الحياة بعد الموت:
نحن الآن في تفسير ما تبقى من سورة الواقعة.. إن سورة الواقعة وما يقارب مِن نصف القرآن يدور حول إثبات استمرار الحياة للإنسان، وأنه لا موتَ ولا انعدام لشخصية الإنسان، فقد كان مزروعًا في حوض جسده، حتى إذا بلغ أشده، وأنبت الزرع وظهرت السنابل انتقلت الحبوب الجديدة إلى أرضٍ جديدة، فبعد أن كان قمحةً صار سبع مئة قمحة، وهذه بشرى للإنسان لئلَّا يخاف مِن الموت، معتقداً أن الموت انعدامٌ لشخصيته، وفقدٌ لملذَّاته ومسرَّاته.. فأتى الدِّين بِطَاقةٍ لا يملكها الإنسان، وانطلق به ليخترق أسوار الغيب، فأمدَّه الله عزَّ وجلَّ بروح القدس جبريل عليه السَّلام عن طريق أشرف بني آدم ﷺ ليُعلِمه بالحياة الكبرى، وباستمرار الحياة، وأنه مهيَّأٌ ليُنقَل إلى حياةٍ أسعد وأشرف وأكرم.. وإن الفرق بين هذه الحياة وبين حياته في جسده -في هذه العلبة الصغيرة التي هي الجسد- كالفرق بين البحر ونقطةٍ منه، فالحياة بعد مفارقة الجسد بحرٌ، والحياة في الجسد نقطة، كما يقول نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما شبهت خروج المؤمن من الدنيا إلى الآخرة إلا مثل خروج الصبي من بطن أمه من ذلك الغم والظلمة إلى روح الدنيا)) ، ذَلِكَ عَالَم فَسِيح لَا حُدُودَ لَه، وعَرضُهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ، أما سماواتنا فمحدودة، وهناك مجرَّات وسماوات، وكل كوكب له سماء، فإذا كان بالنسبة لنا عرضه عرض مجرَّتنا لكن الطول لا يعلمه إلا خالقُ السماوات والأرض وفاطرُها.
إن الإيمان يجعل هذه الآيات ثابتةً في جذور القلب والروح والنفس، كما أن البذرة عندما تُوضع في باطن الأرض، وتُسقى سقايتها يصير أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء.. والإيمان يظهر بهذه الحياة في الفكر للتهيُّؤ لتلك الحياة وللاستعداد لها، وليكون ناجحًا في تلك الحياة، والإيمان بتلك الحياة يخفف عن الإنسان أعباء الدنيا وأعباء الحياة على هذا الكوكب من هموم وأحزان ومتاعب وكل ما يخاف منه الإنسان، مثل المرض والموت.. والمؤمنُ -مؤمنُ القلب- لا يخاف مِن الموت، لأن الموت أشهى شيءٍ عنده.
ففي سورة الرحمن قال الله تعالى: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ﴾ [الرحمن:31] فذكَّرنا بالحساب، وذكَّرنا بحال الإنسان المجرم الشقي الخاسر: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ﴾ [الرحمن:41] فهناك أناسٌ يُسحبونهم يوم القيامة إلى جهنم مِن شعر رؤوسهم، وأناس يُسحبونهم مِن أرجلهم، ثم قال: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن:46] ذَكَر المفسِّرون في تأويل هذه الآية أنه ورد حديثٌ في الجنتين، ولكن لا يمنع في التأويل أنْ يكون للمؤمن جنةٌ في الدنيا وجنةٌ في الآخرة، والتأويل هو الشرح بمقتضى مدلولات اللغة.. قال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾ [النحل:30]، ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ [البقرة:201]، ﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [الكهف:39].
إيمان الفكر والعلم والقلب:
والمسلم يؤمن بالقرآن بعد علمٍ، وهو العلم الفكري والعلم بالقلب.. والعلم الفكري قد ينهزم أمام الشهوات والأنانية والنفس الأمَّارة بالسوء، قال تعالى: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُم﴾ [البقرة:146]، وهذه هي المعرفة الفكرية، ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الجاثية:23] فالعلم لم يحمِه مِن الضلال، ﴿فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ [الجاثية:17].. ((اللهم إني أعوذ بك مِنْ عِلمٍ لا ينفع)) ، أما عِلم القلب فهو الذي يُذيب الأنا والمصلحة وأمور الدنيا، فلا يبقى لها وجود، ولا يبقى في القلب إلا “إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي”، وهذا يحتاج إلى المزكي والمربي، وإلى أن ترتبِط به ارتباطَ الروح بالجسد والجسد بالروح، وبم يكون هذا الرباط؟ بالحب: ((لا إيمانَ لِمَنْ لا مَحَبَّةَ لَهُ)) ، كررها النبي ﷺ ثلاث مرات، ويكون أيضًا بأنْ يكون الله ورسوله أحبَّ إليك مما سواهما.. وقد ذهب النبي ﷺ إلى عالم الخلود، وأناب عنه وارثين مِن بعده، فهل لك هذه الرابطة بهذا الوارث والنائب والوكيل؟ فإذا صار لك هذا الارتباط تحيى، كما إذا ارتبط الجسد بالروح صار الجسد حيًّا وناطقًا وسميعًا وبصيرًا وعاقلًا ومفكِّرًا، وإذا ما صار هذا الارتباط، وكان الجسد في مكان والروح في مكان فلا تحصل فائدة لا مِن الروح ولا مِن الجسد.
خريطة الله تعالى للمسلمين للنجاح:
فالقيامة أو الحياة المستمرة الخالدة تحوي من النعيم والسعادة والسرور ما يعجز العقل والفكر عن تصوره: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة:17]، ((أَعدَدتُ لِعِبادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَينٌ رَأتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)) ، فكم هو غبي ذلك الإنسان الذي يجهل هذه الحقائق التي نزل بها الروح الأمين جبريل عليه السَّلام مِن ربِّ العالَمين على قلب أفضل مَن مشى على وجه الأرض! فكيف ترفض هديَّة الله عزَّ وجلَّ وهدايته ورسالته وخريطة سعادتك في الدنيا والآخرة؟ إنَّ العرب لَمَّا فقهوا وصاروا فقهاء بهذه المعاني -وكانوا أبناء الصحراء- أُوْتُوا ليس جنة بل جنات في الدنيا، وهم بانتظار جنات الخلود والأبد.. فانظر إلامَ أوصل الإسلام العرب والمسلمين مِن عظمة وتاريخ وتوسع جغرافي ولغة! حتى وصلت لغة العرب إلى إندونيسيا وأمريكا، وصارت لغة عالمية، ولولا الإسلام لَمُزِّقت اللغة العربية كما مُزِّقت اللغة اللاتينية، فما أعظم خسارة المسلمين إذا بقوا على إسلام الاسم دون الحقيقة! ((لا يَبقَى مِنَ الإسلَامِ إلَّا اسمُهُ، وَلَا مِنَ القُرآنِ إلَّا رَسمُهُ)) .
فهذا القرآن قد تقرؤونه وتجيدون النطق بألفاظه وتقرؤون تفسيره، ولكن لن تسفيدوا إذا لم يكن لكم نفسٌ مزكَّاة وقلب نيِّر بنور الله، وهذا لا يكون إلا بالوارث الذي يعلِّمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم نيابةً عن رسول الله ﷺ.
وهذه سورة الواقعة كلُّها في القيامة، وكلنا نقرؤها، فهل انطبعتْ فيك هذه المعاني حتى خضعتْ لها الأعضاء والنفس والجوارح والمشاعر وصارت الآخرة نُصْبَ عينيك فطمعت في جنتها وخشيت جحيمها ووقفت عند حدود الله فلم تتعدَّاها؟ هذا هو الإسلام وهذا هو القرآن وهذا هو العلم والدرس والتعلُّم.. فنسأل الله تعالى أن يجعلنا أهلًا لذلك.
تلخيص ما سبق من تفسير سورة الواقعة:
لقد ذكر الله أصناف الناس يوم القيامة: ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [الواقعة:7-11] فهل تفكرون مِن أيِّ صنف مِن الأصناف الثلاثة أنتم؟ “أبو غنيم” هل تفكِّر؟ [يرد الشيخ أبو غنيم فيقول: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾ [الواقعة:10]، فيرد عليه سماحة الشيخ بقوله:] عمرك خمسة وثمانون سنة فكيف ستسبق؟ هذا هو الإيمان! أبو غنيم صاحب قلب، وصاحب قلب مميَّز، لذلك يقول هذا لا عن تمنٍ ولا عن جهل، بل إنَّ ما أكرمه الله تعالى به مِن صِلَته بالشيخ -واللهِ- أغلا مِن الدنيا بما فيها.. فهل أنتَ مِن السابقين؟ هؤلاء: ﴿وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ﴾ [الواقعة:41] أم إنك مِن أصحاب اليمين؟ السابقون هم أصحاب القلوب الذين صارت قلوبهم نورًا مِن أنوار الله، فَسَرى نور الله في روحهم ونفوسهم وأعضائهم، فلا ترى جارحةً من جوارحهم إلا حيث يحبه الله تعالى ويرضى.. وهناك أيضًا أصحاب المشأمة، فهل فكَّرت مِن أي صنف ستكون يوم القيامة؟ هل أمَّنْتَ؟ [هل جهزت نفسك بشكل كامل؟] إنك إذا أردتَ أن تُسافر تتأكَّد مِن كلِّ دائرة وكل ختم وكل موافَقة، وتجهِّز كل شيء، وإذا أردت أخذ ملابس فتجهِّز كل شيء، وهذا لسفر قصير؛ مِن هنا إلى بيروت أو إلى حلب أو إلى الحج.. فكيف بسفر ليس منه رجوع، ويتوقَّف عليه شقاؤقك الأبدي أو نعيمك الأبدي! هل تفكِّر بهذا؟ هل يجب أن يكون تفكيرنا بالآخرة أكثر أم بالدنيا؟ وهل يكون أكثر بالثقافة وبالشهادة وبرأس المال وبالتجارة وبالبيت وبالزوجة وبالأولاد أم بالدار الآخرة؟ التفكير بالآخرة هو أهم، لكن مع الأخذ بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص:77].
الأدلة العقلية على البعث:
وبعد ذلك ذكر الله الأدلة العقلية بعد الوحي والإيمان: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ﴾ [الواقعة:58]، ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ﴾ [الواقعة:63]، ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ﴾ [الواقعة:68]، ﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ﴾ [الواقعة:71] هذه كلُّها أدلَّةٌ عقليةٌ تعني إنك حتى لو صرتَ عدمًا، فإن الله تعالى يستطيع أن يخلقك ويجعلك في الوجود مرةً أخرى، كما أن النطفة تنقلب إلى إنسان، والبذرة تنقلب إلى شجرة، والماء المالح يُنقَل مِن البحار عبر طائرات السحاب [الغيوم]، ويصفَّى مِن أملاحه، ويَنزِل عذبًا فراتًا، وكما أن النار مِن الشجر الأخضر الذي ينقلب مِن جوهر إلى جوهر، ومِن مظهر إلى مظهر، أيضًا: ﴿وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الواقعة:61] فهذه كلها أدلَّة عقلية ومحاكمة فكرية، والحقائق الأُولى التي قَبل هذه الآيات كانت حقائق إيمانية، فإذا رُزق الإنسان القلب فإنه لا يحتاج إلى أدلَّة العقل، والقرآن أتى بدليل العقل، ودعا إلى إعداد القلب الذي هو العقل الرباني، والفكر الروحاني، بحيث يُؤْمِن بمجرد أن يسمع، فلا يحتاج إلى مجادلة ومناقشة.. ((أَصْبَحْتُ وَكَأَنِّي بعَرْشِ رَبِّي بَارِزًا)) أنظر إلى الله في عرشه، فهل يحتاج إلى الدليل على وجود الله وهو يراه؟ كما أنكم لا تحتاجون إلى دليل على وجودي هنا، لماذا؟ لأنكم ترونني بأعينكم.
وَلَيسَ يَصحُّ في الأَذهانِ شَيءٌ إذا احتَاجَ النَّهارُ إلى دَلَيلِ
لقد ذكر الأدلة العقلية، والشواهد الإيمانية الغيبية، وكان خطاب القرآن أولاً لأعظم طوائف الإنسان تخلَّفًا علميًّا وعقليًّا، فمنهم مَن كان يعبد حجرًا، ومنهم مَن يعبد صخرة، ومنهم مَن يعبد الجن، وقد انتشرت بينهم الخرافات والجهل والتخلٌّف والأُمِّيَّة والفقر والعدوات والتمزُّق، فأتى القرآن وفي عشرين سنة -وبلا أي وسيلة مِن الوسائل العلمية أو المالية أو السياسية- بنى أعظم أُمَّة وأقوى دولة وأعظم فلسفة، ووحَّد الجزيرة العربية، وملأها أمنًا وأمانًا، حتى كانت المرأة تمشي في الصحراء ألف كيلو متر لا تخاف أحدًا إلا الله والذئب، فالإنسان لم يَعُد يخيف ولا يُرْعِب، أما في عصرنا فهل الخوف مِن الثعابين أو مِن الذئاب أو مِن الضباع أو الأسود؟ لا أحد يخاف اليوم من هذه الحيوانات، بل صارت الضباع والسباع تخاف مِن الإنسان، لأنه وحش أكبر منها، إذن مَن الذي يُخيف ويُفزِع الآن؟ إنه الإنسان، فالإنسان اليوم لا يخاف إلَّا مِن الإنسان، يوجد بيتين بهذا المعنى
شَرُّ الوُحُوشِ الضَّوارِي دُونَها وَزَرُ وَالنَّاسُ شَرُّهُمُ ما دُونَهُ وَزَرُ
كَم مَعشَرٍ سَلِمُوا لَم يُؤذِهِمْ سَبُعٌ وَلَم نَرَ بَشَرًا لَم يُؤذِهِ بَشَرُ
“الضواري”: المفترسة، “الوَزَر”: الملجأ والحصن الذي تتحصَّن به مِن السبع أو الضبع وما شابه، فقد تدخل إلى بيتك وتغلق عليك الباب، أو تدخل سيارتك وتقفلها فلا يستطيع الضبع أن يفعل شيئًا، أو إذا معك بندقية أو سلاح تتخلص منه.
شر السباع الضواري وأشدُّها فتكًا في الإنسان يمكنك أن تتخلص منها، وقد تَخَلَّص الإنسان منها، “والناس شرهم ما دونه وزر”: شر بني آدم لا يوجد شيء يحميك مِنه.. نسأل الله العافية، لقد وصل الإنسان إلى درجة أنه وهو في المشرق وأنت في المغرب يهجم عليك بِنابِهِ ويعضك، أو بأظافره يقفز مِن مشرق الأرض إلى مغربها، بينما الضبع والسبع والذئب كم تبلغ قفزته؟ مترًا أو مترين، وكم طول نابه؟ ربما سنتمتر أو اثنين أو ثلاثة، لكن الإنسان بِعَضَّةٍ واحدة، كما حدث في اليابان بالقنبلة الذرية، والتي تُعدُّ لعبةً بالنسبة للموجود الآن، قتلوا بها مئتي ألف إنسان، عدا الذين صاروا معوقين ومشلولين ومصابين بأمراض يعذَّبون بها طول الحياة، فهل هذا إنسان؟
“شُرُّ السباع الضواري دونها وزر”: ما الوزر؟ ﴿كَلَّا لَا وَزَرَ﴾ [القيامة:11] يعني لا ملجأ، “والناس شرهم ما دونه وزر”.
“كم معشرٍ سلموا لم يؤذهم سبع” هل منكم من عضه ذئب أو نمر أو “حَنَش” [ثعبان أسود] أو حية أو كلب؟ ولكن هل منكم مَن سلم مِن عضة إنسان ومِن أظافره ومِن سمه ومِن مكره ومِن خبثه ومِن إفساده؟ صار شر الإنسان أفظع مِن شر الشيطان، لأنَّ الشيطان يخنس بذِكر الله، أما شيطان الإنس فهو ألعن مِن شيطان الجن بمائة ألف مرة، ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ [الناس:6] شياطين الإنس والجن ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ [الأنعام:112]، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الفرقان:31] شياطين الإنس والجن، لأن الخير يحاربه الباطل، والصلاح يحاربه الفساد.
كَم مَعشَرٍ سَلِمُوا لَم يُؤذِهِمْ سَبُعٌ وَلَم نَرَ بَشَرًا لَم يُؤذِهِ بَشَرُ
هل منكم مَن سلم مِن أذى بني آدم؟ حتى الأنبياء والملوك والأغنياء والعظماء! متى سينصلح الإنسان؟ الإنسان لا يُصلحه إلا الدِّين وإلا القرآن، لكن هل تستطيع أن تأخذ الدواء وحدك مِن الصيدلية؟ ألا تحتاج إلى صيدلي؟ ألا تحتاج إلى وصفة طبيب ليعيِّن لك الدواء؟ حتى الصيدلي لا يستطيع أن يُعطيك الدواء وحده.. وهذا الطبيب الذي هو المرشد العارف بالله الحكيم المزكي عالِم القرآن، هذا الذي نحن في أزمة وجوده بالعدد الكافي والكيفية المطلوبة.
مواقع النجوم:
نرجع إلى التفسير، قال الله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ [الواقعة:75] مواقع النجوم يعني مجاريها التي تُسمى أفلاكها ومداراتها، وإذا أقسم الله تعالى بمجاريها فكيف ستكون عظمتها هي؟ إذا حلفوا بالطريق الذي تمشي فيه أنت، فمن ستكون أنت؟ ستكون ملكًا أو رئيسًا أو عظيمًا مِن العظماء، لأن المكان يُشَرَّف بالمكِين [يعني صاحب المكان]، والمكان بساكنه، فإذًا النجوم أمرها عظيم.. وقد كان الإنسان لا يعرف شيئًا أعظم من الأرض، لكن العلم اليوم اكتشف أنَّ الأرض على عَظَمتها ما هي إلا جزءٌ مِن مليون وثلاث مئة ألف جزء مِن حجم الشمس، يعني أن الشمس أكبر مِن الأرض بمليون وثلاث مئة ألف مرة، فإذا جمعنا مليون وثلاث مئة ألف أرض وأذبناهنَّ ووضعناهنَّ في قالَب كم يبلغ حجمهن؟ حجم الشمس.. وهذه الشمس هي واحدة مِن مليارات الكواكب والشموس والأقمار في مجرتنا، ومجرتنا التي فيها مليارات النجوم والكواكب أيضًا هي واحدة مِن مليارات المجرات التي في هذا الفضاء اللانهائي، فالله تعالى يقول: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ [الواقعة:75] “لا” زائدة، يعني أُقسم بمواقع النجوم، فهل درستم النجوم لتعرفوا عظمة المقسوم والمحلوف به، وتنتقلوا إلى عظمة خالقه وصانعه ومدبِّر سيره وقانون وجوده؟ ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ [الواقعة:76] إنه لقسمٌ عظيمٌ لو تعلمون! فإذا كان المخلوق عظيم فكيف عَظَمة الخالق؟ الخالق يُخاطبكم بالقرآن، فهل استشعرتم عَظَمة محدِّثكم والمتكلِّم معكم الذي رسالته صارت بين أيديكم على يد أشرف ملائكته وأشرف أنبيائه ورسله؟
عظمة القرآن الكريم وأثره في أتباعه:
أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسمٌ عظيم لو تعلمون، أقسم لماذا؟ قال: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ [الواقعة:77] منزَّه عن الخطأ، منزَّه عن الجهل، منزَّه عن الكذب، منزَّه عن الباطل، فهو حقيقة ويقين وواقع، وقد ذكر فيه القيامة والحساب ووقوفك بين يدي الله وتسجيل الأعمال وشهود أعضائك وجوارحك عليك يوم القيامة؛ فلسانك وعينك وأذنك والمكان الذي عصيتَ أو أطعتَ الله فيه، يشهد عليك أو يشهد لك.
أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسمٌ عظيمٌ لو تعلمون، أقسم على أي شيء؟ قال: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ [الواقعة:77] الإنسان الكريم هو الذي يكون كثيراً عطاؤه، وعظيماً منافعه وسخاؤه وكرمه، كذلك القرآن عظيمٌ في عطائه، فمَن يؤمن به إيمان القلب واليقين والعمل والاستجابة يعطيه عزَّ الدنيا والآخرة، ويعطيه سعادة الدنيا والآخرة، وثروة الدنيا وثروة الآخرة.. لقد كان الصحابة والمسلمون قبل القرآن يأكلون الميتات والفطائس والأفاعي والدم مِن الجوع، فآتاهم القرآن الكريم بعطائه وبالعلوم وبالحكمة وبالعقل وبالغنى وبالثروة، حتى جعل الغنى والثروة أَحد أركان الإسلام الخمسة.. كم هي أركان الإسلام؟ خمسة، ولكي يستقيم إسلامك يجب أن تكون غنيًّا ثريًّا.. فالغنى موجود في أركان الإسلام الخمسة، لكننا نحتاج إلى نظارات مكبِّرة لنرى، لأن بصرنا ضعيف كَلِيْلٌ، فالزكاة تجب على مَن؟ على الغني، فإذا قال الله تعالى: صلوا، فمعنى ذلك يجب أن تكون الصلاة مسبوقة بالوضوء، يعني توضؤوا، فإذا قال: صلوا، يعني توضؤوا أيضاً، وإذا قال: زكُّوا، يعني صيروا أغنياء حتى تزكُّوا.. والغنى ليس ركنًا واحدًا في الخمسة، بل ركنين، والله تعالى يقول لنا: “حُجُّوا” ولكن الفقير والعاجز لا يستطيعان الحج، فهذا يعني: لِتَكُن صحتكم جيدة وثروتكم جيدة.. إذًا فالثروة والغنى في الإسلام يمثِّلان ركنين مِن أركان الإسلام، ولكن مع الأسف فإنّ كثيراً مِن العلماء في القرون الأخيرة صاروا يَدْعُون إلى الفقر، بينما النبي ﷺ كان يقول: ((اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُوعِ فَإنَّهُ بِئسَ الضَّجِيعِ)) ، وسيأتيكم حديث في الدروس الآتية مِن دعاء النبي ﷺ: ((اللَّهُمَّ اقضِ عنَّي الدَّينَ، وَأَغنِنِي مِنَ الفَقرِ)) ، والله تعالى وصف أعداءه بالفقر علامةً على غضبه وأنه عقوبة مِن عقوباته، فقال: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ [آل عمران:112] أي تسلُّط العدو ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾ [آل عمران:112] أي الفقر.
زيارة المسلمين البُهَرة لمسجد أبي النور:
إخواننا المسلمون البُهَرة في الهند شرَّفونا الآن، وهم يفقهون هذا المعنى فقهًا جيِّدًا، لذلك فإن مِن تعاليم المسلمين إخواننا البُهَرة أنْ يكون المسلم غنيًّا لا فقيرًا، هل هذا صحيح مولانا؟ ولذلك كلمة بُهَرة تفسيرها بالهندي التُّجَّار، فما أحلى المسلم المؤمن القوي بالمال وبالعلم وبالسلاح وبالحجة وبالتزكية وبالقوة! كما قال ﷺ: ((المؤمِنُ القَوِيُّ خَيرٌ مِنَ المؤمِنِ الضَّعِيفِ)) .
نقل القرآن الكريم حياة الإنسان إلى القمة:
﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ [الواقعة:75]، “لا” هذه للتأكيد، كما يقولون اليوم: “لا وَشَرَفي!” يعني أن الأمر الذي تقوله غير صحيح، وأقسم بِشَرفي أن الأمر كذا وكذا.. [يأتي سماحة الشيخ بمثال مما يقوله الناس العوام لإيضاح المعنى، ومن البدهي أنه لا يوافق على الحلف بغير الله؛ لا بالشرف ولا بغيره] وقد كانون يقولون عن القرآن: “شعر” ويقولون عنه: “سحر” فالله قال لهم: لا ليس الأمر كما تقولون، بل أقسم ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ [الواقعة:77] كريم في العطاء، كريم في نَقل الإنسان مِن الذُّلِّ إلى العِزِّ، ومِن التفرقة إلى الوحدة ومِن العداوة إلى المحبة ومِن الفقر إلى الغنى ومِن الاستعمار -ليس إلى الاستقلال- بل إلى تحرير الأمم المستعمَرة، فالجهاد في الإسلام لم يكن لأجل الاستيلاء على الأموال أو على الأراضي، بل كان لإنقاذ الشعوب مِن ظُلمها والجَور عليها واضطهادها وتخلُّفها وخرافاتها وعبادة الإنسان للإنسان، ومِن فقرها إلى الغنى، فهل الإسلام في العصر الحاضر يحمل هذا المعنى في مفهوم وفي عقول علماء الدِّين أو المشايخ؟ ولذلك فإن المسلمين لَمَّا فَقَد قادتُهم هذه المعاني تخلَّفوا، فبعد أن كانوا محرِّرين أغنياء أعزاء صاروا كما كلُّنا يعلم، يُذبَح المسلمون في كل مكان بأيديهم وأيدي أعدائهم، وكما قال الشاعر
ما لِجُرحٍ بِمَيتٍ إيلامُ
لا أحد يشعر، والمسلمون أمواتٌ.. في يوغسلافيا يُذبحون ذَبْح النعاج وذَبْح الدجاج، [ولا يعملون شيئاً غير الانتقال] مِن لجنة إلى لجنة، وعندما كان للغرب مصلحة في بترول الخليج جمعوا قوى العالَم كلها بعشرة أيام، والمسلمون اليوم يُذبحون في كلِّ مكان، والغرب بالسر والخديعة يشعلون النار، ويتظاهرون أنهم يشكلون اللِّجان وغيرها، والحال أنهم هم مَن أشعل النار، فهل يريدون إطفاءها؟ وإذا لم نرجع إلى إسلام القرآن وإسلام الاستقلال في الفهم مع الكفاءة في الاستعداد والفهم وإلَّا فنحن لقمةٌ لأعداء الإنسانية وذئابها.. والدعاء وحدَه لا يكفي، فهو أمانٍ، تقول: “اللهم.. اللهم” مِن غير عمل ومِن غير سبب ومِن غير تفكير، هذه أماني، كمن يقول: “اللهم اجعلني ملكًا، اللهم اجعلني وزيرًا، اللهم اجعلني طبيبًا”، وهو لا يعرف كلية الطب، فهل الله بدوي؟ كيف يجعلك طبيبًا وأنت جاهل؟ ستقتل الناس إذا استجاب دعاءك.
عظمة الله تعالى في الكواكب والكون:
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ [الواقعة:75] “لا” لتأكيد اليمين، يعني أقسم وأقسم بمواقع النجوم، وما هي المواقع؟ مسارات النجوم، فكل نجمٍ له مسارٌ مِثل الطائرات، لكل شركة خط جوي لا تَحيد عنه لا يمينًا ولا يسارًا، ولا ارتفاعًا ولا انخفاضًا، وإلَّا فسيصطدم بعضها ببعض، وهذا كله بتخطيط العلماء الإخصائيين، والأرض أليست طائرة؟ ألا تركبون أنتم الآن في الطائرة؟ لكن العجيب أنها تطير مِن غير وقود، ومحرِّكها لا يتعطل، ولا تحيد عن طريقها سنتمترًا واحدًا يمينًا ولا شمالًا إلَّا بحسابٍ حسب تحقيق الغاية التي خُلِقت لأجلها.. والأرض -هذه الطائرة- ما هي إلا ذرة في عالم الفضاء، مثل الذرات التي نراها في شعاع الشمس، وهي تسير بنظامٍ منذ ملايين السنين، ونحن ألا نفكِّر؟ هل يشكُّ أحدٌ أن هذا القلم له صانع؟ وهل يشكُّ أحد أن هذا المذياع له موجِد ومخترِع؟ وهل يشكُّ أحد أن هذا الكتاب له طابع ومجلِّد؟ فكيف هذا الكون؟ ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ [الغاشية:21] المجتمع الإنساني فَقَدَ المذكِّر، وفَقَدَ صانع الإيمان القلبي المتَّصِل بالإيمان العقلي الفكري الفلسفي.. نسأل الله أن يُهيئ لنا هذا المربي والمزكي.. نحن ندعو ليذكِّرنا الدعاء بأن نبذل الأسباب والطاقات التي نملكها لتحقيق الدعاء فيما نملك، فإذا بذلنا ما نملك فهل يضنُّ الله علينا فيما يملك؟ قال تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر:60]، وقال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ [البقرة:186].
طهارة النفس شرط لتلقي القرآن:
﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾ [الواقعة:77-78] في اللوح المحفوظ، فهو مخبَّأ في عالَم الغيب في السُّرَادِق السماوي.. ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة:79] القرآن في عالَم السماء في صفحات إلهية نورانية، والذي يريد أن يصل إليه، وأن تمس روحه روح القرآن وتمس روحه نور القرآن يجب أن يكون طاهرًا، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ [الأعلى:14] وطهارة النفس في القرآن هي تزكيتها.. نحن نقول في الأذان: “حي على الفلاح” الفلاح هو: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ [الأعلى:14] لقد فُقِد فقه التزكية في مجتمعنا الإسلامي أو يكاد، والمسلم يتعلَّم تزكية الجسد فقط، فبالاستنجاء يُطهِّر المكان المعيَّن بالجسد، ويتوضَّأ ليطهِّر أعضاء الوضوء، وبالجنابة يطهِّر الجسد كلَّه، ولكن أين طهارة النفس مِن رذائلها ومِن خبثها ومِن شَيْطانِيَّتِها التي لا تعرف الإصلاح ولا تعرف إلا الإفساد ولا تعرف الخير، إنما تعرف الشر، فهذه نفسٌ نجسةٌ، ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة:28]، ﴿نَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب:33] فهل كانت ثيابهم نجسة أو أبدانهم نجسة؟ المعنى ليطهِّر قلوبهم وأرواحهم ويزكيهم، ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة:103] هذه هي الطهارة والنجاسة، والفقهاء يَذكُرون طهارة الجسد، لكن لا يَذكُرون طهارة النفس وطهارة الروح، قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس:9-10] ولكن هل تكون طهارةٌ بلا مطهِّر، وتزكيةٌ بلا مزكٍّ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ؟ والقرآن في عصرنا بلا مزكٍّ، وفي زمان النبي ﷺ كان القرآن يُكتَب على الأحجار، ولم يكن مجموعًا، ولكنه اليوم مجموع ومطبوع بالذهب والطباعة الجيدة، لكنه ليس مطبوعًا في صفحات القلوب، ولم يُنقَش في صفحات النفوس، ولم تحيَ به الأرواح ولا الأفكار ولا العقول، لأنها فَقَدت الطابِع والكاتب والمزكي والمرشد والمربي.
﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ [الواقعة:77-76] معطاء عطاءً بلا حدود، وقد أخذوه كما قال تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ [مريم:12] والصحابة الذين رباهم النبي ﷺ وكانوا تلامذته ومريديه هل أخذوا القرآن باليمين أم باليسار؟ هل بقوةٍ أم بضعف؟ وبذلك كانوا في حياتهم وأعمالهم قرآن العمل، وكانوا القرآن المشاهَد في الأعمال وفي الأخلاق وفي السلوك، هذا هو الإيمان! وإذا لم يكن هذا نتاج إيمانك بالقرآن وانعكاساته فأنتَ مؤمن القول منافق، لا مؤمن العمل ولا مؤمن القلب.
﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة:79] لذلك إذا كنتَ نجس النفس نجس الأخلاق نجس الفكر نجس الروح، وكانت أعمالك نجسة وأخلاقك نجسة وأفكارك نجسة وكانت شراً لا خير فيها، وإفساداً لا إصلاح فيها، فإنك لا تمس القرآن حتى لو قرأتَه عن ظهر قلب وبأربعة عشر قراءة، لأنك تقرأ القرآن بالقراءة الخامسة عشر.. القراءات كم عددها يا شيخ عمر؟ أربعة عشر قراءة، ويوجد أيضًا القراءة الخامسة عشر، وهذه القراءة لم يعتنِ بها القرَّاء مع أن أكثر الناس لا يقرؤون القرآن إلا بها، ما هي القراءة الخامسة عشر؟ وهذه القراءة ذكرها الله تعالى في القرآن، أما قراءة حفص وورش فلم يذكرها الله في القرآن، القراءة الخامسة عشر: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ حَمَلوها بألفاظها وبقراءة كلماتها، ﴿ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾ بقلوبهم وسلوكهم وأخلاقهم وأعمالهم ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5]، الحمار إذا حمَّلناه مكتبة هل يصير عالِمًا؟ هل يصير شيخًا؟ وإذا صار شيخًا يصير شيخ الحمير، [يقول الشيخ ذلك وهو يضحك] وإذا صار إمامًا يصير إمام الحمير، فما الفائدة منه؟ نسأل الله أن يجعلنا للمتقين إمامًا: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان:74] ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [البقرة:124].. نسأل الله أن يرزقنا معنى الإمامة وخُلُق الإمامة وفقه الإمامة الذي هو فقهُ القلب بنور الله وروحِه وفقهُ العقلِ بالحكمةِ والواقعِ وتزكيةُ النفس، والأعظم مِن هذا أنْ تكون مزكِّيًا معلِّمًا للقرآن ومعلِّمًا للحكمة.. هذا هو الإسلام في قمته.. ونسأل الله أن يرزقنا الإسلام في قمته، فكما أنك تحب مِن الطعام أطيبه، ومِن الثياب أجملها، ومِن السيارات أمتنها، ومِن النساء أجملها، والمرأة تحب مِن الرجال أيضًا أجملهم، هكذا يجب أن تنتقي لروحك وقلبك وعقلك ودِينك لتصير مسلمًا حقًّا، وتصير المرأة مسلمةً حقَّاً.
﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة:79] الملائكة تمسُّ روح القرآن، وأولياء الله تمسُّ أرواحُهم روح القرآن، لكن في آخر الزمان اكتفى أهل التصوف وأهل العرفان أو أهل القلوب بقرآن النفس والروح والأخلاق الشخصية والمعاملات، وأهملوا إسلام الحياة، أهملوا إسلام قيادة العالَم، أهملوا إسلام القوة؛ سواءٌ في الاقتصاد أو في السلاح أو في الوحدة، ولذلك صاروا.. الغَنَمَةُ أخلاقها راقية، لكن نهايتها إلى ماذا؟ كلما سَمنتْ واشتغلتْ تكون فائدةً لغيرها.. فما لم نرجع إلى القرآن المشروح والمفسَّر بأعمال النبي ﷺ وبعقلية النبي ﷺ وبحكمة النبي ﷺ فنحن بعيدون عن الإسلام، وبمقدار ما نبعد عن الإسلام نقترب مِن الذُّلِّ والضعف والهوان وتسلُّط العدو، وستبقى حياتنا في شقاء وتعاسة.. نسأل الله أن يهيئ لنا النُّوَّاب والورثة لرسول الله ﷺ الذين ينوبون عنه بتعليم فقه القرآن والحكمة وتزكية النفس.
﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة:79] يمسُّ روحَ القرآن ومعاني القرآن وحقائق القرآن.. وفي زمان النبي ﷺ لم يكن القرآن مجموعًا، بل جُمع القرآن في زمن أبي بكر رضي الله عنه وبقي في زمن عمر رضي الله عنه في بيت الخلافة، وفي زمن عثمان رضي الله عنه كُتب منه عدة نُسَخ، حتى صار مصحفًا بين أيدي المسلمين.. هذه الآية: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة:79] نزلت في مكة، وفي مكة لم يكن هناك مصحف، بل كانوا يكتبونه على الأحجار والأوراق وسعف النخل، فالمقصود بـ “لا يمسه” أي لا يمس روحَ القرآن وأنوارَه وحقائقَه.. فنسأل الله تعالى أن يجعلنا مِن مطهَّري القلب والعقل والفكر، لتحيا روحنا بمسِّ روح القرآن لها، مثل الشريط الكهربائي الذي فيه تيار إذا مس الشريط الذي لا تيار فيه يحيى ويُنِير ويُغَنِّي ويُرَتل.. إلخ.
القرآن الكريم تنزيل من الله تعالى:
﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الواقعة:80] خالق الكون، فاطر السماوات والأرض، العليم الحكيم الخبير العليم بذات الصدور ﴿وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام:59] من يستطيع أن يصنع كتابًا مثل القرآن؟ لم يحيِ به أُمَّةً بل أحيى به نصف العالَم، وسيحيى به العالَم كلُّه حسب ما ورد في أحاديث رسول الله ﷺ، وأنا أتوقَّع أنه لن ينتهي هذا القرن إلا وسيصل الإسلام إلى ما وصل إليه الليل والنهار، لكن إذا النبي ﷺ بشَّر فيجب علينا أن لا نكون قاعدين مثل النفساء، تبقى مستقلية وتريد أن يصنعوا لها كل شيء، وهذا لا يصح! فلنستعدَّ للبشارة والأهلية في تحقيق نبوة رسول الله ﷺ، بأن نُحيي قلوبنا بذكر الله، ونزكِّي نفوسنا مِن كل رذائل الأخلاق، ولكن هل تستطيع أن تُنَظِّف بدنك بلا حمَّام وبلا عامل الحمَّام؟ وإذا لم يكن في حمام السوق فزوجتك تغسلك [عامل الحمام: يشير به الشيخ إلى العامل في الحمامات العامة، التي كانت منتشرة في سوريا وتُسمَّى حَمَّام السوق، حيث كان يدخل إليها الرجل، ويلبس لباساً يغطي به عورته من السرة إلى الركبة، ويأتي عامل خاص ليَفْرك ظهره ويديه ويزيل عنه الأوساخ، ومن المعروف أنه من يريد تنظيف ظهره بالفرك لا يستطيع بنفسه، بل يحتاج إلى غيره، لذلك يشير الشيخ إلى الزوجة، حيث من العادة أن تفرك ظهر زوجها في كثير من البيوت].. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا المزكِّي ومعلم القرآن ومعلم الحكمة.
﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الواقعة:80] هذا ليس مِن عمل إنسان؛ لا محمد ولا نوح ولا إبراهيم عليهم السَّلام بل ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الواقعة:80] ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ﴾ [الشعراء:193-196] فمعاني القرآن في تهذيب النفس وبناء الإنسان الفاضل والمجتمع الفاضل وُجِد كلُّه في صُحف الأنبياء قَبل سيدنا محمد ﷺ، فما أتى بشيءٍ يُضادُّ الأديان قَبله، بل أتى مُصدِّقًا ومُدعِّمًا ومجدِّدًا، فقد دخل في الأديان آراء كثيرة خاطئة، فأتى الإسلام لينقِّح ويصفِّي ويهذِّب ويعيد للأديان الماضية جدتها وشبابها.
الفرق بين قوانين الله تعالى وقوانينا الوضعية:
﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الواقعة:80] هل قوانيننا الوضعية تنزيلٌ مِن السماء التي هي معصومةٌ عن الخطأ، وكلها رحمة، وكلها للإسعاد؟ فإن كل ما شرع الله عزَّ وجلَّ في الدِّين مِن حلال أو حرام أو أمر أو نهي كلّه مِن أجل مصلحة الإنسان، فمثلًا مَن يستعمل المخدرات هل يضرّ الله أم يضرّ نفسه؟ وإذا استعمل المسكرات هل يضر الله تعالى أم يضر نفسه؟ إنهم بسبب الزنا ابتلاهم الله تعالى بمرض الإيدز، ومِن قبله الأمراض التناسلية، ومرض الإيدز عجزوا عن رؤية فيروسه وجرثومه، فلا يظهر عند الإنسان إلا بعد خمس سنين، يبقى معه، ولو حلَّلوا دمه لا يظهر في تحليلهم، هل هذا صحيح إخواننا الدكاترة؟ دكتور أويس هل هذا صحيح؟ هو لا يظهر في أول الأمر حتى يتمكَّن، وإذا تمكَّن فلا يوجد قوة تُخرِجه أو تَقضي عليه، وهذا مصداق لقول النبي ﷺ: ((وَمَا ظَهَرَتِ الفاحِشَةُ في قَومٍ حَتَّى يُعلِنُوا بِهَا)) الآن في الغرب في الشارع وفي الحديقة وفي شاطئ البحار وبين بعضهم مثل الكلاب، ((إلَّا ابتَلَاهُمُ اللهُ بِالأَمراضِ وَالأَوجاعِ التي لم تَكُنْ في أسلَافِهِمُ الَّذينَ خَلَوا)) .. هل صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
بعد كل هذا الدلائل هل مَن يكذب؟:
﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ﴾ [الواقعة:81] الله عزَّ وجلَّ يتحدَّث إليكم فهل تكذِّبون حديث الله تعالى؟ إنك لو تكلم معك وزير حتى لو كان خاطئًا فإنك خَجلًا وهَيبةً واحترامًا لا تكذِّبه، وماذ تكون أنت أمام الله عزَّ وجلَّ؟ وماذا نكون نحن وأرضنا وعالمنا والكون أمام الله سبحانه؟
﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ﴾ [الواقعة:81] ومتهاوِنون؟ يوجد مكذِّب ويوجد متهاوِن، والمسلم قد يصدِّق القرآن، لكنه يُصَدِّق لفظًا، وهو لا يصدق قلبًا إذا لم يسلك طريق أحباب الله، وإذا لم يدخل في مدرسة حراء، أين كانت أول خطوة في الإسلام؟ في حراء، وسيدنا موسى عليه السَّلام أول خطوة في توراته أين كانت؟ في البعد عن الخَلق والخلوة بالله الخالق، والسيدة مريم عليها السَّلام: ﴿إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا﴾ [مريم:16-17] فلمَّا حُجِبت عن الخلق ظهر لها نور الحق.. شيخ عمر لماذا لم تجعلوا هذا مِن الفقه؟ [خاطب سماحة الشيخ في هذا الدرس عدة مرات الشيخ عمر، وهو الشيخ عمر الصباغ رحمه الله تعالى، وكان من الدائرة الأولى من تلامذته الذين لازموه من طفولتهم حتى آخر حياتهم] أليس هذا فقه القرآن؟ إنّ فقه اليد والرِجِل والرأس وماذا تأكل وتشرب فقه جيد، لكن أين فقه الروح وفقه القلب؟
﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ﴾ [الواقعة:81] هناك أناس يكفرون بالأمور الجسدية المادية، وأناس يكفرون بالأمور الروحية الربانية، والكفرُ الروحي الرباني أبلغ وأعظم ضرراًمِن الكفر الجسدي المادي، وفي الإسلام تحتاج إلى أن يكون لك الإيمانان، ويكون لك الجناحان حتى تعلوَ في أُفُقِ الملأِ الأعلى، وإلَّا فبجناح واحد تسقط فتأكلك الديدان والفئران والقطط، كما هو حال المسلمين في عصرنا الحاضر، والسبب ممن؟ من المشايخ، ونحن لسنا مشايخ.. النَّجَّار ليس الذي يَدَّعي الاسم واللقب، بل هو الذي يصنع الأبواب والنوافذ، وكذلك البنَّاء هو الذي يبني العمارات، والحدَّاد هو الذي يصنع الأشياء من الحديد، والزارع هو الذي يُنتج الزرع، وكذلك كلمة إسلام ومسلم هي أنْ تُسلم قلبك لله عزَّ وجلَّ: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة:131]، ﴿وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ [البقرة:128] أي نُسْلِم قلوبَنا وجوارحنا وأفكارنا وكل طاقتنا لتكون بين يديك، ونستعملها بتخطيطك وإرشادك لا بأهوائنا وأنانيتنا وغفلاتنا.
عظمة الحديث من عظمة المحدِّث:
﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ﴾ [الواقعة:81] مَن الذي يتحدَّث معنا الآن؟ الآن نحن مع الله عزَّ وجلَّ، فهو يكلَّمنا، وأنت هل تستطيع أن تصل إلى وزير ويكلِّمك الوقتَ الذي تريده؛ ساعة أو ساعتين أو ثلاث أو أربع؟ هل يتسنَّى لك أن تجلس مع رئيس أو مع ملك؟ الله تعالى يقول: ((أَنا جَلِيسُ مَن ذَكَرَنِي)) ، فالله دائمًا ينتظرك لتكون جليسه وأنيسَه، فهل ترغب في مجالسة الله والأنس به وسعادة وحياة روحك وقلبك به؟ تلك الحياة التي تُنبَذ الحياةُ في الأجسام أمامها.
﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ﴾ [الواقعة:81] تتهاونون، بل تكفرون، ولو قلت: أنا مسلم! فإذا لم يظهر تصديقك العملي والسلوكي والأخلاقي فأنت كافرٌ، وأنت مؤمنٌ بلسانك وكافرٌ بأعمالك، كافرٌ بأخلاقك، وكافرٌ بروحانيتك، والإسلام كلٌّ لا يتجزَّأ، فالسيارة يجب أن تكون بكل قطعها وآلاتها، فإذا كانت بلا عجلات فوجودها عدم، أو بلا محرك أو بلا بطارية، حتى لو أنّ سِلْكاً بطول أصبع فُقِد فالسيارة يصير وجودها كالعدم ﴿رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التحريم:8].
﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ﴾ [الواقعة:81] ألا تجيبون الله تعالى؟ الله يسألنا: هل أنتم مدهنون مكذِّبون رافضون متهاوِنون؟ تكلموا! وعلينا أن نصدق، فالكافر إذا عرف نفسه كافرًا فإن معرفتَه بالكفر تدعوه لأن يدخل في الإيمان، وإذا عرف نفسه أنه متهاون وأقر فسيدعوه هذا الاعتراف لأن يكون مُجِدًّا متجاوِبًا، أمَّا إذا لم يعرف نفسه مريضًا فإنه لن يذهب إلى الطبيب ولن يستعمل الدواء.
﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ﴾ [الواقعة:81] يجب أن نجيب الله تعالى، هل أنتم مدهنون يا شيخ عمر؟ إذن ماذا؟ هل مؤمنون وجادّون ونأخذ الكتاب بقوة؟ ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ [مريم:12].
حظ الإنسان من القرآن:
﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة:82] فحظُّكم مِن القرآن بدل أن يكون الإيمان والطاعة والمسارعة إلى الاستجابة بدل ذلك تكذِّبون وتجحدون وتفسقون وتتمنون، وتجعلون رزقكم منه وحظكم مِن القرآن.. ماذا كان حظهم مِن القرآن؟ الكذب، هؤلاء كفار قريش، لكن هل استمرُّوا على هذا الحال؟ لا، لأنهم مع تتابع نزول القرآن ومع استدامة معالجة الطبيب خاتمِ النبيين صاروا ((حُكَماءَ عُلَماءَ فُقَهاءَ كَادُوا مِن فِقهِهِم أنْ يَكُونُوا أَنبِياءَ)) .
القرآن لا يزال بيننا لكن ينقصنا مهندس القرآن ومعماري القرآن: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ [التوبة:18] هل البنَّاء والمهندس؟ قال: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [التوبة:18] ونحتاج إلى مَن يُعَمِّر القلوب.. كنتُ أسمع مِن شيخنا رضي الله عنه أنه لَمَّا اجتمع بشيخه شيخ التربية.. وقد كانت الوالدة تقول لي: قبل أن يجتمع بشيخ التربية كان نار الله الموقدة مِن الحِدَّة وسرعة الغضب، قالت: وبعد أسبوع أو أسبوعين مُحِيتْ منه كلُّ تلك الصفات، وصار كأنه مَلَكٌ كريم، أمَّا هو فقال لي: بالمصافحة والبيعة مع شيخه كُشف له عالَم الغيب وعالَم الروح.. بالمصافحة فقط قبل الأوراد وقبل الخلوات، فهناك استعداد معيَّن، وهذا مِن المواهب النادرة، فأكثر الناس يحتاج إلى الخلوات والمجاهدات، ومن الناس مَن هم مثل بنزين الطائرات يشتعل ولو كان على بُعْد متر مِن النار.. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُشعل قلوبنا بنار محبته، ويشعل قلوبنا ويضيئها بنور معرفته.
﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ﴾ [الواقعة:81] أم مصدِّقون؟ متهاونون أم مُجدُّون؟ متكاسلون أم مسرعون؟ نقول: يا رب مسرعون وطائعون ومستجيبون.. ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ﴾ هل تجعلون رزقكم وحظَّم منه ﴿أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة:82] أم أنّ حظنا منه أننا مصدِّقون ومسارعون وموقنون؟ فإذا عرفت الثعبان المعرفة الصحيحة ماذا يكون حظك مِن هذه المعرفة؟ الابتعاد والاحتراز منه، وإذا رأيتَ الذهب وعرفته المعرفة الحقَّة ماذا يكون حظك منه؟ تَقَلُّبه واكتسابه والحفاظ عليه، ونحن ما حظنا مِن القرآن؟ هل تكذبون أو تتكاسلون أو تتهاونون؟ نسأل الله أن يجعل حظنا منه حظ أحبابه المستجيبين لنداء الله، المسارعين لامتثال أوامر الله.
الموت ينهي كل شيء:
﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ﴾ [الواقعة:82-83] مَن التي بلغت؟ هذه لم تُذكر، وما ذُكِر لها اسم ظاهرٌ، لكن المقصود منه معروف، وهي الروح، قال: فإذا وصلت روحك إلى حلقومك أيها الغافل السكران بخمرة الدنيا، أيها الضائع في أودية الشهوات والأهواء، ولا تعرف الصراط المستقيم إلى الله وإلى ثقافة الله التي تجعل منك إنسانًا عظيمًا وكريمًا وفاضلًا، تذكَّر أنه في يوم من الأيام وساعة من الساعات ستصل روحك إلى الحلقوم، وماذا بعد الحلقوم؟ ستخرج من جسدك، يعني سيصير جسدك الذي كنتَ خادمًا له طول حياتك وتقدم له “السُّجُق والقَبَوات والكنافة والبقلاوة” [ألوان فاخرة من الطعام والحلوى] والسيارة والطائرة والنزهات والسياحة والمرأة.. إلخ، هذ كله سيلقى في المزبلة إلى الديدان.
يا خادِمَ الجِسمِ كَم تَشقَى بِخِدمَتِهِ وَتَطلُبُ الرِّبْحَ مِمَّا فِيهِ خُسرَانُ
أَقبِلْ عَلَى النَّفْسِ فَاستَكمِلْ فَضَائِلَها فَأَنتَ بِالنَّفسِ لا بِالجِسمِ إنسانُ
وإذا كانت النفس شيطانية بهذا القالب الإنساني فهذا شيطانٌ مِن شياطين الإنس، وهو أخبث مِن شيطان الجن.. يذكرون عن شخص أعزب، وكان عنده جِمال، ولم يستطع أنْ يتزوَّج، ففكَّر أن يتزوَّج ناقةً، ولكن كيف سيتزوج بناقة وهو لا يستطيع أن يصل إليها؟ فصنع سلَّمًا ليصل إليها، ولَمَّا حانت الدخلة وفي أثناء ذلك دخل عليه شخص، فرآه في الإسطبل، ومِن خَجَله منه لأنه رآه بهذه المنظر أخذ يسبُّ الشيطان، وفي تلك الليلة رآى الشيطان في منامه يقول له: ويلك لماذا تسبني؟ لماذا تشتمني؟ هذا الذي فعلتَه وفكَّرتَ فيه ما خطر على بالي منذ خلق الله لي إلى هذه الساعة، فأنتَ ألعن مِن خمس مئة شيطان، فكم مِن إنسان أخبث مِن خمسين شيطانًا؟ الشيطان لا يستطيع أن يقترب مِن الذاكر، أما شيطان الإنس فيقترب مِن الذاكر ومِن البَرِّ ومِن الفاجر.. فنسأل الله أن يحمينا مِن شياطين الإنس والجن، فاستعيذوا بالله تعالى، والاستعاذة بالله ليست القول، كما إذا أتاك وحش وقلتَ: “أعوذ بالله”، ولكنك ما هربتَ أو صعدتَ شجرة أو دخلتَ في حصن، فهل لفظ “أعوذ بالله” يُعيذك مِن التلف أو مِن الهلاك؟ وإذا اشتعلتِ النار، وقلتَ: “أعوذ بالله من النار”، فهل اللفظ يُطفئ النار؟ وكذلك “أعوذ بالله” تعني أنْ تستعيذ وتلتجئ إلى ذِكره وإلى معرفة أوامره ووصاياه فتسلكها وتلتجئ إليها، فعند ذلك يُعيذك الله ويُجيرك مما تستجير منه.
﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ﴾ [الواقعة:83] بعد الحلقوم ماذا يبقى؟ هل الرئيس يبقى رئيسًا؟ والوزير والمفتي والشيخ والغني والقوي والضعيف هل يبقى على ما هو؟ فهل تفكِّر أنه سيأتيك يوم تُجرَّد فيه مِن كل ما كسبته من أمور الدنيا التي كنتَ حريصًا على وجودها؟ هل تفكِّر بهذا اليوم؟ الله يذكِّرك به، فهل يوجد شيء بعد “بلغت الحلقوم”؟
لحظات الموت:
﴿وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ﴾ [الواقعة:84] تظرون إلى مَن؟ إلى الذي وصلتْ روحه إلى حلقه، فالله يقول: نحن أقرب إليه منكم، صحيح أنكم قريبون مِن فراشه، لكن نحن أقرب، وملائكتنا مدخِلةٌ أيديها في داخل وُجُودِه [وجسمه] لتسحب روحه، ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ﴾ [الواقعة:85] هذا الشيء لا يُبصَر بالعين المادية، بل يُبصَر بعين القلب.. مرةً دخل النبي ﷺ على رجلٍ مِن أصحابه في الاحتضار، ورأى النبي ﷺ ملك الموت، وكان ﷺ صاحب بصيرة، ويرى الملائكة، فقال: ((يا مَلَكَ الموتِ كُنْ بِصَاحِبِي رَفِيقًا))، يعني اسحب له روحه برفق، لا بشِدَّة أو إزعاج بل بلطف، فقال له: ((أَنا بِكُلِّ مُؤمِنٍ رَفِيقٌ)) ، هل هو مؤمن القول؟ هل مؤمن التمني والغفلة والغرور؟ بل هو مؤمن العمل ومؤمن العلم، ومؤمن التربية والمربي والتزكية والمزكي والحكمة والحكيم.
﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ﴾ [الواقعة:85-86] كما تدين تُدان.. أي إذا كنتُم تظنون أنه لا يوجد آخرة ولا حساب ولا إدانة ولا عقوبة ولا مكافأة ولا ثواب ولا عقاب وأن الله غير موجود، وأنه لا يوجد غيركم، فإذا كنتم وحدكم إذن أرجعوا الروح إلى الجسد أو أبقوها فيه حتى لا تخرج مِنه.. أرجعوها إن كنتم صادقين، ﴿فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ [الواقعة:86-88] الله! يا ربّ! هؤلاء مِن السابقين الذين ذُكِروا في أول السورة في قوله: ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً﴾ [الواقعة:7] فالسابقون هم المقرَّبون ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [الواقعة:10-11] فهل تفكِّر في أن تكون مِن هذه الزمرة؟ وإذا فكَّرت فهل تسلك طريق الوصول إليها، والأسباب التي تحقِّق الهدف والغايات التي تطلبها؟ ولكن هذا ليس بالأماني والتمنِّي والغرور والجهل وإعطاء النفس شهواتها وبلا مربٍّ ولا مرشد: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [النساء:123] ولذلك كانت الهجرة فرضًا على المسلم، وإلا فهو في جهنم، فكانت المرأة تترك زوجها، وكان المهاجر يترك ماله وعائلته وزوجته وأمواله وديونه ليكسب الإسلام الحيَّ الحقيقي الذي ظَهر منه ما ظَهَر، فكانوا خير أمة وخير جيل أُخرج للناس.
مصير الأصناف الثلاثة المذكورة أول السورة:
﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ [الواقعة:88] الأصناف الثلاثة الذين ذكرهم في أول السورة يذكر الآن مصيرهم وآخر مسيرهم، والنتيجة التي وصلوا إليها في حياتهم ودنياهم، قال: ﴿فَرَوْحٌ﴾ روح يعني راحةٌ وسرورٌ وفرحٌ وسعادةٌ ﴿وَرَيْحَانٌ﴾ وزهور وورود الجنة ﴿وَجَنَّتُ نَعِيمٍ﴾ [الواقعة: 89] فلو أنك لم تأخذ الشهادة الثانوية، ولكنك أُعطِيت هذا العطاء الإلهي من الروح والريحان، فهل أنت رابح أم خاسر؟ وإذا لم تصبح وزيرًا أو ملكًا أو رئيسًا أو غنيًّا -ولو كنتَ أفقر الناس وأتعس الناس- وكانت هذه النتيجة هي نتيجتك في هذه الحياة، فهل أنتَ رابح أم خاسر؟ وإذا ملكتَ الدنيا مِن شرقها إلى غربها، ووصلتْ الروح إلى الحلقوم، وكان اسمك مع أصحاب المشأمة والمكذِّبِين الضالِّين! ورد في حديث رسول الله ﷺ بأنَّ ملائكة الرحمة حين تصل الروح إلى الحلقوم، وينكشف للمحتضر عالَم الروح والملائكة، ويرى الملائكة، فإذا كان مِن المؤمنين تقول له ملائكة الرحمة: ((أَيَّتُها الرُّوحُ الطَّيِّبةُ في الجَسَدِ الطَّيِّبِ كُنتِ تَعمرِينَهُ بِطاعَةِ اللهِ وَذِكرِهِ، أُخرُجِي إلى روحٍ)) يعني راحةٍ ((وَرَيحانٍ)) وزهور وورود، وتظهر له مناظر الجنة وحورها وجَمالها وأشجارها وأنوارها وأنهارها، ((أُخرُجِي إلى روحٍ وَرَيحانٍ، وَرَبٍّ غَيرِ غَضبَانَ)) ، هل هذه أفضل أم البكلوريا [شهادة المدرسة الثانوية] أم الدكتوراه أم أن تكون طبيبًا أو وزيرًا أو رئيسًا أو مَلِكًا أو مليارديرًا؟ هذا كلُّه تتركه وتخلعه كما تخلع الحية ثوبها، ويصير في المزبلة، ويصير لغيرك، وأنتَ تنظر.. وقد خسرت الآخرة وخسرت قبلها الدنيا، ولكن المؤمن عليه أن يكسب الدنيا والآخرة، وهذا هو الإيمان الحقيقي، فالمؤمن بالآخرة بلا دنيا هو بجناح واحد، ودنيا بلا آخرة هي لا شيء، فعند الموت يُفارق المال والجاه والمنصب والسلطان.. إلخ، ولا يوجد غير الكفن والقليل مِن القطن ثم مع السَّلامَة [“مع السلامة”: بهذا السياق كلمة عامية، تُستَخدم للوداع، وتأتي بمعنى وداعاً].. وكان محمد بن كعب يقول: “لا يموت أحدٌ مِن الناس حتى يعلم بنفسه أهو مِن أهل الجنة أو مِن أهل النار “، يَكشف الله له عن منزلته ومصيره ومستقبله الذي دخل فيه، وورد في حديث رسول الله ﷺ ((يَقُولُ اللهُ تَعالَى لِمَلَكِ الموتِ: انطَلِقْ إلى فُلانٍ فأتِنِي بِهِ))، [الشيخ يسأل أحد الحضور:] ما اسمك أنتَ؟ [يجيب قائلاً: محمد شَمَّا] عندما يحين أن تأتيك التذكرة يقول الله تعالى لِمَلَك الموت: ائتيني “بمحمد شمَّا” [التذكرة بهذا السياق بمعنى بطاقة السفر، والمقصود هنا موعد الموت]، وكلُّ واحدٍ منكم باسمه، يقول الله تعالى لِمَلَك الموت: أحضر فلانًا، هل أنتم تفكرون بهذه الساعة؟ في هذه الساعة ستفقدون كل شيء؛ الشهادات والأموال والشباب والعز والمال والزوجة والأولاد ولا يبقى معك شيء، إلا الإيمان والعمل الصالح.
((فَقَد جَرَّبتُهُ في السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، في السَّرَّاءِ كانَ شاكِرًا، وَفي الضَّرَّاءِ كانَ صَابِرًا، وَعَن قَضاءِ اللهِ راضِيًا، فَوَجَدتُهُ حَيثُ أُحبُّ، ائتِنِي بِرُوحِه لَأُرِيحَنَّهُ)) مِن تعب الدنيا وهمومها وأحزانها ومشاكلها، السيدة فاطمة رضي الله عنها وعليها أكمل تحية وسلام عندما كان النبي ﷺ بالاحتضار قالت: “وا كرباه يا أبتاه!” قال لها: ((لا كَربَ عَلَى أَبِيكِ بَعدَ اليومِ)) .
((ائتِنِي بِهِ فَإنِّي وَجَدتُهُ حَيثُ أُحبُّ، ائتِني بِه لَأُرِيحَنَّهُ))، يا ترى هل تقال لنا هذه الكلمة عند خروج الروح مِن جسدها الفاني؟ قال: ((فَيَنطَلِقُ إلَيهِ مَلَكُ الموتِ، وَمَعَهُ مَلَائِكَةُ الرَّحمةِ، مَعَهُم أَكفَانٌ وَحُنوطٌ مِنَ الجَنَّةِ وَضَبائِرُ الرَّيحانِ)) ، عروق الريحان وورود الجنة، ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك، فتنطلق به إلى العالَم الجديد والبيت الجديد والعروس الجديدة والإخوان الجدد.. اللهم اجعل خير أيامنا يوم لقائك.
﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ﴾ [الواقعة:88-89] ألا تريد أن تأمِّن مستقبلك؟ أَلَا تشتاق لهذه المنزلة؟ هل صرتَ مِن المقرَّبِين؟ هل صرتَ إلى الطاعة أقرب، وإلى الذكر أقرب، وإلى الخير أقرب، وإلى الفضائل أقرب، وإلى ذكر الله أقرب؟ ﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾ [الواقعة:90-91] تقول الملائكة لصاحب اليمين: سلامٌ لك، لا بأس عليك، أنتَ إلى سلامة، أنت مِن أصحاب اليمين.. وبذلك هل تأمَّن المستقبل؟ هل بقي همٌّ مِن الفقر ومِن المرض ومن الغيبة ومن النميمة ومن الأحقاد ومن الحسد ومن غيرها؟ ﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾ [الواقعة:90-91] مرة قالت أم هانئ أخت سيدنا علي رضي الله عنهما وعليهما السلام: يا رسول الله أنتزاور إذا متنا؟ أيزور بعضنا بعضًا ويرى بعضنا بعضًا؟ قال: ((نَعَم يَرَى بَعضُكُم بَعضًا وَيَزُورُ بَعضُكُم بَعضًا)) ، في الجنة لا فناء بل حياة متَّصلة، والكافر حياته مثل حياة الحمار والكلب إذا سمَّموه، فهو جيفة وإلى المزبلة، أما الإيمان فيقول للإنسان: أنتَ حياتك متَّصِلة وخالدة وأبدية، ويوجد لك طريقان: إمّا سعادة الأبد أو شقاء الأبد، والخِيار بيدك، فإن أحببت أن تسلك طريق اليمين فكما تحب، أو أن تسلك طريق اليسار فالخيار لك، ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾ [المدثر:37] وكان ﷺ يقول: ((مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ))، “قال: فأكبَّ القوم يبكون، وقالوا: إنّا نكره الموت” هؤلاء مِن أصحاب اليمين، أما المقرَّبون فلا يكرهون الموت، لأن عالَم الأبد والخلود والجنة وعالَم السماء دائمًا نُصْبَ أعينهم، كما قال حارثة رضي الله عنه: أنا مؤمن حقًّا يا رسول الله، فقال له رسول الله ﷺ: ((فَمَا حَقِيقةُ إيمانِكَ؟)) قال: “كأني أصبحتُ بعرش ربِّي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في نعيمهم ” هذا هو الإيمان الحق.
قال: ((لَيسَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ إذا احتَضَرَ المؤمِنُ ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ﴾ [الواقعة:88-89] وإذا بُشِّرَ بِذلِكَ أَحَبَّ لِقاءَ اللهِ عزَّ وَجلَّ، وَاللهُ لِلِقائِهِ أَشَدُّ حُبًّا)).
﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ﴾ [الواقعة:92-93] ما أول الضيافة؟ الزقوم، والشاي الذي يقدم له مِن الحميم، ﴿يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾ [الحج:20-21] ((فَإِذا بُشِّرَ بِذَلِكَ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ، وَاللهُ لِلِقائِهِ أَكرَهُ)) ، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾ [فصلت:30] انظروا أمامكم ﴿وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ كنا معكم في مجالس الذكر وفي مجالس العلم ﴿وَفِي الْآخِرَةِ﴾ لِنَدُلَّكم على الجنة وعلى سعادة الأبد ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ تطلبون ﴿نُزُلًا﴾ ضيافةً ﴿مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ [فصلت:30-32] وأما الكافرون: ﴿فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾ [الواقعة:93-94] أيهما تختارون؟ ولكن هل بالتمني والأماني نطلب الجنة؟ بلا عمل لا يمكن، فإذا أردتَ الثوب الغالي هل تُعطاه بالتمني؟ الغالي يحتاج إلى الثمن الغالي.
﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ﴾ [الواقعة:90-93] ما هو النُّزل؟ أول الضيافة ﴿مِنْ حَمِيمٍ﴾ [الواقعة:93] الماء المغلي الذي يُذيب الجلود والأمعاء والأحشاء ﴿وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾ [الواقعة:94] مباشرة إلى جهنم ﴿إِنَّ هَذَا﴾ [الواقعة:95] إنَّ هذا الحديث.. ﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ﴾ [الواقعة:81] إنَّ هذا الحديث الذي يتحدَّث ربكم به إليكم ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾ [الواقعة:95] هو حقٌّ ويقينٌّ.
تسبيح الله تعالى:
﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ [الواقعة:96] سبِّحه ونزِّهه واذكره وأحبَّه وأَطِعْه، كان عليه الصلاة والسلام يقول: ((مَنْ قالَ: سُبحَانَ اللهِ العَظِيمِ وَبِحَمدِهِ، غُرِسَتْ لَه نَخلَةٌ في الجَنَّةِ)) ، ومن يريد منكم بدل النخلة شجرة ليمون أو شجرة تين أو شجرة عنب فله ذلك، لكن العرب كان يعرفون النخل أكثر من غيرها، فذكر لهم النبي ﷺ والوحيُ ذلك، لكن هناك في الجنة ﴿وَفِيهَا مَا تَشتَهِيهِ ٱلأَنفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعيُنُ﴾ [الزخرف:71] وكان ﷺ يقول أيضًا: ((كَلِمَتانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسانِ، ثَقِيلَتَانِ في الميزَانِ، حَبِيَبتَانِ إلَى الرَّحمَنِ: سُبحَانَ اللهِ وَبِحَمدِهِ، سُبحَانَ اللهِ العَظِيمِ)) ، ولَمَّا نزلت هذه الآيات قال عليه الصلاة والسلام: ((اجعَلُوا سُبحَانَ رَبِّي العَظِيمِ في رُكُوعِكُمْ، وَسُبحَانَ رَبِّي الأَعلَى في سُجُودِكُم)) .
والآن انتهت سورة الواقعة، وعليكم أن ترجعوا إليها وتقرؤوها بتمعُّن، لتنقلوها مِن كتابتها على الأوراق وفي السطور إلى القلوب والصدور، وإلى الأعمال والأفكار، وإلى العقل واليقين، وبذلك تكونون قد قرأتم القرآن، واستمعتم إلى أحاديث القرآن، وإلَّا فسيكون القرآن حُجَّةً علينا لا حُجَّةً لنا، والدرس هذا سيكون خسارةً لنا لا ربحًا لنا.. فنسأل الله تعالى أن يجعلنا مِن الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.