مقت الله على من يقول ما لا يفعل:
نحن الآن في تفسير سورة الصّف، يقول الله تعالى: بسم الله الرّحمن الرّحيم ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً﴾ [الصف:1-3] المقت أشدّ الغضب، والغضب الشديد اسمه المقت، يُقال: فلان غَضب على فلان، وإذا قيل: فلان مقت فلانًا فيعني أنه غَضب عليه غضباً شديداً، ﴿كَبُرَ مَقْتاً﴾ [الصف:3] ليس المقت فقط، بل المقت الكبير، وهو فوق الغضب الشّديد.. ومتى يكون غضبُ الله عزَّ وجلَّ على الإنسان الغضبَ الشّديدَ وفوق الغضب الشّديد؟ قال: هو في حال أن تقولوا ما لا تفعلون.. يعني أن تقول قولاً وتدّعي دعوى في الإيمان أو في الإسلام، ولكن في ميدان العمل لا وجود لها ولا حقيقة، ففي ميدان القول أو الادّعاء أو التمنّي تجد الإنسان مدّعياً ومُعتقداً في نفسِه صحّة الدعوى، ويكون لا أثر للحقيقة فيما يدّعي ويَنْتَمِي ويتمنّى، وهذا الإنسان لا يستحقّ من الله المقت وشدّة الغضب وحسب، بل يستحق من الله أشدّ المقت.. هل هذا مفهوم؟
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الصف:2-3] لا يَمقتكم الله عزَّ وجلَّ فقط، بل يَمقتكم المقت الكبير ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف:3] هذه الآية كان لها سبب، فقد اجتمع نفرٌ من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، قال: “قعدنا نفراً من أصحاب رسول الله ﷺ فتذاكرنا، فقلنا: لو نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله عزَّ وجلَّ لعملناه؟” لو نعرف أحبّ شيء إلى الله عزَّ وجلَّ مما نستطيع أن نعمله حتَّى نفعله! فأنزل الله تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف:1-2] تتمنّون أنّ أدلّكم على أحبّ الأعمال إليّ؛ إلى الله عزَّ وجلَّ، فإذا دللتكم أجد بعضكم لا يعمل ما أحبّه، وهو الذي طلبتم معرفته لتعملوه، فلمّا عرّفتكم به لم تعملوه! فلِمَ هذا الادّعاء؟ ولماذا هذا التخلّف وعدم الوفاء بما تدّعون وتتمنون؟ لِمَ؟ فادّعاؤكم وتمنّيكم لعمل كُلّفتم به وطُلِب إليكم أن تعملوه فلم تعملوه يوقعكم لا في مقت الله عزَّ وجلَّ وغضبه الشّديد وحسب، بل في أكبر المقت ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف:3].
ما أحبّ الأعمال إلى الله؟:
إذا كنتم تريدون أن أدلّكم على أحبّ الأعمال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصف:4] هل تريدون أن أدلكم على شيء أحبّه؟ أريدكم أن تبذلوا أرواحكم ومُهجكم ودماءكم وأموالكم وكلّ طاقاتكم في نشر هذا الدّين وإخراج النَّاس من الجهالة إلى العلم، ومن الضّعف إلى القوّة، ومن التمزّق إلى الوحدة، ومن التخلّف إلى التقدّم، ومن عبادة الأهواء والأجساد إلى أن تكونوا في أكمل العبودية لله عزَّ وجلَّ، وأن تُظهِروا هذه الحقائق لا في التمنّيات، بل في الأعمال والأخلاق والسّلوك والجهاد، وفي كلّ ميادين الحياة، فهذا هو أحبّ الأعمال إلى الله! وأنتم تقولون: “لو أننا نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله عزَّ وجلَّ لعملناه!” أي: دلّنا يا ربنا على ما تحبّ حتَّى نعمله؟ فقال الله لهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ﴾ [الصف:4].. وهذا يعني أنّ الحوار والمناقشة والحديث المتبادل بين الإنسان وبين السَّماء، بين العباد وبين الله عزَّ وجلَّ كان قائماً، فإذا سألوا يجيبهم، وإذا طلبوا يعطِهم، وإذا استفهموا واستوضحوا يوضّح لهم.
الدعوة إلى وحدة الصف:
﴿صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصف:4] كيف يكون البُنيان عندما يوضع في القالب ويضغطونه “بالـمَكْبَس” ويصير قطعة واحدة؟ [المـَكْبَس: آلة تستعمل لكبس المعادن وغيرها وتحوّلها إلى قوالب] قال: إنّ الله يحبّ أن يكون المسلمون وهم في أشدّ الأحوال خطراً على الحياة وعلى الوجود، التي تطير فيها القلوب فزعاً والنفوس هلعاً، ويتمزّق فيها النَّاس جميعاً ويتفرقون، يحب أن يكونوا كُتلةً فولاذية، فلا يتفرقون عن نبيّهم ولا عن جماعتهم، ويكونون ثابتين كالبُنيان المرصوص، حيث لا توجد لَبِنة ساقطة، أو حجر واقع، أو فراغ لا يُؤْمَن، ولا يوجد أحجار مُتَبَدِّدَة متفرّقة كأحجار الأطلال وأحجار الأبنية المهدّمة من مئات السنين.
هذه الآية في سورة الصّف.. والمسلمون اليوم يقرؤون القرآن، والمصاحف موجودة مثل التلال والجبال، والتفاسير بالعشرات والمئات، ويُقرَأ القرآن بأحسن الأنغام وبالقراءات الأربعة عشرة.. يا ترى ما أَثَرُ كلّ هذه الأمور في أن نحوّل القرآن من حِبْرٍ أسود -والقرآن كلّه يُكتَب بدواة أو دواتين بقيمة خمسين ليرة تقريباً- فإذا كان القرآن كناية عن هذا الحبر أو كناية عن التلاوة التي هي صوت هوائي وفقط، لا يثمر عملًا ولا يحوّل الألفاظ والتلاوة إلى واقع وحقيقة وعمل، ويقرأ القارئون والمستمعون والمؤلّفون وطلاب العِلْمِ العِلْمَ لا ليحوّلوه إلى عمل، ولا ليحولوا العمل إلى إخلاص.. فإذا كان هذا هو الواقع، فقد ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف:3].
القرآن مدرسة:
القرآن ليس كتاب قراءة، بل هو مدرسة ومصنع.. فالحديد يُؤتى به من الجبال ومن أعماق الأرض مخلوطاً بالتراب والأحجار والرّمال، فيدخل إلى المصنع أحجاراً وتراباً، ويخرج من المصنع سيارة أو طائرة، ولو بقيَ الحديد على وضعه الخام، أو بقي الذهب خاماً بين التراب والأحجار.. فالسوار يكون موجوداً في صخرة وزنها عشرة أطنان، فإذا أرادت المرأة أن تضعه بيدها بوزن عشرة أطنان، فستُطحَن وتصير كالطّحين.. فكذلك لا تغترّوا إذا قرأتم القرآن أو حفظتم القرآن من أوله إلى آخره! وهذا شيء حسن وشيء جميل ويحبّه الله عزَّ وجلَّ، لكن ما الفائدة إذا اشتريت سيارة طراز “مرسيدس خمس مئة أو اللوكس” [أسماء سيارات حديثة وفاخرة في زمن هذا الدرس] ولم تركبها ولم تستعملها ولم تشترها للعمل؟ بل اشتريتها لتقول: سيارة، سيارة، سيارة.. فقد حفظت الاسم، ولكنك لم تحقق الغاية من وجودها التي هي ركوبها واجتياز المسافات البعيدة بواسطتها.
كيف نتعلم الإسلام؟:
إن الإسلامَ إسلامُ العمل والأخلاق والقلب.. وإيمان القلب يُنال بقراءة القرآن فقط، وقد كانت الهجرة فرضاً على المرأة وعلى الطفل وعلى المريض وعلى المـُقعَد، ماذا تعني الهجرة؟ تعني اللقاء بالمعلّم المربّي الحكيم، والارتباط به ارتباط الروح بالجسد والجسد بالرّوح: ((لا يؤمن أحدكم حتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ، وَنَفْسِهِ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ)) ، و((لا إيمان لِمَن لا محبّة له)) ، يعني هل عليه أن يحبّ زوجته حتَّى يصير مؤمناً، أو يحبّ المال، أو يحبّ الأولاد، أو يحب الأرباح؟ بل أن يحب الله عزَّ وجلَّ ورسوله ﷺ.. وبعد رسول الله ﷺ من أين نتعلّم الحبّ؟ نتعلمه من وارث مُحمَّديّ.. فهذا الوارث المُحمَّديّ إذا كان في بغداد، في مصر، أو في الهند تجب الهجرة إليه.. هاجر مولانا خالد النقشبنديّ إلى المدينة؛ إلى قبر النَّبي ﷺ، وقبر النَّبي ﷺ لا يُعلِّم، فهل قال النَّبي ﷺ لأصحابه: الزموا قبري بعد وفاتي؟ أم قال: ((اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ)) بالشَّيخين ((مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ)) ؟ مولانا خالد لم يهاجر إلى مكة، لأنّ مكة ليست إلا سماءً وجدرانًا، وما القبّة إلا جدران ونوافذ، والنَّبي ﷺ قال: إذا فقدتموني، فلي وكلاء ونُوّاب ووَرثة، يَرِثون العلم والحكمة والتزكية.. ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ [الذاريات:50] ﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [العنكبوت:26] ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [النساء:97] الذين تقاعسوا وتكاسلوا عن الهجرة إلى النَّبي ﷺ.. وكانت الهجرة في ذلك الوقت تعني أن تَترُك المرأة زوجها وأولادها وبيتها، وتَترُك كلّ شيء لتنجو بإيمانها وتملأ بطارية إيمانها بالنّور المُحمَّديّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾ [الممتحنة:10].
وبعد النَّبي مُحمَّد ﷺ يا ترى هل نجلس عند قبره نتعلّم الكتاب والحكمة ونتزكى؟ لا! قال: ((الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)) ، ((إنّ ملائكة السَّماء والطير في الهواء والسّمك في الماء لَيُصَلُّونَ)) ألا نقول: اللهم صلِّ على سيِّدنا مُحمَّد؟ فالملائكة في السَّماء إذا وُجِدَ من يُعلّم النَّاس الخير، يقولون: اللهم صلِّ على فلان، وهل فقط الملائكة؟ قال: ((والطير)) فالغربان تعرف معلّم الخير وتقدّره وتقدّسه وتصلّي عليه وتتبارك به، والحيتان في الماء والدّواب.. هذا كلام النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام! وكم من بني آدم بأجسامهم، ولكنهم بهائم بعقولهم وبقلوبهم! ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان:44] ﴿أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ﴾ قال: لا ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف:179].
عقوبة التقاعس عن الهجرة:
وقد بيّن القرآن الكريم خاتمة المتقاعسين عن الهجرة إلى النَّبي ﷺ عند موتهم، فتسألهم الملائكة: ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾ في أي بلد؟ ولِمَ لَمْ تُهاجروا؟ فيجيبونهم: ﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ [النساء:97] أي: لا نملك مالاً، أو أننا ضعافٌ أو مرضى.. وقد يكنون قادرين مع عُذرهم أن يهاجروا، فالفقير يمكن أن يَستدين أجرة السّفر، والمرضى منهم من يستطيع السفر، ومنهم من يكون مُقعَداً [لا يستطيع]، لكنّ الإنسان إذا قصد الشيء يستطيع أن يصل إليه بأيّ وسيلة كانت، فالله عزَّ وجلَّ لا يقبل عُذرهم: ﴿قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ [النساء:97].
حتَّى عُدّ من جملة الكبائر وعظائم الذنوب: ((التعرّب بعد الهجرة)) ، بعد ما هاجر إلى النَّبي ﷺ ليدخل في مدرسته يرجع إلى بلده، أو إلى باديته وأعرابيته، لأنّ الوحي كان دائمًا ينزل والعلوم في زيادة، قال: ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً﴾ [النساء:97-98] ليست عنده أية وسيلة حتَّى يهاجر، فهو إمّا كسيح، أو امرأة عمرها تسعون سنة.. حتَّى الأطفال [كانوا مُكَلَّفين بالهجرة]، فقد قال تعالى: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ فالله عزَّ وجلَّ يكلّف الولد بالهجرة.. ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً﴾ ليست عنده وسيلة توصله إلى الهجرة إلى النَّبي ﷺ، ﴿وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ [النساء:98] لا يعرف الطريق، فالطريق خمس مئة كيلو متر، وفيه صحراء وجبال ووديان وقطّاع طريق ووحوش.. ﴿فَأُولَئِكَ﴾ هؤلاء الضعفاء ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ ليس شيئًا مؤكّدًا، وإن كانت “عسى” من الله تُعْتَبَر بحسب سياق العبارة مؤكدة، ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [النساء:99] لمن؟
فكانت الهجرة أن يتركوا الأموال والأولاد والأهل والأزواج.. الآن تعال يا بني وهاجر في الأسبوع ساعة حتَّى تتعلّم القرآن والحكمة وتتزكى نفسك.. وإذا لم تحصل لك رابطة قلبيّة وروحيّة مع الوارث المُحمَّديّ [فستبقى مكانك].. عليك أن تحبّه حبّاً.. وهذا الحبّ لا ينفع الشَّيخ، بل ينفعك أنت، فإذا نحن أحببنا الله عزَّ وجلَّ فهل ننفع الله أم ننفع أنفُسنا؟ وإذا أحببنا النَّبي ﷺ هل ننفع أنفُسنا أم ننفع النَّبي ﷺ؟ كذلك الإنسان إذا وُفِّق إلى حبّ من يعلّمه الكتاب والحكمة ويزكيه فينقله من الغفلة إلى الذكر، ومن الجهالة إلى العلم، ومن الحُمْق إلى الحلم، ومن البؤس والشّقاء والتعاسة والفقر إلى عكس معانيها، لأنّ علوم القرآن والإسلام تنقلك دائماً إلى الحالة الأفضل في دينك ودنياك، في عقلك وفكرك وقلبك، وفي روحانيتك.. وإذا لم يكن “الفَرْغُون” [العربة المقطورة التي يجرها القطار] مربوطاً برِباط فولاذي بالقاطرة [القطار الرئيس الذي فيه المحرِّك ويجرّ المقطورات] فتمشي القاطرة ويبقى الفرغون في مكانه.. فالبقرة تُربَط بالرَّسن، والفَرْغُون يُربط بالرباط الفولاذيّ، أمّا الرباط بمن يعلِّم الكتابَ والحكمة، فليس هناك غير رباط الحبّ الصّادق، الحبّ الحقيقيّ، لا حبّ التمنِّي ولا حبّ الخيال والادّعاء، بل الحبّ العمليّ.
حقيقة المعرفة:
شيخنا -قدّس الله روحه- لما اجتمع بشيخه وعرف الشَّيخَ المعرفة الحقَّة.. كثير من النَّاس يأتون إلى الشَّيخ ويبقون عشرات السنين ولا يعرفون الشَّيخ، فهم يحتاجون إلى من يُعَرِّفهم من هو الشَّيخ؟ هناك معرفة بالآذان [بالسماع]، وهناك معرفة لا تُنال إلا بالقلب، حين يحيا القلب بذكر الله وتتفتح عيونه، فيعرف من هو الشَّيخ، وتتفتح آذان قلبه فيعرف ما هي حكمة الشَّيخ.. فلما عرف شيخُنا شيخَه المعرفة الحقّة سأل شيخَه: بماذا يستطيع المريد أن يؤدِّيَ حقّ شيخه؟ قال له: بالخدمة الصّادقة.. وأنا قد وفقني الله عزَّ وجلَّ، ووفقني بلا حدود.. واللهِ إنّ كل ذلك البذار حصدناه بشيء لا يخطر على البال، من كلّ الأمور ومن كلّ النواحي.
ماذا حصد سيِّدنا أبو بكر رضي الله عنه من حبّه لرسول الله ﷺ؟ صار فوق الأباطرة وفوق العلماء والفلاسفة.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا التوفيق.. يوجد بعض الإخوان واللهِ يشبهون أصحاب رسول الله ﷺ في إيمانهم؛ نساءً ورجالًا، شِيْبًا وشُبَّانًا، لأنّ الرابطة والمعرفة القلبية غير المعرفة الفكريّة، وغير المعرفة السماعيّة.
فالخلاصة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف:2-3] فما دمتم تسألون ما أحبّ الأعمال حتَّى نعملها؟ فأحبّ الأعمال إليّ؛ يعني إلى الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصف:4]، والمثل على ذلك اليوم الجامعة العربيّة وفلسطين، وقد مضى عليهم خمسون سنة، فهل توحّدوا؟ ألا نقول [وننادي] بالوحدة؟ لكننا لا نتوحد، ووَحْدَتُنا على الورق فقط، من مراكش إلى الكويت وإلى الخليج، هل وَحَّدَتْنا العروبة؟ وهل وحدتنا القومية؟ إنّ الذي وحّد العرب بعد أن كانوا شَذَر مَذر هو الإيمان وهو أستاذ الإيمان.. فهل الإيمان أمر بسيط ويصير بسهولة؟ وهل الإيمان وَرَقٌ أو ورق المصحف؟ كان الإيمان هو النبي ﷺ، فهو الذي كان شمس الإيمان التي كانوا يدركون بها حقائق الأرض والسَّماء، فوَحَّدَهم بشخصه الفرد، حيث كانت الوحدة بذلك المدد الإلهيّ، وهل وحّد الجزيرة العربية فقط؟ بل حرّر فلسطين والأردن وسوريا ومصر، وحرّر شمال أفريقيا وإيران، إلى أن وصل هذا التحرير إلى حدود الصّين وحدود فرنسا، هذا هو الأستاذ المحرِّر.. العروبة والقومية وكلّ المبادئ التي استعملها العرب رأوا أنه لا فائدة منها فاستبدلوها، ثم استبدلوا ثم استبدلوا، ولا يزالون يستبدلون.. وَلَيْتَهُم بقوا في مكانهم، بل هم دائماً إلى وراء.
حقيقة الإسلام:
فالقصّة هيَ أنه لا يوجد من يُحسِن تعليم الكتاب والحكمة والتّزكية، [وهذا ليس موجوداً في] الأزهر أو كلّيات الشريعة أو الدّعوة أو المعاهد الدينيّة، لأن الإسلام ليس ورقًا يُقرَأ وكلماتٍ تُحفَظ، الإيمان روح يُمازِج روحك فيحرِقُ من قلبك كلّ ما سوى الله عزَّ وجلَّ، ويُشعِل قلبك وروحك بنيران الحبّ الملتهب، حتَّى لا تجد شيئاً في هذا الوجود إلا المحبوب والأعمال التي تُقرِّبك من المحبوب، وحتى أنك لا تَعُدْ تُفَكِّر بالحبّ، وترى نَفْسَك وأنت في كلّ الأعمال التي يُحبّها الله ورسوله، سواء في ذلك الأعمال أو الأخلاق أو النّفس أو الفكر أو الأصدقاء، أو استعمال الحياة والعُمُر والأوقات، وتصير كُلّها في مرضاة الله عزَّ وجلَّ.
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُهيّئ لنا وللمسلمين الوَرَثة لرسول الله ﷺ، الذين يُعلِّمون القرآن، لا النّطق بألفاظه والتجويد لحروفه وحسب، بل التعليم لأعماله، والتّطبيق لأحكامه، والتخلّق بأخلاقه، والتنفيذ لأوامره، والعمل بوصاياه، حتَّى يكون أينما وُجِدَ المسلم أو المسلمة كما إذا وُجِدَ النّور، فأينما وُجِدَ النّور يَطرَد الظّلام، وأينما وُجِدَ المؤمن الحقّ والمسلمة الحقّة يُطرَد الجهل وأخلاقه والغفلة وسوء السّلوك، وأينما وُجِدَ المؤمن تجده آمرً بالمعروف ناهياً عن المُنكر معلّماً للناس ما يجب أن يَعْلَموه ولو كان طفلاً.. نقرأ في القرآن: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ [مريم:12] آتيناه الحكمة: يعني أيّها المسلمون ليكن أطفالكم حكماء! فمنذ الطفولة يتعلّم الحكمة، كيف يضع الأشياء في مواضعها، ويَنطِق بحكمة، ويعمل بحكمة، ويحبّ بحكمة، ويسهر بحكمة، ويُصاحب بحكمة.
قصة من حكمة الصغار:
يقولون: وَجَدَ أحَدُ الصالحين في يوم عيد أطفالاً يلعبون، وإلى جانبهم طفلاً يبكي، فاقترب من الطفل في بكائه وقال له: يا بنيّ ما لك تبكي؟ لعلّه لا يوجد عندك ما تشتري به لُعَباً تَلعب بها مع زملائك؟ فقل لي: ماذا تحبّ أن أشتري لك من اللُعَب حتَّى أُلبِّيَك، قال: فنظر الغلام فيَّ باهتًا، وعليه نظرة الازدراء والاحتقار، وقال: يا عمّ! أوَلِلَّعب خُلِقْنا؟.. الآن صار اللعب ديناً تُعمَّرُ له المساجد بآلاف الأمتار، وطلاب العلم تحت المطر وتحت حرارة الشَّمس يدوسون على بعضهم البعض، وماذا يتعلّمون؟ لا يتعلّمون شيئًا! يشاهدون اللاعبين فقط ساعة وساعتين وثلاثاً من دون أن يسألهم أحد على ماذا ضيعتم وقتكم، أو أنهم سيُصابون بالزكام تحت الشمس والمطر.. فالرّياضة مطلوبة، والذين يلعبون يُمارسون الرياضة، أمّا أنتم فماذا تفعلون؟ فكم تُصرَف أوقاتٌ في التلفزيون على مَشَاهد فارغة! ولماذا لا تُستَبدَل هذه المَشاهِد بدروس علمية وتربويّة وأخلاقيّة ووطنيّة وصناعيّة وعائليّة وإلى آخره؟ فقال له: يا بني! أنت طفل صغير، لم يجرِ عليك قلم التكليف، وأنت ما زلت مُسَامَحاً، فقال: يا عمّ! أَمَا رأيت زوجتك حينما تُوْقِد النَّار لتطبخ تُشْعِل الحطب الكبير بالحطب الصّغير؟ فأنا أخشى أن يُشعِل الله بي وبأمثالي من الأطفال نار جهنم.. قال: فعلمت أنّه أُوتِيَ الحكمة وهو غلام.. الآن أحدهم يبلغ من العمر سبعين سنة ولا يعرف الحكمة العلميّة ولا غيرها، والحكمة العلمية هي: “أن تعرف الأمور التي تُقْدِمُ عليها بحقائقها وأبعادها وعواقبها” فتدرس المعركة قبل أن تدخلها من كلّ النّواحي، حتَّى تعرف طريق النّصر [عقلياً] بعقلك، ثمّ تطبّقه بأعمالك، فَتَصِل إلى النّصر، وذلك في تجارتك وفي زراعتك وفي كلّ شؤون الحياة، والنَّبي ﷺ يقول: ((إذا أردت أمرًا فَتَدَبَّرْ عَاقِبَتَهُ فإن كَانَ رُشْدًا فَأَمْضِهِ وَإِنْ كَانَ غَيًّا فَانْتَهِ)) .. فأين هذا الإسلام؟
حقيقة أعمال المحب:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الصف: 2- 3]، إن كنت محبّاً للشَّيخ، فهل هذه حقيقة عمليّة؟ وهل أعمالك أعمال المحبّ؟ وهل قلبك قلب المحبّ؟ أنت تقول الحبّ، ولكن لا تعرف بعدُ ما هو الحبّ! لا في القلب ولا في النّفس ولا في العمل ولا في السّمع ولا في البصر، ولربما كلمة تأخُذُك وكلمة تَرُدُّك، كان عليه الصَّلاة والسَّلام يقول: ((آية المنافق ثلاث)) علامة المنافق ثلاث علامات: ((من إذا حدّث كذب))، لا يكذب الإنسان ولو على طفل صغير، لأنّك إذا كذبت أمامه تكون أستاذه في الكذب.
ذكر لي أحد إخوانكم أنه كان في فرنسا عند صديق فرنسيّ، وهو في البيت يلعب مع ابن صاحب البيت، فابتعد عنه الطفل، فقال له: تعال لأعطيك “مُلَبَّساً” [نوع من الحلوى السورية صغيرة الحجم]، ومدّ يده إلى جيبه، فأدركت أم الطفل الفرنسية أنّه يكذب عليه، قال لي: بسرعة البرق فتحت الخزانة وأخرجت علبة المُلَبَّس وملأت يدها ووضعتها في جيبي، وقالت: أعطِه ملبّساً، قال: لماذا فعلتِ هذا وأتعبتِ نفْسَك؟ فقالت: ابني لا يعرف الكذب! وخفت ألَّا يكون في جيبك ملبّساً، فيتعلّم الكذب من تصرفك معه.. يقولون: هذه كافرة، أليس كذلك؟ الرجل في السّوق أو في المحل أو في المعاملات يكذب خمس مئة كذبة وهو يظن نفسه أول المسلمين! أليس كذلك؟ هل هذا ﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47]؟ هذه من علامات النّفاق.
علامات النفاق:
((آية المنافق ثلاث: من إذا حدّث كذب)) لا تكذب على زوجتك، ولا على الزوج، إلا إذا كانت لا تحبّه وقالت له: أحبّكَ، فلا بأس، أو إذا كان لا يحبّها وقال لها: أحبّك.. وإذا قالت له: أريد ثوباً قيمته ثلاثة أو أربعة آلاف ليرة ولا يملكها، فهل يستدين ويُحَمِّل نفسه فوق طاقته؟ فلو كذب عليها واشترى لها ثوباً وقال: هذا سعره ثلاثة أو أربعة آلاف فهذا مسامَح به، لأنّه لا ينتج منه إلا الصلاح والإصلاح.
((وإذا وعد أخلف)) كثيرٌ من النَّاس يقول: أنا سآتي إليك عند الساعة العاشرة، فتصير الساعة العاشرة والربع، ثم العاشرة والنصف، فالحادية عشرة إلا ربعاً، ثم الحادية عشرة.. وخصوصاً إذا كانوا مشايخ! يتأخّر ساعة ونصف أو ساعتين، وأحيانًا لا يأتي ولا يَتَّصل، بينما حدثتكم من أسبوعين عن السفير السويسري وقد تأخّر عن موعد زيارته ثلاث دقائق، فاعتذر اعتذاراً كأنّه قد ارتكب غلطة كبيرة، هل هذا كافر ونحن مسلمون؟ والنَّبي ﷺ ماذا يقول؟ هل يقول: “آية المسلم إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف”؟ لماذا تقول سآتي السّاعة الخامسة؟ قل سأتأخر حتى الساعة الخامسة والربع، لكن أن تقول الخامسة، ثم تأتي في الساعة الخامسة ودقيقة فلا يصلح إذا كنت تريد أن تصير مسلماً، أما إذا كنت مسلم الأمانيّ والتمني، مسلم الكذب، مسلم النّفاق، فأنت وما تختار.
المؤمن لا يكذب:
فالمؤمن إذا حدّث صدق، يصدق ولا يخاف من الصّدق، وإذا أخطأ يعتذر، وإذا أذنب يستغفر، أما أن يكذب! قالوا: يا رسول الله، أيسرق المؤمن؟ أيزني المؤمن؟ أيسكر المؤمن؟ قال: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً﴾ [الأحزاب:38]، قالوا: أيكذب؟ قال: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ [النحل:105] ، فكم من مسلم يكذب على المسلم؟ أو يروي كَذِب الكذّابين؟ لا يكذب من عنده اختراعاً، لكن يكذب تصديراً، فذاك يكذب بالجُمْلَة وهو يكذب بالمُفَرَّق، فلو أنك ذكرت الله عزَّ وجلَّ من غير أن يتحوّل الذكر إلى عمل وإلى أخلاق وإلى سلوك وإلى واقع فقد ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف:3].
((من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) ، إن أقرضك أحدهم دَيناً فقد ائتمنك، وكذلك إن أودع عندك وديعةً، أو تكلم أمامك عن سِرٍّ أو كلمة.. النَّبي ﷺ قال: ((الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ)) ، فلا يجوز أن تقول لآخر: فلان هكذا قال لي.. فعندما أراد النَّبي ﷺ فتح مكة كتم تجهيز الجيش كتماناً، حتَّى لا تستعد قريش لمجابهة النَّبي ﷺ، حيث أراد أن يفاجئهم فلا تحدث إِثارةٌ ولا سَفكٌ للدماء، فدخل سيِّدنا أبو بكر رضي الله عنه على زوجة النَّبي ﷺ وهي ابنته عائشة رضي الله عنها، فرأى علامة إعداد المسافر لعدّة السفر من الزوّادَة والفرس وغير ذلك، قال لها: خيراً! ماذا هناك؟ وسيدتنا عائشة رضي الله عنها تعلم، ولكنها كتمت السر وقالت: لا أعلم، ومن الذي يسألها؟ أبوها الذي هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.. لمن قالت: لا أعلم؟ قالتها لرئيس وزراء النبي ﷺ.
يتكلم الواحد منا اليوم كلمة أمام صديق أو أمام أخٍ فيقوم هذا بنقلها، فيفسد عمله أو سرّه أو تجارته أو بيعه أو زواجه، أو يؤذيه، فهذا منافق ولو كان يصلي كلّ يوم ألف ركعة! ((آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: من إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)).. هل أنتم مؤمنون؟ هل تقولون ما تفعلون؟ أو تقولون ما لا تفعلون؟ افحصوا أنفسكم، غداً يوم القيامة سيفحصكم الله عزَّ وجلَّ، ﴿وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا﴾ من حسنة أو سيئة ﴿وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء:47].. إذا كان المحاسِب هو الله عزَّ وجلَّ فهل تفوته غلطة؟ وهل تفوته علامة؟ فنحن أمام حساب دقيق، والمراقبون “والمخابرات” التابعون لله عزَّ وجلَّ يسجّلون علينا كلماتنا ونظراتنا، ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران:154]. [المخابرات: كلمة في العامية السورية، ويُقصَد بها رجال الأمن، حيث يراقبون الناس بالخفاء ولا تفوتهم صغيرة أو كبيرة إلا يسجلونها ويحاسبون عليها شر حساب، وهو تشبيه تقريباً لأذهان المستمعين]
فلا ينفد من الحساب الملوك ولا الرؤساء ولا المشايخ ولا العلماء.. وإذا كنّا مؤمنين بالقرآن فسنضع حصاة تحت لساننا، وسنضع مغاليق لأبصارنا، وأبواباً لآذاننا، لأنه: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ﴾، إن كان في قلبك غِلّ أو حقد أو غشّ أو نيّة سوء أو مكر، ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾ [الإسراء:36] ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً﴾ [الإسراء:38].
حقيقة التسبيح:
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ [الصف:1] فالتّسبيح: هو الاعتقاد بكمال الله عزَّ وجلَّ في أحكامه؛ فأحكامه كلّها كاملة، وشريعته كلّها كاملة، وصفاته كلّها كاملة، وعلمه لا يغيب عنه شيء: ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ [سبأ:3]، وسمعه كامل، وعدله كامل، فلا تعتقد في الله عزَّ وجلَّ إلا الكمال، الكمال في أقداره: فإذا وقعت أقداره عليك أن تكون راضياً بقضاء الله وقدره، قال: ليس هذا فقط، بل كلّ ما في السماوات والأرض من شجر وحجر ونبات وحيوان ومَلَك يعتقد في الله عزَّ وجلَّ هذا الكمال.
وأنت يا إنسان! يا مدّعي الإيمان والإسلام! هل تعتقد في الله عزَّ وجلَّ الكمال في شرعه وفي أحكامه؟ إذا أعطى للمرأة نصف الميراث تقول: لا! المرأة يجب أن تأخذ مثل الرجل.. فأنت هكذا لا تُسَبّح، بل تعتقد أنّ التشريع الإلهيّ ناقص.. وتقول: يا رب لم فعلت معي هذا؟ تعتقد أن الله عزَّ وجلَّ لا يفعل معك الفعل الصحيح، بل يفعل معك الفعل الخطأ.
عندما أرسل الله عزَّ وجلَّ سيِّدنا موسى عليه السَّلام إلى فرعون قال: يا ربي عيالي! من سيتكفل بحوائجهم وبأكلهم وشربهم وما إلى ذلك؟ قال: يا موسى اضرب بعصاك هذا الحجر، فضربه فانفلق، وخرج من داخله حجر ثانٍ، قال: اضرب الثاني، ثم الثالث، ثم الرابع، حتى خرجت من الحجر الداخلي دودة وفي فمها شيء تأكله، وهي تقول: “سبحان من يراني ويعلم مكاني ويذكرني، فيطعمني ولا ينساني!” .
فإذا أصابتك مصيبة لا تقل: لماذا فعلت معي هكذا يا الله؟ ولكن قل: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى:30]، قل: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة:155-156] هذا علم القرآن وعلم الكتاب: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ [البقرة:129].
تسبيح الحصى بين يديه ﷺ:
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ [الصف:1].. أتى مرّة أَحدُ المشركين إلى النَّبي ﷺ وقال له: أريد شيئاً يثبت لي أنك صادق في النّبوة! فأخذ النَّبي ﷺ بيده حفنة من الحصى وقال له: ((هذه الحصيات تشهد لي بالنّبوة))، فإذا بالحصيات تُسبِّح في كفّ رسول الله ﷺ .. هي في الأصل تُسبِّح، لكن بقوّة النّبوة رُفِع الحِجابُ عن الحاضرين فسمعوا تسبيح الحصى في كفّه الشريف صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.. فالتسبيح ليس أن تقول: سبحان الله وحسب، بل أن تعتقد بنزاهة الله عزَّ وجلَّ وكماله في أقداره وفرائضه ومحرماته، إن كان قد حرّم شيئاً فهذا كمال، وإن كان قد فَرَض شيئاً فهذا كمال، وإن كان قد أمرك بشيء فهذا كمال، أما إذا اعتقدت بخلاف ذلك فأنت تفعل عكس التّسبيح، وهكذا فالجماد والحيوان والنبات أفقه منك بدين الله عزَّ وجلَّ.
عليك أن تبحث على من يُعَلِّمك هذا التسبيح، فإن عثرت عليه فقد عثرت على الكنز الذي لا يفنى.
مولانا خالد مع أنّه كان رئيس علماء العراق، ورئيس كلّ العلماء، لما رأى شيخه العارف بالله الشَّيخ عبد الله الدهلوي رجع طفلاً، ثم هاجر من العراق إلى الهند، ودخل في مدرسة الخَلوةِ ثمانيةَ أشهرٍ، فخرج شمساً وقمراً منيراً، فأنار الشرق الأوسط كُلَّهُ، وذلك بخلوة ثمانية أشهر.. فأنتم طُلاب العلم خاصّة، وكلّ مسلم وكلّ مسلمة، الزموا الذِّكْر ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة:282]، ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:41] وبعد الذِّكْر الكثير قال: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [الأحزاب:43].
تشريع الله تعالى قائم على الحكمة:
قال: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ الذي لا يُغلَب ولا يُقهَر، ولا مثيل له ولا نِدّ، ﴿الْحَكِيمُ﴾ [الصف:1] عِلْمُه كلّه حكمة، وتشريعه كلّه قائم على الحكمة، وكلّه عدل وإحسان وكمال.. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فنرد بقولنا: “لبيك اللهم لبيك”، هل نقول لبيك بالكلام أم بالفعل؟ فالآن قلتم: لبيك، لكن حين يقول لنا ربنا تبارك وتعالى: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف:2] هل أنتم عازمون على أن تقولوا ما لا تفعلون أم أن تقولوا ما تفعلون؟ أولئك كانوا مع الله يفعلون أحبّ الأعمال إليه، وكانوا مع النَّاس يقولون ويفعلون، فإذا وعدنا أو بعنا أو اشترينا لا نتراجع، فإذا بِعتَ فلا يجوز أن تَرجِعَ في بَيعِك، وإذا وَعدت فلا يجوز أن تُخلِفَ وعدك، ولو على طفل صغير.
يروى أن أمّاً نادت طفلها على مَشهدٍ من رسول الله ﷺ وقد ابتعد عنها، قالت له: تعال حتَّى أعطيك تمرًا؟ فسألها النَّبي ﷺ: ((هل تريدين أن تعطيه؟)) قالت: نعم يا رسول لله، قال: ((أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة)) .. امرأة فرنسيّة تطبّق كلام النَّبي ﷺ وهي لا تعرف النَّبي ﷺ ولا سمعت حديثه، والمسلم يسمع حديث النَّبي ﷺ مرّات ومرّات ولا يُطَبِّقه، معنى ذلك أنه ليس له قلب ولم يلقِ السمع وهو شهيد، يعني لا عقل له ولا قلب.
طرفة: قول مفتي حلب في الناقصات عقل ودين:
حدثني مرة مفتي حلب السابق الشَّيخ مُحمَّد الحكيم -رحمه الله- أنّ شيخاً يروي في أحد الدروس حديث: ((النّساءُ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ)) ، فقامت إحدى المتفلسفات وقالت له: يا أستاذ! لماذا يُحقِّر النبي ﷺ المرأة بهذه الطريقة؟ هذا ظلمٌ للمرأة، لماذا النساء ناقصات عقل ودين؟ قال لها: يا ابنتي هذا الكلام ليس في حقّ نساء القرن العشرين، بل هو في حقّ النساء اللواتي كنَّ في زمان النَّبي ﷺ، كنَّ أعرابياتٍ جاهليات، فقالت: إذا كان القصد هكذا فهو واللهِ صحيح! ونحن كيف حالنا؟ فقال لها: أنتنّ بلا عقل ولا دين أبداً.. مُفْلِسات.
وأنا أخاف أن لا يكون الرجال ناقصي عقل ودين، بل أن يكونوا بلا عقل ولا دين.. تنظر إلى مسلم فتراه أنيقاً، وقد يكون ممن يصلي ويصوم، لكن لا تجد وعداً له ولا أمانةً في معاملته وحديثه، فلا تستطيع أن تتكلم أمامه بحديث، وإذا وعد لا يفي، وإذا حدّث لا يصدق، وإذا اؤتمن لا يؤدّي، فأين الإسلام وأين الصَّلاة من هذه الأعمال؟ قد يكون ذاكراً ويأتي إلى الشَّيخ ويكون من إخوان الشَّيخ.. هناك من الصحابة من ارتد، ومنهم كاتب من كتاب الوحي، من ائتمنَه النَّبي ﷺ على القرآن، وساق وأخذ رَسَنَ ناقة النَّبي ﷺ في حجّة الوداع، ارتدّ في خلافة أبي بكر أو عمر رضي الله عنهما.. اللهم ثبتنا بقولك الثابت.. يا مقلب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك.
يحب الله منك أن تقول خيراً وتفعل خيراً:
قال: ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف:3] من منكم يحبّ أن يصير ممقوتاً؟ يعني أن يكون الله عزَّ وجلَّ غاضباً عليه أشدّ الغضب، وهو المقت، بل وأكبر المقت، فمن يُحب أن يكون هكذا منكم فليرفع يده؟ بالتمنّي لا أحد يحبّ أن يكون ممقوتاً، أما بالعمل فعليك أن تكون صادقاً في الحديث، وفيّاً للعهد، أميناً في الأمانات، تقول وتفعل، وتقول خيراً وتفعله، وإذا قلت شرّاً ولم تفعله فهذا فعلٌ يحبّه الله عزَّ وجلَّ.. كان النَّبي ﷺ يقول: ((ما حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها))، حلف أن يفعل شيئاً من الخير، لكنه بعد أن حلف أنه مَثَلاً: لا يعطيه إلا مئة ليرة، ظهر له أن من المصلَحة أن يعطيه ألفاً، فيقول: أنا قد حلفت يميناً.. قال: أعطه ألفاً ولو كنت قد حلفت، لأنه عليك أن تنتقل إلى ما هو الأفضل ولو حنثت في اليمين.
قال: ((إنّي لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها)) أمّا إذا كنتَ حالفاً على شرّ فأقسمتَ بأنك ستضربه أو تقتله أو تهينه أو تفضحه؛ فالنَّبي ﷺ قال: ((إنّي لا أحلف على يمين)) أي في عمل الخير [لا في عمل الشر] ((وأرى غيرها خيرًا منها، إلا فعلت الذي هو خير وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي)) .. يقول: “أخي أنا لا أرجع عن كلامي!” إذاً كلام النَّبي ﷺ مُرْمى على الأرض وكلامك هو الصحيح! فهل أنت مسلم؟ وهل أنتِ مسلمة؟ وهذا الكلام كثيراً ما يكون من الحَمَاة [أم الزوج] مع “الكَنَّة” [زوجة الابن]، وسيِّدة البيت مع الخادمة، وصاحب العمل مع ربّ العمل، والقويّ مع الضعيف، والحاكم مع المحكوم، والمؤتمن على خدمة الأمة والدّولة الذي يعمل بخلاف مصلحة الأمّة والدّولة.. فهذا الكلام ليس إسلاماً ولا وجداناً ولا ضميراً ولا أخلاقاً ولا عقلاً.
تخرج من مدرسة القرآن عظماء التاريخ:
ماذا أخرجت لنا مدرسة الإسلام والقرآن؟ تَخَرَّج منها عظماء التّاريخ وعظماء العالم، تخرجوا بالقرآن، بهذا الكتاب وحده، على الرغم من أنه لم يكن في زمن النَّبي ﷺ مجموعاً كَكِتاب، بل كان مكتوباً على الحجارة، وكلّ واحد عنده حجران أو ثلاثة كتب عليها شيئاً، والثاني كتب على كتف الخروف، والثالث كتب على كتف الماعز، والرابع كتب على ورق النّخل، ولم يكن كلّ القرآن مكتوباً، لأنّه لم ينزل دفعة واحدة.. لكن ببركة ذوبانهم في حبّ رسول الله ﷺ، وقوّة روحانية النَّبي ﷺ، وقوّة ارتباطهم الحُبِّي برسول الله ﷺ كان القرآن حين ينزل يتحوّل فيهم أخلاقاً وأعمالاً وحكمةً وسلوكاً، فصاروا ((عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ فقهاء، كَادُوا مِنْ فِقْهِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ)) .
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً﴾ [الصف:4].. ففي المعركة، والرؤوس تتطاير وتتدحرج مثل كرة القدم، ومع كلّ هذه الأخطار، والموت محيطٌ ومُتَغَلغِلٌ في كلّ الصفوف، ما تمزّقت وحدتهم ولا صفوفهم.. نرى المسلمين اليوم [غير متحدين] -حتَّى أنتم يا أبناء الجامع وخاصة النساء- تقول: “حَلَقَتي وحَلَقَتُها”! [“حلقتي وحلقتها”: أسلوب مستخدم في العامية، بمعنى مدح حلقتي وذم ونقد الحلقات الأخرى.. والمقصود بها الحلقات العلمية والدينية في مسجد أبي النور، مسجد سماحة الشيخ رحمه الله تعالى، حيث النشاط الإسلامي فيه قائم على الحلقات، والتي تُعَدُّ بالآلاف، وهناك حلقات للرجال، وحلقات في قسم آخر للنساء.. حيث يُنَبِّه سماحته إلى مرض أخلاقي وإيماني يصيب أحياناً بعض الحلقات في المسجد وهو التعصب للحلقة، وهذا التعصب قد يُوَلِّد أنانية وتفرقة، ويجعل العمل الدعوي بعيداً عن الإخلاص لله تعالى، وهو مرض قد يوجد بين الإخوة، لكنه بين الأخوات غالباً ما يكون أكثر] أين: ﴿صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصف:4]؟ أنتِ لا تعملين لله وللإسلام! الله عزَّ وجلَّ قال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة:71].. فإذا انتقلت الأختُ من حَلَقَتِها إلى حلقة ثانية تغضب [مُشْرِفة الحلقة] غضباً شديداً! إذاً أنتِ تعملين لنفسك وهواك وأنانيتك، فعملكِ حابط ومرفوض وغير مقبول عند الله عزَّ وجلَّ.
إحسان الشيخ لمن عاداه:
رأيتم كم أساء الإخوان المسلمين إليّ وكم فعلوا! كلكم تعرفون والدّنيا كلّها تعرف مدى إساءتهم.. [هذه مرحلة معروفة من تاريخ سماحة الشيخ، ولا بد للكلام فيها شيئاً ما لمن لا يعرفها، وقد كان رحمه الله في بعض الأحيان يشير إليها إشارة سريعة في دروسه، ولم يذكر كلمة “الإخوان المسلمين” إلا نادراً وفي المجالس الخاصة، وكان كثيراً ما يمدح الشيخ حسن البنا مؤسسة حركة الإخوان المسلمين في دروسه العامة حتى وفاته، ويرى أنه الداعي المطلوب في هذا العصر، الذي استطاع المشي على خطى النبي ﷺ في دعوته.. وقد كان سماحته مع الإخوان المسلمين في البداية، لكنه لما صارت لهم نشاطات سياسية ابتعدوا فيها عن التربية والدعوة، وظهر منهم العداء لحكامهم المَحَلِّيِّين، وظهر من بعض أعضائهم القتل والعداء لمن عاداهم وخالفهم، قال بكل وضوح: إن هذا ليس هو منهج النبي ﷺ، وإن تلك الأعمال ليست إسلامية ولا حكيمة، وإن التعامل مع حكامنا المسلمين يجب أن يكون بالنصح والدعوة، وهو أسلم بكثير من المحاربة والعداء، وأن نهاية هذا الطريق ستكون الفشل، خاصة وأن القائمين على ذلك ليس لهم قوة لمجابهة الدولة، وليست عندهم خطة واضحة لقيادة دولة واسعة متعددة الملل والأفكار.. ومن هنا بدأت الخصومات، فحاربوه بالدعايات والشائعات في شخصه وفي أسرته، وكان بعض الناس يُكَفِّرونه ويُفَسِّقونه، حتى وصل الأمر إلى محاولة اغتياله عدة مرات، لكن الله حفظه ونجّاه، وعانى كثيراً في حياته من تلك العداوة.. وكان من أكثر الأمور التي يُشِيْعُونها بين الناس: إن الشيخ كفتارو من مشايخ السلطان الضالين، الذين باعوا دينهم بدنياهم.. لكن اتضح لأكثر الشيوخ منهم فيما بعد أن أسلوب الشيخ كان هو الأسلم والأفضل، لذلك غيروا أسلوبهم ومشوا على أسلوب الشيخ في التعامل مع الحاكم، وهو الأسلوب الإسلامي؛ أسلوب الحكمة واللين والقول الحسن والمداراة وتجنب العداء.. وكان واضحاً لكل مطلع أنه فقط من سلك هذا الأسلوب استطاع البقاء والعمل الدعوي في سوريا]
واللهِ حين يقع أحدهم في أيّ مشكلة، فأنا لا أنظر إليه أنّه عاداني، بل أنظر إليه على أنه مسلم: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة:71].. فإن كان واقعاً في بؤس، أو واقعاً في شدّة، فالمسلمون كالجسد وكالبنيان المرصوص.. عدوّي المسلم يسُبّني ويشتمني، لكن إذا وقع في كَرْب أو ضيق، واللهِ أساعده بكلّ طاقاتي.. وألذّ ما يكون على قلبي أن أقدّم المساعدة بكلّ الطاقات الممكنة والمشروعة التي يرضاها الله ورسوله لمن يعاديني أو يؤذيني..
إخوان يرضعون من ثدي واحد، تحت سقف واحد، في مسجد واحد، وعند شيخ واحد.. فهذه الأخت يجب أن تجدد إسلامها قبل أن تجدد الطريق أو تجدد الذكر، وهذه قبل أن تَذْكُر يلزمها تربية أخلاقيّة وسلوكيّة، وبعد ذلك فلتذكر الله عزَّ وجلَّ.. هذه الأمور والأخطاء البسيطة إن شاء الله لا يكون لها أثر لا في الإخوان ولا في الأخوات، فيتواضعن لبعضهن البعض، ويحب بعضهن بعضًا، وكل واحدة منهنّ تعتقد أنها “تِبنٌ” وأختها “سمِيد”، [التِّبْن: معروف، وهو عود السنبلة وورقها عندما تيبس، وهو طعام للحيوانات لا للبشر، والسَّمِيْد: يؤخذ من لُبّ حبة القمح، وهو من أغلى الأشياء التي تُسْتَخرَج من حبة القمح] ويعتقد الأخ نفسه “شَنِينة” وأخوه صاحب الحلقة الثانية هو الزبدة وهو السمنة [الشنِيْنة: كلمة تستخدم في العامية السورية، وهي البقايا التي تَخرُج من الحليب عند صنع الزُّبْدَة أو السَّمْن، حيث يُعالج الحليب طويلاً ليخرج منه السمن، فيباع بأغلى الأثمان، بينما الشنينة ترمى غالباً، ولا ثمن لها عند البيع.. وهذه مقارنة من سماحة الشيخ بمعنى: انظر لنفسك مع أخيك لا أنك رديء وهو غال، بل أنك الأردأ وهو الأغلى]، ولا يعتقد أن أخاه نِخَالَةً وهو الكَعْك السَّمْيد، [النِّخالَة: قِشْرُ حبة القمح، حيث كانت من قبل لا قيمة لها، وكان يُضرَب بها المثل للشيء الذي لا قيمة له] فإن كان هكذا فهو معجَب بنفسه متكبر ومغرور، ولن يكون من الناجين، ولا ممن استوت حسناته وسيئاته، وسيكون خاسراً، وستكون هي خاسرة خسارة كبيرة.
العجز اليوم عن تحقيق الوحدة:
كيف حال المسلمين اليوم؟ والمؤتمر الإسلامي الذي عُقِد في جدة من أجل البوسنة والهرسك، ماذا كانت نتيجته؟ وهل استطاعت دول الجامعة العربية خلال خمسين سنة أن تتوحد مع بعضها؟ الوحدة بالكلام والتمني شيء هيّن، ووجود الجامعة شيء هيّن، والمؤتمر الإسلاميّ شيء هيّن، لكن هل المسلمون يا ترى في هذه الدول الأربعين أو الخمسين مطبّقون للإسلام على أنفسهم وعلى حكوماتهم وعلى وسائل الإعلام؟.. والإسلام أُبعِد عن قلوب المسلمين، وعاداه غيرُ المسلمين، لأنّ القائمين على الدّين الإسلاميّ -نحن الشُّيوخ- لا نُحسِنُ طبخه كغذاءٍ للقلوب والعقول، ولا نُحسِن تصويره بجماله وكماله حتَّى يُعشَق من القلوب والنّفوس.
الدور العظيم للمسجد النبوي:
هل كان مسجد النَّبي ﷺ مثل مسجد أبي النّور؟ كانوا يسجدون على التراب ولا حصيرة لديهم، ولم يكن فيه بساط أو حصير طول حياة النَّبي ﷺ، وكان السقف من سعف” النخل، وإذا هطل المطر يسجدون بين الماء والطين.. فإذا حدث لكم وأنتم قادمون إلى المسجد كما كان يحدث لهم، فهل تدعكم نساؤكم تأتون مرة أخرى إلى المسجد؟ فأنت اتسخت بَدْلَتُك، والثاني اتسخ بِنْطَالُه.. في زمن أبي بكر رضي الله عنه كانوا يصلون على التراب، وبقوا كذلك إلى خلافة عمر رضي الله عنه حين اغتنى الناس قليلاً.. لذلك إخواننا المسلمون في إيران يصلون على قُرْص [من تراب]، اقتداءً بالنَّبي ﷺ أنّه ما سجد إلا على التراب، فالنَّاس كانوا يظنّون قبل خمسين سنة أنهم يعبدون القرص! وهذا كله جَهل في جهل، وهم كانوا يعتقدون فينا الجهل ونحن نعتقده فيهم، لكن الحمد لله فهذه الحواجز الآن بدأت تزول ولا يبقى لها أثر.
وهل مسجد النَّبي ﷺ مثل الجامع الأموي؟ المسجد الأموي هل له إنتاج؟ والمسجد الحرام أُنفِقت عليه المليارات لكن هل استطاع أن يُوحِّد المسلمين؟ المسلم اليوم يطوف ولا يعرف معنى الطواف، ويحجّ ولا يعرف معنى الحجّ، ويُحرِم ولا يعرف معنى الإحرام، وكانت المرأة في الجاهلية وعبَّادُ الأصنام يفهمون الحجّ أكثر من كثيرٍ من المسلمين اليوم! فكانوا عندما يأتون إلى الحجّ يخلعون ثيابهم، ويبقون عراةً! ويقولون: لا نطوف بثياب عصينا الله فيها.. الآن لماذا يُلبَس الإحرام؟ معناه أني أريد أن أخلع كلّ ذنوبي، وأريد أن أخلع كلّ المعاصي التي عصيت الله عزَّ وجلَّ بها، وأريد أن ألبس ثوب التوبة الجديد وأستقيم على صراط الله حتَّى ألقى الله عزَّ وجلَّ، هذا معنى من معاني الإحرام، فكانوا يستعيرون من أهل مكة ثياباً، حيث كانوا يعتقدون أن أهل مكة هم أهل الحرم وأناسٌ مقدّسون وثيابهم مقدّسة، فإذا لم يجد أحدهم ما يستعيره يطوف بالكعبة في منتصف الليل عرياناً، وكذلك كانت تفعل نساؤهم، ولم تكن الكهرباء موجودة عند الكعبة ولا غيرها، وكان حول الكعبة صحراء ووديان، وكانت المرأة تضع يدها على عورتها وتقول
اليومَ يبدو بعضُهُ أو كلُّهُ وما بدا منهُ فلا أُحِلُّهُ
انظر أيضاً إلى أخلاق النساء في الجاهلية! تقول: أنا لا أقع في الزنا أبداً.
فالشاهد أنَّ مسجد النَّبي ﷺ المتواضع في بنيانه، بنى نصف العالم إيماناً وإسلاماً، فهل الجدران هي التي تبني؟ هل اللّبِن أو الطين أو الرخام؟ الذي يبني هو إمام المسجد، والذي يبني هو خطيب المسجد، فكيف إذا كان الإمام والخطيب هو النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام أفضل من مشى على وجه الأرض؟ نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يهيّئ للمساجد أئمتها، وأن يصلح كل المسلمين رُعاة ورعيّة، وأن يحيي المساجد بالعلم وبالحكمة وبالتزكية، يعني يحييها بالعلماء والحكماء والأولياء.
عزاء النَّبيّ ﷺ بما جرى للأنبياء من قبله:
يقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ [الصف:5] هذا الكلام فيه عزاء للنّبيّ ﷺ، فقد كان النَّاس يعذبونه ويسبونه ويشتمونه ويتكلمون عليه ويتهمونه.. وهل الداعي إلى الله عزَّ وجلَّ يصير بسهولة؟ الآن أنتم هل صرتم هكذا وحدكم؟ أنتم حصيلة تعب قُرابة المئة سنة، فشيخنا تعب خمسين سنة وأنا قرابة الخمسين سنة، وهل نضجتم أم ليس بعد؟.. التين إذا كان غير ناضج ووُضِع في الفم فماذا يحدث؟ يكون مزعجاً في الفم.. يبقى التين تيناً، ولكنَّ هناك فرق بين التينة الناضجة الذابلة والمُشَقَّقَة والتي ينزل منها العسل، [العسل هنا ليس عسلاً حقيقياً يخرج من النحل، بل هو مادة حلوة تخرج من ثمرة التين، تُسَمَّى باللهجة العامية عسلاً] وبين التي تكون قاسية مثل الحجر [ولم تنضج بعد]، أليس هناك فرق؟ فالاسم واحد ولكن النتيجة والفعالية تختلف، أليس كذلك؟ أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلكم تيناً ناضجاً.
فالنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام خاض بحاراً ومعارك، ولم يبقَ نوع من الإيذاء سواء بالأقوال والأعمال من ضرب وشتم إلا تعرض له، فقد قتلوا ابنته، وذلك حين هيجوا الجمل الذي كانت تركبه وهي حبلى فوقعت وأسقطت حملها وماتت، وتذكرون أيضاً عندما حاكوا مؤامرة حتَّى يقتلوه ليلة الهجرة، وكان يقول: ((ما أوذي نبيّ مثلي)) .. كم كان “الرّاتب” [الأجرة الشهرية] الذي يعطوه له؟ قالوا له: نعطيك نصف أموالنا على أن ترجع عن المبدأ وعن الإسلام، فقال لهم: ((يَا عَمّ، وَاَللّهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ)) ، فالداعي إلى الله عزَّ وجلَّ إذا رشَوه برشوة أو خوّفه أعوان الباطل بشيء ما، هل يقبل الرشوة؟ النَّبي ﷺ يقول هذا الكلام حتَّى نكون نحن نسخة عنه في الدّعوة إلى الله عزَّ وجلَّ والصّبر على مشقاتها في سلوكنا وفي مشينا في دربها.
ويُذَكِّر الله عزَّ وجلَّ نبيَّنا عليه الصلاة والسلام بسيِّدنا موسى عليه السَّلام: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي﴾ [الصف:5] كلّ الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام أوذوا، فكان سيِّدنا نوح عليه السَّلام يُضرَب ويُضرَب حتَّى يُغمى عليه، ويقول الآباء للأبناء: لا تصدقوه فإن آباءنا قالوا عنه إنّه مجنون خَرِفٌ ولا عقل له.. ضرب وشتم ودعايات.. أليس هذا ما يحدث مع الدّاعي إلى الله عزَّ وجلَّ في هذه الأيام؟ فإذا كان هناك محبٌّ فكم واحد في المقابل يركل ويضرب ويعضّ ويتكلم أشكالاً وألواناً، ألا تعرفون هذا؟ ربما تعرفونه أكثر مني.
الصبر على الأذى في سبيل الدعوة:
فما أحلى أن نُؤذى في الله عزَّ وجلَّ! ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ فقبل كلّ شيء هاجروا، ﴿وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ وهذا أذى ﴿وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي﴾ [آل عمران:195]، فافرح حين يصيبك أذى من أجل دينك، من أجل دعوتك، من أجل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، لكن عليك أن تتحلى بالحكمة والموعظة الحسنة والصّدق والإخلاص.. فالأمر بالمعروف واجب على الطفل وعلى المرأة وعلى الرّجل، فهذا واجب على كلّ منّا إذا رأى منكراً يُفعَل أو فريضة تُترَك، فالأخت مع أختها، والأمّ مع ابنتها، والبنت مع أمها، والجارة مع جارتها، ((لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)) .
ثم يقول: ﴿لِمَ تُؤْذُونَنِي﴾ [الصف: 5]؟ ما هو الذنب الذي فعله النبي ﷺ مع العرب؟ هل لأنه أراد أن يجعلهم ملوكاً؟ أو لأنه أراد أن ينقلهم من الفقر إلى الغنى؟ أو أن ينقلهم من الاستعمار إلى الاستقلال؟ ومن الاستعمار إلى أن يقودوا الأمم والعالم؟
أريدُ حياتَه ويريدُ قتلي فأتركُ ما أريدُ لما يريدُ
[الشاهد هنا في قول الشاعر: أريد حياته ويريد قتلي، لا الشطر الثاني]
لا يمكن إنكار الحق:
يقول الله تعالى: ﴿وَقَد تَّعۡلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡۖ فَلَمَّا زَاغُوٓاْ﴾ [الصف:5]، فالنّبوة كالشَّمس، هل يستطيع أحد أن ينكر وجود الشمس؟ فإذا كان المرء له عيون ويراها ويرى ضوءها ويقول لك: لا يوجد شمس! فمعنى ذلك أن هذا الشخص لا يفقد العلم، بل يفقد تقبّل الحقيقة، فهو يرفض قبول الحقيقة، يقول عن النّهار إنه ليل، فأي دليل وأي إقناع يقنعه! هو يقول لك: أنا لا أريد أن أقتنع، وأنا لست محتاجاً إلى الدّليل، وأنا مصرٌّ على رفض الحقيقة.. فهكذا ابتُلِي الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام، وهكذا يُبتلَى الدّعاة وكلّ مؤمن، لكن الذي يتغلّب على هذه الصعاب كلها في هذه المعارك هو الصّلة بالله عزَّ وجلَّ، والحكمة، والاحتساب عند الله تعالى، والصّبر والصمود.
الحرص على هداية النَّاس:
((ولأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا)) فالمرأة إذا هَدَى الله عزَّ وجلَّ على يدها جارتها أو “ابنة حماها” [أخت زوجها] أو أختها أو أمّها؛ فعملها هذا واللهِ خيرٌ من الدنيا وما عليها بشهادة رسول الله ﷺ.. وقد يحصل لك أذى وتتعرض للاتهام، فهذا يقول عنك: أحمق، والآخر يقول عنك: مُغرِض، وهذا يقول عنك كذا وكذا وإلى آخره.. وقد قالوا عن النَّبي ﷺ أكثر من ذلك، ألا يجب أن يكون لنا أُسوةٌ في رسول الله ﷺ؟
من اختار الضلال فعليه وزره:
قال: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا﴾ بعد ما بيّن لهم الحقائق مثل الشَّمس الساطعة، ولهم عيون ولكن لا يبصرون بها الحقائق، ﴿أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5] يعني أن الله عزَّ وجلّ لا يُوقِع الإنسان في الضّلال وهو يحبّ الهدى، ولا يوقعه في الجهل وهو يعشق العلم، ولا يُبعِده عن مائدة السّعادة وهو عاشقها وطالبها، ولكنه عندما يُعرِض عنها: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا﴾ وعدلوا وهربوا وابتعدوا ﴿أَزَاغَ اللَّهُ﴾ عن الهداية ﴿قُلُوبَهُمْ﴾، ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الصف:5] الفسق: هو ترك الصّراط المستقيم، ترك أحباب الله ومعاداة الدعاة إليه، فهل سيهديه الله عزَّ وجلَّ وهو بهذه الصفات؟
يختار قرناء السّوء والأصدقاء الفسقة، فسهراته واجتماعاته سهرات اللغو والحرام والغيبة والنميمة، والله يقول: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾ سهراتهم واجتماعاتهم ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاس﴾ [النساء:114] القرآن يقول لك: إذا اجتمعت بصديقك في سهرة عند أصدقائك أو جيرانك، فيجب أن لا تخلوَ جلستكم من أحد هذه الأشياء الثلاثة.. ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَنَٰجَيۡتُمۡ فَلَا تَتَنَٰجَوۡاْ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المجادلة:9] أليس هذا قرآنًا؟ عندما نحفظها أو نقرؤها في المصحف هل فهمناها؟ وهل حولناها من قول إلى عمل؟ فإذا أكلت الرُّزّ وخرج رزّاً من بطنك كما هو، فهل تكون انتفعت منه بشيء؟ فهو لم يُهضَم، وكذلك القرآن حين تقرؤه إذا لم يُهضَم ويتحوّل فيك إلى عمل وأخلاق وسلوك، ولا يمكن أن يحدث لك ذلك حتَّى تذكر الله عزَّ وجلَّ ذكراً كثيراً، وترتبط بأحباب الله ربطاً فولاذيّاً، وتنتقي الجُلسَاء الصّالحين، وتنتقين الجليسات الصّالحات، ولا تكون غيبة لإنسان في جلستكَ أو جلستكِ، فإنّ ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِه)) .
و((الغيبة أن تذكر أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)) وإن كان حقّا،ً فيجب ألَّا يكون في قلبك غشّ لمسلم، ولا يكون في قلبكِ غشّ لمسلمة، وأن تحبِّي لأختك المسلمة كما تحبين لنفسكِ، فلنفتّش أنفسنا لنرى المرأة بمواصفات الإسلام هل هي مسلمة؟ وهل الداعية صارت مسلمة؟ أم فيها حسد وغيرة وأنانية وحبّ الاستعلاء وحب الظهور والرياء حتَّى يراها النَّاس ويسمعوا عنها ويُعجَبوا بها؟ هذا كلّه مُحبِطٌ للعمل ((النَّاس هلكى إلا العالِمين)) والعلم مهلك، ((والعالِمون هلكى إلا العاملين، والعاملون هلكى إلا المخلصين)) . ويكون عملنا لله عزَّ وجلَّ سواء مدحونا أو ذمونا، رفعونا أو خفضونا، كرّمونا أو لم يكرّمونا، فيكفينا أن نكون مع الله عزَّ وجلَّ صادقين.
لما زاغوا أزاغ الله قلوبهم:
﴿فَلَمَّا زَاغُوا﴾ [الصف:5] الله عزَّ وجلَّ يُضِلّ، أليس كذلك؟ ولكن متى يُضِلّ؟ عندما تزيغ أنت عن طريق الهدى، وتحارب أهل الهدى، وتختار أهل الضّلالة محبّة وصداقة ومجالسة ومؤاكلة ومشاربة، فأنت الذي زغت واخترت الزيغ، وأنت ضللت واخترت الضّلال وأهل الضّلال، فأصحابك ضالّون ومجالسك مجالس الضّلال، وسهراتك ونزهاتك وأكلك وشربك وغداؤك وعشاؤك مع أهل الضلال، فكيف سيهديك الله عزَّ وجلَّ؟
ترجو النّجاةَ ولم تسلُكْ مسالكَها إنّ السفينةَ لا تجري على اليَبَسِ
يَغْطُس في “بئر مالح” [بئر مالح: اسم يُستخدَم في اللهجة العامية، ويقصَد به المكان الذي تُجمَع فيه المياه النجسة التي تأتي من بيوت الخلاء] ويقول: أنا سأخرج ورائحتي أطيب من المسك، لأنّ الله على كلّ شيء قدير.. يا ترى هل قدرة الله عزَّ وجلَّ تُنفَّذ بأن يغطس شخص في بئر مالح أو كَنِيْف وتخرج منه روائح المسك؟
﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً﴾ [محمد:17] فتطلب الهداية من أهل الهداية، وفي مجالس الهداية، وتهاجر إلى أهل الهداية، فيهديك الله عزَّ وجلَّ، أما أن تذهب إلى أهل الزيغ وأهل الضّلال آكلاً معهم وشارباً وساهراً ومحبّاً ومصاحباً وصادقاً وتريد من الله عز وجل أن يهديك؟
﴿فَلَمَّا زَاغُوا﴾ اختاروا الزيغ والضّلال وأهل الضلال محبةً وصحبةً وصداقةً ﴿أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5] فمن اختار هذا الطريق هل سيضله الله عزَّ وجلَّ أم يهديه؟ هو من اختار الضّلال، فحين تختار المشمش وتحبّه وتدفع ثمنه، هل يطعمك الله عزَّ وجلَّ مشمشاً؟ نعم يطعمك، وإذا أردت أن تتزوج من امرأة سوداء حبشيّة أو “قابونية” [من أهل القابون، وهو حي من أحياء دمشق] وكنت مصرّاً على القابونية وتدفع لها المهر فهل تصل لطلبك أم لا تصل؟ وكذلك إذا أردت امرأة صينية ودفعت مهرها وذهبت إلى الصّين.. فالله عزَّ وجلَّ جعل الكون مسخَّراً: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعًا مِّنۡهُۚ﴾ [الجاثية:13]، فأنت وما تختار.
لا يختار الله للمرء إلا الخير:
أتى رجل إلى النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام فقال: “يا رسول الله، إنّ الله كتب عليّ الشِّقوة”، هكذا قدَّر الله عليّ.. “كاسات معدودة في أماكن محدودة” [قول عامِّي منتشر بين العامّة في سوريا]، هذه في أيّ سورة موجودة؟ هل في سورة المنافقين أم الجاهليين؟.. ماذا حصل؟ ولماذا كتب الله عليك الشّقاء وستصير شقيّاً بالإجبار؟ قال الرجل: “لأنّ الله جعل رزقي وصنعتي بضرب كفي”، راقص ومغنٍّ، وسهرات وذهاب وإياب وأقداح وإلى آخره.. قال: “فأْذَن لي في الغناء في غير فاحشة”، يريد رخصة من النَّبي ﷺ ليكون راقصاً مغنّياً، فقال له: ((كذبت أيْ عدوَّ الله!)) هذه “أيْ” حرف ماذا؟ حرف نداء لمن يكون قريباً منك، فلا تقول له: يا فلان، بل تقول: أيْ فلان.. ((إنّ الله خلق لك رزقاً طيباً حلالاً مباركاً، فاخترتَ))، كلمة: “فاخْتَرْتَ”!
فلا تختر صديق السوء وجليس السوء، وإن كان أباك أو أخاك أو صديقك أو صِهرك أو عمّك.. “مَعْجَنُ عَجِينٍ” [هو القِدْر الكبير الواسع الذي يوضع فيه العجين ليَتِمّ عجنه] يُوضَع فيه خميرة صغيرة فيتخمّر كله، وقِدْرٌ كبير من الحليب يوضع فيه ملعقتا لبن فيتحول كله إلى لبن، وشجرة المشمش الكلَابي [نوع من أنواع المشمش] يوضع لها لزقة صغيرة من شجرة مشمش بلدي فتحولها إلى مشمش بلدي [وهذا ما يُعرَف بتطعيم الشجر].. فقل لي: من تصاحب ومن تساهر ومن تماشي وأنا أقول لك من أنت.
قال له: ((كذبت يا عدوّ الله، لقد خلق الله لك رزقاً طيباً مباركاً حلالاً، فاخترت)) كلمة “فاخترتَ” ((فاخترت ما حرّم الله عليك بدل ما أحل الله لك، ولئن عدت إلى مقالتك مرّة أخرى لأجعلنك نكالاً للناس)) أي سأربِّي النَّاس بك.. والآن النَّاس يقولون لك: هذا قَدَر الله.. فإذا قدَّر الله عزَّ وجلَّ نزول المطر هل تنام على السطح وتقول: هذا قَدَر؟ وأن تنام تحت السقف أليس قَدَراً؟ إلى آخره.. ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي﴾ هل الله لا يهدي القوم المتَّقين أو القوم الذاكرين؟ أو لا يهدي الذين هاجروا إلى رسول الله ﷺ وكانوا مؤمنين صادقين؟ ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الصف:5] الذين اختاروا المعصية على الطّاعة، وصحبة الفسّاق على صحبة الأتقياء، وصحبة الشّياطين على صحبة الأولياء والحكماء.
صبر الأنبياء على الأذى:
فيما يتعلّق بقوله تعالى: ﴿لِمَ تُؤْذُونَنِي﴾ [الصف:5] مرّة كان النَّبي ﷺ يقسم الغنائم، وكان يعطي بعض الأحيان لشخص واحد مئة جمل، ويعطي واحداً آخر جملين، وبعض الناس لا يعطيهم شيئاً، مثل سيِّدنا أبي بكر رضي الله عنه لم يكن لم يعطِيه شيئاً، والمسلم الجديد أو ما صار مسلماً حقيقةً بعد يعطيه مئة جمل، فرأى ذلك بعضُ الذين يقولون آمنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ولم تؤمن عقولهم، ولا يفهم، فقالوا: “هذه قسمة ما أُريدَ بها وجه الله!” هل هذا هو العدل؟ يعطي هذا مئة جمل وهذا خمسة جمال وهذا لا يعطيه شيئًا؟ قال: فمن تأثُّر النَّبي ﷺ احمرّ وجهه غضباً وقال: ((لقد أوذيَ موسى بأكثر مما أوذيت فصبر)) ، صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.
فلا بدّ من أن يؤذى الدّاعي إلى الله، وكلّما كان عمله أكبر صار الأذى أكثر، فهنا يقول له: عليك أن تقتدي بمن؟ عليك أن تقتدي بالأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام، عليك أن تتحمّل.
﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ [الصف: 6]، سيِّدنا عيسى عليه والسَّلام خاطب بني إسرائيل، يعني اليهود، وماذا كان سيِّدنا عيسى عليه السَّلام؟ كان يهوديّاً من بني إسرائيل، وكذلك كان يحيى وزكريا وكلّ أنبياء التوراة عليهم والسَّلام، فالنّصارى لا يؤمنون حتَّى يؤمنوا بكلّ الأنبياء اليهود، وما بال العرب منهم؟ إنَّ النَّبي العربي واحد، فلماذا تؤمنون بخمسين نبيّاً يهوديّاً ولا تؤمنون بنبيّ عربيّ واحد؟ تقولون: نحن عرب وقوميون! حسنًا: إن كنتم قوميين فيجب أن تؤمنوا بسيِّدنا مُحمَّد ﷺ.
وجود البشارة بالنبي ﷺ في الكتب السابقة:
يقول تعالى: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ التوراة التي جاءت قبلي، فأنا مُصَدِّق بها، ﴿وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف:6]، هناك كتاب ألّفه أحد رجال الكنيسة وقد أسلم، هل تذكرون ما اسمه؟ “مُحمَّد في الكتاب المقدّس”، المؤلف عبد الأحد داود، هذا كان رئيس كنيسة في إيران، وقد ذكر فيه كلّ النّصوص في الأناجيل في اللغات المختلفة التي تُرجِم فيها من لغة إلى لغة إلى لغة، وكان اسم أحمد ومُحمَّد مذكوراً بشكل صريح، لأنّ القرآن لما تحدّاهم أنّ مُحمَّداً ﷺ موجود في التوراة والإنجيل [لم يقولوا هذا غير صحيح]؛ فلو كان غير موجود لأحضروا التوراة والإنجيل وقالوا: ها هي التوراة واسمك ليس مذكوراً فيها، وها هو الإنجيل واسمك ليس مذكوراً فيه، لكنهم ما استطاعوا أن يردّوا على النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام وعلى القرآن فيما تحدّاهم به.. قال: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ فلما جاءهم سيِّدنا عيسى عليه السَّلام بالبينات والمعجزات من إحياء الميّت وإبراء الأكمه والأبرص ﴿قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الصف: 6] “المنحوس منحوس ولو وضعوا بين عيونه خمس مئة فانوس” [مثل عامي]، فالمُكابر المعاند ليست قصته أنْ تُبَيِّن له الأدلّة والشواهد، لكن القصة قصةُ توفيق وخذلان.
قصة الصحابة مع النجاشي:
وفيما ورد في هذه المناسبة، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “بَعَثَنا رسول الله ﷺ إلى النّجاشي”، لما كان الصحابة رضي الله عنهم في مكة، كان أهل مكة يؤذونهم الأذى الشّديد، ويضطهدونهم ويحرّقونهم ويسجنونهم ويجوعونهم ويضربونهم، فإلى أين أمرهم النَّبي ﷺ بالهجرة؟ أمرهم بالهجرة إلى الحبشة، وماذا كان اسم ملكها؟ اسمه النّجاشي، قال: “وكنّا قريباً من ثمانين رجلاً، وكان معنا عدد من النّساء”، لأنهم لم يعودوا قادرين على تحمل الأذى الذي كانوا يؤذَون به من قبل كفّار قريش.
قال: “فأرسل كفّار قريش بهدية مع عمرو بن العاص وعِمارة بن الوليد -أخو سيِّدنا خالد رضي الله عنه- إلى النّجاشي، فدخلا عليه وسجدا له”، يعني أن الصحابة هاجروا إلى الحبشة ولم ينتهوا من أذى قريش، بل لحقهم الأذى إلى هناك، وقالا له: “إنّ نفراً من بني عمّنا نزلوا أرضك ورغبوا عنّا وعن ملتنا، فنريد منك أن تردّهم إلينا، قال: أين هم؟ قالا: هم في أرضك، فابعث إليهم، فبعث إليهم فدخلوا ومعهم جعفر بن أبي طالب”، وأخو سيِّدنا علي وابن عمّ النَّبي ﷺ، “فقال لهم: لا يتكلّم أحد منكم”، -لأنّه لا يصلح كل واحد لهذا الموقف- “أنا خطيبُكم اليوم”.
قال: “فدخلوا فسلّموا ولم يسجدوا”، والعادة كانت أن الدّاخل على الملك يسجد له، “فقالوا لهم: ما لكم لا تسجدون للملك؟ قال: إنّا لا نسجد إلا لله عزَّ وجلَّ، قالوا: ولم ذلك؟ قال: إنّ الله بعث إلينا رسوله، فأمرنا أن لا نسجد لأحد إلا لله عزَّ وجلَّ، وأمرنا بالصَّلاة” التي هي حسن الصّلة مع الله والتعرّف على الله، “وأمرنا بالزكاة” التي هي حسن المعاملة ومساعدة الإنسان الذي يحتاج إلى المساعدة.. حسن الصّلة بالخالق، وحسن الصّلة بالمخلوق، فهذه هي الصَّلاة وهذه هي الزكاة.
“قال عمرو: فإنهم يخالفونك في عيسى”، هؤلاء لا يعتقدون في عيسى مثل ما تعتقد أنت.. يريد أن يهيِّج النّجاشي على الصّحابة رضي الله عنهم، “قال: ما تقولون في عيسى؟ قال: نقول: هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى مريم، قال: فرفع النّجاشي عوداً من الأرض ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرّهبان، واللهِ ما يزيد هؤلاء على الذي أتى به عيسى ما يساوي هذا العود”، يعني أن الذي يعتقدونه هو ذاته الذي يعتقده عيسى عليه السلام وهو ذاته ما تكون عليه المسيحية الحقيقيّة، “مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أن لا إله إلا الله وأنّه رسول الله، وأنّه الذي نجده في الإنجيل، وأنّه الذي بشّر به عيسى.. انزلوا حيث شئتم، فواللهِ لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتَّى أكون أنا أحمل نعليه وأُوَضِّئه.. وأمر بهديتهم فردّت إليهم”.. ﴿وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف:6].
القرن الواحد والعشرين هو قرن الإسلام بإذن الله تعالى:
أبشِروا أيها الإخوان والأحبّة: إنَّ الإسلام سيظهر، وهذه لِحيَتي! [وهذه لحيتي: مصطلح عامي يستخدم لتأكيد الوعد، حيث يقبض الرجل على لحيته ويقول: وهذه لحيتي! وهي بمعنى انتظروا وسترون ما أعدكم به، فأنا واثق منه] لا ينتهي هذا القرن إلا وستشتعل نيران الإسلام وتضيء أنواره في العالم المتقدّم؛ في أوروبا وفي أمريكا وفي اليابان، لأنّهم يبحثون عن الحقيقة، ويشعرون بالفراغ الرّوحي، ويفهمون الإسلام بعكس واقعه.. حدثتكم من أسبوعين عن السفير السويسريّ، بعد ما انتهت الجلسة بساعة وربع قال لي: أنا مذنب، أنا مجرم.. فالسويسريون مشهورون بين كلّ شعوب العالم بأدبهم الرفيع وخُلُقُهم وعقلهم وحكمتهم، فقلت له: لِمَ؟ قال لي: لأنّ القرآن موجود في مكتبي ولا أعرف أنّ الإسلام ما أسمعه منك الآن، وإهمالي للقرآن ذنب وجريمة، وبعد هذه الجلسة سأعود إلى مكتبتي وأقرأ القرآن لأستزيد معرفة بالإسلام.
وهذا الحال مع كبار رجال الكنائس في أمريكا وفي أوروبا، ومع كبار رجال الشيوعيين واليابانيين؛ لكنْ لا يوجد من يحسن تعليم الإسلام! حتَّى في بلدنا: واللهِ ما رأيت إنساناً مسلماً ولا مسيحيّاً ولا سياسيّاً [إلا وهو مستعد لقبول الحق]، فهل يوجد عاقل له عينان وعقل يفضّل أن تكون عروسه غوريلا ويطلّق ملكةَ الجمال؟ هل يوجد؟ من يرفض مائدة فيها لحم الدجاج والكَبَاب و”الأُوْزِيْ” [أكلة فاخرة تمتاز بها مدينة دمشق، تتكون بشكل أساس من اللحم والرز وتُغَلَّف بطبقة رقيقة من العجين، وتُطبَخ في الفرن] ويذهب إلى معلف التبن والنخالة والعَلَف غير الثيران؟ واللهِ إن الإسلام أعظم من هذا وأجمل! خاصّة إسلام القلب، وإسلام الرّوح، وإسلام الذكر، وإسلام الفناء في الله عزَّ وجلَّ، وإسلام الدّوام على ذكر الله، وإسلام التوبة والإنابة والتوجه إلى الله مع الارتباط بروح لها صلة بالله تعالى.. واللهِ يشعر المسلم بسعادة في الروح والقلب والنّفس والفكر والأخلاق وفي العلم والمعرفة، ما يعرف به أنّه كان لا يساوي ذرّة، فصار أعظم من جبل هملايا في العلم والخير والسّعادة والنّجاح.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن ينفعنا بما علّمنا ويزيدنا علماً.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.