عتاب الله عزَّ وجلَّ لنبيه ﷺ:
نحن في تفسير بعض آياتٍ مِن سورة التحريم، وقد سبق أن الله عزَّ وجلَّ ذكر عِتابه لنبيه سيدنا محمد ﷺ على تحريمه لبعض نسائه، أو بعض ما أحلَّ الله له ولغيره مِن الناس إرضاءً لبعض الناس على حساب جاريته مارية رضي الله عنها، أو أنْ يحرِّم على نفسه ما أباح الله عزَّ وجلَّ له، وعاتبه الله تعالى على ذلك وجعل عتبه له قرآنًا يُتلى في صلاة المسلم وخارج صلاته إلى يوم القيامة .
وقد ورد كثيرٌ مِن مِثل هذه العِتابات مِن الله عزَّ وجلَّ لنبيِّه ﷺ، كما حدث عندما كان في مجلسٍ للأغنياء وزعماء العرب، فأتاه المؤمن الفقير الأعمى يطلب الهدى ويسأله عن بعض المسائل، وخشي النبي ﷺ إنْ أقبل عليه أنْ يغضب أولئك الزعماء والعظماء فأعرض عنه، فأنزل الله عزَّ وجلَّ قرآنًا فيه عتبٌ على النبي ﷺ فيما فعل مِن إهمال الفقير الأعمى فقال له: ﴿عَبَسَ وَتَوَلى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلهُ يَزكى (3) أَوْ يَذكرُ فَتَنْفَعَهُ الذكْرَى (4) أَما مَنِ اسْتَغْنَى﴾ [عبس:1-5] يعني الأغنياء ﴿فَأَنْتَ لَهُ تَصَدى﴾ [عبس:6] تتعرَّض لهم وتترك الفقراء ﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزكى﴾ [عبس:7] أنتَ لستَ مسؤولًا عن هدايتهم، بل أنتَ مسؤولٌ عن التبليغ والتعليم ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَل فَإِنمَا يَضِل عَلَيْهَا﴾ [يونس:108] ﴿وَأَما مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى﴾ [عبس:8] وهو الأعمى ابن أمِّ مكتوم رضي الله عنه ﴿وَهُوَ يَخْشَى﴾ [عبس:9] مملوءٌ مِن خشية الله عزَّ وجلَّ ﴿فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهى﴾ [عبس:10] تُعرِض عنه ﴿كَلا﴾ [عبس:11] يعني لا تَعُد لمثل هذا العمل.
وهناك آياتٌ كثيرة فيها عتبٌ مِن السماء لسيدنا محمد ﷺ، وهذا مما يدلُّ على أنَّ القرآن لو كان مِن صنع محمدٍ ﷺ لَمَا كان يُسجِّل على نفسه هذه المؤاخذات وهذه العتابات وهي تُتلى إلى يوم القيامة.
عتابٌ آخر في غزوة تبوك عندما كان يأتي المنافقون يعتذرون إليه ﷺ بشتَّى الأعذار، أحدهم بمرضه، والآخر بعمله ليأذن له في التخلُّف عن الجيش، فأذن لهم، فعاتبه الله عزَّ وجلَّ أيضًا على هذا الإذن وقال له: ﴿عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة:43] كان يجب عليك أن لا تأذن لهم حتى يتخلفوا ويتبيَّن نفاقهم وكذبهم في إيمانهم.
وهناك مواضع كثيرة، وهذه هي الذنوب التي ذَكَرها الله عزَّ وجلَّ عن نبيِّنا ﷺ في القرآن في قوله: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخرَ﴾ [الفتح:2]، وقوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد:19].
فبعدما ذكر الله عزَّ وجلَّ عن قصة التحريم ما ذكر، وعاتب وأنَّب زوجات النبي ﷺ في أخطائهنَّ في أداء حقوق النبوة والزوجية تجاه رسول الله ﷺ، وهدَّدهنَّ الوحي تهديدًا قويًّا بالطلاق إنْ هنَّ استمررنَ على إزعاج النبي ﷺ في شؤون البيت، بينما النبي ﷺ يبني البيت العالمي للبشرية كلِّها ليجعل مِن العالَم على اختلاف شعوبهم وألوانهم وقوميَّاتهم ولغاتهم ليجعل منهم لا أُمَّةً واحدة ولا عائلةً واحدة، بل ليجعل منهم [جسدًا واحدًا] في ظلِّ الإيمان بوحدانية الله، وفي ظل الإيمان بكل أنبياء الله عزَّ وجلَّ ما عُرف منهم وما لم يُعرف، وما ذُكِر في التوراة والإنجيل وما لم يُذكَر، لأن القرآن يقول: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمةٍ إِلا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر:24] يعني أوصل الله عزَّ وجلَّ إلى كلِّ شعوب العالَم أساتذة السماء.
غَيرة نساء النبي ﷺ:
لقد ركَّز الله عزَّ وجلَّ على أزواجه ﷺ عندما أردنَ أنْ يشغلنَه بغَيرتهنَّ النسائية عن أمرٍ سماويٍّ عالميٍّ سياسيٍّ اقتصاديٍّ إنسانيٍّ ربانيٍّ، ويقلن له: لماذا نمتَ عندها؟ ولماذا أكلتَ وقعدتَ عندها؟ فأين فِكْر النبي ﷺ، وأين فِكْر المرأة؟ لذلك هدَّدهنُّ بالطلاق، فمهمة النبي ﷺ وهو النبي خاتم الأنبياء أنْ يعمِّم رسالة الأنبياء إلى كلِّ العالَم، وسيدنا محمد ﷺ حمل رسالة موسى عليه السلام وتوراته، وحمل إنجيل عيسى عليه السلام وتعالميه، وأضاف إليها خاتمة قوانين السماء وشرائعه، وهو توحيد العالَم ديانةً وعقيدةً لا في ظلال القومية ولا اللون، بل في ظلال العِلم والعقل الحكيم وفضائل الأخلاق.. هذا هو الإيمان.
وليجعل مِن شعوب العالَم تحت هذا العنوان أُمَّةً واحدةً وأسرةً واحدةً، بل ((جَسَدًا واحِدًا إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى)) وَتَنادَى ((لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)) ، ومَن لم يستجب إلى هذا الدِّين وإلى رسالة السماء فلا تَسقط عنه حقوق الإنسان، بل يظلُّ محتفِظًا بالحق الإنساني.
الإسلام وحقوق الإنسان:
فقد شرع الإسلام حقوق الإنسان، ولكن قولًا وعملًا وتطبيقًا وتنفيذًا، ففي القرآن مثلًا قال الله تعالى في حقوق الإنسان: ﴿وَيُطْعِمُونَ﴾ يعني يُطعِم المؤمنون ﴿الطعَامَ عَلَى حُبهِ﴾ مع حاجتهم إليه ﴿مِسْكِينًا﴾ العناية بالإنسان الفقير ﴿وَيَتِيمًا﴾ العناية بالإنسان الضعيف ﴿وَأَسِيرًا﴾[الإنسان:8] العناية بالإنسان العدوِّ المقاتِل، ﴿إِنمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ﴾ [الإنسان:9] لأن الله أوصانا بالإنسان في القرآن بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء:70]، لم يقل: ولقد كرَّمنا المؤمنين ليخرج غيرهم، بل قال: ﴿وَلَقَدْ كَرمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء:70] وقال أيضًا: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين:4].
فبعدما ذَكر الله تعالى ما حصل مِن مخالفة قانون السماء مِن أزواج رسول الله ﷺ، وأنزل الله عزَّ وجلَّ مِن الآيات ما فيه تأديبهنَّ، انتقل إلى تأديب أسرة المؤمنين وعائلتهم فقال: ﴿يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم:6] يعني احذروا المعصية ومخالفة أوامر الله عزَّ وجلَّ، فإن مخالفة أوامر الله تعالى تحرق الإنسان في الدنيا وفي الآخرة.
عندما أكرم الله عزَّ وجلَّ الإنسان بمدرسة السماء لم يكن للعرب وجودٌ قَبل سيدنا محمد ﷺ، ولم يكن لهم وجود في الحضارة ولا في الثقافة ولا في السياسة ولا في التقدُّم، فقد كانوا مستعمَرِين من الفرس شرقًا ومن الرومان غربًا ومن الأحباش جنوبًا في اليمن، فالإسلام جعل الوجود للعرب وللغتهم ولمكانتهم، وأيُّ وجود؟ الوجود العالمي والوجود القيادي والوجود التعليمي والتهذيبي لكل شعوب العالم.
القرآن الكريم وبناء الأسرة المسلمة:
وبعدما خطَّط الله لتربية بيت النبوة قال: ﴿يَا نِسَاءَ النبِي مَنْ يَأْتِ مِنْكُن بِفَاحِشَةٍ مُبَينَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُن لِلهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرتَيْنِ﴾ [الأحزاب:30-31] لأنهنَّ سيكنَّ قدوةً بأعمالهنَّ، فهنَّ مدرسة يتعلَّم الناسُ الفضائلَ مِن أعمالهنَّ وسلوكهنَّ.. ثم انتقل إلى الأسرة لتكون الأسرةَ والعائلة الفاضلة، فدعا المؤمنين لبناء الأسرة فقال: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم:6] نار مخالفة أوامر الله عزَّ وجلَّ، ونار الشقاء، ونار التخلُّف، ونار الفقر ونار الجهل، ثم انتقل إلى مرحلة أُخرى وهي خِطابٌ لكلِّ المؤمنين بأنْ يلتفتوا ويهتمُّوا بنفوسهم بأنْ تكون نفوسهم النفوس الفاضلة الأخلاقية الكاملة، فقال: ﴿يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا﴾ [التحريم:6].
لَيْسَ الإِيمَانُ بِالتمَني وَلا بِالتحَلي:
والإيمان كما ورد في قول النبي الكريم ﷺ: ((لَيْسَ الإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَلا بِالتَّحَلِّي)) كلُّ إنسان يحبُّ أنْ يكون مؤمنًا، ويظنُّ نفسه أنه مؤمن، ولكن الأماني إذا لم تُرافقها الأعمال لا تُفيد، فإذا تمنَّى أَحدٌ أن يكون مَلِكًا، والأسباب ليست مهيَّأةً لذلك، فما الفائدة من ذلك؟ كذلك الإيمان ليس بالتمنِّي ولا بالتحلِّي؛ باللباس وبالهيئة وبالشكل، ((ولَكِنَّ الإِيمَانَ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ)) ، وقر في القلب نورًا وروحًا تُعطي الإنسان سعادةً لا يجدها في كل اللذائذ الجسدية مِن مأكلٍ ومشربٍ وزواجٍ ومنظَرٍ جميلٍ، لأن في تنعُّم الروح والقلب بنور الله عزَّ وجلَّ ما يجعل كلَّ نِعَم الدنيا كقطرةٍ في بحرٍ محيطٍ، ثم يرقى الإيمان إلى العقل فيملؤه بالحكمة، وهي أن لا تُقدِم على شيءٍ حتى تدرسه بكل أُطره وجوانبه وأبعاده، حتى إذا عرفتَ حقيقته تطبِّق العمل، وهي فِعْل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الشكل الذي ينبغي.
فالإيمان نورٌ وروحٌ ربانية في القلب والروح والنفس، ونورٌ وتعاليم في العقل حتى تكون تصرُّفاتك في كل شؤونك الروحية والجسدية قائمةً على العقلانية وعلى الحقيقة والواقعية، إلى جانب الأخلاق والفضائل التي هي تزكية النفس، وبذلك تستحقُّ أنْ تأخذ لقب مؤمن، وأنْ تكون خريج مدرسة الإيمان.
الكمال ليس له حدود:
النداء في قوله تعالى: ﴿يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا﴾ [التحريم:8] للذين حَمَلوا المعاني ﴿تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ [التحريم:8] مع ما يبلغه الإنسان مِن الإيمان، فالكمال ليس له حدود وليس له نهاية، لذلك كان الله عزَّ وجلَّ يُخاطب النبي ﷺ في القرآن قائلًا: ﴿وَقُلْ﴾ الله عزَّ وجلَّ يقول للنبي ﷺ ويأمره أنْ يقول، ماذا يقول؟ ﴿وَقُلْ رَب زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه:114] كما أنه يقول: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [غافر:55] هل للنبي ﷺ ذنبٌ؟ ذنب الأنبياء إذا تركوا الأفضل وعملوا الفاضل، وإذا تركوا الأحسن وعملوا الحسن، كما قيل: “حسنات الأبرار سيئات المقربين” .
ابنك الصغير قد يُعطيك قليلًا مِن السكاكر أو ما شابه ذلك فتراها حسنةً كبيرةً، [السكاكِر: حلوى من السُّكَّر صغيرة الحجم، تُغَلَّف عادة، وعند تناولها توضَع في الفم وتُمَصّ] وتقبِّله بين عينَيه، وإذا أعطاك ابنك الكبير الذي في العشرين أو الثلاثين أربع أو خمس سكاكر لا تراها كذلك، فهذه العَطِيَّة هي حسنات الصغار، لكنها سيِّئات الكِبار، “حسنات الأبرار سيئات المقرَّبين”.
فالقرآن يقول لك: يا أيها الإنسان مهما بلغتَ مِن السمو والكمال فلا تقل: إنك بلغتَ الغاية، بل اشحن بطارية همتك وإرادتك لتنتقل دائمًا إلى الأفضل وإلى الأحسن وإلى الأكمل، هذا هو الدِّين وهذا هو التعليم السماوي الرباني الذي يُخاطِب الإنسان بأن لا يقف عند حدٍّ مِن العِلم ومِن الحكمة ومِن العمل الصالح: ﴿وَقُلْ رَب زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه:114].
ولذلك ورد: ((مَنِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ)) إذا كان عملك اليوم وإنتاجك فيه نفس إنتاجك بالأمس، ((مَنِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ)) مِثل الذي اشترى شيئًا وغُبن فيه، كأن يكون قيمته مئة فاشتراه بألف، هذا ماذا نقول عنه؟ مغبون، يقال له: لقد غشُّوك، فهذا الشيء قيمته مئة، فكيف دفعت ثمنه ألفًا؟ قال: ((مَنِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ، ومَنْ لَم يَكُنْ يَومُهُ خَيرًا مِن أَمسِهِ فَهُوَ مَحرُومٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ في زيادةٍ)) مِن الخير ومِن التقدُّم ومِن العِلم ومِن الفضائل ومِن كل ما يَنفع ويُفيد ((وَمَنْ لَمْ يَكُنْ في زيادةٍ فَهُوَ في نُقْصَانٍ، وَمَنْ كَانَ في نُقْصَانٍ فَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ)) .
هذا هو الدين، فهل هذا الدِّين رجعية؟ وهل هذه المعاني هي الرجعية؟ هل وصل كل التقدُّميِّين إلى مستوى الدِّين فكريًّا وتخطيطيًّا وإنتاجيًّا؟ الشيوعية ملكت نصف العالَم وما استطاعت أنْ تستمرَّ سبعين سنة، أمَّا رسائل السماء ومع ما دخل فيها مِن تشويهٍ وزيادةٍ وتحريفٍ وتبديل لا تزال مستمرَّةً، وقد مرَّت عليها الألوف مِن السنين، لأن مبدأها ومصدرها مِن الخلود، فشأنها دائمًا الخلود.. ولكن ما أَحوجَ الأديان إلى إعادة النظر فيما أَدخله عليها رجالُ الأديان مِن تأويلاتٍ وتعصُّباتٍ وجمودٍ وتعطيلٍ للعقل، وعدم فهمٍ لحكمتها وغايتها.
إن غاية الأديان هي بناء الإنسان الفاضل وبناء الإنسان الحكيم.. وما أَمَرنا الله عزَّ وجلَّ إلا بما يُسعدنا، وما حرَّم علينا إلا ما يُشقينا ويُؤذينا، وكلُّ شيءٍ منسوبٌ إلى الدِّين يُعطِّل العقل أو الفكر أو يَرجع بالإنسان القهقرى في ميدان الحياة فالدِّين مِن ذلك بَراءٌ.
حقيقة الاستجابة لله تعالى:
﴿يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا﴾ [التحريم:8] [الحضور يُجيبون الشيخ كما علَّمهم: لبَّيك اللهم لبَّيك] الله عزَّ وجلَّ يناديكم، [الشيخ يخاطب أحد الحضور] إذا قال لك شخصٌ: يا أبا أسامة باسمك، ماذا تقول له؟ تقول له: نعم، ماذا تأمر؟ سواءٌ كان رئيسك في الدائرة أو أباك أو أخاك، أو إذا ناداك صديقك: يا فلان.. كذلك الله عزَّ وجلَّ يناديكم: ﴿يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا﴾.. وعندما تقرؤون القرآن بمفردكم وتَصِلون إلى نداء الله عزَّ وجلَّ لكم لا تلبُّوا الله تعالى بألسنتكم فقط، بل لبُّوه بعقولكم وبإصغائكم وبتفهُّمكم وباستعدادكم لتنفيذ ما يأمركم بعد هذا النداء، فإذا قال لنا: افعلوا كذا، فقلنا: “لبَّيك اللهم لبَّيك”، بالكلام، وعمليًّا لا لبَّينا ولا نفَّذنا أَلَا نكون مِن الكاذبين في تلبيتنا؟ وكأننا نقول: لا لبَّيك، وإذا ناديتَنا فلا نريد أن نلبِّيك، وإذا أمرتَنا فلا نريد أن نُطيعك، وإذا ناديتَنا فلا نريد أن نستجيب لك، والله عزَّ وجلَّ سيُقابلكم أيضًا: وإذا ناديتموني فلا أستجيب لكم، وإذا استعنتم بي فلا أُعينكم ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة:40]، والله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة:152]، ويقول أيضًا: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [محمد:7] لا تكون عملية بيعٍ إلا بين متبايِعَين: بائع ومشترٍ ﴿إِن اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَن لَهُمُ الْجَنةَ﴾ [التوبة:111].
أكثر الناس ادِّعاؤهم للإيمان ادِّعاء الأماني، والله عزَّ وجلَّ بيَّن أنَّ الجنة ليست بأمانيكم أيها المسلمون، ولا أماني أهل الكتاب مِن اليهود والنصارى، ((إنَّما الإيمَانُ مَا وَقَرَ في القَلْبِ وَصَدَّقَهُ العَمَلُ))، قال: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيكُمْ وَلَا أَمَانِي أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءً﴾ [النساء:123] إساءةً لنفسه أو لغيره أو فيما بينه وبين ربه ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء:123] الذي يزرع الشوك هل يقطف الفُلّ والياسمين؟ هذا مخالِفٌ لقواعد الله عزَّ وجلَّ، والمسلمون لَمَّا استجابوا لنداءات الله عزَّ وجلَّ استجاب الله لنداءاتهم، وجَعَلهم أعزَّ أُمَّة وخير أُمَّة وأعلم أُمَّة وأقوى أُمَّة، وما استعملوا هذه القوة للعسف والظلم والاعتداء على الإنسان الضعيف، بل استعملوها لتعليم الجاهل، وإعطاء الفقير ونصرة المظلوم ورعاية حقوق الإنسان بالصدق والإخلاص لا بالكذب والزور والبهتان، كما يُصنَع الآن في عصرنا باسم حقوق الإنسان، والذين وضعوا هذا الشعار هم أول من يذبح الإنسان وبالظلم والعدوان.
هل أنتم مستعدون لتلبوا نداء الله عزَّ وجلَّ؟ إذا قال لك أبوك: يا ولدي، تقول له: لبَّيك يا أبي، يقول لك: أريد أن آكل، فإذا قلتَ له: لبَّيك يا أبي، وما أحضرت له غداءً ولا طعامًا فهل هذه تلبيةٌ صادقةٌ أم كاذبةٌ؟ وأنتم هل ستكونون كذَّابين مع الله عزَّ وجلَّ ومع أنفسكم أم صادقين؟ فإذا كنتم مستعدِّين لأنْ تلبُّوا عمليًّا فسأقول لكم ما بعد النداء، أمَّا إذا أردتم بالكلام والقيل والقال فلا تسجِّلوا على أنفسكم نقض العهد والكذب على الله تعالى، فالطفل لا يقبل أنْ يُكذَب عليه، فإذا قلت لابنك: سأعطيك تمرًا، وما أعطيتَه يقول لك: يا كذاب، وهذا طفلك الصغير، فكيف إذا قال الله عزَّ وجلَّ لك: أنت كذَّاب؟ فكلمة كذَّاب إذا وُجِّهتْ إليك مِن قِبل الله عزَّ وجلَّ ففيها خسارة الدنيا والآخرة، فلا يكن إيماننا كاذبًا ولا تلبيتنا كاذبةً، هل أنتم مستعدون؟ وأسأل الله أن يجعلني معكم أيضًا، أَلَا يجب عليّ أنْ أَدخل تحت: ﴿يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا﴾؟
معنى التوبة النصوح:
﴿يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ [التحريم:8] ما معنى التوبة؟ التوبة: نقلةٌ للإنسان مِن الجهل إلى العلم ومِن الرذيلة إلى الفضيلة، ومِن سوء الأعمال إلى صالح الأعمال، ومِن رذائل النفس إلى فضائلها، ومِن موت القلب عن الله بالاشتغال بالأمور المادية إلى نقلةٍ إلى مشفى الله لتحيا بالله وبروح الله وبنور الله في ظل شريعة الله عزَّ وجلَّ.
﴿تُوبُوا إِلَى اللهِ﴾ التوبة نقلةٌ مِن الجهل إلى العلم ومِن الفقر إلى الغنى ومِن الذلِّ إلى العزِّ، ومِن الفوضى إلى النظام، التوبة رجوعٌ إلى الله وإلى مدرسة الله وإلى تثقيف الله عزَّ وجلَّ الذي خَلَق الكون مِن ذرَّاته إلى مجرَّاته بنجومه وشموسه وأقماره، وخلقه بكل نظامٍ أدق مِن كلِّ شيءٍ دقيقٍ.. الساعة الصغيرة إذا لم تَعمل بالشكل الصحيح تُلقى وتُرمى، فكيف هذا الكون كله يمشي على نظام لا يختلُّ ثانيةً واحدة، ولا سنتيمتر واحد لا بالسرعة ولا بالبطء ولا بالتقدُّم ولا بالتأخُّر.. هذا هو الإله الذي خَلَق المجرَّات.. وقد اكتُشف مؤخَّرًا مجرَّتان بينهما وبين كوكب أرضنا ثمانية عشرة مليار سنة ضوئية، والضوء يمشي في الثانية ثلاث مئة ألف كيلو متر، فإذا كان بيننا وبين المجرَّتَين ثمانية عشر مليار سنة ضوئية، والمجرَّة فيها مليارات الكواكب والشموس والأقمار، وسَيْرها كلّها بنظامٍ، فلا يصطدم أحدها بالآخر.
وماذا يوجد في هذه الكواكب؟ ورد في بعض أحاديث رَسُولِ اللهِ ﷺ، وقد أشار إلى السماء وقال: ((إنَّ هُنا في السَّماءِ كَوكَبًا، اليَومُ فِيهِ مِقدارُ أَربَعِينَ يَومًا مِن أَيَّامِكُمْ، أَرضُهُ نُورُ وكُلُّها نُورٌ))، قالوا: يا رسول الله هل هم مِن بني آدم؟ قال: ((مَا سَمِعُوا بِآدَمَ، وَلا بِبَنِي آدَمَ، وَلا يَعرِفُونَ آدَمَ))، قالوا: هل للشيطان عليهم سبيل؟ قال: ((مَا سَمِعُوا بِالشَّيطَانِ، وَلَا يَعرِفُونَ الشَّيطَانَ)) .
فهذا النظام الذي هو القرآن الذي نقرأ فيه التوراة.. اليوم في صلاة الليل قرأتُ سورة ﴿وَالصَّافَّاتِ﴾، وقد ذُكِر فيها أنبياء ذُكِروا في التوراة، فذُكر فيها نوحٌ وإبراهيمُ وإسحاقُ ويعقوبُ ويونسُ ولوطٌ، كلُّ هذا في حُلَّةٍ مِن التقديس والإجلال والاحترام والإكبار بأحسن وأفضل وأقدس ممَّا ذكرته التوراة، فالمسلم يقرأ التوراة الحيَّة، التوراة النقيَّة الفاضلة، ويقرأ أيضًا إنجيله في القرآن، ويقرأ الكتاب الأخير الذي يجمع العالَم تحت راية أنبياء الله عزَّ وجلَّ، وكما يقول سيدنا محمد ﷺ: ((مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي كَمَثَلِ قَومٍ بَنَوا دَارًا فَأكمَلُوهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَأَنَا كُنتُ تِلكَ اللَّبِنَةُ)) ، ما قال: أنا بنيت الدِّين، قال: أنا وضعتُ اللبنة الأخيرة، كاللبنة التي تُوضع في نصف القوس لتُمسك جناحي القوس، ويكون عليها البناء.
﴿يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ﴾ [التحريم:8] فهل أنتم مستعدون بعدما لبَّيتم أن تتوبوا؟ وهل فقط بهزِّ الرأس والمجاملة لي أم إنكم تَنوُون مِن أعماق قلوبكم أنْ تتوبوا؟
خطورة الذنوب في حياة المؤمن:
الذنب هو في الحقيقة جرثوم، كما أنَّ الجرثوم في الجسد يُمرضه ويُضعفه ويشلُّه وقد يقتله، كذلك الذنوب هي جراثيم ومكروبات الروح والنفس، تقتل في النفس فضائلها وطاقاتها وإمكاناتها، مما يُنْزِلها إلى مرتبة الحيوان، فلا تعرف مِن علومها وسعيها وتفكيرها إلَّا أنْ تأكل وتشرب وتتزوَّج وتلهو وتلعب، حياة الجسد فقط، أمَّا حياة الروح والحياة الربانية والحياة مع الله عزَّ وجلَّ [فلا تعرفها]، بل قد تكون الدابة أعرف بالله عزَّ وجلَّ مِن كثيرٍ مِن الناس، يقول النبي ﷺ في رعاية حقوق الحيوان: ((اتَّقُوا اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ العَجماءِ)) التي إذا ضُرِبتْ أو حُمِّلتْ فوق طاقتها -هي عجماء لا تنطق- لا تستطيع أن تقول: ظلمتَني أيُّها الإنسان، ((اتَّقُوا اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ العَجمَاءِ، ارْكَبُوهَا صَالِحَةً)) عندما تكون قويَّةً للركوب ليستْ ضعيفة، فإذا كانت ضعيفة فلا يجوز أن تركبوها، ((وَكُلُوهَا صَالِحَةً)) إذا أردت أن تأكل لحمها فلا تجوِّعها، بل سمِّنها، وقال أيضًا: ((لَا تَتَّخِذُوا ظُهُورَ هَذهِ الدَّوَابِّ مَنَابِرَ)) ، يعني إذا أراد قائد جيش أنْ يخطب فلا يخطب على الحصان، لأن الدَّابَّة إذا كانت واقفةً يَثقُل عليها ويُتعبها حمل الأثقال، بعكس ما إذا كانت ماشيةً، فالنبي ﷺ نهى أنْ يبقى الإنسان على ظهر الدَّابَّة وهي واقفةٌ، فهل جمعية الرفق بالحيوان وضعتْ هذه المادة في برنامجها؟
((اتقُوا اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ العَجمَاءِ، كُلُوهَا صَالِحَةً، وَارْكَبُوهَا صَالِحَةً)) ((فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا)) هل رأيتَ حمارًا يتعدَّى على حمارٍ آخرَ بأن يغتصب معلَفه وإسطبله ويجرِّده مِن “جلاله”؟ [الجِلال: ما يوضع على ظهر الحمار للركوب] هل رأيتُم حمامةُ تعدَّت على طير حمام آخر؟ أو عصفورًا على عصفورٍ؟ ولكن نجد الإنسان كما يقول الشاعر
عَوَى الذِّئبُ فَاستَأنَستُ لِلذِّئبِ إذْ عوى وَصَوَّتَ إنسَانٌ فَكِدتُ أَطِيرُ
لم يعد الإنسان يخشى الأسد ولا النمر ولا الأفعى، بل صارتِ السباع تهرب مِن الإنسان بعدما كان الإنسان يهرب مِن هذه الوحوش، وصار الإنسان الآن يهرب مِن الإنسان، فالإنسان القوي هو الوحش بالنسبة للإنسان الضعيف، قال: ((ارْكَبُوهَا سَالِمَةً، وَدَعُوهَا سَالِمَةً، فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا)) يوجد إنسان دون الحيوان حتى دون الوحش، فالأسد إذا افترس الإنسان فإنه يفترسه بدافع الجوع، أمَّا الأمم القوية الغنية العالِمة فهي تأخذ مدَّخرات الشعوب الضعيفة وثرواتها وهي في غنًى وبطرٍ وشبعٍ وجشعٍ، فهذه صارت دون الوحش، وأوحش مِن الوحش ((فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا، وَأَكْثَرُ ذِكْرًا لِلهِ مِنْهُ)) ، هي تعرف خالقها، لكنك لا تعرف لغتها ولغة صَلاتها وتسبيحها، فقد قال الله تعالىَ: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطيْرِ فَوْقَهُمْ صَافاتٍ﴾ [الملك:19] يَصفُّون الأجنحة ﴿وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُن إِلا الرحْمَنُ﴾ وفي آية أخرى: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ [النور:41] فالحيوان له صلاته وله تسبيحه لخالقه، لكن لا نعلم لغته، كما أن العربي لا يعرف لغة الفرنسي، والفرنسي لا يعرف لغة الروسي، فلا يوجد إِذَن حرج إذا ما عرف الإنسان لغة الحيوان.
أثر الصلاة على العبد المصلي:
﴿تُوبُوا﴾ هل أنتم مستعدون؟ وعن أيِّ شيءٍ يجب أن نتوب؟ يجب أن نتوب عن كلِّ ما نهى الله عزَّ وجلَّ عنه، لأن الله عزَّ وجلَّ ما نهى عن شيءٍ إلا وفيه ضررنا وأذانا، وهناك ذنوبٌ في ترك أوامر الله عزَّ وجلَّ من عبادتنا له، فإذا عبدناه وإذا صلينا أو صمنا أو حججنا فمردودُ منافعِها ليست لله عزَّ وجلَّ، ماذا يستفيد الله تعالى من صلاتك إذا ركعتَ وسجدتَ؟ وإذا صمتَ وحججتَ ماذا يستفيد الله تعالى؟ أنتَ المستفيد، وقد قال الله عزَّ وجلَّ عن الصلاة: إنَّ الصلاة مدرسةٌ، وإنَّ الصلاة تهذيبٌ، وإنَّ الصلاة رقيٌّ: ﴿إِن الصلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت:45].
فهل صلَّيتَ هذه الصلاة التي أَمَرنا الله عزَّ وجلَّ بها وذَكَر لنا أوصافها التي فَرَضها علينا؟ إذا كنتَ تصلِّي صلاةً لا تنهى عن الفحشاء والمنكر فكأنك تصلِّي صلاةً بلا وضوء، هل هناك فرق بين إذا صليتَ ولم تتوضَّأ وإذا صليتَ ولم تنتهِ عن الفحشاء والمنكر؟ لأن الله عزَّ وجلَّ يقول لك: الصلاة التي أُريدها والتي فرضتها والتي هي لمصلحتك ومنفعتك هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، ويقول النبي ﷺ: ((مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)) ، أنت تصلي لتقربك الصلاة إلى الله، وما معنى تقربك إلى الله عزَّ وجلَّ؟ ليس القرب المكاني بأن يكون بينك وبين الله مئة متر فبالصلاة تصير خمسين، بل معنى القرب إلى الله هو القرب إلى أخلاق الله عزَّ وجلَّ وقرب روحك مِن روح الله لتسعد روحك بروح الله، لأن الجسد له غذاؤه والروح لها غذاؤها، والجسد له لذائذه والروح لها لذائذها.
وآيةٌ أخرى تقول عن الصلاة: ﴿إِن الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ [المعارج:19] ما الهلوع؟ فسَّره القرآن بالآية التالية لها فقال: ﴿إِذَا مَسهُ الشر جَزُوعًا﴾ [المعارج:20] إذا فَقَد ماله يجزع وينزعج ويحزن ويبكي، وقد تُصيبه الأمراض وربما يصيبه الفالج، وآخر قد يُصيبه مرض السكر وآخر قد تُصيبه جلطة، لماذا؟ لأنه جَزوع، والجزوع هذا نصف معنى الهلوع، فالهلوع يحمل معنيَين: الجزوع والمنوع، قال: ﴿إِن الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسهُ الشر جَزُوعًا﴾ [المعارج:19-20] إذا فَقَد ولده أو فقد ماله أو فَقَد وظيفته أو وقع في مصيبةٍ جزع وهلع ولا يستطيع النوم وقد يمرض، قال: ﴿وَإِذَا مَسهُ الْخَيْرُ﴾ [المعارج:21] فصار في غنًى، أو صار في رفعة وجاه، أو صار حاكمًا أو صار كذا ﴿وَإِذَا مَسهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج:21] يمنع الخير عن غيره مِن مالٍ أو حُكْمٍ أو جاهٍ أو سلطانٍ، قال: ﴿إِلا الْمُصَلينَ﴾ [المعارج:22] أمَّا المصلِّي فلا يكون عند الأزمات والكوارث والمصائب جزوعًا، وعند النِّعَم ورفعة شأنه في المال أو الحُكم أو السلطان لا يكون للخير منوعًا.
هذه هي صفة المصلِّي، فهل أنتم مصلُّون؟ أنا أسألكم.. إنّ الصلاة ركوع، هل نركع؟ نعم، وسجود هل نسجد؟ نعم، وقراءة الفاتحة هل نقرأ الفاتحة؟ هل هذه هي الصلاة فقط؟ الله عزَّ وجلَّ يُخبرنا أنَّ الصلاة لها تكملة، ما هذه التكملة؟ قال: هي التي تعقِّم نفسك مِن الهلع، الذي هو الجزع مِن الشرور والمنع مِن الخير، إن كنتَ تستطيع أن تساعد الإنسان بعِلمٍ أو مالٍ أو جاهٍ أو قوةٍ أو سلطان وتمتنع عن مساعدته فأنتَ هلوعٌ، وإذا كنتَ عند الشدائد والكوارث لا تصبر ولا تتحمَّل فأنت جزوع، ﴿إِلا الْمُصَلينَ﴾ [المعارج:22].
قصة الأصمعي مع صاحب الجِمال الميتة:
قال الأصمعي عن أحد هؤلاء المصلين: بتُّ عند قبيلةٍ في الصحراء، فلمَّا اقتربتُ منها رأيتُ جِمالها وإبلها تغطِّي وجه الأرض ميتةً وجثثًا هامدة، ربما أصابها وباءٌ، فسألتُ: لِمَن هذه الجِمال؟ فقالوا: لرئيس العشيرة، قال: فدخلتُ عليه فرأيتُه وبيده مغزل يغزل خيطانًا مِن الصوف، فسلمتُ عليه وعزَّيتُه بما أصابه مِن فقد ثروته كلِّها، فأنشدني قائلًا
لا وَالذي أَنا عَبدٌ مِنْ خَلائِقِهِ
وَالمرْءُ في الدَّهرِ نُصبَ الرّزْءِ وَالحَزَنِ
“في الدهر”: في الحياة، و”الرّزْء”: المصائب والكوارث، فدائمًا الإنسان معرَّض للبلاء والمحن.
ما سَرَّنِي أنَّ إِبلِي في مَبَارِكِها
وَما جَرَى مِن قَضاءِ اللهِ لَم يَكُنِ
“ما سَرَّني”: مِن السرور، فأنا لستُ مسرورًا، “أنَّ إبلي في مباركها”: فلو أنّ جِمالي كلّها حية وفي معالفها وتأكل، “وما جرى مِن قضاء الله لم يكنِ”: فأنا راضٍ بما قضاه الله عزَّ وجلَّ عليَّ أكثر مِن رضائي لو بقيتْ نعمتي عندي، هذا المصلِّي، لأنه إذا مسَّه الشر هل كان جزوعًا أم كان راضيًا وفرحًا مسرورًا؟ هذه هي الصلاة، والنبي ﷺ يقول: ((الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ)) ، لأن الصلاة هي المدرسة التي تتلقَّى فيها أوامر الله عزَّ وجلَّ لتنفِّذها، وتتبلَّغ نواهي الله لتجتنبها، ووصايا الله لتعمل بها، مِن أجل سعادتك ورفاهيتك، وكما ورد: “خَلَقْتُ الخَلْقَ لِيَربَحُوا عَلَيَّ لَا لِأَربَحَ عَلَيهِم” .
كوكبنا الأرضي ذرَّةٌ في الفضاء، فماذا يمثِّل أحدنا على هذه الذَّرَّة؟ وصلاتنا ماذا يستفيد منها الله عزَّ وجلَّ الذي خلق الكون كلَّه؟ هل سنصنع له مجرَّة أُخرى، أو مليون كوكب أخرى؟
((يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ)) .
أنتم الآن لبَّيتم بالقول، فهل أنتم مستعدُّون لِتلبُّوا بالعمل؟ التلبية في العمل ﴿تُوبُوا﴾، ما التوبة؟ هي أنْ نترك كلَّ ما نهانا الله عزَّ وجلَّ عنه، أو نهانا عنه نبيُّه ﷺ، وأنْ نُسارع ونمتثل لكلِّ ما أَمَرنا الله عزَّ وجلَّ به، والله تعالى لا يأمر بالفحشاء: ﴿قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَآءِ﴾ [الأعراف:28].
﴿يَاأَيهَا الذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال:24] الحياة الطيبة، قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا من ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنهُ حَيَاةً طَيبَةً﴾ [النحل:97] في جسده وفي عقله، وفي العلم وفي التقدُّم وفي الأخلاق وفي الفضائل، هذا هو الإيمان، والتوبة وهي ترك ما يُعاكس وما يضادُّ الإيمان، فإذا نظرتَ إلى حرامٍ، أليس هذا ذنبًا؟ وإذا نطقتَ بكذب أو بغِيبة أو بنميمة أو بكلمةٍ فاحشة فهذا حرام، فهل سجَّلتَ على نفسك أنك عملتَ خطيئةً لتتوب منها، وكذلك إذا سَبَبتَ أو شَتمتَ أو ظَلمتَ وتعدَّيتَ؟ والزوج إذا ظلم زوجته ألا يجب أن يتوب إلى الله عزَّ وجلَّ منه؟ والزوجة إذا ظلمت زوجها، والكَنَّة إذا ظلمت حَمَاتَها [الكَنَّة: زوجة الابن، والحَمَاة: أم الزوج أو الزوجة]، يوجد كثير مِن الكنائن تحرم الأم مِن ابنها، والابن مِن أمه، أليس كذلك؟ إذن هي ظالمة، وقد نهى النبي ﷺ أنْ يفرَّق بين الأم وبين ولدها في حالة البيع، يعني إذا أردتَ أن تبيع بقرةً ولها عجل صغير فمِن حقوق الحيوان ما قاله النبي ﷺ: ((مَلْعُونٌ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الأُمِّ وَبَينَ وَلَدِهَا)) ، مِن إنسانٍ أو حيوانٍ، فكيف بكِ أيتها العروس مِن أول يوم أو الثاني تقولين له: لا تتكلَّم مع أمك، أو تقولين: لماذا أحضرت لها؟ ولماذا أعطيتها؟ أليس هذا ذنبًا وخطيئة؟
﴿يَاأَيهَا الذِينَ آمَنُوا﴾ إذا كنت مِن ﴿يَاأَيهَا الذِينَ آمَنُوا﴾ ولبَّيت بالقول ولم تلبِّ بالعمل فأنتَ كاذبٌ في إيمانك، وأنتِ كاذبةٌ في إيمانكِ ولو صليتَ ولو صمتَ، ولو صليتِ ولو صمتِ، ولو ذكرتِ ولو ذكرتَ، ولو رأيتَ نفسك تطير في السماء، فالكلام عند امتثال أوامر الله عزَّ وجلَّ.
حاجة الإنسان إلى العلم:
﴿تُوبُوا إِلَى اللهِ﴾ الجهل معصيةٌ، فالنبي ﷺ يقول: ((لَيْسَ منِّي إلَّا عَالِمٌ أو مُتَعَلِّمٌ)) ، ((إنَّما النَّاسُ صِنفَانِ: عَالِمٌ وَمُتَعَلمٌ، وَلَا خَيْرَ فِيمَن سِوَاهُمَا)) والعلم في الإسلام عِلم الدنيا والآخرة، علوم الجسد وعلوم الروح، قال تعالى: ﴿رَبنَا آتِنَا فِي الدنْيَا حَسَنَةً﴾ [البقرة:201] ولكي تعيش الحياة الحسنة أنتَ محتاجٌ للعلوم الصالحة التي توصلك إلى الحياة الحسنة مِن مأكلٍ ومشربٍ ولباسٍ وصحةٍ وأمنٍ ودولةٍ وأخلاقٍ ومجتمعٍ فاضل، قال تعالى: ﴿وَلَنَجْزِيَنهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل:97].
كيف تكون التوبة؟:
﴿تُوبُوا إِلَى اللهِ﴾ [التحريم:8] مِن الجهل، فالتوبة مِن الجهل إلى العلم، والتوبة مِن الغفلة إلى الذكر، ومِن الظلم، فإذا ظلمتَ إنسانًا مِن قريبٍ أو بعيدٍ فالتوبة إلى الله عزَّ وجلَّ بأنْ تردَّ إلى هذا المظلوم ظلامته، فإذا كان مالًا فعليك أن تُعيده إليه، وإذا كنتَ قد ضربتَه فتقول له: تعال اضربني، أو يسامحك ويعفو عنك، وإذا كنتَ قد سببتَه فتقول له: سبَّني.. مرة صعد النبي ﷺ المنبر فقال: ((أَيُّهَا النَّاسُ، لَعَلِّي أَلقَى رَبِّي)) يعني لعلِّي أموت، فَأُريدُ أنْ أَلقَى رَبِّي ((وَلَيسَ عَلَيَّ لِأَحدٍ مَظلَمةٌ في عِرضٍ ولا مالٍ)) العِرض يعني كرامة الإنسان، فإنِ انتقصتَ في يوم مِن الأيام مِن كرامة أحدٍ بكلمة أو فِعْل أو بضربٍ [فعليك أن تطلب منه أن يسامحك]، ((فَمَن كانَ لَه عِندِي مالٌ فَهَذا مالِي، وَمَن كُنتُ آذَيتُهُ في عِرضِهِ أَو شَتَمتُهُ فَلْيَقتَصَّ مِنِّي)) فليسبَّني ((وَمَن كانَ لَه عِندِي مَظلَمةٌ في بَدَنٍ)) ضَرَبْتُه ((فَهَذا بَدَنِي، لَا يَقُلْ بِأنَّ النَّبيَّ يَغضَبُ مِنَ الحَقِّ وَيَحقدُ، فَلَيسَ مِن شَأنِي البَغضَاءُ وَلا الحِقدُ)) .. يا الله! يقول هذا وهو مَلِك القلوب، ورجل الدولة الذي لا يُعارَض.. ومع ذلك قال الله عزَّ وجلَّ له: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران:159] مع كل هذه القوة مَلَك القلوب، فلو قال لهم: ألقوا بأنفسكم في النار لألقَوها، ومع ذلك قال له: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران:159] لا تستبد بشيءٍ دون مشورة الشعب، وهو ما يسمَّى بالبرلمان أو مجلس الشورى.
التوبة واجبةٌ، فإذا كانت الضَّرَّة قد ظلمت ضرتها، والزوجة قد ظلمت زوجها، والزوج قد ظلم زوجته، وأيُّ قويٍّ يظلم ضعيفًا، خصوصًا بين الكَنَائِن والحَمَوَات، كم مِن الحموات يقتلن الكَنَّة في الظلم والجور والاضطهاد؟ وكذلك العكس، كم مِن كنائن يظلمنَ أزواجهنَّ أو يظلمنَ حماتهنَّ، لدرجة تحول بين الابن وبين أمِّه، وهذا لا يجوز. [الحَمَوَات: جمع حَماة، وهي أم الزوج أو الزوجة، والكنائن: جمع كَنَّة، وهي زوجة الابن]
﴿يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا﴾ المؤمن يلبِّي تلبية العمل، والمنافق يلبِّي تلبية القول، فماذا قررتم؟ هل ستلبُّون تلبية القول لتأخذوا هوية منافق، أو تلبية العمل والتطبيق لتأخذوا هوية مؤمن؟ [الشيخ يخاطب الحضور:] من يريد منكم هوية منافق فليرفع أصبعه، ولا تكذبوا أمامي هنا في الجامع.. ولكن علينا أن نتوب.
المعصية كالمرض تحتاج إلى العلاج:
عندما يذهب المريض إلى الطبيب يقول له: عليك أنْ تحلِّل دمك وتصوِّر، حتى نكشف ما بك مِن أمراض، فإذا قال له: معك كولسترول، يعطيه دواء الكولسترول، وإنْ اكتشف أسيد أوريك يُعطيه دواء الأسيد أوريك، وكذا حمض البول وهكذا.. وأنتم عليكم أنْ تُجروا تحليلًا وتصويرًا لِما تفعلونه مِن مخالفة أوامر الله عزَّ وجلَّ، التي مخالَفتها كما إذا أبقيتَ الكولسترول، فتُصاب بنوبة قلبية أو جلطة، والطبيب لا يضرُّه إذا لم تنفِّذ وصاياه، فإذا لم تأخذ دواء الكولسترول فأنتَ ستموت وليس الطبيب، وإذا لم تأخذ دواء حمض البول فسيحدث لك الأوجاع والأسقام، فما رأيكم؟ هل سنلبِّي التلبية الصادقة؟ وهل سنتوب التوبة الصحيحة؟ وهل سنعمل تحليلًا وتصويرًا لِما فينا مِن ذنوب ومِن خطايا فيما بيننا وبين الله عزَّ وجلَّ وفيما بيننا وبين الأقربين والأبعدين ومع الأعداء؟ حتى مع عدوك فقد قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا يَجْرِمَنكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا﴾ [المائدة:8] الشنآن هو البغض، كما قال تعالى: ﴿إِن شَانِئَكَ﴾ [الكوثر:3] يعني عدوك ومبغِضك ﴿هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ هو المقطوع عن الخير، فحتى عدوُّك يجب عليك أن تؤدِّي إليه حقه ماليًّا أو معنويًّا أو أيَّ شيءٍ مِن الحقوق إذا كنتَ مِن ﴿يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا﴾ فهل أنتم مِن قبيلة “يا أيها الذين آمنوا” أم مِن “يا أيها الذين نافقوا”؟ الذين نافقوا يقولون: “حاضر، لبيك اللهم لبيك” بالقول، أمَّا العمل فليس له وجود، أمَّا الذين كفروا فيقولون مباشرةً: “لا لبيك ولا سعديك”، فمَن أشرف الذي يكذب أم الذي يكون صريحًا؟
مرة أحضروا سارقًا إلى القاضي، فحكم بقطع يده، وبعد مدة أمسكوه في سرقة ثانية، فأمر بقطع عضو ثانٍ، وفي ثالث مرة أيضًا سرق، فعاد فقطع له عضوًا ثالثًا، وفي المرة الرابعة أحضروه فقال: اعفوا عنه، فقالوا: يا سيدي هذا سرق سرقة أكبر مِن السرقات القديمة، فقال لهم: اعفوا عنه. قالوا له: لماذا؟ قال لهم: هذا صاحب مبدأ [هنا يضحك الشيخ والحضور] وهو مستقيم على مدرسته وعلى خطه لا يغيِّره.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن لا يجعل مبدأنا هذا المبدأ، ويجعلنا مِن الثابتين على المبدأ الإلهي، فإمَّا أنْ نصير مسلمين حقيقيين.. علينا أن لا نكذب على أنفسنا، [وأن نكون صادقين] ونقول: يا رب أنا منافق، لا أريد أن أقبل حكمك، أنا أريد أن أعبد هواي وأناي ونفسي ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الفرقان:43] ولا تستطيع أن تتغلب على هواك وأنانيتك إلا بأن يَغلب عليك حبُّ الله وأنْ تُعَمِّر قلبك بذِكر الله عزَّ وجلَّ، وأنْ تكون مرتبِطًا بالرباط الحُبِّي مع عالِمٍ ربانيٍّ حكيمٍ مزكٍّ ليُخرجكَ نيابةً عن رسول الله ﷺ مِن ظلمات الجهل والفسق والضلالة والشقاوة إلى نور العلم والسعادة والأخلاق والفضائل، وكما كان أحدهم يُخاطب الله عزَّ وجلَّ قائلًا
بَينِي وَبَينَكَ “إنِّي” لَا تُفارِقُنِي فَامحُ بِفَضلِكَ لِي “إنِّي” مِن البَينِ
يا الله “بيني وبينك إِنِّي”: فالحاجب الذي يحجبني عنك وعن رضاك وعن طاعتك لأكون مِن السعداء، هو أنانيتي وأنا وإِنِّي ومصلحتي، “فامحُ بفضلك لي “إِنِّي” مِن البَيْن”: اجعلني لا يكون بيني وبينك “أنا”.
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعل هوانا في رضاء الله سبحانه ومحبوباتنا في محبوبات الله عزَّ وجلَّ، ومَن الرابح هل نحن أم الله؟ الصحابة استجابوا لله عزَّ وجلَّ وللرسول ﷺ ﴿اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال:24] الحياة الطيبة وحياة السعادة وحياة النصر وحياة القوة وحياة الغنى.
الإسلام والفقر:
النبي ﷺ حارب الفقر بقوله: ((كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا)) وامتنَّ الله عزَّ وجلَّ على النبي ﷺ فقال له: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى:8] عائلاً: فقيراً.. والنبي ﷺ امتنَّ على المسلمين في زمنه فقال لهم: ((أَلَمْ أَجِدْكُمْ عَالَةً)) يعني فقراء ((فَأَغْنَاكُمْ اللهُ بِي؟)) إذًا فالفقر معصيةٌ، لأنه يأتي مِن الكسل ومِن البطالة ومِن إهمال العقل وعدم استعماله في الفكر الصالح، ولذلك قال النبي ﷺ: ((كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا)).
ولقد مرَّ على المسلمين قرون كانوا يدعون إلى الفقر باسم الزهد، وهذا شيء دخيلٌ على الإسلام، والنبي ﷺ يقول: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ)) ، إذًا يجب أنْ تتوب مِن الفقر إلى الغنى؛ لأن الغنى أحد أركان الإسلام، فمَن الذي يستطيع أن يؤدِّي الزكاة ويقيم ركنها؟ هل الفقير يستطيع ذلك؟ والحجُّ مَن يستطيع أنْ يُقيم ركنه؟ الأغنياء، إذًا الفقير كم ركناً مِن أركان الإسلام الخمسة له؟ ثلاثة أركان، أمَّا الغني المؤمن فأركان إسلامه خمسةٌ، فيجب أنْ نتوب إلى الله عزَّ وجلَّ مِن الكسل ومِن الخمول ومِن الغَباء ومِن الكذب ومِن الغشِّ ومِن الغدر ومِن المكر ومِن الحقد ومِن الأنا.. الحَمَاة تقول: “كلمتي أنا يجب أن تُنفَّذ!”، وكذلك قد تقول الكَنَّة أو الزوج أو الشريك أو العامل، وهذا كفرٌ.
أنواع التوبة:
﴿يَاأَيهَا الذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ [التحريم:8]. التوبة أنواع: يوجد توبة الكذَّابين، ما هي توبة الكذابين؟ يُقال: سمع عليٌّ رضي الله عنه رجلًا يقول: “اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك”، فقال له: “يا هذا إن سرعة اللسان بالتوبة مِن غير عملٍ وإصلاح ما مضى توبة الكذَّابين، وإنَّ التوبة مِن الخطيئة أنْ تندم على ما أخطأتَ وفعلتَ”، هذا أولًا، الندم على ما فات، “وأن تترك المعصية والذنب وتعزم على أن لا تعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع”، فالبقرة إذا حُلبت هل يرجع الحليب إلى ضرعها؟ قال: كما أنَّ الحليب لا يرجع إلى ضرع الحيوان كذلك التائب التوبة النصوح لا يرجع إلى ذنوبه وأخطائه كما لا يرجع اللبن إلى الضرع، كذلك لا يرجع إلى صحبة الذين مجالِسُهم مجالس الخطيئات ومجالس المحرَّمات ومجالس الكذب والغِيبة والنميمة والحقد والحسد، يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [الأنعام:68] الذين يخوضون بالحرام وفي انتهاك محارم الله تعالى، والتجاوز لحدود الله تعالى ﴿فَلَا تَقۡعُدُواْ مَعَهُمۡ﴾ [النساء:140]، فمَن منكم لا يقعد في مجلس ظلمٍ أو فاحشةٍ أو حرام، ويتحرَّى إنْ عرف أنَّ المجلس فيه كذب أو غِيبة أو نميمة أو محرَّم يقول: أنا لا أجتمع بهذا المجلس؟ مَن منكم عنده هذا التخطيط فليرفع أصبعه.. ولكن من دون كذب.. لا أراكم قد رفعتم، لا بأس، لا أسألكم هذا السؤال.. ولكن الآن الذي ينوي أنْ يجلس مجلس الحرام، سواء كان يسمع الحرام، أو ينظر إلى الحرام أو ينطق بالحرام أو يجلس مع ابن الحرام أو أخ الحرام أو أب الحرام أو أخوه بالرضاعة للحرام، فليقل الآن: أريد أنْ أتوب من هذا المجلس، ولا أجلس في مجلس يُعصى الله عزَّ وجلَّ فيه، من ينوي منكم أن يفعل ذلك يرفع يده، [الشيخ يخاطب الحضور:] هناك أيدي لا تُرفع، أنتَ ماذا تنوي؟ لماذا لا ترفع يدك إذن؟.. اللهم ثبِّتنا بقولك الثابت، اللهم تُبْ علينا توبةً نصوحًا.
قصة العبد الذي تبرع بأربعة دراهم مقابل أربع دعوات:
يذكرون عن أحد الناس أنه كان عبدًا مملوكًا، وكان سيده فاسقًا سكيرًا خميرًا، وفي جلسة خمرٍ أرسل عبده ليشتري له ما يتسلَّى به السِّكِّيرون عند شرابهم، يسمُّونها “مازة” [الشيخ يخاطب أحد الحضور ممازحاً:] ماذا تسمى أبو إسماعيل؟ ألا تعرف؟ ماذا يا أبا حسن؟ [يجيب أبو حسن بقوله: تُسمَّى “مازَة” فيسأله الشيخ ملاطفاً: “هل تعرفها أنت؟” فيقول وهو يحب أن يُضحِك الشيخ: نعم، فيسأله الشيخ: وما هي المازة؟ فيقول: فستق وبندق ولوز وما شابه، فيسأله الشيخ ويبدو أنه يضحك: إذن هل تعرف ذلك أنت؟ فيقول بقوة: نعم.. وهنا يضحك الشيخ ويضحك الحضور].. مرة دعاني أخوكم “أبو حسن” على غداء، [كان الأخ أبو حسن من أحباب سماحة الشيخ والمقربين إليه، وكان يواظب على دروسه، وكان معروفاً بحبه للشيخ، ومن حبه له كان يُسعَد كثيراً لما يقول شيئاً للشيخ فيبتسم أو يضحك] فرأيتُ له صورةً بطَنْبُورة بيده يعزف عليها، [الطَنْبورَة: آلة موسيقية لها أوتار للعزف وتسمى القيثارة، وتشبه آلة العود] وصورة أخرى مع الشيخ، فقلتُ له: ما هذه الصورة؟ قال لي: هذه لَمَّا كنتُ في جاهليَّتي، أضعها حتى أتذكر دائمًا فضل الله عليَّ بصحبتي لك، لأنَّ الذي نقلني مِن هذه الصورة إلى هذه الصورة في الجامع هو أنت.. هذه هي الصحبة يا بني.. فهناك صحبةٌ تُميت القلب وتجعله لا يشعر بالمعصية، مِثل الميت الذي لا يشعر بلدغة العقرب، فالميت يلدغه ألف عقرب ولا يتألَّم، فهل هذه شجاعة وصبر أم موت؟ هذا موت الإيمان.
نعود إلى القصة: أرسل الرجل عبده ليشتري له “مازَة” فمرَّ على مسجدٍ، فسمع صوت الدرس فدخل، ولم يشعر بنفسه حتى انتهى الدرس، والشيخ يقول في نهاية الدرس: يوجد رجل فقير بحاجة إلى أربعة دراهم، فمَن يُعطيه أربعة دراهم أنا أدعو له أربع دعوات؟ وكان مع العبد ثمن “المازة” أربعة دراهم، وهي ليست ملكه، فقال في نفسه: سأدفعها، ولأُضرَب في سبيل الله، ولعل الله يصلح الحال.. فقال له: ما الدعوات التي تريدها؟ قال: أول دعوة أريد أن تدعو لي أن يُلهم الله سيدي أن يُعتقني، فدعا له، والدعوة الثانية قال: هذا المال ليس مالي، فادعُ الله أن يعوِّضني، والدعوة الثالثة: أنْ يتوب الله على سيدي، لأنه رجل ذو أخلاق وسخي ويساعد المساكين، فهو لا يستحقُّ أنْ يكون حطبة في نار جهنم، فدعا له، وقال له: الرابعة أنْ يتوب الله عليَّ وعليك وعلى كلِّ الجماعة، فدعا له، ثم رجع إلى سيده وهو ينتظره على أحرّ من الجمر، وقد سوَّد وجهه أمام ضيوفه الفَسَقة، فوبَّخه وأراد أنْ يضربه، فقال له: انتظر وسأقول لك الصدق، قال له: أين المازة وأين المال؟ فحكى له القصة، وببركة صدق العبد وإخلاص الشيخ أطفأ الله عزَّ وجلَّ نار غضب سيده، وقال له: هل دفعتَ المال للشيخ؟ قال: نعم، قال له: فبارك الله فيك، ثم قال له: قل لي: ماذا دعا لك؟ فقال له: دعا لي أول دعوة أنْ يُلهمك الله عزَّ وجلَّ أنْ تعتقني، فقال: مِن أجل الشيخ أنتَ حرٌّ لوجه الله، والثانية؟ قال: أنْ يعوِّض الله عزَّ وجلَّ عليَّ ما أنفقتُ، فقال له: هذه مئة ليرة ذهب رأسمال لك لتعمل بهنَّ، والثالثة؟ قال: أنْ يتوب الله عليك، فقال له: بما أنَّ الشيخ دعا فلن أُذهِب دعوته سدى، فألقى الخمر والمائدة أمام أصحابه وتاب إلى الله تعالى، فاستغرب أصحابه وسألوه: ماذا جرى؟ فقال لهم: لقد دعا لي الشيخ بالتوبة، وأنا تبت إلى الله تعالى، [فقالوا له: ونحن نتوب معك.. فتابوا كلهم]، قال له: والرابعة؟ قال له: أنْ يغفر الله عزَّ وجلَّ لي ولك، فقال له: لو كانت المغفرة بيدي لغفرتُ لك لأجل الشيخ.
وفي تلك الليلة رأى الرجل ربَّ العالمين في المنام، فقال له: عبدي فعلتَ ثلاثًا مِن أجلي وتستطيع فعلها، وعجزتَ عن الرابعة، فأنا سأفعل الرابعة، فقد غفرتُ لك وللعبد وللشيخ ولإخوان الجامع ولجماعتك الذين تابوا معك.. وهذه ببركة المجالس الصالحة.
أثر الجليس في حياة المؤمن:
فإذا كان لك صاحبٌ فاسق ودعوته إلى الخير وما استجاب فلا يجوز أن تصاحبه، فالنبي ﷺ قال: ((الجَلِيسُ السُّوْءُ كَنَافِخِ الْكِيرِ إمَّا أنْ يُحرِقَكَ بِنَارِهِ، أو يُؤذِيَكَ بِشَرارِهِ، أَو تَشمَّ مِنهُ رائِحَةً خَبِيثَةً))، فيجب عليك أنْ تتوب إلى الله عزَّ وجلَّ مِن مجالسة الفسَّاق والأشرار والخبثاء والحمقاء والسفهاء، فالإنسان يُعدى، فيصير أحمق بمجالسة الأحمق، وفاسقًا بمجالسة الفاسق.
((وَالْجَلِيسُ الصَّالِحُ كَحَامِلِ الْمِسْكِ)) فيجب أنْ نتوب إلى الله عزَّ وجلَّ مِن مجالسة الفَسَقة والأشرار إلى مجالسة الصالحين والأخيار، هل تنوون ذلك؟
أليس كلُّ واحدٍ منكم له أصحاب أشرار وأخيار، وفسَّاق وتقاة؟ عليكم أنْ تتوبوا إلى الله عزَّ وجلَّ منها.. ولو كان أباك أو أخاك أو ابنك، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ﴾ مِن الوداد والحب ﴿مَنْ حَاد اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المجادلة:22] الذي يُخالف أمر الله عزَّ وجلَّ ويُخالف النبي ﷺ وأنتَ تحبه وتقعد معه وتسهر معه وتأكل معه وتشرب معه وتتنزَّه معه، فأنتَ كذَّاب ولست من: ﴿يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا﴾ [التحريم:8] حتى لو قلت: “لبيك اللهم لبيك” مليون مرة فأنت منافق، لأنك تقول ولا تفعل، أمَّا الذي يقول ويفعل فهو مؤمن، والذي لا يلبِّي ولا يفعل فهو كافرٌ بهذه الآية.
﴿يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا﴾ [التحريم:8] [الحضور يقولون: لبيك اللهم لبيك، والشيخ يقول:] هل قولًا فقط؟ [يجيب الحضور: وعملًا، فيقول:] وعملاً إن شاء الله، أسأل الله أنْ يثبِّتنا جميعًا.. ﴿تُوبُوا إِلَى اللهِ﴾ [التحريم:8] فتِّشوا أنفسكم، فتِّش عينك ماذا نظرتَ اليوم إلى حرام؟ ولسانك ماذا تكلَّم بحرامٍ؟ وأذنك ماذا سمعتْ حرامًا؟ ويدك ماذا أخذت حرامًا أو ضربت حرامًا؟ ورجلك ماذا مشت إلى حرامٍ؟ سجِّلها وتُب إلى الله عزَّ وجلَّ التوبة النصوح.
التوبة النصوح:
يوجد توبة كاذبة وتوبة صادقة نصوح تنصح بها نفسك وحياتك ومستقبلك، وهي أنْ تترك الذنب فلا تعود إليه أبدًا، كما لا يعود الحليب إلى الثدي، ولا يعود اللبن إلى الضرع، وأنْ تندم على ما مضى، وأنْ تستدرك ما تركتَ مِن حقوقٍ وواجبات؛ مِن صلواتٍ فتقضيها، ومِن حقوق الناس المالية فتُرْجِعها، ومِن ظلامة للناس إنْ ضربتَ إنسانًا أو سببته أو شتمته فعليك أنْ تذهب إليه وتقول: أنا ضربتُك يوم كذا فاضربني، أو سببتك فسبَّني، أو سامحني، هذه هي التوبة النصوح، فهل أنتم مستعدون لأن تتقبَّلوا القرآن؟ وإذا حفظ شخص المصحف مِن أوله إلى آخره، فحفظ الكلام، لكن هذه الآية وحدَها ما طبَّقها، فهو ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5] إذا حمَّلنا الحمار مئة كيلو من الكتب فهل صار عالِمًا؟ وهل صار شيخًا؟ لا يزال حمار، لأن حمل الكتب سواء حَمَلْنا الكتب الورقية أو حَمَلْنا مضمونها بأفكارنا ولم تهضمها قلوبنا ونفوسنا وتمتثلها أعمالًا وأخلاقًا وسلوكًا، ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5] فهل ترضون إذا قرأتم القرآن أن يصفنا الله عزَّ وجلَّ بالحمير؟ [الشيخ يخاطب الحضور:] من يرضى أن يصير حمارًا فليرفع يده.. ومَن الحمار في القرآن؟ هو الذي يقرأ القرآن للقراءة لا للعلم ولا للعمل، فإذا حافظتم على هذه الآية فواللهِ إنها تكفيكم لسعادتكم في الدنيا والآخرة.
﴿يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ [التحريم:8] فهي تَرْكُ الذنب لقبحه، والندمُ على ما فَرَط منك، والعزيمة على أن لا تعود إلى الذنب، وأنْ تتدارك ما تركته مِن واجباتٍ فتقضيها، ومِن محرَّمات فتستسمح منها إذا كانت مِن حقوق الخَلْق، أو تتوب إلى الله عزَّ وجلَّ منها، أو تقضيها إذا كانت مِن الفرائض التي يجب قضاؤها.
﴿يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ فما معنى تُبْتَ؟ يعني دخلتَ الحمام لتتنظَّف، وقد كنت قد وقعت في بئر مالحٍ، [بئر مالح: كناية عن مكان للماء النجس المملوء نجاسة، كما يُحفَر في بعض البيوت مكان بجانب البيت خاص لصرف مياه بيت الخلاء إليه] كلّه قَذَر، وأنت ملوَّث مِن رأسك إلى قدميك، فالتوبة هي دخولك الحمام وخلع كلِّ ثيابك القذرة النتنة، وأن تغسل بدنك، ثم تَخرُج مِن الحمام بعد أن تغسل نفسك عشر مرات، فتخرج وأنت مطهَّرٌ مِن كلِّ قَذَرٍ ونَتَنٍ وخَبَث، بعد ذلك إذا لبست الثياب الجميلة والروائح الطيبة فهذه التقوى، فإذا حدثت التقوى مع التوبة فأنت الإنسان الفاضل الذي تحبك الأرض والسماء.
يقول النبي ﷺ في حق هذا الإنسان: ((لَلهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ أَحَدِكُم أَكثرَ مِنْ رَجُلٍ في فَلَاةٍ عَلَى راحِلَةٍ)) راكب ناقته ((وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ وَمَتاعُهُ، فَأَدرَكَهُ التَّعَبُ، فَنَامَ تَحتَ ظِلِّ شَجَرةٍ، فَلَمَّا استَيقَظَ وَجَدَ ناقَتَهُ مَفقُودَةً، فَطَفِقَ يُفَتِّشُ عَنهَا فَلَم يَجِدها حتَّى أَيِسَ مِن وُجُودِهَا، فَقالَ: أَرجِعُ إلى ظِلِّ الشَّجَرَةِ، فَأَمُوتُ تَحتَهَا، فَنَامَ فَلَمَّا استَيقَظَ وَجَدَ رَاحِلَتَهُ وَنَاقَتَهُ فَوقَ رَأسِهِ لَم يَفقِدْ مِن حُمُولَتِهَا شَيئًا)) هو في الصحراء وقد ذهبتْ الناقة، يعني صار محكومًا عليه بالإعدام عطشًا وجوعًا، ولَمَّا رجعت الناقة عادت إليه حياته، فمِن كثرة فرحه صار يحمد الله، لكن بالصيغة التالية قائلًا وقد اختلط عقله ولم يعرف ما ينطق به، فبدل أنْ يقول: اللهم أنتَ ربي وأنا عبدك، صار يقول: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ)) مِن شدَّة فرحه لم يدرِ ولم يفقه ما يقول، يقول النبي ﷺ: ((فَاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوبَةِ التَّائِبِ مِن فَرَحِ هَذا الرَّجُلِ إذ رَجَعَتْ إلَيهِ رَاحِلَتَهُ))، ويقول النبي ﷺ أيضًا: ((إِنَّ اللهَ يَمدُّ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ)) .
يا الله! ما أعظم رحمة الله! وما أعظم حنان الله! وما أعظم حب الله للإنسان! إنه يريد أن ينقذه مِن البئر المالح القذر، ومن المجاري [المجاري: مجرى المياه النجسة].. ((إِنَّ اللهَ يَمدُّ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ)) يعني إذا أذنبتَ بالليل فلا تؤخِّرها إلى النهار، بل تب قَبل أن يطلع النهار، لأن الله يمدُّ يده إليك.. بائع الخضار أو زَبَّال [زبَّال: عامل النظافة، وعامل النظافة وبائع الخضار يُعَدّان من أدنى طبقات المجتمع، لذلك يضرب سماحة الشيخ بهما المثل] إذا مد يده لك وما مددتَ إليه يدك فتُعتبَر أنك تحتقر إنسانيته، وتتكبَّر عليه، فإذا كان رَبُّ الكون يمد يده إليك وأنت تمد يدك إلى الشيطان، فما أجهلك! وما أحمقك! وما أغباك! فأنت غبي، والحمار أحسن منك، لأن الحمار إذا مد أحد يده بقليل من الفُصَّة إليه يُشَنْهِق له [الفُصَّة: نبات البرسيم، وهو الذي تتغذى عليه الدواب، ويُشَنْهِق الحمارُ: يصدر صوته المعروف]، يعني يُصفِّق له ويقول: شكرًا.. ونحن [نعصي الله] بدلاً من أنْ نشكره، وهو الذي يمدُّ يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويمدُّ يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.
وفي حديث آخر يقول: ((لَلهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ المذنِبِ إذَا تَابَ)) أَكثَرَ فَرَحًا ((مِنَ الْعَقِيمِ الْوَالِدِ))، إذا كان لا يُنجب الأولاد، وهو عقيمٌ ورُزق الولد، كم يكون فرحه عظيمًا، قال: ((لَلهُ أَشَد فَرَحًا بِتَوْبَةِ التائِبِ مِنَ الْعَقِيمِ الْوَالِدِ، وَمِنَ الظمآنِ الْوَارِد)) الذي كان عَطِشاً في الصحراء، وأشرف على الموت، ثم ورد الماء، كم يفرح؟ قال: الله يفرح بالمذنب إذا تاب أكثر منه، ((وَمِنَ الضَّالِّ الْوَاجِدِ)) ذاك الذي ضلَّت عنه راحلته ثم وجدها، كم يفرح؟ قال: الله أشدُّ فرحًا منه، يا حبيبي يا الله! ما أجمل الله! فالله جميل وحنون وعطوف ومحبٌّ، أعطانا السمع والبصر وسخَّر لنا الكون، وسخَّر لنا الأرض والشمس والقمر والنبات والهواء، ثم أرسل لنا أشرف الملائكة وأشرف الأنبياء ليُسعدنا ولنعيش أعزَّاء أصحَّاء سُعداء.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا أنْ نعرف الله، وأن نعرف المعلم رسول الله ﷺ، والمعلِّمين قَبله، ونعرف كذلك نُوَّابه مِن بعده، كما قال ﷺ: ((الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)) .
﴿عَسَى رَبكُمْ أَنْ يُكَفرَ عَنْكُمْ سَيئَاتِكُمْ﴾:
﴿يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبكُمْ أَنْ يُكَفرَ عَنْكُمْ سَيئَاتِكُمْ﴾ [التحريم:8] لم يقل: يكفِّر إذا تبتم، لأن العظماء إنْ قلتَ لهم: أريد كذا، فمِن عادتهم أنْ يقولوا لك: عسانا إنْ شاء الله نفعلها لك، فكلمة “عسى” مِن الله عزَّ وجلَّ تعتبَر شيئًا قطعيًّا، ﴿عَسَى رَبكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيئَاتِكُمْ﴾ بماذا؟ بالتوبة الصادقة وبالعزم على أن لا تعود، وبالندم على ما صدر منك، وبالتحلُّل والاستسماح مِن الذين اعتديتَ عليهم، وبإرجاع الأموال والحقوق إلى أصحابها إذا أخذتها منهم بغير وجهٍ شرعيٍّ، هذا هو السلام، أليس الآن يريدون السلام العالمي؟ إنّ السلام والسلام العالمي في الإيمان الحقيقي، وهو الإيمان العقلاني، وإيمان الحياة، وإيمان العقل، وإيمان العلم، وإيمان حقوق الإنسان، والله عزَّ وجلَّ ما أمرنا بأمرٍ عبثًا أو فيه ضررنا، ولا نهانا عن شيءٍ فيه خيرنا وسعادتنا.
اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعلهما متشابهَين علينا فنتبع الهوى.. الهوى ما تشتهيه النفس، مِثل المريض الذي يشتهي الأكل، فهو يحب القَشَاطِي وما شابهها [القَشاطِي: كلمة عامية معناها الحلوى التي توضع فيها القُشْطَة، والقشطة المادة التي تتكون على وجه الحليب]، ويقول له الطبيب: معك الكولسترول ثلاث مئة أو أربع مئة.. وهو يقتل نفسه بشهوته وهواه.. والإيمان هو: ﴿وَنَهَى النفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِن الْجَنةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات:40-41].
اللهم آت نفوسنا تقواها.. ويجب أنْ تكون قد فهمتَ الدعاء ليُقبل منك، وتكون عازماً على أن تحقِّق بطاقتك وقواك ما تطلبه مِن الله عزَّ وجلَّ، فإذا كنتَ عَطِشاً وقلت: يا رب اسقني، ثم دلَّك أحدهم على البئر، فماذا تعني كلمة “اسقني”؟ تعني أنْ تُخرج الماء بالدلو وبالحبل مِن البئر حتى تشرب، فإذا أوصلك إلى البئر ولم تستعمل الحبل ولا الدلو ولا أخرجت الماء، هل هذا عمل صحيح؟ هل الله سيصير مُسْتَخْدَمًا [أجيراً] عندك وخَدَّامًا وهو يملأ لك بيده ويناولك الكأس؟ إن مِن شرط الدعاء إذا دعوتَ الله عزَّ وجلَّ وطلبتَ منه شيئًا، فما تملك مِن أسباب تحقيق هذا الشيء أنْ تفعله، وما تعجز عنه إنْ صدقتَ بفِعْل ما تملكه يُساعدك الله تعالى فيما لا تملكه، ولذلك ذكر المفسِّرون في قوله تعالى: ﴿ادْعُوا رَبكُمْ تَضَرعًا وَخُفْيَةً إِنهُ لَا يُحِب الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف:55] قالوا: هم المعتدون في الدعاء، الذين يَطلبون مِن الله عزَّ وجلَّ شيئًا ويملكون وسائله ولا يستعملونها، فهؤلاء معتدون في الدعاء ولا يستجيب الله دعاءهم، كالذي يطلب ولدًا وهو عازمٌ على أن لا يتزوَّج، فمهما دعا الله عزَّ وجلَّ أنْ يرزقه الولد، هل يعطيه الله ولدًا؟
((اللَّهُمَّ آتِ نُفُوسَنا تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَن زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا)) ، واجعلنا اللهم من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.
الآن أَحَدُ ضيوفكم مِن علماء أمريكا طبيب نفس، وقد أكرمه الله عزَّ وجلَّ بالإسلام، ومعنى الإسلام أنه جمع بين الأديان الثلاثة، فقد صار مؤمنًا بتوراة موسى وبإنجيل عيسى الذي دعا القرآن إلى التَّمسُّك بهما زيادةً على ما خصَّ الله به النبي الأخير ﷺ لوحدة العالَم دولةً وأُمَّةً وشعبًا واحدًا.. فأهلًا وسهلًا.