مناسبة سورة النجم لسورة الطور:
فنحن الآن في تفسير سورة النجم.. وبعد أنْ ختم الله تعالى سورة الطور بقوله: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾ [الطور:49] يعني غروبها وغيابها عن أنظار الإنسان بطلوع الشمس وبشروقها، فسبِّح يعني نزِّه روحك عن أنْ تتعلَّق وتتوجَّه روحيًّا إلى غير الله عزَّ وجلَّ، ونزِّه عقلك وقلبك عن أن يتعرَّف على الله عزَّ وجلَّ بغير ما يليق بعظمته وألوهيته، ثم أتبعها الله تعالى بسورة النجم، فختمت الطور بـ: ﴿وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾ [الطور:49] وبدأت سورة النجم بـ: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ [النجم:1]، فهنا أقسم الله سبحانه بالنجم، وهناك قال: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ في الليل ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾ [الطور:48-49].
الحلف بالنجم لإدراك عظمته وعظمة خالقه:
ثم قال الآن: ﴿وَالنَّجْمِ﴾ [النجم:1] الواو بمعنى أُقسِم وأَحلِف، والعادة أنَّ الإنسان لا يحلف إلا بشيء عظيم وبمعظَّم في نفسه وفي عقله وفي واقعه، فلا يجوز للإنسان أن يحلف بشيءٍ تافهٍ أو حقير في واقعه.
والله عزَّ وجلَّ حلف بالنجم، وليس المراد به النجم المفرَد، بل المراد جنس النجم، يعني مجموع النجوم.. وعالَم الفَلَك هو موطِن عالَم النجوم والكواكب، والنجم هو ذو النار المشتعلة، أمَّا الكوكب فهو النجم المتجمِّد مثل الأرض والمريخ والزُّهرة.
الشمس يقال لها: نجم، ولا يقال لها: كوكب، أمَّا الأرض والقمر والمريخ فيُقال لها: كواكب، والكوكب دائمًا يتبع النجم، ويكون مِن أبنائه وأفراد أسرته، فالنجم أصلٌ، والكواكب فرعٌ عن النجوم.
لقد أقسم الله عزَّ وجلَّ بالنجم، يعني جنس النجوم ومجموعها، لينبِّه العقل وينبِّه الإنسان إلى دراسة علم النجوم، والتعرُّفِ على عَظَمتها وقوانينها، وليتعرَّف منها بطريق الفِكر على عَظَمة صانعها ومنشِئها ومخطِّط سيرها ودورانها وأفلاكها.. وكما أنَّ القطار لا يستطيع أنْ يَخرج ويحيد عن سكَّته لا بمقدار سنتيمتر ولا ميليمتر واحد، كذلك الكواكب والنجوم كلُّ واحدٍ منها له سكَّةٌ ومدارٌ، ويسمَّى فَلَكًا، ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس:40] يعني في سكَّةٍ ومدارٍ وطريق، وهي تسبح في بحر الفضاء، والسيارة في أثناء سيرها قد تميل إلى اليمين مترًا أو مترين أو نصف متر أو أكثر أو أقل، والسفينة كذلك، والطائرة كذلك، أمَّا السيارات الإلهية في عالَم الفضاء فيَقصر العقل عن إدراك جزءٍ منها، وهذه الأفلاك في الفضاء لها مداراتٌ وسككٌ وطرقٌ لا تحيد عنها ميليمترًا واحدًا، ولو حادت قليلًا لاصطدم بعضها ببعض، ولاندثر هذا العالَم بأرضه وسمائه.
وإنَّ حلف الله بعالَم النجم والنجوم تنويهٌ وإرشادٌ للإنسان إلى عظمة هذا الـمُــقسَم به لندرسه، ولندرك ما يمكن من العلوم النافعة لنا منه، ثم لننتقل إلى ما هو أعظم منه، فأنت أحياناً ترى التلفزيون أو القطار أو الطائرة فتراه أمرًا عظيمًا لكن مَن هو أعظم منه؟ الذي أنشأه واخترعه وأبدعه، فالطائرة شيءٌ عظيم لكن الأعظم منها ذلك الدماغ الذي خرجتْ منه هذه الطائرات وهذه السفن وهذه المخترَعات.
وأعظم مِن عالَم النجوم -الذي ما زال الإنسان إلى الآن في معرفته به على شاطئ بحره- هو خالق هذا العالَم.. علماء الفلك قبل خمسين أو ستين سنة كانوا يقولون: إنَّ مدى ومساحة عالَم النجوم بما فيه أرضنا التي هي كذرَّة منه يطوف حوله الضوء لمدة مئة مليون سنة ضوئية.. وسرعة الضوء في الثانية ثلاث مئة ألف كيلو متر.. والدوران حول الأرض مسافته ستة وثلاثون ألف كيلو متر.
فإذا أردنا أن نقيس الكرة الأرضية مِن خطِّ الاستواء كم تكون المسافة؟ ستة وثلاثون ألف كيلو متر، والضوء يقطع هذه المسافة بسُبْع ثانية.. الدقيقة ستون ثانية، والساعة ستون دقيقة، والثانية التي هي هذا الجزء الصغير جدًّا إذا قسَّمتها سبعة أجزاء، فالضوء يدور حول الأرض بسُبع ثانية، [وبكلمات أخرى فإن الضوء يدور حول الأرض سبع مرات في الثانية].. وكذلك الأمواج اللاسلكية لها سرعة الضوء.
قالوا: لو أنَّ الضوء طاف حول الكون ليُتمَّ دورةً واحدةً فإنَّه يحتاج إلى مئة مليون سنة ضوئية، وهذه هي مساحة الكون، [كان هذا فيما مضى من عشرات السنوات، ولكن لا ننسى أن علماء الفلك يكتشفون دائماً المزيد في الكون، مما يجعل تلك الأرقام القديمة التي قدروها باطلة وصغيرة جداً.. ومن ذلك أنهم اكتشفوا في التسعينات من القرن العشرين مجرتين تبعدان عن مجرتنا سبعة عشر مليار سنة ضوئية لا مليون، وهذه المعلومة يذكرها سماحة الشيخ فيما بعد].. إذًا فعالَم النجوم وعالَم الفضاء هل هو عظيمٌ وجديرٌ أن يُحلَف به ويكون يمينًا لله عزَّ وجلَّ؟ والله تعالى أعظم، لكنه حَلَف به ليعرِّفنا على عَظَمته، ولندرسه وننتفع بعلوم الفلك، ثم لا نجعل عِلم الفلك مقصودًا لذاته، بل لنتوصَّل به إلى معرفة مصمِّمه ومخترِعه ومبدِعه.
هذا هو القرآن الذي يجب أنْ نقرأه، ولأجل هذا الهدف، نقرأه للعلم لا للمدود المتَّصل والمنفصل فقط، ولا للقراءات السبع أو العشر أو الأربع عشرة، ولا لاختلاف المفسِّرِين فقط، “قال فلان، وقال فلان”، هذا كلُّه شيءٌ حسنٌ، ولكنَّ الزبدة والهدف الأصيل أنْ نتعرَّف على الكون مِن مجرَّاته إلى ذرَّاته، ولننتفع بما أوجده الله عزَّ وجلَّ بين أيدينا بما يحقِّق سعادتنا وحياتنا الرغيدة الهنيئة الفاضلة.
عظمة الله عزَّ وجلَّ في القمر:
﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ [النجم:1] الأرض تسير حول الشمس في الساعة بسرعة مئة وثمانية آلاف كيلو متر، والأرض تعطي ضوءًا للقمر ستة أضعاف ما يُعطي القمر للأرض، والقمر مثل الأرض، وبانعكاس ضوء الأرض إلى القمر يُضيء ثم يُعطي، فلا يكون عاقًّا.. فالأرض تعطيه مِن الأنوار، ثم يردّ لها واحدًا مِن ستة مما أعطته، [وهذا جيد] وهذا بِرّ، ومع أنه حجرٌ لكنه يعرف أنْ يردَّ الإحسان بمثله.. لا يرده أزيد، بل أنقص، لكن على كلِّ حالٍ: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء: 86] أما أن ترد التحية بأنقص منها فلا.. أليس هذا إسلامًا يا بني؟
وأنت أين إسلامك بهذه الآية؟ أو أين إسلام هذه الآية فيك؟ هل الإسلام بالتمنِّي؟ وهل تصير رئيسًا أو وزيرًا أو رئيس وزارة أو غنيًّا بالتمنِّي؟ هل تصير من العاملين المجدِّين بالكسل وبالتحشِيش؟
عندما يعجز هذا الإنسان عن التمنَّي يلجأ إلى التأذِّي، ويلجأ إلى الحسد وإلى الحقد، فإذا حسدتَ رئيس الوزارة هل تصير رئيس وزارة؟ وإذا حسدتَ رئيس الجمهورية وحقدتَ عليه لأنه رئيس جمهورية هل تصير رئيس جمهورية؟ فالحسود قليل العقل، والحقود سخيف، والإنسان السعيد الفاضل هو الذي يستعمل عقله بكلِّ طاقاته، ويقيِّد عقله بعقلانية القرآن أو بحكمته علمًا ومعلِّمًا.
إن الإنسان لا يصبح عالِم هندسة بلا أساتذتها، ولا عالِم طب بلا أساتذة الطب، ولا عالِم تجارة إلا مع معلِّمِي التجارة، وكذلك الإسلام، فمَن أستاذك؟ مَن الذي بنى عقلك الإسلامي؟ ومَن الذي بنى نفسيتك الإسلامية، وأخلاقك الإسلامية، وهمَّتك الإسلامية، وعزيمتك الإسلامية، وآمالك الإسلامية؟
لقد أقسمَ الله تعالى بالنجم، معنى ذلك أنِ ادرس عالَم النجوم وعظمتها.. وكلَّما عرفتَ عظمتها تعرف عظمة خالقها، وكلَّما عرفتَ عظمة قوانينها ومدارتها وسيرها.. إلخ، تزداد عظمة الله عزَّ وجلَّ في قلبك، فيعظم أمر الله تعالى وأوامره وشريعته في نفسك، فتتخلَّق بالأخلاق الفاضلة وتتَّبع أوامره، فتكون مِن سعداء الدنيا ومِن سعداء الآخرة، كما كان المسلمون الأُوَل، فعلى بداوتهم وعلى جاهليتهم وعلى أمِّيَّتهم صاروا أعظم دُول العالم، وأعظم أمم العالَم حضارةً وعِلمًا وتقدُّمًا وثروةً.. إلخ، ونحن الآن صِرنا في أُخريات أُخريات أُخريات أمم العالَم، وفوق ذلك نشوِّه الإسلام، ونسمِّي أنفسنا مسلمين.
فَهْم القرآن مِن خلال فَهْمنا لحقيقة النجوم:
﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ [النجم:1] في جريه وفي سرعته.. كم تدور الأرض حول الشمس في الساعة؟ وهي تسير في الفضاء، أليست مثل الطائرة؟ فهل يخرج لها صوت؟ وطائراتنا تسير ألف كيلو متر فتملأ الدنيا ضجيجًا، أليس كذلك؟ كما يقولون: إنّ الدجاجة عندما تبيض البيضة تملأ “الحَارَة” [الحَيّ السكني] ضجيجاً، أما الفرس الأصيلة فتلد مهرة كان سعرها سابقاً مئة ليرة ذهبية، ولا أحد يسمع بها.
وطائرتنا التي اسمها الأرض كم راكبًا تحمل؟ خمس مليارات، وبأيِّ وقود تطير في هذا الفضاء؟ الطائرة التي تحمل أربع مئة راكب لها عشرون ملَّاحًا، وطائرة الأرض التي فيها خمس مليارات أو ست مليارات إنسان مع بغالهم وحميرهم وجرذانهم ومتاعهم وفرشهم “وطَنَابِرِهم” وسياراتهم.. إلخ، كم ملَّاحًا تحتاج؟ [طَنابِر: جمع طُنْبُر وهو العربة التي يجرها حيوان]، ثم إنَّ الطائرات كثيرًا ما تصطدم ببعضها، وكثيرًا ما يحصل الخلل في أثناء سيرها فتهوي، وندفع أجورًا للموظَّفين وثمن الوقود للمحرِّكات، فكم تدفع لِمَن يقود هذه الأرض؟ وكم ثمن وقود سيرها؟ كيف يصنع لك الخريف والربيع والصيف والشتاء والليل والنهار والرياح والأمطار والسحاب؟ وهذا كلُّه ذَكَره القرآن، لكننا لا نقرأ القرآن للعلم، بل نقرؤه للجهل ونقرؤه للبُعد عن أهدافه، وذلك لفقدان المعلم الذي يعلِّمنا كيف نركب السيارة، فإذا فقدتَ ذلك المعلِّم فإنك ستركب على ظهر المحرك لتقودها بالسوط والمسَلَّة، [كما تقود الحمير]، ومعك العصا الغليظة فإن لم تَسِرْ تضرب على ظهر المحرك، ثم على واجهة السيارة الزجاجية، ثم على الرَّفْرَاف، ثم على المحرك، ثم على البطارية، وهي لا تسير، ثم يسب ويشتم الذي اخترعها.
هكذا حال المسلمين الآن مع القرآن والإسلام لجهلهم به، ولسوء استعمالهم له، فإنهم يُتْلِفون أنفسهم بالصحراء وينقطعون ويموتون عطشًا وجوعًا، وعطَّلوا السيارة، فلم يستفيدوا منها، ولم يستفيدوا مِن إسلامهم لجهلهم به، وسوء استعمالهم له.
﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ [النجم:1-2] فهو لا يمشي في طريق الضلال، ﴿وَمَا غَوَى﴾: وليس هو غاويًا يريد أنْ يُغويَكم ويُضِلَّكم عن الحقيقة وعن السعادة وعن النجاح وعن الوحدة وعن العلم وعن التوفيق، فلا هو ضالٌّ بنفسه، ولا يريد أنْ يُضلِّكم، إذ يوجد إنسانٌ ضالٌّ، ويوجد مضِلٌّ، ويوجد ضالٌّ ومضِلٌّ بآنٍ واحدٍ، ويوجد مهتدٍ، ويوجد هادٍ، ويوجد هادٍ ومهتدٍ، ويوجد ذاكر ومذكِّر وعالِم ومعلِّم ومُزَكًّى ومُزَكٍّ.
ضرورة العلم والخُلُق:
وإذا لم يكن مزَكًّى ولا مزكِّيًّا، ولا عالِمًا ولا متعلِّمًا فإن النبي ﷺ يقول: ((كُنْ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا)) ، فإذا كنتَ عالِمًا فعلِّم الناس وأنقذهم مِن الظلمات إلى النور، مِن ظلمات الجهل إلى العلم، مِن ظلمات الفقر إلى الغنى، مِن ظلمات اللاعقل إلى العقل المبدِع.. والإسلام هو علم وعقل واقتصاد وإنتاج وصحة ووحدة، ويقود العالم وشعوبه إلى هذه المعاني.. وباجتماع هذه المعاني كلّها يكون مقدار النقص منها هو النقص في إسلامك، يقول بعضهم
[يجدر التنويه أن سماحة الشيخ يستشهد ببيتين من الشعر، ويُكَرِّرهما أكثر من مرة، ويذكرهما بطريقتين مختلفتين، فيذكر الشطر الثاني من كل بيت مع الشطر الأول من كل بيت، وربما كان سبق لسان، أو لم تسعفه الذاكرة، وقد اخترت منهما الرواية التي تبدو منطقية أكثر، وأثبتها في مكانها، وذلك بعداً عن التشويش على القارئ الكريم]
إذا كُنتَ ذا مالٍ ولم تَكُ عالِمًا فَأَنتَ كَذِي نَعلٍ وَلَيسَ لَها رِجلُ
هناك كثيرٌ مِن الناس ليس همُّهم إلا المال، ولكن هل تعلَّم الإسلام؟ هل ذهب إلى مدرسة الإسلام؟ هل له أستاذٌ يعلِّمه الإسلام؟ همُّه فقط الجمع والإحصاء، ثم لا يستفيد مِن كلِّ هذا الأمر إلا قطعة قطنٍ نصفها في فمه ونصفها في مخرجه، وقطعة قماش يُلَفُّ بها ثم يذهبون به إلى القبر، هذا نِتاج كلِّ ما جَمع مِن شهادات وأموال وعقارات وإلخ.
إذا كُنتَ ذا مالٍ ولم تَكُ عالِمًا فَأَنتَ كَذِي نَعلٍ وَلَيسَ لَها رِجلُ
هو يملك المال، ولكنه خالٍ من الدِّين.
طرفة: جحا وأمانة القط:
قيل: إنَّ جحا كان تركيًّا، وقد دعا الناس في يومٍ مِن الأيام إلى وليمة عنده ليُطعمهم “الكُبَّة” [الكُبَّة: طعام شعبي له شهرة واسعة في تركيا وبلاد الشام، يتكوَّن مِن البرغل المطحون واللحم والجوز]، فأتى باللحم ولكنه نسي الجوز، فذهب ليأتي بالجوز، وكان عنده قط اسمه أصلان، فأكل القط اللحم، ثم وجد سجادة صلاة، وقعد واستقبل القِبلة وعمل مراقبةً وأغمض عينيه وصار يخرخر كأنه يقرأ وِرده، فجاء جحا وقد أتى بالجوز، فرأى ورقة اللحم ممزَّقة ولم يجد اللحم، فنظر إلى القط مستقبِلًا القِبلة على سجادة الصلاة يقرأ ورده، فأمسكه وإذا به ممتلئٌ بطنه، فقال له: “قراءة تشوك، [çok باللغة التركية يعني كثير] ذِمَّة يوك” [yok باللغة التركية يعني لا يوجد]، تقرأ كثيرًا، ولكن لا ذِمَّةَ ولا أمانةَ عندك.
وكذلك إذا كان هناك مالٌ ولم يكن هناك عِلم بإسلامك حتى تصير تقيًّا نقيًّا ذا أخلاق وذا استقامة وموضع ثقة الله عزَّ وجلَّ وثقة رسول الله ﷺ وثقة الناس، وثقتك بنفسك، قال
إذا كُنتَ ذا مالٍ ولم تَكُ عالِمًا فَأَنتَ كَذِي نَعلٍ وَلَيسَ لَها رِجلُ
هل تخرجون من الجامع حفاة؟ خاصة إذا كانت الأرض طيناً والمطر ينزل، أتفعلون ذلك؟ وهذا الأمر لا يضرُّك، [وإن كان الناس يتكلمون] فكلامهم لا يؤثِّر عليك، فإذا قالوا عنك: فقير، وأنتَ غنيٌّ هل يؤِّثر عليك قولهم؟ وحتى لو كانت رِجلاك ملوثتين بالطين يمكن غسلهم بالماء، وانتهى الموضوع.
مفهوم الغنى والفقر في الإسلام:
وإن كُنتَ ذا عِلمٍ ولَم تَكُ مُوسِرًا فَأنتَ كَذِي رِجْلٍ وَلَيسَ لَها نَعْلُ
“وإن كنتَ ذا علمٍ”: أيضًا العلم وحده لا يكفي، “ولم تك موسرًا”: إنّ الإسلام هو ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة:201]، ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص:77]، ولكن المشايخ قبل عدة قرون من الآن دَعَوا إلى الفقر، حتى صارت كلمة الفقر كلمة مباهاة واعتزاز، وهذا خطأ، لأن النبي ﷺ قال: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ)) ، و((الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى)) ، العليا المعطية، والسفلى هي الآخذة، وقال تعالى عن أعداء الله عزَّ وجلَّ: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾ [آل عمران:112] “الذِّلَّة”: تسلُّط العدو، و”المسكنة”: الفقر والحاجة، وهذه علامة غضب الله عزَّ وجلَّ.
جاء الإسلام وقال للنبي ﷺ: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى:8] وقال النبي ﷺ للعرب: ((أَلَم أَجِدْكُم عَالَةً فَأَغنَاكُمُ اللهُ بِي؟)) الفقر يأتي مِن الجهل ومِن الكسل، ويأتي مِن تضييع الأوقات ومِن تضييع الفُرص ومِن تضييع الشباب، ويفكر كيف يصير ذا مال، فمِن قلِّة عقله يشتغل بالحسد، ويعتقد أنه إذا حسد الغني تنتقل له ثروته، بل إنه يزيد على الفقر بأنْ يصير ممقوتًا مكروهًا محتقَرًا، فهو دائمًا يعيش في عذاب الحسد وفي عذاب الحقد.
فهل نفطن؟ وهل نقرأ ونفقه الإسلام مِن نافذة القرآن وسنة النبي ﷺ في هذا الموضوع؟ هل علَّمكم المشايخ هذا الأمر؟ مع احترامي لهم جميعًا، فيوجد منهم حكماء وعلماء، ولكنهم قِلِّة.
إذا كُنتَ ذا مالٍ ولم تَكُ عالِمًا فَأَنتَ كَذِي نَعلٍ وَلَيسَ لَها رِجلُ
لديك مالٌ، ولكن ليس عندك ثقافة إسلامية، وليس عندك المعلِّم الإسلامي الذي يعلِّمك الإسلام، “فأنت كذي نعل وليس لها رجل”: رجلاه الاثنتان مقطوعتان، وهو يريد الذهاب إلى سوق الحميدية ليشتري حذاءً، [سوق الحميدية: من أشهر أسواق مدينة دمشق] فيدخل إلى بائع الأحذية، ويقول له: هل عندك حذاء على مقاس رجلَي؟ يقول له البائع: أنتَ لا تملك رجلين أيها المسكين.. هذا مالٌ بلا علمٍ، وهناك علمٌ بلا مالٍ، والأسوء مِن هذا قال
وإنْ كُنتَ ذا فَقرٍ وَلَم تَكُ صالِحًا ………………………………..
“وإن كنت ذا فقرٍ”: ليس لك حظٌّ مِن الدنيا بكسلك وبتضييعك للفرص، فالله تعالى ما فرض علينا الفقر فرضًا، بل أنتَ فرضتَ الفقر على نفسك بالكسل وباللهو وبالبطالة وبتضييع الفرص وبالجهل وبصحبة الجهلاء وبصحبة الكُسالى وبصحبة أهل اللهو.. والعمر يمضي يومًا بعد يوم، ثم يصير عدم العمل طبيعةً فيك.. رحم الله عبد الرحمن الطباع، [عبد الرحمن الطباع (1908-1981م) كان مدير أوقاف دمشق في خمسينيات القرن العشرين، ووزير أوقاف سوريا سنة 1963م] إنه لَمَّا ترك الوزارة زرتُه فقال لي: أنا لا يُهمُّني، حتى ولو عملتُ سائقًا! والله لَمَّا سمعتُ منه هذه الكلمة قلتُ: إنه رجلٌ عظيم! وهل عمل السائق عيب أو حرام؟ الحرام أنْ تفعل الحرام، أمَّا أن تعمل المباح بالشرع فليس حرامًا، فالمحرَّمات واضحة، والمباحات واضحة، والعمل الشريف من غير عدوان، ومن غير غشّ، ومن غير ضرر كله مباح، وسيدنا عمر رضي الله عنه كان دلَّالًا، فهل يضرُّه ذلك؟ لا يضرُّه، قال
وإنْ كنتَ ذا فَقرٍ ولم تَكُ صالِحًا
“ولم تكن صالحًا”: ليس فيك دِين ولا تقوى، فقر مِن الدِّين وفقر مِن الدنيا.. هل أقول لكم تتمَّة البيت أم إنه شيء معيب؟
وإنْ كنتَ ذا فَقرٍ ولم تَكُ صالِحًا فَأَنتَ كَجِرْذَونٍ ولَيسَ لَه ذَيلُ
“فأَنتَ كَجرِذَونٍ ولَيسَ لَه ذَيلُ”: جرذ مقطوع ذيله، فهو ليس جرذًا كاملًا، هذا -كما يقولون- مثل فقراء اليهود، بلا دِين ولا دنيا، فإذا فاتتك الدنيا فلا يفوتك الدِّين، لكن إذا فاتك الدِّين واللهِ لو تملك الدنيا مِن مشرقها إلى مغربها فأنتَ خاسرٌ، وإذا ملكتَ الدِّين حقيقةً فإن الدِّين سيُغنيك: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق:2-3].
سيدنا عليٌّ رضي الله عنه عمل أجيرًا عند يهودي يُخرِج له الماء مِن البئر، كل دلوٍ بتمرة، هل كان هذا عارًا عليه؟ وهل أنقص مِن قدره وهو ابن عم رسول الله ﷺ وزوج ابنته؟
“وإنْ كنت ذا فقرٍ ولم تكُ صالحًا”: قيل: “أقرع وذقنه طويلة، شيء يغطي شيئًا” [مَثَلٌ شعبي يقال للذي لا يملك شيئًا، ولكن يملك شيئًا آخر يعوضه، وكلمة “ذَقْنه” أي لحيته، حيث هي الكلمة العامية لِلِّحْية في سوريا]، ولكن إذا كان أقرعاً ولحيته خالية فهذه مصيبة.
النبي ﷺ هادٍ ومهديٌّ:
﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ﴾ هو ليس ضالًّا، وليس جاهلًا، وليس تائهًا في الصحراء لا يدري أين طريق السعادة، ﴿وَمَا غَوَى﴾ [النجم:1-2] وهو لا يُريد أنْ يغويكم وينقلكم مِن الرشاد إلى الضلال، ومِن الخير إلى الشَّرِّ، ومِن العلم إلى الجهل، لا؛ بل كان هاديًا مهديًّا، راشدًا مرشِدًا، سعيدًا ويُريد إسعادكم.
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ [النجم:3] عندما يدعوكم ويناديكم، ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾ [آل عمران:193]، ليس له غرضٌ لنفسه مِن جاهٍ أو مالٍ أو حُكم أو ملك أو سلطان.. ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107] ليس للعرب فقط، فما كان النبي ﷺ قوميًّا، بل كان لكلِّ العالَم ولكلِّ شعوبهم، ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ [الأنعام:90] والذين اتَّبعوه ومشوا بهديه ماذا كانت عاقبتهم؟ وماذا كانت عاقبة الذين تمرَّدوا وعاندوا وأعرضوا؟ ماذا كانت عاقبة أبي جهل ومصيره؟ لقد أحضروا رأسه مثل “راس الكرْنْب” [الكرْنْب: من الخضروات، وهو الملفوف باللهجة الدمشقية، و”راس الكرنب”: رأس الكرنب هو القطعة الواحدة من الملفوف، وتسمى هكذا باللهجة الدمشقية أيضاً لأن حجمها يماثل حجم الرأس] وألقوه عند قدمَي النبي ﷺ، ولَمَّا رآه سجد ﷺ وقال: ((الحَمدُ للهِ الذي قَتَلَ فِرعَونَ هَذهِ الأُمَّةِ)) ، وأبو لهب عم النبي ﷺ قال الله عزَّ وجلَّ عنه: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد:1] وسلمان الفارسي رضي الله عنه قال عنه النبي ﷺ: ((سَلمَانُ مِنَّا أَهلَ البَيتِ)) ، وما مضى بعد وفاته ﷺ عشرون سنة حتى بلغ العرب بدولتهم حدود الصين وحدود أوروبا: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر:3] ليلة القدر هي ليلة نزول القرآن، هذه الليلة التي ينزل بها القرآن على قلوب الأمة فيكون القرآن مقروءًا في أعمالها وأخلاقها وعقلها ومجتمعها وسلوكها، ليلتهم هذه ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر:3] ولكن عندما نُعرض عن القرآن فألف شهرٍ لا تساوي دقيقةً مِن دقائق العاملين بالقرآنِ ومسلمِيْ القولِ والعمل والعقل والفهم والحكمة.
الوحي جبريل عليه السلام:
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ [النجم:3] بل ينطق عن الله عزَّ وجلَّ، ينطق عن أهداف إلهية سماوية لإسعاد أمته وإسعاد العالَم بأسره والشعوب بأجمعها.
﴿إِنْ هُوَ﴾ “إن” بمعنى “ما”، يعني “ما هو” ﴿إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم:4] الوحي هو ما يُلقى في قلبك وشعورك مِن غير أنْ يسمعه أحدٌ غيرك، فكان يوحى إلى النبي ﷺ بأشكالٍ مختلفة، فتارةً يرى جبريل عليه السَّلام يُخاطبه كما يخاطب الإنسانُ الإنسانَ، وله أنواع منوَّعة وكلُّها تُسمى بالوحي.
﴿عَلَّمَهُ﴾ بأيِّ مدرسة تعلَّم النبي ﷺ؟ ومَن أستاذه؟ قال: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ وهو جبريل عليه السَّلام، لأن العلوم كانت تُنقل إليه عن الله عزَّ وجلَّ بواسطة جبريل عليه السَّلام، ثم كانت تُلقى إليه العلوم إلقاءً من طرف الله عز وجل شعورًا أبلغ مِن شعور أنْ تَسمع الصوت بأذنك من مخاطبك المتكلِّم إليك، وهذه لا تكون إلا لقلب تجرَّد عما سوى الله عزَّ وجلَّ، وأقبل بكلِّيَّته على الله تعالى طاهرًا مِن كل النقائص والرذائل والتعلُّق بغير الله تعالى، وتَوَجَّه بكُلِّيَّته إلى الله عزَّ وجلَّ، فإذا توجَّهتَ إلى الشمس، ولا يوجد بينك وبينها جدار ولا سحاب، فتتوجَّه بكلّ نورها إليك.
﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ [النجم:5] ومِن قوة سيدنا جبريل عليه السَّلام أنه قَلَب قُرى قوم لوط عليه السَّلام، فجعل عاليها سافلها، وصاح بثمود قوم صالح عليه السَّلام صيحةً واحدةً فصاروا ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ [الحاقة:7] فهلكو بلحظةٍ واحداةٍ، ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾ [يس:29].
﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ﴾ [النجم:5-6] يعني ذو علمٍ وحكمةٍ وثقافةٍ إلهيةٍ سماويةٍ، فهو شَدِيْدُ قُوَّةِ العلمِ والعمل والتطبيق والفهم والرأي، وإذا كان هذا كلُّه مِن رشحات خالق عالَم النجوم والفضاء فأي تشريع يكون تشريعه؟ وأي قانون يكون قانونه؟ وما هذا القانون الذي اسمه الإسلام؟ وقد جُرِّب على مستوى الشخص الفرد، وعلى مستوى الأسرة، وعلى مستوى الحي، وعلى مستوى المدينة، وعلى مستوى الدولة، وعلى مستوى العالَم، فأوجد الإنسان الفاضل والأسرة الفاضلة والمدينة الفاضلة والعالَم الفاضل، ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5]، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد:11]، ﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾ [الإسراء:8].
طرفة: كيف صار جحا صِهْر الملك بالتمني:
فعلينا أن نتوب إلى الله عزَّ وجلَّ توبةً نصوحًا عن هذا الإسلام المزيَّف الذي نحن واهمِين فيه أننا مسلمون، وأول شيء يجب علينا أنْ نُدركه: هل نحن مسلمون؟ لا، نحن متمنُّون، مثل تمني جحا وهو شحاذ [متسوِّل]، وقد صار بتمنيه صهر الملك، ويُريد أن يربِّي ابنه بساعة من الزمن، فحوَّل نفسه مِن شحاذ إلى صهر الملِك إلى أنْ مَلَك نصف البلاد وهو ما يزال في مكانه! [بقية طرفة جحا أنه حصل على جرة عسل فعلَّقها فوق رأسه وجلس يفكر ويتخيل أنه باع العسل واشترى بها غنمة، واعتنى بها، فولدت له، وهكذا حتى صار عنده قطيع، وأصبح تاجرًا كبيرًا، ثم تزوج بنت الملك وصار عنده ابن، وأراد أن يُعَلِّمه، ولكنه رفض أن يذهب إلى المدرسة، فقال: إن رفض سأضربه بهذه العصا.. ورفع العصا فأصابت جرة العسل فانكسرت، وسال العسل على الأرض].
إذا تَمَنَّيتُ بِتُّ اللَّيلَ مُغتَبِطًا إنَّ الْمُنَى رَأسُ أموالِ المفالِيسِ
يأخذ “شَحْطَةَ بُوْرِيَّة” من الأماني ويسبح بخاليه، [شَحْطَة بُوْرِيَّة: كلمة عامية تعني سحب النَّفَس من سيجارة الحشيش والمخدرات، وهنا يُشَبِّه سماحة الشيخ الأماني بالحشيش والمخدرات]، فيرى نفسه في عالَم آخر.. فجحا غَرِق في السمن والعسل، وهناك أناس تغرق بأشياء أخرى.. نسأل الله تعالى أن يحمينا ويُصَحِّيْنا مِن مخدرِّات الجهل ومخدرِّات الجاهلية.
رؤية النبي ﷺ للمَلَك:
﴿ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى﴾ [النجم:6-7] ظهر جبريل عليه السَّلام للنبي ﷺ، وقد طلب منه أن يراه بصورته الحقيقية، لأن الملَك له قوة التَّصوُّر بأيِّ صورة يشاء، أحياناً كان يظهر للنبي ﷺ بصورة دِحْيَة الكَلْبِي رضي الله عنه .
ومرةً كان يظهر له بصورة أعرابيٍّ يسأله، كما قال بعض الصحابة: “دخل علينا رجلٌ شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، ليس عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أَحدٌ”، وسأل النبي ﷺ عن الإسلام والإيمان والإحسان والقيامة، ثم انصرف فقال النبي ﷺ: ((ذَلِكَ جِبرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ)) .
أمَّا هذه الرؤية التي نقرأها في سورة النجم فهي صورة جبريل عليه السَّلام في حقيقته الأصلية، لا في تنقُّله إلى الصور المتعددة، فرآه النبي ﷺ بالأفق الأعلى مِن جهة مشرق الشمس، وقد ملأ السماء والفضاء، قال: ﴿ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى﴾ [النجم:6-7] أُفق السماء مِن جهة الشرق.
﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى﴾ [النجم:8] اقترب مِن النبي ﷺ، وصار يصغر حتى صار كإنسان، ﴿فَتَدَلَّى﴾ نزل مِن الأعلى إلى الأرض مع القرب، ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ [النجم:9] القاب هو المقدار، أي حتى صار مقدار قُرب القوسين، فقد كانت العرب إذا أرادوا أنْ يتحالفوا ويكونوا يدًا واحدة على أعدائهم يأتون بقوسين، ويضعونهما معاً [ملاصقين لبعضهما] تعبيرًا عن أنهم مِثل القوسين مع بعضهما، فكان قُرب جبريل عليه السَّلام مِن النبي ﷺ بمقدار قُرب القوسين بعضهما من بعض، ﴿أَوْ أَدْنَى﴾ [النجم:9]، أي إنَّ الأمر ليس مِن الهوى أو مِن نفسه، أو هو مَن جاء بالقرآن أو الدِّين مِن نفسه، بل إنّ الأمر مِن خالق عالَم النجوم، مِن طريق ﴿شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ﴾ [النجم:5-6] بقوته الحقيقية، واقترب مِن النبي ﷺ اقتراب القوس مِن القوس، أو أدنى.
تبليغ جبريل بهدي الله ما يُصَدِّقُه الفؤاد فلا ينساه:
﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ﴾ إلى عبد الله تعالى ﴿مَا أَوْحَى﴾ [النجم:10] أول ما أوحى إلى رسول الله ﷺ سورة ﴿اقرأ﴾ [العلق:1]، ثم سورة نون ثم إلى آخر القرآن.. ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ [النجم:11] قد ترى عينك شيئًا، ولكن فؤادك وعقلك يكذِّب عينك، لكن الذي رآه النبي ﷺ بعينه لم يكذِّبه العقل، ولم يكذِّبه الفؤاد.
إذا كنتَ تنزل بالمصعد فإنك ترى الجدار يصعد، فعينك ترى هكذا، لكن هل يصدِّق فؤادك وعقلك؟ لذلك قد تَكْذِب العين، أمَّا العقل السليم فلا يكذب، إلا العقل المريض، فقد يكذب أيضًا على صاحبه، لكن فؤاد النبي ﷺ كاملٌ ومُكَمَّلٌ ومُكَمِّلٌ.. ما كذب الفؤاد ما رأه بعينه.
صبر الأنبياء على التكذيب:
﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى﴾ [النجم:12] لَمَّا أصبح في ليلة الإسراء والمعراج يحدِّثهم بما رآه صاروا يجادلونه ويكذِّبونه ولا يصدِّقونه، فالداعي إلى الله عزَّ وجلَّ في معاركَ طوال حياته، قال
أُرِيدُ حَياتَهُ وَيُرِيدُ قَتلِي فَأترُكُ مَا أُرُيدُ لِمَا يُرِيدُ
فالنبي ﷺ يريد أنْ يجعلهم أسعد الناس وهم يريدون أن يقتلوه، يريد أن يجعلهم أعلمَ الناس وأغنى الناس وأعزَّ الناس، لكنه ﷺ صبر، وأعانه الله عزَّ وجلَّ فسعِد وأسعد، تعب بجسمه وتعب بوجوده، وفي سكرات موته ﷺ قالت السيدة فاطمة رضي الله عنها: “واكرب أبتاه”، قال: ((لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ)) ، فعالَمُ الحياة كلُّه كروبٌ وكلُّه مزعِجاتٌ وكلُّه أتعابٌ وكلُّه إرهاقٌ، ((لَا رَاحَةَ لِمُؤْمِنِ دُونَ لِقَاءِ وَجهِ رَبِّهِ)) ، والراحة هناك، أما الدنيا فهي: ((الدُّنيَا سِجنُ المؤمِنِ، وَجَنَّةُ الكَافِرِ)) .
بين الحرية والفوضى:
المؤمن لا يستطيع أنْ يفعل ما تشتهيه نفسه، وهو دائماً يَسجنها ويَضبطها، ومَن لا يستطيع أن يضبط سيارته عند السرعة يَهلِك ويُهلِك، قد يقول قائل: هذا زمان الحرية، وأنا أريد أن أعطي سيارتي حريتها، وهذا “الفرام” [المكبح] قَيدٌ وذلٌّ وسلبٌ للإرادة.. لكن الحرية بلا ضوابط مُهلِكةٌ، فإذا وضعت ابنك الصغير على السطح، ولا يوجد للسطح جدار ولا تمسك به باسم الحرية، فالحرية إلى أين ستوصله؟ إلى الهلاك، وإذا أردتَ أنْ تأكل مِن غير ضابط، فتظل تأكل بعدما شبعتَ ومن غير ضابط، فالشبع مَكْبَح يوقفك عن الأكل، ولكنك لم تهتم لهذه المكابح وبقيت تأكل حتى خرج الأكل مِن فمك، وماذا ستكون النتيجة؟ الموت.
في أوروبا ألا يقولون بالحرية؟ وهذه الحرية إلى أين أوصلتهم؟ هذه الحرية بمعنى الفوضى، والحرية بلا ضوابط فوضى، والحرية بالضوابط هي الحرية المنظَّمة الْمُسعِدة، فحريتهم فوضى أوصلتهم إلى الإيدز، ذلك المرض الذي يجعل الإنسان يُبتلى بكلِّ الأمراض وبكل الجراثيم التي تدخل مِن أنفه ومِن فمه ومِن طعامه ومِن شرابه ومِن هوائه، ويستمرُّ في النحول والأوجاع، وتصيبه كل الأمراض حتى يموت أفظع ميتة.. ابتُلوا بالمخدرات وابتُلوا بالمسكرات، ففي نيويورك لا يستطيع الشخص أنْ يمشي بعد المغرب آمنًا مِن قطَّاعِي الطريق، وهذا في أعظم مدينة في العالَم، هل هذا تمدُّن؟ النبي ﷺ كان يقول لعديِّ بن حاتمٍ رضي الله عنه: ((إنْ طَالَتْ بِكَ حَياةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ)) يعني المرأة ((تُسافِرُ مِنَ الحِيرَةِ)) يعني مِن العراق ((إلى مَكَّةَ لا تَخافُ في طَرِيقِها إلَّا اللهَ وَالذِّئبَ)) .. الخوف مِن السم هو طريق الحياة، والذي لا يخاف مِن السم ويشربه هل هذه شجاعة أم غَباء؟ والذي يُناطح القطار، هل هذه شجاعة أم حَماقة؟
لقد ذهب خوف الله عزَّ وجلَّ، فصار أخطر شيء على الإنسان هو الإنسان، فالصواريخ الآن والقنابل النووية والبوارج الحربية والمدافع طويلة المدى والدبابات والمصفَّحات والطائرات القاذفات.. هذه الأسلحة خوفًا مِمَّن؟ هل هي خوفًا مِن السباع أو مِن الضباع أو مِن الأفاعي أو مِن العقارب؟ لا، بل خوفًا مِن الإنسان الوحش الذي كلُّ هذه الأسلحة لا تكفُّ شرَّه عن الإنسان، لذلك بعضهم يقول
كُلُّ السِّباعِ الضَّوارِي دُونَها وَزَرٌ وَالنَّاسُ شَرُّهُم مَا دُونَهُمْ وَزَرُ
“كل السباع الضواري”: الفاتكة بالإنسان القاتلة للإنسان، “دونها وزر”: يُمكن أنْ تجد ملجأً تتَّقي فيه شرَّها، أمَّا شرُّ بني آدم فصعبٌ، ولذلك فقد صنعوا القنابل النووية والهيدروجينية، والإنسان لا يرتدع.. إن الدبور إذا نزعتَ إبرته [التي يلدغ بها] ينتهي أمره وتُكفَى شرّه، أما الإنسان فإبرتُه لا تُنزَع.. وإبرته لا ينزعها ويَقلَعها إلا دِين الله الذي يأخذه مِن المعلم الحكيم المزكي الوراث النبوي، فلذلك يجب أنْ يوجد ملايين الدعاة إلى الله عزَّ وجلَّ بهذه المواصفات، وبكل اللغات، وعند ذلك يتحقَّق السلام العالَمي، ويصير الإنسان أخًا للإنسان وكالجسد الواحد.
كُلُّ السِّباعِ الضَّوارِي دُونَها وَزَرٌ وَالنَّاسُ شَرُّهُم مَا دُونَهُمْ وَزَرُ
كَمْ مَعشَرٍ سَلِموا لَم يُؤذِهِم سَبُعٌ وما تِرى بَشَراً لمْ يُؤْذِهِ بَشَر
“كَمْ مَعشَرٍ سَلِموا لَم يُؤذِهِم سَبُعٌ” [الشيخ يسأل الحضور:] من منكم عضه ذئب أو ضبع أو سَبع أو ثعبان فليرفع أصبعه؟ لا أحد، وليرفع أصبعه منكم مَن لم يتأذَّ مِن بني آدم؟ كل بلائنا مِن الإنسان الوحش، وحش الجهل ووحش الإيمان الذي ما تعلَّم وما تربَّى وما دخل الإيمان في قلبه، أمَّا أن تقول: أنا مسلم، فإنك تستطيع أيضًا أنْ تقول: أنا رئيس جمهورية، هل المسألة بالكلام؟ وتستطيع أن تقول: أنا وزير الدفاع، أنا “بُوْش” [رئيس أمريكا في ذلك الوقت]، هذا مجرَّد كلامٍ ومجرَّد تمنٍّ، ﴿أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى﴾ [النجم:24] المسألة ليست بالأماني، المسألة: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم:39] ليس سعى فقط ﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾ إنْ كان صحيحًا ﴿ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾ [النجم:40-41].
هل استراح النبي ﷺ لحظةً في حياته؟ لم يسترح لحظةً واحدةً مِن حياته، لكنه خُلِّد في الدنيا، وهل خُلِّد بتمثالٍ؟ بل خُلِّد في الأرض وفي السماء، وهو إلى الآن ومنذ خمسة عشر قرنًا لا يزال شرعه الذي أنزله الله عزَّ وجلَّ عليه ودعوته تسري مِن اليابان إلى الاتحاد السوفيتي وإلى أوربا وإلى أمريكا ولو كره الكارهون.
العناد والتكذيب رغم الحجج والأدلة:
﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى﴾ [النجم:12] لَمَّا حدَّثهم النبي ﷺ بما رآه ليلة الإسراء والمعراج، وحدَّثهم عن رؤيته للجنة والنار وللمنعَّمِين والمعذَّبِين، وأنه اجتمع مع إبراهيم وموسى وعيسى ويحيى ويوسف عليهم السَّلام، وصلَّى بالأنبياء إمامًا في المسجد الأقصى، إشارةً إلى تجميع الشرائع الإبراهيمية، وأن الأديان الثلاث يجب أنْ تكون موحَّدةً متَّحِدةً كما وحَّدها القرآن، فتجد في القرآن إنجيل عيسى عليه السَّلام، وروح توراة موسى عليه السَّلام.. إخوانًا على سُرر متقابِلِين متعانِقِين متصافِحِين متعاوِنِين.
﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى﴾ [النجم:12] لَمَّا حدَّثهم النبي ﷺ بحديث المعراج قالوا له: نحن لا نَصِلْ إلى القدس بعشرين ليلة، فكيف ذهبت وجئت بليلة وحدة؟ والإنسان دائمًا عدوُّ ما يجهل.. “وَالجاهِلُونَ لِأَهلِ العِلمِ أَعدَاءُ”.
النبي ﷺ عند رجوعه رأى قافلة قريش في طريقه فقال لهم: رأيتُ قافلتكم بالمكان الفلاني، وحسب الأصول ستصل صبيحة اليوم الفلاني، مِن أين يعرف هذا؟ لا يعرف إلَّا بالقوة الإلهية.. وعند شروق الشمس قال أحدهم: قد أشرقتِ الشمس ولم تأتِ.. فما استكمل كلمته إلَّا وظهرت القافلة.. ومع ذلك ﴿وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ [القمر:2].
غير الموفَّق لو مهما رأى فهو كالأعمى، وإذا أحضرت للأعمى كلَّ ملكات جمال العالَم هل يرى شيئًا؟ والأصمُّ لو أحضرت له كلَّ مطربات ومطرِبِي العالَم وأحضرت أم كلثوم وعبد الوهاب [مغنيان مصريان مشهوران] سيقول: هؤلاء “يمدُّون لسانهم لي”، [يستهزؤون بي ويشتمونني، لأن إخراج اللسان من الفم ومَدَّه وأنت تنظر إلى شخص ما أسلوب يعبِّر عن السَّبِّ والاحتقار]، فهو يشتمهم وهم يُريدون أن يطربوه، لكن هذا لا يلزمه طَرَب، بل يلزمه ضَرْب.
﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى﴾ [النجم:12] مع جَمال النبوة ووجه النبوة وحكمة النبوة وأخلاق النبوة [لكنهم لم يُصدِّقوا]، وقد بذل كلَّ طاقاته لإسعادهم، لكنهم بكلِّ طاقاتهم سعوا لإيذائه، وهذا شأن الحياة، فلا بدَّ للصادق الناصح أنْ يتحمَّل الضالَّ أو المتمرِّد في الضلال.
هناك ضالٌّ يهتدي، وضالٌّ لا يهتدي، والذي لا يهتدي قال الله تعالى عنه: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ مهما تكلَّمت معهم فهم مختوم على سمعهم ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ﴾ يرى الحقَّ [واضحاً ويرفضه] كما أنّ كل الناس يرون الشمس، لكن الأعمى يقول لك: لا يوجد شيء، ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ [البقرة:7]، ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة:6]، فمع فصاحة النبي ﷺ، ومع أخلاقيته ومع روحانيته ومع معجزاته ﷺ [لكنهم لم يستجيبوا]، ولكن كما يقال: “المَنْحُوْس مَنْحُوْس ولو وضعنا بين عينيه خمس مئة ألف فانوس”، فلا يوجد فائدة منه.
كان لابن قيم الجوزية امرأة شقيَّة.. وأشقى الحياة أنْ تكون الشقاوة داخل بيتك.. فكان ينصحها فلا تفهم، ويعظها فلا تتَّعظ، ويرسل إليها الأخوات فلا تفهم، ثم خطر بباله أنَّه ربما إذا جاءت إلى الدرس ورأت الناس تفهم مَن هو زوجها، وخطَّط مع بعض الأخوات ليذهبنَ بها ويأخذنها إلى الدرس في الجامع الأموي المليء بالعلماء والكبراء والوزراء، فلمَّا عرف أنَّ زوجته قد حضرت جاد في الدرس، ولَمَّا انتهى قال في نفسه: لقد نجحتْ خطَّتي.. ويبدو أنه وصل إلى البيت قَبل أن تصل، فرآها تخلع ملابس الطريق عند رجوعها، فقال لها: أين كنتِ؟ أراك تخلعين ثوب الطريق.. فهزَّت برأسها وقالت له: وامصيبتي! أندب حظي! فقال: خيراً إن شاء الله! قالت: لقد جاءت بضع نسوة لعبن بعقلي، وأخذنني إلى درسك، قال لها: كيف؟ قالت: ماذا أقول؟ كان هناك الوزراء والعلماء والعظماء وكبار البلد جمعيهم يجلسون في الجامع وكأن على رؤوسهم الطير، لا أحد يتكلم منهم، وأنتَ مِثل المجانين تصرخ، لماذا لا تضع عقلك برأسك؟ لماذا لا تجلس هادئًا كما يجلس الناس؟.. حقًّا كما قيل: “المنحوس منحوس”، لا فائدة منه.
لماذا أبو بكر رضي الله عنه استجاب مِن أول كلمة؟ وأبو لهب كان إذا دعا النبي ﷺ الناس يقول مِن خَلفه: “لا تصدِّقوه فإنه مجنونٌ يُهْذِي” .. لقد كان فيه عقل، ولكن هناك هوًى، وهناك عدم توفيق.. نسأل الله تعالى أن لا يُشقينا وأنْ يوفِّقنا.
رؤيته ﷺ للآيات العظيمة:
﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)﴾ رأى النبي ﷺ جبريل عليه السَّلام في صورته الأصلية مرة أُخرى ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾ [النجم:11-14] السدرة هي شجرة عن يمين العرش، يمشي الراكب في ظلِّها سبعين خريفًا ولا يقطعها.
شجر الجنة يمشي في ظلها سبعين سنة، هل هذا كثير؟ كان الناس قديماً لا يصدِّقون، فكيف لشجرة أن يمشي في ظلها سبعين سنة! لكن العلماء الآن [في الغرب] يقولون: إن مجرة بيننا وبينها سبعة عشر مليار سنة ضوئية، ولكن لأنَّه قاله “مِسْيُوْ فلان” وقال “مِسْتِرْ فلان” نقول صدقوا ونصدق كلامهم، أمَّا قال رسول الله ﷺ فلا نصدق.. نسأل الله العافية.
﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾ [النجم:13-14] أيضًا رآه بخَلْقه الأصلي يملأ الفضاء ويتساقط مِن جناحه الدُّرُّ والياقوت، والنور يشعُّ منه.. فعالَم الملائكة عالم عظيم.. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا مِن أهل رؤيتهم ومِن أهل محبَّتهم.
قال: الشجرة هي شجرة السِّدْر، والسدر معروفٌ لأهل الحجاز، فلقد خاطبهم الله عزَّ وجلَّ بحسب ما يفهمون، فما قال لهم: شجرة الحَبْلَاس، [الحَبْلَاس: هو الآس، ويسمى في بلاد الشام بالحبلاس أو حب الآس، وله تسميات أخرى في بلاد أخرى، ويوجد بكثرة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط] لأنهم لا يعرفون الحبلاس، أو شجرة البرتقال فهم لا يعرفونه، بل خاطبهم بما يعرفون وهو السِّدْرَة، وهكذا القرآن يُخاطب الإنسان بحسب ما يَعقل ويُدرك.
أمَّا أحوال الدار الآخرة: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة:17]، كما أن الله تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:11] كذلك أحوال الآخرة لا تُشابه أحوال الدنيا إلا بالأسماء.
﴿عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾ [النجم:15] التي تأوي إليها أرواح المتَّقِين.. ﴿إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى﴾ [النجم:16] ظهر عليها مِن الأنوار ومِن الجمال وفَراش مِن الذهب، وطيور مِن النور.. ﴿إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ﴾ ما عجز عن إدراك ما رأى ﴿وَمَا طَغَى﴾ [النجم:16-17] فتجاوزها إلى غيرها، ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ [النجم:18] الجنة والنار والملائكة وأرواح الأنبياء وأحوال عالَم السماء.
العروبة بلا إسلام عروبة اللات والعزَّى:
﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ [النجم:19] أين النبي ﷺ وأين هم؟ هو يريد أن يرفعهم، [لكنهم يأبون إلا أن يبقوا في الجاهلية مع أصنامهم].
“اللات” كانت صنمًا مِن حجر لشخص كان يُطعم الحجَّاج، فكرَّموه وصنعوا له صورةً مِن حجر، ثم عبدوه، وما سمَّوه “الله” إنما سمَّوه “اللات”، “والعُزَّى” كانت شجرةً بين مكة والطائف وكان يعبدونها.. هذه هي العروبة بين إلهٍ مِن حجر أو شجرة شوك!
﴿وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ [النجم:20] كانت صخرة يذبحون عندها القرابين للأصنام، وسمِّيت مناة لأن الدماء تُمنَى وتُراق عليها.. أنتم تمارون النبي ﷺ على ما يرى، وأنتم بأي شيء؟ هل باللات؟ ولَمَّا فتح النبي ﷺ مكة أرسل لتحطيم اللات وقَلْع شجرة العُزَّى وصخرة مناة، وكانوا قد وضعوا عليها بيتًا اعتنوا به مِثل الكعبة، فلمَّا أرادوا أن يهدموها قال لهم خادمها وكانوا يسمُّونه السادن: ستغضب عليكم الآلهة، فضربوها بالمحافير فقالوا له: لقد هدمناها ولم تغضب، قال: الآن سيغضب الأساس، قالوا له: إذًا سنقلعها مِن الأساس.
هكذا كانت العروبة بلا إسلام، ومتى عُزَّت العروبة؟ لقد عُزَّت عندما أتى الإسلام، وأيّ عزٍّ عُزَّت، ما عُزَّت أُمةٌ بدِينها كما عُزَّ العرب بإسلامهم، فإلى الآن تُعلَّم اللغة العربية مِن إندونيسيا إلى المغرب وإلى كلِّ قارَّات العالَم، فهل هذا بقوميتنا أم بقرآننا؟ هل هذا بإسلامنا أم بعروبتنا؟
فما أحلى أنْ تلتقي العروبة بالإسلام، ولكن بالإسلام الحقيقي، كما يقول رئيسنا: “الإسلام بحقيقته وجوهره”، وهذا لا يكون إلا إذا التقى جناحا الأمة: إسلامُها وسلطانُها، فإذا التقيا طار طائرها وصار فوق رؤوس الناس، وإذا أرادتْ أن ترقى بجناحٍ واحدٍ؛ بجناح السلطان بلا إيمان، أو إيمان بلا سلطان فسيسقط الطائر، وتأكله القطط والفئران: ((الإِسْلامُ وَالسُّلْطَانُ أَخَوَانِ تَوْأَمان لَا يَصْلُحُ أَحَدُهُما بِدُونِ الآخَرِ، فَالإِسْلامُ أُسُّ)) أي أساس ((وَالسُّلْطَانِ حَارِسٌ، فما لا أُسَّ لَهُ يَنهَدِمُ، ومَا لَا حَارِسَ لَهُ يَضِيعُ)) .
وما سبب بُعد كثير مِن حكَّام العالَم العربي والإسلامي عن الإسلام؟ سببه سوء عرض الإسلام مِمَّن ينتسبون إلى الدِّين والعلم، ليس كلُّهم، فأنا ما رأيتُ أحدًا في كلِّ حياتي في البلاد العربية أو في بلدنا أو في المشرق والمغرب يرفض الإسلام.. إنّ الإسلام يقول عن هذه الأوراق البيضاء: إنها أوراق بيضاء، فهل يستطيع الشيوعي أو الأمريكي أو الفرنسي أنْ يقول لك: هي سوداء؟ المجنون الذي في “البِيْمَارِسْتَان” [المصح العقلي] لا يستطيع أنْ يقول لك: إنها سوداء، بل يقول لك: هي بيضاء، ونحن باسم الدِّين نقول عن الأبيض أسوداً، وعن الأسود أبيضاً، ولذلك فإن الدِّين مرفوضٌ بهذا الشكل، والقرآن صار مَوَّالًا، [المَوَّال: لون من الأغاني، وهو أغنية فردية يغنيها مغنٍّ واحد لا مجموعة]، ولكن القرآن هو مدرسة السماء، مدرسة العزِّ والمجد، ويجب أنْ نقرأه كلمةً كلمةً للفهم والعلم والعمل، فيكون كلُّ واحدٍ منَّا مدرسةً للقرآن.
واللهِ إن الله عزَّ وجلَّ حينها يعزُّكُم ويُعِزُّ بكم، وتنجَحُون وتُنجِحُون، وبالحكمة والموعظة الحسنة، ويجب عليكم أن تكونوا أطبَّاء مع الناس، لا قضاةً، فتقولوا: هذا كافرٌ، وهذا تقطَعُ رقبته، وهذا مباح الدم.. وهذا لم يفعله النبي ﷺ، ولا بذلك القرآن أمر.
﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ [النجم:19] ما هي اللات؟ صنم كان يَعبده أهل الطائف، والعُزَّى كانت شجرة سدر بين مكة والطائف، فهناك فرق بين سدرة المنتهى وشجرة الحطب.. ومناة صخرة كانت تُذبَح عندها القرابين وتسيل الدماء كما يسيل المني، ﴿وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ [النجم:20].
مكانة المرأة في الإسلام:
ثم قال: مِن قلَّة عقولكم تكرهون البنات، ثم تقولون: إن الملائكة بنات الله! فبما أن البنات عندكم محتقرة ورخيصة الثمن، أفتأخذون الغالي وتتركوا لله عزَّ وجلَّ الرخيص؟ والقرآن يصف سخافة عقول العرب قَبل الإسلام.. وبينما كانت المرأة بهذا الوضع أتى الإسلام فحرَّرها مِن قيود الذل، ومِن ضياع حقوقها، سواء المالية أو الإرادية أو الحرية، فقد كانت لا ترث، بل تُورَث ولا ترث، فإذا مات الرجل وله زوجة كان أولاده يرثون زوجة أبيهم زوجةً لهم، فما أعظم شأن الإسلام! وكانوا يقولون: “الإرث لِمَن يحمل السلاح”، فلا ميراثَ ولا رأي ولا حرية لها، وعِدَّتها كانت سنةً كاملةً، وإذا مات زوجها كانوا يضعونها في الحظيرة بين الحمير والبغال، فكرَّمها الإسلام وجعل عِدَّتها أربعة أشهر وعشرة أيام، وهي مُكَرَّمة، فلا تتزوَّج تكريمًا لزوجها وحتى يستبين حال الرحم فتُعرَف هل هي حامل أم غير حامل.. وكلُّ ما في الأمر أن لا تتزيَّن بزينةٍ، وأن تنام في بيت الزوجية تكريمًا لزوجها، ومراعاةً لحرمته بعد وفاته، وكم المدة؟ أربعة أشهر وعشرًا، وإذا كانت حاملًا حتى تضع حَملها.
الأنثى بين الإسلام والغرب:
﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ [النجم:21-22] قِسمتكم هذه جائرة، تكرهون البنات، وجعلتُم لله عزَّ وجلَّ البنات، أَمَا كان الأَولى بكم أنْ تجعلوهم ذكورًا؟ هذا هزءٌ بباطلهم، بينما كان النبي ﷺ يقول: ((إذَا وَلَدَتِ المرأَةُ بِنتًا نَزَلَتْ مَعَها الملائِكَةُ تَزُفُّ البرَكَةَ زَفًّا، وَتَقُولُ الملائِكَةُ: ضَعِيفَةٌ خَرَجَتْ مِنْ ضَعِيفٍ، الْقَيِّمُ عَلَيْهَا مُعَانٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) فكم كرَّم الله عزَّ وجلَّ المرأة! ((وَإذَا وَلَدَتْ ذَكَرًا نَزَلَ مَلَكٌ قَبَّلَهُ بَينَ عَينَيهِ، وَقَالَ لَهُ: رَبُّ العِزَّةِ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ)) .
هذه العناية بالطفل.. وقد قسم الله عزَّ وجلَّ للأنثى نصف الميراث لأنه ما كلَّفها بالإنفاق، ولا كلَّفها بالمهر ولا كلَّفها بشراء البيت ولا كلَّفها بالطَّبَابَة، فهذا كلُّه على أبيها، وما دامت مضمونة فهي إذاً لا تحتاج إلى ميراث! فإن كانت عند أبيها فهو المجبر بالنفقة عليها، وكذلك إذا كانت عند أخيها أو زوجها أو ابنها، فهي مضمونة، وفوق ذلك تأخذ من الميراث وتنفق كما تشاء، ثم يقولون اليوم بعد كل هذا التكريم: نريد المساواة بين المرأة والرجل!
لقد ساووها بالرجل، فما جعلوا منها؟ جعلوها عاملة في منجم تحت طبقات الأرض بمئة متر، فتخرج سوداء الوجه مثل القطة التي خرجت مِن مجرى المدفأة، أو التي خرجت من صندوق القمامة المليء ببقايا السمك التي تُشَمّ روائحُها المنتنة من خمسة أمتار، وانتُهك عِرضها، وصارت محتقَرة رخيصة في أوروبا، فلا أحقر ولا أرخص مِن المرأة في أوروبا، ونحن اليوم نقلد على طريقة البغال.
قيل: كان هناك بغلان، وكان عليهما أن يمرا مِن نهرٍ، أحدهما يحمل كيسين من الملح، والآخر يحمل إسفنجًا، فالذي يحمل الملح دخل النهر فلم يخرج منه إلَّا وقد ذاب الملح وصار خفيفاً كالطائر، وترك كل الأثقال وراءه، فغار منه رفيقه، وقال في نفسه: كيف خفَّ حمل هذا وصار مسروراً فرحاً ويلعب كما يشاء! وأنا ما زال علي حملي! سأقلده وأفعل مثله.. ولكنه لم يكن عنده عقل يُدرك به أن هناك فرق بين الحِملين، ((إذَا أَردتَ أَمرًا فَتَدَبَّرْ عَاقِبَتَهُ، فَإنْ كَانَ رُشْدًا فَأَمْضِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيًّا فَانْتَهِ)) ، فدخل البغلُ المبغِّل [في النهر، وامتص الإسفنجُ الذي على ظهره الماءَ، فصار وزنه يكسر الظهر].. فهناك بغلٌ يفهم وهناك بغلٌ.. نسأل الله العافية مِن قِلِّة الفهم.. الحيوان يفهم، والحيوان عنده وفاءٌ، فالأسد إذا أكرمه مروِّضوه وأطعموه يصير بين أيديهم مِثل القط، وكذلك الأفاعي يُربيها صاحبها ويضعها مثل الشَّال على رقبته، فيَظهر معها المعروف، والأُسُود والدببة يعلِّمونها ويثقِّفونها فتتثقَّف، أما دببة بني آدم فمهما علَّمتها ومهما فهَّمتها ومهما وعظتها ومهما تكلمت معها [لا تستفيد ولا ترد إلا بالقبيح]، لا أكثر الله مِن أمثالها لا مِن الرجال ولا مِن النساء.. فالذي لا تنفعه الذكرى كلَّما ذكَّرته أكثر يزيد غيًّا وضلالًا.. وهناك نوعٌ مِن الأشخاص تراه “مِثْلَ البَنْزِين”، [شخص مثل البنزين: سريع الاستجابة كما أن البنزين سريع الاستجابة للنار، أي سريع الاشتعال.. وغالباً ما يُضرَب هذا المثل للرجل المسارع بالخير.. والبنزين هو وقود السيارات المعروف] فعود كِبْرِيْت [عود ثقاب] واحد يُشعِلُه ولو كان مثل البحر الأبيض المتوسط.. فنسأل الله تعالى أن يجعلنا هادِين مَهْدِيِّين.
الحقيقة لا يُمكن حجبها بالادِّعاءات:
﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ [النجم:21-22] ما معنى ضيزى؟ أي جائرةٌ وغير عادلة.. ثم تسميتكم الأحجار والشجر والصخور بالآلهة قال: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ [النجم:23] لا يوجد دليلٌ سماويٌّ ولا برهان عقلي، فهل هذه آلهة خَلقت السماوات والأرض؟ لكنَّكم أنتم تسمُّونها آلهة، ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ [الكهف:5]، يستطيع لسانك أنْ يقول أيَّ شيء، تستطيع أنْ تقول عن نفسك مَلِكًا، وعن الملِك “زَبَّالاً” [عامل نظافة]، لكن هل تُطيعك الحقيقة وتُصدِّقك؟ فإذا كان الإنسان يمشي بهذا الطريق فهذا الطريق اسمه طريق الخذلان وموت العقل والقلب، ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [النمل:80-81] يعني مستسلِمون منقادون مطيعون.
﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ [النجم:23] يمشون وراء الأوهام التي لا حقيقيةَ لها ولا واقعَ ﴿وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ﴾ [النجم:23] أهواء وأنانيات ومطامع طفولية، وبالنهاية هل نجحوا؟ هل نجح أبو جهل أو أبو لهب أو أُميَّة بن خلف أو ابن سلول؟ الحقُّ هو الذي ينتصر مهما طال الزمن، والباطل سيَزْهَق طال الزمنُ أو قَصُر.
هُدى الله خير:
﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾ [النجم:23] هل هُدى الله عزَّ وجلَّ أحسن أم الأوهام وأهواء النفوس؟ ما الذي يصمد؟ وما الذي يُعِزُّ؟ وما الذي ينتصر؟ كنتُ أسمع شيخنا قدَّس الله روحه يقول: “يا بني امشِ مع الأسد ولو كنتَ له خادمًا، ولا تمشِ مع الكلب ولو خَدَمك”، يعني امشِ مع مَن ترفع رأسك به في الدنيا والآخرة، ولا تمشِ مع مَن يُخفض رأسك في الدنيا والآخرة.
مَن سار وفق قانون الله عزَّ وجلَّ فاز بالدنيا والآخرة:
﴿أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى﴾ [النجم:24] كانوا يقولون: إن الأصنام تشفع لهم، والملائكة تشفع لهم، فقال لهم الله تعالى: ﴿فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى﴾ [النجم:25] وليست بيد الأصنام، فالأصنام أحجارٌ لا تنفع ولا تضرُّ، والْمُلك بيد الله عزَّ وجلَّ، فالذي يمشي على قانون الله تعالى في الدنيا يُعطيه الدنيا أو الأولى، والذي يمشي على قانون الله عزَّ وجلَّ لينال الآخرة يصل إلى سعادة الآخرة، وكذلك الذي يمشي على قانون الله عزَّ وجلَّ لينالهما -وهو الإسلام- فإن الله تعالى يقول: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ [النحل:30].
العمل سبيل الغنى:
والدنيا لا تُنال بالكسل ولا بالدعاء ولا بالبطالة، ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم:39]، مرة شاهد النبي ﷺ رجلاً يتسوَّل فسأله فقال: ليس عندي شيء يا رسول الله، فقال له: ((أَمَا في بَيتِكَ شَيءٌ؟)) قال: بلى، فأحضر له قدراً أو طبق غسيل، فأخذه رسول الله ﷺ بيده، وقال في المسجد: ((مَنْ يَشتَرِي؟)) قال رجل: أنا آخذه بدرهم، فقال ﷺ: ((مَن يَزِيدُ عَلى دِرهَمٍ؟))، قال رجل: أنا آخذه بدرهمَين، فأعطاه إيَّاه، وأخذ الدرهمين وأعطاهما للرجل، وقال: ((اشتَرِ بِدِرهَمٍ طَعَامًا لِأهلِكَ، وَبالدِّرهِمِ الثَّانِي اشتَرِ فَأسًا وأتِ بِه إليَّ))، فأتاه به، فشدَّ فيه رسول الله ﷺ عصًا بيده، ثم قال له: ((اذَهَبْ فَاحتَطِبْ، وَلَا تَأتِني إلَّا بَعدَ أَيَّامٍ))، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء إلى النبي ﷺ، فقال له: ((كَيفَ أَنتَ؟)) قال: أغناني الله من فضله يا رسول الله .
فالنبي ﷺ دلَّه على أسباب الغنى، وأنقذه مِن ذلِّ الفقر، لأنه كان بطَّالًا، وكان في الذُّلِّ، فالإسلام دلّه على العمل.. وإذا كان الإنسان لا يُريد أن يعمل، ويريد أن يبقى عاطلًا فعليه أن يتحمَّل الذلة والمسكنة، أما الإسلام: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون:8].
الشفاعة:
قال تعالى: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ إنكم تدَّعون شفاعة الملائكة، ولكن هذا ليس بالتمنِّي، ﴿لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ [النجم:26] لا يشفع الملَك إلا بإذنٍ ولا يشفع النبي ﷺ إلا بإذنٍ ورضًى، ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء:28].
فإذا كنتَ مِن مَرْضِيِّي الله تعالى، وممَّن رضي الله تعالى عنك ورضيتَ عنه، وكان عندك شيءٌ مِن التقصير ثم شفع لك النبي ﷺ أو الملائكة أو الصالحون فإن الله تعالى يقبل شفاعتهم فيك.. ولكن إذا كنتَ مِن رأسك إلى أظافر قدميك في الزِّفْت، [الزِّفْت منتَج من منتجات النفط الثقيلة، وهو لزج وأسود اللون، ويُستخدَم في تعبيد الشوارع، حيث يُسَخَّن لدرجات حرارة عالية قبل استخدامه]، فالزفت أين يُوضَع؟ هل يُوضَع على رؤوس العرائس أو على تيجان الملوك؟ يوضع في النار، وكذلك شجر الشِّيْح أين يُوضَع؟ [في نار المَوْقِد].
سيدنا موسى عليه السلام قال: يا ربي لماذا تُدخل عبادك جهنم؟ هؤلاء مساكين! قال له: “يا موسى ارفع ثوبك، فرفعه، قال له: ارفع أيضًا، فرفع إلى ركبه، قال: ارفع أيضًا، فرفع إلى منتصف فخذه، قال له: أيضًا ارفع، قال له: يا ربي لم يبقَ إلا ما لا خيرَ فيه، فقال له: كلُّ عبادي يدخلون الجنة إلا مَن لا خيرَ فيه” .
فنسأل الله تعالى أنْ يجعلنا مِن أهل الخير لأنفسنا ولغيرنا، وأن يجعلنا مِن المحسنين لأنفسنا وللآخرين، ربنا ﴿وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر:10]، اللهم اجعلنا مِن الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.