تاريخ الدرس: 1995/02/03

في رحاب التفسير والتربية القرآنية

مدة الدرس: 01:14:42

سورة المرسلات، الآيات: 1-23 / الدرس 2

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التّسليم على سيّدِنا محمّدٍ خاتَمِ النّبيّين والمرسلين، وعلى أبيه سيّدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيّدنا موسى وعيسى، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وآل كلّ وصحب كلّ أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

ما المطلوب من المسلم أمام قَسَم الله بالمرسلات؟

فنحن في تفسير سورة المرسلات، وسبق معكم أنّ المرسلات هم الملائكة الذين حَمَلوا رسالات الله عز وجل إلى مخلوقاته، وأرواح الأنبياء الذين علّموا النّاس العلم والحكمة وزكّوا النّفوس حتّى صارت طاهرة مطهَّرة، وورثة الأنبياء من العلماء الذين ورثوا عن رسول الله ﷺ تعليم النّاس العلم النّافع في دينهم ودنياهم، والذين علّموا النّاس الحكمة ونَضَّجوا عقولهم حتّى صارت إذا قالت لا تقول إلا صواباً، وإذا عملت لا تعمل إلا كمالاً وجمالاً، وزكّوهم.

فحلف الله وأقسم بهذه النفوس، سواء نفوس الملائكة أو نفوس الأنبياء أو نفوس ورثة الأنبياء، وكذلك كل من تبعهم بإحسان، ما يشير ويعلّم قارئ القرآن ومستمع القرآن أن يكون من نفوس المرسلات عرفاً بالمعرفة والحكمة والخير وبما يسعد الناس ويكون رحمةً لمخلوقات الله عز وجل، ((الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللهِ، وَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ)) 1 .

فأنت أيها المسلم وأيتها المسلمة عندما تقرأ ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا [المرسلات:1] فقد حلف الله بهذه النفوس الفاضلة العالمة المعلِّمة الحكيمة الزاكية المزكِّية، فهل فكرت أن تكون من هذه النفوس المقدَّسة حتى تصير يميناً لربك يحلف بها؟ فالقرآن يُقرَأ لأجل هذا، أمّا أن تَقْتَصر على التّجويد بإجادة النطق بأحرف القرآن من غير أن تَتَقَصَّد إلى فهمه، وإذا قرأت تفسيره وعرفت مقاصدَه، ولم تقصد أن تحوّل القرآن من كلمات تُتلى وقراءة تُسمع إلى أعمال ترى وتُشهَد، وأعمالٍ يُقتَدى بها ويُسْتَشْهَد، فأنت لم تقرأ القرآن ولا آمنت بالقرآن، ولو قلتَ آمنت بالله وملائكته.. فماذا يفيد الفقير المفلس إذا قال: “أنا غني”، “أنا مالك الملايين والمليارات” وماذا يفيد الأعمى إذا قال: “أنا البصير المشاهد”، لذلك لا يمكن للإنسان أن يصير مؤمناً في القرآن حتى يقرأه ليفهمه ويتدبره، ولو قرأت في اليوم آية قصيرة ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة:7] ما معنى هذه الآية؟ يعني افعلوا الخير مهما كان قليلاً ومهما كان ضئيلاً وحقيراً، فإن قرأتَه لتقوم بعد القراءة بعمل الخير ولم تزهد في قليله وحقيره فقد قرأت القرآن وآمنت بالقرآن ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:8] فالذرة إذا قُسِمت إلى سبعين جزءًا فكل جزء اسمه مثقال، فإذا كان واحد من سبعين جزءاً من الذرة من الشر عملته فسترى عقابه، هكذا يقول القرآن! فهل آمنت بهذا القرآن؟ فإن آمنت فهل اجتنبت الشر قليله وكثيره، ظاهره وباطنه؟

﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النحل:19] وهل فهمت هذه الآية بأن الله سيحاسبك على سرائر نفسك وعلى خلجات قلبك وعلى وساوس فكرك؟ فإذا علمت فهل توقفت عن تفكير السوء وعن عمل السوء ولو كان مثقال ذرة؟ فإن فعلت ذلك فقد آمنت بالقرآن، أمّا إذا قرأته وكان واضح العبارة وعملت عكسه، فصرت بدلاً من أن تعمل الشر مثقال ذرة صرت تعمل الشر مثقال القناطير والأطنان، فهل أنت مؤمن بالقرآن أم كافر بالقرآن؟ فعندما يقول الله لك: ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282]، ماذا يعني؟ يعني إذا عملت الخير صار معلوماً لله وسيكافئك عليه، وإن عملت السوء فقد اطَّلع الله عليه وسيعاقبك عليه، فهل عندما قرأت: ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282] سارعت إلى الخير ونزلت في ميدان السِّباق وأحجمت عن السوء والشر وابتعدت عنه بُعدَ المشرق عن المغرب؟ فعند ذلك إذا كانت هذه حالتك عند قراءة القرآن فأنت مؤمن بالقرآن، وإلا فأنت كافر به في أعمالك وأفكارك ومقاصدك وعزائمك ونيتك.. والله سبحانه ليس طفلاً إن قلت له: آمنت، فيصدقك على مجرد القول، فإن الله عز وجل يعلم السر وأخفى، قال تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وقال أيضاً: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ق:16] ما معنى ﴿وَنَعْلَمُ؟ أي انتبه إلى وساوس فكرك واجعل تفكيرك كله للخير؛ لأن الله مُطَّلعٌ عليه ومحاسبٌ عليه ومعاقبٌ عليه إن كان شراً، ومثيب عليه إن كان خيراً، ﴿وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] أقرب إليه من نفسه، وقال أيضاً: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ [الواقعة:85].

وقفة مع النفس

﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا [المرسلات:1] فهل صارت نفسك مرسَلة في مجتمعها وفي ليلها ونهارها لتحمل العلم والمعرفة والخير والنور وكلّ ما فيه رضاء الله لتُعَرِّف النّاس به.

﴿فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا [المرسلات:2] حلف الله بالنّفوس العاصفة؛ كيف إذا هبَّت الرياح العواصف فلا يقف أمامها شيء إلا وتقذفه حيث يُقذَف، فهل صرت من النفوس التي تعصف الباطل لحملك الحق والحقيقة، ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ [الإسراء:81] فإذا طلعت الشمس ماذا تفعل بالظلام؟ تعصفه عصفاً، وإذا نزل الطّعام إلى المعدة فماذا يفعل الطّعام بالجوع؟ يعصفه عصفاً، وإذا وُجد الإيمان الحقيقي في الإنسان ماذا يصير في فسقه وسفهه ومعصيته وأخلاقيته؟ فكلّها تُنسَف نسفاً ولا يبقى لها أثر ولا وجود، فهذه النفوس لقدسيتها وصدقِ إيمانها صارت يميناً يحلف الله به، فإذا صار أحدكم يمين الله يحلف به؛ بنفسه المرسلة! فأينما وُجِدَتْ ومع أي إنسان اجتمعت تجده حاملاً لرسالة المعرفة والحكمة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والإصلاح بين الناس، وإذا نزل في تنفيذ أمر الله يكون مثل الرياح العاصفة، لا يقف أمام دعوته وتبليغه للرسالة شيء، ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء:18] متى التقى النور مع الظلام فمن المنتصر ومن المنهزم؟ وإذا التقى الحقّ مع الباطل فمن المنتصر ومن المنهزم؟

﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا [المرسلات:3] النفوس التي تنشر العلم وتنشر المعروف وتقضي على المنكر، وتنشر الإيمان وتقضي على الكفر، وتنشر التقوى وتقضي على الفسق.. فهل صارت نفسك من الناشرات نشراً؟ يُقرأ القرآن لأجل هذه الغاية، فعندما يأتيك كتابٌ من إنسان يكون غالٍ عليك، يقول فيه: “إنه سيصل إلى مطار دمشق الساعة الثانية عشرة”، ما مؤدّى قراءة الكتاب؟ تكون قبل الساعة الثانية عشرة في سيارتك تنتظر استقباله، كي تقوم بواجب استقباله وحقِّ صداقته، هكذا كان المسلمون في زمن رسول الله ﷺ يقرؤون القرآن، مثل الطعام إذا أكله الآكل ينقلب إلى دم وإلى طاقة وإلى عمل، أما إذا أكل وكانت معدته خربة وكبده خرب وأمعاؤه خربة ماذا يستفيد من الطعام؟ والطبيب يقول له: “لا تأكل” لأن الطعام ينقلب إلى سموم إذا فسد الجهاز الهضمي.

﴿فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا [المرسلات:4] نفوس تُفَرِّق بين الإنسان وبين كفره وفسقه وجهله وجاهليته.

فهل صارت نفسك تحمل هذه المعاني؟ والمسلمون في زمن رسول الله ﷺ هل كانت نفوسهم من المرسلات عرفاً؟ وهل كانت نفوسهم من العاصفات عصفاً؟ فقد عصفوا الباطل في مكة والمدينة وفي الجزيرة العربية، ثمّ قاموا إلى مشارق الأرض ومغاربها كالرّياح العاصفة تعصِف الباطل والجهل والفسق والضّلال والخرافات والأوهام، حتّى صاروا وجعلوا الشّعوب التي التقوا بها خير أمة أُخرِجت للناس، وهم لا يحملون ابتدائية ولا إعدادية ولا ثانوية ولا ليسانس ولا ماجستير ولا دبلوم ولا دكتوراه.. ومنذ أن صارت هذه الأشياء فينا ما زدنا، مع أنه من الواجب أن نتعلّم، لكن على أساس أن نَكُوْنَ الشخصيةَ الإسلامية التي تَحْمِل معاني القرآن، أمّا إذا لم نحمل معاني القرآن قد ننتفع، ولكن ليس كانتفاع من انتفع بالقرآن من غير هذه الألقاب والشهادات.. لو كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم دكاترة مثل دكاترة زماننا وعندهم ماجستير مثل ماجستير زماننا! يا ترى هل ألقاب هذا العصر عملت كما عمل أولئك الذين تخرّجوا من مدرسة سورة المرسلات؟ أنا لا أقول أن نزهد في العلوم، لا، لكن يجب أن يكون أساس شخصيّتنا يُبنى بآيات القرآن، حتّى تصير أنت قرآن العلم والعمل والسّلوك والإنتاج وتبليغ رسالة الله عزّ وجل إلى مخلوقاته.

﴿فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا [المرسلات:4] فتجعل للنّاس أعيناً تبصر به طريقها المستقيم حتى تصل إلى السعادة، وتجعل في آذانها الفرق، فتفرق بين الحق فتعشقه وبين الباطل فتفارقه.

﴿فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا [المرسلات:5] نفوس تلقي ذِكرَ الله في قلوب مخلوقات الله، وهذه النفوس صارت يميناً يحلف بها الله عز وجل.

قصة عن جهد أحد الإخوة في نشر الإسلام

أحد إخوانكم الأخ عبد الرحيم وهو موجود، كان قبل أيام قليلة في سويسرا في جنيف، كم يوماً بقي؟ ستة أيام وأسلم على يديه سبعة من سكان جنيف، أحدهم رئيساً لِمَجْمَع علمي، وكيف أسلم؟ ليس بالكلام ولا بالدلائل ولا بالمناقشات، فبعد أن عمل له مقدمة قال له: أغمض عينيك ولاحظ قلبك يذكر الله عزّ وجل، فقال لي: فأغمض عينيه وأنا أغمضت عيني، استمد عبد الرحيم من الله عز وجل ممّا يفيض به على قلوب أحبابه، فما هي إلّا دقائق أو ثوانٍ وإذا برئيس الجمعية العلمية تفيض عيناه بالدّمع ويتشهّد الشهادتين، لا يوجد لا قيل ولا قال، لا جدال ولا حوار، فقط بالذكر والمسبحة، ﴿فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا [المرسلات:5].

حرص الشيخ رحمه الله على نشر العلم رغم مرضه

إني أحدثكم على حساب قلبي، فأنا أستعمل سبع أدوية حتى أجلس معكم هذه الساعة، فهل تُضَيِّعُون تعبي؟ أم ستصيرون من النفوس والعقول والأفكار التي أقسم الله بها: ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا [المرسلات:1]؟

أمّا إن كنتم تأتون وتعودون ولا تحملون صفات هذه الآية فالأفضل ألّا تأتوا؛ لأنّها صارت حجّة الله عليكم وأنتم مسؤولون عنها، فهل تعاهدونني أن تكونوا من النّفوس المرسلات عرفاً؛ مع صديقك وزوجتكَ وزوجكِ وابنك ورفيقك وفي السهرة وفي الباص وفي السفر والسوق ومع جارك؟ هكذا كان إسلامهم وهكذا كانوا يقرؤون قرآنهم.. فهل تعطونني عهد شرف أن تلتزموا بذلك في الجامع وخارج الجامع؟ أسأل الله عز وجل أن يجعلنا من النفوس والأرواح المرسلات عرفاً، اقتداءً بملائكة الله وأنبياء الله وورثة رسول الله ﷺ.

وعد الله حق آتٍ

حلف الله عز وجل خمس أيمان، فإذا قال لك أحدهم: واللهِ واللهِ واللهِ واللهِ واللهِ وسكت، ما الفائدة من قَسَمه؟ ولسألناه: ماذا تريد؟ أليس كذلك؟ فالقسم له جواب، فأين جواب القسم؟ فبعد الأيمان الخمسة ذكر الله جواب القسم فقال: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ [المرسلات:7] ما وعدكم الله عز وجل من خير وثواب على الإيمان وعلى التقوى وعلى العمل الصالح والخُلق الفاضل واقعٌ لا محيص منه ولا مفر منه، والله يُصدَّق من غير أن يحلف يميناً، فإذا حلف لك يميناً وثانٍ وثالثاً ورابعاً وخامساً ولم تُصَدِّق الله وتُكَذِّبُه، فهل أنت مسلم أم كافر؟ يحلف الله لك خمس أيمان، مع أن الصّادق يُصَدَّق من غير يمين، أليس صحيحاً؟ فإذا كان أصدق القائلين وحلف لك خمس أيمان وقال: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ [المرسلات:7] فإذا عملت مثقال ذرة من خير فسيكافئك الله عليه، ويكافئك على الصلاح والتقوى، وفيما بينك وبين الله أو فيما بينك وبين مخلوقات الله، وإذا عملت سوءاً وشراً فيما بينك وبين الله وفيما بينك وبين مخلوقات الله، فقد حلف الله خمس أيمان بأنّه سيعاقبك.

والعقاب يكون في الدّنيا أو في الآخرة أو يكون في الدّنيا والآخرة، فآل فرعون ﴿‌أُغْرِقُوا وهذا عقاب الدنيا، ﴿فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح:25] وهذا عقاب الآخرة، واللهِ يا بني لا نَتَحَمَّل عقاب دبور إذا تحرشنا به وعاندنا أوامره، فمكتوب على عشه أنّ التّحرش على باب العش ممنوع، كتابةً بلا حرف ولا صوت، فالذي يخالف الأوامر يحصد ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ [المرسلات:7] وماذا كُتب على ذيل العقرب؟ أنّه من يقترب مني ألدغه لدغة أوصله للآخرة، كتابةً بلا صوت وبلا حرف، ومن غير أن يحلف يميناً، فهل تصدق العقرب ولا تَقرَب ذيله أم تضع ذيله وشوكته على شفتيك؟ تُصَدِّق العقرب والدبور من غير يمين، بينما اللهُ يحلف لك خمس أيمان أنّ الله وعد المؤمنين بثواب الدنيا ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ [النحل:30] للذين أحسنوا في أعمالهم وأخلاقهم ونواياهم وسِرِّهم وعلانيتهم، هذا وعد الله.

وعندما المسلمون الأولون صَدَقُوا ما عاهدوا الله عليه حقق الله لهم ما وعدهم من إحسان ونُصْرَة وعزّ ومجد، والذين لم يُصَدِّقُوا الله فكفروا وعاندوا وفسقوا وتمرّدوا هل وجدوا عقاب الله وقصاصه في الدنيا قبل الآخرة؟ فإذا كنت مع هذه الآيات، وتَحَوَّلَت فيك إلى عمل فأنت بالقرآن مؤمن، وإلّا فأنت به كافر ولو قرأته على الأربعة عشر.. كان المنافقون يقولون، كما حكى الله عنهم: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ فهم يقولون: أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، فقال الله: أنا لا أحتاج شهادتكم ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ فهل لا تَثبُت رسالةُ النبي ﷺ إلّا إذا شهدوا له؟ فالله يعلم إنه لرسوله، ويقول: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1].

فما الفائدة إذا صَدَّقك الناس وكذَّبك الله؟ وإذا قال الناس عنك: صادق، وقال الله عنك: إنك كافر منافق؟ فالمعاملة مع الله، فانتبهوا وخذوا حذركم.

قصص عن موت الفجأة

والموت أقرب من بياض العين إلى سوادها، رحم الله شاكر البساتنة ابن أبي شاكر، كان شاباً صالحاً، وكان يعمل بالصيرفة وهو من أكبر الأغنياء، استقبل ضيفاً له في عَمّان من المطار، وبينما هو عائد تسابق مع صهره في السيارات من باب المباسطة، وعندما وصل إلى البيت وأراد أن يفتح باب المنزل وإذ به يسقط جثة لا نَفَس ولا حراك ولا وعي، وسلّم الروح إلى بارئها، غفر الله لنا وله.

ابن الشيخ عبد الرؤوف أبو طوق رحمة الله عليه، كان شاباً مهندساً من الشّباب الصّالحين، وأبوه معروف من كرام وفضلاء العلماء، كان موظفاً في السعودية أرسلته الشركة التي يعمل بها في مهمة إلى أوروبا، فمر في طريقه إلى دمشق ليزور والده، فعندما أصبح وضعوا طعام الفطور، فلم يأتِ إلى المائدة، فقام أخوه ليوقظه من نومه فناداه فلم يستجب له، وكرر النداء فلم يجبه، دخل إلى الغرفة فداعبه من أسفل قدميه يريد أن يوقظه بشكل لطيف فلم يتحرك، وشدَّه فلم يتحرك، وصرخ منادياً له فلم يتحرك، وإذ به قد فارق الروح الجسد، وهو دون الثلاثين من العمر.

الشيخ محمد القابوني رحمة الله عليه في الميكرو باص مع زوجته وأولاده وبناته اكتسحتهم سيارة شحن، [الميكرو باص: حافلة صغيرة تسع قرابة أربعة عشر راكباً] فماتوا كلهم في ساعة واحدة.

[هو الشيخ محمد حمزة، من القابون في دمشق، وكان من العلماء المميزين، ومن تلامذة سماحة الشيخ كفتارو، وقد عَلَّم مئات الطلبة في مجمع الشيخ، وكان معروفاً بغزارة علمه وتبحره بالعلم وبحسن أخلاقه وتواضعه وإخلاصه لله في عمله وابتسامته الدائمة.. وقد توفي مع كثير من أفراد عائلته في يوم واحد، وكانوا اثني عشر شخصاً، وكان يوماً مشهوداً في دمشق، وخاصة في الحي الذي يسكن فيه في القابون، وفي مجمع أبي النور، حيث تلامذته ومحبوه].

فإذا حانت ساعتك هذه بمرض أو بغير مرض، فماذا يكون موقفك؟ موقفك هنا ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ [المرسلات:7].

محكمة الله عز وجل

فهل أنتم مستعدون للقاء الله عز وجل؟ لا تنغروا بالشباب ولا بالصحة ولا بالوجود، فنسأل الله أن يرزقنا الاستعداد في كلّ لحظة للقاء الله عز وجل.

فمتى؟ هناك محكمتان محكمة مؤقتة زائلة في الدنيا، يحاكمك الله في الدنيا على بعض ذنوبك، ومحاكمة الدنيا غالباً مؤقتة وزائلة، أمّا محكمة الآخرة فنسأل الله أن يحمينا، ثمّ الذين سلكوا الطريق المستقيم ومشوا على القرآن حتى كانوا قرآن العمل، فهل ربحوا أم خسروا؟ تكلموا! وهل أغناهم الله أم افتقروا؟ وهل أعزَّهم الله أم ذُلُّوا؟ وهل رفعهم الله أم انخَفَضوا؟ والذي يخالف أوامر الله.. حتى لو جاءته الدنيا، وصار غنياً أو صار ما صار! فالله عز وجل يقول: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ [المرسلات:7] ولو أن الله لم يوقع به العذاب الأصغر -فعذاب الدنيا هو العذاب الأصغر- بينما العذاب الأكبر هو عذاب الآخرة!

وقال الله عن الكفار الذين يُعاقِبُهم في الدنيا والآخرة: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى [السجدة:21] الأصغر حتى يصلوا إلى العذاب الأكبر، ولماذا نذيقهم العذاب في الدنيا؟ قال: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة:21] فالله إذا “شَدَّ لك أُذُنَك” في الدّنيا [كناية عن العقوبة والتأديب] رحمة بك، أمّا إذا لم يَشُدّ لك أُذُنَكَ فقد يكون يمهلك، ((إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ الظَّالِمَ ولا يُهْمِلُه، إِذَا أَخَذَهُ لا يُفْلِتْهُ)) 2 ، لا يُهمله: لا يتركه.. فالقاتل إذا ولول عند الإعدام فهل تنفعه الولولة؟ والذي لم يتعلّم في صغره وتكاسل وآثر البطالة وعندما كَبر افتقر، فهل ينفعه النّدم والبكاء؟ فنسأل الله أن يرزقنا العقل؛ عقل الدّنيا وعقل الآخرة، عقل الدّين وعقل الدّنيا، هذا هو الإسلام، وهذا هو القرآن، وعندما جَرَّبَه المجرّبون.. هم آمنوا.. ولم يكن إيمانهم بقصد التّجريب، [يستعير الشيخ هنا كلمات “جَرَّب المجربون والتجريب” لأن تفكير الناس المادي في وقتنا الحاضر يقتنع بالأمر المجرَّب وقد يرفض الأمر النظري غير المجَرَّب، فكأنه يقول: إن الإسلام هو الحق وأصحابه ناجحون في الدنيا، وهذا أمر ثابت بالتجربة الواقعية] فهل سعدوا في دنياهم قبل آخرتهم؟ الآن وغداً وقبل ألف سنة ومهما بقيت الدنيا فهل من يسلك طريق التقوى يكون خاسراً مغبوناً مغشوشاً؟ نسأل الله أن يوفقنا ولا يعمي أبصارنا ولا بصائرنا.

متى؟ -هذه فسرتُها لكم في الجمعة الماضية، لكن الآن طَلَعَ معكم تفسيراً جديداً، أليس كذلك؟ ففي كل مرة تأكلون طازجاً ولا يوجد بائت [قديم]، وكُلُّه من فضل الله وكرمه- [كناية عن المعلومات الجديدة في الدرس، ومن المعروف عن دروس سماحة الشيخ رحمه الله تعالى أنه ربما يكرر كثيراً من المعلومات، لكن في هذا التكرار فوائد جليلة، وترى المكَرَّر يأتي كل مرة بثوب آخر وبطريقة مختلفة وفائدة جديدة، حتى القصص والطرائف التي يذكرها ترى فيها الجديد والمفيد في كل مرة].

فيقول الله عز وجل عن المحكمة الكبرى؛ محكمة القيامة التي سماها يوم الفصل، لأن الله يفصل فيها بين المؤمنين والكافرين، فالمؤمنون إلى الجنة والكافرون إلى جهنم، يقول تعالى: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59] يوم الفصل ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] فصلٌ ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا [الانشقاق:9] هذا قِسم ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ الذي جعل القرآن في حياته وراء ظهره، فحين يخاطبه الله يجعل كلامه وراء ظهره، ويخاطبه القرآن فيجعل كلام الله وراء ظهره، ويخاطبه النبي ﷺ فيجعل كلامه وراء ظهره، وينصحه الناصح فيجعل كلامه وراء ظهره، ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا [الانشقاق:11] ماذا تعني ثبوراً؟ أي “الوَلاوِيْل”: الويل والثبور وعظائم الأمور ﴿فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا [الانشقاق:13] كان لا يلقي بالاً لنتيجة عمله وغير مبالٍ ولا مصدق وهازئاً وشارباً للخمر ويفسق ويزني ولا يسأل عن الله عز وجل ولا يؤمن به ولا يُوَقِّره.

عندما دعا موسى وهارون عليهما السلام على فرعون ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89] وقيل: ما نُفِّذَت استجابة الدعوة إلا بعد أربعين سنة، لكنها نُفِّذَت وكيف كان تنفيذها؟ أغرقهم الله، ومن الغرق إلى الحرق ﴿أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح:25] نسأل الله أن يحمينا من الخذلان ومن موت القلوب ومن موت الإيمان والغفلة عن كلام الله عز وجل.

عقوبة المكذبين في كافة العصور واحدة

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ [المرسلات:14] إذا صار يوم الفصل ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:15] الويل: الحسرة والنّدامة والهلاك وسواد الوجه وخسارة الأبد، ثمّ أمرنا الله عز وجل باستعمال العقول فقال: ﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ [المرسلات:16] الذين لم يصدّقوا كلامنا ولم يتقبّلوا هَدْيَنا وما أطاعوا الله ورسوله، فماذا كانت عاقبة فرعون وجنوده وقوم ثمود وقوم صالح وعاد قوم هود وأبا جهل وأبا لهب؟ ماذا كانت عاقبتهم؟ وهذا في كل وقت وفي كل زمان.

كل عصر فرعون فيه وموسى وأبو الجهل في الورى ومحمد

فعاقبة من يمشي على طريقة أبي جهل وطريقة فرعون نهايته معروفة، ومن يمشي على طريقة أبي بكر وعمر فأيضاً النتيجة معروفة، فالقرآن يُقرأ لهذا، أمّا إذا قَرأ جُزءً فما الذي فهمه؟ يجيب: “لم أفهم شيئاً”، وماذا ينوي أن يُطَبِّق ممّا قرأ؟ يجيب: “لم يبقَ في ذهني شيء، وأنا لم أنوِ أن أقرأ لأعمل، ولا أقرأ حتى أنفذ وأطبق”، إذاً: هو ليس مؤمناً في القرآن، وهذا لم يقرأ القرآن.

رب تالٍ يتلو القرآن بفيه وهو يفضي به إلى الخذلان

يخذل ويخسر ويفشل في دينه ودنياه، نسأل الله أن يحمينا، وأن يجعلنا من أهل القرآن علماً وعملاً وتعليماً وتبليغاً.

ثمّ الذين كذّبوا من الأولين ولم يصدقوا ولم يستجيبوا ولم يطيعوا كلام الله، ثمّ أتبعهم بالفوج الثاني من الآخرين، ففرعون ذهب وثمود ذهبوا، وقوم لوط قَلَبَ الله بهم الأرض، هذا على مستوى الأمم والشعوب، وعلى مستوى الأفراد فأنا رأيت بعيني -على قلة اختلاطي بالناس- كيف نشأ بعض الناس في شبابهم غنى وثروة ومجداً ثم كيف انتهى أمرهم! فحاسبهم الله في القيامة الصغرى قيامة الدنيا في حياتهم قبل موتهم، وهناك أناس يجعل الله عذابهم في القبر، وهو ما يسمى عالم البرزخ وعالم الأرواح، ومنهم من يعذبهم في عالم الدّار الآخرة.. يعني هل تحبون الشِّوَاء بأن يضعوكم في السِّيخ ويُقَلِّبُوكم على النار [كشواء اللحم]؟ وهل تحبون الحريق أم الغريق أم الخذلان؟ فكروا ماذا تأخذون من معصية الله؟ فالسّكير بعد أن يشرب الخمر ويستفيق ماذا يستفيد؟ والزناة قد بعث الله لهم اليوم شرطياً هو الإيدز، ويُوَلْوِلُوْن! ومع كل علومهم وكل ما وصلوا إليه؛ فقد وصلوا إلى القمر ويطوفون حول الكواكب، فيروس صغير لا تراه العيون هزمهم وهزم تكنولوجيتهم وطائراتهم وصواريخهم النّووية والذّرية.. الله أكبر! فلا تستصغر الله ولا تستصغر غضب الله ولا تستصغر بأس الله، ولا تستصغر عطاء الله ولا رضاء الله، فنسأل الله أن يجعلنا ممن آتاهم الله في الدنيا حسنة وإنهم في الآخرة لمن الصالحين.

إذا كسب الاثنين أفضل أم إذا خسرهما معاً؟ إذا كنت ستخسر ولا بدّ فاخسر الدنيا واكسب الآخرة، أما إذا كسبت الدنيا وخسرت الآخرة، فأيّهما ناجح أكثر، كاسب الدنيا وحدها أم كاسب الآخرة؟ واللهِ أنا أتمنى أن تكسبوا الدنيا والآخرة، وهذا وعد الله إذا مشيت على كلام الله بطريقة صحيحة.. وإلى آخره.

﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ [المرسلات:16] فأهلك الأولين وألحق بهم الذين اتبعوهم على طريقهم أيضاً، وأيضاً الذين لم يأتوا وسيسلكون هذا المسلك؛ مسلك معصية الله وعدم الاستجابة لأوامر الله، قال: ﴿كَذَلِكَ مثل ما فعلنا بالمكذبين وفعلنا بالآخرين كذلك نفعل في كل زمان وقرن بالمجرمين، ونفعل كذلك بمن أخلفوهم بسوء إلى يوم الدين.

فما رأيكم الآن؟ وقد سمعنا الدّرس، وليس المهم أن نسمع الدرس، ولكن المهم بعد السماع ماذا ستفعلون؟ عليكم أن تفتشوا أنفسكم خصوصاً في رمضان، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((إذا سَلِمَ رمضانُ سَلِمَت السنةُ كلها)) 3 . وتحافظ على نفسك في رمضان، وتنظف عينك من الحرام، فلا تنظر إلى حرام، وتنظف أذنك فلا تسمع إلى حرام، ولا تكون نواياك في قلبك ونفسك إلّا كما يرضي الله ويحبه ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36].

فهل الذي يكلمك ولد صغير؟ إذا كنت مخالفاً وأمسك بك شرطي “سَيْرٍ” [مرور] تقول له: أرجوك سيدي، أنا تحت أمرك سيدي، لست بمخالف سيدي.. وإذا تركك فهل تمشي على الشمال أم على اليمين؟

وهو عبد مثلك، وكلّ القضية مخالفة بقيمة مئة ليرة أو مئتي ليرة، وتقول له: خمسين مرة “سيدي”، والذي خلقك من حيوان منوي لا تراه العيون، وجعلك فلان البيك وفلان الباشا وفلان الوزير وفلان الأمير وإلى آخره، ألا تسأل عن كلامه؟ إذا نسيته فقد قال: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [التوبة:67]

الفناء في المحبوب

فالتائب المنيب الصادق المستقيم واللهِ لن يَضِيْع؛ لا في الدنيا ولا في الآخرة، وخصوصاً إذا بعث الله له الشّيخ المربي الحكيم الوارث النبوي، وارتبط فيه كارتباط الجسد في الرّوح، والرّوح في الجسد، “وأنا من أهوى ومن أهوى أنا”.

بعضهم في بعض الأوقات ينسى نفسه في ذكر محبوبه، “والحب في الله من أعلى شعب الإيمان”، هذا الحب بمعناه الحي هو الذي اسمه “الرابطة” في الطريق، فإذا لم ترتبط برباط الحب فلن تستطيع أن تسلك الصراط المستقيم.

جزاء المكذبين

﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:15] الذين يكذبون بوقوع العذاب ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ [المرسلات:7] ليس ويل واحد عليهم، الويل الأول قد مضى، والويل الثّاني لمن؟ للمكذبين بيوم الفصل والمكذبين بقصاص الله سواء في الدنيا [أو في الآخرة]، فهل أهلك الله عز وجل الأولين في الدنيا أم في الآخرة؟ ثم أتبعهم الآخرين، هل في الدنيا أم في الآخرة؟ [في الدنيا].

﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ للمجرمين، الويل لهم في الدنيا أم في الآخرة؟ في الدنيا والآخرة، هذا ليس كلام مجانين ولا كلام استهزاء ولا كلام أولاد صغار، بل كلام ربّ العالمين ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] إن كنت حياً فيقول لك: “كن ميتاً” فتصير ميتاً، قد تكون أغنى الأغنياء ففي لحظة واحدة يُفَلِّسك، وقد تكون ملك الملوك وفي لحظة تصير في السجون ويسحبونك من رجليك.

نسأل الله ألّا يجعلنا موضع سخط الله وموضع مخالفته وموضع الإعراض عن كلامه ووصاياه، فهل تحبون أن يقول الله لكم: “الويل لكم” أم يقول لكم: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ؟ [الزمر:73].

فهل تحبون أن تستقبلكم الملائكة ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:15] أم تستقبلكم ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ؟

والذين كفروا بكلام الله ولم يرفعوا بذلك رأساً ولا يَهُمُّهُم، فعندما يغضب يكفر ويبطش ويظلم، وعند الطمع لا يفرق بين حرام وحلال، ولا يترك في السهرة الكذب والغيبة والنميمة، فهل تقول الملائكة له: ويل أم سلام عليكم؟

أهمية ذكر الله للقلب

إذا لم تشتغلوا بذكر الله ولم يَحْيَ القلب [فلا يتحول القرآن إلى عمل]، لأنّ التربة التي تُنبِت القرآنَ وتحوله من بذرة ونواة إلى نخلة هي القلب، فإذا لم يكن لك قلب وتذكر الله عز وجل وإذا لم ترتبط بالشّيخ برابطة الحب كارتباط الروح بالجسد والجسد بالروح [فلا يتحول القرآن فيك].. والآن في الوقت الحاضر يقول بعضكم: “نعم، هذا صحيح” لكن بعد نصف ساعة ينسونها، وفي المسجد يتركونها، لذلك قال الله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى في كلام الله والقرآن ذكرى ﴿‌لِمَنْ ‌كَانَ ‌لَهُ ‌قَلْبٌ [ق:37] والقلب: هو الذي يحيا بنور الله والذي تتحول نبضات الدم فيه إلى نبضات “الله الله” لفظاً ونوراً وروحانيةً، فتُحْيِّي في قلبك كلَّ آيات القرآن، حتى تتحول بِذْرَتُها القولية والنطقية إلى نخلة في الأعمال والأخلاق والحكمة وتعليم الناس وهدايتهم، فتصير هادياً ومَهْدِياً.

هل هذا أفضل أم أن تصير ضالاً ومُضِلاً ومَخْزِيّاً؟ تكلموا! هِيَ في الكلام علينا ثقيلة، فكيف إذا كانت هي واقعنا في أعمالنا وأخلاقنا وسلوكنا ونوايانا وتفكيرنا وما في نفوسنا! نَغش أنفسَنا، واللهُ لا يُغَش ولا يُخادَع ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7].

حقيقة الإنسان

كان كفار قريش ينكرون هذه المعاني وكانوا يقولون: ليس هناك حساب ولا آخرة وكله كذب وأساطير الأولين ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78] كانوا يقولون للنبي ﷺ: ﴿قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [المؤمنون:82] هل سنرجع مرة ثانية؟ هذا كله كذب وكلُّه وهم، فردَّ الله تعالى عليهم فقال: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [المرسلات:20] الماء المهين هو المني، والحيوان المنوي من الرجل والبويضة من المرأة، فالمرأة تبيض في الشهر كم بيضة؟ بيضة واحدة، والحيوان المنوي يتجه نحو الطريق الذي تأتي منه البويضة العروس، فهو من يذهب إليها وهي مقبلة عليه، وعندما يلتقيان يلتحمان ويتشكل منهما كتلة واحدة، فإذا كان الحيوان المنوي مذكَّراً يأتي الولد ذكراً، وإذا كان الحيوان المنوي مؤنَّثاً يأتي الولد أنثى، فذكورة الولد والأنوثة مصدرها من الأم أم من الأب؟ فإذا جاء لأحدهم بنات وانزعج، وأراد أن يتزوج على زوجته حتّى يأتي الصّبيان، فالذكورة والأنوثة منها أم منه؟ واللهِ هناك ابنة تعدل مئة ألف مليون صبي، وهناك صبي إذا كان من الصالحين يساوي مئة ألف صبي، نسأل الله أن يرزقنا الولد الصالح ذكراً كان أم أنثى، ﴿رَبِّ هَبْ لِي لم يقل ذَكراً، بل قال: ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:100] طلب الوصف ولم يطلب الذات، نسأل الله أن يجعلنا من الصالحين.

قال: لماذا تستنكرون أنكم إذا متم أن يعيدكم الله مرة ثانية، ماذا كنتم؟ والماء المهين ماذا كان أصله؟ كان أصله طعاماً “مُجَدَّرة وفول وحمص مطحون” أكلتهم، ثم المعدة قامت بهضمهم وحوله الكبد والجهاز الهضمي إلى دم، وذهب الدم إلى الخصيتين، فالخصيتان صنعت الحيوان المنوي، فمن خلق لك هذا الجهاز؟ ومن يراعي لك هذا المصنع؟ من مديره؟ ومن هم المهندسون؟ فهل يستطيع أهل الدّنيا كلهم أن يصنعوا حيواناً منوياً؟ فالذي خلقك وجعلك امبراطوراً وجعل كذلك الأنبياء والعظماء وعموم المخلوقات، إذا ذهب الجسد من التراب ألا يستطيع أن يعيدك مرة أخرى؟ فيناقش القرآن الكفار ويحاورهم الحوار المنطقي العقلي، لا يقول له: آمن بلا حوار، بل إن أنكر يقول له: تعال أنا وأنت والعقل، فالذي خلقك من ماء مهين أصله من طعام “بطاطا وفَتُّوْش” [الفتوش: سلطة سورية]، ألا يستطيع خالق الكون أن يخلقك؟ ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس:81] بلى.. فالدِّين كلّه عقل وكلّه منطق وكلّه حجج وإقناع وحكمة، والمسلم لا يعرف لأنّه لم يجد معلّم القرآن، والآن يفرح أن ابنه قد حفظ القرآن وهذا شيء جميل وجيد، لكن هل نفكّر أيضاً أن نعلّم أولادنا علوم القرآن؟

الأصمعي والطفل والعبرة من القصة

يذكر عن الأصمعي أو غيره من علماء السلف أنّه رأى في يوم عيدٍ أطفالاً يلعبون، ورأى طفلاً يعتزلهم وهو يبكي، فظنّ أن أحدهم قد اعتدى عليه أو أنّ أباه لم يعطه ما يسمى “العِيْدِيَّة” [مبلغ مالي يُعطى للأطفال في العيد] أو ما شابه، فقال له: “يا بني لماذا لا تلعب مع أترابك ورفاقك؟” قال: فنظر فيّ نظرة ازدراء واحتقار وحدّق في عينيه وقال: “ويحك أيها الشيخ! أوَ لِلَّعبِ خُلِقْنا! أما سمعت الله يقول ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فهذا الولد بكم يُشتَرى؟ وكم يساوي؟ هل ثقله من الألماس؟ اللهم ارزقنا الذرية الصالحة ذكراً أو أنثى.

فامرأة عمران كانت تريد صبياً فجاءتها مريم فصارت أفضل نساء العالمين، فالذي يأتيك من الله ضعه على رأسك.

قال الأصمعي: “يا غلام أنت لا تزال طفلاً صغيراً وليس عليك تكليف”، قال: “يا عمّاه ما أجهلك!” كان الأصمعي من كبار علماء زمانه، قال له: ما أجهلك! إذا كان أطفالهم هكذا فكيف كان رجالهم؟ وكيف كان علماؤهم؟ لذلك حكموا نصفَ العالَمَ أعظمَ حُكمٍ وأعظمَ عدالةٍ وبمُساواة، وعمّموا العلم لجميع شعوب العالم ولم يفرّقوا بين أبيض وأسود، ولا بين عربي وأعجمي، فهيئة الأمم وحقوق الإنسان ومجلس الأمن كلّه كذب بكذب ودجل بدجل، يخدعون به الشعوبَ ضعيفةَ العقل وضعيفة التفكير، والإسلام غائبٌ عن الوجود بشمسه، والناس يعيشون في الظلمات يتحيرون كيف يتجهون؟ والسبب عدم وجود العلماء الحقيقيين حتى ينيروا الطريق أمام المسلمين ليرجعوا إلى صراطهم المستقيم.

فقال له: يا ولدي أنت لم تبلغ فلا يجري عليك قلم التكليف بعد، العب مع الأطفال، فهل تريد مالاً أو ألعاباً لأشتريها لك؟ فقال له: يا عماه كيف تقول صغيراً وكبيراً! إني رأيت والدتي عندما تطبخ في كَانُوْنِها تُشْعِلُ الحَطَبَ الكبار بالحطب الصغار، فأخاف أن يشعل الله بي وبأمثالي الحطب الكبار في نار جهنم.

قال: فعرفت أنه أوتي العلم والحكمة كما أوتي يحيى: ﴿وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحُكۡمَ [مريم:12].

العقل للاعتبار لا لأمور الجسد

ما الحُكْم؟ هل كان ملكاً؟ فالحُكْم: الحكمة وهي أن تعرف الأمور بحقائقها، وأن تفعل ما ينبغي -بأن تؤدي الواجب- في الوقت الذي ينبغي، على الشكل الذي ينبغي، ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12] أحدهم يصير عمره تسعين سنة وعقله عقل الأولاد الصّغار، تنقلع أسنانه ويَبْيَضّ شعره ولا يزال من دون عقل، عنده عقل [لكنه ليس عقل الإنسان]، والجرذ عنده عقل، ولكن إلى أين يوصله؟ إلى المَجَارِي والآبار النجسة، [المجاري: الأنابيت التي تجري بها المياه الوسخة وخاصة ماء بيت الخلاء] والفأر يملك عقلاً، وكلّ ما في الأمر أنها تثقب الكيس وتأخذ حبتين أو ثلاث حبات من الرّز.

والنملة لها عقل، فلا يوجد مخلوق له روح إلّا وله عقل، لكن الإنسان عقله مختلف، وعقول النمل كلُّها واحدة، وعقول الدبابير كلها واحدة، أما عقول الناس فكل واحد عقله مختلف عن الآخر، نسأل الله أن يرزقنا العقل الحكيم الذي يُسْتَمَد من المعلّم الحكيم ومن الحكماء والفقهاء؛ الفقهاء الذين وصفهم النبي ﷺ بأنهم ((عُلَمَاءُ فقهاء كَادُوا مِنْ فِقْهِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ)) 4 .

﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْم ما الحُكم؟ “الحكمة”: فعل ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الشكل الذي ينبغي.. هذه ثلث وجزء من الإسلام، والثلث الثاني: “العلم” بأن تتعلّم القرآن؛ علومه وأخلاقه وفرائضه ومحرّماته وتعمل بموجبه، والثّلث الثّالث: “تزكية النّفس” فإن كنت كاذباً تجاهد نفسك حتى ينقلب الكذب إلى صدق والخيانة إلى أمانة والغش إلى نصح والحسد إلى رضاء بما قسم الله لك ولغيرك، فينقلب الظّلم إلى عدل، والإساءة إلى إحسان.. وهذه ما اسمها؟ تزكية.

فالإسلام يعلّمهم الكتاب وهو العلم، ويُعَلِّمُهم الحكمة ويزكيهم، فتَعَلُّم القرآن ليس تعلّم النطق بحروفه، بل تعلّم الهدف من آياته لتتحوّل فيك إلى عمل وأخلاق وسلوك وعقل حكيم، فعند ذلك أنت مسلم وأنتِ مسلمة، أمّا إذا قرأت القرآن ولم تعرف مقاصده ومعانيه ولم تعمل بها، وإذا غَلَبَ عليك مَطْمَعٌ أو طاش بك الغضب أو لعب بك الهوى والأنا فخرجت عن طاعة الله إلى معصيته، فأنت لم تقرأ القرآن ولم تؤمن به، وإذا وضعتَ الأمورَ في غير مواضعها أو في غير أوقاتها فأنت قد حُرِمت الحكمة، وإذا كانت نفسك وأخلاقك من الدّناءة؛ فعندك الكذب بدل الصّدق، والخيانة بدل الأمانة، فأنت لم تتزكَّ، إذن، فما لك من الإسلام؟ لا علم ولا حكمة ولا تزكية! والشّيطان يغرّك فيقول لك: “إنّ الله غفور رحيم” بينما يقول لك الله: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ بأن تترك كلّ صفاتك السّيئة وكلّ أعمال السّوء وكل أصدقاء السّوء وكل سهرات السوء؛ هذه هي التوبة، فلا يكفي فقط أن تتوب، بل [بعدها] قال تعالى: ﴿وَآمَنَ [طه:82] فيجب أن تقرأ القرآن قراءة الإيمان، فإن قال لك: هذا سُمّ وعرفتَه أنّه صادق وطبيب، فما مقتضى الإيمان؟ هل تشربه أم تترك شربه؟ وإذا دخل في فمك ولم تبلعه بعد، ماذا تفعل؟ تلفظ ما امتصصت.

مَن معلمك؟

فبالإيمان نصير مسلمين وننجح في الدّنيا وفي الآخرة، وهذا يحتاج إلى علم ومعلّم وحكمة وحكيم وتزكية ومزكٍّ، فهل لك معلم أيها مسلم؟ بعضهم زوجته تعلِّمه، وهي أستاذته، وبما تأمره يقول لها: “حاضر”، والثاني: معلِّمُه أولادُ الشوارع [رفقاء السوء] والبَطَّالون: ((إنَّ اللهَ يَكرهُ العبدَ البطالَ)) 5 ومجلسه مجلس جهل وجاهلية وغيبة وكذب ونميمة، قال تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ما النّجوى؟ اجتماع الناس ليتناجوا ويحدّث بعضهم بعضاً، أي مثل المقاهي، قال تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ يكافح الفقر، ﴿أَوْ مَعْرُوفٍ أو إذا كان شيءٌ من العلم أَمَرنا اللهُ عز وجل به وعَرَّفَنا به ورأينا تاركاً له، فعلينا أن نأمره بأن يؤدي ذلك الواجب ﴿أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114] إذا رأينا فئتين أو شخصين أو زوجَين أو شريكين أو متجاورين مختلفين متنازعين متخاصمين نركض لنصلح بينهما، فإذا كان واقعك على خلاف القرآن بألا تأمر بالصّدقة، كما قال تعالى: ﴿يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء:37] وإذا رأيت منكراً فلا تأمر بالمعروف بل تأمر بالمنكر، وإذا رأيت متحابين متصاحبين تسعى بينهما النّميمة والكذب والافتراءات حتّى تفرق بالعداوة بينهما، فهل أنت مؤمن بالقرآن؟ وهل أنت مسلم؟ فالإسلام: هو الاستجابة لأوامر الله، فهل بعملك هذا أنت مستجيبٌ لأوامر الله أم رافضٌ لها؟

مراحل خلق الإنسان

﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [المرسلات:20] فالذي خلقك من ذرّةٍ من الماء ﴿فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [المرسلات:21] وضعه في مكان محروس محفوظ لا يضيع ويُحافِظ عليه ويُغَذِّيه ويُنَمِّيه حتّى يصير إنساناً سويّاً.

﴿إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ [المرسلات:22] إلى وقت معين: تسعة أشهر.

﴿فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ [المرسلات:23] نظّمنا خلقك من طعام وغذاء ثم دم ثم مني وحيوان منوي وبويضة ثم إلى جنين ثم مولود ثم رضيع إلى أن بلغ أشده واستوى، فهل آتيناه حكماً وعلماً؟ وهل تعلمت العلم: علم القرآن والحكمة؟ وهل صار لك العقل الحكيم بأن تضع الأشياء في مواضعها وتؤديها في أوقاتها وبمقاديرها في الشكل الذي يجب أن يكون؟ هذا نصف الإسلام ونصف الدين، أمّا أن تطلق لحيتك وتلبس عمامة وتُقَصِّر ثوبك وتكون غليظاً ولا تحفظ من القرآن إلا مثل الذي لم يحفظ من العشق إلا كلمة “أَوْحَشْتنا”، فلا يعرف من العشق والحب إلا هذه الكلمة.. ويترك شَعَراتٍ في لحيته ويرى نفسه أنه صار خاتم النبيين!

أين العلم؟ هذا أليس علماً؟ ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي ‌قَرَارٍ ‌مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ [المرسلات:20-22] هذا صار علماً مستقلاً تؤخذ عليه الدكتوراه، جَمَلَها الله بثلاث آيات قصيرة، كلّ آية جملة واحدة، فأيها المسلم ألست مأموراً أن تتفقه بالقرآن وتكون نفسُك مَعِدَةً تحوِّل القرآن، كما تحول المعدةُ الطعامَ إلى دم لتعطي لجسمك وعضلاتك القوّة، ولخلايا مخك الفهم والتّفكير؟ إذا لم تفعل ذلك فأنت جماد، والجماد خير منك، لأنّ الجماد لا يُحاسَب، أمّا أنت فأمامك حساب وستحاسب على أوقاتك وأعمالك وكلماتك ونظراتك وخطرات نفسك، وإذا لم تُصَدِّق ذلك فأنت كافر؛ لأنّك تكذّب بالآخرة، وتكذّب بيوم الدين، ما يوم الدين؟ وما معنى يوم الدين؟ يوم الجزاء ويوم الحساب.

أنت تقرأها في الفاتحة في الصلاة كل يوم عشرين مرة أو ثلاثين مرة، فهل استقرّ بك الإيمان والعقيدة بيوم الدين ويوم الحساب؟

هناك الحساب المعجَّل في الدنيا وهناك الحساب المؤجَّل الخالد الأبدي في الدار الآخرة، فهل التزمت بقانون يوم الدّين حتى تصير مستجيباً لله لتستحق أن تحمل لقب مسلم ومسلمة؟

يجب أن نصير مسلمين حقيقيين، فهل أنتم مستعدون؟ ارفعوا أصابعكم لأرى، ولا تكذبوا علي!

بالنسبة للعلم صار عندكم علم، ولكن هناك عندكم عمل خارج الجامع؟ فمن أراد أن يعمل فليرفع يده.. ومن لا يريد أيضاً يرفع يده، ولا يستحي، فهل الحياء منّي أهمّ أم الحياء من الله؟ إذا استحييتم مني ورفعتم أصابعكم وفي الخارج أخفضتموها ألا يراكم الله؟ نسأل الله أن يتوب علينا جميعاً، وأن يهدينا إلى صراطه المستقيم وأن يجعلنا ممّن يحب اللهَ ورسولَه ويحبّه اللهُ ورسوله، ويجعلنا نحبّ أحبابَ الله، ويحبنا أحبابُ الله ((الْمُؤْمِنَ يَأْلَفُ وَيُؤْلَف، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ)) 6 .

﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [المرسلات:20] أنعمنا عليكم، فكيف يجب أن تجيبوا الله؟ بلى يا الله خلقتنا من ماء مهين، ولم نكن شيئاً، وكنا “مَخْطَة” [مَخطَة: بالعامية، وهي المُخَاط الذي يخرج من الأنف، وشكل المني يشبهه كثيراً]، وهل يستحي المرء من “المخطة” أكثر أم من الماء المهين ومن رائحته؟ أجيبوا، يسألنا الله عز وجل ألا يجب أن نجيبه؟

﴿فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [المرسلات:21] في الرحم ﴿إِلَى ‌قَدَرٍ ‌مَعْلُومٍ [المرسلات: 22] إلى وقت محدد ﴿فَقَدَرْنَا [المرسلات:23] نظّمنا ورتّبنا في منتهى العلم الإلهي والدّقة، فهل يستطيع أهل الأرض كلّهم أن يخلقوا ماء مهيناً من حمار أو من جرذ أو من فأر أو من دبور؟ ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14].

فالله عز وجل بعظمته يخاطبنا، فإذا كان يخاطبنا مع حقارتنا وولَّينا ظهورنا لكلامه، فكيف سنواجهه يوم القيامة؟ وكيف سنتحمل سَوْطَه وعذابه في الدنيا قبل الدار الآخرة؟ نسأل الله أن يجعلنا ممن نَرْحَمُ أنفسَنا ونَصْدُقُ إيمانَنا بقرآننا، وأن يوفقنا للارتباط بوارث محمدي؛ لأنّ من لا شيخ له فشيخه الشيطان، ما معنى من لا شيخ له؟ أي يعيش في الجهل والجاهلية، والذي في الجهل والجاهلية من يصير إمامه ومرشده ومعلمه؟ الشّيطان، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ هذا شيخه ﴿نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36].

قال: ﴿فَقَدَرْنَا خلقنا ورتبنا ونظمنا وهندسنا ﴿فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ [المرسلات:23].

﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:15] الذين يكذّبون بعظمة الله وقدرته وبيوم الفصل وبأيمان الله ولا يعملون بمقتضاها، فالويل لهم والحسرة عليهم والخسارة والشقاء والتعاسة لهم، أمّا المصدّقون فالهناء لهم ولهم النجاح والسعادة في الدنيا وفي الدار الآخرة.

اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا تجعلنا من الذين قالوا سمعنا وعصينا، اللهم لا تجعلنا منهم يا رب العالمين، ولا تُعَرِّفنا بهم، ولا تصاحبنا معهم، وأبعد عنّا مجالستهم، وارزقنا حبّك وحبّ من يحبّك وحبّ عمل يقرّبنا إلى حبّك.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.

وأخونا الشيخ رجب مريض، ادعو له، نسأل الله أن يشفيه ويعافيه شفاء لا يغادر سقماً.

وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.

Amiri Font

الحواشي

  1. شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (7447)، (6/ 43)، مسند أبي يعلى، رقم: (3315)، (6/65)، مسند البزار، رقم: (6948)، (2/324)، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه. المعجم الكبير للطبراني، عن عبد الله، رقم: (10033)، (10/86).
  2. متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك..}، رقم: (4686)، (6/ 74)، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم: (2583)، (4/1997)، بلفظ: ((إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ))، عن أبي موسى رضي الله عنه، وفي صحيح ابن حبان، كتاب الغصب، ذكر البيان بأن الله قد يمهل الظلمة، رقم: (5175)، (11/ 578)، بلفظ: ((إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ الظَّالِمَ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يَنْفَلِتْ)) ثم تلا {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ})).
  3. شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (3708)، (3/ 340)، حلية الأولياء للأصبهاني (7/ 140)، عن عائشة رضي الله عنها.
  4. البداية والنهاية لابن كثير، (5/ 94)، حلية الأولياء لأبي نعيم، (9/279)، بلفظ: ((كَادُوا مِنْ صدقهم)) وفي رواية أخرى: ((كَادُوا مِنْ الفقه))، عن سُوَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَزْدِيُّ.
  5. المقاصد الحسنة للسخاوي، رقم: (246)، (ص:209)، قال: ((إن الله يكره الرجل البطال))، وفي المعجم الكبير للطبراني، رقم: (8538)، (9/ 102)، بلفظ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَرَى الرَّجُلَ فَارِغًا لا فِي عَمِلِ دُنْيَا وَلا آخِرَةٍ"، وفي مصنف ابن أبي شيبة، رقم: (35704)، (13/ 300)، وحلية الأولياء للأصبهاني، (1/130)، من قول عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ: «إِنِّي لأمقت الرجل أراه فارغاً».
  6. المعجم الأوسط للطبراني، رقم: (5787)، (6/58)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (7252)، (10/115)، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، بلفظ: «الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ، وَلَا يُؤْلَفُ، وَخَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ»، وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (9187)، (2/400)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
WhatsApp