تاريخ الدرس: 1992/05/15
في رحاب التفسير والتربية القرآنية
مدة الدرس: 00:55:18
سورة الواقعة، الآيات: 15-55 / الدرس 2
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلاة وأتمُّ التسليم على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعرب وللعالمين أجمعين، وعلى أبيه سيدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيدنا موسى وعيسى، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وآل كلٍّ وصحب كلٍّ أجمعين، وبعد:
الترحيب بالوفد الكويتي بعد أزمة الكويت
فإنني وباسمكم رجالًا ونساءً أرحِّب ليس بضيوفنا، ولكن بإخواننا وأحبتنا في البلد الشقيق الكويت، أحاطها الله عزَّ وجلَّ برعايته وعنايته، هذا الوفد المبارك الشقيق الحبيب برئاسة معالي وزير الإعلام الشيخ بدر الجاسم اليعقوبي، نرحِّب بهم أحرَّ الترحيب، ونرجو لهم أطيب الإقامة، بتمام الصحة في بلدهم وبين أهليهم، راجين مِن الله عز وجل لهم طِيب الإقامة وتمام الصحة، وتحقيق الأمل والرجاء، وخصوصًا رجاء الجميع مِن عربٍ ومسلمين بأن يعود الأسرى.. وكم هو عارٌ كبير أنْ يكون عربٌ مسلمون هم أسرى عند عربٍ مسلمين، ولكن إن ادَّعوا الإسلام، فهو إسلام الاسم، وليس إسلام الحقيقة، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:10] والأخ لا يكون عدوًّا لأخيه، ولا يكون أسيرًا عند أخيه، بل إنَّ الأسير يكون أسيرًا عند عدوِّه.
ولكن لَمَّا بَعُدَ الإسلام عن القلوب، وفَقَدَت الأفكارُ والعقولُ حكمتَه وروحانيته، صارت هذه الأخوة الإيمانية اسمًا بلا حقيقة، وصورةً بلا روح، وكما قال عمرُ لأبي عبيدة رضي الله عنهما عندما أتى لفتح بيت المقدس، وكان سيدنا عمرُ رضي الله عنه قد خاض مخاضة الطين، وهو يقود جمله ويمسك بزمامه، وعليه غلامه وخادمه في غمار الطين، وأمام عظماء الروم، فقال له أبو عبيدة رضي الله عنه: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ يعني: أنت أمام عظماء الروم وأنت إمبراطور الإسلام! وهذا المنظر لا يتناسب مع مكانتك، فجمع عمر رضي الله عنه أصابعه في كفِّه، ووكزه في صدره، وقال له: “نحن قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام”، إسلام العلم، وإسلام الحكمة، وإسلام تزكية النفوس، “ومهما نُرِدِ العزة بغيره يُذِلُّنا الله” 1 .
والعرب لا أقول: استبدلوا بالإسلام قومية أو وطنية أو ماركسية، لكن أقول: كأنهم في منام بين اليقظة والنوم، وإلا فالابن ليس مِن مصلحته أنْ ينكِر نَسَبه إلى أبيه وإلى تاريخه، وأرجو أنْ يكون هذا الانقطاع مؤقَّتًا وزائلًا، وأن نعود إلى أصولنا وإلى قرآننا علمًا وعملًا وإيمانًا وقلبًا وروحًا وحياةً ومجتمعًا وقيادةً وراعيًا ورعية، هذا هو سلاحنا الأول والأخير، وهذا هو روحنا، وبدون هذه الروح نحن أمواتٌ غير أحياء.
وأسأل الله تعالى أن يُعيد الإسلام إلينا بحقيقته وجوهره، وعند ذلك ﴿يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ [الروم:4-5].
وإنْ شاء الله قريبًا نرى إخواننا الكويتيين الذين اعتدُي عليهم شعبًا وأفرادًا وأسرى يعودون إلى عوائلهم وإلى أهليهم بصحةٍ وعافيةٍ، ونسأل الله أن يجمع قلوب العرب كما جمع العرب الأُوَل على كتاب الله وسُنَّة رسول الله ﷺ.
جوائز أهل السبق والقرب
والآن نحن في تفسير بعض آياتٍ من سورة الواقعة.. ذكر الله عن السابقين أنهم ﴿عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ﴾ [الواقعة:15] متَّكِئين على أَسِرَّةٍ مِن ذهب، ومنسوجة مِن الذهب، هل لدى أحدكم سرير منسوج بخيطان الذهب؟ معالي الوزير هل يوجد عندك؟ [يجيب الوزير فيقول: إن شاء الله.. فيضحك سماحة الشيخ، ويقول:]، وأنا أيضًا أقول: يا ليت!، يعني إذا أعطاك الله في الدنيا وفي الآخرة فلا مانعَ: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾ [النحل:30] ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ هذا نصف الإسلام ﴿وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة:201]، وهذا النصف الثاني. [يجدر التنويه أنه لا شك في أن الشيخ يقصد في كلامه هذا بيان أن الإسلام هو الدنيا الحسنة والآخرة الحسنة، ولا يعني أبداً أن سماحته يجيز الذهب في الأَسِرَّة، فهذا له حكمه الفقهي المعروف]
﴿عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ [الواقعة:15-17] لا ينبت الشعر في وجوههم، ولا يشيبون، بل الخادم يبقى طول عمره مخلَّدًا في الطفولة وفي الخدمة، ففي الدنيا إذا كان لك خادم صغير يصير عجوزًا فيما بعد، أمَّا في الجنة فيبقى في سنِّ الأربعة عشر أو الخمسة عشر بحسب ما أراد الله عزَّ وجلَّ.
﴿بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ﴾ [الواقعة:18] الله عزَّ وجلَّ ذكر أنَّك تشرب الخمر في الجنة بالقدر الذي تريد، وفي الجنة لا يوجد خمَّارات، بل النهر كله خمر، ﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾ [محمد:15] ﴿لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا﴾ لا يصيبه وجع رأس ﴿وَلَا يُنْزِفُونَ﴾ [الواقعة:19]، وكذلك هذه الخمر لا تستنزف العقل، بل كلها لذة وطرب بلا مرضٍ ولا سقم، وبلا زوال عقلٍ ولا نقصٍ، هذا مِن حيث الخمر، وبعد الخمر في الجنة ماذا هناك؟ قال: تفضلوا على المائدة: ﴿وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ [الواقعة:20-21] الفاكهة أولًا واللحم ثانيًا، وقد ثبت الآن علميًّا وصحيًّا أننا علينا أنْ نأكل الفاكهة أوَّلًا ثُمَّ الطعام، حتى لا تأخذ المعدة حجمًا كبيراً مِن المغذِّيات الثقيلة، والفاكهة خفيفة، فلما تملأ المعدةَ يصير الأكل بمنتهى الاعتدال: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ [الأعراف:31].
﴿وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ﴾ [الواقعة:21-22] ففي الجنة أسِرَّةٌ مِن ذَهَبٍ وخمر ﴿لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا﴾ [الواقعة:19] في الدنيا إذا السكران آلمه رأسه، وذهب عقله قد لا يصلح للسهرة، أمَّا في الجنة فإنه يبقى صاحيًا وواعيًا وقويًّا، ما أجمل القرآن! ألا تريدون الحياة واللذة والطرب؟
لَمَّا امتثل العرب لمدرسة القرآن علمًا ومعلِّمًا، تربيةً ومربِّيًا، حكمةً وحكيمًا كيف تخرجوا؟ وماذا صنعوا؟ والآن لدينا شهادات كثيرة؛ فالدكتوراه بالملايين، والجامعات بالألوف والمئات، لكن لا نزال في تخلُّف! “نحن قَوْمٌ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ” ليس إسلام الاسم، ولا إسلام التمني، ولا إسلام الادعاء ((لَيْسَ الإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَلا بِالتَّحَلِّي، وَلَكِنَّ الإِيمَانَ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ)) 2 .
﴿وَحُورٌ عِينٌ﴾ [الواقعة:22] الحوراء هي البيضاء، والعِين هي كبيرة العين مع شديدة بياض عَينها وشدة سوادها، ثم قال: ليس لونها الأبيض فقط، بل ﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [الرحمن:58] بياضٌ على حمرة، فماذا تريدون أكثر مِن هذا؟ وهل أعطاهم الله عزَّ وجلَّ هذا في الدنيا أم لا؟ الإسلام دنيا وآخرة، عزٌّ ومجدٌ وانتصارٌ وغنًى في الدنيا، وكل المتع التي تكون بلا ضررٍ تكون أيضاً في الدنيا، فالله عزَّ وجلَّ ما حرَّم شيئًا إلا لأنَّ الشقاء يترتَّب عليه، وما أوجب شيئًا إلَّا لأنَّ السعادة لا تتمُّ إلا به.
جزاء أهل اليمين
ثم ذكر أصحاب اليمين
• ﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ﴾ [الواقعة:28] نوعٌ من الفاكهة في البلاد العربية.
• ﴿وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ﴾ [الواقعة:29] الموز الذي صفوفه متراصة بعضها على بعض.
• ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ [الواقعة: 30].
• ثم قال ﴿وَفُرُشٍ﴾ يعني أكل وشرب وسرور، وماذا بعد ذلك؟ هناك سرٌر للمقرَّبين، ولأصحاب اليمين فراش على الأرض ﴿وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ﴾ [الواقعة:34].
والفراش لأجل ماذا؟ معروف ما هي ثمرة الفرش قال: ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً﴾ [الواقعة:35] ليس الفراش فحسب، بل أيضًا صاحبة الفراش، ﴿فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا﴾ [الواقعة:36-37] عند المسيحية ليس هناك زواج في الآخرة، ورهبانهم في الدنيا ليس لهم زواج، مساكين! لا دنيا ولا آخرة! ما هذا الدِّين؟ بينما الإسلام يقول: ماذا تريد في الدنيا؟ نساءً؟ خذ واحدة واثنتين وثلاث وأربع.. بينما في واقعنا فإن أحدنا لا يكاد يستطيع أن يتحمَّل مسؤولية زوجة واحدة، قال
تَزَوَّجتُ اثنتَينِ لِفَرطِ جَهلِي وَقَد حَــازَ البلَا زَوجُ اثنَــتَينِ
فَقُلتُ: أَعِيشُ بَينَهُما خَرُوفًا أُكَرَّمُ بَينَ أَحسَنِ نَعجَتَينِ
فَجَاءَ الأَمرُ عَكسَ الحالِ دَومًا نِقَارٌ دَائِــمٌ في لَيــلَتَينِ
فَإنْ شِئتَ أنْ تَحيَا سَعِيدًا مِنَ الخَيرَاتِ مَمــلُوءَ اليَدَينِ
فَعِشْ عَزْبًا وَإنْ لَم تَستَطِعْهُ فَواحِدَةٌ تَكفِي عَسكَرَينِ
[يضحك الحضور]
في الجنة يعطيك الله عسكرًا، واحدة واثنتين وثلاث، وفي بعض الروايات يعطيه سبعين زوجة، وهناك لا يوجد ضَعف أو عَجز.. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل.
وهل منعنا الله تعالى ذلك في الدنيا؟ هذا هو الدِّين، وهذه هي السعادة، لكن لِمَن فَقِهَهُ علمًا، والفقه ليس فقط فروض الصلاة والعبادات والمعاملات، فقد كان هذا مسخًا للإسلام، والإسلام هو القرآن العظيم، وهو: ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [النحل:122].
خسارة المسلمين بتركهم الإسلام الصحيح
بعد أن ذكر الله عزَّ وجلَّ مصير أهل الجنة وعاقبتهم، ذكر الصنف الثالث وهم أهل الشمال، فقال: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾ [الواقعة:41] يعني أي بلاء! وأي سوء مصير! وأي نهاية مفزعة! وأي خسارة لا تعوض!
إن هذا العمر يمضي بخمسين أو ستين سنة، إذا صرت فيه مؤمنًا مسلمًا -لكن بالإسلام الحقيقي- فالإسلام يجعلك غنيًّا، لأن الله عزَّ وجلَّ جعل المسكنة مِن صفات مَن غضب الله عليهم، والغنى لا يصير بالتمني، وهو كأي عملٍ مسعِدٍ ومشرِّف.. ولَمَّا فقه المسلمون هذا وحَّدوا نصف العالَم بخمسين سنة، كما يقول نابليون مندهشًا متعجبًا: “كيف استطاع العرب بنصف قرنٍ أن يُوحِّدوا نصف العالَم القديم ويجمعوه على اختلاف شعوبه وأممه في أمةٍ واحدة!”
الإسلام بالمعنى الحي [يجعلك في القمة] ففي السياسة في القمة.. وفي العلم ما ترك المسلمون عِلمًا في الدنيا إلا صاروا أساتذته ومعلِّميه، وفي السياسة استطاعوا أن يُوحِّدوا الشعوب مِن الصين إلى البحر الأطلسي، ليس مِن الخليج إلى المحيط، بل مِن المحيط إلى الصين، واليوم إسرائيل أضعف الأمم وأقلها، وبخمسين سنة لم يقدر عليهم العرب ومعهم المسلمون، لماذا؟ هل ستكون النتائج هكذا لو كنا مسلمين بالمعنى القرآني وبالمعنى النبوي؟ هل كان اليهود سيفكِّرون أن يغزوا فلسطين، أو يفكرون بالقدس لو كنا مسلمين بالمعنى الصحيح؟
سيدنا عمر وسيدنا أبو بكر رضي الله عنهما بخلافتهما قضيا على الاستعمارَين الشرقي الفارسي والغربي الروماني، وأصبح العرب بإسلام القرآن هم هيئة الأمم، وهم مجلس الأمن، لكن ليس مجلس الأمن هذا الذي يكيل بمكيالَين لِمَا فيه مصلحة الاستعمار، فإن مجلس الأمن وهيئة الأمم اليوم مُسخَّرة لهم، فإذا كان ضد مصالحهم فمجلس الأمن صفر على الشمال.
أما في القرآن: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ إذا كنتَ المذنب فيجب أنْ تحكم على نفسك، ﴿أَوِ الْوَالِدَيْنِ﴾ لو كان والداك ظالِمَين فيجب أن تحكم عليهما، ﴿وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [النساء:135] مهما كان قريبًا منك، ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا﴾ هو فقير، لكنه مذنِبٌ، فسيُحكَم عليه، ولا تساهل تجاه الحق والعدل، ﴿فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ [النساء:135]، ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ إذا كنتَ قاضيًا فلا يجوز أن تتحامل على خصمك، أو لا تعدل في القضاء لأنه خصمك، ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة:8] هل وصلتْ أمريكا إلى هذا المستوى؟ هل وصلتْ أوربا إلى هذا المستوى؟ أمَّا العرب فبالقرآن والإسلام؛ قرآن العلم وإسلام العمل، وصلوا إلى هذا المستوى، ولذلك صنَّفهم كتاب الله عزَّ وجلَّ بقوله: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران:110].
الإسلام قادم
وإنْ شاء الله سيعود الزمان، وهذه لحيتي! [هذه لحيتي: كلمة في العامية السورية تقال لتأكيد وعد أو أمر ما] هل تذكرون سنة ثمانين؟ وقد كرَّرت الحديث مرات في هذا المسجد: أنِ انتظروا عشر سنوات وستنتهي الشيوعية، هذا في سنة ثمانين، والدروس مُسجَّلةٌ.
والآن أقول لكم: انتظروا! لا يتمّ هذا القرن إلا وسيعمُّ الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، هل تذكرون رمضان الماضي عندما أتى رئيس طائفة الأموتو في اليابان هو وزعماء طائفته، وأعلنوا الإسلام في هذا المكان؟ ففي أثناء زيارتي إلى اليابان في مؤتمر البيئة، وبضيافة رؤساء الأديان الثلاثة، حيث كنت عند كل واحدٍ أسبوعًا، فكانت النتيجة إسلام أحد الأديان الثلاث.
إنّ العالَم مهيَّأٌ، والآن عندنا ضيفٌ مهندسٌ مِن أمريكا، وقد دعاه أحد إخوانكم هناك إلى الإسلام فأسلم وأرسله إلى هنا، وبعد جلستَين أو ثلاث جلسات معه سألته: كيف حالك؟ فقال له: أنا لا أصدق أني وصلتُ إلى فهم الإسلام وصرتُ مسلمًا! أنا الآن أصبحتُ إنسانًا، الآن أصبحتُ سعيدًا بلا خمر ولا زنى ولا كذا ولا كذا.
الإسلام هو الدِّين المجهول اليوم، وأعظم مَن يجهله الكثير مِن المسلمين، وواللهِ لو عرفناه حق المعرفة، وتمثَّل فينا حكمةً بالعقول، وأخلاقًا وتزكيةً في النفوس، وعِلمًا في علوم القرآن لارتقينا به، فمثلًا ما معنى سورة الحديد؟ ما معنى ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ [سبأ:10]، ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ [سبأ:12]؟ ما معنى أنَّ الأنبياء استخرجوا المعادن وصهروها وحوَّلوها؟ سيدنا داوود عليه السَّلام كان يصنع الأسلحة الحربية، وسليمان عليه السَّلام يصنع الصناعة المدنية، وبعد ذلك يذكر الله تعالى سورة سبأ، ويتحدَّث عن تحويل الصحارى إلى جنان.. القرآن هكذا يُقرأ، لا بالنغم والموَّال والمسلم يحرِّك يده وجسمه طربًا، ويغمض عينَيه ويصيح مِن غير أن يفهم شيئًا.. يقال: إن زورقًا في البحر خرج عليه الموج، وصار الزورق يرقص، وكاد الناس يغرقون، وكانوا مِن أجناس مختلفة منهم التركي والهندي والصومالي والكردي والإيراني، وكل واحد منهم يقول: يا الله، لكن بِلُغته، ذاك يقول: “يا خداي” بالفارسي، والثاني الفرنسي يقول: “dieu”، والإنجليزي يقول: “god”.. وكان معهم بدويٌّ، فقال: ما أكفر هؤلاء! لا أحد منهم يقول: يا الله! ثم قال: يا ربي أغرقهم! أغرقهم! فلا أحد يعرف اسمك. [يضحك الحضور]
فيجب أن نرجع إلى إسلام الفهم والعمل والعلم.. نحن نقرأ سورة “يس” لوجع الرأس، وهل هي حبة “أسبرين”؟ القرآن: ﴿لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص:29] فإذا قرأتَ سورة الواقعة فهل سألتَ نفسك: مِن أيِّ الأصناف أنتَ؟ هل أنتَ مِن المقرَّبين ﴿عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ﴾ [الواقعة:15-16]؟ لا تغترَّ أنك الآن أمير أو غني أو شيخ، فغدًا ستُجَرَّد من كل هذه الأشياء، ولا تجد غير الإيمان والعمل الصالح، وهل المسألة بعيدة؟ والله إنها غير بعيدة، ربما [يكون بتمام الصحة] وقد أكل وشرب، وبينما هو في سيارته أو في درسه أو في مجلسه أو في سهرته يموت فجأة، أين صار المال والجاه والغنى والعمامة والكتب والشهادات؟ يجب أن نستعِدَّ للدار الآخرة، ((أَكثِرُوا مِن ذِكرِ الموتِ)) 3 .
الشمال وحال أهله
﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾ [الواقعة:41] الشمال واليمين، أو اليسار واليمين لم تكن معروفة إلا في القرآن، حتى ظهر اليمين واليسار في القرن الأخير، أليس كذلك؟ ومِن معجزات النبي ﷺ في موضوع اليسار واليمين الحديث النبوي في أشراط الساعة يقول ﷺ: ((أَسرَعُ الأَرضِ خَرَابًا يُسرَاهَا، ثُمَّ يُمنَاهَا)) 4 .
والذي يبقى منكم سوف يُدرك ما أقول، بل وسيرى ما أقول، ولو كره الكارهون، نسأل الله أن يُرِينا عزة الإسلام في عزة المسلمين، وأن يظهر الإسلام في البلاد العربية ثانيًا كما ظهر فيها وأشرق سابقًا.
﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ﴾ [الواقعة:41-42] السموم هو الهواء الساخن المنبعث مِن الحرارة الشديدة مِن نارٍ أو غيرها، فهل هواء أهل النار بارد أم حار؟ والبلاد العربية معروفة بحراراتها، لذلك أغلى شيء عندهم هو الهواء البارد، فهواء أصحاب الشمال سموم، وماؤهم الماء المغلي، فعند عطشهم الشديد يقدَّم لهم الماء المغلي واسمه الحميم.
﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾ [الواقعة:41-42] أيُّ مصير سيِّءٍ مصيرهم! وأيُّ نهاية مفزعة نهايتهم! وأيُّ مستقبل سيِّءٍ مستقبلهم! وهو مستقبل أبدي، فلو كان عشر سنوات أو عشرين سنة سينتهي، لكن إذا كان ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [النساء:57]، وحتى لو لم يكن هناك خلودٌ ولا سمومٌ ولا شرابٌ من حميم، فهل ترضون السجن شهرًا؟ وحتى لو تكن جهنم التي وقودها الناس والحجارة، وكانت نار سيجارة، فمرة يضعونها على أنفك، ومرة على رجلك، ومرة على أذنك، أتتحملون نار السيجارة؟ هل تتحملون؟ إذن هل كلام القرآن صدق أم كذب؟ وأنتَ حين تعصي الله، والله يقول لك: أمامك جهنم، فهل أنت مصدِّق لله أم مكذِّب؟ لو قلت بلسانك: أنا مصدِّقٌ، لكن عملك يكذِّب فأيهما الأصح منهما فيك؟ قال
وإذَا الْمَقَالُ مَع الفِعالِ وَزَنتَهُ رَجَحَ الفِعَالُ وَخَفَّ كُلُّ مَقالِ
لا تغترَّ بشبابك أو بصحتك أو بغناك أو بسلطانك، فبلحظة واحدة يوقف الله جهاز التنفس في الدماغ فتصبح جثةً هامدة.. وأعمالك كلها مُسجَّلة عليك، ويأتيك الله بالشهود: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس:65] هل آمنتَ بهذه الآية بالذات؟ هل جعلتَها نُصب عينَيك؟ هل جعلتَها مستقرِّةً في قلبك وفؤادك؟ إذن لوجدتها أعظم كابحٍ يكبحك ويحجبك ويصدك عن كل معصيةٍ لله عزَّ وجلَّ.. وإنك لا تعصي الله تعالى في شيء إلا وعمله عائدٌ بالضرر عليك، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يرزقَنا الفقه بالدِّين.
﴿فِي سَمُومٍ﴾ هل تحبُّون أنْ تعيشوا في هواء السموم؟ وهل تحبُّون أن تشربوا بدل ماء الفيجة المُبَرَّدَة حميمَ؟ الماء المغليّ. [الفيجة: نبع معروف في دمشق، حيث يصل إلى بيوت أهل دمشق بالأنابيب، وهو الماء الذي يشربون منه، ومن المعروف أنه يصل إلى البيوت بارداً عذباً] ماذا يُقَدَّم لهم في نار جهنم عندما يعطشون؟
“الخطباءُ إلى مساجدهم”. [هذه الجملة كان كثيراً ما يقولها سماحة الشيخ مستطرداً في درس التفسير، والذي كان يُقام قبيل صلاة الجمعة وينتهي بالأذان أو بعده بقليل، ويحضرها كثير من العلماء والمشايخ من تلامذته، والذين كانت لهم خطب في مساجد أخرى، حيث يكونون في الصفوف الأولى وبلباسهم بالجُبَّة والعمامة، فيَتَحَرَّجون من الخروج لإدراك وقت الخطبة في مساجدهم، فيقول سماحته هذه الكلمة، وعندها لا يشعرون بالحرج، وكذلك فإن الحاضرين يفهمون السبب من وراء خروج ذاك العدد من المشايخ]
قال تعالى: ﴿فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ﴾ [الواقعة:42-43] الذي يجد الحر يبحث عن الظلال، قال: فظلالهم في جهنم يحموم، ما هو اليحموم؟ الدخان الأسود، الدخان مِن الفحم، هذا هو المكان الذي يلجؤون إليه مِن شدة الحر: ﴿انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ﴾ لا هو بارد ﴿وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ﴾ [المرسلات:30-31] هل انطبعت هذه الآيات وهذه المعاني فيك حتى صارت مَلَكَةً تبتعد بها عن كل عملٍ يُوصلك إلى جهنم ويجعلها مصيرك ومستقبلك الأبدي؟
التقوى سعادة الدنيا والآخرة
وإذا سلكتَ الصراط المستقيم وصرتَ تقيًّا، فهل الله يمنعك بالتقوى شيئًا مِن ملذَّات الحياة؟ إذا أردتَ امرأة يقول لك: خذ واحدة واثنتين وثلاثاً وأربعاً، ماذا تريد؟ هل الخمر؟ الخمر فيه زوال العقل، فهل تحب أن تصير مجنونًا؟ وهل القمار؟ هل تحب أن تصير فقيرًا؟ وهل الغيبة والنميمة؟ تصير الأمة بذلك متفسِّخة متفرِّقة، وهل الظلم؟ فبالظلم تجعل المظلومين يحقدون عليك.
الإسلام هو الحياة، حياة الإنسان الفرد والأسرة والمجتمع والتجارة والسياسة والجيش، فالإسلام الحي لا يعرف الهزائم ولا يعرف الفشل، لأنه قائمٌ على الحكمة، والإسلام لا يعرف الضعف، ((المؤمِنُ القَوِيُّ خَيرٌ مِنَ المؤمِنِ الضَّعِيفِ)) 5 ، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ [آل عمران:123]، ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47]، لأنَّ الإيمان هو الذي يَستجمِع كلَّ وسائل القوة المادية والمعنوية والعقلية والفكرية.
سبب العذاب
قال تعالى: ﴿وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ﴾ [الواقعة:43] ما مصدر ظلِّهم؟ دخان جهنم وهو دخانٌ أسود، ﴿لَا بَارِدٍ﴾ عادةً الإنسان يؤوي إلى الظل مِن الحَرِّ إلى البرد ﴿وَلَا كَرِيمٍ﴾ [الواقعة:43]، ولا منظره مقبول أيضًا، لماذا؟ قال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ﴾ [الواقعة:45] غارقِين في الشهوات وفي الملذات وفي اللهو وفي البطالة وفي اللغو، ولا يُبالون بفرضٍ إلهيٍّ يؤدُّونه ويسارعون إليه، ولا بمحرَّمٍ ربانيٍّ يبتعدون عنه ويجتنبونه، وإذا خُوِّفوا أو ذُكِّروا لا يُعطون لذلك سمعًا ولا اهتمامًا، بل حياتهم ترف وشهوات ولهو ودنيا وجسد، أما الآخرة ولقاء الله وحساب الله فلا يهتمون لهم أبدًا.
لقد كانت الدنيا وكنوزها تحت أقدام المسلمين.. في اليرموك كان الرومان ربع مليون، والعرب كانوا خمسة وثلاثون ألفًا، لكنهم بالإسلام الحقيقي أنهوا المعركة بستة أيام، الغرب دائماً يُعيِّروننا بمعركة الستة أيام، [التي كانت بين إسرائيل من جهة والعراق ومصر وسوريا والأردن من جهة أخرى عام 1967م، والتي تُعرَف عند العرب بالنكسة] والعرب بالإسلام أنهوا الإمبراطورية التي كان عمرها ألف سنة، أنهوها في اليرموك بستة أيام، والعدد خمسة وثلاثون ألفًا مقابل ربع مليون.. وحين أرسل سيدنا خالد رضي الله عنه جاسوسًا ليتعرف له على الجيش الروماني رجع وهو مليء مِن الفزع، وأخذ يشرح له عن قوة الروم وعددهم وسلاحهم وكذا وكذا.. فقال له خالد رضي الله عنه: “أتخوِّفني بالروم؟ وددتُ لو أنَّ فرسيَ الأشقر معافًى، وأنهم أُضعِفُوا في العدد، فإن اللَّحَّام لا يخاف مِن كثرة الأغنام”، هكذا كانت معنوياتهم بالإسلام، لكنه إسلام القلب، إسلام النور، إسلام الحكمة، إسلام الأخلاق، إسلام مخافة الله عزَّ وجلَّ، إسلام الدار الآخرة.
﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ﴾ [الواقعة:45-46] يعني اليمين الذي كانوا يحنثون به ويحلفونه كاذبين، هو قول الله تعالى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا﴾ [النحل:38] هذا الحنث العظيم وهو أنهم كانوا يحلفون يمينًا كاذبةً بأنَّ الله لا يبعث في الآخرة مَن يموت.
الإيمان أكبر دافع للالتزام
في مجتمعنا الإسلامي الآن حتى لو قال أحدهم: “أنا مؤمن بالآخرة” لكنه في أعماله وفي معاملاته وتجاه فرائض الله ومحارم الله، هل هو مؤمن بالآخرة؟ الآن يا أبائي إن صدَّقتُموني أو لم تُصدِّقوني لا يترتب على ذلك شيء، لكن غدًا بعد الموت ستعرفون أن سعادتكم الأبدية والشقاء الأبدي مرهونان بالإيمان بالآخرة، إيمان العمل والسلوك والمعاملة مع الله عزَّ وجلَّ ومع الخلق، وتجاه الواجبات وتجاه حدود الله.. فنسأل الله أن يُوفِّقنا عمومًا رعاةً ورعيةً، كبارًا وصغارًا، رجالًا ونساءً، ولا يكفي أنك استقمتَ، بل عليك أن تقوم بالدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ وإلى الإسلام، ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [فصلت:33] لِمَن هذه الآية؟ هل هي للإيطاليين أم للألمانيين؟ هل تمثَّلتْ فيك عملًا وواقعًا وسلوكًا؟ ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ﴾ بالمنطق والإقناع والعقلانية ﴿وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل:125] هل ظهرت فيك هذه الآية عملًا وأخلاقًا وسلوكًا وواقعًا؟ عند ذلك تكون مؤمنًا بها، ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ [آل عمران:104] أين الأُمَّة التي تذهب إلى فرنسا لتدعو إلى الخير وإلى السِّلم وإلى الأخوة العالَمية وإلى تعاون الشعوب بعضها مع بعض؟ أين الأمة التي تذهب إلى فرنسا وإلى انكلترا وإلى أمريكا؟ ولقد رأيتُ العالَم الغربي بعيني في كل بلاد العالَم التي يسمُّونها متقدِّمة، وهي متقدِّمة لا بنفوسها ولا بسلوكيتها، بل تقدَّم فيهم المركوب الذي كان حمارًا فصار طائرة، وصار قطارًا، وتقدَّم فيهم السراج الذي كان يستضيء به الإنسان، فأصبح كهرباء، وأصبح مصباحًا كهربائيًّا، أمَّا الإنسان فهل تقدَّم بالفضائل الإنسانية والأخلاق الملائكية ليكون عونًا لأخيه الإنسان، ورحمةً بأخيه الإنسان، وشريكًا له في السراء والضراء؟ صنعوا هيئة الأمم لعبةً بين يدي الأقوياء في شؤون الضعفاء.
قال: ﴿وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ وهو يوم القيامة ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة:47-51].
الخلاصة أن هذه التربية وهذه المدرسة التي كان النبي ﷺ يقول عنها: ((شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُها)) 6 ويَذكُر مِن أخوات سورة هود سورة الواقعة، لأنَّ في سورة هود ذُكر هلاك الأمم كأمة نبي الله هود عليه السَّلام، وأمة نبي الله صالح عليه السَّلام، وأمة نبي الله لوط عليه السَّلام، فذكر هناك الهلاك في الدنيا، وفي سورة الواقعة والمرسلات ذكر العذاب والشقاء في الدار الآخرة، فهذه السور كانت هي مدارسهم، وكانت هي جامعاتهم، وكانت هي ميدان ثقافتهم.
ولَمَّا فَقِه المسلمون الأُوَلُ القرآن لم يبقَ في زمن الأمويين عِلمٌ مِن علوم الصين أو الهند أو فارس أو اليونان إلا تَرجمُوه، وهو مِن علوم الحياة الدنيا، حتى كانوا أعلم علماء الدنيا في أمور الدنيا، مضافًا إليها علوم الإيمان والقرآن والدار الآخرة وسعادة الدنيا والآخرة، هذا هو القرآن، ويجب أن نقرأه هكذا، وأن نقرأه لتكون ثمرة قراءته هذا النجاح، لا أنْ نقرأه تلاوةً بلا فهمٍ ولا علمٍ ولا عملٍ.
رُبَّ تَالٍ يَتلُو القُرَانَ بِفِيهِ وَهُو يُفضِي بِه إلى الخُذلَانِ
الزقوم طعام أهل الضلال والكذب
﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ﴾ التائهون الضائعون عن الحقيقة، المغرورون بواقعهم وخيالهم وتمنيهم وأمانيهم، ﴿الْمُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة:51] الذين هم غير مُصدِّقين، ﴿لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ﴾ [الواقعة:52] أولئك ماذا يأكلون في الجنة؟ ﴿وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ [الواقعة:20-21]، وهؤلاء ماذا يأكلون في النار؟ ﴿لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ﴾ [الواقعة:52].
هل الزقوم أطيب أم لحم الطير؟ هل الزقوم أطيب أم لحم الغربان؟ إذا دخلتَ إلى مطعم وقالوا لك: هذا لحم دجاج وهذا لحم غربان، فماذا تختار؟ لحم الدجاج، لماذا؟ لأنه أطيب، وأنتم ماذا تختارون الزقوم أم ﴿وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ﴾؟ أكثر الناس الآن يفضِّلون الزقوم، لأنَّ المجنون أو فاقد الوعي أو الطفل الصغير يرمي نفسه على الجمر ويترك التمر، أليس كذلك؟ مرَّ على مجلس النبي ﷺ مجنون، فقالوا: مجنون مجنون! فقال ﷺ: ((لَا تَقُولُوا مَجنُون، قَولُوا: مَرِيض، المجنُونُ مَن يَعصِي اللهَ)) 7 نسأل الله أن لا يجعلنا مجانينَ في نظر الله عزَّ وجلَّ ورسوله ﷺ.
﴿فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾ والزقوم معروفٌ في الجزيرة العربية، وهو نباتٌ كريه المنظر، كريه الطعم، كريه الرائحة ﴿فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾ [الواقعة:53] عندما يؤكل يُنتِج مادة احتراقية تعطي الحرارة فيطلب الماء، ما الماء الذي يقدَّم له؟ قال: ﴿فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ﴾ [الواقعة:54] حتى يُطفئ عطشه.
﴿فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ﴾ [الواقعة:55] الهيم مرضٌ يُصيب الإبل، فيشتدُّ عطشها، فتشرب فلا ترتوي حتى تموت، فأهل النار يشربون شرابًا بلا ريٍّ مِن الحميم، هل تفضِّلون هذه المائدة؟ هل تفضِّلون هذا الشراب؟ هل تفضِّلون هذا الطعام؟ وعندما نقرأ القرآن هل نفكِّر أنَّ هذا سيكون أمرًا واقعًا يومًا ما؟ ولا يبقى في ذلك الوقت مفتٍ ولا شيخ ولا ملك ولا وزير ولا عظيم، وهذه حقيقة! المسلمون الأُوَل على أُمِّيَّتهم حيث كانوا لا يقرأون ولا يكتبون، لكن لَمَّا كان القرآن مدرستهم وأستاذهم ومربِّيهم صاروا خير أمةٍ أُخرجت للناس؛ ففي الحروب انتصارات، وبين الأمم خير الأمم، وفي الثقافة أعظم أمة مثقفة، قادوا أمم العالَم، والآن إذا لم نرجع إلى ما كنا عليه فسنبقى على ما نحن فيه ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد:11] اللهم رُدَّنا إلى الإسلام؛ إسلام القرآن، وإسلام ما كان عليه أصحاب رسول الله ﷺ، اللهم رُدَّنا والمسلمين جميعًا ومخلوقات الله جميعًا إلى كتابك الكريم، وصراطك المستقيم ردًّا جميلًا يا أرحم الراحمين.

مُلْحَق

ترحيب سماحة الشيخ بالضيوف وحديثه عن أحوال المسلمين
[الشيخ يسأل بعض الضيوف:] إخواننا مِن أيِّ بلد؟ من يوغسلافيا، أهلًا وسهلًا، إننا وكل المسلمين نعيش بالآلام والاضطراب على ما يُصيب إخواننا المسلمين في يوغسلافيا، ولقد دعوتُ السفير البابوي من مدة قريبة، وطلبتُ منه أنْ يبلغ البابا ما يفعله الكاثوليك والأرثذوكس في يوغسلافيا بالمسلمين، فإنهم يذبحون المسلم والمسلمة على الهوية، وفي الأمس كان عندي أيضًا السفير البابوي، وذَكر لي أنه بلَّغه.
لكن لا ينبغي أن يكون عيش المسلمين بهذا الضعف وبهذه الحقائق المؤلمة، فنرجو مِن الله أنْ يفرِّج عنهم، وأن يفرِّج عن إخواننا الأسرى، ومِن العار أنْ نقول: إخواننا المسلمون في الكويت أسرى في بلد هارون الرشيد وبلد المأمون الذي نشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، والحمد لله ربِّ العالمين.
هل يمكن أن نسمع كلمة مِن الإعلام العربي والإسلامي.
كلمة وزير الإعلام الكويتي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومَن سار على هديه إلى يوم الدين، الحمد لله الذي هدانا إلى هذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والحمد لله الذي وفَّقنا لأن نرى هذه الوجوه المؤمنة بالله سبحانه وتعالى، وأن نستمع إلى هذه المواعظ والنصائح والإرشادات من سماحة المفتي.
ولا شك أن حضورنا اليوم -أيها الإخوة والأخوات- هو مكسب كبيرٌ لنا، حيث نرى هذه الوجوه الناصعة المؤمنة التي وقفتْ مع الكويت في أثناء المحنة عندما تخلَّى عنها الكثيرون، وحَمَلَت الأمانةَ التي فرضها عليها الإسلام، وهي نصرة الحق ونصرة المسلم أينما كان.
لقد كان العدوان العراقي -أيها الإخوة كما تعلمون، ولا أريد أنْ أطيل عليكم كثيرًا- لقد كان عدوانًا وحشيًّا بمعنى الكلمة، وإنني باعتباري أستاذًا جامعيًّا لم أقرأ في حياتي فيما قرأتُ عمَّا فعله هذا النظام بالكويت مِن قتلٍ وتشريد وهتك للأعراض، فإنه لم يفرِّق بين رجل وامرأة وطفل.
ولقد كان يرتكب الفواحش بجميع أشكالها وأنماطها على شعبٍ مسلمٍ لم يعرف إلا الأمن والأمان، ولم ينادِ إلا بالأخوَّة والتصالح مع الجميع، وكان يمدُّ الأيادي إلى جميع العالَم ليُثبِت أنَّ الإسلام ليس قولًا فقط، ولكن هو عمل أيضًا.
لقد كان اليوم الثاني من أغسطس على الكويت يومًا مشؤومًا، فبينما كانت العجوز تستعدُّ لصلاة الفجر، وكان الرجال والأطفال يذهبون إلى المساجد ليؤدُّوا فريضة الصلاة، وإذ بهم يتفاجؤون بهؤلاء الجنود يهدمون عليهم البيوت، ويدمرون كل شيء، ويدكّون المساجد دكًّا، ويدمِّرون المساجد وينهبونها.
حتى أخبرت الزملاء بعد عودتنا إلى الكويت بأنْ يحتفظوا بهذه المساجد مهدمةً ليرى العالَم كيف كان غدر الجار للجار، وكيف يكون البعد عن الإسلام محرِّكًا للنوازع الشريرة في هذه النفوس المريضة.
لقد أخذ يقتحم ويدمِّر بشكل لا مثيلَ له.. ولقد شرَّفنا سماحة المفتي بزيارة الكويت قَبل مدة، ورأى بعينه ماذا فعل هذا النظام، ومَن لم يزرِ الكويت بعد التحرير لا يستطيع أنْ يتصوَّر ما أقوله له، أو ما قلته لكم.
ولكن ثقوا -أيها الإخوة- أنَّ الجرح في النفس عميق، وأنَّ الجرح في النفس غائر، ولكن ما يخفِّف هذه الجراح هو أن أرى هذا الشعب الأصيل، الشعب العربي المسلم السوري الذي وقف مع الكويت قلبًا وقالبًا ملتفًّا حول قيادته الرشيدة ممثلة بالرئيس حافظ الأسد، وأصبح صفًّا واحدًا يقف مع الحق ويناضل من أجل الحق إلى أن تحررت الكويت.
وعندما تشرَّفتُ بزيارة الرئيس حافظ الأسد في أثناء الأزمة أو في أثناء الغزو وكنا ننشد مَن يقف معنا، ووصلتُ إلى سوريا، وقابلتُ الرئيس، وقد قال لي كلمة واحدة يجب أنْ تكون درسًا لكل الناس، لأنَّ الموقف الذي وقفته الجمهورية العربية السورية وقفته عن مبدأ وعقيدة وتاريخ وحضارة.
عندما قال: “بلِّغ الرسالة إلى صاحب السمو أمير البلاد بأنَّه لو وقف العالَم كله ضد الكويت فإنَّ سوريا لن تتخلَّى عن الكويت، وستقف معها إلى أن تتحرَّر” وأوفى هذا الرجل بوعده، لأنه كان يعتمد اعتمادًا حقيقيًّا على هذا الشعب الأصيل، هذا الشعب ذي التراث العريق، ذي الحضارة القوية، وكان يعتمد فعلًا على هذا الارتباط والوحدة الوطنية التي لمسناها في الجمهورية العربية السورية.
ولقد عرفنا في أثناء الغزو أنَّه بالوحدة الوطنية بين أبناء الكويت سواء مَن كان منهم بالداخل أو بالخارج، والالتفاف حول القيادة الشرعية تحرَّرت الكويت.
وأنا مؤمن اليوم بأنَّ الالتفاف حول القيادة السورية مِن قِبَل الشعب السوري سيُشكِّل سدًّا حصينًا ضدَّ كل مَن يحاول أن يثير الدسائس والفتن، سواءٌ كان في الداخل أم في الخارج؛ لأن الشعب السوري سطَّر في أثناء الغزو ملحمةً تاريخيةً سيذكرها التاريخ، وستتداولها الأجيال جيلًا بعد جيل، لأنَّ التاريخ لا يسجِّل بصفحاته إلا مثل هذه المواقف الخيِّرة.
عندما زرت سورية، ورأيتُ الشعب السوري يتسابق إلى السفارة الكويتية في دمشق ليسجِّلوا أسماءهم كمتطوِّعين في الدفاع عن الكويت، تذكَّرت حادثة المعتصم عندما نادت امرأة: “وا معتصماه”، فشُحذت الهمم، وتوجَّهتِ الجيوش لتحرير هذه المرأة والدفاع عنها، لأنَّ هذه المبادئ الإسلامية الأصيلة تبنَّتها سوريا بقيادة الرئيس حافظ الأسد والشعب السوري الأصيل.. وإنني أؤكد لكم -أيها الإخوة- أنه إذا كان الاحتلال قد ولَّى عن الكويت فإنه ترك جرحًا عميقًا آخر في النفوس، عندما اختطف الرجال والنساء والأطفال وعوائل بأكملها، وأودعهم في السجون العراقية، ونحن لا نعرف عنهم خبرًا، ولا نسمع لهم ذِكرًا.
قَتَل مَن قَتَل ودَمَّر مَن دَمَّر، واختطف الأطفال والنساء والعجائز ووضعهم في السجون العراقية، هل ما قام به هذا النظام -أيها الإخوة- يعتبَر عملًا إسلاميًّا؟ هل قتل النساء وتشريد الأطفال وقتل الآباء وانتهاك أعراض النساء أمام أزواجهنَّ وإخوتهنَّ هل هذا هو الإسلام الذي ينادي به هذا النظام؟
إنني واثق -أيها الإخوة- أنَّ دعواتكم مستجابة، كما دعوتُم لنا أثناء العدوان وتحرَّرت الكويت، ستدعون لنا بإطلاق أسرانا، لأنَّ دعوة المؤمن مستجابة، ولأنَّ دعوة المؤمن الصادق ليس بينها وبين الله حجاب، فأرجو مِن الله عز وجل أن يوفِّقنا جميعًا، وأنْ يعمِّق علاقتنا الأخوية بين الكويت والجمهورية العربية السورية بقيادة صاحب السمو أمير البلاد والرئيس حافظ الأسد.
وأرجو مِن الله أن يكون الشعب السوري امتدادًا للشعب الكويتي، وأن يكون الشعب الكويتي امتدادًا للشعب السوري، لأنَّ الدماء التي ارتبطت بين أبناء الكويت وأبناء الشعب السوري في التحرير ستكون بإذن الله ذلك الجسر القوي الذي يُدَعِّم أواصر المحبة والتعاون بيننا.
أشكركم مرةً أخرى -أيها الإخوة- وأشكر سماحة المفتي الذي أرجو أنْ يدعوَ معنا دائمًا لإطلاق أسرانا، حتى تعود النفوس آمنة مطمئنة، وأن نقوم إن شاء الله بالدور الجيد لخدمة الإسلام، ونُعاهِدكم أمام سماحة المفتي أننا سنقوم بكل ما في وسعنا لدعم الإسلام ونشره، حتى نرى ذلك اليوم الذي يخفق فيه عَلَم الإسلام على أرجاء العالَم بإذن الله.
لأنَّ القلوب إذا كانت صادقة، وكان الإيمان عميقًا كما أرى في هذه الوجوه فإنَّ الإسلام لا بدَّ أن ينتشر، لأنَّ الحق هو الذي يظل دائمًا مرفوعًا وإن حاول البعض طمس الحق إلا أنهم لا يستطيعون.
شكرًا أيها الإخوة، وتمنياتي لكم بالتوفيق والسداد والنجاح، وأن نرى سورية دائمًا عظيمة، وأن يُوفِّقكم الله، وأن يُوفِّقنا أيضًا معكم لتحرير جميع الأراضي السورية، حتى تعود راية العزّ والشموخ مرتفعةً على هذا البلد الآمن الصابر المطمئن، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تعقيب سماحة المفتي على كلمة الضيف
تحدَّثتَ -حفظك الله- عمَّا قامتْ به سوريا بقيادة رئيسنا المناضل حافظ الأسد حفظه الله، وحفظ العرب والمسلمين مِن كل سوء، والحقيقة أنه ما كان إلا متجاوبًا مع إيمانه بالإسلام والقرآن، وماذا يقول القرآن في مثل هذا الموقف؟ ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ﴾ يعني ترجع لأمر الله ﴿فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا﴾ [الحجرات:9].
فكلِّ ذي حقٍّ يجب أن يصل إليه حقه، والمظلوم يُنقَذُ مِن ظلامته، والأسير يعود إلى أهله، والأموال التي سُلِبَت ونُهِبَت يجب أن تُعاد إلى أصحابها.
والنبي ﷺ يقول في هذا الموضوع: ((انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا))، قالوا: يا رسول الله عرفنا كيف ننصره مظلومًا فكيف ننصره ظالِمًا؟ قال: ((بِأنْ تَردَعُوهُ عَن ظُلمِهِ)) 8 .
ما أحلى لو أنَّ كل العرب وكل المسلمين وقفوا كموقف سوريا ومصر وبقية الإخوان الذين كانوا مع الكويت المعتَدى عليه!
ولكن قدَّر الله وما شاء فعل، وأرجو من الله تعالى أن تكون هذه المحنة آخر ما يحصل على الأمة العربية من مِحن، وأن يُبدِّلها الله عز وجل بالنعمة، وأن نرى إخواننا الأسرى يرجعون إلى أهليهم وذويهم، وأن يجمع كلمة العرب والمسلمين على ما يحبُّه الله ويرضى، كما أنه بلغني الآن من إخواننا الزائرين مِن يوغسلافيا، وكلُّكم تسمعون عن المآسي والمذابح التي تُصنع في المسلمين من أعداء الإسلام.
وعلى كلٍّ نحن ندعو الله عزَّ وجلَّ أن يفرِّج عنهم قريبًا، وأن يرفع عنهم جَور الجائرين وظلم الظالمين، ومع عميق الأسف فإنّ مجلس الأمن وهيئة الأمم في الأمور التي تلتقي مع مصالح الاستعمار الأكبر تجد الأمور سراعًا تصل إلى أهدافها، أما الأمور التي هي بعكس ذلك خاصةً ما يسيء إلى الإسلام والمسلمين فتجدهم ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الأعراف:179].
فيجب أن يرجع المسلمون إلى الإسلام، ويستنصروا بالإسلام، ويتسلَّحوا بالإسلام، وإلا فماذا يفيد أن نقول للذئب عند التهامه الخروف والحَمل: هذا حرام! هذا لا يجوز! اتَّقِ الله أيها الذئب! حرامٌ عليك أيها الضبع! هذا كلام في غير موضعه.
فأسأل الله أن يَرُدَّ المسلمين جميعًا، وأن يرفع عنهم البلاء والعناء ويُفرِّجَ عن إخواننا المضطهَدين في كل بلاد العالم.
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- المستدرك للحاكم، رقم: (214)، (1/ 130)، بلفظ: ((عن طارق بن شهاب قال: خرج عمر بن الخطاب إلى الشام ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فأتوا على مخاضة وعمر على ناقة له، فنزل عنها وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أأنت تفعل هذا، تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟ ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك، فقال عمر: أوه لو يقول ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالا لأمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله)).
- مسند الفردوس للديلمي، رقم: (5232)، (3/ 404)، عن أنس بن مَالك رضي الله عنه، وفي مصنف ابن أبي شيبة، رقم: (30351)، (6/ 163)، وشعب الإيمان للبيهقي، رقم: (65)، (1/158)، عَنِ الْحَسَنَ رضي الله عنه موقوفًا، وقال البيهقي هو قول الحسن رحمه الله تعالى، بلفظ: ((إنَّ الإِيمَانَ لَيْسَ بِالتَّحَلِّي، وَلا بِالتَّمَنِّي، إنَّمَا الإِيمَانُ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ))، وروي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعًا في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبي القاسم لللالكائي، رقم: (1561) (4/921).
- مسند الفردوس للديلمي، رقم: (218)، (1/ 74)، بلفظ: ((أَكْثرُوا ذكر الْمَوْت فَمَا من عبد أَكثر ذكره إِلَّا أَحْيَا الله قلبه وهون عَلَيْهِ الْمَوْت))، وفي سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، رقم: (2460)، (4/ 639)، عن أبي سعيد رضي الله عنه، بلفظ: «أكثروا ذكر هادم اللذات قالوا وما هادم اللذات قال الموت».
- المعجم الأوسط للطبراني، رقم: (3519)، (4/25)، حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، (7/112)، بلفظ: ((عن جرير أنه قال أول الأرض خراباً يسراها ثم تتبعها يمناها، والمحشر ها هنا وأنا بالأثر)).
- صحيح مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز، رقم: (2664)، (4/ 2052)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (8777)، (2/366)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، بلفظ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ».
- الشمائل للترمذي، رقم: (42)، (47)، المعجم الكبير للطبراني، رقم: (18169)، (22/ 123)، بلفظ: ((عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ شِبْتَ، قَالَ: شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُها)).
- تاريخ دمشق لابن عساكر، رقم: (4670)، (40/158)، وفي الغيلانيات لأبي بكر الشافعي، رقم: (400)، (1/376)، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ إِذْ مَرَّ رَجُلٌ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: مَجْنُونٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْمَجْنُونُ الْمُقِيمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَلَكِنَّ هَذَا رَجُلٌ مُصَابٌ».
- صحيح البخاري، كتاب الإكراه، باب يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه، رقم: (6552)، (6/ 2550)، سنن الترمذي، كتاب الفتن، باب منه، (2255)، (4/ 523)، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بلفظ: ((انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ قَالَ تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ)).