه السارق؟!” لم يمد أحد يده إلى عمامته إلا السارق.
فلا تفضح نفسك يا مسكين! وإذا أنطق الله الشيخَ فهذا تنبيه من الله لك بكل ستر وبكل لطف، لكنه إن أبى وقال: إن الشيخ يتكلَّم عليّ! فقد أظهر نفسه أنه المجرم الفاسق الخبيث والرديء والمنتن وفضح نفسه بنفسه.. نسأل الله أن يحمينا من فضيحة الدنيا والآخرة.
صور من عذاب المكذبين
يُقال للمكذِّبين في مواقف القيامة الذين كانوا يقولون: لا يوجد جنة ونار ﴿انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [المرسلات:29] تقولون: لا يوجد جهنم، أليس كذلك؟ ولا يوجد عذاب، أليس كذلك؟ إن أية دولة، حتى لو كانت قرية فيها مدير ناحية، يكون مُكَلَّفاً فيها بالعدل وأن يُقاصَّ للمظلوم من ظالمه.
﴿انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ﴾ [المرسلات:30] تكون الشمس على رؤوس الناس تغلي منها أدمغتُهم، والمؤمنون المتقون في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله.. اللهم ظللنا في الدنيا بظلِّ تقواك وظل محبة أحبابك وأوليائك وبالآخرة بظل عرشك.
﴿انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [المرسلات:29] بماذا كانوا يكذّبون؟ يكذّبون بالحساب والجزاء وعقوبة الله في جهنم ﴿انْطَلِقُوا﴾ انطلقوا في هذه الحرارة الشّديدة إلى ظِلّ، فأمامكم يوجد ظِلّ: ﴿إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ﴾ [المرسلات:30] يعلو دخانُ جهنّمَ في الفضاء ويَنْقَسِم إلى ثلاثة أعمدة من الدّخان الأسود: ﴿لَا ظَلِيلٍ﴾ فلا يُخفِّف الحرارة عن الذين كادوا أن يحترقوا من حرارة يوم القيامة ﴿وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ﴾ [المرسلات:31] دخان ونيران وسخام [هباب الفحم] وغضب من الله وخزي وخسارة الأبد، لماذا؟ لأنّه سلك طريق الشّقاء في دنياه، وهل تحسبون أنّ العاصي سعيدٌ في حياته؟ وهل شارب الخمر سعيد؟ وهل الزاني سعيد؟ وهل المقامر سعيد؟ وهل الظالم سعيد؟ واللهِ ليس سعيداً، فالسّعادة قلبية، وتكون عندما يلتقي قلبك مع الله خاشعاً مطيعاً منيباً لأوامره فرحاً بثوابه وفرحاً باكتساب رضائه.
﴿لَا ظَلِيلٍ﴾ إذا كان أحدهم في حرارة الشمس وجاء إلى ظل يشعر بقليل من البرودة، لكنّ الدخان الأسود -دخان جهنم- إذا استظللت به فهل يخفف عنك الحرارة؟ ﴿وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ﴾ [المرسلات:31] بل تقتربُ من النار أكثر مما كنتَ عليه من قبل.
﴿إِنَّهَا تَرْمِي﴾ أي جهنم ﴿بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ﴾ [المرسلات:32] الشّرارة فيها بحجم القصر العظيم، هناك قصور للملوك تكون كيلو متراً وكيلو مترين وأقل وأكثر، وإن كانت شرارتها بحجم الجامع فكيف ستكون نارها؟ فهل تستطيعون أن تحتملوها؟
قصة العابد الذي أحرق أصابعه العشر
يذكرون أنه كان لأحد العباد صومعة في البرية، وفي يوم من الأيام نزل الثّلج وكانت إحدى النساء في البرية وأصابها نزول الثّلج الكثيف، فما وجدت ما تلجأ إليه إلّا صومعة ذلك العابد، فطرقت الباب ففتح فإذا بامرأة.. كان وحده والوقت مساءً في الليل، وخلوة الرجل بالأجنبية حرام، وإذا تركها خارجاً فستهلك، وهذا أيضاً حرام.. فاختار أخفَّ الضررين على خطورته فأدخلها، وكانت عنده شمعة، فما رأت المرأة بعد ساعة إلّا أنه وضع إصبعاً من أصابعه فوق شُعلة الشمعة، حتى صار رأس إصبعه منتفخاً من حرق النّار، وصار يتألّم ويتوجّع.. فقالت في نفسها: هل هذا مجنون؟ وخافت أن يفعل بها شيئاً؛ فقد يذبحها أو يقتلها.. وبعد ساعة ثانية عاد ووضع إصبعه الثانية… فما طلع الفجر إلا وقد حرق أصابعه العشرة.. ولما طلع الفجر خرج أهلها يبحثون عنها فوجدوها، وشكروا ذلك العابد، فقالت لهم: هذا ليس بعابد، بل هذا مجنون، فقد بقي طول الليل يحرق أصابعه ويشويها على نار الشّمعة حتى عطَّل أصابعه العشرة.. فدخلوا عليه وإذا بأصابعه كلها محترقة، فسألوه: لماذا؟ قال لهم: عندما دخلت ابنتكم جاءني الشيطان ووسوس لي أن أفعل الحرام، فقلت لنفسي: “أتصبرين على نار جهنم؟” فقالت لي: “أصبر، وإن الله غفور رحيم”، قلت لها: “وإذا لم يغفر الله؟” لأن الله وضع للمغفرة شرائط فقال: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ﴾ فشَرَط للمغفرة تحقق أربعة شروط، فقال: ﴿لِمَنْ تَابَ﴾ فعليك أن ترجع عن كل أعمالك الماضية الرديئة وعن كل خطاياك في كلّ أعضائك وفي كل رفاقك وفي كل سهراتك وفي كل جلساتك… فإذا غيَّرت كل أوضاعك فهذه التوبة: وهي الانتقال من الأحوال الرديئة إلى أحوال الصالحين التائبين.
﴿وَآمَنَ﴾ عليك أن تؤمن بكل كلمة من كلام الله، وعلامة الإيمان: أن تحوّلها من تلاوة إلى فهم، وإن لم تفهم فاسأل عالمها، ثمّ إلى عمل ثم إلى تعليم، فعليك أن تعلّم الآخرين، هذا هو الايمان.
﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ بما يُؤْمِنُ به، ﴿ثُمَّ اهْتَدَى﴾ فيطلب العلم حينها ليزداد هداية ويزداد قرباً وفهماً لدين الله، وعند ذلك يكون الله له غفّاراً، فتحيط بذنوبه مغفرة الله، ولا تكون المغفرة بلا توبة ولا إيمان يدفعك إلى العمل الصالح، فالمغفرة تكون كما ذكر الله عز وجل ﴿لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه:82] فإذا لم تبحث عن أهل الهداية ومجالس العلم ومجالس الذّكر ومجالس تزكية النفوس فكيف تأتيك المغفرة يا مسكين؟
وعندما تخلّف الثّلاثة عن النبي ﷺ في غزوة تبوك جاؤوا إلى النبي ﷺ مستغفرين.. وقد قال الله عن المنافقين: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ﴾ [التوبة:94] كان اعتذارهم لسانياً وليس ندماً قلبياً، وكانوا يريدون أن يخفوا أفعالهم بكلامهم، كما يقال في المثل [العامي]: “يريدون أن يُغَطُّوا السماوات بالقَبَوَات”، فهل تتغطى السماوات بالقبوات؟ [القَبَوَات: عامية بمعنى القِباب، والمفرد: القُبَّة] ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه:7] فمثاقيل الذّر محصاة عليك ومرئية لله وملائكته ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18] ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ﴾ رقباء ﴿لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا﴾ مكرَّمين عند الله، فشهادتهم لا تُرفَض ﴿كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار:11-12] فهل آمنت بهذه الآية في حديثك وبيعك وشرائك وغضبك ومطامعك؟
قال تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾ فلا خير في اجتماعاتهم وسهراتهم ولقاء الناس بعضهم ببعض ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ اجتمعوا وتذاكروا في عائلتهم أو في حَيِّهم وسوقهم؛ من المُقَصِّر ومن أحواله ضعيفة ويتعاونون لمساعدته ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ أمروا بمعروف من ترك فريضة من فرائض الله أو شعيرة من شعائر الله عز وجل، أو كان لا يصلي أو لا يزكي أو كان قاطع الرحم أو عاق الوالدين أو معتدٍ على جاره أو على زوجته، ﴿أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء:114] يتذاكرون: فلان مُقاطعٌ لفلان ولا يكلّمه، فيجب أن نصلح بينهما امتثالاً لأمر الله ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال:1] كثير من النّاس إذا اجتمعوا وعرفوا أنّ هناك تباعد بين اثنين يضعون البنزين على النّار، وقد يكون كلامهم كذباً وإفكاً، ((قالوا يا رسول الله: أيسرق المؤمن؟ قال: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ [الأحزاب:38] قالوا: أيزني؟ قال: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ قالوا: أيكذب؟ قال: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ [النحل:105])) 9 فالمؤمن لا يكذب، ومن الممكن أن يقع في المعاصي، أمّا الكذب فقد بَيَّن النبي ﷺ أنّ المؤمن لا يكذب، نسأل الله أن يحمينا يا بني ويحمي إيماننا.
﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ فلن نخلد وسننتقل إلى الآخرة إلى الحساب وإلى محكمة الله ﴿وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [لقمان:33] وهو الشيطان، يغرك بالله ويقول لك: “اعمل ما شئت والله غفور رحيم” وهذا من تغرير الشيطان، والشيطان لا ينصرف إلا بذكر الله.
﴿انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ﴾ [المرسلات:30] يخرج من نار جهنم ثلاث شعب من الدخان، ﴿لَا ظَلِيلٍ﴾ لا يعطيك برودة ﴿وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ﴾ [المرسلات: 31] ولا يحميك من أن تحترق بنارها ﴿إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ﴾ [المرسلات:32] الآن تبتعد عن نار الشّمعة، وإذا خرجت شرارة من حطبة حجمها بحجم ربع حبة العدس تتحفظ منها وتحترز! والله يقول لك: أمامك نارٌ، الشرارة فيها بحجم القصر العظيم.. وأنت تقول: إن كلام الله ليس صحيحاً، وهل الله يكذب؟ فأعمالك هكذا تقول، فإذا قلت: صدق الله العظيم، فأنت كاذب، بل أنت تقول: كذب الله العظيم! فأعمالك هكذا تقول، فأيّها أصدق؟ إذا صفعك أحدهم على وجهك عشر صفعات مثل طبق الجمر، وقال لك: “أنا أحبك، وروحي فداك يا حبيبي يا عيوني!” فبلسانه قال لك: يا حبيبي يا عيوني، وبعمله صفعك عشر صفعات، فأيهما أصدق في الحب ومن تصدق؟
فلا تكونوا أطفالاً مع الله! فمع الحشرة تستخدم العقل الكامل، ومع الهرّة تقول: “خذوا حذركم! لا تخطف الهرّة اللحم، ضعوها في مكان آمن”، أليس كذلك؟ فكل شيء تحسب حسابه، وتحسب حسابك من الذبابة إذا أردت أن تنام، إلا الله لم تحسب حسابه.. تقول: “الله أكبر”، أمّا أعمالك فتقول: “الله أصغر من كل شيء”، دع لسانك يتكلّم ويترجم أعمالك حتى تصحوا من سكرة الجهل ومن سكرة الغفلة عن الله، وذلك لتسعد في الدنيا قبل الآخرة، فالصّحابة عندما ساروا على هدي القرآن هل ربحوا أم خسروا؟ وهل اغتنوا أم افتقروا؟ وهل عزّوا أم ذلّوا؟ وهل انهزموا أم انتصروا؟ وهل ارتفعوا أم انخفضوا؟ نسأل الله أن يرزقنا حقيقة الإيمان.
وجوب التبليغ على كل عاقل
كانت المرأة العجوز تُسلِم فتذهب إلى قومها وتشتغل بدعوتهم إلى الله، ثمّ تأتي بقبيلتها كلهم مؤمنين مسلمين مستجيبين لله ولرسوله، فهل يعمل أحدكم هذا العمل؟ وعن الجن قال الله في سورة الأحقاف: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ﴾ [الأحقاف:29]، حضروا مجلس القرآن والنبي ﷺ يتلوه ﴿قَالُوٓاْ أَنصِتُواْۖ فَلَمَّا قُضِيَ﴾ مجلس القرآن ﴿وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ﴾ فهل ذهبوا للعب والغيبة والحسد والنميمة واللغو؟ ﴿وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأحقاف:30] أتوا إلى رسول الله ﷺ متعلّمين، فرجعوا من مجلس رسول الله ﷺ معلِّمين مزكِّين حكماء ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾ بالإجابة والاستجابة والاتباع ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأحقاف:31] يحفظكم من عذاب أليم، ﴿وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأحقاف:32] سيأخُذُه من رقبته ويُدْخِلُه في الحساب.
وبعد ذلك: ﴿انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [المرسلات:29] فهل أنتم مكذِّبون أم مصدِّقون بنار ذي ثلاث شعب؟ فإذا صدّقت أنّ لسعة الأفعى قاتلة وأخذتها بيدك ووضعتها على شفتك وقلت: أنا مصدق أنّ لدغة الأفعى قاتلة، وأنت تضعها على شفتك وهي تَعُضُّها، فأيهما أصدق قولك أم فعلك؟ فلا تكونوا مع الله مكذِّبين بأعمالكم، فأنتم واللهِ خاسرون في الدنيا قبل الآخرة.. نسأل الله أن يرزقنا الصّدق مع الله في الأقوال وفي الأعمال وفي القلوب وفي ذات الصدور.
﴿إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ﴾ [المرسلات:32] شرارة واحدة تكفي، بل نصف شرارة أو ربعها أو عشرها يكفي، فكيف إذا كانت جهنم كلها!
جزاء من يصدق مع الله
فذاك العابد لمّا رأوه بما رأوه، وكانت البنت من ملكات الجمال وخُطّابها كثر، وكانوا لا يزوجونها، قالوا حينها: “واللهِ إنّها لا تستحق إلّا هذا الرّجل الصّالح”.. فبعفَّتِه عن الحرام ليلة واحدة اكتسب ملكة الجمال طول الحياة، وهكذا فمن يَصْدُق مع الله ذرّة يكافئه الله عن الذَّرَّة بجبل، وعن النقطة ببحر، والذي يُصَدِّق يكون مؤمناً.. ومن الناس مَنْ لا يُصَدِّق حتى يرى.. نسأل الله أن يجعلنا من يُصَدِّق بالغيب: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة:3].
وصف بعض مواقف القيامة
﴿بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ﴾ [المرسلات:33] لون النّار مثل صُفْرَةِ الجِمَال ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات:34] هل صدّقتم كلام الله؟ هنيئاً للمصدّقين! وإذا لم تُصَدِّقوا بأعمالكم فالويل والهلاك والخزي والشّقاء والتّعاسة لمن؟ للمكذبين.
﴿هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ﴾ يصف الله بعض مواقف القيامة عندما يختم الله على أفواههم وتُكَلِّم اللهَ أيديهم وأرجلهم، قال: ﴿هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات:36] من ماذا سيعتذر؟ يقول الله عز وجل له: ألم أرسل لك النبي؟ ألم أنزل عليك القرآن؟ وبعد الأنبياء أوجدت لك ورثة الأنبياء لتهاجر إليهم كما هاجر المسلمون إلى رسول الله ﷺ، وقد تركوا أعمالهم وبَيْعَهم وشراءهم وتركوا دنياهم كلها في سبيل أن يكونوا مسلمي العلم والمعلم والحكمة والحكيم والتزكية والمزكّي، وهل خسر أبو بكر رضي الله عنه؟ كان بائع قماش فماذا صار؟ صار إمبراطوراً، وما أتى إمبراطور مثله، وذلك ببركة مدرسة المسجد وإمامها سيدنا رسول الله ﷺ.
﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات:34] هل هذه أفضل أم هنيئاً يومئذ للمتقين وهنيئاً يومئذ للخاشعين والتائبين والمستجيبين والطائعين؟
﴿هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ﴾ [المرسلات:35] بماذا ينطق إذا كان فِيْلْمُه يصوِّر كيف فتح المحفظة وكيف فتح البيت وكيف كسر الصندوق؟ بماذا يتكلم؟ وبماذا يدافع عن نفسه؟
﴿لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ﴾ لأن الملائكة تشهد عليه، وماذا تسمع منه؟ هل تسمع الكذب؟ كان كذّاباً في الدنيا، وهل تسمع الكذب منه في الآخرة أيضاً؟ ﴿فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات:36] لأنه لا عذر له.
﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات:37] كم ويل يكرر القرآن على المكَذِّب؟ عشرة إلى خمسة عشر مرة.. ويلٌ.. ويلٌ.. ويلٌ.. ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ [الهمزة:1]، وقوله: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾ [المطففين:2] يستوفي إذا حاسب غيره، وإن تَكَلَّم على غيره وكانت فيه مئة صفة من صفات الكمال وصفة واحدة كانت فيه -إمّا خطأً أو لم يفهمها- فيذكرها، فلا يرى إلا بالعين الحولاء النّاقصة؛ لأنّه ناقص ولا ينظر إلّا إلى النّقص، ﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ﴾ إذا حاسبوا النّاس ﴿يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ﴾ [المطففين:3] وإذا أراد أن يتكلم عن نفسه يقول: لا يوجد أفضل مني! وأنا الفهيم المستقيم وأنا الناجح! وأنا وأنا.. فبماذا ذكر الله هؤلاء في القرآن؟ الويل والهلاك والخزي لهم.
نسأل الله ألا يخزينا في الدنيا ولا في الآخرة.
﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ﴾ [المرسلات:38] بين المؤمن والكافر، يفصل بينهم هذا إلى الجنة وهذا إلى جهنم ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ [يس:59] بين الصّادق والكاذب، بين التّقي والفاسق، بين المرائي والمخلص ﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ﴾ [المرسلات:38] يجمع الله كل الأمم، ويحاسبهم بلحظة واحدة.. قال النبي ﷺ: ((هَلْ تُمَارُونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ)) 10 ، وكلكم ترونه، ألا يرى أهل الدّنيا كلّهم القمر؟ وهل يصير ازدحام أو تزاحم على القمر؟ فنسأل الله أن يجعلنا من الذين قال فيهم: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ﴾ [القيامة:22] مملوءة بالسّعادة والفرح والسّرور ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ﴾ [القيامة:24] عابسة ﴿تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ [القيامة:25] ستنزل بها الدّاهية والمصيبة الكبرى من غضب الله وسخطه وعذابه.
﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ﴾ [المرسلات:38] فقدِّر يا بني! هل ستخلد في الدنيا؟ وهل خلد أبوك أو جدك أو أبو جدك؟ وأين رفاقك الذين ماتوا وأقاربك؟ فإذا أتى دورك وذهبت ووصلت إلى يوم الفصل، فيا ترى أنت من أيّ الحزبين؟ هل أنت من المؤمنين الصّادقين العالمين العاملين المعلّمين الآمرين بالمعروف النّاهين عن المنكر الذين هم في صلاتهم خاشعون؟ وصف الله المؤمنين بعشرات الصفات حتى ينالوا رضوان الله ويكونوا أهلاً لجنته، لكنّ النّاس تَحكم بالأماني والتمني والجهل والغرور وكأنهم هم الله! فهم يحكمون لأنفسهم: إما في الجنة أو في النار! وهذا غرور وجهل وسُخْف وحمق.
﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ﴾ [المرسلات:39] هل تستطيعون أن تخلّصوا أنفسكم من محكمة الله ومن عذابه ومن حُكْمِه؟ ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا﴾ تهربوا ﴿مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ من محكمة الله ومحاكمته ﴿فَانْفُذُوا﴾ [الرحمن:33] فاهربوا، هل تستطيعون أن تتخلصوا من قضاء الله ومن حكمه؟ في الدنيا قد يستطيع أحدهم أن يهرب من سلطة الدولة، وذلك بمغافلة أو ما شابه، ونادرٌ من يستطيع أن يهرب.. أمّا أن تهرب من عقوبة الله فلا يمكن ولا بالمليار واحد! ولا يستطيع واحد من مليار مليار أن يهرب من محاكمة الله.. فهل تحسب حساب الله ومحاكمته وتفهم كلام الله؟ وهل يظهر أعمالاً وأخلاقاً وسلوكاً في فكرك وعقلك ونطقك وبيعك وشرائك وطمعك ورضاك وغضبك؟ فالذين كانوا الطلاب النجباء في مدرسة القرآن ماذا صاروا في ثقافة القرآن؟ صاروا خير أمة وصنعوا لأمتهم أعظم الأمجاد، ليس في تاريخ أمتهم، بل في تاريخ الإنسانية كلها.
﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ﴾ [المرسلات:39-40] سبحان الله! “ويلٌ” وحدها تكفي.. إذا مصلح أحذية قال لك: “ويل لك!” فتغضب وتقول: “هل هذا الكلام لي؟” وإذا قال لك عامل نظافة: “ويل لك!” فهل تقبلها وتسكت؟ فكيف إذا كان الله يقول لك: “ويل لك!” يا شقي يا أسود الوجه.. وإذا قال الله عز وجل: “ويل” يعني ذلك الهلاك والشقاء.. فهل أنت مؤمن بالله؟ فأنت مؤمن بالثعبان وما تقتضي كلمة ثعبان من معنى للإيمان به.. أنا شخصياً لو كان الثعبان ميتاً فطبيعتي لا تستطيع أن تلمس جلده، وهذه طبيعة.. كان أحد إخوتي -رحمة الله عليه- يمسكه وهو حي من رقبته.. الله يقول لك: “الويل” أي الهلاك، وإذا قال لك شرطي: “ويل” تقول له: “أرجوك! أتوسل إليك!” وتعطيه “الدفتر”، [دفتر الجيب أو المحفظة: ما يوضع فيه المال والهوية وأوراق السيارة] وتقول له: افتح الدفتر، [ليأخذ رشوة].. ويكون به خمس مئة أو ثلاث مئة أو أربع مئة ليرة.. والله سبحانه لا يرتشي.. تستطيع هنا أن تتدبر أمرك، أمّا هناك ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ [يس:59].
رضا الله عز وجل
قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي ظِلَٰالٍ وَعُيُون﴾ [المرسلات:41] هذه هي النجاة! فهم في بساتين الجنة ورياضها وعيونها وأنهارها، كما قال تعالى: ﴿وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ [المرسلات:42] لو وضعنا الله في مغارة أو في “المجاري” [المياه النجسة] فالمهم أن يرضى عنا! ولو وضعنا بين الشّوك والاصطبلات فلا نبالي، والمهم أن يرضى عنا! فكيف إذا وضعك في ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأظلك في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه، وحشرك مع أنبيائه وأوليائه وأصفيائه، وخاطبك: “اليوم أرضى عنكم رضاءً لا سخط بعده”! واللهِ تُشتَرى هذه بالروح والنفس، لأن هذا كل ما يملك الإنسان، ولو كان يملك أكثر [من الروح والنفس لباعها لله] لأنّها كلها ستزول وتفنى، أمّا رضاء الله وثوابه فهو الذي يخلد ويبقى.
﴿كُلُوا﴾ من مطعم الله ﴿وَاشْرَبُوا﴾ من شراب الله، ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ [الإنسان:21] ﴿هَنِيئًا﴾ يقول الله لي: “هنيئاً”! يا سلام! الله يقول لي: “هنيئاً”! إنه الله! ولو أن شرطياً أو وزيراً إذا شربت قال لك: “هنيئاً”! تُسَرّ بها.. وإذا كنت في دعوة وشربت فهل من أحد يقول لك: هنيئاً؟ فإذا كان وزير بجانبك وقال لك: “هنيئاً”! أو كان رئيس الوزراء وقال لك: “هنيئاً”! وإذا كان رئيس الجمهورية وقال لك: “هنيئاً”! فكيف إذا قال ربّ العالمين لك: “هنيئاً”!
﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [المرسلات:43] وهذه تحتاج إلى عمل، ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النمل:90].
سيحصد عبدُ الله ما كان زارعاً فطوبى لعبد كان لله يزرع
﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ﴾ كما وصفنا لكم الآخرة والجنّة والمجرمين والمتّقين ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [المرسلات:44] كما حكينا لكم، فهكذا سنجازي المحسن، وهكذا سنعاقب المجرم الظّالم والعاصي الفاسق والكافر الملحد إذا لم يتب ويؤوب إلى الله عز وجل، فهل صدّقتم بالظّلال للمتقين وبالعيون وبالفواكه؟ وهل صدّقتم بقوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ فهل هو تصديق قولي أم عملي؟ يعني إذا خرجتم من الجامع هل تخرجون من المتقين؟ والتقوى: “أن يُطاع الله فلا يُعصى، وأن يُشكر فلا يُكفر، وأن يُذكر فلا يُنسى” هذه هي التقوى! وإذا خرجتم من الجامع فهل توفُوْنَ بهذه الشروط الثلاث؟ [يجيب الحضور بقولهم: إن شاء الله] فقولكم: “إن شاء الله” سهلة، فهل هي من لسانكم أم من قلبكم؟ فلا تكذبوا علي! إن كذبتم فأنتم تكذبون على أنفسكم وعلى الله! والله قادر أن يُنزِل بنا ألوان العذاب!
إن الله عز وجل رب العالمين الذي خلقنا من النطف هو الذي يكلمنا! ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [الإنسان:1] وهل من أحد تاب وأناب واستقام ولم يُعَزّ في نظر الناس ولم يكسب ثقة الناس ولم يكرمه الله عز وجل؟ لكن ليست تقوى من ناحية واحدة، بل التقوى من كل النواحي، فالسيارة إذا نقصت “البُوْجِيّ” [قادحة الشرار للمحرك] أو سلكاً كهربائياً واحداً تتعطل كلها.. نسأل الله أن يرزقنا حقيقة التقوى.
شدة عذاب جاحدي القيامة
قال تعالى: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات:45]، يا وليتنا! كم مرة يقول لك الله: “ويل”؟ هل فهمنا؟ واحدة من الله تكفينا.. ومعنى ذلك أنّ هناك أناس صم طرش ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ﴾ [يونس:42] فالأصم ليس هو من لا يستطيع أن يسمع صوت السيارة والقطار وبُوْقَه، بل هو الذي لا يسمع كلمة الحق ولا يسمع كلمة الهدى، هذا هو الأصم! وليس الأعمى الذي يعمى بصره، إنّما الأعمى الذي تعمى بصيرته.
﴿كُلُوا وَتَمَتَّعُوا﴾ [المرسلات:46] فالآن قد أعطانا الله مهلة، فهل الطالب الكسول تُرَسِّبُه المدرسة من الشهر الأول؟ والقاتل المجرم هل من أول يوم في المخْفَر يشنقونه؟ يبقى يُحاكَم شهراً وشهرين وسنة وسنتين وعشرة، وفي النهاية يُعَلِّقون مَشْنَقَتَه؟ فالله خالق الكون وخالق المجرّات ﴿يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [النحل:19]، ويحاسب على مثقال الذّرّة، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7-8] واللهِ لو كان كلام شرطي بسيط يضع خِرْقة صغيرة [تشير لرتبته] نقبل كلامه؛ فالسلبي نجتنبه والإيجابي ننفذه، وإذا قال لك: “الطريق من هنا وهنا الإشارة ممنوعة” تصدقه، وهل تمشي في الضوء الأحمر أم الأخضر؟
﴿كُلُوا وَتَمَتَّعُوا﴾ أي لا تغتر في دنياك ولو كنت في غنى أو سلطان أو حكم أو جاه، فهذا كله متاع قليل، ﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة:94] يريك أعمالك مسموعة ومنظورة ومشاهدة ومرئية ﴿كُلُوا وَتَمَتَّعُوا﴾ فالآن أنتم أحرار تمتعوا على هواكم ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾ [المدثر:37] ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ [التكوير:28] والمتعة [في الدنيا] قليلة: ﴿وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ﴾ [المرسلات:46] فالمجرم لو تأخر حبل إعدامه فهل هناك فرار؟
﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات:47] الذي يظنّون أنّهم سيخلدون في الدنيا وأنه لا وجود للحساب ولا لمحكمة لله، وأنه لن تشهد عليهم جلودهم ولا سمعهم ولا أبصارهم، ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ﴾ [المرسلات:48] عندما كان يُقال لكفار قريش: “صلوا” كانوا يقولون: “كيف نصلي؟ وهل نركع ونفعل هكذا؟” يشيرون بحركة الركوع.. وكانت هذه مسبة وشتيمة وتنقيصاً في نظر مجتمعهم.. فلم ينظروا إلى الصلاة إلا بمنظار هيئة الركوع، مثل الجرذ إذا دخل إلى قصر الملوك، فلا يرى الذهب ولا الفضة ولا الألماس ولا الهندسة المعمارية ولا السجاد العجمي الفاخر ولا الأرائك ولا الثريات، لا يرى إلّا “البلوعة” [مصرف المياه الوسخة] والكنيف، فهناك السرايا الخاصة به! وإذا ذَكَر قصرَ الملوك ماذا يقول؟ يقول: “هناك بلوعة، ما أجمل روائحها!” نسأل الله ألّا يجعلنا جرذان النفس والطبع والعقل والفكر، وأن يجعلنا مثل النحل مهما طارت لا تنزل إلّا على الزّهور والورود.
فالكامل لا ينظر إلّا إلى الكمال، والنّاقص يذكر نقائصَ غيره ليستر نقصه، وقد تكون نقائص غيره كمالاً، ولكن مثل ذلك الرجل الذي تزوّج امرأة حولاء، ففي ليلة العرس قدم لها سواراً، فقالت له: لماذا أتيت باثنين؟ سوار واحد يكفي.. لأنّ الأحول -كما يقال- يرى الواحد اثنين، وفي اليوم الثاني: أتى لها بسمكة، فقالت له: “أنا وأنت اثنين، فلماذا أتيت بسمكتين؟ وفي اليوم الثّالث: أتى لها ببطيخة، فقالت: لماذا أتيت ببطيختين؟ وفي اليوم الرابع قالت له: يا قليل الشرف يا قليل النخوة! ألا يوجد فيك دين وأخلاق!؟ لماذا أتيت معك برجل ثانٍ؟ أليس عيباً عليك وعلى شرفك؟ فقال لها: كلّ شيء شاهديه اثنين فلا بأس إلا أنا.. فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ﴾ [المرسلات:48] لم ينظروا للركوع أنه خضوع بين يدي الله وامتثال لأوامره؛ ظنّوه أنه خفض الرأس ورفع لغيره.. وهذا نظر الجرذان، وذلك لنقصهم، فلا ينظرون إلى الأشياء إلّا بمنظار النّقص.
﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [المرسلات:50] إذا لم يهتدِ أحدهم بكلام الله ولم يستجب لهديه ولم يَتَثَقَّف بثقافته.. فهل بعد كلام الله كلام؟ وهل بعد هدي الله هدى؟ وهل بعد نصحِ الله نصح؟ فإذا أعرضتَ عن الله فواللهِ سيُعرِض عنك خير الدنيا والآخرة، وهل كان العرب أمة؟ وهل كانوا دولة وامبراطورية؟ وهل كان لهم مكان في قاموس دول العالم وأمم العالم؟ كانوا قبائل متناحرة يفتك فيهم الجوع والجهل والفقر والخرافات.
الاعتزاز لا يكون بما مضى
﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ﴾ بحديث الله صاروا أعظم الأمم وأعظم الدول، ولم يعرفوا الهزائم في الحروب، ولم يعرفوا الفقر بعد الإسلام ولا الذّلّ بعد عزّة الإسلام ولا الفُرقة بعد أن وحدهم الإسلام.
والآن عندما نعتزّ بقصائدنا نعتزّ بمن؟ وهل نعتزّ بعصرنا أم بالعصور الماضية؟ نقول: “فمنا الوليدُ ومنا الرشيد”، ونعتز بدولة الخلفاء الراشدين ودولة الأمويين.. وكلّما كانت الدولة أقرب إلى المنبع الأول بوجود رسول الله ﷺ كان العزّ أعظم والدولة أكبر، فمن دولة النبي ﷺ التي كانت في المدينة، ومن الخلفاء الراشدين بعده وصلت رقعة العروبة بالإسلام وتوسعت حتّى وصلت إلى بكين وإلى ضواحي باريس.
“أمة واحدة ذات رسالة خالدة” بماذا؟ بالإسلام. [“أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة”: هذا شعار الحزب الحاكم في سوريا، وكذلك في النشيد السوري: “فمنا الوليد ومنا الرشيد”، وسماحة الشيخ هنا يتكلم أيضاً عن العروبة، يخاطب بها العرب الذين يرفعون شعار العروبة، ويبين لهم أن الإسلام الذي ترونه رجعياً وتَخَلُّفاً ويحاربه بعضكم هو مجدكم وعزكم الذي تتغنون به، ولولاه لما كانت العروبة، ولما بقيت الشعوب العربية]
فنسأل الله أن يجعلنا مسلمي الحقيقة وجوهرها، وهذا لا يكون إلا بالمعلم الحكيم المزكي؛ فالطبيب لا يكون طبيباً إلا بأساتذة الطب، والمهندس بأساتذة الهندسة، وهندسة الميكانيك بأساتذتها، والإسلام هو الذي عمل من الإنسان الفرد أعظم إنسان في العالم، ومن المجتمع العربي الإسلامي أعظم مجتمع، ومن الدولة العربية الإسلامية أعظم دولة، ومن الأمة الإسلامية أعظم أمة، ومن التاريخ الإسلامي أعظم تاريخ.. فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا كما يقال: “نأكل فُوْلْ ونرجع للأصول”؛ أيُّ فُوْل؟ هل الفول “النَّابِت” [المسلوق] أم فول القرآن؟ فُوْل القرآن، تلاوة أم علماً؟ تلاوة وعلماً بالمعلم وحكمة من الحكيم وتزكية من المزكي.
[“كُول فول وارجع للأصول”: مثل عامي سوري، ويُقصَد منه العودة إلى الأصل وإلى النبع.. وكلمة “كول” عامية، وهي فعل الأمر: كُلْ، والفول هو أحد الحبوب المعروفة، وربما ضُرِب به المثل لأنه طعام الآباء والأجداد، وفيه سجع يناسب كلمة الأصول]
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعلنا اللهم هادين مَهْدِيِّين، ولا تجعلنا ضالين ولا مضلِّين، ولا تخزنا في هذه الدنيا ولا يوم الدين.
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- سنن الترمذي، كتاب فضائل القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في إذا زلزلت، رقم: (2894)، (5/166)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (2514)، (2/ 496)، وأخرجه الحاكم، (2/274)، (2122)، عَنْ اِبْن عَبَّاس رضي الله عنهما، بلفظ: ((إِذَا زُلْزِلَتْ تَعْدِل نِصْف الْقُرْآن)).
- الديلمي في الفردوس، (1/176) رقم (659)، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها. فيض القدير للمناوي، رقم: (1695)، (9/ 70). مداراة الناس لابن أبي الدنيا، رقم: (4)، ص: (25)، عَنْ زَيْدِ بْنِ رُفَيْعٍ، بلفظ: ((أُمِرْتُ بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أُمِرْتُ بِالصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ)).
- مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (18035)، (4/ 228)، سنن الدارمي، رقم: (2533)، (2/ 320)، مسند أبي يعلى، رقم: (1586)، (3/160)، عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ رضي الله عنه، بلفظ: ((يَا وَابِصَةُ، اسْتَفْتِ قَلْبَك، وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، والإثم ما حاك في الصدور، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ، وَأَفْتَوْكَ ثلاث مرات)).
- مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (22253)، (22/ 76)، المستدرك للحاكم، رقم: (33)، (1/ 14)، المعجم الكبير للطبراني، رقم: (7540)، (8/ 117)، وشعب الإيمان للبيهقي، رقم: (5506)، (12/ 234)، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه.
- سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، رقم: (4250)، (2/ 1419)، المعجم الكبير للطبراني، (10281)، (10/150)، عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه.
- مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (17846)، (4/ 204). ورواه مسلم (121) كتاب الإيمان: باب: كون الإسلام يهدم ما قبله، بلفظ: "أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ"، عن عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رضي الله عنه. السنن الكبرى للبيهقي، رقم: (18069)، (9/ 123)، عن عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رضي الله عنه، بلفظ: ((فقلت يا رسول الله أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي ولم أذكر ما تأخر فقال لي يا عمرو بايع فإن الإِسْلاَمَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ وإن الهجرة تجب ما كان قبلها فبايعته)).
- المدخل لابن الحاج، (2/ 295)، بلفظ: ((قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَمْ مِنْ قَارِئٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَالْقُرْآنُ يَلْعَنُهُ يَقُولُ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وَهُوَ ظَالِمٌ))، وفي إرشاد العباد إلى سبيل الرشاد للمليباري ص: (174)، عن أنس رضي الله عنه موقوفاً عليه: بلفظ: ((رب تال للقرآن والقرآن يلعنه)).
- اصطناع المعروف لابن أبي الدنيا، رقم: (83)، ص: (70) الزهد لأحمد بن حنبل، رقم: (1092)، ص: (161)، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، بلفظ: ((يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْرَى مَا كانوا قط وأجوع مَا كَانُوا قَطُّ وَأَظْمَأَ مَا كَانُوا قَطُّ وَأَنْصَبَ مَا كَانُوا قَطُّ فَمَنْ كَسَا لِلَّهِ كَسَاهُ اللَّهُ وَمَنْ أَطْعَمَ لِلَّهِ أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَمَنْ سَقَى لِلَّهِ سَقَاهُ اللَّهُ وَمَنْ عَمِلَ لِلَّهِ [أَغْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ عَفَا لِلَّهِ] أعفاه الله)).
- ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت (474)، مساوئ الأخلاق للخرائطي، رقم: (127)، ص: (69)، تهذيب الآثار للطبري، رقم: (224)، ص: (135)، بلفظ: ((عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَرَادٍ، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَلْ يَزْنِي الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: «قَدْ يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ». قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يَسْرِقُ الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: «قَدْ يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ». قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَلْ يَكْذِبُ الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: «لَا». ثُمَّ أَتْبَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ [النحل: 105]».
- متفق عليه، صحيح البخاري، كِتَابُ الأَذَانِ، بَابُ فَضْلِ السُّجُودِ، رقم: (773)، (1/ 277)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، رقم: (182)، (1/ 163)، عن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بلفظ: ((أَنَّ النَّاسَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ هَلْ تُمَارُونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ قَالُوا لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ قَالُوا لَا قَالَ فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ)).