تاريخ الدرس: 1993/04/09
في رحاب التفسير والتربية القرآنية
مدة الدرس: 01:01:51
سورة الجمعة، الآيات: 5-8 / الدرس 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصَّلاة وأتمّ التسليم على سيِّدنا مُحمَّد، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيِّدنا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه من النبيين، في العالمين أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
ذكر يهود المدينة في سورة الجمعة:
نحن الآن في تفسير بعض آيات من سورة الجمعة، يتكلم الله عزَّ وجلَّ عن اليهود الذين شهدوا عصر النّبوة والتقوا بآخر الأنبياء وخاتمهم سيِّدنا مُحمَّد ﷺ، ويَذْكُرهم بأنّهم وإن تسمّوا باليهوديّة فليسوا يهودًا أصيلين أصلاء، وإن تمسكوا بأوراق وحجم كتاب التوراة، لكنّهم لم يتمسكوا بمبادئ التوراة؛ رسالة السَّماء التي لا تختلف بين نبيّ ونبيّ.. كلّ الأديان والرّسالات السّماوية تركز على شيئين: الشيء الأول معرفة الله بطريق العقل والفكر والقناعة والبرهان الاقناعيّ، لينتقل الإنسان من المعرفة العقلانيّة إلى المعرفة الروحانيّة، [التي تأتي] من طريق الصَّلاة والذّكر، حتَّى تنجلي وتُصقَل مرآة قلبه، وهو متوجّه بكلّ أحاسيسه وقلبه إلى الله عزَّ وجلَّ، كما قال تعالى: ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [الأنعام:79] فبتوجُّهه بكلّيته؛ بكلّ قلبه وبكلّ فكره، تنعكس في مرآة قلبه أنوار الله عزَّ وجلَّ، وتتصل روح الإنسان بروح الله عزَّ وجلَّ.
قراءة القرآن بالعلم والقلب:
تسري في قناة وسلك هذه الآيات علوم الله عزَّ وجلَّ وحكمته وأخلاقه، ما يجعلها تنطبع في نفس الإنسان وروحه فيصبح عالماً من غير كتاب، فقد أصبح قلبه كتابه، وأصبح أستاذه خالقه، كما قال القرآن في أوّل كلمة قالها الله عزَّ وجلَّ لسيِّدنا مُحمَّد ﷺ: “اقرأ” ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق:1] يعني تعلّم من طريق ذكر الله، ومن طريق اسم الله عزَّ وجلَّ، ثم قال: ﴿اقْرَأْ﴾ [العلق:3] فهناك قراءة ثانية، ولا نكتفي بالقراءة الروحانيّة، وهي القراءة والعلم المتوارث عن العلماء من قبلنا ومن حولنا، قال: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ [العلق:3-4].
العلم من طريقين:
يجب أن يكون العلم من طريقين وبجناحين: العلم الروحيّ القلبيّ المستمدّ من روح الله عزَّ وجلَّ إلى روح الإنسان المعتكف والملتزم في مدرسة الله سبحانه، حيث يتولّى الله تعليمه كما عَلَّم أنبياءه وكما عَلَّم أولياءه.. وسيِّدنا مُحمَّد ﷺ ما دخلَ جامعةً، ولم يكن له فلاسفةٌ وعلماء؛ إنما دخل الغار والكهف، وفي الكهف بإقبال روحه وقلبه وفكره على الله عزَّ وجلَّ تلقى من العلم ما استطاع أن يوحِّد نصف العالم، في ظلّ الأخلاق الإنسانيّة والإخاء الإنسانيّ، وتحرير الإنسان من الخرافات، ومن الجهل والوحشية، ومن الحيوانية، حتَّى جعل نصف العالم من الصّين إلى حدود فرنسا أمّة واحدة متساوية الحقوق والواجبات، ودولة واحدة رجُلُها كما قال الشاعر
إذا أردتَ شريفَ النَّاس كلِّهِمِ فانظرْ إلى ملِكٍ في زيِّ مسكينِ
ضيوف من الدنمارك وألمانيا:
[هنا يستطرد الشيخ قليلاً ويسأل الإخوة المسؤولين في المسجد عن الترجمة، ويقول لهم:] “لا أرى إخواننا الدنماركيين معهم أجهزة ترجمة، فهل هي موجودة؟” [يجيبه المسؤول بقوله: نعم، فيقول: طَيَّب! هذا حسن.. ثم يتابع التعريف بالضيوف فيقول:] بينكم إخوان من جامعة “استوكهولم” في الدنمارك، زارونا البارحة وهم معكم، وهم خمسة وعشرون من الأساتذة ورجال الجامعة، كذلك يوجد عدد من إخواننا الألمان من كبار رجال العلم.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوفقنا جميعًا.
[أخي القارئ الكريم: لقد برع سماحة الشيخ أحمد كفتارو بخطابه الإسلامي العالمي لغير المسلمين، ونجح في ذلك نجاحاً عظيماً، حيث كان يأسر قلوبهم.. وهذا الدرس مثال حيّ على ذلك، حيث كان يحضر فيه عدد لا بأس به من غير المسلمين من أوروبا.. انظر: كيف كان يختار أفكاره وكلماته ويؤكِّد على بعض النقاط الهامة لهم، ويخاطبهم بما يفهمون وبالقضايا التي تهمُّهم، وذلك من خلال تفسير سورة الجمعة، فكان يُفِيد أعضاء الوفد بمعلومات إسلامية عظيمة، وكذلك يفيد الآلاف من الحضور في المسجد من المسلمين.. فهذا الدرس ليس فقط في تفسير بعض آيات من سورة الجمعة، بل هو درس عظيم في أسلوب الدعوة لغير المسلمين]
صفة رجل الدولة الأول في الإسلام:
لقد وُصِفَ رجلُ الدّولة في ظلّ مدرسة الإسلام التي تلقى سيِّدنا مُحمَّد ﷺ رسالتها في الغار من ربه عزَّ وجلَّ، في خلوة معه، فوُصِف رجل الدّولة بقول الشاعر
“إذا أردتَ شريفَ النَّاس كلِّهِمِ” إذا أردت أن تعرف من هو أشرف الناس، قال: “فانظرْ إلى ملِكٍ في زيِّ مسكينِ”، هو إمبراطور، ولكنه كأحدِ العمال العاديين الذين يعملون في أي مهنةٍ مهما كانت بسيطة، لا يترفع على أصغر واحد في مجتمعه ولا يتعالى عليه
هذا الذي عظمَت في النَّاس سيرتُهُ وذاك يصلُحُ للدّنيا وللدّينِ
فهذه هي المرحلة الأولى في الدّين: تقويةُ صِلة الرّوح الإنسانيّة بروحِ الله عزَّ وجلَّ؛ ليستمدّ من الله تعالى العلم والحكمة والأخلاق، وليعيش الإنسان مع أخيه الإنسان في ظلال الحبّ والتعاون والأخلاق الملائكيّة.. هذه قوّة الصّلة بالخالق.
الدين رسالات لكل المخلوقات:
والكلمة الثانية عن الدّين الذي هو رسالات كلّ الأنبياء: الرحمة بالمخلوقات، لا الرحمة بالمواطنين -أو من هو مواطن معك- أو الرحمة بالقوميّين، أو بالسّود أو بالبيض؛ بل الرحمة بالخلق: بكلّ الإنسان وبالحيوان.. والرحمة تكون صفة للإنسان، حيث تستمدها روحه من روح الله عزَّ وجلَّ، مما يجعل روحه تنتقل من موتٍ إلى حياة، ومن عذابٍ إلى نعيم، ومن شقاءٍ إلى سعادة؛ وهذا ما فقده إنسان قَرْن العشرين، حيث اغترّ بتقدّمه الماديّ والجسديّ، ولكنه خسر روحَه وحياتها بروح الله عزَّ وجلَّ.
يقول القرآن: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ [الجمعة:5].. إنّ سيِّدنا مُحمَّداً ﷺ تخرّج من المدرسة الإلهيّة، وتلقى علومه عن الله عزَّ وجلَّ وهو لا يقرأ ولا يكتب، وليس له معلّم، وكان أهل مكة كلّهم أمّيين، وكان العرب كلّهم لا يقرؤون ولا يكتبون، فخَرَج من هذه المدرسة وصنع العلماء والحكماء والعظماء، متوَّجين بمكارم الأخلاق؛ بأخلاق السَّماء: بالعدالة والحبّ والعناية بالإنسان، ويُكافِح الفقرَ والجهل والأمّية، والمساواة بين النَّاس محقَّقةً للجميع، فلا امتياز لغنيّ على فقير، ولا لحاكم على محكوم، فالعدل للجميع، والعلم واجب على الجميع.. فجعل من الصين إلى إسبانيا شعوبًا راقية مثقفة متآخية متحابّة.. وهذا هو ما يدعو إليه الدّين بخاتمتِه الأخيرة ولبنتِه الأخيرة، التي هي نبوة سيِّدنا مُحمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام.
ما فقد المسيحيون مسيحيتهم بالإسلام:
إن المسيحيين في بلاد الشام ومصر لم يروا في الإسلام أنّهم يفقدون مسيحيتهم، بل رأوا في الإسلام مسيحيّة عقلانيّة لا يرفضها عقل، بل ويقبلها المنطق، فالمسيح عليه السَّلام هو إنسان وليس بإله، هو معلّم وليس خالق الكون ولا خالق المجرّات والسُّدم، وليس واضع نُظم الطبيعة: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [الكهف:110].. وكذلك اليهوديّة: فاليهوديّ وجد توراته وموساه وأنبياء التوراة في القرآن.. ومبادئ الأديان كلّها التي هي صلةُ الإنسان بروح الله عزَّ وجلَّ والإحسانُ لمخلوقاته، لا يختلف فيها دين عن دين، إلا أنّ الإسلام أتى بدين ودولة، وأتى بسعادة الجسد والرّوح، وأتى ليستجيب لنداء العقل والفكر، ولنداء القلب والروح والنّفس.
وقد كان اليهود في المدينة، وكانوا يجدون صفات النَّبي ﷺ في توراتهم، لأنّ القرآن كان يتحدّاهم ويقول عن مُحمَّد: ﴿ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ﴾ [الأعراف:157]، فلو لم يُذكَر سيِّدُنا مُحمَّد ﷺ في التوراة لقال اليهود لمُحمَّد ﷺ: “هذه التوراة أين ذُكِر اسمُك؟” ولقال النّصارى: “هذا هو الإنجيل فأين ذُكِرتَ؟” في القرن السّابع عشر ظهر في الفاتيكان إنجيل “بَرْنَابا”، وأُخِذ من مكتبة الفاتيكان وطُبِع في ألمانيا، وحجمه أضعاف حجم الإنجيل العاديّ، ومذكور فيه اسم النَّبي مُحمَّد ﷺ أكثر من ثلاثين مرّة، ثم ظهرت نُسخة أخرى في إسبانيا بعد مئة سنة بنفس النّسخة الأولى، موجود فيها مُحمَّد رسول الله ﷺ، ولا حاجة لهذا وهذا، فالعقل هو الأساس، فإذا كان الدّين يدعو إلى العلم وإلى العقل وإلى الأخلاق، فماذا يريد الإنسان من عقيدة تدعو لأكثر وأعظم وأقدس من هذا؟
إعراض رجال الدين عن تقبل الدين الجديد:
لكنَّ رجال الأديان لهم من المصالح والمنافع ما حجبهم عن أن يتقبّلوا الرّسالة الأخيرة، واللبنة الأخيرة ليكمل بها بناءُ دينِ اللهِ لإنسان هذه الأرض، فاليهود عارضوا الإسلام في حياة النبي ﷺ، ولم يتقبّلوا التوراة التي دعاهم الإسلام للعمل بها، وقال لهم: لستم يهودًا إن لم تعملوا بتوراتكم، وقال للمسيحيين: لستم مسيحيين إن لم تعملوا بإنجيلكم، ولكن هناك إضافة جديدة، وهي مثل السّيارة، فالموديل [النموذج] الجديد في سنة ثلاث وتسعين فيه إضافات تزيد في كمالها وتزيد في الفائدة منها.
فالشعوب في بلاد الشّام ومصر لما رأوا الإسلام دراسة وفكرًا وواقعًا وتطبيقًا، في دولته وفي فلسفته وفي أخلاقيته، دخلوا كلّهم في الإسلام، حيث كانت بلاد الشّام بلاد النّصرانية واليهودية، وكذلك مصر، فصارت مسلمة، يعني يهوديةً مسلمة مسيحيةً.. فالمسلم يؤمن بموسى عليه السَّلام وبتوراته، وبالمسيح عليه السَّلام وبإنجيله، وبالرسالة الأخيرة التي هي اللبنة الأخيرة لإقامة الدّولة العالمية والأمّة العالمية، يعني توحيد العالم: عقيدةً وأخوّةً وقانونًا واحدًا، ليس كهيئة الأمم؛ قوانين تُكتَب على الورق ولا تُنفَّذ إلا لمصالح الأقوياء، أمّا قانون الدولة العالمية في الإسلام فأوّل ما طُبِّق طبّقه النَّبي ﷺ على نفسه وعلى أهل بيته، وقال القرآن: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ فإذا كنت أنت مخطئًا أو مذنبًا فعليك أن تعترف ﴿أَوِ الْوَالِدَيْنِ﴾ وإذا كان أبوك أو أمّك مذنبين فعليك أن تشهد عليهما وتقاصِصهما ﴿أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ [النساء:135].
التوراة بين أيدي اليهود ولكنهم لا ينفذون ما فيها:
لكن في الواقع فإن اليهود لم يتقبّلوا ذلك؛ من أجل أنانياتهم ومصالح رجال الدّين الماديّة أو النفسيّة، فذكرهم الله عزَّ وجلَّ في القرآن في هذه الآية، فقال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ [الجمعة:5] التوراة بين أيديهم يقرؤونها ويتعلّمونها ويدرسونها، لكن لا يُنَفِّذون أوامرها ولا ما تدعو إليه من تقبّل الرسالة الجديدة من السَّماء إلى الأرض، إذًا هم حاربوا توراتهم وحاربوا موسى، لأنّ موسى بشّر بعيسى، وموسى وعيسى عليهما السلام بشّرا بمُحمَّد ﷺ، فهم صاروا في الحقيقة أعداء اليهوديّة الأصيلة وأعداء المسيحيّة الأصيلة، وأعداء التوراة والإنجيل، قال: فـمَثَلُهم -وعندهم هذه الحقائق- ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ﴾ [الجمعة:5] الذي يُحمَّل الكتب الكبيرة ولا يستفيد من علومها، لأنّه ليس فيه الأهلية لفهم العلوم، إنما يناله من ذلك حمل أثقالها وثقلها، وكذلك من عَرَف الحقيقة ولم يخضع لها: يتعب في حملها ودراستها، ويُحْرَم من ثمراتها ومنافعها.
نزل من السماء دين الوحدانية:
فالإسلام أتى تحت راية وحدة الأديان، يقول القرآن في مواضع متعدّدة: ﴿قُولُوا﴾ يعني أيّها المسلمون وأيّها اليهود وأيّها النّصارى ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾: بوحدانية الله ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ من السَّماء؛ من وحي ورسالات سماويّة ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ الأسباط: أنبياء التوراة، قولوا كلُّكم مسلمون ومسيحيون ويهود.. فإلى هنا في هذه الآية الكريمة وحدة الأديان الإبراهيميّة في أقلّ الدّرجات، ثم قال بشكل خاصّ: ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى﴾ من رسالات سماويّة.. ﴿قُولُوا﴾ وأعلنوا إيمانكم بها، مسلمون ومسيحيون ويهود، فهذه وحدة أديان السَّماء ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى﴾.
والله عزَّ وجلَّ ما خصّص الجزيرة العربيّة برسالات السَّماء؛ بل القرآن يقول: بأنّه ما من شعب إلا وأرسل الله عزَّ وجلَّ إليه رسالة سماويّة، وهيّأ به أساتذة يعلمون شعوب العالم، لذلك فإن الأنبياء في كلّ بلاد العالم.. فآمِنوا بموسى وعيسى ومُحمَّد عليهم الصَّلاة والسَّلام، وآمنوا بالتوراة والقرآن والإنجيل ﴿وَمَا أُوتِيَ النَّبيونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ﴾ لأمر الله عزَّ وجلَّ ﴿مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة:136] مستسلمون، يعني مستجيبون لأمره ومنقادون لكتبه، ومؤمنون بكلّ رسالات السَّماء، لكن تأتي الأنانية والمصالح الشخصيّة والمطامع والفوائد، فتحجب الإنسان عن أن يتقبّل الحقائق، فيظلّ مصرًّا على التمسك بفوائده الخاصة ومنافعه الماديّة أو النفسيّة، فيُحرَم حقائق السَّماء، ويبقى بعيدًا عن الله عزَّ وجلَّ وعن رسالاته.
حمل اليهود التوراة ولم يستفيدوا منها:
فإن كانوا يهودًا لم يطبّقوا رسالة الله، أو مسيحيين لم يطبقوا رسالة الله، أو مسلمين لم يطبّقوا رسالة الله عزَّ وجلَّ، قال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ [الجمعة:5] ومثل الذين حُمِّلوا الإنجيل، ومثل الذين حُمِّلوا القرآن كمسلمي هذا العصر، فمسلمو هذا العصر ((لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه))، فهؤلاء الذين حُمِّلوا القرآن ثم لم يحملوه، أيضاً: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5] فإذا كان القرآن قد ذَكَر اليهود، فهذا تحذير للمسلمين أن يسلكوا ما سلكه اليهود في زمن سيِّدنا رسول الله ﷺ، فلا يعرفون من القرآن إلا تلاوة ألفاظه، دون تطبيق أوامره، ودون العمل بوصاياه والتخلّق بأخلاقه، فيكون مثل هؤلاء كمثل الحمار إذا حُمِّل الكتب، لا يستفيد إلا أن يتحمّل الأثقال على ظهره والتّعب في جسده، ولا يقطف أيّ ثمرة أو فائدة من هذا الحمل الثقيل.
وورد في حديث رسول الله ﷺ: أنه ((يأتي على النَّاس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، قلوبهم من الهدى خَرِبَة)) قلوبهم أي النفس الداخليّة ما فهمت الدّين، وغير عامرة بأنواره وروحانيته، وغير عامرة بالأخلاق السماويّة ((قلوبهم من الهدى خَرِبَة، ومساجدهم بأبدانهم عامرة، شرّ من تُظِلّ السَّماء يومئذ علماؤهم)) الذين حملوا الألفاظ ولم يحملوا روحها، ولم يحملوا أخلاقها وسلوكها، بالطبع ليس جميعهم، بل فقط من يكون منهم بهذه الصّفات، ((منهم تخرج الفتنة وإليهم تعود)) 1 .
هناك من يظهر بمظهر رجل الدّين الإسلاميّ، ولكن لغرض مادّي أو أناني أو نفسيّ في نفسه، ويجعل الدّين مطية لهذه الأغراض، فلا يكون منه إلا الفتنة ولا يكون منه إلا الفساد، وهكذا رجال الأديان الأخرى، وهنا الآية تحذّر المسلمين أن لا يكونوا كما كان اليهود في زمن رسول الله ﷺ، وتحذر كلّ إنسان يحمل رسالة السَّماء علماً ودراسة وقراءة، ولكن لا تظهر في أخلاقه وسلوكه وأعماله، ولا في روحانيته وإنسانيته.
ثم قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ﴾ فإذا كان اليهود أو النّصارى أو المسلمون بهذا الشكل فبئس مَثَلُهم، وبئست الصّفات صفاتهم، وبئس السّلوك سلوكهم، وبئس ما يسمّونه ديناً دينهم، فدين الله عزَّ وجلَّ ليس كذلك، إنّما دين الله علم وعقل حكيم وتزكية للنّفس وأخلاق كريمة وإنسانيّة شاملة.. ﴿بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ﴾ هؤلاء رجال الدّين يقول الله عزَّ وجلَّ عنهم: بئس مَثَلُهم! وإن كان مَن وراءَهم مثلهم فكذلك: ﴿بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ﴾.. لماذا صاروا بؤساء في نظر الله؟ قال: ﴿بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ [الجمعة:5] يقرؤونها نطقًا ولسانًا ويُكَذِّبونها عملًا وسلوكًا.
سبب ظهور الإلحاد في هذا العصر:
لماذا ظهر الإلحاد في عصرنا الحاضر؟ لأنّ الإنسان تحرّر عقله، فلا يهضم عقلُه ما يقدَّم له من دين يجده مخالفًا للعقل، ويجده في غير ميدان النّظر والسّلوك، ولذلك ما أشبع نُهمَتَه ولا روى عطشه، ولا أضاء له ظلمات الطريق، فضاع في صحراء الإباحية والإلحاد، أما إذا رُئِي الدّين الحقيقيّ الذي نزل من السَّماء على قلب إبراهيم وموسى وعيسى ومُحمَّد عليهم الصَّلاة والسَّلام، فهل يستطيع عطشان ظمآن في صحراء محرقة أن يقدَّم له الماء المثلج المحلى فيرفضه؟ هل يستطيع إنسان ضائع في ظلمات الصّحراء إذا رأى نورًا بعيدًا أو قريبًا أن لا يقصده ولا يتقبله؟ فالمسؤولية مسؤولية رجال الدّين، لا مسؤولية الدّين، ففي الترجمات والتأويلات الخاطئة شُوِّه الدّين في نظر العقل الإنسانيّ.. والعقل من صُنْع الله عزَّ وجلَّ، فإن قُدِّم له القبيح وقيل له: هذا جميل، فلا يستطيع النّظر [والعقل] أن يتقبّل القبيح باسم الجميل، وكذلك السمع، فهو بقانون الله عزَّ وجلَّ يتقبّل الأصوات الجميلة، فإذا قُدِّم له صوت الحمار وقيل له: هذا صوت المغَنِّين العالَمِيِّين لا يقبل هذا الكلام، لأنّه يخالف قانون الله، وهو قانون السمع عند البشر، أمّا إن قُدِّم له الصّوت الجميل والمنظر الجميل، وقُدِّم للأنف العِطْرُ الجميل [فإنه يقبله ولا يرفضه]، فلا يمكن للقانون الإلهيّ أن يرفض القانون الإلهيّ، [وبهذا لا يمكن للكتب السماوية التي أتت من الله أن تخالف قانون الله في خَلْقِه، وتقول عن الخطأ صواباً وعن القبيح جميلاً، وإلا فإن العقل يرفضها].
ثم قال الله عزَّ وجلَّ عن رجال الدّين هؤلاء من اليهود أو النصارى أو المسلمين أو من أيّ دين كانوا، الذين يدعون إلى الدّين بغير جوهره وحقيقته: بئس هم، وهم كمثل الحمار، لا ينتفعون، بل يحملون أوزار الأمّة، ثم هم عند الله عزَّ وجلَّ: ﴿بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ هم أوّل الكافرين بالدّين، ولو قرؤوا التوراة أو الإنجيل أو القرآن: ﴿بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الجمعة:5] أليس الله: يُضِلّ من يشاء؟ مَن يُضِلّ؟ يضلّ من يُعرض عن الهدى، ومن يشتاق ويرغب ويركض إلى الضّلالة، فمن رغب بالجهل وزهد في العلم، ورغب في الرذيلة وزهد في الفضيلة، وأقبل على الفَسَقة وأعرض عن الفُضلاء، فهل يهديه الله سبحانه وتعالى؟ ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الجمعة:5].
من آمن بموسى وعيسى عليهما السَّلام حقًا فقد آمن بمُحمَّد ﷺ:
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا﴾ [الجمعة:6] يعني الذين تدّعون اليهوديّة، أمّا اليهود الحقيقيون الذين آمنوا بموسى عليه السَّلام واستجابوا لرسالة السَّماء وتخلّقوا بأخلاق أنبيائهم، وتخرّجوا من مدارسهم حكماء علماء، فهؤلاء ذكرهم الله عزَّ وجلَّ في مواضع أخرى في القرآن بما يستحقون من تكريم وتعظيم.
فيقول الله عزَّ وجلَّ في سورة البقرة -وهذا مذكور في سور أخرى أيضاً: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعني المسلمين ﴿وَالَّذِينَ هَادُوا﴾ يعني اليهود ﴿وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ﴾ أتى بأربعة نماذج معروفة في البلاد العربيّة، قال: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ بوحدانية الله عزَّ وجلَّ، ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ بأنّ الله عزَّ وجلَّ سيحاسبه على أعماله يوم القيامة ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ كانت نفسه خيّرة تعمل الصالحات وتبعد عن الشرور، تعمل الخير لكلّ النَّاس، وتبتعد عن إيذاء كلّ مخلوق من إنسان أو حيوان.. والله عز وجل يقول عن أبناء هذه الأديان إذا جمعتهم هذه الصّفات من الإيمان بوحدانية الله واليوم الآخر والعمل الصالح: ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة:62].. فنجد أنّ القرآن أنصف أبناء الأديان، أنصف الأُصَلَاء الصّادقين الذين تمسّكوا بجوهر أديانهم ورسالات أنبيائهم، أمّا الذين اكتفوا بالانتماء والانتساب والألقاب فقال عنهم: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ حملوها لفظًا وادّعاءً، ثم لم يحملوها عملًا وسلوكًا وأخلاقًا ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5].
أولياء الله لا يخشون الموت:
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاس فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [الجمعة:6-7] [وحب الموت هذا] من علامة الإيمان الكامل والإيمان النّاضج، وهذا الإيمان أوّله جمعُ القلب والفكر والهَمّ بكلّ الطاقات الإدراكية وتوجيهها إلى الله عزَّ وجلَّ، ليكون اللقاءُ في صفحات القلب؛ في شاشة تلفاز القلب.. فإذا استجمع الإنسانُ إيمانه بالله عزَّ وجلَّ على هذا الشكل، وكان مع المعلّم الحكيم المزكِّي.. فإذا وُجِد المعلّم وكان الطالب نجيبًا، عندئذ تشرق أنوار الشَّمس الإلهيّة في مرآة قلبه بعلومها وجمالها وحِكَمِها وفضائلها، مما يجعل نفس هذا الإنسان تنظر إلى جسدها كما ينظر السجين إلى سجنه، فتجد الرّوحُ نفسَها مسجونةً في قفص جسدها، كالطائر عندما يُحبَس في قفصه.. [ولابد للحصول على هذا الإيمان من المعلِّم]، لأنّ كلّ علم لا بدّ للوصول إليه من مُعَلِّمه، وكلّ صنعة للحيازة عليها لا بدّ من أستاذ صنعتها، فلا علم بلا معلّم.
وإذا قيل للطائر: هل تتمنّى أن يُكسَر قفصك وتخرج من سجنك؟ فبماذا يجيب؟ يقول: نعم، والسجين إذا كان في سجنه وخُيِّر: هل تبقى في سجنك أو نفتح لك أبواب السجن حتَّى تنطلق منه؟ يقول: افتحوا لي أبواب السّجن لأخلص من السّجن.. والإنسان روح وجسد، والروح سجينة في جسدها كطائر محبوس في قفصه، ولذلك كان بعض الشعراء يقول
وما كلُّ جسمٍ غيرُ سجنٍ لأهلِهِ وآخِرُ آفاتِ النّفوسِ وفاتُها
آخر مصيبة تخاف منها بسبب جهلك هي أن تموت، لأنك لا تعرف ماذا بعد الموت، أمّا لو عرفتَ وعرفت أنّ جسمك سجن والموت انطلاقٌ من هذا السجن [لما خِفتَ من الموت].. ولا يوصلك إلى هذه المعرفة إلا الإيمان القلبيّ وصلة قلبك بالله عزَّ وجلَّ، فتتفتّح عيناك، وتبصر بعيني رأسك عالم المادّة وبعيني قلبك عالم الروح وعالم الغيب.
الموت حياة:
لو علم الإنسان ما الموت! إنه شيء مستقبلك فيه ومصيرك إليه ولا مهرب منه، فهل اطلعت على ثقافة الموت؟ وهل اطلعت على حقيقة الموت؟ وهل اطلعت على ما سيكون حالك بعد الموت! لماذا تتغافل وتتجاهل؟ كالنعامة إذا رأت الصائد تضع رأسها وراء شجيرة صغيرة حتَّى لا ترى الصائد، فمن حماقتها تعتقد أنّها إذا لم ترَ الصائد فإنّ الصائد لا يراها، وهل إذا تغافلنا عن الموت يتغافل الموت عنّا؟
وما كلُّ جسمٍ غيرُ سجنٍ لأهلِهِ وآخرُ آفاتِ النّفوسِ وفاتُها
ولو علمَ الإنسانُ ما الموتُ أيقنَت نفوسُ الورى أنَّ المماتَ حياتُها
وكما يقول سيِّدنا مُحمَّد ﷺ: ((النَّاسُ نِيَامٌ فَإِذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا، وَإِذَا انتبهوا ندموا)) 2 .. يترك المال والشهادات والألقاب المَلَكِية ورئاسة الجمهوريّة والوزارة والمفتي وغير ذلك.. وهذا كلّه لا يفيد، ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا﴾ [الفرقان:70].. ((فَإِذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا، وَإِذَا انْتَبَهُوا ندموا)) لذلك تحدى القرآن مدّعي اليهودية أو اليهود المزيَّفين قائلًا: إن كنتم مؤمنين حقيقيين فتمنّوا الموت! لأنّ المؤمن الذي تفتّحت عينا قلبه يكون دائمًا في شوق إلى لقاء ربّه، وفي شوق إلى الخلاص من قفص جسده، ومن سجن روحه في بدنه، لينطلق إلى عالم الخلود وعالم السّعادة الذي لا تعلم نفس ما أخفي فيه للمؤمن من قرّة أعين.
ذُكِر عن الإمام الغزالي أنهم صبيحة وفاته رأوا تحت وسادته ورقة كتب فيها قصيدة شعريّة يقول فيها
قل لأقوام رأوني ميتًا فبَكَوني ورَثَوني حَزَنَا
لا تظنّوني بأنّي مَيْتُكم لستُ ذاك الميْتَ واللهِ أنا
أنا عصفورٌ وهذا جسدي كان سجني فأبَيتُ السَّجَنَا
أنا دُرٌّ -لؤلؤة- قد حوَاه صَدَفٌ مِلْتُ عنه فتخلَّى وَهَنَا
لا تظنّوا الموت موتًا إنه لَحياةٌ وهْو غايات المُنَى
لا تَرُعْكم -لا تُخِفْكم- هجمةُ الموتِ فما هوَ إلا انتقالٌ من هنا
كما يقول القرآن العظيم: ﴿وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الواقعة:61-62] كنتم حيوانات منويّة ثم صرتم بشرًا سويًّا، وسينقلكم نقلة بعد هذه النقلة إلى ما هو أرقى وأرقى، وذلك على ضوء أعمالكم وعلمكم وتزكية نفوسكم.
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاس﴾ بأنكم أبناء الله وأحباؤه ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ [الجمعة:6] المؤمن دائمًا يشتاق إلى لقاء الله سبحانه وتعالى، ويرى في مرآة قلبه عالم الروح، مما يجعله يشتاق إلى النقلة، [وهذا الحال لا يجعله فاشلاً في الدينا] فهو تجاه الأوامر الإلهية والقانون الإلهيّ في بقائه في هذا الكوكب يسارع ليتزوّد بالأعمال الصّالحة والإيمان الحيّ، فإذا وُلِد في العالم الثاني يولَد قويًّا صحيحًا وبالشكل الذي تكون سعادته أجمل.
كراهية الظالمين للموت:
﴿وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [الجمعة:7] كيف سيهديهم وهم لا يستحقون الهداية؟ وكيف يرفع شأنهم وهم لا يستحقون ذلك؟ هل يمكن أن نُدْخِل القرد كطالب في إحدى الجامعات؟ إنّ وجوده وذاته وشخصيته لا تتقبّل ذلك، كذلك الإنسان إذا خَرَجَتْ روحه ولم تُهيَّأ ولم تُهذَّب في حوض بدنه، وفي قفص جسده.. فإذا لم تُهذَّب بالإيمان وبالأخلاق وبالعقل الإلهيّ وبالحكمة الربانيّة، ففي الآخرة لا يدخل الجنّة التي وصفها النَّبي ﷺ في قوله: ((فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ)) يعني من الجمال والسّعادة والنّور ((مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)) 3 .
هذا برنامج الإسلام للحياة الروحيّة، أما برنامجه للحياة الجسديّة: فالإسلام جعل من المسلمين في عصوره الذهبيّة -لما كانوا طلابًا حقيقيين وفاهمين للإسلام علمًا وعملًا- جعل منهم علماء فلاسفة حكماء سيّاسيين عدولًا مع كلّ النَّاس، حتَّى كادوا من ثقافتهم السماويّة أن يكونوا أنبياءً.
النَّبي ﷺ مهندس يصنع العالم:
إنّ النَّبيَّ مهندسٌ يصنع أمّة، والأنبياء مهندسون لصناعة الأمم، أما سيِّدنا مُحمَّد ﷺ فهو مهندس ليصنع العالَم، لذلك قال عنه القرآن: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً﴾ ليس للمسلمين ولا للعرب، بل: ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107].. ﴿يا أيّها النَّاس﴾ وليس يا أيّها العرب ﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف:158].. ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ﴾ [المائدة:48] من التوراة والإنجيل، أنا ما أتيتكم لألقي الإنجيل أو التوراة في الشّارع، بل ﴿مُصَدِّقًا﴾ وعامِلًا ومُتَمِّمًا في البناء لَبِنَتَهُ الأخيرة.. فإذا كان البناء ينقصه لَبِنَة ووُضِعت اللَبِنَة في مكانها فقد كَمُل البناء، ولذلك قال القرآن: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة:3].
الإسلام الذي يجمع رسالة موسى وعيسى والأنبياء من قبل -عليهم جميعًا الصَّلاة والسَّلام- ودخل فيه علم الحياة الروحيّة والبدنيّة والسياسيّة والاقتصاديّة: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ الحياة الحسنة ﴿وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة:201]، وكما يقول القرآن في موضع آخر يخاطب الإنسان: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص:77] فما قال له: اترك الدنيا، أو اترك الحياة الجسديّة وحقوقك البدنية، لا؛ بل قال له: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص:77].
الدنيا مطية المؤمن:
كان عليه الصَّلاة والسَّلام يقول: ((نِعْمَت الدّنيا مطيّة المؤمن!))، فإذا أراد المسافر أن يذهب من هنا إلى بغداد أو إلى أوروبا أو إلى الهند، ألا يحتاج إلى مركوب؟ فقال: لتكن الدّنيا مركوبتك، وإيّاك أن تكون مركوبها! لتكن مملوكتك وإيّاك أن تكون مملوكها! ((نعمت الدّنيا مطيّة المؤمن: بها يصل رحمه، وبها يفعل الخير)) 4 ، ((وإذا قال المرء: لعن الله الدّنيا، تقول الدّنيا: لعن الله أعصانا لربّه)) 5 .. والإسلام جناحان: جناح الدّنيا وحياة الجسد بكلّ ما في الحياة من نعمة وسعادة وجدّ وعلوم، كما يقول القرآن: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف:32]، ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون:51]، [والجناح الثاني: جناح الآخرة وحياة الروح].
قال: ﴿وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [الجمعة:7] أعمالهم وأخلاقهم وسلوكهم.. وهم لم يصلوا إلى معرفة الحياة الروحيّة وما وراء عالم المادة، حتَّى يشتاقوا إلى ذلك العالم الذي يعجز العقل الجسديّ عن إدراك أبعاده والسّعادة فيه وجماله.
﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾ [الجمعة:8] فإذا مات الإنسان وهو عالِم بالموت ومستعدّ لما بعده أفضل، أم إذا مات وهو جاهل به وغير مستعدّ للحياة بعده -لحياة الخلود- أيّهما أفضل؟ ثمّ إذا كان الاستعداد لحياة ما بعد الجسد لا يضرّ ولا يتناقض مع حياة الجسد، بل بالعكس: فإن الإسلام [يأمرك بحياتك الجسدية] كما يأمرك ببناء حياتك الروحيّة، لتتصل روحك بعالَم الروح -بعالَم السَّماء- ولتشعر بسعادة حياتك الروحيّة التي لا يشابهها سعادة في حياتك الجسديّة، فتَجْمَع بين السّعادتين وبين العقلَين: عقل الأرض وعقل السَّماء، عقل الجسد وعقل الرّوح.
كيف صار المسلمون الأُول أباطرة الأرض:
المسلمون الأُوَل كانوا أبناء الصّحراء، فلما دخلوا مدرسة النّبوة وتعلّموا علومها صاروا أباطرة الأرض وملائكة السَّماء، فجمعوا بين سعادة السَّماء وبين سعادة الإنسان في الأرض، وفي هذا العصر وفي هذا القرن: لا يمكن أن يتحقّق سلام أو سعادة للإنسان إلا ضمن ثقافة السَّماء، وبلَبِنَتِه الأخيرة، فندرس الدّين دراسة عقلانيّة على ضوء سعادة الإنسان ومصلحته، فالله عزَّ وجلَّ قال للنّبيّ ﷺ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107] فكيف تكون رحمة الأمّ بولدها؟ فهكذا دين الله، بل هو أبلغ في رحمته بالإنسان وإسعاده من رحمة الأمّ بولدها، وأعظم من اهتمام الأب بسعادة أبنائه.
والذين استجابوا للإسلام عقلًا وقلبًا وأخلاقًا وسلوكًا، وكانوا قبل ذلك كالوحوش الشاردة في صحراء الجزيرة العربية، صاروا ملوك الأرض وملائكتها، وصاروا أبناء الأرض وأبناء السَّماء، وأتوا بحُكْم طبّقوه على شعوب العالم، لا فرق فيه بين “عمر” رضي الله عنه وبين أيّ إنسان في أقصى الدّولة الإسلاميّة، ولا فرق فيه بالحقوق والواجبات بين مسلم وغير مسلم، وبين مؤمن وغير مؤمن.
فأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوفّقنا نحن أولًا المستمعين لأن يكون عندنا لا قرآن الورق والكتابة، بل أن تكونوا أنتم قرآن العلم والعمل، وتكونوا أنتم المصحف.. فإذا قرأنا القرآن وقرأنا هذه الآيات: ﴿حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ [الجمعة:5] لا نكون كالذين ذمّهم الله عزَّ وجلَّ، فحملوها قراءة ولفظًا وتجويد كلام ولسان، لا تجويد أعمال وأخلاق وسلوك، وإلا كنا: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5]، وهذا ليس خاصًّا باليهود، بل هو للمسلم ولو كان يحمل أعلى الشهادات من الأزهر أو غيره، فإذا كان قوّالًا ولم يكن فعّالًا فهذا: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5]، وفي الحديث: ((أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ)) 6 .
النَّاس هلكى إلا المخلصين:
وقد ورد: “النَّاس هلكى” بالجهل، فالجهل مهلك، “النَّاس هلكى إِلَّا الْعَالمينَ، والْعَالمُونَ هلكى إلا الْعَامِلينَ، والْعَامِلُونَ هلكى إلا الْمُخْلِصينَ” مخلص في إسعاد الخلق؛ في إسعاد النَّاس وإسعاد الحيوان “وَالْمُخْلِصُونَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ” 7 يعني دائمًا اسأل الله الاستقامة: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران:8]. اللهم اجعلنا من ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر:18].
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وآله وصحبه، والحمد لله ربّ العالمين.
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد:19]، [قول “لا إله إلا الله” بشكل جماعي، ثم الختام بالدعاء من سماحة الشيخ] مُحمَّد رسول الله ﷺ، اللهم تقبّل منّا هذه التهليلة المباركة، وأوصل ثوابها إلى حضرة نبينا مُحمَّد ﷺ، ثم إلى روح شيخنا وأستاذنا وروح والدتنا وولدنا زاهر ووالدته، وإلى أرواح والدينا ومشايخنا والمسلمين أجمعين.. اللهم فرج عن المسلمين جميعًا في كلّ أقطارهم، وخصوصًا في ليبيا وفي البوسنة وفي الهرسك وفي كلّ مكان، وفرّج عن إخواننا في فلسطين وفي كلّ مكان، واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين.
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (1908)، (2/ 311)، والكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي، رقم: (1045)، (4/ 227)، بلفظ: ((يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى النَّاس زَمَانٌ لَا يَبْقَى مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ، وَلَا يَبْقَى مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا رَسْمُهُ، مَسَاجِدُهُمْ عَامِرَةٌ وَهِيَ خَرَابٌ مِنَ الْهُدَى، عُلَمَاؤُهُمْ شَرُّ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مَنْ عِنْدَهُمْ تَخْرُجُ الْفِتْنَةُ وَفِيهِمْ تَعُودُ))، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
- تذكرة الموضوعات للفتني، ص: (200)، الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة للسيوطي، ص: (452)، لم يُوجد إِلَّا معزوا لعَلي بن أبي طَالب، وكذلك قال السيوطي، وفي حلية الأولياء، (7/52)، عن سفيان الثوري، يقول: «الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا».
- صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم: (2825)، (4/2175)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (22877)، (5/ 334)، بلفظ: ((عن سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ رضي الله عنه يَقُولُ: شَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا وَصَفَ فِيهِ الْجَنَّةَ حَتَّى انْتَهَى ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
- مسند الفردوس للديلمي، رقم: (7288)، (5/10)، بلفظ: ((لا تسبوا الدنيا فنعم مطية المؤمن، هي عليها تبلغه الجنة وبها ينجو من النار))، عن ابن مسعود رضي الله عنه، وفي المسند للشاشي، رقم: (383)، (1/387)، بلفظ: ((لا تسبوا الدنيا فنعم مطية الرجل عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر)).
- مُصنف ابن أبي شيبة، رقم: (35570)، المستدرك للحاكم، رقم: (7870)، (4/348)، الكامل في الضعفاء لابن عدي (3/249)، عن طَارق بن أَشْيَم، بلفظ: ((نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لآخرته حتى يرضى ربه عز وجل وبئست الدار لمن صدته عن آخرته وقصرت به عن رضاء ربه وإذا قال العبد قبح الله الدنيا قالت الدنيا قبح الله أعصانا لربه)).
- شُعب الإيمان للبيهقي، رقم: (1778) و (2/ 284)، المعجم الصّغير للطبراني رقم: (507)، (1/305) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، بلفظ: ((أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ)).
- أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب لمحمد درويش، رقم: (1629)، ص: (309)، بلفظ: ((النَّاس هلكى إِلَّا الْعَالمينَ، والعالمون هلكى إِلَّا الْعَامِلينَ، والعاملون هلكى إِلَّا المخلصين، والمخلصون على خطر عَظِيم))، الموضوعات للصنعاني، رقم: (39)، ص: (38)، وفي الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني، رقم: (123)، ص: (257)، بلفظ: ((موتى، بدل هلكى))، وفي شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (6868)، (5/345)، من قول ذي النّون المصريّ بلفظ: " النَّاسُ كُلُّهُمْ مَوْتَى إِلَّا الْعُلَمَاءَ، وَالْعُلَمَاءُ كُلُّهُمْ نِيَامٌ إِلَّا الْعَامِلُونَ، وَالْعَامِلُونَ كُلُّهُمْ يَغْتَرُّونَ إِلَّا الْمُخْلَصِينَ، وَالْمُخْلِصُونَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ".