يوم الجمعة قبل الإسلام:
يوم الجمعة كان قبل الإسلام في زمن الجاهليَّة يُسمَّى يوم العروبة، فلمَّا ظهر الإسلام ووصل إلى المدينة المنوَّرة، ورأى أهل المدينة أن اليهود يجتمعون يوم السَّبت للعبادة والتفرُّغ لله، وأنّ النَّصارى يجتمعون يوم الأحد لعبادة الله، فقالوا: لو نتَّخذ يوماً نتفرَّغ فيه لله عزَّ وجلَّ، فاتفق رأيهم على أن يكون يوم العروبة يوماً لله، يغتسل فيه الإنسان من أوساخ الدُّنيا التي علقت به في أسبوعه، مما يُنسيه ويحجبه عن شعوره بالله ومراقبته لله وقوة حبِّه لله.. والإنسان مغمورٌ ومغموسٌ في شؤون الحياة من أجل جسده، وهذا في الغالب على حساب حياة روحه، فالجسد حياته بالله وأمَّا الروح فحياتها بروح الله، فإذا لم نغذِّ الجسد بغذائه من الطَّعام والشَّراب فإنه يموت، وإن قلَّ فإنَّه يضعف، وكذلك الروح إن فقدت غذاءها الرباني الذي يكون بدوام مجالستها لله وإقبالها عليه وصحبتها لأحبابه، فتضعف وتمرض، وترجُح أمور الجسد على أمور الرُّوح، وخصائص النَّفس الأمارة بالسّوُء على خصائص النَّفس المطمئنة بذكر الله.
مسلمو المدينة قبل هجرته ﷺ:
فصاروا يجتمعون في بيت أسعد بن زرارة، ولم يكن هنالك مسجدٌ في المدينة المنوَّرة؛ لأنَّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يكن هاجر بعدُ، فكانوا يجتمعون في دار أسعد، ويصلُّون ركعتين ويذكِّر بعضهم بعضاً بالله وبالإسلام وبالقرآن، ثم كان يذبح لهم ذبيحة، ويأكلونها بعد ذكرهم وصلاتهم واجتماعهم، ولذلك في كثير من البلاد الإسلاميَّة غير العربيَّة يجتمعون بعد صلاة الجمعة، وفي كل المساجد في بعض البلاد الأعجميَّة يوجد دار ضيافة، فيه المطبخ والمطعم ودار للضيوف، فإذا أتى ضيوف إلى المسجد نزلوا في تلك الدار.. وهذا ما رأيته في الجمهوريات الإسلاميَّة في الاتحاد السوفيتيِّ، ولذلك المسلمون الأعاجم لا يزالون يحافظون على سُنَّة أسعد بن زرارة رضي الله عنه.
تشريع صلاة الجمعة:
فلمَّا هاجر رسول الله ﷺ نزل في قباء يوم الاثنين، واتَّجَه يوم الجمعة إلى المدينة، وأدركته الصلاة في الطريق فصلَّى ركعتين، وخطب بعد صلاة الجمعة، لأنَّ خطبة الجمعة كانت في أوَّل الإسلام بعد الصَّلاة لا قبل الصَّلاة كما هو في صلاة العيد، وخطب أوَّل خطبة للجمعة عند هجرته ﷺ، فكانت خطبته كما يلي: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ أَحْمَدُهُ، وَأَسْتَعِينُهُ، وَأَسْتَغْفِرُهُ وَأَسْتَهْدِيهِ وَأُومِنُ بِهِ وَلَا أَكْفُرُهُ، وَأُعَادِي مَنْ يَكْفُرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى، وَالنُّورِ، وَالْمَوْعِظَةِ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ)) فبَيْنَ سيِّدنا عيسى عليه السلام وسيِّدنا رسول الله ﷺ ست مئة سنة ما أرسل الله فيها رسلاً، ((عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَقِلَّةٍ مِنَ الْعِلْمِ، وَضَلَالَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَانْقِطَاعٍ عن الخير.. مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ))، رشد إلى خير الدُّنيا والآخرة، ومن فرَّق بين الدنيا والآخرة جعل طائرَ الإسلام بجناحٍ واحد.
أتى الإسلام ليعمر دنيا الإنسان وآخرته:
ولذلك لما ضعفت دنيا المسلمين، وضعفت علوم الدُّنيا، وضعف اقتصادهم، وضعف تفكيرهم، طمع فيهم العدوُّ، فاستعمر بلادهم وأذلهم وحارب دينهم وطمس فضائلهم ونشر رذائله، وإنّ الإسلام دينٌ ودنيا: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة:201]، فالله قدَّم الدُّنيا، لأنَّ الدنيا هي المقدَّمة من حيث الزمن، وفي الحجِّ يقول الله: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ [الحج:28]، وبعدها قال: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ﴾ [الحج:28]، فذكر منافعهم الدنيويَّة أوَّلاً، والتوجه إلى الله في الدرجة الثانية: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ﴾ [سبأ:15]، هل هذه الجنتان في الدنيا أم في الآخرة؟ في الدنيا.. ﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ [سبأ:15].
المسلمون الأول أصحاب رسول الله ﷺ جعلهم الله أباطرة العالم وأغنى أغنياء العالم، ثم أخذوا علوم الأمم من الهند والفرس واليونان -علوم الحياة وعلوم الدُّنيا- ما جعل أوروبا تأخذ كتب المسلمين وتنهض نهضتها قبل خمس مئة سنة، ونام العلماء على أمور الفقه والنحو والصرف، وتركوا علوم الدُّنيا، فبقي طائر إسلامهم بجناحٍ واحد فسقطوا، فأكلتهم قطط الكفر وأكلتهم جرذان الإلحاد، حتى وصل الإسلام في المسلمين إلى ما نراه اليوم.. ولم يتنبَّه العلماء في القرون الأخيرة إلى مثل سورة سبأ، والله سبحانه قبل أن يذكر فيها سدَّ سبأ ذكر داوود وسليمان عليهما السلام، وذكر عن داوود أنه كان يصنع الدروع: ﴿وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضۡلًاۖ يَٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُۥ وَٱلطَّيۡرَۖ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلۡحَدِيدَ (10) أَنِ ٱعۡمَلۡ سَٰبِغَٰتٍ وَقَدِّرۡ فِي ٱلسَّرۡدِۖ﴾ [سبأ:10-11]، ولسليمان عليه السلام: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾ [سبأ:13]، فالقرآن يعلِّمنا عن نبيَّين كريمين أحدهما يصنع الصناعات العسكرية من الدروع وسلاح الدِّفاع وليس الهجوم، وفي هذا إشارة إلى أنَّ الإسلام دين السَّلام، وسليمان عليه السلام يصنع الصِّناعات المدنيَّة، وأنزل سورةً سمَّاها “الحديد”، وقال فيها: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [الحديد:25]، ﴿بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾: إشارة إلى الصناعات الحربية، ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾: إشارة إلى الصناعات المدنية.. فلماذا جعلنا الصَّلاة من الدِّين والزكاة من الدِّين؟ [ولم نجعل من الدين] التصنيع الحربي والمدني والسُّدُود؟ وسورة “سبأ” فيها ذِكْر نَبِيَّيْن، ومع ذلك ما قال عنها سورة داوود أو سليمان، بل سورة “سبأ” سورة السدِّ.. والبلاد العربية بلادٌ قليلة المياه، والعرب في الجاهليَّة بنوا أكثر من ثلاث مئة سدٍّ، اكتشفتها البعثات الأجنبيَّة الأوربيَّة، وسدُّ سبأ واحد منها.
صناعة عسكريَّة ثم مدنِيَّة ثم سدّ سبأ، وتحويل الصحراء إلى جنّة فيحاء.. هذا هو القرآن، يعني أنّ هذا ديننا! فالصّناعة الحربية دينٌ والمدَنية دينٌ وتحويل الصّحراء إلى جنان خضراء دين أيضاً، فهل ذكرت كُتُبُ الفقه هذه المعاني التي ذكرها القرآن بشكل واضح؟
إن هذه الآيات إذا قرأناها على الموتى هل يخرجون من القبور ويعلِّموننا الصناعات الحربية والمدنية ويبنون لنا السدود؟ إن هذا استعمال للقرآن في غير موضعه، والله يقول: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾ [ص:29]، ما البركة؟ كثرة الخير، فإذا كثرت خيراتك فهذه هي البركة.. إذاً فالقرآن والإسلام نهضة عقليَّة وأخلاقيَّة وفكريَّة، نهضة في كلِّ ما يرفع مستوى الإنسان في هذا الكوكب، [نهضة في الدنيا] ريثما يتهيَّأ للنقلة إلى الفردوس الأعلى.
لقد أرسل الله رسوله ﷺ ((عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ))، حيث انقطعت الرسالات ست مئة سنة، ((وَضَلَالَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَدُنُوٍّ مِنَ السَّاعَةِ)).
وقد صار العلم في هذا العصر قليلاً؛ العلم الذي دعا النبي ﷺ إليه، والقرآن الذي دعا إليه هو ما شرحه النبي ﷺ.
كيف كان المسلون وكيف صاروا حديثاً:
إن القرآن قال: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ [البقرة:201]، فالمسلمون الأول فهموا الإسلام، فكانوا أرقى زمانهم في علوم الصناعة والزراعة والاقتصاد والطب والفيزياء والفلك وكلِّ أنواع العلوم، لذلك كبار علماء أوروبا يقولون: “نحن مدينون للعرب وللمسلمين، ويجب علينا أن نؤدِّي دَينَنا لهم”، وهذا في المنصفين منهم، أما المغرضون والحاقدون فشأنهم معلوم.
والضرورة ملحة أن يعود المسلمون والمساجد إلى ما كانت عليه المساجد الأولى، حيث كانت الجامعات في الجوامع، وكان كل العلماء يتعلَّمون كل أنواع العلوم في المساجد، وكان رئيس الدولة -الخليفة- هو الإمام وهو الخطيب، وكان لا مدرسة لهم إلا مدرسة القرآن، لكن دراستهم كانت الدِّراسة الحيَّة.. فأسأل الله أن يجعل من كلّ واحد منكم داعياً إلى الله وقرآن العمل وقرآن الفهم، لا قرآن الورق وقرآن الحبر الأسود على الورق الأبيض، الذي نقرأه للموتى أو نقرأه للأنغام أو الموسيقا والآهات. [الآهات: يُقصَد بها ما يقوله المستمعون طرباً عند سماعهم للقرآن وغيره: آه.. آه..]
﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص:29]، قف عند الآية وتدبَّرها، هل كتبتها في صحيفة قلبك، وفي صحيفة عملك، وفي صحيفة عقلك وفكرك؟ هل علَّمتها للآخرين وعَلَّمتَ أهدافها وأحكامها وآدابها؟ فبذلك تكون مسلماً وبذلك تكونين مسلمة، وأمَّا إسلام الادِّعاء أو إسلام الانتماء أو إسلام المظاهر الشكليَّة فهذا لا يغني من الحق شيئاً، فشمِّروا واجتهدوا، وقد آن أوان ظهور فجر الإسلام، ونحن في مخاضِ وظهورِ الإسلام؛ الإسلام المحمديِّ.. وفي تقديري فإن الإسلام سيظهر من العالَم المتقدِّم، والمسلمون لا يزالون نياماً، وكثيرٌ ممن يُنسَبون إلى الدِّين -مع احترامي لهم- لا يزالون يفكِّرون بعقل متخلِّف، ويفكرون تفكيراً بعيداً عن الحكمة.. والحكمة هي التي توجب نجاح العامل إن استعمل الحكمة في عمله، لأنَّ الحكمة هي: “فعل ما ينبغي”: أداء ما يجب عليك، “فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الشكل الذي ينبغي”، فإن كان عملك ضمن معنى الحكمة هل يمكن أن تفشل؟ أو في المعركة أن تُهزَم؟ أو في التِّجارة أن تَخْسَر؟ أو في الزراعة ألا تَحصُد؟ هذا مستحيل، ولذلك قال تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ﴾ [البقرة:269]، يعني لا يفهم على الله ﴿إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة:269]، ومن هم أولو الألباب؟ ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران:191].
ثم قال النبي ﷺ في خطبة الجمعة، وهي أوَّل خطبةٍ في الإسلام: ((مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى وَفَرَّطَ، وَضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا.. وَأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ خَيْرُ مَا أَوْصَى بِهِ الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ)).. إذا اجتمعت مع أصحابك في سهرة أو على غداءٍ أوصهم بالتَّقوى، وهي أداء فرائض الله واجتناب محرَّماته، فإذا رأيت مقصراً في واجباته نحو الله حُثَّه على الصلاة أو الزكاة أو تعلُّمِ الدين.. والنبي ﷺ كان يقول: ((لَيْسَ مني إِلَّا عَالم أَو متعلم)) وأنت يا بُنَيّ تتعلَّم كلَّ شيء عن أمور الدُّنيا، فأين أوقاتك لتتعلَّم أمور دينك؟ الدِّين ليس وضوءاً وصلاةً فقط، بل هو الحياة بكلِّ أبعادها؛ الحياة في الأرض والسَّماء، الحياة العزيزة الكريمة، والنَّصر في المعارك والصحّة في الأبدان والحكمة في العقول والوحدة في الأمّة والرجاء كلّ الرجاء من الله والثقة به، بحيث لا يدخل في قلب المؤمن شيء ولا يتزلزل مهما تزلزلت الأرض حوله، ولا يضعف يقينه، ويقينه لا يضعف ما دام ماشياً على المخطط الإلهيِّ، فإذا زاغ ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5].
التقوى من أساسيات الدين:
فخير ما أوصى به المسلمُ المسلمَ أن يحضَّه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله.. وهذه خطبة من؟ لاحظوا كأنَّ النبي ﷺ يخطب الآن ونسمع خطبته ﷺ.. ((وأحذركم مَا حَذَّرَكُمُ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ [آل عمران:28]))، لا تغترَّ! فإن كنت في أعلى ما تكون فبلحظة واحدة يضعك في أسفل السَّافلين، ولو كنت في أغنى ما تكون يجعلك من أفقر الفقراء، أو في أصحِّ ما تكون فيسلبك صحتك ويسلبك حياتك.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا تقواه حقَّ تقواه.. قال: ((فإنَّ التقوى من عمل صالحاً وخاف مقام ربه، وهي عنوانُ صِدْقٍ على ما يرضيه من الآخرة))، فإذا كنت تعمل بشكل صحيح يعني ذلك أنك مؤمنٌ بالآخرة بشكل صحيح، وإذا كنت مؤمناً بالآخرة ولا تعمل لها فأنت غير مؤمنٍ وغير صادقٍ في إيمانك.. فتِّش نفسك يا بني! فأنت في لحظة واحدة تكون في الدنيا فتصير في الآخرة، ويصير كلّ ما تعبت فيه وحصَّلته هباءً منثوراً، ولا يبقى معك إلا ما عملته لله وللدَّار الآخرة.
قال: ((وَمَنْ يُصْلِحِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ مِنْ أَمْرِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ لَا يَنْوِي بِذَلِكَ إِلَّا وَجْهَ اللَّهِ، يَكُنْ لَهُ ذِكْرًا فِي عَاجِلِ أَمْرِهِ وَذُخْرًا فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، حِينَ يَفْتَقِرُ الْمَرْءُ إِلَى مَا قَدَّمَ، وَمَا كَانَ مِنْ سِوَى ذَلِكَ يَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)) .. إلى آخر الخطبة.. فمن ذلك اليوم بدأت صلاة الجمعة، وبُدِّل اسمها من يوم العروبة إلى يوم الجمعة.
من معاني يوم الجمعة:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا﴾ [الجمعة:9]، السعي معنىً من معاني الركض، فانظر كيف تركض إلى ما يهمك من أمور، ولا تتباطأ ولا تتأخَّر، كذلك يوم الجمعة، متى نودي فاركضوا، يعني سارعوا، وليس المراد بالمسارعة الركض، بل أن تأخذ أكبر وقت ممكن قبل الصَّلاة، وتهيِّئ نفسك فيه لصلاة الجمعة، وكان عليه الصَّلاة والسَّلام يقول: ((من غسل يوم الجمعة واغتسل)) يغسل بدنه وثيابه ((وبَكر وابْتَكَر))، يقضي حوائجه باكراً حتى يذهب إلى المسجد باكراً، ((وراح في الساعة الأولى كان كمن تصدق ببدنة)) أي بناقة، ولماذا يأتي إلى الجامع قبل خمس ساعات؟ هل لأجل أن يلغوا في المسجد أو يتكلَّم مع النَّاس؟ بل يأتي قبل الصَّلاة بخمس ساعات ليحضِّر قلبَه مع الله، حتى يصلِّي لا بجسده فقط، بل ليصلي بجسده وقلبه وفكره، وليكون مهيَّأً لنزول الحِكَم الإلهية والتجليات الربانيَّة؛ حيث صار قبله مقدساً طاهراً منوراً، ((ومن أتى في الساعة الثانية فكأنما تصدَّق ببقرة، ثم بشاة ثم بدجاجة ثم ببيضة، فإذا صعد الخطيب المنبر، طوت الملائكة الصّحف)) ، والدّاخل بعد ذلك لا يُكتَب له ولو ثوابُ بيضة.
صلاة الجمعة في جمهورية داغستان وذكر الله:
زرت مرَّة جمهورية داغستان، وهي من أقوى المسلمين إسلاماً في بلادهم في زمن الشيوعيَّة، فقد كانوا يعلمون أولادهم القرآن في الغابات وفي السراديب، وإلى الآن في يوم الجمعة يذكرون الله قبل الصلاة ساعةً كاملة، وبعد انتهاء صلاة الجمعة لا يخرجون، بل يجلسون ويذكرون الله ساعةً أخرى، فسألتهم: مِن أين أخذتم هذا العمل غير المعروف في البلاد الإسلاميَّة الأخرى؟ فقالوا: من القرآن.. قلت: سبحان الله!.. والآن أيها الإخوة: أما قرأتم القرآن؟ فهل أحدٌ تعلَّم هذا الشيء من القرآن؟ قلت لهم: من أين من القرآن؟ قالوا: من سورة الجمعة.. كيف؟ قالوا: الله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة:9]، والنبي ﷺ يأمرنا بالبكور، وماذا نفعل في البكور؟ هل نلعب بالورق أو بالطَّاوِلة؟ [لعب الوَرَق ولعب الطاولة من الألعاب المنتشرة شعبياً، والتي يلعبونها للتسلية أحياناً وأحياناً للقِمار] بل علينا أن نشتغل بذكر الله، ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الجمعة:10]، فنخاف إذا خرجنا من المسجد أن لا نذكر الله كثيراً، لذلك نجلس ساعة في المسجد تلبيةً لنداء القرآن في أن نذكره قبل الصَّلاة وبعد الصَّلاة.. وهناك آية في سورة النِّساء تقول: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ [النساء:103].. إنّ ذكر الله هو روح كلِّ العبادات.
سئل النبي عليه الصَّلاة والسَّلام: “أَيُّ الْمُجَاهِدِينَ أَعْظَمُ أَجْرًا؟” قال: ((أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ ذِكْرًا))، “ومن أَعْظَمُ المصلين عند الله أَجْرًا؟” قال: ((أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ ذِكْرًا))، “من أَعْظَمُ الصَّائِمِينَ أجراً؟” وكذلك الحجاج، قال: ((أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ ذِكْرًا)) ، والذكر لا أن يتحرك لسانُك بينما قلبك ساهٍ ولاهٍ، إن الذكر هو من أعمال القلب أولاً واللسان مترجمٌ لعمل القلب، ولذلك قدَّم بعض أهل الله الذكر القلبيَّ، حتى ينتعش القلب بروح الله وبذكر الله، وحتى يجد اللهَ معه في كلِّ أحواله، ويكون جليس الله في كلِّ تصرفاته.. فإذا صار ملكةً ينتقل بعد ذلك إلى اللسان ليكون اللسان مترجماً لما يفعله القلب، أمَّا إذا وُجِد مُتَرْجِم لشيء غير موجود فهل يكون المترجِم حينها كاذباً أم صادقاً؟ ولذلك يجب على المسلم والمسلمة قبل كلِّ شيء أن يدخلوا مدرسة الذكر، وأن يفتِّشوا على أستاذ الذكر وعلى مُنْعِشِ القلوب بنور الله وبروح الله وبذكر الله.
وإذا حلَّت الهدايةُ قلباً نَشَطَتْ في العبادةِ الأعضاءُ
وكما قال النبي ﷺ عندما كان يريد الصلاة: ((أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ)) لم يَقل: أرحنا منها، فإذا كان متعباً يستريح بالصَّلاة، وكان يقول: ((وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ)) ، هذا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.. وعليك أن تأخذ القلب من أهل القلوب، ومن مدرسة القلوب، لا من مدرسة القيل والقال.. وبعضهم إذا فَقَدَ قلبَه بعد أن وَجَدَه يكاد أن يفقد الحياة، كما يقول بعضهم
كان لي قلب أعيش به ضاع منِّي في تَقَلُّبِه
ربي فاردده عليَّ فقد عِيل صبري في تَقَلُّبه
وأغثني وأغث ما دام بي رمقٌ يا غياث المستغيث به
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق:37]، القرآن يكون ذكرى لأصحاب القلوب، أمَّا من لا قلب لهم فلا ينتفعون بالقرآن.
ربَّ تالٍ يتلو القران بِفِيْهِ وهو يفضي به إلى الخذلان
وفي الحديث: ((رُبَّ تَالٍ يتلو الْقُرْآَن وَالْقُرْآَنُ يَلْعَنُهُ)) ، يتلو ألا لعنة الله على الظالمين والكاذبين وهو ظالمٌ وكاذبٌ.
﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ [الجمعة:9]، علينا أن ننتقل من انشغال القلب والفكر بشؤون الجسد إلى مرحلة انشغال القلب بشؤون الروح وصلتها بالله، لماذا؟ لأنَّ أمور الدُّنيا والحياة فيها الأزمات وفيها الأخطار وفيها الهموم والأحزان، فإذا اتصل قلبك بالله عزَّ وجلَّ تَخِفّ عنكُ كلُّ أزمات الحياة وتأتيك معوناتٌ من الله، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق:2-3].. ثم شُرِعَت صلاة الجماعة بعد ذلك، والنبي ﷺ بنى مسجده الشَّريف على مقبرة من قبور المشركين، فمسجد النبي ﷺ كان مقبرة، وكان حفرةً من حفر النَّار، وبالنبي ﷺ صار روضةً من رياض الجنَّة، فالإنسان هو الذي يقدِّس المكان لا المكان يقدِّس الإنسان.. مكة كانت وادياً غير ذي زرع، فقُدِّست بإبراهيم عليه السلام وبمسجد متواضع الذي هو الكعبة، والنبي ﷺ قال: ((خير القرون قَرْنِي)) ، يعني العصور، فهل شُرِّف العصر بالإنسان أم شُرِّف الإنسانُ بالعصر؟ لقد شُرِّف العصرُ بالإنسان.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ بفضله وإحسانه أن يرزقنا فقه القرآن وفقه الإسلام، [وليس المقصود بفقه القرآن] الوضوء، فكلُّ النّاس يعرفون كيف يتوضؤون، ولا الاستنجاء، فالقطط تعرف كيف تستنجي، وتجدها نظيفة أكثر بكثير من كثير من بني آدم.
والفقه: أن نفقه القرآن ونفقه الإسلام، ولما فقهوه قضوا على الاستعمارين الشرقيِّ والغربيِّ والدَّولتين العالميتين بأقلَّ من مئة سنة، فالدّولة الرومانية كان يمتد نفوذها من إنكلترا إلى بلاد الشام، والفارسيَّة إلى الهند.. وطائفة في الصحراء لا يقرؤون ولا يكتبون ولا مدارس لهم ولا حضارة، وبكتابٍ واحد من السَّماء، لكنه كُتِب في قلوبهم ثم نقلوه إلى أعمالهم ثم نقلوه إلى مجتمعهم، فكان كلُّ واحدٍ منهم لا قرآنَ الورق والحبر، ولكن كان قرآن العلم والحكمة وتزكية النَّفس بالأخلاق الملائكيَّة، وكانوا مع الله شعوراً، وكانوا مع الله شوقاً وحبّاً وفناءً، فكان الله معهم نُصرة ومُناصِراً ومؤيِّداً ومسعِفاً، وهم لم يتخلوا عن الله فلم يتخلَّ الله عنهم، وأما من نسوا الله: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة:67]، فنسأل الله أن يجعلنا من الذاكرين له ذكراً بلا انقطاع في يقظتنا ومنامنا.
سبب نزول الآيات في سورة الجمعة:
إنّ بلاد الحجاز مشهورةٌ بقلَّة الموارد، وقد كانوا يستوردون إليها المواد الغذائيَّة وغيرها من بلاد الشام واليمن، وفي يوم من الأيام أتت قافلة لِدحِيَة الكَلْبِيِّ، وكانوا قد صلُّوا صلاة الجمعة مع رسول الله ﷺ، وبعدها كان النبي ﷺ في خطبته، وكانت قافلة التِّجارة إذا أتت تدقُّ الطبول، لِيَعْلَم الناس فيهرعوا لشراء ما يحتاجون إليه.. والنبي ﷺ يخطب وقد سمعوا الطبول، وسمعوا ما تُستقبَل به القافلة من دفوف ورقص وغيره، فقام الكثير منهم بعد أن صلَّى الجمعة، وذهب ليشتري حوائجه ومؤونة أهله من قافلة دحية الكلبيِّ، فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً﴾: القافلة ﴿أَوْ لَهْوًا﴾: يعني الطبل والدفوف والرقص ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ﴾ [الجمعة:11] “ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة” وهذا في الدُّنيا قبل الآخرة.. فلما لزموا النبي عليه الصَّلاة والسَّلام كيف تبدَّل حالهم؟ سارت على أقدامهم كنوز كسرى وقيصر، وكان النبي ﷺ يقول: ((لَتُفْتَحَنَّ بلاد كِسْرَى وقيصر، ولتمتلكن كنوزهما، وَلَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ)) .
وقد صدق الله وعده وصدَّق نبيَّه، وبمئة سنة اتَّسعت رقعة القرآن من الصّيِن إلى ضواحي باريس، ووصل الجيش العربي الإسلاميُّ في زمن الوليد إلى مدينة “صانص” التي تبعد عن باريس سبعة وعشرين كيلو متراً.. فالآن العرب إلى أين يقدرون أن يصلوا؟ ولم تكن عندهم جامعات، لكن كان عندهم جوامع، لكنها ليست جوامع ميِّتة، فالجامع الحقيقي هو الذي يجمع القلب على الله، ويجمع العقل على فهم كتاب الله، ويجعل النَّفس مرآةً لتنعكس فيها آياته أعمالاً وأخلاقاً وسلوكاً وروحانيةً وربانيةً، وأما الجامع لو بنيناه من الذهب أو بنيناه من الألماس، فإنّ الألماس والذهب لا يصنعان القلوب ولا العقول.
يبني الرِّجالَ وغيرُه يبني القرى شتَّان بين قرىً وبينَ رجالِ
كان سيِّدنا عمر رضي الله عنه مرَّة جالساً مع الصحابة في غرفة، فقال لهم: “لو أنَّ الله قال لكم تمنَّوا ماذا تتمنون؟” فكلُّ واحد صار يتمنَّى أمنية، أحدهم قال: ليت عندي مال لأنفقه في سبيل الله، وآخر قال: لو أن عندي سلاحاً لأساعد المجاهدين، فقال سيِّدنا عمر: “أنا لو عُرِضَت لي أمنية، لتمنَّيت أن يكون ملء غرفتي هذه رجالٌ مِثْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ” .. والرجولة في الأجسام أن يحمل الإنسان عضويَّة الرجولة في التناسل، أمَّا الرجولة في القرآن فأولها: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [النور:37]، من هنا تبدأ الرجولة، من مدرسة الذكر، ومن أستاذ الذكر الذي يجمع قلبك على الله ويملأ عقلك حكمةً، لكيلا تفشل في ميدان الحياة؛ لا في أمور الدُّنيا ولا في أمور الآخرة، ولننظر في معنى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق:4]، هل أمور المسلمين اليوم يسر أم عسر؟ معناه أن تقوى الله غير موجودة، وهل أمورهم نصر أم هزائم؟ معناه أن تقوى الله غير موجودة، ولو كنَّا نصلي ونصوم! فالصَّلاة وحدها لا تكفي، والصَّوم وحده لا يكفي.
بناء الإسلام يشبه بناء البيت:
((بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ)) ، يعني على مثل خمسة أعمدة، فإذا كان بيتك خمسة أعمدة فأين تنام وأين تطبخ وأين تستقبل الضيوف؟ إنّه يحتاج إلى سقف وجدران وطينٍ وبلاط وأبواب ونوافذ وكهرباء وخدمات أخرى.. وحتى الأعمدة الخمس [من أركان الإسلام] لا نجدها الآن، فأحدهم عنده عمود والآخر عنده اثنان، ويقول عن نفسه مسلماً! فهل يُبنى بيتٌ على الأعمدة أو فندقٌ على الأعمدة أو جامع على الأعمدة [فقط]؟ فنسأل الله أن يُكَمِّل بناءَ إسلامِنا.. هل الصحابة كمل إسلامهم لوحدهم أم ببركة المعِلّم الذي يعلمهم الكتاب والحكمة؟ والحكمة هي العقل، “وهي أن تعرف الأمور بحقائقها، وتعرف ارتباط المسبَّبات بأسبابها قدراً وشرعاً، وتعرف حكمة الأقدار وحكمة التشريع خَلْقَاً وأَمْراً”: تعرف حكمةَ الخَلْقِ وحكمةَ الأوامرِ الإلهيَّة، والله يقول: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾ [الجمعة:2]، والمسلم هل يتعلَّم الحكمة؟ قد يكون متخرِّجاً من الأزهر ولا يعرف الحكمة، ولا شمَّ رائحتها وأعمالُه مخالفةٌ لها، فهل الله يجعل له من أمره يسراً؟ كثير من الإسلامين -أقول ومع الأسف- يقومون بأعمال تؤذي الإسلام ومستقبل الإسلام، وقد يكونون مخلصين، لكن الإخلاص وحده لا يكفي، ورد في الأثر: “النّاس هلكى إلا العالمين، والعالمون هلكى إلا العاملين، والعاملون هلكى إلا المخلصين، والمخلصون على خطر عظيم” ، فلا يقعوا في العجب أو رؤية النَّفس أو الرِّياء فيحبط العمل.
قصة تشريع الأذان الثاني:
﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾ [الجمعة:11]، كم شخصاً بقي مع النبي ﷺ يستمع الخطبة؟ يقال: بين الثمانية وبين الأربعين.. والظاهر أنه كانت هناك مجاعةٌ وقحط.. فنسأل الله أن يثبتنا بقوله الثابت وألا يمتحننا.. وإذا حدثت زعزعة الآن فكم واحد منكم يبقى في الجامع؟ يا بني لا تحاسبوا غيركم وتنسوا أنفسكم، علينا أن نحاسب أنفسنا قبل الآخرين: ((حاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا)) ، ولسنا ملزمين أن نحاسب الآخرين.
وكان أذانٌ واحدٌ إذا نودي للجمعة في حياة رسول الله ﷺ وفي حياة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وكان وقته عندما يصعد الخطيب إلى المنبر، ولما كانت خلافة عثمان رضي الله عنه وكثر النَّاس، أمرهم أن يُؤَذَّن أذانٌ ثانٍ على سطح داره المسماة “بالزَّوْرَاء”، فهذا الأذان الثاني لم يكن موجوداً في زمن النبي ﷺ ولا أبي بكر ولا عمر، فهل هذا بدعة؟ نعم لكنها بدعة حسنة، والنبي ﷺ سمَّاها سنَّة حسنة: ((مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً)) وكيف يكون حُسْنُها؟ لأنها تُعْلِم النّاس بدخول الوقت، وهذا حين اتسعت المدينة في زمن سيدنا عثمان رضي الله عنه عما كانت عليه في زمن رسول الله ﷺ.
﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا﴾ [الجمعة:9]، اتركوا كلَّ شيء.. ومن آداب صلاة الجمعة أن يلبس الإنسان أجمل ثيابه، وأن تُبخَّر المساجد.. يخطر ببالي أنه من الجمعة القادمة يكون المسجد دائماً مبخَّراً.. يُقال: “كانت رائحة البخور تُشَمّ من مسجد بني أمية من أكثر من نصف ساعة”، يعني من أكثر من كيلو متراً ونصف، وهذا من كثرة إعتناء المسلمين بمساجدهم، فأمر النبي ﷺ بغسل الثياب وغسل البدن، ومن الناس من يكون بدنهم وثيابهم أقذر من الثوم والبصل، ومرة رأى النبي ﷺ شخصاً في المسجد، وقد أكل ثوماً، فأمر بإخراجه من المسجد إلى مسافة ميل، يعني ألف وخمس مئة متر، وإذا كانت رائحة أحدهم أشدَّ من الثوم يجب أن نبعده إلى رأس الجبل، [جبل قاسيون في دمشق] ولكن المسلم لا يعرف! يجب أن يأتي إلى الجامع ويكون معطَّراً منظَّفاً.. انظروا إلى المسيحيين! يأتون إلى الكنائس بأجمل ثيابهم وأكثرها أناقة.. والله يقول: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج:32].
أهمية الخشوع في الصلاة:
﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا﴾ [الجمعة:9]، وما قال إلى أداء الصَّلاة، ففي الأولى ذكر اسم الصَّلاة، وفي المرَّة الثانية ذكر روح الصَّلاة والغاية من الصَّلاة، فالغاية من الصلاة هي ذكر الله وأن يمتلأ قلبُك من جلاله وعظمته ونورانيته، مما يُفِيْض عليك خشوعاً وتَفَهُّماً وإيماناً للعمل بما حدَّثك به ربك في صلاتك، ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ [البقرة:45]، أداؤها أمرٌ عظيم، فليس كلُّ واحد يُحْسِن أن يؤدِّي الصلاة ويقيمها: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ [البقرة:46]، يعني يَتَيَقَّنون ﴿أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة:46]، ومتى ستصير ذلك المسلم الذي يكون من الخاشعين ويمتلئ قلبك في صلاتك من عظمة الله وجلاله ومحبَّته والإقبال عليه ما ينسيك كلَّ ما سواه؟ حينئذ يُفاض عليك من العلم والحكمة والفضائل والأخلاق، كما وصف رسول الله ﷺ أصحابه بقوله: ((فقهاء)) ، ولم يكن عندهم “حاشية ابن عابدين” ولا “تحفة ابن حجر”، ولا كتب الشافعيِّ ولا الحنفيِّ ولا المالكيِّ ولا الحنبليِّ، وبماذا سمَّاهم؟ [فقهاء]، وما كانوا يعرفون من الوضوء إلا مثلما نحن نتوضأ، ولكن كانت لهم قلوب، فيغيبون في صلاتهم مع الله عزَّ وجلَّ، ويَصير كلُّهم مع الله، فيُفاض عليهم من العلم الإلهيِّ: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ [الكهف:65]، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة:282]، ﴿اقْرَأْ﴾ [العلق:1]، يعني تعلَّم وخذ العلم من أيِّ طريق؟ من طريق: ﴿اسْمِ رَبِّكَ﴾ [العلق:1]، وما اسم ربك؟ ما اسم ربكم؟ “الله”، فاذكر الله واجلس مع الله وتوجَّه إلى الله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة:282].
وفي الحديث القدسيِّ يقول الله عز وجلّ: ((أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي)) ، فإذا جلس أحدٌ مع بائع المسك، فالنبي ﷺ قال: ((الْجَلِيس الصَّالِحِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ، إمّا أن يبيعك، وإما أن يعطيك، وأما أن تشمّ منه رائحة طيبة)) ، فكيف إذا كان جليسك ربّ العالمين، الذي بيده الخير، ومصدر الجمال والعلم والحكمة والرًّوح والنُّور والحياة! فنسأل الله أن يجعلنا من المصلين: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون:2]، ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون:1-2]، وهذا معنى عندما ينادي المؤَذِّن: “حيَّ على الفلاح”، يعني حيَّ على الصَّلاة بخشوعها.. والخشوع هذا من الفقه، عليك أن تتعلَّمه من عارفٍ بالله وراثٍ لرسول الله ﷺ، تتعلَّمه من طريق الحبِّ والارتباط القلبيِّ والروحيِّ، تتعلَّمه بالطريقة التي ورد فيها الأثر: “ما صُبَّ في صدري شيءٌ إلا صَبَبْتُه في صدر أبي بكر” ، ((ولَوْ وُزِنَ إِيمَانُ أَبِي بَكْرٍ بإيمان الناس لَرَجَحَ)) .
قصة الإمام الغزالي مع أخيه:
﴿فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ﴾ [الجمعة:9]، ذروا البيع عملياً وبدنياً وكذلك ذروا البيع فكرياً، ففي صلاتك إذا كنت تبيع وتشتري، فأنت ما تركت البيع.
يقال: إن سبب دخول الإمام الغزالي في التصوُّف أنه كان له أخ اسمه أحمد الغزالي وكان صوفياً، ولم يكن يصلي وراء الإمام الغزاليِّ، فشكاه لأمِّه، وقال: “يا أمِّي إن أخي لا يصلي ورائي، والنَّاس تسيء الظنَّ فيَّ، ويقولون: لو تصح الصَّلاة وراءه لصلَّى أخوه وراءه”، فتدخلت الأمُّ في الموضوع مما جعل أحمد الغزالي بِرّاً بأمّه يصلي وراء أخيه الإمام، وفي أثناء صلاة الجماعة ما أكمل الفاتحة إلا أخوه أحمد سلَّم وترك الصلاة وخرج.. ولو أنه لم يصلِّ كان أفضل له! وهنا صارت الفضيحة أكبر، وجاء الإمام الغزالي لأمِّه وقال: “يا أمِّي ليته لم يصلّ معنا! لقد صلَّى معنا وفضحنا” فقالت له: “لماذا فعلت هذا مع أخيك؟” قال: “واللهِ يا أمَّاه عندما بدأ في الفاتحة كان مع الله.. فلما قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [الفاتحة:2]، كان بكلِّ جوارحه مع الله، وكذلك لما قرأ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة:3-5]، ولما وصل ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6]، رأيته غارقاً في بحرٍ من الدمِّ -وهذا كشفٌ قلبيٌّ بنور البصيرة- فكيف أقتدي بإمامٍ غارقٍ ببحر من الدم ويَسْبَح فيه؟” فحكت للغزالي الإمام، فقال لها: “صدق أخي، أنا في آخر الفاتحة فكَّرت في أمر المستحاضة” وهي التي يكون الدم معها جارٍ أكثر من العادة المعروفة، فهذا الحال الفكري رآه أخوه بنور بصيرته شيئاً محسوساً.. فالصلاة خشوعها أن تكون بكلِّك مع الله، فإذا استقبلت الكعبة بجسدك، تستقبل اللهَ بقلبك، هل ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾ للكعبة؟ بل: ﴿لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [الأنعام:79].. ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة:9]، لا بأبدانكم فقط بل وبعقولكم وقلوبكم وتوبتكم من ذنوبكم.
وجوب السعي نحو الذكر تلبية لنداء الله تعالى:
﴿وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ [الجمعة:9] ظاهراً وباطناً، حين تذهب إلى السوق يشتغِل قلبك في البيع والتجارة، أمَّا إذا كنت مع الله فهل تنشغل بالأحذية والسيارات والخشب والرزِّ والبرغل؟! لا يصح ذلك، فإذا قابلت رئيس الجمهورية أتقول له: برغل وعدس وبصل وغيره؟ والله أعلى وأجلُّ.. تحتاج شيخاً ينقلك من حبِّ الدُّنيا إلى التعلُّق بالله، ومن عشق ما سوى الله إلى الفناء في الله، وينقلك من إنسانٍ جسداً وبدناً وطعاماً وشراباً -والتي هي أيضاً من خصائص الحيوان- إلى ذكرٍ وإخباتٍ وخشوعٍ وعشقٍ إلهيٍّ، وإلى الحياة الملائكية وأنت في صورتك الجسديَّة، وهذا هو الإيمان! أضف إليه الحكمة، وذلك باعتبار أن الإسلام شمل أمور الدّنيا والآخرة، ولذلك فإن الصحابة رضوان الله عليهم لما فقهوا القرآن كانوا في أمور الدّنيا كلِّها أعظم رجالات العالم؛ ففي السياسية كانوا أعظم رجالات العالم، وفي الحرب كانوا أعظم رجالات العالم، وفي الدُّنيا [الغنى] كذلك، فسيّدنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما توفيّ كان له أربع زوجات، وكانت إحداهن مطلقة، وتوفي رضي الله عنه أثناء عدَّتها، فاختلفوا في ميراثها، فصالحوها على ثمانين ألف دينار، يعني أرضوها ترضية بثمانين ألف دينار.
العرب قبل الإسلام كانوا فقراء، وبالإسلام صاروا أغنياء، وقبل الإسلام كانوا أذلاء، وكانوا بين استعمار الفرس والروم، واستعمار الأحباش في الجنوب، وبالإسلام لم يُحَضِّروا أنفسهم فقط، بل شعوب العالم، وليس من الاستعمار العسكريّ فقط، بل من الجهل ومن الفقر ومن الخرافة حتى صاروا خير أمَّة في كلِّ شيء؛ في أمور الدُّنيا وفي أمور الآخرة، هذا هو الإسلام! والمسجد مدرسة هذا الإسلام، وللأسف فإن المسجد موجود ولكنه بلا أستاذ، والمصنع موجود لكنه بلا عمَّال، والمستشفى موجود ولكنه بلا أطبّاء.. فإن شاء الله يصير كلّ واحد منكم مسجداً؛ مسجداً سيَّاراً أينما سار يسير معه العلم والحكمة والتزكية والدّعوة إلى الله، وبالحكمة والموعظة الحسنة.
﴿ذَلِكُمْ﴾ الإقبالُ على الله والإعراضُ قلبياً عن الدُّنيا، خاصّة في أثناء الصلاة، والإعراض قلبياً لا بدنياً، [فنحن مأمورون بالعمل] ((إنَّ اللهَ يَكرهُ العبدَ البَطَّالَ)) ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الجمعة:9]، فإذا ما قدَّمت ما أخَّره الله، وإذا ما أخرَّت ما قدَّمه الله يدلُّ على الجهل وعدم العلم: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الجمعة:10]، يعني خلصتم من أمر الآخرة ومن المدرسة والدَّراسة، فابتغوا واركضوا.. ففي الصَّلاة: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة:9]، وفي أمور الدّنيا: ﴿وَابْتَغُوا﴾ [الجمعة:10]، فالله يأمرنا بالآخرة وبالدُّنيا، فإذا قصَّرت في دنياك كأنك قصرَّت في صلاتك.
المطلوب من المسلم أن يهتم بأمر دنياه وآخرته معاً:
((رأى النبي ﷺ رجلاً يتسول ويمد يده للناس قال له: ما هذا؟ قال له: يا رسول الله ليس عندي شيء، قال له: أما عندك في بيتك بعض متاع البيت؟ إلى أن وصل إلى قِدرٍ، قال له: هاتها، فأتى بها، ورفعها النبي ﷺ في مسجده، وقال: من يشتري؟ فبعضهم قال: بدرهم وبعضهم قال: بدرهمين، فباعها بدرهمين، قال له: خذ درهماً واشترِ به طعاماً وبالآخر اشترِ فأساً، وأتِ به إليَّ، فالنبي ﷺ نجَّر له خشبة وأدخلها بالفأس، وقال: اذهب إلى الغابة واحتطب، ولا تأتني إلا بعد أيام، وبعد أيام جاء قال له: كيف؟ قال له: معي عشرة دراهم، أغناني الله من فضله يا رسول الله)) .
فالإسلام نقلةٌ من الفقر إلى الغنى، ومن الذلِّ إلى العزِّ، ومن اللا عقلانية إلى العقلانية، وإلى الحكمة وإلى الأسباب والمسبَّبات، وبهذا صاروا خير أمَّة.. وفي العصور الأخيرة تبدَّلت الأمور، ولذلك صارت قوَّة المسلمين ضعفاً، وتقدّمُهم تخلُّفاً، وغناهم فقراً، وصاروا محكومين من أقلِّ شعوب العالم بعد حُكْمِهم للعالم، وهذا معنى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون:8]، والله تعالى قال عن اليهود: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ [البقرة:61]، ﴿الذِّلَّةُ﴾: هي تسلُّط العدوِّ حتى يذلَّك، ﴿وَالْمَسْكَنَةُ﴾: هي الفقر، والمسلمون الآن في ذلِّة تحت حكم اليهود، وفي مسكنة، فالعالم الإسلاميِّ اليوم لا يُعتَبَر من العالم المتقدِّم صناعياً أو اقتصادياً أو زراعياً، وهذا عكس الإسلام.
ازدهار الإسلام حديثاً على يد غير العرب:
وإذا بقينا على ما نحن عليه [فنحن الخاسرون]، فالإسلام مُقبِل وقادم، وأنا قلت لكم في سنة الثمانين: انتظروا عشر سنوات وستنتهي الشيوعيَّة.. -إلهامٌ من الله- والآن أقول لكم: لا ينتهي هذا القرن إلا وسيعود للإسلام عزُّه ومجده.. وكنت ذكرت لكم بأنَّ سفير ألمانيا في المغرب أسلم، فالتقيت به في القاهرة وتحدَّثت معه، فأخبرني أنَّه ألَّف كتاباً عنوانه: “الإسلام هو الحلُّ”، وقال لي: إنه ترجمه إلى الإنكليزيَّة ويترجم إلى العربية الآن.. وأنا طلبت منه نسخة بالعربية، ووعدني به لكنني نسيت أن أطلب منه باللغة الإنكليزية حتى نطبعه ونأخذه معنا في أسفارنا ونوزعه على الجامعات في أوروبا وفي أمريكا وما شابه.
والبارحة إحدى الطالبات عندكم في كلية الدَّعوة من ألمانيا اسمها “مريم” -الله يرضى عليها ما شاء الله- جاءتني، وليت مسلماتنا مثل الذين يسلمون جديداً! أكمامها إلى كفَّيها وثوبها إلى كعبي قدميها ولا يُرى من شعر رأسها ولا شعرة واحدة، غاضَّة البصر بكلِّ أدب، ولعلَّها تجلس معكم الآن في المسجد تسمع مع المستمعات -الله يرضى عليها- الظاهر أنها قرأت كتاب “الإسلام هو الحلُّ” وكتبت خلاصةً عنه، هل أقرأ لكم الخلاصة؟ والله شيء جميل جداً، أحسن من مئة شيخ من أمثالي.. إنهم يقوم بالدَّعوة للإسلام أفضل منَّا بمليون مرَّة! سفير وألماني وجديد الإسلام ويقوم بهذا العمل! أنتم ماذا تفعلون وماذا تعملون؟ أنتم عند الشيخ منذ عشرين سنة أو ثلاثين، ماذا تعملون لبناء الإسلام وإعادة تجديده؟
كتاب “الإسلام هو الحل”، “السؤال الأول: كيف أسلم “مُراد هوفمان”؟ قال: لا يوجد في هذا الكتاب أيُّ معلومات عن طريق تعرُّفه على الإسلام، وقد كان سفيراً لألمانيا في المغرب ولا يزال، وعاش بين المسلمين وتعرَّف هناك على الإسلام من خلال الكتب والمجتمع”.. والظاهر أنه اجتمع بشيخ أصيل حقيقي.. والشيخ لابد له أن يكون صاحبَ قلب وعقل وحكمة.
بعض الأفكار من كتاب “الإسلام هو الحل”:
قال: “معنى اسم الكتاب: إنّ الإسلام هو الطريق الأسلم بين النِّظامين الرأسمالي والشيوعيّ”، فالإسلام أحسن من النظام الرأسمالي وأحسن من النظام الشيوعيِّ، “لِلحَلّ الذي عجز عنه النظامان الرأسمالي والشيوعي لتحقيق الحاجات الإنسانيَّة في القرن الحادي والعشرين للمجتمعات الغربيَّة والصناعيَّة”، يعني أن الشيوعيَّة والرأسماليّة عجزت عن حلِّ المشاكل في القرن العشرين، أمَّا الإسلام فهو الذي سيحلُّ المشاكل الاقتصاديَّة والصناعيَّة في العالم الغربيِّ، ونحن المسلمون هل نفهم هكذا! نفهم الإسلام على أنه رجعيٌّ وأنه أَخَّرَنا إلى الوراء، وهذا صحيح بالنسبة للإسلام الذي نعتقده ونعمل به، [لأنه إسلام مزَيّف]، أمَّا الإسلام الحقيقيُّ فهو غير الذي نحن عليه.. نسأل الله أن يهيِّأ من يعلِّم المسلمين حقيقة الإسلام، الذي كلُّ خطوة فيه نجاحٌ لا فشل فيها، وهي إلى الأمام ولا تقهقر فيها.
“السّؤال الثالث: فيه محتويات، مرافعة لتحقيق الإسلام في البلاد الغربيّة على أساس نشر الإسلام، لتحقيق الإسلام في البلاد الغربية، على أساس التاريخ والعلوم والتعريف في المشاكل الحاليّة، بأنّه لا يحلّها إلا الإسلام”.. أليس هذا فقيهاً؟ هذا هو الفقيه! أما على طريقة فِقهنا.. فإذا قرأ رجلٌ كتب الفقه.. نسأل الله أن يعيننا.
“الباب الأوّل: السؤال والغرب”، قال: “الإسلام ليس دين السيف، بل هو الدين الذي يستحق أن يكون سائداً في المجتمع، وسيادة الإسلام تتم عن طريق العرض السليم والحوار، الذي يَنْتُج عنهما انجذاب المستمعين إليه”، يعني بمجرِّد أن يستمع المستمع للإسلام ينجذب بغير اختياره، ويقول: “كانت الحضارة الإسلاميَّة منذ القرن التاسع الميلاديِّ، وحتى القرن الرَّابع عشر أفضل حضارات العالم في العلوم والقضاء والغنى”.
قال: “إنّ المجتمع الصناعيّ الغربّي بدون حدودٍ خُلُقِيّة، دينُ تقدّمٍ ماديّ، والدّين الإسلاميّ لم يمت، فبعد استقلال البلاد العربيّة ظهر الإسلام ثانية”.. مع أنّي خائف كثيراً على الإسلام من هذا الظهور، فهذه السلبيات وما يسمونهم أصوليين والمشاكسة مع الحكومات، أقول أنا إن الإسلام لا ينبغي أن يكون بهذا الشكل، وينبغي أن تتعاون الدُّول مع الإسلاميين، والإسلاميون مع دولهم الوطنيَّة بالحكمة والموعظة الحسنة والحبِّ والحوار، لا بالسيف والرَّصاص والقتلى والجرحى، فما هكذا فعل رسول الله ﷺ.
وفي صلح الحديبية كان النبي ﷺ يستطيع أن يقاتل، ولو قاتل لانتصر، لكنه رضي بالصّلح مع معارضة الجيش كلّه، لأنّ شروط الصّلح كانت مذلّة للمسلمين، وأيضاً ما رضي المشركون أن يكتبوا كتاب الصّلح إلا بعد أن يمحوا كلمة رسول الله من المعاهدة، فقال النبي ﷺ لسيّدنا عليّ رضي الله عنه: “امحها”، قال له: “لا أمحها”، فقال له: “أين هي؟” قال له: “هنا”، فجاء النبي ﷺ ومحاها بإصبعه، ولم يقبلوا بكتابة: بسم الله الرّحمن الرحيم، وقالوا: “امحها واكتب: باسمك اللهم”، فثار الجيش وبكى سيّدنا عليّ رضي الله عنه.
هذه سنته ﷺ في السياسة، وهل سنّته في اللحية والمسواك فقط؟ أليس هناك سُنَّة في السياسة؟ هناك سُنَّة في السياسة والأكل والشرب والحرب.. والسُنّةَ: تعني طريقة النبي ﷺ في هذا الشيء، فيمحو كلمة رسول الله ﷺ والجيش كلُّه يثور! وما بقي مع النبي ﷺ ثابتاً إلا أبو بكر رضي الله عنه، حتى عمر رضي الله عنه ثار وكان يقول: لا نرضى بذلك، ونريد الحرب .. صلّى الله عليك يا سيّدي يا رسول الله.
“النّظام الغربيّ استبدل الحاجات الروحيّة بالحاجات الماديّة، ولقد فشلت في الغرب الأنظمة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والوطنيّة والاشتراكيّة والشيوعيّة”، وهذا هو السفير الألماني! ما جاء من حرستا، أو من دوما، أو من حارة الأكراد، أو من الشاغور! [هذه أسماء أحياء ومناطق في دمشق، وهو يعني بذلك أن هذا الرجل ليس عربياً منا، بل هو من الغرب ويتكلم بهذا الشكل عن الإسلام وعن الغرب!] بل من ألمانيا الاتحادية، وهو سفير.. وقال: “العالَم الغربيُّ طائر يطير بجناح واحد”، وقال: “يجب على الإنسان ألا يكتفي بالقرآن فقط، فمن الضروري دراسة الأحاديث والسيرة النبويَّة، لكي يفهم القرآن جيداً، والدِّينُ الإسلاميُّ هو الحجر الأخير لجميع الأديان”.
والباب الثالث: المسيحية في الإسلام، يقول فيه: “إنّ عيسى عليه السلام رسول الله في الدّين المسيحيّ الحقيقيّ، وهذا يوافق منطق الإسلام، والإسلام رفض فكرة الخطيئة الوراثيَّة” وأنَّ النّاس ورثوا خطيئة آدم، ولذلك عيسى صلب نفسه حتى يكفِّر الخطايا عن النّاس.. يقول هوفمان: إن هذه غير صحيحة، لأنَّ الإسلام رفضها والعقل يرفضها.. ويقول في كتابه: “إنّ الكنيسة قطعت علاقة الإنسان مع الله، وأصبح الدّين سياسة.. وإنَّ الكنيسة في العصر الحاضر قَبِلَتْ أنّ الإسلام هو أحد الأديان السماويّة”، وهذا ما صرح به الفاتيكان منذ سنوات قليلة، وهذا اعتراف بصحة الإسلام ويقتضي الاعتراف بأنَّ محمَّداً رسول الله ﷺ.. “والإسلام هو دين العلم ودين التقدُّم، والدّين المسيحيّ يناقض العلم” وهذا كلامه.
والباب الخامس والسّادس: “يوجد قضاءٌ وقدر، ولكنه مكتوب في علم الله الأزليِّ، والمستقبل للإسلام” ومثلُ هذا ما يقوله روجيه غارودي فيلسوف الفكرة الشيوعية في فرنسا.. ويقول هوفمان: “الإرهابيون ليسوا مسلمين حقيقين، ففي الإسلام لا يوجد إكراه، بل الإسلام مناقشةٌ وحوار”.. إنه يدافع عن الإسلام.. هم يتهمون الإسلام بالأصوليَّة، بينما هو يدافع عنه.. “ولا تجوز الدَّعوة إلى الدِّين بالسيطرة، وقد فعل المسيحيون في التاريخ مثل هذا من قبل” حيث كانوا يُكرِهون النَّاس على المسيحيّة، والذي لا يتنصَّر يقتلونه تحريقاً وتمزيقاً وبأشكال متنوعة، وهذا ما هو معروف عن محاكم التفتيش، “ولا يوجد حكمٌ أعظم تسامحاً من الحكم الإسلاميِّ.. والنّظام الغربيّ يفرّق بين حكم الدّولة وحكم الدّين، وهذا التفريق ليس عملياً، والإسلام دين ودولة” هذا قول السّفير الألمانيّ هوفمان.
“وإلى الآن لا يوجد دولة إسلامية حقيقِيّة” -كلامه واللهِ صحيح! ويمكن القول أنه يوجد في بعضها تلصيق وترقيع وإلى آخره- [يعني كمن يضع رقعة في الثوب أو يلصق شيئاً بشيء، ولكنه ليس الإسلام الحقيقي الكامل] “وفي الإسلام يوجد ملكية خاصَّة، وربح في البيع والشّراء.. ويجب على الحكومة أن تراقب تطبيق القوانين التجاريّة.. والهدف من الاقتصاد في الإسلام هو العدل الاجتماعي والاقتصادي” وإلى آخره.
عظماء الغرب يدخلون في الإسلام:
والخلاصة: أنه منذ مئة سنة وإلى الآن فإن أكثر من يدخل في الإسلام من عظماء العالم الغربيِّ، لكنهم الآن يدخلون في دين الله أفواجاً، وعليكم لذلك أن تشمِّروا وتكونوا أنتم جنود الدَّعوة في مجتمعكم وأسركم وعوائلكم وفي سَهَرَاتِكم، والله تعالى وصف المؤمنين فقال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة:71]، أحباب بعض ومناصرون لبعض، يساعد بعضهم بعضاً، وأوَّل صفة بعد وحدتهم وتماسكهم هي: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [التوبة:71]، فإذا رأيت تاركاً لفرضٍ من صلاة أو زكاة أو خُلُق أو قطيعة رحم أو برٍّ بالوالدين أو ما شابه، أو غشٍّ أو عدم أمانة أو عدم وفاء للوعد أو عدم صدق بالحديث: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [التوبة:71]، ((ومن أَمر بِمَعْرُوف فَلْيَكُن أمره بِمَعْرُوف)) .
سبب نزول الآية:
ونرجع لموضوع سورة الجمعة: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الجمعة:9-10]، سواءٌ فضل الله: تجارةً أو زراعة أو سياسة، أو صلة رحم أو عيادة مريض، أو زيارة إخوانهم في الله، ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً﴾ [الجمعة:10-11]، تجارة مَن؟ دِحْيَة الكلبيِّ ﴿أَوْ لَهْوًا﴾ [الجمعة:11]، ما اللهو؟ الدفوف عندما يستقبلون القافلة التجاريَّة، ﴿انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾ [الجمعة:11]، قائماً يخطب.. كان الإسلام في أوَّله وكثير من المسلمين ما نضج إسلامهم بعد، أما الناضجون منهم فلم يتركوا النبي ﷺ قائماً، بل بقوا يستمعون إليه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ [النور:62] إلى آخر الآية.
﴿قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ﴾ [الجمعة:11]، لا تركضوا إلى سماع الدفوف والطبول ﴿وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [الجمعة:11].. علينا أن نقرأ القرآن كما قرأه أصحاب رسول الله ﷺ، ونقرأه كما نفَّذه أصحاب رسول الله ﷺ.. واللهِ إذا صدقنا مع الله ذِكْراً وقلباً [نفوز فوزاً عظيماً في الدنيا والآخرة]، ولابدَّ لنا لتحصيل ذلك من المرشد المربي والحكيم المزكي.. ومن لا شيخ له فشيخه الشيطان.
حاجتنا إلى المعلم الحقيقي في كل أعمالنا:
إنّ النَّجار لا يتعلَّم النِّجارة من الحَدَّاد، والحَدَّاد لا يتعلَّم الحِدَادة من الحلاق، فإذا أردت أن تتعلَّم الإسلام الحقيقيَّ؛ الذي يعزُّ ولا يذلُّ، والذي يقوي ولا يُضعِف، والذي يتقدَّم ولا يتخلَّف، والذي يعطيك النَّصر والقوة والعزَّ والكرامة في الدُّنيا والآخرة، إن أردت ذلك تحتاج إلى مدرسة؛ مدرسة الإسلام، ومدرسة الحكمة، ومدرسة علوم القرآن، ومدرسة تزكية النَّفس وتطويرها من رذائلها ونقائصها وفسوقها وفجورها وحبِّها للدُّنيا.. ولا بأس أن تشتغل بالدُّنيا، فالله أمرنا أن نطلُبَها، لكن نطلبها للدار الآخرة، ونطلبها لنتقرَّب بها إلى الله، ونؤدِّي فرائض الله فيها، وذلك لأنفسنا ولأهلنا ولأرحامنا ولمجتمعنا ولما أمرنا الله أن نُنْفِقَه فيه، وبذلك تتحقق الآمال وبذلك ننصر دين الله: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد:7].
((لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بك رجلاً واحداً، خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ)) فما أعظم أن يهدي الله على يديك إنساناً من الغفلة إلى الذكر، ومن الجهل إلى العلم، ومن الفسق إلى التّقوى، ومن صحبة الأشرار إلى صحبة الأخيار! والنبي ﷺ يقول ذلك، وهو ليس بالغشاش، فاهدِ على يديك إن استطعت في الجمعة ولو رجلاً واحداً؛ ابن عمك أو أخاك، أو رفيقك أو صديقك أو جارك، والمرأة كذلك، وإذا هدى الله على يدك اثنين فهذا أحسن.
اللهم اجعلنا هادين مهديين، ولا تجعلنا ضالِّين ولا مضلِّين.