سبب نزول سورة التحريم:
فنحن لا نزال في تفسير سورة التحريم، وقد سبق لكم أنَّ النَّبيّ ﷺ حرَّم على نفسه جاريته مارية القبطية رضي الله عنها إرضاءً لزوجته حفصة بنت عمر رضي الله عنهما، وحرَّم على نفسه أيضًا العسل بالسبب الذي ذكرته لكم سابقًا، حيث تآمر عليه بعض زوجاته قائلات له: نشم مِن فمك ومنك رائحةً غيرَ طيِّبة، وكان قد شرب العسل عند إحدى زوجاته، والنحل قد يتغذَّى بشيء مِن الزهور غير طيبة الرائحة، فيظهر أثر ذلك في عسله، والنبي ﷺ إرضاءً لزوجاته أيضًا حرَّم العسل، فأنزل الله عزَّ وجلَّ عليه سورة التحريم يُعاتبه على أنَّه حرَّم على نفسه ما أحلَّ الله له إرضاءً لزوجاته اللاتي تآمر بعضهنَّ على بعض، مما أوجب أنْ يعتزلهنَّ كلَّهنَّ شهرًا كاملًا، فأنزل الله تعالى عليه مُعاتِبًا له على ما صنع: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبيّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ [التحريم:1] .
والمتآمرتان كانتا عائشة وحفصة رضي الله عنهما، وقد أَلَّبَتا عليه بقيَّة أزواجه، يعني أقمن اتِّحادًا نسائيًّا في بيت النبوة استجابةً لأنانيتهنَّ ورغباتهنَّ الخاصة مُتناسِياتٍ العبء العظيم والمسؤولية العظمى التي يحملها رسول الله ﷺ في بناء الإنسان الفاضل وبناء الأسرة والعائلة الفاضلة وبناء المجتمع الفاضل، ثم بناء العالَم الفاضل.
فعاتبه الله عزَّ وجلَّ فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبيّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ يعني بعضهنَّ ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ [التحريم:1] هذا خطأٌ بأنْ تُحرِّم على نفسك الحلال كمارية القبطية أو العسل، والله غفورٌ لك ما أخطأتَ، وهذا يلتقي مع قول الله تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح:2]، فذنوب النَّبيِّ ﷺ ليستْ في فِعْل المحرَّمات أو الرذائل والأشياء الفاسدة، وإنَّما ذنوبه أنْ يَترك الأحسن ويفعل الحسن، وأنْ يترك الأفضل ويفعل المباح الذي أباحه الله عزَّ وجلَّ له، ﴿رَحِيمٌ﴾ [التحريم:1] بعباده، يُمهل العاصي ولا يؤاخذه عند فورة ذنبه، بل يؤخِّره يومًا وشهرًا وسنةً، ولكنْ كما قال النَّبيُّ الكريم ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ الظَّالِمَ ولا يُهمِلُهُ)) ، إلى آخر ما ذكرتُه لكم.
وباستكمال الشهر رجع النبي ﷺ إلى نسائه.. فلو كان القرآن مِن صنع النَّبيِّ ﷺ [لما وضع هذه الآيات]، فالإنسان لا يُعلن على نفسه الخطأ، ولا يكون موضِع العتب والملامة مِن رب العالمين، وهذه بعض الأدلة على أنَّ القرآن تنزيل مِن حكيم حميد.
النَّبيّ ﷺ أعلم العلماء في هندسة الإنسان العظيم:
لقد أدَّب الله عزَّ وجلَّ نبيَّه ﷺ في قصة التحريم في هذه الآيات، كما قال النَّبيُّ الكريم ﷺ: ((أَدَّبَنِي رَبِّي فأحْسَنَ تَأدِيبِي)) ، وقد كان أُمِّيًّا في الكتابة والقراءة، ولكنَّه كان أعلم العلماء في هندسة وبناء الإنسان العظيم والإنسان الحكيم والإنسان الإنساني، وبناء إنسان السياسة والحكم، فقد كان أعظم مهندس في بناء القاضي النزيه، وكان أعظم مهندس لبناء الحياة الزوجية السعيدة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107]، ليس للعرب فقط كما يقول المسيح عن نفسه لتلامذته: “إنِّي أُرسلتُ لهداية خِراف بني إسرائيل الضالة” ، “الخِرَاف” يعني الخِرْفَان، أمَّا القرآن فيخاطب النبي ﷺ بأنَّ رسالته إلى كلِّ العالَم.
فهذه الرسالة التي ما جاءت لتمحو أديان السماء ورسالاتها، وإنما أتت لتُنقِّيها ممَّا دخل عليها مِن موادَّ غريبة وأجنبية عنها تشوِّه جَمالها، وتجعلها مرفوضةً للعقول والقلوب، وكما قال النَّبيُّ الكريم ﷺ: ((مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي كَمَثَلِ قومٍ بَنُوا دارًا، فأكمَلُوهُ بنيانًا وَزِينةً وجَمالًا، ودَخَلَ النَّاسُ يُعجَبونَ بجَمالِ ذَلكِ البِناءِ، وبَدِيعِ هَندسَتِهِ قَائِلِين: ما أَجمَلَ هَذا البِناءَ! لَولا أنَّه ناقصٌ لَبِنةً واحدةً)) يعني “بْلُوْكِة” واحدة [البلُوْكِة: اللَّبِنة في اللهجة الدمشقية]، فالبناء كاملٌ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، ثمَّ يقول النَّبيُّ الكريم ﷺ: ((فَأَنَا كُنتُ تِلكَ اللَّبِنَةُ)) .. لم يقل: أنا بنيتُ الدِّين، وإبراهيم أو موسى أو المسيح لا وجودَ لهم في البناء، قال: كلُّ واحدٍ منهم كان لبنةً في بناء الجامعة السماوية الربانية، لبناء الإنسان الفاضل والأسرة الفاضلة والمجتمع والعالَم الفاضل.
فلقد أتى الإسلام لينقِّي الشرائع السماوية ممَّا شوَّهها وسَلَبها جَمالها وحيويَّتها، وأتى ليعرض المسيحية التي تُعشَق لجمالها وفضائلها ومكارم أخلاقها، وأتى ليقول: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى﴾ [المائدة:44]، يعني مِن ضلال الإنسان ﴿وَنُورٌ﴾ [المائدة:44] يُضيء له طريق السعادة.
كانت رسالته ﷺ لتصحيح الرسالات السابقة:
فكانت رسالته ﷺ لتصحيح الرسالات السابقة مِن أخطاء الإنسان وتأويلاته وترجماته، مضافًا إليها بناء العالَم الواحد في ظلال أُخوَّة الإيمان: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة﴾ [الحجرات:10]، هذا في القرآن، وأمَّا النَّبيُّ ﷺ فيقول: ((الإنسَانُ أَخُو الإنسَانِ أَحَبَّ أَم كَرِهَ)) ، وذكر في أحاديثَ كثيرةٍ ما هو حق الإنسان على الإنسان.
وبعدما مضى مِن السورة ما مضى فيما يتعلَّق بالأسرة النبوية اتَّجه القرآن لتربية المجتمع قائلًا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [التحريم:6]، اجعلوا لأنفسكم مِن الوقاية والحفظ والرعاية ما إنْ أهملتموها تكون هالِكَةً أو معذَّبةً أو تعيش في شقاء وتعاسة، واحفظوها من التعاسة والشقاء والشّرّ والآثام.
﴿أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ﴾ [التحريم:6] فجعل القرآنُ الإنسانَ مسؤولًا عن أسرته وعن صلاحها وعن تعليمها وتوجيهها إلى الصراط المستقيم، كما يقول الله تعالى مخاطبًا النَّبيَّ ﷺ وكل إنسان: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء:214]، وفي حديثه الشريف: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الزَّوجةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا)) ليست الولاية للرجل فقط ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ [النساء:34]، بل كذلك جعل القرآن والإسلام للمرأة ولاية ورعاية فقال: ((والزَّوجةُ رَاعِيَةٌ))، الراعية بالأغنام هي مديرتهم والمسؤولة عن شؤونهم، ((والزَّوجةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا)) ، مسؤولة عن أولادها وعن زوجها، وطعامهم وشرابهم وصحتهم وتعليمهم، فكلمة “قُوا” مِن الوقاية، كما أنَّ الدِّرع يقي المحارِب مِن وصول السلاح إلى بدنه، فكذلك أَمَرَ الله عزَّ وجلَّ المؤمنَ بأنْ يقي نفسه وأسرته ويحفظهما، فيكون الحارس لأسرته، وكذلك الزوجة مع أولادها، والأب مع أولاده، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض﴾ [التوبة:71]، أي متعاونون ومتناصِرون ومتَّحدون في تحقيق الأهداف السامية.
﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم:6] يعني نار جهنم، لأنَّ الإنسان غير الصالح يُشبِّهه سيِّدنا المسيح عليه السَّلام بالزِّيْوَان والأشواك التي تنبت مع القمح، [الزِّيْوَان: عشب له ورق طويل يخرج كثيراً مع النباتات وفي الحقول] فالقمح يُفرَز وحدَه ويُذهَب به إلى أنْ يكون طعامًا وغذاءً للإنسان، وأمَّا الزِّيْوَان والأشواك فإلى أين تصير؟ إلى النَّار.
مَن أطاع دخل الجنة:
وكما ورد في حديث النَّبيِّ ﷺ: ((يَقُولُ اللهُ تَعالَى: كُلُّ عِبادِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى)) فالله عزَّ وجلَّ فتح الجنة لعموم الخَلْق، مِثل شركة الطيران أبوابها مفتوحة لكلِّ المسافرين إلى الحجِّ، فمَن يدفع ثمن البطاقة فأبواب الطائرة كلُّها مُفَتَّحَة له، ومَن يأبى ولا يدفع الأجرة فليست المسؤولية على شركة الطيران، لأنَّها هيَّأت كلَّ شيء، قال: ((كُلُّ عِبادِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى)) ثمَّ قال ﷺ: ((مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ))، وبماذا أمرنا النَّبيُّ ﷺ لنطيعه؟ هل أَمَرنا بشيءٍ لمصلحته أو لنقدِّم له مالًا أو جاهًا أو مساعدةً ماديةً تعود فائدتها له؟ قال الله عزَّ وجلَّ للنَّبيِّ ﷺ: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى﴾ [الأنعام:90]، ليس للعرب فقط كما أُرسِل موسى عليه السَّلام إلى بني إسرائيل فقط، بل: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام:90]، لكلِّ العالَم.. ((مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى)) .
فإذا المريض عصى الطبيبَ، وامتنع عن أخذ الدواء فإنَّ المرض سيبقى يوجِعُه ويُؤلمه ويؤرِّقه، ثمَّ إذا قتله فعلى مَن تكون المسؤولية في هلاكه؟ مَن أطاع الطبيب سَعِد وصحَّ وعاش في راحة، وإذا عصى الطبيب، وامتنع عن أخذ الدواء فهل الطبيب هو المسؤول؟ وإذا نصح إنسانٌ ناصحٌ شخصًا وقال له: لا تضع أصبعك في فم الثعبان، وخذ هذه الكُمْبْيَالة ففيها مئة ألف دولار لتسعد بها، [الكُمْبْيَالة: ورقة مالية رسمية] فإذا خالف الأمر ووضع يده في فم الثعبان، وأعرض عن أخذ الكمبيالة، فلدغه الثعبان ولقي مِن نار السم وحرارته والأخطار ما لاقى، ثمَّ عاش فقيرًا، فهل الناصح المرشد المعلم هو المسؤول؟ كلُّكم تدخلون الجنة، فالجنة مفتوحة للجميع إلَّا مَن أبى، ((مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى)).
الإيمان الناضج يجمع بين البصر والبصيرة:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [التحريم:6]، احفظوها ولا تُهلكوها.. وهذه الرسالة هي من الله عزَّ وجلَّ الذي خلق هذا الكون، الذي ما عرف الإنسان منه إلَّا نقطةً مِن بحاره، وذلك على عظيم ما اكتَشف مِن شموسه وأقماره ومجرَّاته، والتي أبعادها بمليارات مليارات السنين الضوئية، [وهذا الكون الذي اكتشفناه] ما هو إلَّا نقطة مِن بحر مملكة الله عزَّ وجلَّ التي لا نهاية لها، فهذا الرب العظيم يُخاطب الإنسان، لكنه يخاطب الإنسان الذي يسمع ويعقل، وهو المؤمن الذي أضاف إلى عينَي رأسه عينَين في قلبه، وصار له مِن العيون أربعة؛ عينان في رأسه يُبصر بهما أمور المادة، وعينان في قلبه يُبصر ويشهد بهما عالَم الروح وعالَم الملكوت، والإيمان الناضج الحقيقي الحيُّ هو ما جمع هذا المعنى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج:46].
الإسلام أتى بقانون يشمل كل حياة الإنسان:
﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [التحريم:6] فيجب على المسلم أن يستجيب لأمر الله عزَّ وجلَّ ويمتثل أوامره سبحانه، سواء في العبادات أو في المعاملات أو في الأخلاق أو في الحُكم والسلطان والقضاء، لأنَّ الإسلام أتى بقانونٍ يشمل كلَّ حياة الإنسان، فأتى للقاضي ليُخرِّج أعظم قاضٍ في العِلم والنزاهة والعدل، لا يحيف ولا يميل إلى أحد الجانبين مهما قُدِّم له مِن مغرِيات أو مِن مُرْهِبات، وأوجد الإسلام أعظم رجل دولة يحقِّق العدالة والأمن والغذاء والعِلم والمساواة لكلِّ أفراد المجتمع، ولا يفرِّق بين لونٍ ولونٍ، ولا بين دِينٍ ودِينٍ.
مرةً كان النَّبيُّ الكريم ﷺ يوزِّع المساعدات المالية على الفقراء، فأتى إليه وثنيٌّ يَطلب المساعدة، والنَّبيُّ ﷺ إنسانٌ تظهر فيه كلُّ صفات الإنسان، فيرضى ويغضب، ويجوع ويشبع، وينعس وينام: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء:93]، فلمَّا أتى إليه الوثني يطلب المساعدة المالية قال له: ((أَنتَ لَستَ عَلَى دِينِي فَلَا أُعطِيكَ))، لأنَّ البشرية دائمًا تتعصَّب لنفسها ولمبدئها ولعقيدتها، وهذه أنانية الإنسان، أمَّا الله عزَّ وجلَّ فيتعصب لكلِّ مخلوقاته ولكلِّ النَّاس ولكلِّ الشعوب، والنَّبيّ ﷺ يقول: ((الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللهِ، وَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيالِهِ)) ، فلعلَّ هذا الحديث قاله النَّبيُّ ﷺ بعد هذه الحادثة.. وانصرف الوثني حزينًا مكسور القلب، وما هي إلَّا ثوانٍ وتُرْفَع القضية بالاتصال اللاسلكي السماوي إلى الله عزَّ وجلَّ، فينزل الحكم الإلهي حالًا بهذه القضية، وفيه معاتَبة للنَّبيِّ ﷺ فيما صنع مع هذا الإنسان الفقير، ولو كان عابدَ صنمٍ.. والآية في أواخر سورة البقرة، حيث يخاطب الله تعالى النَّبيَّ ﷺ معاتبًا له -ولو كان القرآن مِن صنع النَّبيِّ ﷺ فهل كان سيَذكر فيه أخطاءه؟ تلك الأخطاء التي كانت فيما لا يَحْرُم عليه وفي الأمور الاجتهادية- وأنزل الله تعالى قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ [البقرة:272]، فعندما تريد أنْ تساعد الإنسان ينبغي لك أن لا تعطيه على أساس الدِّين والمعتقَد، بل على أساس أنَّه إنسانٌ مِن مخلوقات الله عزَّ وجلَّ ومِن عائلة الله عزَّ وجلَّ وأُسرَته: ((الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللهِ)) ، ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْر فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْر يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة:272]، ويقرأ النَّبيُّ الكريم ﷺ بَرقيَّة السماء ويقول: ((رُدُّوا عليَّ الرَّجلَ)) فردُّوه عليه فأعطاه ضعفَي ما يُعطي غيره، لأنَّ ربه عاتبه في شأنه .
هل استطاع إنسان القرن العشرين في هيئة الأمم ومجلس الأمن وفي كل الفلسفات الشرقية والغربية أن يضع تشريعًا يكون صادقاً ومخلِصاً في تطبيقه وتنفيذه كما فعل سيِّدنا مُحمَّد ﷺ؟ ولو تُرِك الأمر لشخصه كإنسان فالإنسان بشر، كان يقول ﷺ: ((إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، وَأَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ)) ، ((فمَنْ ظَلَمتُهُ أو أَخَذْتُ من مَاله فَهَذَا مَالِي، أو ضَرَبتُهُ في بَدَنِهِ، فَهَذا بَدَنِي لِيَضرِبَني))، من يقول هذا؟ ليس الملِك أو الرئيس السياسي فقط، بل ملِك القلوب وملِك العقول.. وليس هناك من حاجةٍ إلى محامٍ ولا إلى رفع دعوى ولا إلى سنين ليأخذ الضعيف حقه مِن القوي [بل حالاً وفوراً]، ثمَّ يقول: ((لا يَظُنُّ أَحدٌ مِنكُم أنَّ مُحمَّدًا يَغضبُ، فإنَّه لَيسَ مِن طَبعِي الحِقدُ ولا الشَّحناءُ)) .. وهذا الدستور والقانون الإلهي الذي حفظه الله عزَّ وجلَّ مِن التحريف والتغيير لا يزال كما أُنزل.
كيفية صنع الإسلام للإنسان الفاضل:
الله عزَّ وجلَّ يبيِّن لنا كيف يُصنَع الإنسان الفاضل، فيقول: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [التحريم:6] لا تُهلِك نفسك، فإذا شرب الإنسان المسكرات فهل في المسكرات أو المخدرات نفع لصحة الإنسان؟ وكذلك نقول في الزنا، فالله تعالى خلق المرأة للرجل، والرجل للمرأة: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ [الروم:21]، هو الذي خلق لك المرأة وأباحها لك، ولكنْ ضمن نظامٍ لا يكون فيه الخلل ولا الفساد، لا مِن حيث ضياع الولد ليبقى بلا أبٍ، ولا مِن حيث تفشِّي الأمراض، وآخرها وباء الإيدز، فقال: خَلقتُ المرأة للرجل ليكونا لبعضهما كشخص وشخصية واحدة، فإذا خرجا عن نظامي ضربتُهما ورجمتُهما بأحجار الإيدز والأمراض التناسلية، وهذا هو الواقع! ولكنَّ الإنسان ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب:72] ظلومًا لنفسه، وجهولًا بقانون السماء وبقانون ربه، وهذا الشيء حرَّمته كلُّ الأديان، ولكنْ إذا فُقِد الإيمان فلا وجود للأديان في حياة الإنسان، والتي ثمارها سعادة الإنسان في روحه وجسده وكلِّ مراحل حياته.
وصايا الله ومدرسته لا يفهمها إلَّا من أتقن لغتها:
القرآن يقول: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [التحريم:6] مِن أنْ تُهلكوها أو تُعرِّضوها للأذى، ويقول تعالى أيضًا: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيّ عَنْكُمْ﴾ [الزمر:7]، إنّ اكتشاف الإنسان لعظمة الشَّمس والكواكب والمجرَّات جعلنا نعرف أنّ أرضنا ذَرَّةً في هذا الفضاء، والإنسان على ذرَّة الأرض هذه ماذا يمثِّل أمام عظمة خالق الكون ومبدِع نظامه؟ وعندما يرى الإنسان الساعة بدِقَّتها ودِقَّة نظامها يَعجَب من مخترعها وكذلك التلفزيون، فهل نَظَر في النظام الإلهي بَدْأً من الخلية في الجسم وفي الدماغ وفي الدم، أو في الجرثوم، وفي كلِّ شيء في هذا الوجود؟ وهل فكَّر مَن المنظِّم ومَن المبدِع؟ فهذا المبدِع والمنظِّم والخالق المصوِّر يقول لنا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لأنَّ وصايا الله عزَّ وجلَّ ومدرسته لا يفهمها إلَّا مَن أتقن لغتها، فإذا جلس شخص عربي في مدرسة فرنسية فإنه لا يفهم شيئًا، لأنَّ اللغة ليست لغته، فلا يفهم لغة السماء إلَّا المؤمن، والإيمان ليس كلمةً تُقال على اللسان، وليس عملًا جسديًّا تتحرَّك به أعضاء البدن، إنَّما الإيمان كما قال النَّبيُّ الكريم ﷺ: ((لَيْسَ الإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَلا بِالتَّحَلِّي)) يعني لا بأنْ تلبس لباس الإيمان ولباس رجل الدِّين، ولا بالتَّمنِّي فتظنُّ نفسك مؤمنًا، ((ولكنَّ الإِيمَانَ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ)) ، فالإيمان الحي والمسعِد هو هذا.
الله عزَّ وجلَّ لا يريد أنْ يشقى الإنسان في هذا الوجود:
الله عزَّ وجلَّ يخاطب هؤلاء المؤمنين: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [التحريم:6]، فالله عزَّ وجلَّ حريص على الإنسان كيلا يقع في الهلكة، ويَعزُّ عليه سبحانه أنْ يشقى الإنسان في هذا الوجود، والمسلم في صلاته يسأل الله تعالى بقوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6]، هذه سورة الفاتحة أول سور القرآن، فهو يطلب الهداية مِن الله عزَّ وجلَّ، فيجيبه الله تعالى في أول سطر مِن سورة البقرة: ﴿الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أنه مِن عند الله ﴿هُدًى﴾ [البقرة:1-2] أتطلب الهداية؟ ها أنذا قدَّمتُ لك كتاب الهداية إلى سعادة الدنيا والآخرة، كما يقول القرآن: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [النور:55]، ليكونوا خلفاء الله في أرضه على عباده، والله عزَّ وجلَّ يريد لعباده العِلم بدل الجهل، والغنى بدل الفقر، والحب بدل البغضاء والعداوة، والعدل بدل البغي والظلم، فتفضَّل هذه الهداية: ﴿هُدًى﴾ لكنْ لِمَن؟ ﴿لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة﴾ [البقرة:2-3] إلى آخره.
﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [التحريم:6] فما أعظم حنان الله عزَّ وجلَّ على الإنسان! كالأم تقول لابنها: احذر أنْ تقع، لا تصعد إلى السطح، لأني أخاف عليكَ أنْ ترميَ بنفسك مِن فوقه، ولا تقترب مِن النهر، فإني أخاف عليك أنْ تقع وتغرق، والله عزَّ وجلَّ أرحم وأحن وأكرم.
﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [التحريم:6]، ممَّ؟ مِن مخالفة أوامر الله عزَّ وجلَّ، لأنَّ الله تعالى ما أمرنا بأمر لمصلحته، فما أمرنا إلَّا لِمَا فيه خيرنا وسعادتنا وصلاحنا في صحتنا وعقولنا وأسرتنا ومجتمعنا وفي كل ما نعيش فيه على هذا الكوكب مِن مراحل حياتنا، وما نهانا إلَّا عمَّا يؤذينا ويُضِرُّنا ويُهلكنا.
الامتثال لأمر الله عزَّ وجلَّ لمنفعة الإنسان:
وعندما يقول الله تعالى: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [التحريم:6]، هل لله عزَّ وجلَّ منفعة أو مصلحة في امتثال أمره؟ وما مصلحة الأم في وصاياها لولدها وابنها الوحيد؟
ولم يقل الله تعالى: ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ فقط، بل قال: ﴿وَأَهۡلِيكُمۡ﴾ أيضًا، ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)) فالأم مسؤولة عن تربية الأولاد، فمِن أول وعي الولد لا يجوز أنْ يسمع كذبًا أو يسمع كلمةً فاحشةً أو كلامًا قبيحًا، ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم:6].. مرة رأى النَّبيُّ ﷺ أمًّا تنادي ابنها: تعال، وقد هرب منها، وهذا شأن الطفل الصغير، تقول له: تعال لأعطيك تمرًا، تُغريه بأنَّه إذا عاد ستعطيه التمر، وذلك على مسمع النَّبيِّ ﷺ ونظره، فسألها النَّبيُّ الكريم ﷺ: ((هَل لَو أَتَى وَلَدُكِ سَتُعطِينَه التَّمرَ؟)) قالت: نعم يا رسول الله، قال: ((أمَّا إنَّكِ لَو لَم تُعْطِهِ شيئاً لَكُتِبَتْ لَكِ عِندَ اللهِ كَذْبَةٌ)) ، يُفهَم بوضوح بأنَّ الأم لا يجوز أنْ تكذب على طفلها، فتكون أستاذَتَه في تعلُّمه الكذب مِن نعومة أظفاره، ويكون أولُ ما يُكتَب في صحيفته البيضاء -صحيفةِ نفسه التي لم يُكتَب فيها شيءٌ بعد- أنْ يكون كذَّابًا.
﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم:6]، كان النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام يقول في وقاية الأهل مِن مخالفة أمر الله عزَّ وجلَّ: ((مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ سِنِينَ)) ، ومرةً رأى سيِّدنا الحسن رضي الله عنه تمرةً في المسجد، وهو طفلٌ صغيرٌ، فأخذها ليأكلها، فنهاه النَّبيُّ ﷺ عن أكلها بِلُغة الأطفال قائلًا له: ((كِخْ كِخْ، لَولا خَشيَتِي أنْ تَكُونَ مِن تَمرِ الصَّدَقَةِ)) ، والصدقة محرَّمةٌ على النَّبيِّ ﷺ وأهل بيته، لأنَّها خاصة بالفقراء.. هذه من الوقاية: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم:6].
النفس كالأرض الزراعية في الاستجابة:
﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم:6] النَّار هي نار جهنم، ويخبرنا عنها النَّبيُّ ﷺ: ((بأنَّها تزيد حرارتها على حرارة نار الدنيا بسبعين ضعفًا)) ، وكما قال تعالى: ﴿وَقُودُهَا النَّاس وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم:6].. والإيمان ((لَيْسَ بِالتَّمَنِّي وَلا بِالتَّحَلِّي، ولكنَّ الإِيمَانَ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ)) ، لـمَّا يسمع المؤمن والمؤمنة هذه الآية قراءةً أو سماعًا فالنفس كالأرض الزراعية والقرآن كالبذار، والنَّبيُّ ﷺ والوحي كالمزارِع، فإذا كانت التربة خصبةً وسُقي البذار بماء التقوى والعلم والحكمة فكما يقول القرآن: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ﴾ [الأعراف:58]، يعني الأرض الجيدة والتربة الجيدة ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ [الأعراف:58]، يعني برعاية الله عزَّ وجلَّ، فإذا كان الله عزَّ وجلَّ هو الذي يرعى هذا العمل، فكيف ستكون نتيجة ذلك العمل تحت رعايته سبحانه؟ ﴿يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ﴾ الأرض الخبيثة السبخة المليئة بالأملاح ﴿لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾ [الأعراف:58].
الإيمان أجمل من ملكة الجمال والكفر أقبح من منظر الغوريلا:
هل قلوب الناس في المجتمع العالَمي اليوم تربة خصبة تَنْبُت فيها بذور الله تعالى نباتًا جيدًا وكثيرًا مباركًا؟ أنا ما رأيت في حياتي إنسانًا لا خير فيه، وما رأيت إنسانًا يستطيع أنْ يُلحد بكلام الله عزَّ وجلَّ، وإذا ألحد الملحِدون فإنَّما ألحدوا بأخطاء رجال الدِّين، لأنه كما إذا قُدِّم لإنسانٍ ليلة عرسه أو إذا أراد أنْ يتزوج وقيل له: لدينا زوجتان فاختر أيهما شئت، وقال: أين الزوجتان؟ فأُدخِل إلى مكانٍ فيه ملكة جَمال، وأدخل إلى مكانٍ آخر فيه الغوريلا، فهل يستطيع هذا الإنسان أنْ يختار الغوريلا زوجةً، ويزهد بملكة الجمال؟ [هل يستطيع ذلك أي إنسان سليم] في كلّ أنحاء العالم، سواء في موسكو وفي صوفيا وفي برلين الشرقية.. هل يمكن؟ هذا مستحيل.
في الكريملين حاورتُهم ثلاث مرات: فمرةً حاورتُ نائب بريجنيف ساعةً كاملةً حول الإيمان، وذلك حَسْبَ الإسلامِ وبحسب ما أفهمه أنا، لأنَّ كثيرًا مِن النَّاس مسلمون، لكنهم لا يُحسنون ترجمة الإسلام لا بأقوالهم ولا بأعمالهم وسلوكهم، فيسيئون إلى الإسلام ويظنون أنهم منتصرون له، وإنَّما هم منتصرون لا لحقيقة الإسلام، بل منتصرون لِما يفهمونه مِن الإسلام خطأً، وهو غير الإسلام حقيقةً، فكان آخر كلمة قالها: “إذا كان الإسلام والإيمان ما أسمعه منك فالإسلام شيءٌ حسنٌ”.
ومرةً أخرى في الكريملين أيضًا مع رئيس اتِّحاد القوميَّات الأعلى، ودام الحوار ساعتين، وكان معي ولدي أبو الفضل والقاضي الشيخ بشير الباني حتَّى وصلنا إلى “هل يوجد إله أم لا؟” فسكتَ ولم يستطع أنْ يُثْبِت خوفًا ممَّن حوله، ولا أنْ ينفي، لأنه إذا قال بعدم وجود الإله لصار الوضع كما إذا قلتُ [عن ثوبي الأبيض هذا]: هل ثوبي هذا أبيض أم أسود؟ فهل يستطيع أنْ يقول أمام العقلاء: هو أسود؟ لا، بل سيُحكم عليه بالجنون، فكان الجواب السكوت.. وفي وفد برلماني مِن سوريا كان فيهم أحد إخوانكم الأخ مروان شيخو، وقد ألقى كلمةً في الكريملين وبعد انتهائه منها قال له: أشمُّ مِن كلامك رائحة مفتي سوريا، يقول لي الأخ مروان: لـمَّا ودَّعهم في المطار أخذ مروان جانبًا، وقال له: قل للمفتي: “أنا مؤمن”.
فبحسب ما رأيتُ طول حياتي مِن أمريكا إلى اليابان وإلى أوروبا وإلى الاتحاد السوفيتي ما رأيتُ إنسانًا يستطيع أنْ يقول: أنا ملحِدٌ.
فإذا عُرض الإيمان فهو أجمل مِن ملكة الجمال، والكفر أوحش وأبشع مِن منظر الغوريلا، فهل الإيدز يأتي مِن الإيمان أو مِن الكفر؟ والأمراض الزهرية والمجرمون والجرائم واستعمار الأقوياء للضعفاء والخيانة والسرقة في الأموال أو في الأعراض أو في العائلات وعقوق الوالدين كلُّ ذلك هل يأتي مِن الإيمان أم مِن الكفر؟ ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف:157].
وجوب دعوة المجتمع ونصيحته:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [التحريم:6]، والنفس قد تُطلَق ويُراد بها المجتمع كلُّه، فكأنَّ المجتمع نفسٌ واحدة، ومنه قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [الحجرات:11]، يعني لا تغتابوها، وهل مِن المعقول أنْ يغتاب الإنسان نفسه؟ فاعتبر القرآن أنَّ كلَّ إنسانٍ هو نفسُك، يعني لا تغتب إنسانًا، فإنَّ هذا الإنسان هو كنفسك، وله مِن الحقوق عليك كما لنفسك عليك مِن الحقوق.
فكلمة ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [التحريم:6] على هذا التفسير تعني: قُوا أفراد المجتمع، ﴿وَأَهْلِيكُمْ﴾ يعني أسرتكم وعائلتكم، فإذًا هنا توجيه الأمر للمؤمن بأنْ يعمل على إصلاح المجتمع، سواء المجتمع الصغير في بيته ومنزله وأسرته، أو المجتمع الكبير مِن أبناء وطنه وبلده، وإذا أعطى الله عزَّ وجلَّ للإنسان القوة بحيث يستطيع أنْ يُوصل الكلمة بطريق التلفزيون والأقمار الصناعية إلى كل النَّاس، فيتوجّه إليه هذا الخطاب الإلهي أنّك أيها الإنسان الذي تملك هذه الوسائل مِن الإعلام: إنَّ أمر الله إليك أن تعمل لتُنْقِذ الإنسان لأنَّه كنفسك.
﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ﴾ [التحريم:6]، الإنسان القريب أو الإنسان البعيد، ﴿نَارًا﴾ يعني وُجِّه الإنسانَ كلَّ الإنسان بما يكفل له السعادة، وبما يصونه مِن الهلاك والشقاوة.
تصرفات المسلمين اليوم شوَّهت الإسلام وتعاليمه:
هذا القرآن بهذا المعنى الذي هو معناه الحي والحقيقي ينبغي أنْ يكون دستور هيئة الأمم، ولكنْ يشوِّه الإسلامَ ما عليه المسلمون مِن الفهم الخاطئ للإسلام المنعكِس في أعمالهم وسلوكهم وأخلاقهم، والسبب هو فقد المهندس الذي يُحسن صناعة العقل ليَفْهَم الإسلامَ الحقيقي، وصناعةَ القلب والروح لتتقبل وتعطي الطاقة لبناء الإسلام الحقيقي، أو بمعنى آخر لبناء الإنسانية الكاملة، وهذا ما تمنَّاه الفلاسفة والحكماء وعجزوا عن تحقيقه، لأنَّ النفس مِن صنع السماء، ولن يستطيع معالجتها إلَّا دواءُ السماء وطبيبُ السماء ومِن صيدلية السماء: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء:82]، ((ولَكِنَّ الإِيمَانَ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ)) نورًا وسعادةً وانكشافًا لعالَم الملكوت ما يجعل أنانية الإنسان وشهواته لا وجودَ لها أمام أوامر الله عزَّ وجلَّ وأمام وصاياه.
وإذا لم يبلغ الإنسان مرحلة النضج الإيماني فسيكون ظالـمًا لنفسه ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ﴾ لِمَن؟ ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ﴾ أي القرآن ﴿الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء:82]، فإذا قدَّم جاهلٌ الدواء للمريض، وقال له: خُذه دفعةً واحدةً، فماذا يفعل هذا الدواء بهذا المرض بالاستعمال غير الصحيح؟ يكون الدواء شرًّا مِن المرض، فالمرض يُتعِبه، ولكنَّ الدواء باستعماله غير الصحيح يقتله ويُهلكه، وهذا ما عليه أكثر المسلمين في العالَم الإسلامي، لأنَّ العالِم الحقيقي والرباني مفقودٌ، العالِم الذي يعلِّم القرآن لا تلاوةً لكلماته وألفاظه، ولكنْ يعلِّم علومه، ويقذف في القلوب أنواره، وفي العقول حِكمته، وفي النفوس فضائله ومكارم أخلاقه، هذا هو العالِم الحقيقي.. أسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يُهيِّئ للإنسان العلماء الربانيين.
الصَّلاة تنهى عن الفحشاء وكل ما هو مستقبح:
﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ﴾ [التحريم:6]، فكان النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام يقول بمناسبة هذه الآية: ((رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً)) يعني إنسانًا، فيدعو له بالرحمة، لماذا؟ وبماذا؟ ((رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً))، [الشيخ يتوجه إلى الحضور ملاطفًا:] يجب عليكم أنْ تحفظوا الحديث، وسأسألكم عنه، لا تظنُّوا أنَّه لا يوجد امتحان.. ((رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً قَالَ: يا أهْلاَهُ))، يعني احذروا مخالفة تعاليم الله عزَّ وجلَّ ووصاياه ((رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً قَالَ: يا أهْلاَهُ صَلَاتَكُم)) ، ليست الصَّلاة التي هي حركة الجسد بركوعه وسجوده وتمتمة لسانه، بل الصَّلاة التي قال الله عزَّ وجلَّ عنها: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون:1-2]، أَمَر الله تعالى بالصَّلاة التي قال عنها: ﴿إِنَّ الصَّلاة تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ﴾ [العنكبوت:45] والفحشاء هي كل ما هو مستقذَر في نظر العقل الفاضل السليم، ﴿وَالْمُنْكَرِ﴾ هو كل ما تستنكره العقول الكاملة والنفوس الفاضلة.
ويقول تعالى في تعريف الصَّلاة أيضًا: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ [المعارج:19]، القرآن يفسِّر الهلوع، ما هو الهلوع؟ قال: هو الذي: ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا﴾ [المعارج:20]، لا يصمد أمام الأزمات، فتارةً مِن عدم صموده يُصاب بالأمراض في قلبه أو في البنكرياس مِن مرض السكر أو الشلل أو تجلط الدم، لأنَّه هلوع، ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ﴾ [المعارج:20-21]، مِن نعمة المال أو الجاه أو الحُكم أو السلطان ﴿مَنُوعًا﴾ [المعارج:21]، يمنع الخير عن النَّاس، قال: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ [المعارج:22]، إلا المصلِّي للصَّلاة الحقيقة التي هي مدرسةٌ، وأستاذها الله عزَّ وجلَّ، والمصلِّي تلميذٌ في مدرسته، فإذا كان التلميذ نجيبًا، ولدروسه حفيظًا، ولمؤدِّبه مستجيبًا، فكيف يكون تلميذ الله عزَّ وجلَّ؟ لقد كان أصحاب رسول الله رضي الله عنهم كما وصفهم رسول الله ﷺ بقوله: ((عُلَمَاءُ فُقهاءُ حُكَمَاءُ، كَادُوا مِنْ فِقْهِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ)) .
تطبيق أوامر الله تعود على صاحبها بالفلاح والعافية:
فالنَّبيَّ هو المهندس المعماري الذي يصنع الأمة الفاضلة.. ((رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً))، رجلًا زوجًا أو أبًا أو أخًا أو ابنًا، وليس المقصود بالمرء الرجل فقط، بل المرأة أيضًا، رحم الله امرأةً قالت في بيتها لأهلها ولأولادها: يا أهلاه، صلاتَكم! ما معنى “صلاتَكم”؟ يعني صلُّوا صلاتَكم، ((صِيامَكُم)) وما معنى صيامَكم؟ يعني صوموا فريضة الصيام، فإذا صلينا لله عزَّ وجلَّ هل سنصنع له مجرَّة إضافيةً فوق المجرَّات أو كوكباً في السماء؟ واللهِ إننا لا نصنع له حتى مصباحًا كهربائيًّا، ولا حتى سراج الفلاحين، فالصَّلاة لنا والزكاة لنا والصوم لنا.. ((صَلَاتَكُم، صِيامَكُم)) ولماذا الصوم؟ كلُّكم تتذكَّرون وتعرفون الصوم الطبي، وقد صار الصوم الآن يُعتبَر طبًّا كاملًا، وتتذكَّرون معالجة الملاكم “مُحمَّد علي كلاي” لـمَّا أتى إليَّ في المزرعة وعالجته بالصوم مِن مرضٍ لا شفاءَ منه بإجماع أطباء العالَم، وما خرج مِن المزرعة إلا وهو يَثِبُ وثبًا ويقفز قفزًا ويركض ركضًا، وقد أتى وهو كقطعة لحم على قطعة مِن الخشب، وقد صرّح بذلك وقال: كنتُ في أمريكا مع ألف طبيبٍ أمريكي، فما استفدتُ منهم، لكنْ عند المفتي حَصَلت على الصحة والعافية.
تخليص النفس من الشح:
والمقصود من قوله ﷺ: ((صِيَامَكُم)) لنصل إلى نتيجة الصيام: ((صُومُوا تَصِحُّوا)) ، وكذلك الصَّلاة لنصل إلى ﴿تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت:45] ولنصل إلى أن تتعقَّم النفس مِن الهلع والجزع عند الشر، والمنع عند الخير، ولتجعلنا الصلاةُ الإنسانَ الفاضل الذي يُساعد الإنسان الضعيف، فإذا كان واقعًا في الشَّرِّ أنْ ينقذَه، وإذا صار بيده الخير أن لا يمنعه.. ((رَحِمَ اللهُ امرَأً قَالَ: يَا أَهلَاهُ، صَلاتَكُمْ، صِيامَكُمْ، زَكَاتَكُم)) والزكاة ركنٌ ماليٌّ في الإسلام، وهي أحد أركان الإسلام، وهي لمكافحة الفقر، لئلا يكون في المجتمع جائعٌ لا يجد غذاءً، أو عارٍ لا يجد كساءً، أو مريضٌ لا يجد دواءً، وكان النَّبيُّ ﷺ يقول في هذا الموضوع: ((مَا آمَنَ بِي سَاعةً مِنْ نَهارٍ مَنْ أَمسَى شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ إلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ)) .
مد يد العون إلى الأفراد والشعوب:
هذا بالنسبة للشخص الفرد، فكيف إذا كانت دولة غنية وبجانبها دولة فقيرة جائعة؟ ولماذا ذُكر الجار؟ لأنَّ أقرب مَن يعلم أحوال الجار هو جاره، والآن صار العالَم كلُّه بلدًا واحدًا، وصارت البلدان كأنَّها متجاورة وملاصقة لبعضها، فإذا وجد شعبٌ غنيٌّ في العالَم إلى جانب شعبٍ فقيرٍ جائعٍ، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يسلب الإيمان عن هذا الشعب الغني إذا لم يمدَّ يد المساعدة للشعب الجائع، وليس الجوع مقصورًا على الطعام للجسد، فإذا كان جائعًا للعلم فيجب أنْ يُعلِّمه، وإذا كان جائعًا إلى الحكمة والعقل يجب أن يعلِّمه الحكمة، ولذلك لـمَّا قامت دولة الإسلام ووصلت إلى حدود الصين وفرنسا ما حجزت العلوم عن الشعوب وخصصتها للعرب فقط، بل قدَّمَتِ العلوم لكلِّ شعوب العالَم، لأنَّ فَتْحها ما كان استعماريًّا، وإنَّما كان الفتحُ الإسلاميُّ تحريرًا مِن المستعمِرِين؛ مِن الاستعمار الفارسي الشرقي ومِن الاستعمار الغربي البيزنطي، حتَّى إن أعظم العلماء نبوغًا كانوا مِن الشعوب الأعجمية غير العربية، فهل فعل الغرب هكذا في استعماره للشعوب في إفريقيا وآسيا؟ لا، لأنَّهم ما أخذوا ثقافتهم مِن مدرسة السماء، بل أخذوها مِن المدرسة الجسدية التي لا تربِّي ولا تنمِّي ولا تغلِّظ إلَّا الأنانية سواء الشخصية أو القومية.
((رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً قَال: يا أهْلاَهُ صَلَاتَكُم)) [الشيخ يخاطب الحضور ملاطفاً مرة أخرى:] بعد قليل يوجد فحص في حفظ الحديث.. ما هي الصَّلاة؟ الصلاة مدرسة الله عزَّ وجلَّ، ومَن أعظم معلِّمٍ في الوجود؟ هل الله عزَّ وجلَّ أم الجامعة الأمريكية أم الجامعة السورية؟ وهل خرَّجت الجامعة الأمريكية مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟ وهل خرَّجت فاتحين ليحرِّروا شعوب العالَم ويجعلوا الفاتح والمفتوح إخوة؟ ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة﴾ [الحجرات:10]، وبلا إكراه ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة:256].. فما لم يَرجع النَّاس إلى قانون الله عزَّ وجلَّ ودستوره وإلى مدرسة الله وتعاليمه المجرَّدة عن تعصُّب رجال الدِّين وعن تأويلاتهم التي تُناقض العقل والعلم والحقيقة، فلا هيئة الأمم ولا ألف هيئة أمم ولا عصبة أمم تَحُلُّ الأزمات، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق:4]، وبلا تقوى الله سينتقلون مِن أزمة إلى أزمة، ومِن حرب إلى عشر حروب.
الأمر بأداء الفرائض ومساعدة المحتاجين:
((صَلَاتَكُم)) يعني صلُّوا صلاتكم ((زَكَاتَكُم)) يعني أدُّوا زكاتكم ((صِيامَكُم))، ((صُومُوا تَصِحُّوا)) ، ((مِسكِينَكُم)) يعني ارحموا وساعدوا المسكين، والمسكين هو الذي يحتاج إلى مئةٍ، ودَخْلُه عشرون أو ثلاثون أو أربعون أو سبعون، فالإسلام يفرض على الدولة أنْ تُكَمِّل له ما نقص مِن حاجته لتأمين سعادته، والفقير هو الذي يكون مُعدَمًا، أو عنده مِن المئة عشرة، فدولة الإسلام مأمورةٌ في قانونها أنْ تُكَمِّل له العشرة إلى مئة، فهذا معنى ((مِسكِينَكُم)).. ((يَتِيمَكُم)) في المجتمع الإسلامي إذا فَقَد الطفل أباه فالدولة تكون في مقام الأب، وإذا ما وُجدت الدولة فالمجتمع، فإن كل فرد في المجتمع مسؤول عن الضعيف، سواء كان مسكينًا أو يتيمًا، وهذا هو التَّكافُل الاجتماعي الذي جَعَله الإسلام في الفرد وفي الأسرة وفي الجار وفي الدولة، فالقوي يُساعد الضعيف، والغني يُساعد الفقير، وإذا لم يُعطِه فليُقرضه بلا فائدة.
آراء الفقهاء في حكم أخذ الفائدة من القروض:
في القروض والديون هناك ثلاثة اجتهادات حول الفائدة في الإسلام: اجتهادٌ في المذهب الجعفري لدى إخواننا المسلمين في إيران أنه يجوز أنْ تُقرِض غير المسلم وتأخذ منه الفائدة، أمَّا المذهب الحنفي فغير المسلم تأخذ منه الفائدة إذا لم يكن مواطِنًا، وأمَّا المذهب الشافعي فلا يجوز أخذ الفائدة لا مِن المسلم ولا مِن المواطن ولا مِن غير المواطن، وهذا ما أوجب مساعدة الإنسان في كلِّ العالَم في القروض بلا فائدة، هذا هو الدِّين! وإذا ما صارت السياسة دِينًا [أي صارت تمشي على منهاج دين الله] وإذا ما كانت مِن السماء [فلن ترتقي الإنسانية]، وإذا جُعل الدِّين مِثل الشيوعية فقد خرجوا بعد سبعين سنةً وهم لا يجدون حتى الرغيف بلا إدام ليأكلوه، ولكنْ لـمَّا كان القانون مِن السماء كان العرب قَبل الدِّين لا يجدون الرغيف، وبعد الدِّين صاروا أساتذة العالَم كما قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران:110].
التأكيد على حقِّ الجِوار:
((رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً قَال: يا أهلاه! صَلاَتَكُمْ صِيَامَكُمْ زَكَاتَكُمْ مِسْكِينَكُمْ يَتِيمَكُمْ جِيرَانَكُمْ)) والجيران سواء كان الجار مسلمًا أو غير مسلم فله حق الجوار، وورد بأنَّ ((الْجِيرَانَ ثَلَاثَةٌ أنواع: الْجَارُ الْمُسْلِمُ مِن قرابتك وأرحامك)) كابن أخيك وابن عمك وخالك وكذا ((وَجارٌ مُسلِمٌ لَيسَ قَرِيبًا لَكَ، وَالجَارُ الذي لَيسَ مُسلِمًا، وَلَيسَ قَرِيبًا لَكَ)) يعني مسيحي أو يهودي أو مجوسي أو بوذي أو أي شيء، قال: ((فَالْجَارُ الْمُسْلِمُ الْقَرِيبُ لَهُ عليك ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ: حَقُّ الْقَرَابَةِ، وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَحَقُّ الْجِوَارِ، وإنْ لم يكن قريبًا وكان مسلمًا فلَهُ حَقَّانِ: حَقُّ الْجِوَارِ، وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَإذَا لَم يَكُنْ مُسلِمًا فلَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ: وهو حَقُّ الْجِوَارِ)) ، فمِن ذاك كان عَبْدُ اللهِ بْنَ عُمر رضي الله عنهما إذا ذَبح شَاةً -وكان له جار يهودي- فيسأل أهله في المساء: “هل أَهْدَيْتُمْ مِن ذبيحتنا لِجَارِنَا اليَهُودِيِّ؟” .
لا يوجد إنسان في العالَم يرفض مدرسة السماء:
هذا القانون الذي يجب أنْ تتبناه هيئة الأمم، وأنْ تُسخَّر له وسائل الإعلام، وأعتقد كما أراكم وترونني بأنَّه لا يوجد إنسانٌ في العالَم يرفض مدرسة السماء، لأنَّها لا تتحيَّز لقومية دون قومية، ولا لدِين دون دِينٍ، ولا للون دون لون، ولكنْ مسلمو عصرنا ومسلمو القرون المتأخِّرة شَوَّهوا الإسلام، ولم يفهموه الفهم الصحيح، وفهموا بعضًا وجهلوا بعضًا، ولن نرتقي ما لم يرجع الإنسان إلى مدرسة الله وإلى ثقافة الله عزَّ وجلَّ، ليست التي تتَّفق مع العقل، بل التي تغذِّي العقل فتحوِّله مِن نواةٍ إلى نخلةٍ، ومِن بذرة تين دقيقة إلى شجرة عظيمة ودوحة، ولكنْ أين مَن يُحسن ترجمة الدِّين بالأقوال، وترجمة الدين بالأعمال والسلوك والقوة الروحانية؟ التي إذا وُجد معلمها الحقيقي يعلِّمك روحيًّا، فيكشف لك عن لوحٍ تقرأ فيه الحقائق بعين قلبك وبالنور الإلهي، وتشعر في هذه المدرسة بلذةٍ وسعادةٍ لا تجدها في ألذِّ المطاعم ولا في أجمل الأزواج ولا في أجمل المناظر، ولذلك كان النَّبيُّ ﷺ يقول: ((وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ)) ، أي إن سعادتي الكبرى أجدها عندما أكون في مدرسة الله عزَّ وجلَّ، أنا تلميذه وهو أستاذي، ((أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأدِيبِي)) ، ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرحمن:1-2].
قال: ((مِسكِينَكُم يَتِيمَكُم جِيرَانَكُم، لَعَلَّ اللهَ يَجمَعُكُم مَعَهُم في الجَنَّةِ))، ليست الصلاة فقط، بل عليك أنْ تعلِّمه الصَّلاة والصوم والأخلاق والإيمان، وتعينه إذا كان في فقرٍ جسديٍّ مِن طعام وشراب ودواء ولباس.. وإذا كان الدِّين يدعو إلى هذا فهل البعيد عن الدِّين رابح أم خاسر؟
الجزاء مِن جنس العمل:
وتعاليم الدِّين تحتاج أن تكون تربة القلب وتربة العقل والفهم تربة خصبة، فإنَّ البذور الطيبة لا تنبت في الأرض الخبيثة، قال الله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ [يونس:42]، يعني إلى النَّبيِّ ﷺ، ثم قال: ﴿أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاس شَيْئًا﴾ [يونس:42-44]، يعني إذا زرع شخص العنب، وزرع آخرٌ الشوك فماذا سيعطي الله عزَّ وجلَّ لزارع العنب؟ العنب، ولزارع الشوك؟ الشوك، فإذا أَعطى لزارع الشوك شوكًا فهل يكون الله عزَّ وجلَّ ظالـمًا له؟ ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [النحل:118]، و﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النمل:90].
من حفظ الحديث؟ هل حفظته أنت؟ إذن أسمعنا! تعالى إلى هنا وخذ المذياع.. [يقرأ طفل الحديث، ولما ينتهي يثني عليه الشيخ ويقول:] الله يرضى عليك! هل من حاجة أن نفحصكم كلَّكم؟ ما دام الصغير قد حفظ فالكبار بشكل أولى.. من يريد أيضاً؟ أبو ماهر؟ إذن نأخذ نموذجاً من الكبار.. تعال إلى هنا وأسمعنا، ولكن من دون ورقة.. [بعد أن يقرأ الأخ أبو ماهر الحديث -وهو من إخوان الشيخ المقربين له- يقول الشيخ:] ﷺ!
فإذا قال إنسانٌ لمن حوله: لا تحفر في هذا المكان فإنَّ فيه أفعى، واحفر في هذا المكان فإنَّ فيه كنزًا، فإذا فتح شخص مكان الكنز وأخذه، ولم يرضَ الثاني فتح مكان الكنز، بل فتح مكان الأفعى، فمَن الظالم لنفسه؟ هل ظلمهم الله عزَّ وجلَّ؟ ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [النحل:118]، ما هي نار الثعبان عند لدغته؟ نار تشتعل في كل وجوده مِن رأسه إلى أصابع قدميه.
شرائع الله عزَّ وجلَّ لمصلحة البشر لئلا يهلكوا:
قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [التحريم:6]، يعني أوامري ونواهيّ وشرائعي لمصلحتكم لئلَّا تهلكوا، وهذا في الدنيا قَبل الآخرة، فالعرب قبل الإسلام ما كان لهم تاريخ وما كان لهم وجود حضاري ولا دولي ولا عالَمي، وما هو الإسلام؟ تعريف الإسلام: هو استسلام الإنسان لأوامر الله عزَّ وجلَّ والانقيادُ لشرائعه وتعالميه.. فإذا لم يستجبِ المسلم لأوامر الله عزَّ وجلَّ فهذا ليس بمسلمٍ، بل هو متمرِّدٌ على أوامر الله تعالى، ولذلك يقول النَّبيُّ ﷺ: ((مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ)) ، يعني كفر بالصَّلاة، ومَن لم يؤدِّ الزكاة فقد قال الله فيه: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [فصلت:6-7] والحج أيضًا، هل الحج الذي يحجُّه النَّاس اليوم هو الحج الحقيقي؟ اللهم لا، لأنَّ الله عزَّ وجلَّ ذكر الهدف مِن الحج، فقال: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ﴾ [الحج:28]، فيجب أنْ يتدارسوا شؤون العالَم في الحج، وأقلُّ الدرجات شؤون العالَم الإسلامي، فالإسلام ليس مقصورًا على شعب دون شعب، بل ﴿رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107]، فيجب أنْ تُذْكَر في الحج مشاكلُ العالَم كلُّها، ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ﴾ [الحج:28] فعندما يذكرون شؤون العالَم [مع ذكرهم لاسم الله] لا يكون ذلك على ضوء المصالح القومية، فأمريكا تدرس الموضوع في هيئة الأمم لمصلحة أمريكا وإنكلترا لمصلحة إنكلترا، وأمَّا هيئة الأمم السماوية: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ﴾ [الحج:28] فاسم الله عزَّ وجلَّ وشريعته فيها العدلُ لكلِّ النَّاس، والإحسانُ إلى كل النَّاس، والعلمُ لكل النَّاس، ومناصرةُ الضعيف مِن أيِّ شعب مِن شعوب العالَم.
فيجب أن يعود الإنسان إلى مدرسة الله، والمسؤول عن عدم عودته إليها هم رجال الدِّين، لأنَّ رجال الدِّين لا يقدِّمون الدِّين بجوهره الحي، فعندما ينزل المطر من السماء ينزل حياةً وروحًا ومعقَّمًا ويُعطي الحياة، وعندما يختلط بالإنسان وبأوساخه وأقذاره وسمومه والجراثيم يعطي الهلكة والموت، ولذلك فإنّ الدِّين الملوَّث بأخطاء الإنسان وانحرافات تأويله جعل الإنسان بعيدًا عن الدِّين، وبسبب بعده صار مُحاطًا بالحروب والأزمات والمجاعات والأوبئة.. إلخ، والأمر سهل، فلو تولَّت أيُّ دولةٍ مهما كانت التعريفَ بالدِّين الذي هو الاستجابة لأوامر الله عزَّ وجلَّ، الذي: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف:157] ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [التوبة:71] ينتصرون للإنسان مهما اختلف لونه أو دِينه أو قوميَّته.. وهل يسمع هذه الإذاعة [في تلك الدولة] مليون مستمع؟ فكيف إذا كانت بمعظم لغات العالَم! أعتقد أنَّ كل العالَم حينها سيدخل هذه المدرسة، وسيتثقف ثقافةً واحدةً، وعند ذلك نعيش عصر الأنبياء وعصر رسالات السماء، ولا يتحقق السَّلام فقط، بل يتحقَّق الحب والإخاء التعاون، و((مَا آمَنَ بِي سَاعَةً مِن نَهارٍ مَنْ أَمسَى شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ إلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ)) .
المؤمن مكلَّف بتعليم مَن حوله:
خطب النَّبيُّ ﷺ مرةً على المنبر، وكان منبره ثلاث درجات، مِثل هذا المنبر، فقال: ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ لَا يُعَلِّمُونَ جِيرَانَهُمْ، وَلَا يُفَقِّهُونَهم)) يعني بتعاليم السماء ((وَلَا يُفَطِّنُونَهُم)) يُنقُّون عقولهم مِن الخرافات والأباطيل المضرَّة، ((وَلَا يَأْمُرُونَهُمْ بِالمعرُوفِ، وَلَا يَنْهَوْنَهُمْ عن المنَّكَرِ)) هذا هو التكافل العلمي والاجتماعي.. وهناك أيضاً التكافل الغذائي، وهناك التكافل ضد الفقر والمرض.. ثم لم يجعل النبي ﷺ كلَّ المسؤولية على العلماء، بل أيضًا على الجُهلاء والمتعلِّمِين والتلامذة فقال: ((وَمَا بَالُ أَقْوَامٍ لَا يَتَعَلَّمُونَ مِنْ جِيرَانِهِمْ، وَلَا يَتَفَقَّهُونَ، وَلَا يَتَّعِظُونَ))، ثمَّ أعاد وقال: ((لَيُعَلِّمَنَّ قَوْمٌ جِيرَانَهُمْ، وَيُفَقِّهُونَهُمْ وَيَأْمُرُونَهُمْ بالخير وَيَنْهَوْنَهُمْ عن الشَّرِ، وَلْيَتَعَلَّمَنَّ)) إلى آخره ((أَوْ لَأُعَاجِلَنَّهُمُ الْعُقُوبَةَ في الدَّنيا)) ، فجعل النَّبيُّ ﷺ مَن لا يتعلَّم مِن المعلِّم، والمعلِّم الذي لا يُعلِّم معرَّضًا للعقوبة الحكومية، يعني أنّ التعليم قانون إلزامي مع التربية الأخلاقية والروحية، فأيُّ دولةٍ في العالم لها هذا القانون ولها هذا الدستور؟ وهل هذا القانون والدستور صعبٌ تطبيقه مع وجود وسائل الإعلام المسموعة والمنظورة والمكتوبة؟ ولو أنَّ قُوَّةً -ولو خاصةً- قامت بهذا الإعلام لحدث في العالَم نصرة للسلام والأُخوَّة لا يعلم مداها إلَّا الله عزَّ وجلَّ.
[يجدر التنويه إلى أن فكرة نشر الإسلام في وسائل الإعلام العالمية الحديثة التي تصل إلى كل الكرة الأرضية وباللغات العالمية كانت هدفاً كبيراً لسماحة الشيخ أحمد كفتارو، وكانت من المشاريع التي كان يسعى لتحقيقها في حياته، وبخاصة عند أول ظهور للقنوات الفضائية التلفزيونية، وقد حاول طرح هذا الموضوع مع بعض أصحاب القدرات، وعلى مستويات عالية، لكنه للأسف لم يجد مجيباً ومُنَفِّذَاً.. كما أن فكرة استخدام وسائل الإعلام كانت قديمة عنده ومن أيام شبابه رحمه الله، ففي السبعينات وما بعدها أرسل من طلابه من يعمل في الراديو، وكانوا من أشهر المذيعين الإسلاميين، وكان بنفسه في الستينات يقدم برنامجاً في الراديو يسمعه الناس في أنحاء سوريا، كما أنه شجع عدداً من تلامذته الشباب لتقديم مسرحيات إسلامية، كان يحضرها بنفسه، حتى إن تلامذته كانوا يقدِّمون تلك المسرحيات الإسلامية في مسارح دمشق، وكان لها أثر كبير في توبة أعداد غفيرة من الشباب التائهين المنجرفين مع التيار حينئذ؛ تيار الشيوعية ومحاربة الدين.. ولما بنى مُجَمَّعَه الإسلامي في أواخر السبعينات جعل فيه قاعة كبيرة خاصة للمسرح، كانت ولا تزال تقام فيها المسرحيات والأنشطة الشبابية الإسلامية]
قال: وإذا لم تستجب لأمر الله عزَّ وجلَّ بأن تقي أهلك ونفسك مِن النَّار التي سببها الجهل والخروج عن أوامر الله عزَّ وجلَّ، والتي ﴿وَقُودُهَا النَّاس وَالْحِجَارَةُ﴾ وخالفتَ أمر الله عزَّ وجلَّ فستصير غداً حطبةً في نار جهنم، وأيُّ نار؟ تذوب فيها الحجارة الصماء ﴿عَلَيْهَا مَلَائِكَة غِلَاظ شِدَادٌ﴾ لا توجد رحمة، لأنَّ الذي يضع يده في فم الثعبان ويلدغه هل يستحقُّ الرحمة؟ فهو لم يرحم نفسه، ورفض الرحمة.. ﴿غِلَاظٌ شِدَادٌ﴾ ينفِّذون أمر الله عزَّ وجلَّ بدِقَّة، كما تنفِّذ الأفعى قانونها فيمَن يتجاهل قانون الله فيها ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ﴾ يعني الملائكة ﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم:6].
جزاء الكفار العقاب يوم القيامة:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [التحريم:7]، والإيمان هو العلم والحكمة والأخلاق والإنسانية والعالمية ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الذين هم ضدُّ هذه المعاني، فإذا وضعوا أيديهم في فم الثعبان أو ألقوا بأنفسهم في النَّار وصاروا يصرخون بالويل والثبور ويريدون أنْ يعتذروا، ولكن بماذا سيعتذرون؟ لا عذرَ لهم، فبعد أنْ حُذِّروا وعُلِّموا ونُبِّهوا ألقوا بأنفسهم، هل لهم عذرٌ؟ يقول الله تعالى: ﴿وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات:36] لأنَّهم لا عذرَ لهم، ﴿لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ﴾ لماذا ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التحريم:7]، فزارع الشوك عند الحصاد إذا اعتذر فهل اعتذاره يقلب شوكه عنبًا أو وردًا؟.. نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا مِن تلامذة مدرسة السماء ومِن تلامذة مدرسة إبراهيم وموسى وعيسى ومُحمَّد عليهم الصلاة والسَّلام، كما قال النَّبيُّ ﷺ: ((نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ إِخْوَةٌ، دِينُنا واحِدٌ)) في العقائد والإيمان بوحدانية الله عزَّ وجلَّ وباليوم الآخر وبوجوب العمل الصالح، ((وَشَرَائِعُنَا شَتَّى)) فالقوانين اختلفت بحسب اختلاف الزمان والمكان والعصور.
وختامًا أسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا مِن الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.