أهمية الإيمان بيوم القيامة في حياة الإنسان:
نحن الآن في تفسير بعض آيات مِن سورة الواقعة، والواقعة هي القيامة، وسمِّيتْ واقعة لأن وقوعها مِن الأمور اليقينية التي لا شكَّ فيها ولا ريب، وكلُّ الأنبياء والأديان أثبتوا القيامة، وهي تعني الحياة بعد الموت، وتعني أنَّ الإنسان باقٍ لا فناءَ له، بخلاف ما يعتقدهُ غير المؤمن، فإنه يعتقد أن مصيره كمصير الحيوانات، تُفارِقه الروح، ويفنى الجسد، ويصير طعامًا للديدان، ثم يصير ترابًا، فما أحقر هذه الحياة إذا كان هذا المصير مصيرها! وأيُّ أزمةٍ مِن أزمات الإنسان في هذه الحياة لا توازي أزمة عدم وجود تلك الحياة، [فالاعتقاد بأنه لا حياة بعد الموت أخطر وأعظم أزمة في حياة الإنسان الدنيوية] حتى صار بعض الأوربيين يقول: إذا لم تكن حياة بعد هذه الحياة فيجب على الإنسان أن ينتحر ليتخلَّص مِن أزمات هذه الحياة ونكباتها ومصائبها.. فأيُّ فرقٍ عظيمٍ بين المؤمن الذي حياته في الدنيا سعادة، سواء أكان غنيًّا أو فقيرًا وبين غيره.. والإنسان لا يسعد بالمال، فكم مِن أُناسٍ كان المال سبب شقائهم وتعاستهم وأمراضهم، بل وهلاكهم في أجسادهم وحياتهم.
يظن كثير من الناس أن صاحب الْمُلك والسلطان مُنعَّم، والحال أنه لا يوجد أتعب مِن الملوك، وبشكل عام قيل: “خُذ مِن الدُّنيا ما شئتَ، وخُذ بقدرها همًّا” .. أما المؤمن فمهما كان غنيًّا أو فقيرًا، حاكمًا أو محكومًا، صحيحًا أو مريضًا تجده كما قال رسول الله ﷺ: ((أُمَّتِي الحَمَّادُونَ رَبَّهم عَلى كُلِّ حَالٍ)) ، وقد قال علماء الطب وكبار أطباء العالم: يجب على الإنسان أن لا يحزن ولا يغضب ولا يحقد ولا يحسد ليتمتَّع بالصحة الجيدة، وليعيش عمرًا مديدًا متمتِّعًا بحياةٍ وصحة جيَّدتَين، لأن كلَّ هذه المعاني وما شابهها تُورِث النفسَ الهمَّ والقلق والحَزَن، وهو ما يُسمى في مصطلح الطب “بالشِّدَّة”، والشِّدَّة هي سبب أمراض القلب وانسداد الشرايين والشلل النصفي، أو السكتة الدماغية أو موت الفجأة.. أما المؤمن -ليس مؤمن القول، بل مؤمن القلب والفهم والعلم- فينطبق عليه قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فِى أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِى كِتابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا﴾ [الحديد:22]. “في كتاب”: أي في عِلم الله عزَّ وجلَّ، ولا بدَّ أن تقع، وإذا وقعت المصيبة فماذا يُفيد الحزن أو الأسى أو البكاء أو العويل أو الأرق؟ فيأتي الإيمان: ((أُمَّتِي الحَمَّادُونَ رَبَّهم عَلى كُلِّ حَالٍ)).. إن المؤمن يحتسب مصيبته عند الله عزَّ وجلَّ، فيكون أَجْرُه عزاءً له عمّا فَقَدَ.
إنّ الإيمان بالواقعة والقيامة معناه أنَّ الحياة لا انقطاعَ لها، وإنما الموت هو خَلْع الروح لثوبها البالي العتيق الذي لم يعد يصلح لجمال الحياة، فيُخرِج اللهُ عزَّ وجلَّ النفسَ مِن سِجْن جسدها الذي يكون سبب آلامها وأسقامها وهموم الدنيا ومشاكلها إلى عالَم الرُّوح، وتبقى الروح فيه إلى ما شاء الله، تبقى إلى أن تقوم القيامة وتقع الواقعة.
الناس يوم القيامة أصناف ثلاثة:
لقد ذكر الله عزَّ وجلَّ أن الناس يكونون ثلاثة أنواع وثلاثة أصناف، لا أغنياء وفقراء، لا حُكَّامًا ومحكومين، لا عربًا وعجمًا، إنما: ﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾ [الواقعة:8-10] إن كان معه دكتوراه أو أميًّا أو فلاحًا أو خادماً أو رئيس وزارة أو رئيساً لأمريكا تذهب هذه الأسماء كلُّها: ((يُحْشَرُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا)) يعني حتى جِلدة الخِتان تَرجع إلى أصحابها، ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾ [القارعة:6-8] مِن الأعمال الصالحة ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾ [القارعة:9] يهوي في نار جهنم سبعين سنة على رأسه حتى يصل إلى قعرها، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ﴾ [القارعة:10] هذه جهنم أُمُّه ﴿ نَارٌ حَامِيَةٌ﴾ [القارعة:11].
لما ذكر الله عزَّ وجلَّ هذه الأصناف ذكر الصنف الأخير، وهم أصحاب المشأمة، وذكر كيف أنهم كانوا يجحدون ولا يُصدِّقون بالحياة بعد الموت.. والحياة بعد الموت وراءها الحساب ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ﴾ [الإسراء:36] ماذا يوجد في قلبك مِن حقدٍ وغشٍّ ورياءٍ وكذبٍ ومؤامرةٍ وخيانةٍ وعقيدةٍ فاسدةٍ ﴿كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء:36] فنظرتك أنتَ مسؤولٌ عنها، والكلمة التي تسمعها أنتَ مسؤولٌ عنها، وقد قال ﷺ: ((وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ)) في نار جهنم ((وَمَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟)) فكلامك الذي تتكلَّم به مُسجَّلٌ كلُّه عليك، وبعد ذلك يُفْرَز: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر:10] كلام اللغو يُلقى ويُهمَل، وكلام السوء مِن كذب أو نميمة أو غيبة أو شتيمة أو أيّ كلام لا يأذن به الله مسجَّلٌ كلُّه عليك.. ما هو الإيمان؟ وما هو الإسلام؟ هو هذا، فإذا وُجدَتْ هذه المعاني في حياتك العمليَّة فأنتَ مسلمٌ وأنتِ مسلمةٌ، أما إذا كنتَ في الحياة العملية تتكلَّم فلا تبالي بأيِّ كلامٍ تنطق، ولا تبالي إن كانت نواياك في صدرك مكرًا أو خداعًا أو غشًّا أو رياءً أو كذبًا، فهل هذا إسلام؟ وهل هذا إيمان؟ وهل أنتَ تقرأ القرآن؟ والسبب أنه: هل يكون النجَّار مِن غير معلِّم؟ والخبَّاز هل يصير مِن غير معلِّمٍ؟ إنه يرتبط بمعلِّمه مِن الصباح إلى المساء ويصير خادمًا له، وذلك طمعًا في أن يُؤمِّنَ له أقل وسائل الحياة [أدنى وسائل المعيشة] في هذا العمر القصير المحدود، فكيف بالمعلِّم الذي يؤمِّن لك حياة الأبد في نعيم قال الله تعالى عنه: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُن﴾ [السجدة:17] فهذا لا تُوَفِّيه حقه حتى لو بذلتَ له الروح والنفس والنفيس، وحتى لو اتَّجهتَ إليه زحفًا على بطنك لتصل إليه.
فلذلك كانت الهجرة إلى المدينة فرضًا، وليس المقصود الهجرة إلى المدينة، بل إلى رسول الله ﷺ، وكان تاركها آثمًا، وله نار جهنم.. والهجرة لا تزال، فعليك أن تبحث عن نائب رسول الله ﷺ وتهاجر إليه بحبٍّ إيمانيٍّ وبحبٍّ ربَّاني وقرآني، وإلا فقد تكون مغشوشًا بإسلامك، ويكون الناس مغشوشين بصلاتك وصومك، لأنه ليس لك مِن الصلاة إلا القالب الجسديُّ، أما القالب العقليُّ والأخلاقي الربَّاني الروحيَّ فلا تحصِّله، والصلاة شُرِعت لأجل هذا: ﴿إِنَّ ٱلصَّلَوةَ تَنهَى عَنِ ٱلفَحشَاءِ وَٱلمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [العنكبوت:45]، الصلاة فيها الركوع والسجود والقيام والتلاوة، والذكر أعظم مِن كل حركات الصلاة، فعليك أن تذكر الله في التكبير والتسبيح وبـ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:5] وببسم الله الرحمن الرحيم.. فعليك في هذه الحركات كلِّها أنْ تتخيَّل نور الله في قلبك، وأنك تُناجيه ويناجيك، وتُحدِّثه ويُحدِّثك.
تعذيب الكفار في جهنم:
وبعد أن ذكر الله في سورة الواقعة أصحاب المشأمة وتكذيبهم للواقعة قال: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة:51] كذبوا بالقيامة، وضالُّون لأنهم ضلُّوا عن الحقيقة، وعاشوا في الأوهام والخيالات، فخسروا وشَقُوا في الدنيا والآخرة، حتى إذا كان غنيًّا فإنك تجده معذَّبًا إذا كان غير مؤمنٍ، ومهما كان معزَّزًا في الدنيا وهو غير مؤمن تجده دائمًا مُعذَّب النفس والقلب: ((لَو أُعْطِيَ ابنُ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ لَتَمَنَّى ثَانِيًا)) تمني الوادي الثاني هذا هو الفقر، ((وَإنْ أُعْطِيَ ثَانِيًا تَمَنَّى ثَالِثًا))، إذًا هو فقير، ولم يستغنِ ((وَلَا يَمْلَأَ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ)) .
إن الأغنياء أفقر مِن الفقراء، لأن الفقير إذا أخذ مبلغًا قليلًا يفرح به، أما الغني فإنه يأخذ الملايين والمليارات ويبقى جائعًا قلقًا يركض ويلهث، إذن أيُّهما أشدُّ افتقارًا واحتياجًا؟ كالذي يشرب مِن ماء البحر، كلما ازداد شربًا ازداد عطشًا.
﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة:51] المكذبون بالواقعة والقيامة.. وأنتم اسألوا أنفسكم: هل أنتم مؤمنون بالقيامة؟ الإيمان بالقيامة المقصود به أنْ يكُفَّك عن معاصي الله عزَّ وجلَّ بيدك وأذنك ورجلك وبطنك وفرجك وبمجالسك وبمجتمعاتك، وفي غضبك ورضاك، إنّ الإيمان بالقيامة يُوجِد فيك هذه الصفات وهذه الأخلاق وهذا السلوك.
قال: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ﴾ [الواقعة:51] أي الضائعون.. فالضائع في صحراء بغداد ما نهايته؟ لا ماء ولا طعام ولا ظلَّ، نهايته الهلاك، كذلك الذي يضلُّ عن سبيل الله وعن طريق الله في الحياة وفي أداء الفرائض والواجبات.. وما هي هذه الحياة؟ هل منكم مَن لم يكن عمره سبع سنين أو ثلاثة أشهر؟ كُنَّا نُلوِّث ثيابنا، ثم هذا صار وزيرًا، وهذا صار أميرًا، وهذا صار مفتيًا، وهذا صار تاجرًا، وغدًا سنكون أمواتًا بالأكفان، ثم في القبور، والجسم يفنى، أما الروح فلا تفنى، وأمامنا القيامة والحساب، وماذا ستكون نتيجتها للمؤمن بها حقَّ الإيمان؟ يكفينا نموذجًا مِن ذلك أصحاب رسول الله ﷺ، هل كانوا وهم في الجاهلية مؤمنين بالقيامة؟ ولَمَّا آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر وبالقرآن الإيمانَ العلميَّ والعمليَّ، كيف كانوا وكيف صاروا؟ هل خسروا بالإيمان؟ وهل كانوا رابحين في الجاهلية؟ بل صارت الملوك خدمًا لهم، وصارت الدنيا بذَهَبها وفِضَّتها تزحف على أقدامهم، وصاروا في عقولهم حكماء، وفي نفوسهم ملائكةً، وفي أخلاقهم الإنسانية الكاملة، كل هذا أضف له الخلود في النعيم الأبدي يوم القيامة.
وإذا أردنا أن نعتزَّ الآن بتاريخنا فبمَن نعتزُّ؟ هل نعتزُّ بواقعنا أم بماضينا؟ هل نعتزُّ بالإسلام الحقيقيِّ أم بالنشوز عن الإسلام والنتائج التي وصل إليها المسلمون اليوم؟ لقد صاروا خمس مئة أمة، وخمس مئة شعب، وخمس مئة وطن، أمَّا العرب [كثيراً ما يستخدم سماحة الشيخ كلمة “العرب” وهو يعني بها المسلمين، وذلك لأنه يتكلم في درس عام في سوريا، والذي يسمعه بعض الناس ممن يرفعون فيها شعار العروبة، ليقول لهم بطريقة غير مباشرة: إن هؤلاء الذين تفتخرون بهم ما صاروا عظماء إلا بالإسلام، فعودوا إليه لتكونوا كما كانوا] أمَّا العرب فبالإسلام جعلوا مِن نصف الدنيا وطنًا واحدًا، وشعبًا واحدًا، وأسرةً واحدةً ((كَالجَسَدِ الوَاحِدِ إذَا اشتَكَى مِنهُ عُضوٌ تَدَاعَى)) وتنادى واستجاب ((لَه سَائِرُ الجَسَدِ)) ، فهل مِن مُدَّكِر؟ وهل مِن مُعتبِر؟ وهل مِن مُفكِّر؟ فلنرجع إلى ما كان عليه الآباء والأجداد، فإنهم صاروا أعلم علماء العالَم في كلِّ علوم الحياة، وصاروا أعظم دول العالَم، وأقوى الجيوش في العالَم، وحرَّروا الشعوب مِن الجهل والخرافة والتخلُّف والتفرقة.
قال: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ﴾ التائهون عن معرفة الحقيقة، كالذي لا يعرف الطريق التي تُوصِله إلى بلده أو إلى بيته.. ﴿الْمُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة:51] إذا قيل لهم: تعالوا أدلُّكم فالطريق مِن هنا، يقولون: هذا كذب.. لأن الأعمى إذا قيل له: إنَّ الطريق مِن هنا، هل يفرِّق بين الطريق الحقيقيِّ والطريق غير الحقيقي؟ مثلهم كقصة ذلك الأعمى الذي تزوَّج امرأة -والأعمى لا فرقَ عنده إذا كانت زوجته جميلة أم لا- فاستغلت زوجة هذا الأعمى أنه أعمى، وصارت تقول له: آه لو كنت ترى! لرأيتَ عيوني التي تُسْبي، وخدودي التي مثل التفاح، ولرأيتَ كذا وكذا، فقال لها: كفاكِ! لقد أغلظتي علينا، فلو كان فيك خير لما تركك المبصرون للعُميان.. نسأل الله أن يحمينا مِن عمى القلب وعمى الشعور الإيماني.
الفقر والغنى في الآخرة لا في الدنيا:
دَخل رَجلان إلى مسجد رسول الله ﷺ، أحدهما مِن فقراء القوم، والآخر مِن أغنيائهم، فقال النبي ﷺ: ((أَرَأيتُمُ الرَّجُلَين؟)) قالوا: نعم، قال: ((إنَّ هَذَا)) الفقير الضعيف المسكين ((خَيرٌ مِن)) ذلك الغني العظيم بحيث لو كان ((مِلْء الأَرضِ مِن ذَلِكَ الغَنِيِّ)) ، لَفَضَلهم عند الله تعالى، هذا الرجل الفقير المسكين بماذا فَضَلهم؟ بإيمانه الحقيقي.. وحين يموت هل يبقى مالٌ أو تبقى أوسمةٌ أو رُتبٌ أو وزارات؟ نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا الفقه في الدِّين.
طعام أهل جهنم وشرابهم:
قال: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ﴾ [الواقعة:51-52] “الزقوم”: شجرٌ يخرج في جزيرة العرب في الصحراء، ذو منظرٍ كريه، وطعمٍ كريه، ورائحةٍ كريهة ﴿فَمَالِئُونَ مِنْهَا﴾ مِن شجر الزقوم ﴿الْبُطُونَ﴾ [الواقعة:53] فهم يأكلونه لعدم وجود غيره، ويأكلونه حتى تنتفخ بطونهم، ﴿فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ﴾ عندما يعطشون يأخذونهم للشرب ﴿فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ﴾ [الواقعة:54] الماء المغلي ﴿يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ﴾ [الحج:20] تذوب أمعاؤهم وجلودهم مِن حرارة ذلك الحميم.. والحمَّة والحُمَّى والحَميم مشتقٌّ بعضها مِن بعض، [هناك منطقة قريبة من دمشق تسمى “الحِمَّة” معروفة بمياهها الطبيعية الحارة، كان يذهب إليها الناس قبل احتلالها من إسرائيل، وكان سماحة الشيخ يأخذ تلامذته الشباب إلى هناك، حيث كانت هذه الرحلات وسيلة نافعة للصحبة والتربية، وربما يقصد من ذكرها هنا تذكير إخوانه بتلك المنطقة].
﴿فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ﴾ [الواقعة:55]. الهِيْم والهُيَام: مرضٌ يُصِيب الإبل والجِمال، فتعطش، وعندما تشرب الماء تشرب ولا ترتوي، ولا يُطفَئ ظمؤُها حتى تموت مِن الشرب، وكذلك شُرب أهل جهنم وأصحاب المشأمة في جهنم، حيث يشربون كشرب الهيم وهي الجمال التي أصابها مرض الهيام.. كما يقولون: فلانٌ مُهَيَّم، أي جُنَّ فلا شيء يوقفه، نسأل الله أن يجعل هيامنا في الله.
﴿فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ﴾ [الواقعة:56] ما هو يوم الدِّين؟ يوم الواقعة، والدِّين هو الجزاء، “كما تَدين تُدان”، ﴿هَذَا نُزُلُهُمْ﴾ [الواقعة:56] ما هو النُّزُل؟ كانوا قديماً حين يأتي الضيف يُقدّمون له الفواكه والحلويات، فأول ما يقدَّم للضيف اسمه “نُزُل”.. والآن صاروا يُقدِّمون الشاي أو القهوة، فقد كانوا في السابق -رحمهم الله- أسخى مما عليه الناس اليوم.
﴿هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ﴾ [الواقعة:56]. أمَّا المقرَّبون فما نُزُلُهُم؟ ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ﴾ [الواقعة:18] ما هو المعين؟ الماء الجاري الذي تراه العيون، وهو مِن ﴿خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾ [محمد:15]، ﴿لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا﴾ لا يؤلمهم رأسهم ﴿ وَلَا يُنْزِفُونَ﴾ [الواقعة:19] ولا تُستَنزف عقولهم ﴿وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ﴾ [الواقعة:21] ينتقي ما يُريد، ﴿وَلَحْمِ طَيْرٍ﴾ [الواقعة:22] مِن أشهى ما يكون مِن لحوم الطيور، ﴿وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الواقعة:24] فهل ضيافة هؤلاء مثل ضيافة أولئك؟ هنا: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ [الواقعة:17]، وهناك: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة:51]، يُنادَون يوم القيامة مِن طرف الملائكة، فكيف ستكون حالك يوم القيامة وقد كنتَ مِن أهل الدنيا، وتركتَ الأبنية والمزارع والقصور والوزارات والجاه والمنصب، وكان أوَّل خطابٍ تُخاطَب به ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ﴾ [الواقعة:51] والنساء: أيَّتُها الضالَّات؟ ذهبَتِ الدنيا كمنام وحلم رأيتَه لمدة ثوانٍ، ثم انتهى وانقضى.
﴿لَآكِلُونَ﴾ [الواقعة:52] ما هو الغداء وما هي الضيافة والنُّزُل؟ أول ما يُقدَّم للضيف شجر الزقوم، وهذه هي قهوتهم والشاي الذي يشربونه والنُّزُل، ﴿فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ﴾ [الواقعة:53-55] ما معنى الهيم؟ يعني الجِمال التي ابتُلِيت بمرض الهيام، فتعطش، فلا تُروى حتى تموت شربًا، ولا يذهب منها العطش، ﴿هَذَا نُزُلُهُمْ﴾ [الواقعة:56] ما هو النُزُل؟ أول الضيافة التي تُقدَّم للضيف قَبل الطعام ﴿يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ﴾ [الواقعة:57] لماذا لا تؤمنون بالقيامة وأنكم إذا صرتم ترابًا سوف تُرجعون؟ وماذا كنتم قبل وجودكم؟ قال تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [الإنسان:1] قَبل مئة سنة هل كان أحد منا موجودًا؟ إذن وُجِدنا مِن عدم، فإذا أُعدِمتْ أجسادنا فالذي أوجدها مِن العدم أَلَا يملك القدرة على إعادتها إلى الوجود؟
العلم يدعو إلى تصديق آيات الله تعالى:
﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ﴾ [الواقعة:57] الله تعالى خلقك وأوجدك واخترعك مِن العدم، أَلَا تُصدِّق أنه قادرٌ على أن يُعِيدك؟ وهل أول الخلق أصعب مِن إعادته؟ أيهما أصعب اختراع السيارة أو إعادة السيارة المفكَّكة كما كانت؟ أيها أصعب البداءة أم الإعادة؟ وأيهما أهون؟ الله تعالى هو الذي خلق هذه المجرات والكواكب والشموس وهذه الأقمار.. وآخر ما اكتُشِف مجرَّتان أي مجموعتان مِن الكواكب والنجوم بيننا وبينها من المسافة سبعة عشر مليار سنة ضوئية، وسرعة الضوء في الثانية الواحدة ثلاث مئة ألف كيلو متر، فالله تعالى هو الذي خلق هذا الكون الذي لا نهاية له ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء:85] وأنت ماذا تُشكِّل في هذا الكون؟ الله خلق هذا الكون كله.. وفي عِلم الفلك قالوا: إن الشموس والكواكب مثل الأرض والأقمار وغيرها سيأتيها يومٌ وتفنى، فتكون ﴿هَبَاءً مُنْبَثًّا﴾ [الواقعة:6]، ثم بعد ملايين السنين أو آلاف السنين يُعيدها الله كرَّةً أخرى.. وهذا علم الفلك في أوروبا وأمريكا، فمَن أنت يا صعلوك؟ أنتَ أخذتَ قطعةً مِن الورق، وقالوا لك: إنها شهادة، وربما لا تُسمِنُ ولا تُغنِي مِن جوع، وربما مَن يبيع الفول يأخذ راتبًا أكثر من راتبك بسبع أو ثمان مرات، [بائع الفول: بائع متجول في الطرقات، يبيع الفول على عربة للمارة، وهؤلاء البائعون منتشرون في دمشق كثيراً، وهم من أبسط الناس معيشة وثقافة، وربما يُضرَب بهم المثل بالمستوى المتدني] وربما تندم على أنك أخذتَ الدكتوراه، وستتمنَّى منزلته.. وأنت بهذه الحال تُنكِر الشيء المعقول المنطقيَّ، فلا ترجع إلى عقلك ليُحاكِم هذه الأمور، إنما مباشرةً تستجيب للأهواء وللتقليد ولشهوات النفس، لأنك لو آمنتَ بالآخرة وآمنتَ بالقيامة فإنك لن تستطيع بعدها أن تُخْرِجَ عجلَتك عن سكة الشريعة والاستقامة وصالح الأعمال والأخلاق، [تشبيه بعجلة القطار وسِكَّته] ومَن أطاع الهوى فكما قال الشاعر
إنَّ الهَوانَ هُوَ الهَوَى قُصِرَ اسْمُهُ فَإذَا هَوَيتَ فَقَدْ لَقِيتَ هَوَانا
يعني أنَّ كلمة “هواء” ممدودة، و”هوى”: مقصورة.. وما الهوى؟ هو أن يرغب في الأشياء، ويُقدِم عليها بلا تفكير ولا نظر في العواقب، وهذه هي الطفولة، فالطفل يرمي بنفسه إلى الجمر ولا يفكِّر، وليس عنده عقلٌ يملك التفكير، فالطفل يُقدِم على ما يَضُرُّه مِن غير أن ينظر في العواقب، أما إذا كان كبيرًا وأقدم على ما يَضُرُّه مِن غير أن ينظر في العواقب فهذا اسمه الهوى، فهؤلاء هم الرجال الأطفال أو الأمهات الأطفال، مهما كان أحدهم وزيرًا أو أميرًا.. فإن كان يقوده الهوى فهو طفل، أما مَن يقوده العقل -خاصة العقل الإلهي- فسيقوده إلى خيرَي الدنيا والآخرة.
قال: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ﴾ [الواقعة:57] هلَّا تُصدِّقون بالبعث؟ نحن بدأنا الخلق، أفلا تصدِّقون بأننا نستطيع الإعادة؟ وأنتم الآن هل صدَّقتم؟ وإذا صدَّقتم وآمنتم بالقيامة فهل يَقْدِر أحدكم أن يَكذِب أو يغتاب أو يشتم أو يسبُّ أو أن ينظر إلى الحرام؟ هذا كلُّه مسجَّلٌ في الفيديو الإلهي، وسيُعرَض عليك أمام الله عزَّ وجلَّ، وأمام رسول الله ﷺ، وقد ذَهَب المال والجاه والحُكم والسلطان، وهذا هو المصير الأبديُّ، ربما في الحياة الدنيا تفشل في دراستك أو في تجارتك أو في عملك، لكنك تُعوِّضه في مرةٍ أخرى أو في محاولةٍ أخرى، أما في الآخرة فإذا خسرتَ فهذه خسارة الأبد.. نسأل الله أن يجعلنا ممن يربح ربح الأبد.
الأدلة العقلية على قدرة الله تعالى:
أوَّل دليلٍ على القيامة هو: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ﴾.. والثاني: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ﴾ [الواقعة:58] هناك تحدَّث عن الإنشاء مِن العدم، وهنا قال: انظروا إلى المنيِّ ﴿أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ﴾ [الواقعة:59] هل أنتم تصنعون مِن المنيِّ ولدًا؟ ﴿أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾ [الواقعة:59] أنتَ كلُّ مهمَّتك أن تصبَّ الماء في موضع الزرع، فمَن الذي يُنتِج المنيَّ؟ ومَن صنع الخصيتين؟ ومَن صنع المبيض في المرأة واخترعه وأبدعه؟ مَن صنع الخصيتين؟ ومَن الذي صنع المنيَّ الذي يُخزَّن في الخصيتين في الحويصل المنوي؟ وعندما يندفع المنيُّ يتَّجه نحو البوق، ثم تأتي البويضة مِن البوق ليلتقيا فيتَّحدا ويتلقَّحا فيُشكِّلان خليةً واحدة، ثم تتطوَّر مِن طَورٍ إلى طَورٍ حتى يجعلك إنسانًا سويًّا، وبعدها تقول له: أنا خلقتُ نفسي بنفسي.. كما يذكرون أنَّ بدويًّا كان مقطوعًا في الحجِّ، وأشرف على الموت مِن العطش والجوع، فأنقذه شخص، ولَمَّا مَلَك قوَّته قال له: أنتَ صنعتَ معي معروفًا وأنقذتَني مِن الهلاك فكيف أكافئك؟ وليس معي مالٌ ولا غيره، ولكني سأقتلك لتدخل الجنة، وأدخل أنا النار، وهذا مِن باب: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ [الرحمن:60].
إن الله عزَّ وجلَّ هو الذي أكرمنا وخَلَقنا، وجعل فينا السمع والبصر، وبعث لنا التعاليم، ووضعنا في مدرسة الدنيا ومدرسة الإيمان حتى يُهيِّئنا لحياة الأبد ونعيم الأبد، ومع ذلك لا نصدِّقه.
﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ﴾ [الواقعة:57] “فلولا” أي: فهلَّا تُصدِّقون؟ ولمَ لا تُصدِّقون؟ وهذا دليلٌ ثانٍ إذ قال: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ﴾ [الواقعة:58]، فالدليل الأول على البعث هو بدء الخلق، ومَن يبدأ الخلق فإن الإعادة أهون عليه ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [النمل:27].
والدليل الثاني قوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ﴾ [الواقعة:58-59] هل أنتَ مَن يصنع لابنك مِن المنيِّ رأسًا وعيونًا وآذانًا ولسانًا وأمعاءً وقلبًا وكليتين؟ وهل أنتَ مَن يمدَّ الشرايين والأوردة والأعصاب أم صار هذا وحده؟ هذه المَسْبَحَة هل صُنِعت وحدها؟ وهذا الخيط الذي أصله مِن القطن هل صار وحده؟ يا سبحان الله! هذا كلُّه سببه إهمال العقل وتعطيله عن التفكير، ومِن أين يأتي الشقاء؟ مِن إهمال العقل عن التفكير.. والنبي ﷺ قال: ((إذَا أَرَدتَ شَيئًا فَتَدَبَّرْ عَاقِبَتَهُ، فَإنْ كَانَ رُشْدًا فَامْضِهِ)) فإذا كان يُوصلك إلى الخير، وترى العاقبة في عقلك وبصيرتك فأَقدِم ((وَإِنْ كَانَ غَيًّا فَانْتَهِ عَنْهُ)) ، وأما صاحب الهوى فليس عنده عقل ولا تفكير، فيهوي في الشقاء في الدنيا قَبل الدار الآخرة، والذي يعمل المعاصي ويترك الفرائض، والذي لا يُبالي بتهديد الله عزَّ وجلَّ إذا هدَّد فهذا ليس بمؤمن بالله، ولو صلَّى وصام فصلاته صورية، لأن الصلاة الحقيقية هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر: ((مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ تُزِدْهُ مِنْ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا)) ، والقرآن يقول: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون:4-5]، ساهون عن أوامر الصلاة ونواهيها، فلا إذا قرأ القرآن يعقل، ولا إذا صلى يعقل.. ﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ﴾ [الماعون:6] إذا أراد أن يفعل الخير يفعله ليراه الناس لا ليراه الله، وليرضى عنه الناس ويمدحونه لا ليرضى الله عنه ويثني عليه، ﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ [الماعون:7] يمنعون المساعدة عمَّن يستطيعون أن يساعدوه.
أصل الإنسان يوجب إيمانه وتواضعه لله تعالى:
﴿أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾ [الواقعة:59] إذا وضعوا لك النطفة [المني] على صدرك بدلاً من الوردة أَلَا تخجل منها أمام الناس؟ ولو وضعوها على وسط قميصك ألا تخجل منها؟ حتى لو وضعوها عند ركبتك أو في أيِّ مكانٍ على ثوبك، أو على حذائك أَلَا تخجل؟ لأنها تُصدِر رائحة.. فأنتَ كُنتَ في موضعٍ يُخجَل منك، فجعلك الله عزَّ وجلَّ في صدر المجالس، وأعطاك المال والغنى والوجود والرجولة، والأنوثة والأمومة والأبوَّة والمال الغنى والشمس والقمر والورد والجمال والقوت والطعام والشراب.. ألا تفكِّر بهذا كله؟ لو أعطاك أحدهم وردةً تقول له: شكرًا، وإذا قَدَّم لك زجاجة عطر فعليك أن تُكافئه، قال ﷺ: ((مَنْ أَسدَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ)) ، ومع كل هذه العطاءات الإلهية فبأيِّ شيءٍ شكرتَ الله عزَّ وجلَّ؟ واللهُ تعالى لا يحتاج إلى شكرك، وشكرُك مردوده إليك.. نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يرزقنا الفهم عن الله.
قال: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ﴾ [الواقعة:60] بعد المنيِّ وبعد الوجود تأتي مرحلة الموت، والموت للجسد، أما الروح فلا تموت.
وَلَو أَنَّا إذَا مُتنَا تُرِكنَا لَكَانَ الموتُ رَاحَةَ كُلِّ حَي
وَلَكِنَّا إذَا مُتنَا بُعِثنَا وَنُسأَلُ بَعدَ ذَا عَن كُلِّ شَي
قدرة الله تعالى تتجلى في الموت:
﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ [الواقعة:60] نحن لسنا عاجزين ﴿عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ﴾ [الواقعة:61] نُخرِج الجيل الثاني والثالث والرابع إلى ما شاء الله ﴿وَنُنْشِئَكُمْ﴾ [الواقعة:61] نخلقكم خلقًا جديدًا ﴿فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الواقعة:61] ننشئكم نشأةً لا تعرفوها، والنشأة الثانية هي النشأة الروحية ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى﴾ [الواقعة:62] فالذي قَدَرَ على النشأة الأولى هل يعجز عن النشأة الأخرى؟ ﴿وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الواقعة:61] مِن الصور ومِن الأشكال والجَمَال والقباحة، بيض الوجوه أو سود الوجوه، وأبشع الوجوه أو أجمل الوجوه، منوَّرة أو مظلمة، سوداء أو بيضاء.. نسأل الله أنْ يبيِّض وجوهنا يوم تبيضُّ الوجوه، كان عليه الصلاة والسلام يقول: ((واعَجَبًا كُلَّ الْعَجَبِ لِلْمُكَذِّبِ بِالنَّشْأَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ يَرَى النَّشأَةَ الأُولَى))، فالذي يرى الآن سيارة مِن صنع سنة ألفٍ وتسع مئة وخمسين أَلَا يُقَدِّر أنَّ مُخترِعها يستطيع أن يصنع أحسن منها أو مثلها؟ قال: ((واعَجَبًا كُلَّ الْعَجَبِ لِلْمُكَذِّبِ بِالنَّشْأَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ يَرَى النَّشأَةَ الأُولَى، وَوَاعَجَبًا لِلمُصَدِّقِ بِالنَّشأَةِ الأُخرَى)) ، يُصدِّق بالقيامة، ويؤمن باليوم الآخر، ويؤمن بالقيامة، ((وَهُو يَسعَى لِدَارِ الغُرُورِ)) كلُّ همه الدنيا والمال.. ولا مانعَ مِن ذلك، لكن يجب أن تكون الدنيا تبعًا للآخرة، ومرتبطةً بها في كل شيء تصنعه وتعمله، فإذا أردتَ أن تحبَّ فلله وللدار الآخرة، وإذا أردتَ أن تبغض وتصادق وتعادي وتبذل وتعمل فلله، وهكذا كان أصحاب رسول الله ﷺ، فماذا أعطاهم الله عزَّ وجلَّ في الدنيا؟ [أعزهم في الدنيا] وفي الآخرة: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة:17].. هذا كلُّه موقوفٌ على الارتباط القلبيِّ والروحيِّ بالمعلم المرشد المزكِّي الحكيم، وإذا لم تحصل على هذا الارتباط القلبي والروحي بالوارث المحمدي فمهما كان الرجل شابًّا لا يأتيه الولد لوحده، ومهما كانت المرأة شابَّة ومُنجِبة لا يأتيها الولد بلا زوج.
وسيدنا أبو بكر رضي الله عنه لولا النبي ﷺ هل يصير أبا بكر؟ وعمر رضي الله عنه هل صار بعقله ورجولته أم صار بصحبة رسول الله ﷺ ومحبته؟ تلك المحبة التي كانوا بها يحبونه أكثر مِن أولادهم وأموالهم وأهليهم وأرواحهم ونفوسهم التي بين جنبَيهم، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: ((لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا مَحَبَّةَ لَهُ)) كرَّرها ثلاث مرَّات ((لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا مَحَبَّةَ لَهُ، لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا مَحَبَّةَ لَهُ)) .. ((اللهم إنا نسألك حبَّك، وحبَّ مَن يُحبُّك، وحبَّ عملٍ صالحٍ يُقرِّبنا إلى حبِّك)) .
قصة رجل يرى صاحبه في المنام بعد موته ويخبره ما حدث معه:
قال: ﴿وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الواقعة:61] كيف يكون شكلك وصورتك وجمالك وقباحتك؟ وعند الموت كيف تأتيك الملائكة؟ المؤمن تأتيه بصورة أحبِّ مَن يُحبُّ، وبأجمل الصُّوَر وأحلاها.. يقال: تعاهد رجلان صاحبَان على أنَّ الذي يموت أولًا يأتي صاحبه في المنام، ويُخبِره ماذا حصل معه، فمات أحدهما، ورآه صاحبه بعد أيام، فقال له: قل لي ماذا رأيت؟ قال له: كنتُ في فِراشي متألِّمًا مالًّا مِن الحياة، وإذا بالجدار قد شُقَّ، وظهر لي جماعةٌ مِن أجمل ما يكون، وقالوا لي: ألا تريد أن تذهب إلى نزهة معنا؟ قلت لهم: ألا ترون ضعفي وعجزي؟ قالوا: لا عليك، قل: بسم الله، ومُدَّ يدك.. وبمجرد أنْ صافحوني صرتُ كالطائر، فأخذوني إلى رياضٍ وحدائقَ يعجز اللسان عن وصفها، والعقلُ عن تصوُّرها، وبعد مدة رأيتُ الجسد يُغسَّل على المغْتَسَل وأمي وزوجتي وأولادي يبكون، فقلت لهم: أنا ما متُّ، فقيل لي: إنهم لن يسمعوك، فإن تَردُّد صوتك غير تردُّدهم، فلمَّا صلُّوا عليّ صرتُ أسمع دعاء الذين يُصلُّون عليَّ، وأسمع كلُّ واحدٍ ماذا يدعو، وصرت أسمع كلام الناس الذين يُثنون بالخير والذين عكس ذلك، حتى أنزلوا الجسد في القبر، فلم أُحسَّ إلا بشيء كالمغناطيس يدخلني، وإذا بي أرى القبر مدَّ البصر.. لأن الروح لا تحجزها الأمور المادية، مثل الراديو الذي يصل إلى غواصةٍ في البحر، فتسمعه ضمن الفولاذ، وكذلك الروح تخرق الجدران والفولاذ والأرض والسماء ولا يحجزها شيء.. قال: لقد رأيتُ مِن الجمال والحدائق الغنَّاء، ومِن خرير الأنهار والثمار ومِن الورود الشيء الكثير، وبينما أنا بين الأشجار إذ رأيتُ نورًا يتلألأ، وإذ بها شابَّةٌ مِن أجمل ما خلق الله، وسمعتُ أذان الظهر، فشمَّرتُ لأتوضأ مِن أحد الأنهر القريبة، فغطَّيتُ عيوني وقلتُ: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ [النور:30]، فصارتْ تُقهقه، وأنا أشعر بأنَّ قلبي يرقص مِن قهقهتها فرحًا، فقلتٌ: أعوذ بالله، هذه امرأةٌ أجنبيةٌ، هذا حرام! وإذا بها تضع يدها على ذراعي، وقالت لي: ألم تفهم أين وصلتَ؟ أنا إحدى خادماتك في عالَم الروح، وقالت: لماذا تشمِّر؟ لقد انتهى وقت الوضوء، والآن وقت الجزاء والمكافأة والثواب.. هذا الذي رأيتُه بعد موتي.
يهودي مات وأخبر صديقه المسلم عما رأى:
ويقال: إن يهوديًّا ومسلمًا سافرا وتواعدا أن الذي يموت يحكي لصاحبه ما حصل معه، وكان المسلم يقول لليهوديِّ: هناك حسابٌ في القبر، وسيأتي الملكان منكر ونكير.. ومرة صعد اليهوديُّ شجرة التين، ووصل إلى غصن منخور، فسقط به غصن الشجرة، ووقع ومات، وفي هذه الليلة رآه صاحبه المسلم، فقال له: هاتِ حدثني عما رأيت، هل أتاك منكرٌ ونكير؟ فقال اليهوديُّ: ما رأيتُ أحدًا، ولا سألني أحد في القبر، قال: فماذا رأيت؟ قال له: “وقعت مِن أعلى الشجرة على رقبتي، إلى جهنم مباشرةً”.. نسأل الله تعالى أنْ يرزقنا الإيمان الذي يُوجِب العمل.
الإيمان الحقيقي والإيمان المزيَّف:
حين تسمع القرآن وتستمتع بالسماع فهذا إيمان المتمنِّين، أما إيمان المؤمنين فهو أنْ تقف عند حدود الله ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر:19]، ¬﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7-8]، ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [فاطر:38] فإذا كنتَ تُظهِر الحبَّ ومِن داخلك غشٌّ، وتُظهِر الأمانة ومِن داخلك خيانة، والوداد مَظْهَرًا والحقد باطنًا فهذه لا تخفى على الله.. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا حقيقة الإيمان.
مرة رأى النبي ﷺ أحد أصحابه وهو حارثة رضي الله عنه، فقال له: ((كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟)) قَالَ: “أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا يا رسول الله” .
هناك مؤمن حقيقي ومؤمن مزيَّف، ومؤمنة حقيقية ومؤمنة مزيَّفة، فلا تغترُّوا بالمسبحة والأنوار والكشوفات، حقيقة الكلام عند الأمر والنهي؛ عند أمر الله عزَّ وجلَّ إذا سارعتَ لامتثاله، وعند النهي إذا وقفتَ عند حدوده فلم تتجاوزها، والمسبحة والكشف والذكر لأجل هذه الغاية، ولأجل هذه النتيجة، أما إذا تجاوزت حدود الله وتعدَّيتها فإنك لو طِرْتَ بين السماء والأرض لا يزيدك هذا إلا غرورًا وبُعدًا عن الله عزَّ وجلَّ.
قال: إنا لقادرون ﴿عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ﴾ [الواقعة:61] وربما بعد خمسين سنة لن يبقى أحدٌ منا هنا، ﴿وَنُنْشِئَكُمْ﴾ [الواقعة:61] وربما هناك أناسٌ لا يبقون حتى غدٍ أو بعد غد أو بعد شهر، فهل نفكِّر بهذا الشيء؟ ((أَكثِرُوا مِن ذِكرِ الموتِ فَإنَّهُ مَا ذُكِرَ في قَلِيلٍ)) يعني مِن الأعمال الصالحة ((إلَّا كَثَّرَهُ، وَلَا كَثِيرٍ)) يعني من هموم الدنيا ((إلَّا قَلَّلَه)) .
الله يدعونا للتفكر والاعتبار:
﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى﴾ [الواقعة:62].. ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ﴾ [الواقعة:58] فلولا تذكَّرون! تَذكَّروا واستعملوا عقولكم بالتذكُّر والتفكُّر، ولا تكونوا كالبهائم بلا تذكُّرٍ ولا تفكُّرٍ، ومثل الذي لا يتذكر ولا يتفكر كما قال تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الفرقان:44] صورته صورة إنسان، وحقيقته حيوان، وليتَ صورته كانتَ حيوانًا.. مع أن الدواب ستُحاسَب يوم القيامة، فقد قال النبي ﷺ: ((يَقتَصُّ اللهُ يَومَ القِيامَةِ لِلشَّاةِ الجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ القَرنَاءِ فِيمَا انتَطَحَتَا)) يعني لماذا نطحتها؟ وكذلك إن عضَّ قطٌّ قطًّا بلا حقِّ ((ثُمَّ يُقَالُ: كُونَا تُرَابًا)) ، لذلك: ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ [النبأ:40] فإذا كانت الكلاب والقطط والخراف أمامها حساب، فأنتَ أيها الإنسان الذي أعطاك الله العقل، وكرَّمك على كل مخلوقاته على هذه الأرض ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ [المؤمنون:115-116] هذه هي المدرسة التي كوَّنت شخصية عمر رضي الله عنه، وهذه الشخصية التي صَنعتِ اليرموك والقادسية، وهذه هي التربية والمدرسة والثقافة التي جَعلتِ العرب يُوسِّعون حدودهم إلى الصين وفرنسا، والآن ما حال العرب لـمَّا صاروا أميين مِن هذه الثقافة، وعُطِّلت مدارس هذه العلوم والتربية؟ وما حال المسلمين مسلمي الاسم؟ ((لَا يَبقَى مِنَ الإسلَامِ إلَّا اسْمُهُ، وَلَا مِنَ القُرآنِ إلَّا رَسمُهُ)) ، ومع ذلك قال ﷺ: ((لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُم حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ)) .
أثر الإيمان في الصحابة الكرام:
ومن هذه النماذج عن هذه التربية حين استعمل سيدنا أبو بكر رضي الله عنه عمرَ رضي الله عنه قاضيًا يحكم بين الناس، فلبث سنتين ونيِّف مدة خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ولم يأته خصمان، فأيُّ مجتمع هذا؟ وأيُّ أمَّةٍ هذه؟ ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ﴾ [آل عمران:110]، فكانت دولةً إسلامية مَلَكتْ الجزيرة العربية، ولا يوجد فيها معتدٍ ولا مُعتدَى عليه، ولا ظالم ولا مظلوم، سبحان الله! هذه الحوادث إذا أراد أن يكتبها كاتب روائي خيالي لا يستطيع أن يتخيل مجتمعًا بهذا الشكل.. الفلاسفة اليونانيون تخيَّلوا المدينة الفاضلة، أما الإسلام فصنع العالَم الفاضل.. قال: فأتى إلى الصِدِّيق رضي الله عنه يستعفي ويطلب إعفاءه مِن القضاء، فقال له الصديق رضي الله عنه: لماذا؟ أمِن مشقَّة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟ قال: لا يا خليفة رسول الله ﷺ، قال: فلماذا؟ فقال: “ليس بي حاجة عند قوم مؤمنين”، المؤمنون لا يحتاجون إلى قاضٍ، “عرف كلٌّ منهم حقَّه فلم يطلب أكثر منه، وعرف واجبه فلم يقصِّر في أدائه، وأحبَّ كلٌّ منهم لأخيه ما يحبّه لنفسه”.. فهل جامعة السوربون تصنع تربية كهذه؟ وهل جامعة إكسفورد تصنع تربية كهذه؟ هل الجامعة الأمريكية تصنع مثلها؟ هل موسكو تصنع مثلها؟ هذا صنعه المسجد، لكن لـمَّا كان الإمام إمامًا، وكان القرآن أخلاقًا ونورًا وأعمالًا وإيمانًا.. قال: “إذا غاب أحدهم تفقَّدوه، وإذا مرض عادوه” ولماذا يعودونه؟ كي يساعدوه، فإن كان فقيرًا يعطونه، وإن كان لا يوجد عنده دواء يحضرونه، وما يحتاج مِن خدمات يعجز عنها يخدمونه، قال: “وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج أسعفوه، وإذا أُصيب بمصيبة” خسر مالَه، احترق دكانُه، غرقت بضاعتُه “واسوه” فالذي عنده زيادة يعطي غيره حتى يصيروا كلهم سواء، هل فعلتْ موسكو والشيوعية مثل هذا؟ هل استطاعتِ الاشتراكية في كلِّ بلدان العالَم أنْ تعمل هذا الشيء؟ كلهم كانوا أُميِّين، هل درسوا بفرنسا أم في إيطاليا ولندن وواشنطن؟ لا، بل درسوا في المسجد، لكن لَمَّا كان الإمام إمامًا! كان الإمامُ إمامَ المرسلين ﷺ، [وكان الإمامُ بعده وارثاً له ﷺ] والذين تربَّوا في ظلال وارث لرسول الله ﷺ كانوا مثل صلاح الدين الأيوبي، ونور الدين الشهيد، ومثل سلفنا الصالح.. يقول كرد علي في تاريخه “خطط الشام”: “في كل مئة سنة كانت كلُّ الأراضي الزراعية تصير أوقافًا على الخيرات وعلى العلم والفقراء”، فهل فعلتْ الاشتراكية مثل هذا؟ كان ذلك حبًّا وإيمانًا واختيارًا.
التكافل الاجتماعي في حياة المسلمين:
مرة كنتُ في منطقة العِمَارَة، زقاق النقيب، [العِمَارَة: حي من أحياء دمشق القديمة] وكان معي أحد الإخوان -توفِّي رحمه الله- وكان مِن كبار السنِّ، مررنا على مَسْطَبَةٍ مِن حجر منحوت، تشبه المحراب، [مَسْطَبَة: موضع على الأرض من حجر أو إسمنت أو غيرهما، وغالباً ما يكون مرتفعاً عن الأرض قليلاً، يكون عادة للجلوس عليه أو ما شابه] لكن على طول الشخص المتمدد أرضًا، قال لي: يا شيخي هل تعرف ما هذه؟ قلت له: ما هذه؟ قال لي: هذه في زماننا كانوا يقولون عنها: حبس الأموات، قلت له: وما هو حبس الأموات؟ هذا شيءٌ ما سمعته، قال: كان إذا مات شخصٌ في زماننا وعليه دَين لا يدفنونه، لأن النبي ﷺ يقول: ((الميتُ مَحبُوسَةٌ رُوحُهُ في دَينِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ)) .
فما هذا الضمان للحقوق؟ الآن إذا كان لأحدهم دَينٌ على آخر، وكان قد كَتبه عند كاتب العدل، وكتب فيه خمسيناً سَنَدَاً فهل يصل إلى حقِّه؟ بل تخرج روحه قبل أن يصل إلى حقِّه، [بمعنى أنه يموت بعد زمن بعيد ولا يستطيع أن يسترجع حقه] وهذا الميت لأنَّ روحه محبوسة لا يدفنه أهله، فكان يأتي أغنياء البلد إلى الحبس، وحبس الأموات موجود في كلِّ حيٍّ؛ في الشاغور والعقِيْبَة والميدان وحي الأكراد والصالحية.. [أسماء أحياء في دمشق] فيأتي الأغنياء- وكانوا أتقياء- يتراكضون ويتنافسون مَن الذي يسبق ليُنقِذ ميتًا مِن حبسه، ويدفعون ما عليه من دَين؛ عشرة آلاف أو مئة ألف أو نصف مليون.. نسأل الله تعالى أن يرحم حُبوسهم وسُجونهم وسجَّانيهم.. والأمر لا يحتاج إلى طوابع ولا إلى سندات، ولا أيّ شيء، فإن مات مفلساً فإن الحقّ يضمنه المجتمع، هذا هو الضمان الاجتماعي للأحياء والأموات! فأعتقوا الميت من سجنه، الذي لولاهم لبقي مسجوناً عن نعيمه في عالَم الروح، وأسعفوا الحيَّ وهو صاحب الدّين، وأرجعوا إليه حقه، فهل نحن المتقدِّمون أم هم؟ مَن هم الرجعيُّون؟ نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يُفهِّمنا ويجعلنا مِن بني آدم. [اللهم اجعلنا من بني آدم: استخدام “بَنِيْ آدم” هنا من اللهجة العامية السورية، والتي تعني إنساناً سوياً ذا عقل]
قال: “إذا مرض عادُوْه”، وليس معنى عادوه أن يصيروا أعداءه، بل مِن عيادة المريض، أي يطمَئِنُّون عنه، ويرون ما حاجاته ومتطلَّباته مِن دواء أو غذاء أو غيرها، [شرح سماحة الشيخ هنا لكلمة “عادُوه” بهذا الأسلوب البسيط، يشير بشكل غير مباشر إلى تنوع الحضور في دروسه رحمه الله تعالى، حيث كان فيه كل طبقات المجتمع، كباراً وصغاراً، ولم يكن مقتصراً على أهل العلم، ويشير أيضاً إلى أسلوبه الذي كان يتمتع به، حيث كان يشرح كل شيء، لذلك كان كلامه مفهوماً ومرغوباً من جميع الحضور في المسجد] “وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج أسعفوه، وإذا أصيب بمصيبة واسَوْه، دِينهم النصيحة”، فإذا رأى أحدهم أخاه يفعل الخطأ ينصحه، فالنصيحة لله ولرسوله ولعامة المسلمين وخاصتهم.. المسلمون الآن لا يفهمون شيئًا، إنْ رأى أحدهم شخصًا قد وقع في الخطأ يزيده خطأ على خطأ، وإذا واقع في غضب الله يزيده غضبًا على غضب، وإن كان ملعونًا يزيده لعنة على لعنة، فنحن كفَّارٌ بالإسلام ومرتدون عن الإسلام، ولو صلينا! فهذه صلاة المنافقين لا صلاة المؤمنين، لأن صلاة المؤمنين تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، وكما يقول الله في الحديث القدسيِّ: ((لَيْسَ كُلُّ مُصَلٍّ يُصَلِّي، إِنَّمَا أَتَقَبَّلُ الصَّلَاةَ مِمَّن تَواضَعَ بهَا لِعَظَمَتِي، وَكَفَّ شَهَوَاتِهِ عَن مَحَارِمِي، وَلَم يُصِرَّ عَلى مَعصِيَتِي)) فإذا كنتَ مُصرًّا على معصية الله ومحارم الله فالله تعالى يقول لك: ((إِنَّمَا أَتَقَبَّلُ الصَّلَاةَ مِمَّن تَواضَعَ بهَا لِعَظَمَتِي)) لأوامر الله ((وَلَم يُصِرَّ عَلى مَعصِيَتِي)) ، وهل يكون النجار بلا معلِّم نجارة؟ وبلا معلم حدادة لا أحد يكون حدادًا؟ وبلا طباخ هل يمكن أن نصنع “الكبَّة” [طعام مشهور في بلاد الشام]؟ بالكلام نقول: أحضر البرغل واللحم والجوز واخلطهم، واعجنهم بيدك هكذا.. لكن هل يمكن أن تصنع قرصًا واحدًا؟ الكلام سهلٌ، لكن الفعل هو المطلوب، نسأل الله تعالى أن يوفِّقنا للفهم والعمل.
قال: “دِينهم النصيحة، وخُلقهم الأمر بالمعروف”، فإذا رأوا أحدهم قد ترك واجبًا نحو الله أو نحو جاره أو أجيره أو الضعيف أو الأب أو الأم أو الأخ أمروه بالمعروف، قال: “دِينهم النصيحة”، والآن دِينهم الغشّ، فإذا رأى غيره غارقًا يزيده غرقًا، وإن رآه عاصيًا يُجرِّئه على زيادة المعصية، وإذا رآه مرتكب حرامٍ يُشجِّعه على فِعل الحرام، فهل هذا إسلام؟! وهل هذا إيمان؟! هذا إيمان المنافق، هذا إيمانُ ميتِ القلب، وهذا إيمان الأمِّيِّ في القرآن، الذي لا يفهم شيئًا مِن الإسلام، حتى لو صلَّى وصام وحجَّ.. “دِينهم النصيحة، وخُلُقُهم الأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر”، إذا رأى شخصًا يفعل شيئًا يُنكِره الدِّين ويُنكِره الله ورسوله ﷺ عليه أنْ ينهاه، وإذا لم يَنهَه فهو كاذبٌ، والله تعالى وصف المؤمنين فقال: ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [التوبة:71]، هذا هو التضامن الأَمنيُّ.. والمجتمع بهذه الأخلاق لا حاجةَ له للدولة ولا للشرطة ولا للسجن ولا للمحاكم.. قال له: “ففيم يتخاصمون؟” أي باعتبار أنهم لا يتخاصمون فلا عملَ لي عندهم.
تخيل دولةً بلا قضاء ولا قاضٍ ولا محكمة ولا سجن ولا شرطة! هل هناك دولةٌ في العالَم مِن تاريخ آدم إلى الآن مِثل دولة الإسلام والقرآن؟ وقد كانوا أُميِّين بالكتابة على الورق، لكنهم ما كانوا أُميِّين في الأعمال، وما كانوا أُميِّين في التفكير، ولم يكونوا أُميِّين في القلوب، نسأل الله أن يجعلنا منهم ويجعلهم قدوتَنا وأئمتَنا.
من الأدلة قدرة الله تعالى في الشجر والماء والنار:
﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ﴾ [الواقعة:63] هذه كلُّها أدلةٌ عقلية على القيامة والواقعة، أول دليل: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ﴾ [الواقعة:57] فالذي خلقكم أَلَا يقدر أن يُعيدكم؟ والثاني: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ﴾ [الواقعة:58] فالذي يجعل مِن المنيِّ وزيرًا وأميرًا وملكًا ورئيسًا وضابطًا ومخترعًا أَلَا يقدر أن يُعيده مرةً ثانية وثالثة بعد الموت؟ ثم: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ﴾ [الواقعة:63] أنتَ تحرث وتضع البذرة وتسقيها بالماء، لكن هل تستطيع أن تفلق بذرة المشمش وتُخرِج منها شجرةً يكون فيها الجذر إلى الأسفل والأغصان والأوراق والأزهار والثمار إلى الأعلى؟ فمَن صنع هذا الصنع؟ البذرة في الأرض ربما تفنى ويفنى وجودها، وهل تبقى بذرةً؟ بل تتحول إلى شجرة، هذا: ﴿وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الواقعة:61]. سبحان الله! هل هناك أحلى مِن مدرسة القرآن؟ لكننا هل نقرأ القرآن بهذا التفهُّم؟ ثم إذا لم يكن القلب فيه نورٌ وذكرٌ ورابطةٌ ترتبط بها بأولياء الله وأحباب الله أبلغ مِن ارتباط الرضيع بثدي أمِّه، وإذا ما أحببتَ الشيخ هذا الحبَّ [فلن تستفيد شيئَاً].
قال رسول الله ﷺ متحدثاً عن أبي بكر رضي الله عنه: ((مَا سَبَقَكُمْ أَبو بَكرٍ بِكَثرَةِ صَلَاةٍ وَلَا صِيامٍ، وَلَكِنْ بِشَيءٍ وَقَرَ في قَلبِهِ)) ، فقد كان حبُّه لرسول الله ﷺ أكثر من حُبِّه للحياة وللأب والأم والمال والزوجة ولكل شيء.. ومرة أراد سيدنا عمر رضي الله عنه أنْ يُسابق سيدنا أبا بكر رضي الله عنه، فقال: أبو بكر في كلِّ ميدانٍ يسبق، وأنا أريد أن أسبقه الآن، وقد دعاهم النبي ﷺ مرة إلى إنفاق المال، فأتى سيدنا أبو بكر رضي الله عنه بكلِّ ماله، وسيدنا عمر رضي الله عنه بنصف ماله، فسألهم النبي ﷺ أمام بعضهما، فقال لأبي بكر رضي الله عنه: ((مَا تَرَكتَ لِنَفسِكَ وَأَهلِكَ يَا أَبا بَكرٍ؟)) قال: “تركتُ لهم الله ورسوله”، ((وأَنتَ يا عُمرُ؟)) قال: “نصف مالي”، قال: ((ما بَينَكُما في المنزِلَةِ وَالمرتَبَةِ عِندَ اللهِ كَما بَينَ كَلِمَتَيكُما))، فقال عمر رضي الله عنه: “فعلمتُ أني لا أستطيع أن أُسابق أبا بكر رضي الله عنه” . قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ﴾ [الواقعة:10] السابقون بالأعمال الصالحة هم السابقون في علوِّ المنزلة وعلوِّ الدرجة، نسأل الله أن يجعلنا منهم، مِن السابقين إلى الخيرات، لا إلى الشرور والآثام ومقت الله عزَّ وجلَّ وغضبه.
﴿أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ﴾ [الواقعة:64] هل أنت مَن يفلق الحب والنوى ويُنبِت السنابل؟ هل أنت مَن يفلق بذرة المشمش ويُخرِج منها شجرةً وخشبًا وورقًا؟ أنت تحرث فقط، ومَن أعطاك قوة الحراثة؟ ومَن أعطاك قابلية الأرض للإنبات والزراعة؟ كلُّه منه سبحانه، هذه الأشياء مُلكه، وأنت تظنُّ أن هذا مُلكك الذاتي، والحقُّ أنها كلها مواهب الله عزَّ وجلَّ، فنسأل الله أن يجعلنا مِن العارفين الشاكرين.
﴿لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا﴾ [الواقعة:65] إذا خرج الزرع، وأتى السقيع، أو تأخَّرتِ الأمطار ييبس الزرع، ثم يتحطم، ثم يَذُرُّه الهواء، فيقول لك الله تعالى: نحن ما فعلنا هكذا، بل تركناه لكم حتى يتم نضجه وإنتاجه ﴿لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا﴾ [الواقعة:65] ولو صار حطامًا ماذا يحدث معكم؟ قال: ﴿فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ﴾ [الواقعة:65] تندمون وتتعذَّبون وتتألَّمون، وتقولون: ﴿إِنَّا لَمُغْرَمُونَ﴾ [الواقعة:66] ذهب كل الذي صرفناه مِن المال سدًى ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ﴾ [الواقعة:67-69] مِن السحاب ﴿أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا﴾ [الواقعة:69-70] مالحًا مرًّا، لأنه مِن ماء البحر، فمَن الذي صفَّاه؟ ﴿فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ﴾ [الواقعة:70] اللهَ عزَّ وجلَّ هو القادر على أنْ يحوِّل المياه المالحة إلى ماءٍ عذبٍ فرات، وهو بقدرته يجعل مِن الماء أو النطفة إنسانًا سويًّا.
ثم قال: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ﴾ [الواقعة:71] تُشعِلونها ﴿أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ﴾ [الواقعة:72]. ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُون (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ [يس:80-81]، ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ77) ) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ [يس:77-78] بعض كفَّار قريش أحضر عظمًا منخورًا، وفركها أمام النبي ﷺ ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس:78] فأجابه الله تعالى: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس:79].
قراءة القرآن الكريم القراءة الحقيقية:
إن سورة الواقعة وآخر سورة ياسين ونصف القرآن : ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ [الزلزلة:1] تتحدَّث عن يوم القيامة، فهل المسلمون حين يقرؤون القرآن يفهمونه كما يقرأ أحدهم جريدةً ويفهم كلَّ شيء فيها؟ وإذا سمعتَ أنه سيتم توزيع مادة السكَّر بسعرٍ مخفَّض، وكل شخص يأخذ عشرة كيلو، والموعد في الساعة العاشرة، فهل تجد أحدًا نائمًا في بيته، أو عنده ضيوف وخجل أنْ يتركهم؟ إنما يقول: إن لم آخذههم فستفوتني هذه الكمية.. هل يستحي أو يخجل من أحد؟ فهل نفهم كلام الله كما نفهم هذا الأمر؟ وإن كان الشرطيُّ واقفًا في الشارع فهل يجرأ أحد على المخالفة؟ فكيف إنْ كان معك شرطيَّين مِن عند الله ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18] فهل نحن مؤمنون؟ مرة سأل النبي ﷺ حارثة رضي الله عنه: ((كَيفَ أَصبَحتَ؟)) قال: “مؤمنًا حقًّا”، قال له: ((مَا حَقِيقَةُ إيمانِكَ؟)) قال: “أصبحتُ أنظر إلى ربي في عرشه”، فإذا رأى أحدٌ أنَّ الله عزَّ وجلَّ يراه فهل يقدر على معصيته؟ الإنسان لا يقدر أن يعصي ويفعل شيئًا معيبًا أمام طفلٍ صغير، فكيف أمام الله عزَّ وجلَّ الذي هو معك أينما كنتَ؟ فهل أنت مؤمنٌ بالله؟ هذا هو الإيمان.. هل أنت مؤمن بالآخرة؟ هذا هو الإيمان بالآخرة.. وإذا لم تكن فيك هذه النتائج والثمرات فاذهب وجدِّد إسلامك، ولا تترك الشيطان يضحك عليك.
“وكأني أنظر إلى أهل الجنة في نعيمهم يتنعمون، وإلى أهل النار في جهنم يتعذَّبون”، فقال عليه الصلاة والسلام: ((عَرَفتَ فَالزَمْ، عَبدٌ نَوَّرَ اللهُ قَلبَهُ بِالإيمَانِ)) ، هذا هو الإيمان الحقُّ، أما الإيمان المزيَّف فكما لو أنك تسلَّمتَ شيكًا مزيَّفًا فيه مليون دولار، هل هو أفضل أم الحقيقي الذي فيه عشر دولارات فقط؟ فكيف إذا كان الحقيقي بمليون دولار، والمزيف بعشرة دولارات، وأخذتَ المزيَّف الحقير، وتركتَ الحقيقيَّ ذا المبلغ الكبير فهل تكون عاقلًا أم مجنونًا؟ هل يستطيع العاقل منكم أن يرفع أصبعه؟ العاقل عن الله، والعاقلٌ عن القرآن، والعاقل بالتقوى، واللهِ العظيم إن الذي يتقي الله عزَّ وجلَّ حقَّ التقوى يرفعه الله ويُغنِيه ويُعزِّه ويعطيه المجد، لكن عليه أن يتقي الله في كلِّ الشؤون ظاهرًا وباطنًا، سرًّا وعلنًا، وفي نفسه وفكره وخلوته وجلوته وغربته وفي وطنه وأمام الناس.
تزكية النفس وتهذيبها:
وقد ورد في الحديث النبوي قوله عليه الصلاة والسلام: ((طَعِمَ طَعَمَ الإيمانِ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ))، قيل: يَا رَسُول اللَّه مَا تَزْكِيَة الْمَرْء نَفْسه؟ قال: ((يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ)) ، فإذا كان الله معك هل تخرج منك كلمة سوء؟ هل تنظر نظرة خائنة أو تضرب ضرب ظالمٍ أو جائر؟ هل تمنع حقًّا مِن حقوق الله تعالى؟ هل تقصر في فرضٍ مِن فرائض الله عزَّ وجلَّ؟ حتى لو أنَّ الناس كلَّهم غضبوا وكنت تكسب رضاء الله هل تبالي بهم؟ فنسأل الله أن يرزقنا تزكية النفس ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ [الأعلى:14]، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ [الشمس:9]، قيل: يَا رَسُول اللَّه مَا تَزْكِيَة الْمَرْء نَفْسه؟ قال: ((يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ)).. هل تخالف وتجتاز الإشارة الحمراء إذا كنتَ ترى الشرطي؟ فهل الشرطيُّ أعظم في نفسك مِن الله؟ والله معك، قيل: يَا رَسُول اللَّه مَا تَزْكِيَة الْمَرْء نَفْسه؟ قال: ((يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ)).
وقال رجلٌ: “يا رسول الله زودني حكمة أعيشُ” طوال حياتي أعيش بها، فقال له: ((استَحِ مِنَ اللهِ كَما تَستَحيِي رَجُلًا مِن صَالِحِ عَشِيرَتِكَ لَا يُفارِقُكَ)) .
هذه النِّعَم والأدلة للتفكر فيها:
﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ﴾ [الواقعة:70] كان عليه الصلاة والسلام إذا شَرِبَ الْمَاء يقول: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَقَانَا إيَّاهُ عَذْبًا فُرَاتًا بِرَحْمَتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِلْحًا أُجَاجًا بِذُنُوبِنَا)) .
﴿لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً﴾ [الواقعة:73]، هذه الأمثلة لتتذكَّر البعث، وتتذكَّر الله الذي يخلق الإنسان من المنيِّ، ويَخلق الشجر والنبات مِن البذر، ويخرج العذب الفرات من الماء المالح، ويخلق النار من الشجر الأخضر، فهذه الأمثلة ﴿جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا﴾ [الواقعة:73]، فالنار مِن الشجر متاع ﴿لِلْمُقْوِينَ﴾ [الواقعة:73] يعني للمسافرين، فالمسافر يحتاج إلى النار لطبخه أو للدفء في يوم برده ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ [الواقعة:74] “سبِّح”: أي نزِّه اسم ربك عن كلِّ نقصٍ، فإذا كنتَ تفعل معصيته وأنت تظن أنه لا يراك فهل هذا تنزيه لله أم تحقير؟ وعدم المبالاة بالله هل هو تعظيمٌ أم عكس التعظيم؟ قال: فنزِّه ربَّك واسم ربك وأَمْرِه، وقدِّس شرعه، وقِف عند حدوده، وإلى آخر الآيات.. ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ [الواقعة:75].
هذا القرآن كانوا يقرؤونه إيمانًا وتمعُّنًا وتفهُّمًا، فكانت روحهم الطيبة، ونفوسهم المزكَّاة تهضمها وتُحيلها إلى أعمال وأخلاق وسلوك ومجتمع ملائكي، حتى ما احتاجوا إلى قاضٍ ولا إلى سجون ولا إلى شرطة ولا ظالم ولا مظلوم، فهم متراحِمون متحابُّون كالجسد الواحد.
اللهم ردَّنا والمسلمين جميعًا وعبادَك كلَّهم إلى دِينك القويم وصراطك المستقيم ردًّا جميلًا يا أرحم الراحمين.