تاريخ الدرس: 1992/09/25
في رحاب التفسير والتربية القرآنية
مدة الدرس: 01:33:37
سورة الحشر، الآيات: 1-7 / الدرس 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأفضَلُ الصَّلاة والتَّحيات والتكريم على سيِّدنا محمَّد خاتم النّبيين وعلى جميعِ إخوانِه النبيّين وأبيه سيّدنا إبراهيم وأخوَيه سيدنا موسى وعيسى، ومَن تَبِعَهُم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وبعد:
تسمية سورة الحشر:
فنحن الآن في تفسير سورة الحشر، الحشْرُ في اللغة العربيّة: معناهُ الإخراجُ والإجلاء؛ إخراج جمعٍ منَ الناس من مكانٍ إلى مكان، فهذا الإخراج والإجلاء والنّقل بالقوّة اسمُهُ الحشر، فسورةُ الحشر تعني سورة الإجلاء وسورة الإخراج، وسُمّيت هذه السورةُ بهذا الاسمِ لأنّ الله ذَكَرَ فيها كيف أجلى المسلمون العربُ أو العربُ في الإسلام؛ وكيف طهَّرَ الإسلامُ جزيرةَ العرَبِ مِن اليهود؛ لِإفسادِهِم في الأرض وفتنهِم التي كانُوا يَصنعونَها مع العرَبِ الذين أيقظَهُم الإسلامُ إلى حياة العزَّة والمجدِ والقوّة والانتصارات التي لم تَعرِف الهزائم، بعد أن كان العرب يُقاتِلُ بعضُهم بعضًا أربعين سنةً مِن أجل فرَس، وكانوا قبائل لا تجمَعُهُم جامعةٌ ولا ثقافة ولا مدرسة ولا كيان بين الأمم ولا شأن لهم أمامَ الدّول.
حفاظ القرآن على اللغة العربية:
وكان الاستعمارُ قد مزَّقَ العرب قِطَعًا قِطَعًا، فكانَ شمالُ الجزيرة العربيّة مُستعمَرَةً للرومان، وكانت بلادُ الشّام ومدنُها لا تتكلَّمُ العربية، وإنّما تتكلَّمُ الرومانية واليونانيّة، وكانَتِ اللغة العربية في بادية الشام وفي الصحراء فقط، وكانَتِ العراق والخليجُ مُستعمَرةً لإيران الفارسيّة المجوسيّة، وكانت اليمنُ مستعمرَةً للأفارقة الأحباش ولم تكن لهم دولةٌ ولم يكونُوا أمّة، وكانت مصرُ تتكلَّمُ القبطية، وكانَت شمال أفريقيا تتكلَّم البربرية، وكانت اللغةُ اللاتينية لغةً واحدة فلم يُوجَد لها ما يحفظُها فتمزَّقَت إلى عشرين لغة، أمَّا اللغة العربية الضائعة التي لم يكن لها وجود إلا في الصحراء، فأتى القرآن فرفَعَ شأنَها وجعَلَ لها المعاجمَ والقواميس وبثَّها في كلّ الشّعوبِ من شرق البحر الأبيض المتوسط وجنوبه إلى أن وصَلَتْ إلى الأندلس وحدودِ فرنسا، وامتدَّتْ في مساجِدِ العالم مِن إندونيسيا إلى غَربِ أمريكا، ورَفع القرآن اللغة العربيّة في كلّ مسجدٍ على لِسانِ خطيبِها حين يُلقِي خطبتَهُ باللغة العربيّة، وجُعلت صلاة مليارِ إنسانٍ باللغة العربية، حتى صارَتْ لغةً مقدّسة سماويّة، ومعَها القومية العربية، كما يقولُ النبيّ عليه الصّلاة والسّلام: ((أحبُّوا العرب)) يَأمُرُ النبيّ ﷺ عمومَ الأعاجم مِن المسلمين بمحبّة العرب إعزازًا للقومية العربية، والنبيّ ﷺ يقول: ((أحبُّوا العرَبَ لثلاثٍ؛ لأنّي عربيٌ، والقرآنُ عربيّ، ولغةُ أهلِ الجنة العربية)) 1 ، ولم يرضَ الإسلام بتعريب المسلمين فقط بل عَرَّب العالَم كلّه مِن آدم إلى قيام السّاعة، وجعلَ اللغةَ العربيّة لغة أهل الجنة، فهل كان الإسلام -والوضع بهذا الشكل- عدوًّا للعروبة أو لقوميَّتِها أو للغتها أو لِوحدتها؟ لولا الإسلام ما كان هناك عربٌ، ولكانت طُمِسَت اللغة العربية في الجزيرة ولصار الناس يتكلمون أشكالًا وألوانًا؛ مِنّا من يتكلم الفارسيّة ومنّا من يتكلم البربريّة، ومنّا من يتكلم الرُّومِية، ومنّا من يتكلم اليونانية، إلى آخره. [يجدر الانتباه أن كلام سماحة الشيخ كفتارو هنا وفي كثير من المواضع عن العروبة والقومية ليس تعصباً أبداً لعرق أو قومية، بل إظهاراً لفضل الإسلام على العرب من ناحية ومن ناحية ثانية تنبيهاً للناس- في زمن إلقاء هذه المحاضرات- الذين يحملون شعار القومية العربية ويهملون الإسلام أو يحاربونه عملياً أنه لولا الإسلام لما كنتم عرباً ولما كانت لكم قومية، فلماذا لا ترجعون إليه وتعرفون فضله عليكم؟ زد على ذلك احتلال اليهود لأرض عربية وعجز العرب عن استرداد تلك الأرض.]
صفة اليهود في توراتهم:
فسورة الحشر تعنِي سورةَ تطهير الجزيرة العربية مِن اليهود، وسورة الإجلاء، والألفاظُ الثلاثة بمعنًى واحد، فهذا الإجلاءُ والإخراج وتطهير الجزيرة العربية مِن هذا العنصر الذي مَن قرَأَ عنهُ في توراة سيِّدِنا موسى عليه السلام نفسِها، والأنبياء يَنعتونَهُم بأقبحِ النعوت وبأقبحِ الصّفات مِن قَتْلِهِم للأنبياء ومِن إفسادِهِم في الأرض ومِن وحشيَّتِهِم، فإذا قاتَلُوا أعداءَهُم يَقتلون النساءَ والرِّجالَ والأطفال والدّوابّ، وهذا في نَصِّ التوراة المحرَّفَة، ويَعيبونَ على الإسلام إذا قامَ يَنشُرُ العلم والحكمة وتزكيّة النفوس في العالم، ويُنكِرون عليه ذلك، وقام الجهادُ ليس لاستعمار الأرضِ أو إذلالِ العِباد، إنّما كان الجهاد كما قال قائد الجيش العربي الإسلامي للقائد الفارسيّ المجوسيّ حينما سأله: لِماذا أتيتُم لتُقاتلونا؟ فقال الصّحابي القائد: “إنّما نُقاتِلُكم لِنخرجَ العباد مِن عبادة الإنسان للإنسان إلى عبادة خالق السّماوات والأرض”، وإذا صار الإنسانُ إلهًا على إنسانٍ آخر فكيف يَكونُ حالُ الإنسان المستعبَدُ لِمِثلِهِ؟ “ولِنخرجَ العباد مِن ضِيقِ الدُّنيا إلى سَعَتِها” يعني لِنُحارِبَ الفقر ولِنُحارِبَ الخرافة ولِنَنشُرَ العِلْمَ والثقافة ونحييَ العقل بالحكمة ونُحييَ النفوس بمكارم الأخلاق، هذا هو الجهاد المقدَّس.
هناك مُسلمُ العلم والفقه وهناك مسلم الانتساب الاسميّ:
فكان إجلاءُ اليهود مِن الجزيرة العربية على ثلاث مَراحل.. لَمَّا هاجَرَ النبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة عقَدَ معاهدةً مع كبارِ المقيمينَ في المدينة المنوَّرة من اليهود، فمِن جُملة المعاهدة أن لا يكونوا معَهُ ولا يكونوا عليه، يعني أن يَقفوا على الحياد، ولهم مِن الحقوق الحياتيّة ما للمُسلمين، وعليهِم مِن الواجبات للمجتمعِ ما على المسلمين، وهم أحرارٌ في دينِهِم وعقائدِهِم ودُنياهم وتجاراتهم، ولكنَّ شأنَ اليهودِ الغدر -ليس اليهود الأصيلين- واليهود والنصارى والمسلمونَ على قِسمينِ: مِنهم الأصيل، المسلم الأصيل، ومِنهم المسلِمُ الكذَّاب الذي يَتَسمَّى بالإسلام ولا يَعلَمُ الإسلام فهمًا ولا عِلْمًا ولا حكمةً ولا أخلاقًا ولا معاملةً ولا سلوكًا؛ ويَنتسِبُ إلى الإسلام كمُلَمِّع الأحذية [الذي ينظف أحذية الناس في الطريق] إذا انتَسبَ إلى الطبّ، وكَتَبَ على صندوقه “الطبيب المختصّ بالعيون”، وهو يُلَمِّعُ الأحذية! فأيُّهما أصدَقُ في وصْفِ شخصيتِهِ: لِسانُهُ أم فرشاتُهُ؟ أنُصدِّقُ أعيننا أم نُصدِّقُ أُذنَنا؟ قالوا: “بين الصّدقِ والكذب مسافة أربعة أصابِعِ”؛ فإذا سمعتَ خبرًا بأذنِكَ قد يكون كذبًا، فلا تستعجِلْ في تصديقِهِ حتى تَرَى الشيء بعينِكَ، فهذه مسافة الأربعِ أصابع إذا اجتزتها تَنتقِلُ مِن الكذب الذي تتلقَّاهُ الأذنُ إلى الصِّدق الذي تُدرِكُهُ العين، فلا تَنسَوا هذِهِ المسافة إذا سمعتُمْ خبرًا عن أخيكم أو عن قريبكم أو عن جاركِم أو عن أيِّ إنسان؛ ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: 6] هذا حجر أساس الإسلام، يا تُرَى إذا سَمِعَ كلّ واحدٍ مِنكُم خبرًا عن صديقه أو أخيه أو قريبه أو جاره فهل هو مسلِمٌ بهذه الآية ومؤمِنٌ بها؟ ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات: 12]، هل المسلمون مؤمنونَ بهذه الآية ومُستسلمون لأحكامها؟ أم يَحملُون مُعَاملتَهُم معَ بعضِهِم على سوءِ الظن دائمًا؟ قد يَطلُبُ أحدُهُم في الهاتف زيارة أخٍ له فيَقول له الآخر: “إني مريض”، يُنهي الهاتف ويقول عنه أنه “كذّاب”، هذا سوءُ ظنّ.. وقد يَعِدُ ولا يَفِي بالوعد، سواء الوعدُ بالعطاء أو بالزيارة أو بالتوقيتِ؛ يَقول له: موعدنا في الساعة الثامنة، فيأتي في السّاعة العاشرة، هذا نِفاق وليس إسلامًا.
المسلِمُ هو الذي درَسَ الإسلام وتفقَّهَ فيه ثم طبَّقَهُ، كالسائق الذي تَعلَّمَ قيادة السيارة لم يتعلمها بالمحاضرات، بل مِن وراء المقود، والسّباحة لا تُنالُ بالمحاضرات، بل تَتَعلَّمُها في البحر، وتتعلَّمُ صنع الخُبزَ عند التنور، وهكذا كلّ شيء، فأنتَ مُسلِمٌ فمِن أين أخذتَ هذا اللقب؟ أين مدرستُكَ؟ ومَن هم أساتذتُكَ؟ حتى يأخُذَ الطبيب شهادةَ الطبّ عليه أن يتتلمَذَ على خمسين أستاذ، فأنتَ تأخذ لقَبَ مُسلِمٍ؛ ولقبُ مسلمٍ أعظَمُ مِن مئة ألفِ لَقِبِ طبيب، فأبو بكر رضِيَ الله عنه المسلِمُ أعظَمُ أم مئةُ ألفِ طبيبٍ أعظَمُ؟ وعُمرُ رضِيَ الله عنه المسلِمُ أعظَمُ أم مِئة ألفِ مِهندس أعظَم؟ كلمة مُسلِم بالمعنى الحقيقيّ هو الإنسانُ العظيم العالِمُ الحكيم الملائكيّ القويّ الغَنيّ، إلى آخره.
الأُصلاء والمزيّفون في الأديان:
فلمَّا عاهدَهُمُ النبيّ ﷺ على أنَّ لهم ما للمُسلِمين وعليهِم ما على المسلمين، ولكن كما وصفَتْهُمُ التوراة وكما وصفَهُمُ الإنجيلُ وكمَا وصفَهُمُ القرآنُ، هؤلاء هم اليهود الكاذبونَ، وهناك يَهودٌ أُصَلاء، وُيوجَدُ نَصَارى أُصَلاء، ويُوجَدُ مزيَّفون، ويُوجَدُ مسلمونَ أصلَاء ويُوجَدُ مُزيَّفون، فالمزيَّفون سمَّاهم القرآن “منافقين”، وقال عن المسلمين المزيَّفِين: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء: 145]، وكذلك شأنُ المنافقينَ اليهود والمنافقين النصارى، فالذي يَنتسِبُ ويَتمنّى، ولا يَتَحقَّقُ تعلُّمًا ولا عمَلًا ولا يُؤدّي الواجبات ولا يَهجُرُ المحرَّمات سواءٌ باللسان أو بالعين أو بالأُذنِ أو باليد أو بالفَرجِ أو بالبطن أو بالغضَبِ أو بالرضا فليس بمسلمٍ حقيقيّ، فالمسلم يجب أن يكون مسلماً، كما أن الحياة أن تكون حَيَّاً، فحين تأكل وتشرب وتنام يجب أن تكون حَيَّاً وأن يكون النَّفَسُ والقلب يَعمَلان، وهل يَمكنُ أن تجتمعَ الحياة والموت؟ فساعةً يكون حيًّا وساعةً يكون ميّتًا! لا يمكنُ، [كذلك لا يمكن أن تكون مسلماً وغير مسلم في وقت واحد.]
فبدا من اليهود الغدرُ والخيانَة والخروج على القانون، وكانُوا ثلاث قبائل وهم: بنو النّضير وبنو قَينُقاع وبنو قُريظَة، وكانوا يَعيشون في المدينة وما حولها.. فالذين نزلَتْ في شأنهم هذه السُّورة هم بنو النَّضير، فبالرغمِ من المعاهدة الصّريحة ورغمَ وفاءِ النبيّ ﷺ والمسلمين لهم ومعامَلَتهم كمواطنين شرفاء أبَتْ طبائع المزيفين منهم.. وبالمقابل كان هناك يَهودٌ صادقون كان مِنهم عبدُ الله بنُ سلَام وكان حاخامًا، ولَمَّا هاجَرَ النبيّ ﷺ وكان على رأس نخلةٍ يَقطفُ رُطبَها وثمرَها، فسمِعَ أهلَهُ يَقولونَ: “أتى النبيُّ، أتى محمَّدٌ” وصاروا يَصفونَه، فلمَّا سَمِعَ وهو على رأسِ النخلة كاد أن يَسقُطَ لأنّه لم يَعُد يَتمالَكُ قِواه، ونزَلَ بسُرعَة لِيَسمَعَ وبشكل مُندهِش، قالوا له: ما لَك؟ قال: لِمَا سمعْتُ مِنكُم عن مجيء النبيّ مُحمّد ﷺ، فقالوا له: لو كنا نَتحدَّثُ عن موسى عليه السلام لَمَا فعلَتَ الذي فعَلتَ، قال لهم: إنّهُ أخُو موسى.. فأسلَمَ وكان مِن عظماء المسلمين، هذا اليهوديّ الأصيل.. وقد أسلمَ غيرُهُ مِن اليهود، وكان إسلامُهُم صادقًا، ولم يَخرجُوا عن إيمانهم بموسى وتوراته، فالإسلامُ أن تلتزَمَ التوراة وتلتزِمَ موسى عليه السّلام، وتُضيفَ إليهم عيسى عليه السّلام، وتُضيف إليهم مُحمَّدًا ﷺ، فتتوحَّدُ الأديان، وتَبقَى دِينًا واحدًا يَقودُهُ في كلّ عصر نبيُّهُ ورسولُ السماء.
إجلاء بني النّضير:
ولَمَّا انتصَرَ النبيُّ ﷺ في معركة بدر قال بنو النضير: هو النبيُّ المنتظَر، فلمَّا حصلَتِ الهزيمة في أُحُدِ وقَعُوا في الشكوك والرّيَبِ، وصاروا يحاولون التخريبَ والفساد، وحاكُوا مؤامرة لاغتيال النبيّ عليه الصَّلاة والسَّلام حين زارَهمُ النبيّ ﷺ ليطالبهم بإيفاء شرط كان مِن جملة المعاهدة التي بينهم؛ أنّه إذا لزمت دَيّةٌ فيَشترِكُ في أدائها لأصحاب القتيل المسلمون واليهود، فذهَبَ النبيُّ ﷺ إلى اليهود حتى يَدفَعُوا سهمَهم في ديّة قتيلين، فاستقبلوهُ وأكرمُوهُ، وقامُوا بمناورة، إذ أرادُوا أن يُلقُوا صخرةً مِن فوق السّطحِ لِيَقتلوهُ في مكانه، فأنجاهُ الله جل وعلا، وبعدَ ذلك ذَهَبَ أربعونَ مِن زعمائهم بعد أُحُدٍ إلى مكّة، فتحالفُوا عند الكعبة لِيَستَأْصِلُوا محمَّدًا ﷺ بالقتال، فبمجموعِ هذه الأمور التي انكشفَت للخاصّ والعام أمرَهُمُ النبيُّ ﷺ بالحشْرِ والجلاء والخروج مِن المدينة، فأبَوا فأمهلهُم ثلاثةَ أيّام فلم يَستجيبُوا، فحاصَرَهُم النبيُّ عليه الصّلاة والسّلام قريبًا من عشرين ليلة.
ثم إنَّ المنافقين -الذين يسمّون أنفسهم مُسلمينَ، لكنّهم مسلمون مُزيَّفُون- وعلى رأسِهِم عبدُ الله بنُ أُبيّ بن أبي سلول الذي بَعَثَ هو وجماعته خبرًا إلى اليهود: أن اثبُتُوا ولا تخرجوا، إنَّنا معكم، لئن قُوتِلتُم لنُقاتِلنَّ معكم، ولئن أُخرِجتُم لَنخرُجَنَّ مَعكم، فقال الله: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ [الحشر: 11- 12] ولأنّ ابن أبي سلول قال لهم: ابقَوا واصمُدُوا، نحنُ معَكُم؛ وسنُقاتِلُ معَكُم ونَعيشُ معَكُم ونموتُ معكم ونَخرجُ معكم، فلمَّا هزَمَهُمُ الله وأخزاهم قال الله عن عمل ابن أبي سلول مع اليهود: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ﴾ [الحشر : 16] فلَمَّا أخزاهُمُ الله وخذَلَهُم وأخرجَهُم لم يخرجوا معَهُم، ولَمَّا قُوتِلُوا لم يقاتلوا معهم سوى أنهم زُيّن لهم سوءُ عمَلْهِم فرأوهُ حسَنًا، وصدَّقُوا وَعْدَ شياطين المنافقين، وكانوا الكاذبينَ معَهُم والمغرِّرينَ بهم والمخذولين والخاذلين في نهاية الأمر، ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ﴾ مَن الشيطان؟ ابن أبي سلول والمنافقون، ﴿إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ﴾ قالوا لليهود اصمُدوا ونحن معكم، ولَمَّا جدَّ الجدُّ تخلَّوا عنهم، وكانت الطّامة الكبرى عليهم، وهذا جزاءُ الخائنين والغادرين والمفسدين.
سياسة النبي ﷺ:
وعندما ذهبُوا وحالفُوا قريشًا عند الكعبة بقيادة أربعين مِن زعماء بني النضير، كان النبيُّ عليه الصّلاة والسّلام عظيمًا وكان فوقَ النبوة سياسيًا عظيمًا وقائدًا عظيمًا، وفوق النبوّة كان لا يُؤخِّرُ عَمَلَ اليوم إلى غدٍ، وكان فوق النبوّة لا يَسكُتُ عن الدّنيّة، وفوق النبوّة كان لا يتركُ الحيَّة وهي صغيرة حتى تصيرَ مثلَ النخلة أو مثل جِذْعِ شجرة الحور ثخين الجسم.. فأرسَلَ إلى كَعْب بن الأشرف وكان في ليلةِ عُرسِهِ، وهو زعيمُ اليهود الذي قام بمعاهدة الخيانة الوطنية.. أليسُوا مواطنين؟ وقد صارت هناك دولة.. وهذا يحدُثُ في أيِّ دولة وفي أيّ بلَدٍ، إذا قام رجلٌ ما بالذهاب إلى إسرائيل الآن وعقَدَ معهم مُعاهدَةَ تحالُفٍ على قتال الدّولة السّورية، فماذا تحكمُ عليه القوانين السّورية؟ إعدام، فالإسلامُ ما أعدَمَهُم ولكن قال لهم: اخرُجُوا مِن المدينة، فهؤلاء حكمُهُم في القانون “الإعدام” كما يَقول المحامون، واسم الجُرمِ هو: الخيانة العُظمَى، فالقرآن والإسلام والنبيّ ﷺ لم يَقتُلْهُم، بل قال لهم: أنتم خوَنَة لا تصلحون لحقوق المواطنة، وبالأصل أنتُم لستُم مِن المدينة فارجعوا، فأخرَجَهُمُ النبيُّ ﷺ عن بِكرَةِ أبيهِم بعد هذه الخيانة والمؤامرة على قتل النبيّ ﷺ وقتْلِ الدّولة الإسلامية وقتلِ الأمّة العربية الناشئة في منطقة المدينة وفي مجتمع المدينة، وكان مِن الشروط أن لا يحمِلُوا مِن أموالهم إلا حُمولةَ جَمَلٍ لِكُلّ ثلاثة أشخاص.. كيف أعزَّ هذا الإسلامُ العرَب؟ والآن لَمَّا ترَكَ العربُ الإسلامَ أجلاهُمُ اليهود وحشرَهُم اليهود!
حقيقة المسجد بإمامه الناجح:
فالإسلام يا بُنيّ ليس جامعًا ومئذنةً وأن تصلِّي أربع ركعات وحسب، الإسلامُ عِلْمٌ يَحتاجُ إلى مدرسة، والإسلام عِلمٌ يحتاج إلى مُعلِّمٍ، والإسلام أخلاقٌ يَحتاجُ إلى مُهذِّب ومربٍّ ومؤدِّب، والإسلامُ عقلٌ وحكمةٌ تحتاجُ إلى حكيمٍ وفيلسوف، فإمامُ الجامع إذا لم يكن العالم العظيم والمعلِّم ولم يكن المربّي العظيم والمهذّب المزكّي، ولم يكن العقلانيّ الحكيم الذي يُقنِعُ الناس بأحقيَّةِ ومصداقيّة الإسلام لم يحصل المقصود.. والآن لم يبقَ من الإسلام إلا الاسم، وكان سيِّدُنا عليّ رضي الله عنه يَقولُ: “يأتي زمانٌ لا يَبقى مِن الإسلام إلا اسمُهُ ولا مِن القرآن إلا رسمُهُ”، فمعنى المسجد دروسهُ ومحاضراته وإنتاجُه، هذا هو المسجد! وابن المسجد هو إمامُهُ ومدرِّسُهُ وخطيبُهُ، أمَّا إذا لم تُوجَد هذهِ المعاني فالمسجد كنايةٌ عن بناءٍ مثل بقيّة الأبنيّة من إسمنت وكهرباء وغير ذلك، وهذه لا تَصنَعُ الإنسانَ العظيم ولا تَصنعُ مثلَ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
إجلاء يهود بني قريظة وقتلهم بعد الخيانة العظمى:
فبعد أن أجلاهم، وكان الإجلاءُ أو الحشر أو الإخراج في السّنة الرابعة مِن الهجرة النبويّة، وكان قد أجلا قبلهم أيضاً بخيانات مثل هذه، فقد أجلا يهود بني قينقاع بعد معركة بَدْر، حيث ظَهَرَ مِنهم خيانات أيضاً، والإجلاء الأخير مِن المدينة كان لبني قريظة، وهؤلاء أُجلُوا بعد إجلاء بني النضير حيث أرادوا أن يأخُذُوا الثأرَ لهم، فتحالفُوا مع قريشٍ على أن يَستأصلوا النبيَّ ﷺ والإسلامَ مِن المدينة، وذهبوا إلى قبائل غطفان فتحالفُوا معَهُم أيضًا، فكوَّنُوا جيشًا مكوَّنًا مِن عشرة آلاف مقاتل، أربعةُ آلاف مِن قريش، والباقي مِن اليهود ومِن قبائل العرَبِ كغطفان وأمثالهم، وتلك الغزوة المسمَّاة بغزوة الأحزاب أو غزوة الخندق، ونصَرَ اللهُ الإسلامَ ورسولَهُ فأمَرَ النبيّ عليه الصَّلاة والسّلام بقَتلهم، لأنهم قاتَلُوا.
فهؤلاء مقاتلون حربيّون، ما هو حُكمُهُم؟ مواطنٌ ويُقاتِلُ مع اسرائيل ما حكمُهُ القانونيّ؟ فرنسيّ ويُقاتِلُ مع الألمان في الحرب الثانية ما حكمُهُ القانونيّ؟ إعدام، هل هناك في الدُّنيا مَن يَنتقِدُ على هذا الحُكم؟ فيَقولُون: “قتَلُوا بني قريظة”، فقبلَ أن تقولَ: قُتِلُوا وقتلَهُمُ المسلمون اسألْ ما هي جنايتُهُم؟ وما هو جرمُهُم؟.. فلمَّا هزَمَ الله الأحزابَ صارت مفاوضة بينهم وبين النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام وفي آخِرَ الأمر قال يهود بنو قريظة: “نَرضَى بحُكْمِ سعد بن معاذ”، وكان سعدٌ رضي الله عنه مجروحًا في تلك المعركة، فالتفَتَ إلى النبيّ ﷺ قال أترضَى بحُكمِي يا رسولَ الله؟ وهو غاضّ النظَر أدبًا مع رسول الله ﷺ، فكان حُكمُ سعدٍ رضي الله عنه قال: أن تُقتَلَ مقاتلتُهُم وتُسبَى ذراريهِم بحسَبِ قانون ذلك العصر، وأن تكونَ أموالُهُم للمُهاجرينَ دون الأنصار، وهو أنصاريّ.. خانُوا الخيانة الوطنيةً بلُغَةِ الوقت وخيانة المعاهدة بلُغة الأخلاق، وجيَّشُوا الجيوش للقضاء على الدولة العربية الإسلامية، فهذه خيانة عظمى.
قيمة العرب بإسلامهم:
وهكذا قُدِّمَ مقاتِلتُهُم وقُتِلوا في باحة المدينة المنوَّرة -سبع مئة [جنديّ] يهوديّ- هؤلاء هم العرب بالإسلام! ماذا كانت النتيجة بعد ثلاث معارك مع اليهود؟ الهزيمة للعرب أم النصر للعرب؟ فينبغي أن يرجعِ العرَبُ والمسلمون إلى الإسلام بحقيقتِهِ وجوهرِهِ، لكن أين الرجال الذين يَستطيعون أن يُمثِّلوا الإسلام بحقيقته وجوهره؟ دعوةً وعلمًا وعقلانية ووطنيةً ونهوضًا بكلّ المعاني وبكلِّ ميادين الحياة من اقتصادٍ وسياسة وزراعة وعلوم، هذا هو الإسلام.. ولم يمض على الهجرة خمسُ سنوات حتى تطهَّرَ العربُ المسلمون أو المسلمون العربُ مِن اليهود.
فبِمناسبة إجلاءِ بني النضير نزلَت سورةُ الحشر، وسورة الحشْر تعني سورة جلاء اليهود، وفي هذا العصر الآن هل صار هناك جلاءُ اليهود أم جلاءُ العرَبِ؟ وهل حصل حشْرُ اليهود أم حشرُ العرب؟ وإخراجُ اليهود مِن مواطنِهِم أم إخراجُ العرَبِ مِن مواطنهم؟ لماذا ذلك؟ عندما كانَ العرَبُ مع الإسلام أَخرَجُوا أعداءَهُم مِن بينهم، ولكن عندما صار العربُ في شِقّ وصارَ الإسلامُ في شِقّ صاروا كما هو الواقع، الواقع يَنطِق، والواقع هو الذي يَتكلَّمُ والتاريخ هو الذي يَتَكلَّمُ.
معنى التسبيح كمال ذات الله وصفاته وأفعاله:
فأنزَلَ الله قوله تعالى في سورة الحشر: بِسم الله الرّحمنِ الرَّحيم ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [الحشر: 1]، التسبيحُ: في الأصل معناهُ التَّنزيهُ؛ فهذه العباءة إذا كانت متَّسِخةً فغسَلتَها ونظَّفْتَها فقد سبَّحتَها، وإذا كان هناك إنسانٌ فيه نقائصُ، وكان فيه ذنوبٌ ثمّ تاب، وفيه نقائص واستبدَلَها بالفضائل فقد سبَّحَ نفسَهُ ونزَّهَها عن الرذائل إلى الفضائل، فالله مُنزهٌ في ذاتِهِ، كلُّهُ كمال، وفي صفاته فكلّها كمال، وفي قانونِهِ وقرآنِهِ وشريعته، كلُّها كمال، “فسبح لله” كلُّ خلْقِ الله مَبني على الكمال ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ [الملك: 3]، ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا﴾ [ص: 27]، لا يُوجَد شيءٌ مخلوق إلا لِحكمةٍ وهدَفٍ، يَكونُ فيه المصلَحَة والمنفَعَة، فكلُّ ما في السَّماوات مِن خَلْقِ الله وكلُّ ما نَزَلَ مِن شرائع من السّماء كلُّها كاملةٌ لا نقصَ فيها، وهي مُنَزَّهَة مقدَّسة.
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ كلّه كمَال، بُعدُ الشمسِ عن الأرض بالمسافة المحدَّدَة كمال، فلو كانت أقرَبَ لأحرقَت الأرض ومَن فيها، ولو كانَت أبعَدَ لتجمَّد مَن في الأرض مِن إنسان وحيوان ونبات، فهذه المسافَةُ المحدَّدَة مع جَريان الشَّمسِ والقمر بسرعات مئات الآلاف من الكيلو مترات في الساعة، والمسافة لا تتبدَّلُ ولا تَتَغيَّر، فهذا تَسبيحٌ أم ليس بتسبيح؟ فلو حصَلَ خللٌ فهذا ضدُّ التسبيح، لكن ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾ انظُر هل مِن خلَلٍ؟ ﴿ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ مرّةً بعد مرّة ﴿يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [الملك: 3-4]. ﴿سَبَّحَ﴾ فأنتَ تقولُ: سبحانَ الله في شرعِهِ وترى شرعَهُ كاملًا، سبحان الله في صفاته وفي ذاتِهِ وفي دستورِهِ السَّماويّ وفي أنبيائه، وحين تقول “سبحان الله” هل تشعر بهذه المعاني؟ ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ القوي الذي لا يُقهَر ولا يُغلَب، ﴿الْحَكِيمُ﴾ [الحشر:1]، الذي لا يُشرِّعُ إلا تشريعًا حكيمًا كاملًا فيه سعادةُ الإنسان ومصلحتُهُ، وليس إنسانًا معيَّنًا، بل كلّ إنسان.
من الصعب أن يتغير الطبع عند الإنسان:
ثم قال: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ [الحشر: 2] ومعنى “لأوّل الحشر” أي أوّلُ جلاءٍ مِن الجزيرة العربية وكان جلاء بني النّضيرِ، والجلاءُ الأخيرُ كان في خلافَةِ عُمَرَ رضي الله عنه، كما ظَهَرَ منهم في خيبر خيانةٌ وغدرٌ معَ الدّولة العمريّة، فأمَرَ عُمَر رضي الله عنه بإجلائِهِم وإخراجِهِم مِن الجزيرة العربية.. لأنهم كانوا مثل قصّة الضفدع والعقرب لَمّا استغاثَ العقربُ بالضفدع ليحمله إلى الطَّرفِ الآخَرِ من النهر، وفي منِتصفِ النّهرِ لَدَغَه، فقال له: هل هكذا يكون جزاءُ المعروف؟ أنا أنقذتُك مِن الغرق وأريدُ أن أوصِلَك إلى شاطئِ الأمان، أهكذا تفعل؟ فقال له: لا تؤاخذني فإنّ من طبعِي الأذى.. و”إذا سمعتُم بأن جبلاً زال عن مكانِهِ فصدِّقُوا، وإذا سمعتُم بإنسانٍ زالَ عن طباعِهِ فلا تُصدِّقُوا”، والعقرب سيبقى كما هو بصفات العقرب، وبعدها غطَسَ الضفدع وبَقيَ العقرب على وجْهِ الماء يُصارِعُ الغرق ويستغيث، فقالَ له: ألم تعدني بأن توصِلني؟ فقال له: الغوص طبعٌ فيّ كما أن اللدغُ طبعٌ فيك، ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40].
الإسلام التزام بالواجبات واجتناب للمحرمات:
﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ لم يقُلْ: “هو الذي أخرَجَ أهل الكتاب”، مما يَدُلُّ صراحةً أنًّ الله قَسَمَ أهل الكتاب على قسمين: منهُمُ المؤمن ومنهُمُ الكافر، يُوجَد يَهوديّ مُؤمِنٌ ويُوجَدُ يَهوديّ كافرٌ، ويُوجَدُ نصرانيٌّ مؤمِن ويُوجَدُ نصرانيّ كافِرٌ، ويُوجَدُ مُسلم مؤمِنٌ ويُوجَدُ مُنافِق، المنافِقُ من يُظهِر الإسلام أو يَنتسِبُ للإسلام لكن لا عقيدةَ له، ولا واجبات ولا اجتنابَ للمحرَّمات ولا امتثالَ لأوامِرِ الله، ويقولُ: أنا مسلم! هذا دجّال ومزوِّر ومزوَّر.. فلا تغترَّ بصلاتك إذا صلَّيتَ، فالصَّلاة التي فرضَها الله هي التي تَنهى عن الفحشاء والمنكر، وإذا كانت صلاتُكَ لم تزجُرْكَ عن فاحِشِ القول والأخلاق والأعمال فأنتَ لستَ مُصلّيًا، وهكذا وَرَدَ في الحديث القدسي: ((ليس كلّ مصلٍّ يُصلّي)) 2 وفي الحديث: ((وربّ مُصَلٍّ لا تَنفَعُهُ صلاتُهُ)) 3 ، وقد قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون: 1- 2]، أمَّا إذا ما صارَ لك خشوعٌ في الصّلاة وخشوعٌ لأمْرِ الله ولعظمته وأحكامه فأنتَ لم تصلِّ؛ قَرَنَ الله الفلاح بالمصلّ الخاشِعِ لعظمةِ الله المنقاد إلى أوامر الله، أمَّا إذا صلَّى ولسانُهُ غير مضبوط بأوامر الله، وأذنُهُ مُفتَّحَةُ الأبواب، وعينُهُ تَنظُرُ إلى ما حلَّ وحَرُمَ، فهل هذا مصلٍّ؟ علامةُ الكهرباء أن تُزيلَ الظُّلماتِ، أمّا إذا أشعلتَ الضوءَ وبقيتْ الظلمات على حالها فهذا يعني أنه لا يُوجَد كهرباء، أو أن الضوء محترقٌ أو أن الأسلاك لا تيار فيها، فما الفائدة؟
الإنسان يقوى بالصلاة على الأهوال:
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ [المعارج: 19]، ما معنى الهَلوع؟ ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا﴾ [المعارج: 20] هذا هو الهلوع، إذا أصابَتْهُ أقلّ مُصيبة كأن يُؤلِمهُ رأسُهُ أو بَطنُهُ أو فقَدَ مالَهُ أو أُصيبَ بمصيبة فيَهلَعُ ولا يَتَحمَّلُ، فشخص يصيبه فالجٌ، وآخر يُصاب بداء السُّكّر، وآخر يَضرِبُ أو يَقتُلُ أو يقوم بإيذاءٍ فهذا هلوعٌ، وهذا إنسانٌ ضعيف، أمَّا الإنسانُ القويّ يَصير قويًّا بالصّلاة.. ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوْعَاً﴾، فالمؤمنُ لا يَكونُ جَزوعًا ﴿وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ﴾ [الحج: 35]، ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177]، وهناك الذي تصيبُهُ مصيبة بسيطة كأن تلدغه بعوضةٌ فيبدأ بالصراخ.
يُذكَر عن الإمام مالك أنه كان يُدرِّسُ في المسجد النبوي وأثناء الدرس صار تلاميذه يَلاحظون في وجهِهِ تغيُّراً إلى أن انتهى درسُهُ، فقال لهم: انظروا ماذا يوجد تحت قميصي فوجَدُوا عقربًا قد لدغَهُ عدّة لدَغاتِ، وكان يتَغيُّرَ لون وجهه مِن الألم، فقالوا له: يا إمام لماذا لم تخبرنا؟ قال: كنتُ أتلو حديثَ رسول الله ﷺ فاستحيَيتُ أن أقطَعَ حديث رسول الله لأجل حشرة، هذا ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ [البقرة: 177] هذه الصَّلاة أخرجَتْهُم مِن الهلوع والجزوع إلى الصَّبور والصّمود الثابت كالجبال التي لا تزلزلها الرياح ولا الهواء ولا الأهواء.
﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج: 21] إذا صار غنيًا أو صار حاكمًا أو صار عظيمًا تراه يَمنَعُ خيرَهُ أو يمنَعُ معونَتَهُ ويَتكبَّرُ على مخلوقات الله، ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ حتى ولو كان هذا مصليًا، قال ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ [المعارج: 22] فهل أنتم تُصلُّون؟ كلُّكُم تُصلُّونَ الصَّلاة الجسديّة، لكن يا تُرى هل صلَّيتُم الصلاة التي أرادها الله مِن الصَّلاة، وهي أن تتعقَّمُوا مِن الهلع الذي لا يَصبِرُ صاحبُهُ عند المصيبة، فيَصيرُ جزوعًا، وإذا مسَّتْهُ النِّعمةُ يَصيرُ منوعًا، وإذا حصلت فيكم هذه المعاني فأنتُم لستُم بالمصلِّينَ الذين وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون: 1- 2] إذا كنتَ لا تَزال هلوعًا عند أقلّ مصيبة أو نكبة أو مرض أو فَقْدِ حبيب أو مشكلة من المشكلات يَطيرُ عقلُكَ.
كان أحدُهُم قد أصابَتْهُ الغرغرينا في ساقِ رجله فقالوا له: نُخدِّرُكَ، قال لهم: لا أقبل، قالوا: لم؟ قال لهم: حتى لا يَغفَلَ قلبي عن ذِكْرِ الله؛ فقالوا له: كيف سننشُرُ لك العظمَ ونقطَعَ رجلَكَ؟ ستَشعُرُ بالألم قال: أنا سأدخُلُ في الصّلاة، وأنتم افعَلُوا ما بدا لكم.. فقطَعُوا رجلَهُ في الصّلاة عند تلاوة القرآن، فكانت الصّلاة مخدِّراً له؛ فلم يُحِسّ بألمٍ ولا ظهَرَت عليه هِنةٌ.
الإسلام الحقيقي لا يَصيرُ بسماع الدرس فقط:
هؤلاء هزموا الاستعمار في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا الإسلام لا يَصيرُ بسَماع الدرس وحضوره فقط، وهذا يتطلب أن تُشغِّل قلبَكَ بذِكْرِ الله وتنعشَ روحَكَ بروح الله وتفهم كلام الله، فتقرأ القرآن كلَّهُ كلمةً كلمةً لِتفهمه.. عندما يأتيكَ مكتوبٌ باللغة الإنكليزية مِن طبيبٍ تداويتَ عندَهُ في إنكلترا وأنتَ لا تَعلَمُ قراءة الإنكليزية ماذا تفعلُ بالمكتوب؟ ستأتي بمترجمٍ، هل لتقرأ المكتوب أم لتفهمَهُ وتعمَلَ بمقتضاه؟ إذا جاءتك شيكّات لكي تَقبَضَ مئة ألف ليرة، هل تكتفي بقراءتها أم تذهَبُ إلى البنك لتقبِضَها؟ وإذا قرأتَ الشيكّات طوالَ عُمرِكَ ولم تذهب إلى البنك ولم تقبض شيئًا فماذا سيَقولُ الناسُ عنكَ وأنت تقرأ الشيكات في كل مكان؟ ويشبه ذلك أنك تَذهَبُ إلى دعوة عامّة فتقرأ لهم الفاتحة وتذهب إلى الجامع فتقرأ لهم الفاتحة، الفاتحة هي المدرسة التي تجمَعُ كلَّ معاني القرآن بشكل موجَزٍ مختصر.. فالمسلمون يَحتاجُونَ إلى الذِّكر القلبي والتذكير الفكريّ والقرآن العقلانيّ الإقناعيّ البرهانيّ: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [المؤمنون: 117]، ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 111] ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ﴾ كحقيقة واقعة ﴿فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ [الزخرف: 81] هذا هو الإسلام.
عقوبة الخيانة:
﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ ممَّا يَدُلُّ على أنَّ أهلَ الكتاب قسمان، فيهمُ المؤمن، فالمؤمِنُ يَلتقي مع المسلِمِ المؤمن، وأمَّا أهلُ الكتاب كالذي يَنتسِبُ لفظًا وهو كاذبٌ عملًا وأخلاقًا وعقيدةً فهذا ليس يَهوديّاً ولا نصرانيّاً ولا مسلمًا، هذا إنسانٌ حيوانيّ، ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ يعني أوّلُ جَلاءٍ مِن الجزيرة العربية الذي كان في بني النضير، وآخِرُ جلاءٍ في خِلافة عُمرَ رضي الله عنه كان إجلاءً ليهود خيبر، لإفسادِهِم في الأرض وخيانتهِم الوطنيّة بلغة هذا الوقت وخيانتهم للمواثيق والمعاهدات الشريفة، ولم يعاملهُمُ الإسلام إلا أحسَنَ معاملةٍ، فنقضُوا العهود وخرجُوا على القانون.. وإذا كان هناك مواطنٌ قام بخيانة وطنيّة في إنكلترا أو في أمريكا؛ وقالوا له: اذهب مع السّلامة يَكونون قد أنعَمُوا عليه نعمةً كبيرة، أليس كذلك؟ إذا خان أحدُهُم خيانةً وطنيّةً وأمسكُوا به وكان جاسوساً يَهوديّاً مثلًا وقالت له الحكومة: اذهَبْ مع السّلامة، هذا يَكون بالنسبة له أحسن الأحكام، لكنّ الواقع أن كلّ قوانين الدّنيا تقطَعُ رأسَهُ، فإذا أجلاهم الإسلامُ إجلاءً جزاءً لهم، وصادرَ أموالَهُم، هل هذا أحسَنُ أم إذا صادَرَ أرواحَهُم ودماءَهُم ومُهجَهُم حتى يَرتَدِعَ الباقون؟
أهميّة أن يَعتبِر المسلمون من إخراج الذين كفروا:
قال: ﴿لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا﴾ [الحشر: 2]، لأنّهم كانُوا أقوياء، وكانُوا مُسلَّحينَ، وكانُوا أغنياء ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ﴾، قال: عندَهُم قلاعٌ محصَّنَة وتحصَّنُوا: ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ [الحشر: 2]، هل رأينا الله نزل في المعركة؟ معنى ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ﴾ يعني أتاهم أمْرُ الله وقَدَرُ الله وحُكْمُ شرعِ الله مِن طريقِ الصادقين المؤمنين بالله وبدينِهِ وبنبيِّهِ، المسلمين بأعمالِهِم وبأخلاقِهِم وبقلوبِهِم وبروحانيَّتِهِم ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ لَمّا كانوا يَخرجون من بيوتهم كانوا يُخرِّبُونها حتى لا يَسكن المسلمون فيها، ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ أنتم يا مُسلمونَ، اعتبرُوا واحذرُوا أن تعمَلُوا كعمَلهِم فيَنزِلُ عليكم مِن البلاء مِثلُ الذي نَزَلَ بِهِم، هذه هي العِبْرَةِ.. يا تَرى هل نحن نَعرِفُ قراءة القرآن؟ تحفيظ ألفاظ القرآن شيءٌ جيد، لكن هل نُحفِّظُ المعاني والأهداف؟ هل نحفَظُ فِقْهَ القُرآن؟ فاعتبِروا.. صار اليهود يُجلونَ المسلمين عن فلسطين الآن أليس كذلك؟
الآن لو كان القرآنُ ينزَلَ لكان الواقع يقول: “هو الذي أخرَجَ الذينَ كَفَرُوا مِنَ المسلمين لأوّل الحشر” أجلَوا المسلمين عدَّةَ مرّات؛ لأنَّهم لم يَعتبروا ولأنَّهم ليسُوا مِن أولي الأبصار.. هذا قرآنٌ يا بُنَيّ! “اعتبروا” اتَّعِظُوا ولا تُخطِئوا كمَا أخطأوا، ولا تَفعَلُوا كما فَعَلُوا، فتكونَ نَتيجتُكُم كنتيجتِهِم، هذا قانونُ الله أو قانون الطبيعة أو قانون الحياة، اليهود حوالي ستة عشَرَ مليونًا موحَّدون في كلّ أقطار العالم، وتَربِطُهُم رابطةٌ واحدة، هي التوراة والحاخام، وهذا رغم ما في توراتهِم مِن أمورٍ هم كفَرُوا بها، إلا أنهم مع ذلك مربوطونَ بالدّين، وأمّا المسلمون معَ عميق الأسف فارتباطُهُم ضعيفٌ، وتَظهَر جماعات يَتَسمّون باسم الدّين، لكن إمَّا أن تقودَهُم أيدٍ خفيَّة ضدَّ الإسلام وضدّ العربِ وهم لا يَشعُرون، وإمّا أنهم –من ناحية أخرى- لا يَفقهون الإسلام، فالإسلام ليس سلبيّاً بل كلُّهُ إيجابيات.
إذا لم يَعُدِ المسلمون لإسلامهم فسنبقَى على الضّعفِ والهزيمة:
الآن يجب على كلِّ القِوى الإسلامية أن تتعاوَنَ مع حكوماتِها الوطنيّة، ومع الوقتِ يكونون كالكفّين، إحداهُما تغسِلُ الأُخرى، وإحداهُما تُساعِدُ الأخرى، وكما وَرَدَ: ((الإسلامُ والسلطان أخوان توءمان لا يَصلُحُ أحدُهما بدون الآخر، فالإسلام أسٌّ والسلطانُ حارسٌ وما لا أُسَّ له يَنهدِمُ، وما لا حارسَ له يَضيعُ)) 4 ، فما لم يَعُدِ العربُ والبلاد الإسلامية إلى القرآن وإلى فِقْهِ القرآن المفسَّر بسُّنّة النبيّ ﷺ الصّحيحة وخلفائه الراشدين فسنبقى تُصيبُنا الهزيمة تلوَ الهزيمة والضَّعف تلوَ الضَّعف.
وكما قال عليه الصَّلاة والسّلام: ((إذا تَبايعتُم بالعِينَة))، هذا نوعٌ مِن أنواع التَّعامُلِ بالرِّبا باسمِ حيلةٍ شرعيةّ، هل هناك أحدٌ يَتحايَلُ على الله؟ هل الله طفلٌ صغير؟ ((إذا تبايعتُم بالعِينَة)) يعني تعامَلْتُم بالرِّبا؛ بنوعٍ مِن أنواعِهِ، ((ومشَيتُم خلْفَ أذنابِ البقر)) قيلَ في معناه: أن تَصيروا مزارعين لا تَعتنونَ بالقوّةِ وبالسّلاح تصنيعًا وإعدادًا على المستوى المطلوب، ((وتركتُمُ الجهاد))، الجهاد نوعان: يُوجَد هناك الجهادُ الأكبر، وهو التربية وتهذيبُ النفوس والأخلاق والفضائل وهذا الجهاد الأول، كما أنَّ الوضوء هو مقدِّمَةُ الصّلاة ولا تصحّ الصّلاة إلا بوضوء مُسبَق كذلك لا يَنجَحُ الجهادُ للعدوّ إلا إذا سبَقَهُ الجهادُ الأكبر جهادِ النفسِ والهوى، ((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، ومشَيتُم خلف أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)) 5 .
القرآن للعمل وليس للتلاوة فقط:
الدِّينُ بين دفَّتِي القرآن، علينا أن نفقه القرآن، لا تقرؤوا القرآن إذا كنتُم تقرؤونه للتلاوة فقط، ولا تسمعُوهُ إذا كنتُم تَسمعُونَهُ للنَّغَمِ.. هل تأخذ الوصفة الطبية من الطبيب لتقرأها على المريض؟ إذا صار معَ المريض إسهالٌ أو صُدَاع أو شقيقة أو ربو أو حُمّى يذهب إلى الطبيب فيعطيه وصفة طبية ليذهب إلى الصيدلي فيدفع الثمن ويأخذ الدواء، هل تذهب إلى الصيدلي وتدفع الثمن؟ وهل تستعمل الدواء عندما تأتي به من الصيدلي؟ أما إذا قرأ الوصفة الطبية خمس مئة ألف مرة فهل يُشفى من مرضه؟.. لو جاءَكَ إيصال مالي بمئة ألف دولار أو مليون وصِرتَ تقرؤه أينما ذهبتَ وفي الإذاعة، وتطبَعُه في الجرائد، ولكنك لم تذهب إلى البنك ولم تقبض منه فلساً ألا تموتُ مِن جوعك؟ وماذا أغنَتْ عنك الكتابة أو التلاوة؟.. وهكذا القرآن إذا اكتفَينا بالتِّلاوة بلا عِلمٍ، وإذا كان بلا عَمَلٍ، وثمّ بلا تعليمٍ؛ الذي تَتَعلَّمُهُ يجب عليكَ أن تعلّمَهُ بأقوالِكَ وأعمالِكَ وأخلاقِكَ وسلوكك.
الهجرة إلى العالِم الوارث المحمّديّ:
ولا تكون مُسلمًا بهذا المعنى حتى تُهاجِرَ إلى الله ورسولِهِ، والهجرة إلى رسولِ الله ﷺ كانَت هجرةً إلى العِلْمِ وتعلُّمِ الحكمة وتزكيةِ النفوس، والنبيّ ﷺ ذَهَبَ إلى الرَّفيقِ الأعلى، فإذا أردتَ أن تُهاجِرَ إليه هل تذهَبُ إلى الآخرة؟ إذا أردتَ أن تذهَبَ إلى الآخرة توكَّلْ على الله! [قول “توكل على الله” هنا بالعامية السورية بمعنى: افعل وباشر الأمر.. يقولها الشيخ ضاحكاً للتنبيه إلى المعنى الحقيقي للهجرة إلى رسول الله ﷺ] قال النبيّ ﷺ: ((العُلمَاء وَرَثَةُ الأنبياء)) 6 ، فهل فتَّشتَ على وارثٍ مُحمَّدِيّ تُهاجِرُ إليه بجسمِكَ وصُحبَتِكَ وقلبِكَ وحُبِّكَ والارتباط الكلّيّ به نيابةً عن رسول الله ﷺ؟ هذا كلام النبيّ ﷺ وليس كلامي.
مَنِ العُلَماء؟ العالم بالله هو: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]، إذا لم تَكن خشيةُ الله ومخافتُهُ والمسارعة إلى مرضاته صفةً مِن صفاته فهذا ليس بعالم، ولو كان يَحمِلُ خمسين دكتوراه، هذا اسمُهُ قارئ وليس بعالم.. المسجِّل [الآلة] يُسمِعُكَ كلَّ أنواع العلوم، فاسأل المسجِّل هل يَفهَمُ شيئًا؟ فإذا كان عالِمًا يقول ولا يعلم ما يقول فهذا مثل المسجِّل، وهذا جمادٌ ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: 18] ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة: 5]، الحمارُ مهما حمَلَ أسفارًا وكتبَاً هل يصير عالِمًا أم يبقى حمارًا؟ اللهمَّ ارزقنا العِلمَ.. العِلمُ هو ما أوجَبَ العمَلَ به، فعندَما تَعلَمُ أنّ لدغة أفعى الكوبرا قاتلةٌ فما مُقتَضى العِلم بها وبلدغتها وبِسُمِّها؟ هل تجعلُها عِقالًا على رأسِكَ أو عمامة أو ربطة عنُق أو تضعُها حزامًا للباسِكَ؟ هذا العلم يا بُنيّ! فإذا ألقيَتَ خمس مئةَ محاضرة وسمعتَ خمس مئة محاضرة عن الكوبرا وسُمِّها وقَتلِها وأمسَكتَها مِن وسطها فهل هذا دليلُ العلم أم الجهل؟ ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ [هود: 46].
حال المسلمين الآن أنهم يفعلون المعاصي كلها ويدّعون أنهم من أهل الجنة:
العِلْمُ يَكونُ عِلْمًا عندما يكون بالعمل مع الإخلاص، والنبيّ ﷺ يقول: ((النَّاسُ هَلْكَى إِلَّا الْعَالِمينَ، وَالْعَالِمُوْنَ هَلْكَى إِلَّا الْعَامِلينَ، وَالْعَامِلُوْنَ هَلْكَى إِلَّا الْمُخْلِصينَ، والْمُخْلِصُوْنَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيْمٍ)) 7 ، إبليس بِخُلق وبعملية واحدة وبعد خمسين ألف سنة خسِرَ خسارةً لا تعوَّض، فصار أشقَى مخلوقات الله، كما أنّ آدم بغلطة واحدة وهو في الجنّة خَرَجَ منها، ونحن نُريدُ أن نَدخُلَ الجنّة بملايين الذُّنوبِ! لو فقِهنا القرآن أهكذا ستكونُ عقليَّتُنا؟ اليهود قالوا: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: 80]، أي يعذبهم الله أربعين يومًا بمقدارِ ما عبَدُوا العِجْلَ، والمسلمون الآن سبقوا اليهود، فالواحد منهم يَفعَلُ كلَّ المعاصي والآثام ويقول: “إن الله غفورٌ رحيم”، وكأنه ذاهب إلى الجنّة مباشرة، اليهود مقارنة بهؤلاء لا شيء، اليهود قالوا: “سيُعذبُنا الله أربعين يومًا”، أمَّا المسلم فيقول “لن يُعذّبنا الله ساعةً ولا دقيقةً”، وليس عندَهُ صلاة ولا زكاة، وشرِبَ الخمر وزنَى وفسَقَ، وليس له هجرةٌ إلى عالمٍ بالله وارث محمَّدِي حتى يَصنعَ له الشخصية الإسلامية بعلمِها وحكمتِها وسلوكيَّتها وتزكية نفسِها، وفوق ذلك كله يَفعلُ المعاصي كلها ويدّعي أنه مسلم
تضَعُ الذُّنوبَ على الذُّنُوبِ وترتَجِي درَجَ الجِنانِ وطِيبِ عَيشِ العابِدِ
ونَسيْتَ أنَّ الله أخرَجَ آدمًا مِنها إلى الدُّنيا بِذَنْبٍ واحِدِ
ما هو الإسلام؟ هل الإسلامُ ادّعاءٌ أو أمانيّ؟ ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء: 123] المسلِمُ يَظهَر إسلامُهُ بأعمالِهُ وبأخلاقِهِ وبسلوكِهِ وبِنُطقِهِ وبنظرِهِ وبسَمْعِهِ وبفكرِهِ، ما معنى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: 119]؟ ما معنى: ﴿يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [النحل: 19] يجبُ أن تجعَلَ ضميرَكَ ووجدانَكَ وهواكَ من غير غِلٍّ ولا حِقدٍ ولا غشٍّ ولا خيانة ولا كذبٍ، هذا معنى أن نقرأ القرآن على طريقة مَن يقرأ الشيكات ويَموتُ مِن جوعِهِ، ويقول: “هذه مئة ألف دولار” ولا يَستطيعُ شراء رغيف خبز، ألا يموتُ هذا كما يَموتُ الحمار ويَنفُق؟ معه مئة ألف دولار! ولكنه يَقرؤُها ويُجوِّدُها على الأنغام الخمسة عشر، ويقرؤها على القراءات الأربع عشرة، بل يَقرؤها على القراءة الخامسة عشر، القراءة الخامسة عشر هي: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ وعلى هذا أكثر المسلمين.. اسأل المسلم ماذا فَهِمَ مِن سورة البقرة ومن سُورَةِ آل عمران؟ وماذا فهِمَ من الفاتحة؟ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: 5] هل صحيحٌ أنه عبدٌ لله ومنقادٌ لأمْرِ الله ولا يخرُجُ عن شَرع الله؟ هذا معنى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾.
رحمة الإسلام في تخفيف العقوبة عن المذنبين:
﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ فلو اعتبرَ المسلمونَ مِن قصَّة بني النَّضير في سورة الحشر ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾، معنى الحشر الجلاء والخروج، وأوَّلُ خروجٍ وجلاءٍ لليهود مِن الجزيرة العربية كان معَ بني النضير، ثمّ كان الجلاء الثاني في زمَنِ خلافة عمرَ رضي الله عنه إذ أجلاهم مِن خيبر لِمكرِهِم وغدرِهِم ونقضهِمُ للعهودِ، وخروجِهِم على قانون الدولة الإسلامية، ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا﴾ ولولا سماحةُ الإسلام ورحمةُ قانون الله سبحانه بعباده هؤلاء لكان يَلزمُهُم القتل، وهذا هو القانون العالمي في كلّ دول العالم، فقد خانُوا خيانَةً وطنية وثاروا على الدّولة ويريدون أن يقضُوا على الدولة العربية وعلى دينِها وعلى مقوِّماتها، وتحالفُوا مع أعدائها، فكان يقتضي قتلهم، لكن مِن رحمة الله عز وجل أن كتَبَ عليهمُ الجلاء، ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا﴾ لكن سبقَت رحمتُهُ غضبَهُ، “لعذَّبَهُم في الدنيا” بالقتل وما شابَهَ، ﴿لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّار﴾ [الحشر: 3-4].
﴿ذَلِكَ﴾ لماذا هذا الجلاء والإخراج والعقوبة؟ قال: ﴿بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ﴾ خالفُوا القانون الإلهي الذي هو أرحَمُ قانونٍ في كلِّ العالم وفي كلّ الدنيا منذ خُلِقَ آدمُ وإلى قيام السّاعة.. مرَّةً سألَنِي أحدُ كبارِ إخواننا المسيحيين، وكان يومَ عيدٍ يُهنّئني به، وأنا أُحدِّثُهُ عن تلاقي الأديان وكذا.. وأذكُرُ له الآيات التي تذكر النصارى الحقيقيين وكيف أنزلَهُم القرآن مَنزلتَهُم، فقال لي: ولكن يا شيخي حدّثنا عن الآيات التي تحرِقُ نفَسَ اليهود والنصارى [“يَحْرِق نَفَسَ شخصٍ ما”: مصطلح عامّيّ بمعنى يُهْلِكُه] فقلتُ له: أبشِر، قال الله تعالى: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [المائدة: 51] قال لي: فسِّر هذه لي، قلتُ له: نعم، فأحضَرْتُ له المصحف، وأريته قبل هذه الآية صفحتان ونصف وبعدها صفحتان ونصف يعني أريته ربع جزء في مخاذلِهِم وخياناتِهِم ونقضِهِم للعهود، وقلتُ له -وكان مِن كبار القضاة-: أنت قانونيّ فإذا كان هناك مَن خالَفَ دولةً وتواطَأَ معَ العدو ما حكمُهُ في القانون السوري؟ قال لي: الإعدام، قلتُ له: هؤلاء ارتكبوا الخيانة العظمى أم لا؟ قال لي: ارتكبوا، قلت له: القرآن لم يَعدمْهُم ولم يسجنهُم ولم يجلدهُم، وكلُّ ما في الأمر أنه قال للمسلمين: احذرُوهُم وكونوا على يقظة منهم، قلتُ له: هل يعني هذا عدوانًا على المواطنين من اليهود والنصارى؟ فقال لي: والله يا شيخي جزاك الله خيراً، ما كنت أعرف ذلك.. وأُعجِب بهذا الكلام.
حاجة المسلم إلى صُحبة الأكابر والابتعاد عن صُحبة الصّغار:
المسلمون يقرؤون ولا يَقصدون الفهم، لو سُئِلتُم أنتم الآن عن لون المنبر خارج الجامع لعلَّكم لا تعرفونه، لأنّكُم عندما تأتون للمسجد لا تكونونَ قاصدينَ معرفة ألوانَ الحجرِ والأعمدة، وكم ضوءًا وكم مِروحَةً هناك مع أنكم رأيتموها، كذلكَ عندما نقرأُ القرآن ولا نقصِدُ فهمَهُ فلن نفهمَهُ، ولو قرأنا القرآنَ مئة مليون مرّة، فأنت تحتاجُ إلى شيخٍ يُحيِي لك قلبَكَ بِذكْرِ الله وبروح الله وبنور الله، ويُحيي عقلَكَ بالتفكُّر والتدبُّر، ويَصيرُ لك رابطة قلبيّة وحبَّية معه، ((المرءُ على دِينِ خليلِهِ فلينظُرْ أحدُكُم مَن يُخالِل)) 8 ، إذا ما صار لك حُبّ؛ الحبُّ هو طريقُ الشَّقَاء والسَّعادة، وهو طريقُ العِزِّ والذُّلّ، وهو طريق الربح والخسران
وَإِذا سخَّرَ الإِلَهُ أُناساً
لِسَعيدٍ فَإنّهم سُعَداءُ
وقال شاعرٌ
اغتنمْ صُحبَةَ الأكابِرِ “والأفاضلِ” واعلم
أنَّ في صُحبَةِ الصِّغَار صَغارا
وابغِ مَن في يمينِهِ لكَ يُمنٌ
وتَرى في اليسار منه اليسارا
إذا كنتَ تُجالِسُ أو تُصاحِبُ صِغارَ النفوس والعقول والسُّفهاء تَصيرُ مثلَهُم، و”ابغ” اقصُد، “مَن في يمينِهِ لك يُمنٌ”، ضع يدكَ اليمين بِيدِهِ اليمين، لأنَّ اليَدَ اليمين أقوى، “وتَرى في اليسار منه اليسارا”: وإذا لم تحصل على يده اليمنى لوجود الأيادي الكثيرة عليها واليد اليسرى فارغة فتمسَّك بالشمال وباليسار، ومعنى: “صَغاراً” ذلًّا وهوانًا، “قل لي من تَصحَب ومَن تُرافِق ومَن تُساهِر وأنا أقول لكَ مَن أنتَ”.. هل رأيتَ جرذًا يمشِي مع غزال؟ وحَردونًا (سحلية) يمشي مع أسَد؟ وأسَدًا يمشِي مع قُنفذ؟ الأسَد مع الأسود، والحَمَام معَ الحَمَام، والغربان معَ الغِربان.. قالوا لأحد الحكماء: هذه القاعدةُ غير صحيحة، قال: لماذا؟ قالُوا: انظُر هذا غرابٌ يَطيرُ مع حمامة وقد اتحدوا مع افتراق الجنس؛ قال لهم: لا بد إلا أن يَكونُوا مُتَّحِدينَ في شيء.. وعندَما نَزلُوا إلى الأرض وإذا بالاثنين عُرجاناً؛ الغرابُ أعرَجُ، والحمامة عرجاء، قال لهم: هذان أعرجان مع بعضِهِما البعض، اتَّفقوا بصفة موحَّدَة فوحَّدَتْ طيرانهم، فإذا كنت فاسقًا تُحِبُّ الفُسَّاق وتُساهِرُهُم وتُناكحهم وتأكُلُ معَهُم وتَشرَبُ معَهُم، فإذا أحببتَ الأتقياء لا يمكِنُ أن يَجتمِعَ الضِدُّ وضدُّه، الليل والنهار لا يجتمعانِ، وكفرٌ وإيمان لا يجتمعان، وإخلاصٌ ورياءٌ لا يَجتمعان.
لقاء الشيخ أمين بالشيخ عيسى الكردي رحمهما الله تعالى:
اللهمَّ ارزُقْنا الصِّدقَ مع الله، والصِّدق في إسلامنا، والصِّدق في تلاوتِنا لِكتابِ الله، يكفينا هذا الكتابُ وحدَهُ، المسلمون الآن عندهم جبالٌ ومليارات من الكُتُبِ وما زالوا في تراجع، لأنه ليس الكتاب هو المهم، المهمُّ هو المعلِّمُ، شيخُنا رضي الله عنه كان مِن أكبَرِ العلماء وكان مِن حَفَظَةِ كتاب الله قبل أن يَعرِفَ شيخَهُ المربّي بالقلبِ والروح الشيخ عيسى رضي الله عنه، وأخبرني أنه بمجرَّدِ المصافحة كشَفَ الله له عن عالم الملكوتِ ورَأى روحه وروحَ شيخِه تَعرجُ في السّماء، واختلَطَت الروحانِ بعضِها ببعضٍ، قال: وأنا أنظر إلى جسدَينا في الأرض، ثم نَزَل َالقالبان الروحيان بالقالبين الجسديّين، فنظَرَ شيخُهُ إليه وقال: هل رأيتَ كما رأيتُ؟ قال: رأيتُ شيئاً ولكن لا أدري إن كان مثل الذي رأيتَ، فقال له: قُل لي ماذا رأيت، فأخبره بالذي رآه، فقال له: أنتَ لا تحتاجُ إلى الخلوة.
الخلوة والشيخ:
خلوةُ حِراء، النبيّ ﷺ اختلَى في حراء، أليسَتْ هذه سُنَّة؟ لكنّ النبيَّ ﷺ جعلها لنا اعتكافاً في المسجد مع الله سبحانه بدل أن تجلس في الغار، وإذا لم تستطع في المسجد فاختلِ معَ الله في البيت، جلسة خاصّة مع الله جل وعلا، ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 41] هل يمكن أن يكون مُسلِمٌ وليس له ذِكْرٌ! وَصَفَ الله المنافقين بقوله: ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 142] ويوجَد مُسلمٌ لا يَذكُرُ الله لا قليلًا ولا كثيرًا.. غسلُ اليدين والأرجل يحتاج معلمًا والاستنجاء يحتاج معلمًا، فالصلة بالله وتفتُّح الروح بِسَمعِها وبصرِها وعقلِها الجوانيّ الربانيّ هذه ألا تحتاج معلمًا؟ “مَن لا شيخَ له فشيخُهُ الشيطان”.
المريدُ الصَّادق ينبغي أن يَكونُ ظِلَّ الشيخ فيَتحرَّكُ بحركتِهِ ويَسكُنُ بِسكونِهِ، والشيخ الحقيقيّ الوارث المحمَّديّ هو: ((العُلماء وَرثَةُ الأنبياء)) وإذا سار الشيخُ ولم تكن ظلَّهُ فالخسارةُ عليكَ يا مسكين، وأنت غيرُ الموفَّق، وكم كان السَّلفِ الصَّالح منهم مَن كان يَمشِي ويَبحَثُ عن الشّيخِ سنةً أو عشر سنوات أو عشرين سنة حتى يَجتمِعَ بالشَّيخِ العارفِ بالله، العارفِ بدينِ الله الذي يُعلِّمُ الكتاب والقرآن وعلومَ القرآن، وفِقْهَ القرآن، وآداب القرآن، وحياة القرآن، والحكمة والعقلانية، والأسباب والمسببَّات، والذي يَضَعُ الأشياء في مواضِعها، ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [الجمعة: 2] يَنقُلُهُم مِن نَفْسٍ حيوانيّة لا تَعرِفُ إلا ملء البطن والأمعاء إلى نَفْسٍ ملائكية مملوءة بنور الله وبروح الله وبالأخلاق الإلهيّة.
مولانا خالد -وهو رئيس علماءِ العراق- بَقِي يُفتِّشُ على شيخه حتى وجدَهُ في الحج، وذهبَ مهاجرًا إليه في الهند، وظلَّ في الخلوةِ ثمانيَةَ أشهُرٍ لا يُكلِّمُ أحَدًا ولا يَلتقِي بأحَدٍ، فخرَجَ وصار نورَ الشّرق الأوسط، فنَوَّرَ تركيا والبلاد العربية، يعني نَشَرَ تزكيةَ النفس بالمعنى القرآني، وكان هو أحَدَ كبار الشيوخ، وكان اسمه مولانا خالد، وهو المدفون في سفح جبل قاسيون رضي الله عنه وعن أحباب الله وأوليائه.
أهمية اعتبار المسلمين من عاقبة مَن نقضوا العهود:
﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ المسلمون الآن يقرؤون: ﴿فَاعْتَبِرُوا﴾؟ لكن هل نَعتبِر؟ يَعني هل نعتبرُ حتّى لا نعمَلَ كما عَمِلَ اليهود في زمن النبيّ ﷺ؟ لا نعمَلَ كما عَمِل بنو النضير، فبنو النضير عادُوا النبيّ ﷺ والوحيَ والقرآن، ونقَضُوا العهودَ فماذا كانَت عاقبتُهم؟ أخرجَهُم مِن ديارهم وأموالهم وقُراهم، إلى آخرهِ.. العبرة ألا نعمَلَ عملَهُم حتى لا تكون نتيجتُنا كنتيجتِهِم، والنتيجةُ الآن كنتيجتِهِم، المسلمون الآن في كلّ العالم في أخريات الأمم عِلمًا وقوة واقتصادًا وجيوشًا وأخلاقًا معَ أنني طُفتُ معظمَ بلاد العالم مِن اليابان إلى أمريكا وأوروبا ورأيت أن العالم مُهيَّأٌ للإسلام، وبخاصة العالَمُ الرّاقيّ، ولما يَفهَمون الإسلام يسلّمون أنفسهم مئة بالمئة.
المسلم يكون له خمس مئة أبٍ مُسلِم ولا يُعطِي مِن نفسِهِ للإسلام إلا نصفَ واحٍد بالمئة، هذا إذا جاء للجامع! فإذا وعد لا يَفي، وإذا حدَّثَ لا يَصدُقُ، ولا يُؤدّي الزكاة، ولا يُقيمُ الصّلاة ولو صلّى، يُوجَد مُصلٍّ ويوجَدُ مقيم للصلاة، فمن يصلي ولا يقيم الصلاة يصليها عوجاء عن مقاصدها وقبلتها الإلهية، قال الله عز وجل عنهم: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ [الماعون: 4-7]، الرياء: هل هذا خلق حسن؟ ويَمنعونَ الماعون: الزكاة وتوابِعها، يُصلّي ولا يُزكّي، ويُصلّي ولا أخلاق له، فقال: ويل لهؤلاء المصلين، وبالمقابل: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون: 1- 2]، ﴿فَاعْتَبِرُوا﴾ هل تُريدونَ أن تَعتَبِروا؟ وهل تُريدون أن تَنتقِلُوا للأفضل؟ ينبغي أن نقرأ القرآن بفَهْمٍ، يَعني إذا قرأنا في التفسير أنَّ هذا الذي صار لبني النضير، وهكذا فعل سيِّدُنا النبيُّ ﷺ ثم لم نعتبر وعملنا كمَا عَمِلَ اليهود، ثم نزل علينا البلاء كما نَزَلَ على أولئك اليهود، هل نَكونُ اعتبرنا؟ وهل نكون قرأْنا القرآن؟ هل نكون حفِظْنا القرآن؟
ربَّ تالٍ يَتلو القُرَانَ بفيهِ
وهو يُفضِي بِهِ إلى الخُذلانِ
سبب عقوبة الله عز وجل لبني النضير أنهم شاقّوا الله ورسوله:
ثمّ قال تعالى: ﴿ذَلِكَ﴾ هذا الجلاءُ والإخراجُ والعقوبة التي أصابَت بني النصير: ﴿بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [الحشر: 4] عادوا شريعة الله وقانونَ الله الرَّحيم الإنسانيّ الربانيّ الأخلاقيّ، وشاقّوا رسول الله ﷺ وأرادوا أن يَغتالوهُ، وحاكوا المؤامرات، ونقضُوا العهدَ بمحالفتِهِم قريشاً لمحاربة النبيّ عليه الصلاة والسلام، ﴿ومَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ﴾ ويُشاقّ شريعة الله ودين الله ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر: 4].. الآن انظُرْ إلى المسلمين الذين في أفغانستان يُدمِّرونَ بعضَهُم بعضًا، أهذا إسلام؟ هل هكذا يأمر الإسلام؟ مضى على احتلال فلسطين خمسون سنة وكل الدول العربية والإسلامية لم تستطع فعل شيء ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ هل اعتبرنا؟ حالنا هكذا لأننا جعلنا القرآن للنَّغم، “الشيخ مصطفَى إسماعيل”؛ نأخذُ النغمَ ونأخذ المغنى لا للمعنى، التجويد والقلقلة والمدود هذه لِأحرُفِ القرآن، أمَّا لِروحِ القرآن ولحقائقه ولفقهِهِ فنحن بعيدون بُعْدَ السّماء عن الأرض إلا مَن رَحِمَ الله وقليلٌ ما هم، لكن يَجِبُ ألا ييأس أحد منا، واليأسُ يَكونُ مِن تَرْكِ العمل، أما إذا بدأتَ بالعمَلِ يَبدأُ الأمل.
ينبغي ألا نيأس:
فلمَّا حاصرَهُمُ النبيُّ ﷺ ولم يَستَسلِمُوا أمَرَ النبيُّ ﷺ بِقَطعِ نخيلِهِم، حربٌ اقتصادية، ألا يُحاربُ الاستعمار المسلمين الآن اقتصاديًا وعلميًا وأخلاقيًا وإلحاديًا؟ وهل المسلمون يا ترى صاحون لهذا؟ تأتيهُم السهام مِن كلِّ الجهاتِ لكنهم لا يُحسّون “ما لِجُرحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ” فالميت لو طعنته خمس مئة طعنة ولدغَهُ خمس مئة ثعبان هل يَصيح؟ هل هذا دليلٌ على الشجاعة والصمود والصبر؟ أم دليل على الموت وفَقْدِ الحياة والإحساس والشّعور؟ إلى متى يا بُنيّ؟ لا تيأسوا، والناسُ كلُّها بخيرٍ، أنا ما رأيتُ إنسانًا طول حياتي لا خيرَ فيهِ.. مَن كان عُمَر رضي الله عنه؟ كان عُمرُ رضي الله عنه أحَد الذينَ يُريدونَ قَتلَ النبيِّ ﷺ، ألم يكُنْ فيه خيرٌ؟ إلى أين وصَلَ الخيرُ الذي فيه؟ وصَلَ لمستوى النبيِّ ﷺ قال: ((لو كان بَعدِي نبيّ لكان عُمَر)) 9 ، لا تيأَسْ مِن نفسِكَ، حتى لو ضاع عليكَ مِن الوقتِ ما ضاع، استدرك مِن الآن والله قد يجعَلُ لكَ مِن الوقتِ القليلِ الخيرَ الكثيرَ.. واليأس مِن الكبائر، ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87] ولا عليكَ إن لم تَصِلَ إلى الهدفِ وإنما عليكَ أن تعمَلَ المستطاع والتكمِلَة على فَضْلِ الله عزَّ وجلَّ.
قطع النّخل في المعركة بإذن الله:
“فلمَّا أمَرَ النبيّ ﷺ بِتَقطيعِ النخل نادوهُ مِن فوقِ الحِصْنِ: “يا محمَّدْ أنت تأمر وتَدعُو إلى الصَّلاح فقطعَ النخيل صلاحٌ أم فَسادٌ؟” فقطعُ النخيل فسادٌ؛ فصاروا يُريدون أن يَرمُوا الشُّبهة ويَستغلُّوا الوقائع، والصحابة رضي الله عنهم أيضًا وَقَعَ في قلبِهِم شيءٌ، فجاءوا فسألوا النبيَّ ﷺ قالوا “يا رسول الله: النخل التي قَطَعناها، هل نحن مؤاخذون على قطعها؟ فأنزَلَ الله جلّ وعلا: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾“، اللينة نَوعٌ مِن أنواعِ التَّمر ومِن أجودِ أنواعِ التَّمْرِ، الآن يُسمُّون بناتهم باسم “لِينة” أليس كذلك؟ اللينة هي العجوة، والبنت التي اسمها لينة يعني اسمها عَجوة، فلماذا لا تسميها عجوة؟ [يقول ذلك الشيخ ممازحاً، والناس يضحكون، وهذا تنبيه إلى اختيار الأسماء الفاضلة]
﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا﴾ [الحشر: 5] سواءٌ قطعتُم الذي قطعتموهُ أو أبقيتُم الذي أبَقيتموهُ فبإذن الله، فالنبيّ ﷺ لا يأمُرُ ولا يُقِرُّ إلا بِوحيٍ سماويٍّ وإلهامٍ ربانيّ، فبدَلَ أن يَهدِمَ قلاعَهُم ويُزهِقَ دماءَهم أراد أن يَستعملَ الأخفّ فالأخف، فلذلك بِقَطعِ عددٍ من النخلات استسلمُوا وألقَوا السَّلاح، وصارَ سلاحُهُم وأموالهُم وديارهُم كلُّهُا غنيمةً للمسلمين ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ هل اعتبرنا؟ هل قرأْنا القرآن وهل قرأنا هذه الآية؟
فلا تيأسُوا، وأنا مُتفائِلٌ، وبهذهِ العِشرِ سنواتِ إلا أن يُعيدَ الله للإسلام عزَّتَهُ، وإذا لم يكن عن طريق المسلمين والعربُ فالله لا يَحتاجُنا ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: 38]، ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ [المدثر: 31]، هذا كلُّه أنا رأيتُهُ بِعينيّ وباشَرتُهُ بنفسي.. بعد شهور قليلةٍ سيَأتيكُم وفدٌ كبيرٌ جدًا مِن أعظم البلاد الراقية، وهم مسلمون ومؤمنون ومُتهجِّدُون وذاكرونَ ومن عِليَّةِ بلادهُم وعلى أعلى المستويات الرفيعة، وقد رأيتم السنة الماضية الوفد الياباني ورئيس أحدِ أديانِهِم عندما أعلَنَ إسلامَهُ ومعَهُ أركانُ طائفته، فلو وُجِدَ الدعاة الأكفاء لانتهَتِ الحروب ولَعمَّ السّلامُ ولصارتِ الشعوبُ عائلةً واحدةً ﴿إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: 47].. قال: ﴿فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ هذا ليس فسادًا بل صلاح، لأنّ وجودُ اليهود فسادٌ، فإخراجهم بهذه الوسيلة اللطيفة في قطعِ عددٍ من الأشجار هذا صلاحٌ، ﴿وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾: خزيٌ لهم وعار وصَغار وهَوَان وإلى آخره.
الفيء والغنيمة:
لقد جَلوا وحُشِرُوا لأوّل حشْرهم مِنَ الجزيرة العربية، يعني لأوّل جلائهم وخروجهم، وبالنسبة لأموالهم وقُراهُم وبَساتينهم وديارِهم، فما كان مِن أموال الأعداء واستُوليَ عليه بغير حرب ولا قتال اسمه “الفيء”، وما يُؤخذ مِن أموالِ الأعداء المقاتِلين في الحرب والمعارك اسمه “غنائم”، فالغنائم هي التي بعد الحرب: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ [الأنفال: 41]، يُصرف عشرون بالمئة للمصالحِ العامة وثمانون بالمئة للجيش وللمقاتلين، أمَّا الفيءُ فهو أموالُ الأعداءِ التي استولِيَ عليها بلا قتال، وقد ذكرَه الله سبحانه بقوله: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ﴾ [الحشر: 7]، هل الله سبحانه وتعالى محتاجٌ للنخلِ وللبيوت؟ يعني كله تحتَ حُكمِ الله سبحانه، ﴿وَلِلرَّسُولِ﴾ [الحشر: 7] يعني للرسول ﷺ انتفاعًا، ﴿وَلِذِي الْقُرْبَى﴾ أقاربُ الرسولِ، النبيّ ﷺ ألا ينبغي أن يكون له وارد؟ ألا يَحتاجُ للأكل؟ ألا يحتاجُ للشُّرب؟ ألا يَأتيهِ ضيوف؟ ألا يحتاجُ الـمَصاريف؟ أليس عليه مسؤوليات مادية؟
وجوب اتباع الرسول ﷺ وعدم مخالفتهِ:
﴿ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7] أتَتْ امرأةٌ تكنَّى بأمِّ يَعقوبٍ وقد سمعَت مِن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الحديث النبوي: ((لَعَنَ الله الواشمة والمستوشمَة))، الوشمُ هو الدَّقُّ الأزرق يَفعَلُهُ البدو في بعض القرى ((لعَنَ الله الواشمة والمستوشمة والنامِصة والمتنمصة المتفلِّجات للحُسْنِ المغيِّرات خَلْقِ الله)) 10 النامِصَة: هي التي تزيل الشّعر مِن حواجبها أو مِن وجهِها، والمتفلِّجَة: هي التي تُفرِّقُ بين أسنانِها، هذه كانت الموضة، وحال المرأة اليوم أنها تلحق الموضة، فطقمٌ لم تلبسْهُ سِوى شهرينٍ ثم بَطُلَت موضَته تطرحُهُ، وتقول لزوجها: اشتري لي طقمًا جديدًا لأنّ هذا بطلَت موضتُهُ، هل هذه مسلمة؟ وهل زوجُها مُسلمٌ؟ وهل فيها العِقلُ الإسلامي؟ هذه رأسُها فيه عَقل بويا وهذا عَقْلُ تبن، [بويا: علبة ملمع الأحذية] قال النبيّ ﷺ لسيَّدِتنا عائشة رضي الله عنها: ((لا تستخلقي ثوبًا حتى ترقعيهِ)) 11 لا تقولي عنه “عتيقاً” حتى ترقعيهِ، هذا هو الإسلامُ؛ اقتصادٌ.
فلمَّا روى الحديثَ عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه، فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ، يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، فَجَاءَتْ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَقَالَ: “وَمَا لِي أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ”، فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ عن الواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة، قَالَ: ” لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ، أَمَا قَرَأْتِ: ﴿ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾، قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ، قَالَتْ: فَإِنِّي أَرَى أَهْلَكَ يَفْعَلُونَهُ، قَالَ: فَاذْهَبِي فَانْظُرِي، فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ مِنْ حَاجَتِهَا شَيْئًا.
توضيح في حديث ((لعن الله النامصة…))
ويُوجَد ملاحظة وتوضيح في شرح هذا الحديث؛ كثير مِن العلماء قالوا أنه مَثلًا الحواجب لا تُزجَّج: (قال الشاعر الأموي): “يُزَجِّجنَ الحَواجِبَ وَالعُيونا” يعني: وكحَّلْنَ العيون، فبعضُ العلماء يقول: الوشم هذا لا شكَّ فيه، لأنه مؤذٍ ولا معنى له، أمَّا الشعرُ في الوجْهِ فهذا كان نتفهُ من سيماء وصفاتِ العاهرات في زمَنِ الجاهلية، ولا يَفعَلُهُ إلا السَّاقطَات، فلعنهنّ لأنهنَّ زانيَاتٌ ويُهيئْنَ الوسائل لانتشار الزنى بهذه الوسائل، فللمرأة أن تتزيَّنَ لزوجِها وهذا مِن الواجبات، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: في تفسير قولهُ تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾ [البقرة: 228]، “الزوجةُ لها عليكَ حقٌّ مثلَ ما أنتَ لكَ عليها حقّ”، فكما تطلُبُ أن تتزيَّنَ لك عليكَ أن تتزيَّنَ لها، فتزيُّن المرأة مِن الواجبات، كم وكم يَصيرُ طلاق لإهمالِ المرأة لحقوقِ زوجها! وكم وكم امرأةٌ تهجُرُ زوجَها وتقع في الحرام لقذارة زوجها!.. نسألُ الله عزّ وجلّ أن يُحيي القرآنَ في قلوبنا ويُحيي قلوبنا بِذكْرِ الله حتى يَنبت الإسلامُ في القلوب والنفوسِ النباتَ الحسَنَ: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾ [الأعراف: 58].
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- المعجم الأوسط للطبراني، رقم: (11441)، (11/ 185)، المستدرك للحاكم، رقم: (6999)، (4/97)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (1610)، (2/ 230)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا، بلفظ: «أَحِبُّوا الْعَرَبَ لثلاث: لِأَنِّي عَرَبِيٌّ وَالْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ وَكَلَامُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ».
- مسند الفردوس للديلمي، رقم: (4485)، (1/301)، عن حارثة بن وهب: ((قَالَ الله عز وَجل لَيْسَ كل مصلٍ يُصَلِّي إِنَّمَا أتقبل الصَّلَاة مِمَّن تواضع بهَا لعظمتي وعف شهواته عَن محارمي وَلم يصر على معصيتي وَأطْعم الجائع وكسا الْعُرْيَان ورحم الْمُصَاب وآوى الْغَرِيب كل ذَلِك لي))، الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية، رقم: (130)، ص: (156).
- شعب الإيمان للبيهقي، باب في الأمانات وما يجب من أدائها إلى أهلها، رقم: (5274)، (4/ 325)، المعجم الصغير للطبراني، رقم: (387)، (1/ 238) عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بلفظ: ((أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الأَمَانَةُ، وَآخِرُ مَا يَبْقَى الصَّلاةُ، وَرُبَّ مُصَلٍّ، لا خَيْرَ فِيهِ)).
- مسند الفردوس، رقم: (396)، (1/27)، فضيلة العادلين من الولاة لأبي نعيم الأصبهاني، رقم: (39)، ص: (153)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بلفظ: ((الإِسْلامُ وَالسُّلْطَانُ أَخَوَانِ تَوْأَمٌ، لا يَصْلُحُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلا بِصَاحِبِهِ، فَالإِسْلامُ أُسُّ وَالسُّلْطَانِ حَارِسٌ، وَمَا لا أُسَّ لَهُ مُنْهَدِمٌ، وَمَا لا حَارِسَ لَهُ ضَائِعٌ)).
- سنن أبو داود، كتاب البيوع، باب في النهي عن العينة، رقم: (3462)، (2/ 296)، سنن البيهقي الكبرى، رقم: (10484)، (5/ 316)، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه.
- ذكره البخاري في بَابٌ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ في المقدمة دون سند. سنن أبي داود، أول كتاب العلم، باب الحثُّ على طلب العلم، رقم: (3641). والتِّرمذيُّ، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682). سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحثُّ على طلب العلم، رقم: (223)، عن أبي الدرداء.
- شعب الإيمان، البيهقي، رقم: (6455)، (9/181). وهو قول لذي النّون المصريّ رحمه الله تعالى، حيث يقول: "النَّاس كلهم موتى إلا العلماء، والعلماء كلُّهم نيام إلا العاملون، والعاملون كلُّهم يغترون إلَّا المخلصين، والمخلصون على خطر عظيم". والخطيب البغدادي عن سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: «الدُّنْيَا جَهْلٌ وَمَوَاتٌ إِلَّا الْعِلْمَ، وَالْعِلْمُ كُلُّهُ حُجَّةٌ إِلَّا الْعَمَلَ بِهِ، وَالْعَمَلُ كُلُّهُ هَبَاءٌ إِلَّا الْإِخْلَاصَ، وَالْإِخْلَاصُ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ حَتَّى يُخْتَمَ بِهِ» اقتضاء العلم العمل. 1/29
- سنن أبي داود، عن أبي هريرة، كتاب الأدب، باب من يؤمر أنْ يُجالِس، رقم: (4833)، (2/ 812). سنن الترمذي، أبواب الزهد، باب/ رقم: (2378). مسند أحمد، عن أبي هريرة، رقم: (8028)، (13/398)، المستدرك على الصحيحين، رقم: (7319)، (4/188). شعب الايمان للبيهقي، عن أبي هريرة: (8990).
- الترمذي، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، كتاب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب في مناقب عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كَانَ نَبِيٌّ بَعْدِي لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، رقم: (3686). وفضائل الصحابة لأحمد بن حنبل، رقم: (519)، (1/356). والمستدرك، الحاكم، رقم: (4495)، (3/92).
- متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب اللباس، باب المتفلجات للحسن، رقم: (5587)، (5/2216)، ومسلم كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، رقم (2125)، (3/1678)، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
- أخرجه الترمذي، كتاب اللباس، باب ما جاء في ترقيع الثوب، رقم: (1780)، (4/ 245)، والحاكم في المستدرك، كتاب الرقاق، رقم: (7867)، (4/ 347)، بلفظ: ((يَا عَائِشَةُ إِذَا أَرَدْتِ اللُّحُوقَ بِي فَلْيَكْفِيكَ مِنَ الزَّادِ كَزَادِ الرَّاكِبِ، وَلَا تَسْتَخْلِقِي ثَوْبًا حَتَّى تُرَقِّعِيهِ، وَإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ الْأَغْنِيَاءِ))، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها.