الفرق بين المكي والمدني
فنحن الآن في تفسير سورة والذاريات أو سورة الذاريات، وهي سورة مكيّة، والسور المكيّة هي التي نزلت على النبي صلي الله عليه وآله وسلم قبل أن يهاجر إلى المدينة، فما قبل الهجرة “مكيّ” وما بعد الهجرة “مدنيّ”.
والسور المكيّة قلّت فيها الأحكام الشرعية، والتركيز فيها على التربية الروحية والأخلاقية وعلى تنمية الإيمان بالله وبرسوله وبالآخرة وبصحة القرآن، فكانت تتركز كلّ السور على هذه الأمور، لأنها هي الأصل في إسلام المسلم، كي يكون قوي الصلة بالله عقلاً وفكراً وقلباً وروحاً وعبادةً وذِكراً، وكانت تحارب الخرافات أيضاً، فسورة الأنعام اسمها الأنعام؛ لأنّ العرب كانت تُحَرِّم بعض الدّواب المأكولة بأمور خرافية، فتحرّم أكلها أو تحرّم الانتفاع منها، وقد ذكر الله عز وجل ذلك فقال: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ﴾ [المائدة:103] أنواع من الدواب في حالات خاصة كانوا يعتقدون أنّ هذه حلال وهذه حرام ﴿وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا﴾ [الأنعام:138] ولذلك يكاد حالنا الآن في بعض النواحي يشبه حال الجاهلية؛ لأنّ الإيمان بالله ضَعُف، وكذلك ضعف الإيمان بالآخرة والحساب والعذاب والجنة والنار، والمسؤولية تكاد أن تبقى شبحاً في حياة المسلمين وأعمالهم ومعاملاتهم.
الإيمان بالقرآن
الإيمان بالقرآن هو الإيمان بالقرآن المعلوم المفهوم وليس القرآن المقروء، [أي القرآن ليس لمجرد القراءة، بل للعلم والفهم] فيقرأ المسلمون القرآن ويَسمَعونه للتلاوة لا للفهم ولا للعلم ولا للعمل ولا للتّخلّق، بل من أجل الحسنات، لكن الحسنات تصير إذا فهمت القرآن وعَلِمْتَه وعملت به ثم عَلَّمْته، فهل تشتري الطّعام من أجل الشّراء؟ فلو اشتريت إجاصاً أو تفاحاً أو عنباً وتركته في البيت لشهرين أو ثلاثة، فهل يكفيك الشراء؟ فهذا يُشترى لأجل أن يكون غذاءً، فكذلك القرآن يُقرَأ ليكون غذاءً للعقل وللنفس وللأخلاق وللمعاملة الصحيحة الجادة، ولمخافة الله وذكر الله والإكثار من النوافل والتهجد والعبادات والذكر الدائم.
القرآن مدرسة، وليس المهم من الولد أن يذهب إلى المدرسة طول النهار ويرجع فقط، وإذا سألته ماذا قرأت وماذا فهمت؟ تجده لم يقرأ ولم يفهم، فهل ينجح في آخر السنة؟ فالقرآن هو المدرسة والعلم والمعرفة وبناء شخصية المسلم والمسلمة، فإذا لم تنقلب عند القراءة كل آية وكل جملة عند المسلم والمسلمة إلى عمل وإلى أخلاق وإلى سلوك وإلى شعور وإلى حِسٍّ وإلى ضمير ووجدان فهذا لم يقرأ القرآن، فإذا قرأت قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ﴾ [الحجرات:12] تنقلب فيك خلقاً إن كانت قراءتك صحيحة وكان قلبك طاهراً.
وقال تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ [القلم:10-11] إذا نقل لك أحدهم نميمة وكان صادقاً فهي نميمة، وتكون نتيجتها إثارة العداوات والبغضاء والجفوة والقطيعة بين المتحابين، فإن كان صادقاً فهو نمّام، أمّا إن كان كاذباً فهو مفترٍ أفّاك، وقد وصف الله عز وجل اليهود بقوله: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾ [المائدة:41] يأتون إلى مجلس النبي ﷺ لا لينتفعوا من مجلسه، بل لينقلوا كلامه لأعداء النبي ﷺ فيتدبروا أمرهم بمحاربته ويَطَّلِعوا على أخباره وتصرفاته، والشاهد: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾.
إذا جلست في مجتمعنا بأي مجلس وتكلمت بكلمة فكل الناس يصدقونها ثم ينقلونها، وقد تكون فيها مسؤوليةٌ أمام الله وفيها حقوق الناس وكرامات النّاس وقيم الناس! ومن يفعل ذلك فهو ما قرأ القرآن ولا دخل في قلبه الإيمان ولا فهم الإسلام، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات:14] تراه يأتي إلى الدرس، ولكن الدرس لا يكفيه إذا لم يكن مؤمناً ذاكراً وصار ارتباطه بالمربي ارتباط الغصن بالشجرة وارتباط الكف بالذراع وارتباط الذراع بالساعد، فالذي يحب امرأة خاطئة فاسقة كيف يكون حبه لها؟ والذي يحب “أم كلثوم” [مُغَنِّية مصرية مشهورة] كيف يكون حبه لها؟ والذين كانوا يحبون النبي ﷺ كيف كان حبهم؟ وكيف كان حب المريدين الصادقين؟ لو أنني انزعجت من أحدكم وعبستُ في وجه ولم يكن متمكِّناً [بالإيمان] وعارفاً [مقام الشيخ] فربما يقول: “عبس الشيخ في وجهي” مع أن الشيخ قد يكون مهموماً أو مشغولاً بالُه.. لماذا لا تفكر إلا بنفسك؟ ألا يوجد غيرُك في هذه الدنيا؟ [هذه كلمات توجيهية من الشيخ المربي يفهمها المريدون المحبُّون، وعادة ما يعالج سماحته بمثل هذه الكلمات بعض المشكلات الحاصلة في أيام هذا الدرس، ويكون أصحابها موجودين في الدرس، فيوجه لهم الكلام بشكل غير مباشر، على طريقة النبي ﷺ عندما كان يقول: “ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا” من دون ذكر أسمائهم]
كان شيخنا -قدّس الله سره- يصير له حالات صحيّة في صدره فيصير له انقباض، فقال لي مرة: “إذا رأيت وجهي منقبضاً فلا تهتم، لأنّ صدري يكون متضايقاً فيظهر الأثر على وجهي”، أما إن كان الشيخ حقيقة منزعجاً منك وكنت مريداً صادقاً.. أحد الشيوخ طرد مريده وقال له: لا ترجع إلي مرة أخرى، فحفر حفرة أمام البيت وقعد فيها، وقال: “والله لا أخرج منها حتى أموت أو يرضى عني شيخي”، فلما خرج الشيخ رأه.. وهل الشيخ فرعون أو هامان؟ فعفا عنه وانتهى الأمر.
فإذا تكلم الشيخ عليك أو سبّك أو شتمك أو طردك، فإذا لم يكن عليك حقٌ فقل: “لعله بسبب ذنب بيني وبين الله، فأراد الله أن يغسله لي” وإذا كنت مذنباً مع الشيخ، فقل: “إذا ضربني الشيخ بالنعل فعلى عيني” هذا هو المريد! وهل أستطيع أن أعمل ذلك معكم؟ يوجد منكم من إذا قَطَّعَه الشيخ قِطَعَاً.. فكل ذرّة منه تنطق بالحُبّ.
ولو قَطَّعْتَنْي بالحُبِّ إِرْباً لما حَنّ الفؤادُ إلى سِواكَ
ومنهم.. نسأل الله أن يقوّي إيماننا وإيمانهم.
معنى متاع الغرور
نحن الآن في سورة الذاريات، وكما قلنا هي سورة مكيّة، يعني نزلت على النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة، مثل سورة “ق” وهي مكيّة أيضاً، وهي تبحث أكثر شيء في الحياة الآخرة التي تأتي بعد الحياة الجسدية في دار الدنيا، قال تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران:185].
سمع ابن عباس رضي الله عنهما أعرابية تقول لابنتها: “هاتِ متاع الغرور” فسألها: “ما متاع الغرور؟” قالت له: “خرقة الحيض”، فلمّا تموت.. ولو كنت تملك خمس مئة بناء وخمس مئة قرية ومليارات من الذّهب والفضة فما الفائدة منها؟ تسبيحة واحدة أفضل.
يُقال: إن سيدنا سليمان عليه السلام كان يطير في الريح التي سخرها الله له، فرآه فَلّاح كبير في السن فقال: “لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً”.
فنزل إليه وقال له: “واللهِ لتسبيحة واحدة في صحيفة المؤمن مقبولة خيرٌ من كل مُلْكِ سليمان” .
الآن أنت فلان بيك وأستاذ فلان، وفلان تاجر.. فَكِّر عندما تكون فلان قبر، ولما تكونين فلانة جنازة، الآن يقولون: جدتي وجدتي.. [الأحفاد يكونون حولها وينادونها يا جدتي، وهي مسرورة بهم] تذكري لما يقولون: الله يرحمها ورحلت إلى رحمة الله، وانتقلت بالوفاة.. فهل نفكر بذلك يا بني؟
كان المسلمون الأُوَل إذا قسى قلب أحدهم -يعني نسي الآخرة وتعلّق قلبه في الدنيا- يدخل في القبور العتيقة، ولما يدخل القبر يقول له: “يا قُبَيْرْ لقد جاءك دُبَيْرْ”.
من أنت يا بني؟ أنت في الدنيا غداً “فطيسة” [جيفة]، فالآن تمشي، ولكن لما يأتي الأجل تدخل في الحفرة ولا تخرج منها كجسد، إلا في يوم القيامة فتكون حسب ما وصفه الله عز وجل.
فنسأل الله عز وجل أن يرزقنا إسلام الآخرة وإسلام الحساب وإسلام لقاء الله وإسلام المحاكمة لمّا يسأل الله النبي ﷺ في المحكمة: هل بلغتهم؟ يقول: نعم بلّغتُ، ويسألك: “هل تبلغت؟” فتقول: “نعم”، فيقول لك: “لماذا خالفت أمر الله وقد بعثتُ لك رسولاً من الملائكة هو أشرف الملائكة “جبريل”، ومن الأنبياء خاتم النبيين؟ فهل فعلت ذلك استخفافاً بربك أم بكتابه أم بنبيه أم برسالته؟” ماذا سيكون جوابنا؟
أنواع الرياح
نرجع إلى التفسير: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا﴾ [الذاريات:1] الذاريات: هي الرّياح التي تَذُرّ التراب وغير التراب وتُطَيِّره في الهواء إن كان خفيفاً، وإذا زاد اللهُ العيارَ فتقلع الأشجار، وإذا زاد العيار فتُغْرِق السفن، وإذا زاد العيار كما قال تعالى: ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ﴾ [الحاقة:6-8].
فهذه الرّياح الذّاريات: واحدة تُطَيِّر الغبار، وواحدة تطيّر الشّجر، وواحدة تُغْرِق السّفن بوزن مئة ألف طن، وواحدة ترمي الطائرات، وواحدة تعمل الزَوَابِع، وواحدة كما قال تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ [الحجر:22] تُطَيِّر طَلْع الذّكر من الشّجر الذّكر إلى الشّجر الأنثى لتلقح الأزهار وتتحول إلى ثمار.
يبعث الله الرياح بقوة لتَغْسِل وتنظّف وتطهّر المدن من الغازات والأوساخ في الجو -تلوّث الجو- فلو ترك الله الهواء الذي فوق دمشق مثلاً ولم يُغيِّره لصار سموماً ومات الناس كلهم، لكنه يبعث الرياح الذاريات ليكنس الهواء الملوث إلى الصّحارى.. ولماذا خلق الله عز وجل الصحارى؟ فلو كان فيها أنهار وأراض زراعية لصار فيها سكان ولصار أيضاً هواؤها ملوثاً، فخلق الصحراء لتنقية الهواء فيها كالمصافي، فتأتي الشّمس على الصّحراء بحرارتها فتقتل الجراثيم، فلما يتنقى الهواء تأتي الذاريات فتقذف الهواء النقي إلى المدن والقرى والناس والحيوان، ألا تستحق أن يحلف الله بها؟ فهذه الرّياح جند من جنود الله عز وجل، وجعل الله في هذه الرياح الذاريات الحياة للإنسان والحيوان والنبات، ويجعلها تارةً رحمة ويجعلها تارةً عذاباً، وتارةً يجعلها دماراً وهلاكاً.
الواو: واو اليمين والقسم، يعني: أقسم بالذاريات؛ بالرياح الذاريات ذرواً.. ولما أقول لكم: “واللهِ” فمعنى ذلك أن بعد كلمة “واللهِ” يوجد خبر عظيم، وأنا أريد أن أُثَبِّتَه وأُؤَكِّدَه بالقسم واليمين.
المسلم الحقيقي
﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا﴾ [الذاريات:1-2] يحلف الله عز وجل أيضاً يميناً ثانيةً.. الإنسان حقاً غريب.. إذا أردتُ أن أقص عليكم حكاية أو قصة وقلتم لي: “احلف لنا يميناً”، فمعنى ذلك: ليست عندكم ثقة بي أو أنكم لا تعرفون من هو الشيخ.. فالله عز وجل كذلك أيضاً يُقسِم للناس لأنهم لم يكونوا يعرفون.. ومع كونهم مشركين ووثنيين فببركة النبي ﷺ والقرآن صاروا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فالآن المسلمون مسلمون بالاسم، تستطيع أن تقول: “أنا رئيس جمهورية” بالاسم، فيضعونك في مشفى المجانين، وتستطيع أن تقول: “أنا رئيس وزراء” أو تقول: “رسول الله”، كذلك تستطيع أن تقول: “أنا مسلم”، لكن أين المسلم الذي قال عنه رسول الله ﷺ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ))؟ ترى لسانك مشغولاً بالغيبة والنميمة والسباب والشتائم واللغو.. كلام اللغو: بأن تقول في السهرة أو الجلسة: “بعنا واشترينا وذهبنا وأتينا” فلا يوجد فيه ضرر ولا نفع، هذا ما اسمه؟ لغو، أما الإثم فيكون فيه غيبة أو نميمة أو إفك أو بهتان أو نقل ما ليس لك به علم، فتَحْكُم بالظّنون أو الشُّبَه، أو إذا رأيت على أخيك المسلم عيباً أو عورة أو نقصاً، فتشهّر به أو تنقله للناس، فهذا شرعاً حرام.
أتى ماعز رضي الله عنه إلى النبي ﷺ فقال: ” يَا رَسُولَ اللَّهِ زَنَيْت فَطَهِّرْنِي”، فقال النبي ﷺ ستراً عليه: ((لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، لَعَلَّكَ لَمَسْتَ)) بينما الآن إذا رأوا رجلاً يمشي مع زوجته يقولون: “مِن أين التقَطَ هذه؟”، [يقصدون أنها عشيقته من الحرام] فأول ما يخطر على بالهم سوء الظن، وإذا كان معه وعاء من زجاج فيه زيت زيتون، يقولون: “هذا قادم من بائع الخمر”.. فنقرأ القرآن بلا طهارة القلب، لذلك لا يبقى أثره في القلب ليظهر أثره في العمل.
قال: ” زَنَيْت فَطَهِّرْنِي”، قال: اتِني غداً ، لعله يتراجع غداً عن إقراره واعترافه.
التسليم لشيخ التزكية
يأتي أحدهم يقول لك: “أنا رأيت بعيني” وهو كذّاب، فلمّا تقيم عليه البيّنة بكذبه يقول لك: “سمعت الناس هكذا يقولون”، ((كان النَّبِيُّ ﷺ يكره قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ)) ، لا يوجد إسلام في لساننا ولا في مجالسنا ولا مع أصحابنا ولا مع إخواننا ولا مع أحبابنا، لماذا؟ لأنه هل يصير الخَبّاز خبازاً من غير فَرَّان؟ وهل تصير نجاراً من غير معلم؟ وهل تصير مسلماً من غير شيخ؟! ومن لا شيخ له فشيخه الشيطان، ومتى يكون شيخُك شيخاً؟ لما تكون مرتبطاً به مثل ارتباط عربات القطار بالقطار، فإن مشى تمشي وإن وقف تقف وإن أسرع تسرع وإن أبطأ تبطئ، فتكون مربوطاً به في كل تصرفاتك، قال ﷺ: ((لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ)) .
لذلك كان شيخنا يقول: “أنا معكم لست بشيخ، أنا أخ”، ماذا أريد أن أقول الآن؟ فصرت أنا المريد وأنتم المشايخ، وأنا أداريكم وأتحمل منكم وأقضي عنكم، والمفروض أن الشيخ مهما قسا ومهما شَدّ ومهما فعل ولو كان مخطئاً، فإن المريد الصّادق لا يُخَطِّئ شيخَه ويقدِّم خطأه على صوابه.
[ينبغي التنويه أن كلام سماحة الشيخ هنا لا يؤخذ على إطلاقه، فهو هنا في موضع الحب والتربية والتأديب، لأن هناك من الموجودين بسبب جهله وقِصَر فهمه وقلَّة علمه ينتقد الشيخ أو يتكلم في حقه ولا يفهم الأمور الكبيرة، فيتكلم بما لا يدري، وربما يضرّ نفسه قبل أن يضر غيره، فيحتاج إلى هذا التوجيه، بينما المنهج العام الذي كان يسير عليه الشيخ رحمه الله ويكرره مراراً مع إخوانه أن يستخدموا عقولهم في كل شيء، وأن لا يَتَّبِعُوه من غير بصيرة ودراية، وكان كثيراً ما يقول: “اسألوني عن أي شيء، حتى إنني أقول لكم: اسألوني عن قميصي الداخلي الذي على جلدي”.. ثم إنه لا يمكن لشيخ الحكمة -رحمه الله- أن يعلِّم الحكمة بهذا المستوى العالي، ثم يقول لتلامذته غيِّبوا عقولكم وسيروا على غير ضياء ونور.. مع أنه لا يخفى لذي لُبٍّ أن مصلحة الطفل الصغير أن ينقاد لأبيه وأمه ومَن يربيه انقياداً كاملاً، وإن خالفهم في بعض الأمور ربما أودى بحياته، ولكن عندما ينضج ويكبر يصير أبوه صديقَه، وحينئذ يتغير الأسلوب معه بشكل كامل.. وهكذا في كل مهنة أو فَنٍّ لابد للمبتدئ أن يُسلِّم للمعلم وينقاد له، فمن البدهي مثلاً لمن يريد أن يتعلم لغة جديدة إذا بدأ بالانتقاد؛ لماذا تلفظ هكذا ولماذا تقولها بهذا الشكل ولماذا القاعدة هكذا وهذا خطأ وهذا غير جميل.. فلن يتعلم تلك اللغة، ولا يمكن له أن يتعلم إلا إذا سَلَّم وانقاد.. وهذا مقبول في كل العلوم والمهن ولا يوجد له منكر، إلا إن كان الأمر في تربية الشيخ المربي لتلامذته ومريديه فترى أكثر المسلمين ينتقدونه ويُخَطِّؤونه].
سيدنا الخضر بنظر موسى عليه السلام ماذا كان؟ مخطئاً، وفي الحقيقة هل كان عمل الخضر خطأً أم صواباً؟ وصواب موسى وهو كليم الله ماذا كان في الواقع؟ نقرأ القرآن لكن ليس للفهم ولا للعلم، فلو أردنا العلم والفهم مع طهارة القلب سيفهّمنا الله معاني القرآن وتصير فينا أخلاقاً وأعمالاّ وسلوكاً، وهذه تحتاج إلى قلب، كما قال تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة:79] وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب:33] هل هو تطهير بالماء في الحَمَّام؟ بل تطهير القلب من نجاساته ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة:28] وتطهير القلب من ظلماته ﴿لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [الحديد:9].
ما معنى الحاملات؟
﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا﴾ فحلف الله بها حتى نعرف قدرها وشأنها ونشكر الله عليها وأن يجعلها الله علينا رحمةً ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ [الحجر:22] ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ [الأعراف:57] مقدمة للمطر ومبشرة بنزوله.
اللهم اسقنا الغيث وارحمنا ولا تؤاخذنا بذنوبنا ولا بإسرافنا ولا بجهلنا ولا بجاهليتنا، اسقنا باسمك الرحمن الرحيم، وبرحمتك الواسعة التي وسعت كل شيء.
فلمّا يحلف الله معنى ذلك أن هناك أمر عظيم سيقصُّه الله علينا، فقال: ﴿فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا﴾ [الذاريات:2] الوِقْر: الشّيء الثّقيل، فالسيل ونهر النيل ونهر الفرات ودجلة من أين يأتون؟ وهل هذا شيء ثقيل أم خفيف؟ أتى من السّماء فنزل في خزانات الأرض فأخرجه الله ينابيع، فكم طنّاً يُقَدَّر نهر الفرات ونهر النيل؟ فهل هو ثقيل وَوِقْر أم هو خفيف؟
﴿فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا﴾ هي السّحاب والغيوم التي تحمل الحمل الثقيل في جو السماء، فهي طائرات ربانية تحمل المياه للزروع والإنسان والحيوان أنهاراً وبحاراً وخيرات، لتكون معمل التحلية الإلهية، فيخرجه من البحر بعد أن يترك ملحه في البحر، فيخرجه محلّىً، ويبعث الرياح تسوقه، فلو صعد من البحر ونزل فوق البحر مثل غطاء “الطنجرة” [إناء الطهي] الذي يكون عليه البخار، فلما تبرد الطنجرة أين ينزل؟ ينزل على الطّنجرة، فيبعث الله عز وجل الذاريات ذرواً لتسوق بخار الماء إلى طبقة عالية حتى يتحول ماءً ثمّ بأعمال ربانية ميكانيكية ينزله حيث يشاء، وبالكمية التي يشاء.
﴿فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا﴾ [الذاريات:2] أُقسم بهذا السحاب العظيم الذي فيه حياة كلّ المخلوقات.. وهذه السحب تسير بأحمالها الثقيلة، فهل وقود سيرها من البنزين أم الكهرباء أم المازوت أم الفحم الحجري؟ فلو دفعنا أجرة القوة المحرِّكَة كم سيكون الثمن؟ وبأي محرك أو جهاز كهربائي أو ميكانيكي أو دافع تسير؟ فهل تذكر الله عز وجل وهل تشكره على هذه النعمة؟
﴿فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا﴾ يجب علينا جميعاً أن تخفق قلوبنا، لأن الله سيقص علينا قصة ويحلف لنا الأيمان حتى نعمل عملاً يخبرنا به.
معنى الجاريات
﴿فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا﴾ [الذاريات:3] ما الجاريات؟ هي السّفن التي تجري في البحر بيسر، كانت السفن عبارة عن سفن شراعية، يأتي الهواء فيدفع الشراع فتمشي السفينة، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾ [الشورى:32] مثل الجبال ﴿إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظۡلَلۡنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهۡرِهِ﴾ [الشورى:33] وإذا سَيَّرَها بالبترول فمن خلق البترول؟ وإذا سيرها بالكهرباء، فمن خلق الوسائل والعقل والمخ حتى استطعنا أن نُوَلِّد الكهرباء؟ فمن خلق المخ الذي اخترع الكهرباء؟ ومن صنعه؟ فيه أربعة عشر مليار خلية، ولكل خلية عمل غير عمل الأولى، وكل الخلايا تعمل بشكل موحّد لا تشذ واحدة منها، فكلهن يعملن بانسجام، كما ربى الإسلام المسلمين أن يكونوا كالجسد الواحد ومن شَذَّ شَذَّ في النار، ففي الصنع الإلهي لا يوجد شذوذ، قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء:44]. ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت:11] فالأرض تمشي بسرعة مئة وثمانية آلاف كيلو متر حول الشمس، فبأي طاقة تمشي؟ وتدور حول نفسها، فمن يدورها؟ وبأي طاقة؟ وأي نظام؟ ومن وضع المخطط؟ ومن المهندس؟ وكم طنّاً تحمل؟ وكم راكباً تحمل؟ هناك من هو أغلظ من أهل الأرض جميعاً، وهو الكافر الناسي لله.. إن اللعاب الذي في فمك لو نشف ودفعتَ مئة ألف بليون ليرة، فإذا لم يأذن الله تموت بجفاف حلقك ولسانك وفمك، هناك ست غُدَدٍ هي ست ينابيع للعاب تفرز بمقدار معين، لكي يكون اللّسان “مُزَيَّتاً” [رطباً] بشكل دائم، فإذا رطّب الله لسانك وأعطاه القوّة والحركة فلا تستعمله بمعصية الله ولا تستعمله في اللغو، بل استعمله في الكلام الطيب، قال تعالى: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ [الحج:24].
﴿فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا﴾ [الذاريات:2-3] تجلب لك الأرزاق من مشارق الأرض إلى مغاربها، وقد سَهَّل الله طريقها، فالبحر مُسَهَّل لسير السفن عليه، والوقود إما من الهواء أو من النفط، وكله من خلق الله تعالى، قال تعالى: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [لقمان:11] هل تستطيع أن تخلق دبوراً أو نحلة أو ذبابة أو بعوضة؟
معنى المقسِّمات
﴿فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا﴾ [الذاريات:2-4] هي الملائكة التي تُقَسِّم الأرزاق وتُقَسِّم الأمطار.. وفي الرحم لما يُخَلَّق الولدُ يقول الملَك: يا رب ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما عمره؟ فيُسَجِّلُونه كلَّه ويُقَسِّمُونه ويُرَتِّبُونه.
فكم يميناً قد حلف الله عز وجل؟ أربعة أيمان، وإذا أريد الآن أن أكلمكم عن شيء وأعرف أنكم تصدقونني، فمثلاً إن أردت أن أقول للشيخ رجب كلمة فهل يوجد حاجة أن أحلف له مع علمي أنه يصدقني؟ أمّا إن وُجِد أحد مكذِّب فمن الممكن أن يضطرني أن أحلف له؟ فهذا الحلف لمن؟ لقد كانوا كفاراً، وأما المؤمن فإن كان هذا الأمر الذي سيكلمه الله به عظيماً في نفسه فعليه أن يجعله أعظم ممّا كان عليه من قبل.
وعد الله عز وجل
﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ [الذاريات:5] وَعَدَكم الله في القرآن ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ سيجعلهم خلفاءه على العالم ﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ [النور:55] فهل صدق الله وعده؟
سبق الإسلامُ العالَم في أمور عدة
سألت إخواننا المسلمين في الصين عن تاريخ وصول الإسلام إلى الصين فقالوا: في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ونزلت جيوش سيدنا عثمان في إسبانيا نزول استكشافٍ لا استقرار، فبخمس وعشرين سنة حرر العربُ نصف الكرة الأرضية من الاستعمار ومن الجهل ومن الخرافات ومن العداوات ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:10] وأعطوها حرية المعتقد وحرية الفكر، وحرروها من الفقر.
لما عقد سيدنا خالد رضي الله عنه الصلح في الحيرة مع نصارى الحيرة فمن جملة شروط الصلح: بأنّ النصراني المواطن إذا تعطّل عن العمل فنفقته ونفقة أهله على بيت مال المسلمين، وإذا كان مديوناً وعجز عن الأداء فدينه على بيت مال المسلمين؛ ضمان اجتماعي، وضمان ضد البطالة، وضمان ضد العجز عن أداء الدّين، مع إعفاء كلّ رجال الدّين مع نصرانيتهم من كلّ ضرائب الدولة الإسلامية، فأيّ حكم -وإلى الآن- في مشارق الأرض ومغاربها وأيّ ديمقراطية إلى الآن تستطيع أن تجلس في عتبة الإسلام؟
فلمّا حدد سيدنا عمر رضي الله عنه وبإجماع الصحابة مهور النساء بأربع مئة درهم، والخليفة قاهر كسرى وقيصر.. يقولون الآن: نريد أن نحرّر المرأة! فمن حرّر المرأة؟ فسورة النساء من أطول سور القرآن، سماها سورة النساء، وكلّها تكريم لهنّ وتذكير بحقهنّ وقدرهنّ عند الله عز وجل، فكلها أحكام وكلها مناصرة للمرأة وإرجاع حقوقها المغصوبة التي غصبها الرجل القوي.
وسورة المجادِلة لمّا طالبت بحقها، فما سماها الله المطالبة بحقها، بل سمّاها مجادلة وتقبّل جدلها وقال: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ﴾ [المجادلة:1].
امرأة في آخر الصفوف قالت: “ليس لك ذلك يا ابن الخطاب”، تريد أن تحدد مهر النساء! أما سمعت الله يقول: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾ [النساء:20] أتدري كم هو القنطار؟ .
الآن بالبرلمان إذا خالف شخص وكان على الحق فهل يأخذون برأيه؟ لا؛ لأنهم يأخذون رأي الأكثرية، هذه الديمقراطية، أمّا في الإسلام فالكلام للحق والعدل ولو كان من طفل صغير.
فمِن خَلْق آدم إلى أن تقوم الساعة هل أتى حكم كالإسلام يحترم حقوق الإنسان ولو اختلف الدّين والقومية واللغة؟ ما معنى ابن السبيل: الغريب غير المواطن، قال تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [النساء:36] هذا غريب غير مواطن وأجنبي، فابن السبيل: ابن الطريق الذي يكون في سفر في الطرقات، فعليكم أن تعتنوا فيه وتؤدوا إليه حقه إن كان فقيراً أو كان جائعاً أو ليس له مأوى فتساعدوه أو كان مريضاً فتداوه، أين هذا الإسلام؟ فنحن فِكْراً لا نفهمه، لأنّنا لا نريد أن نفهمه، فلو أردت أن تحصل على الخبز تسعى إليه فتحصل عليه، لأنّ الله قد أعطاك رجلين تمشي بهما وعينين ترى بهما الطريق ومعك نقود، وعندما تعطي النقود للفرّان فهل يمتنع؟ وأنت أيضاً لما تريد أن تصير مسلماً فما زال هناك علماء وشيوخ ومربّون وكلّ شيء.. وكذلك لمّا تريد الخمر تذهب إلى الخمارة ولما تريد الفسق تذهب إلى دور الفسق.. وإلى آخره.
بماذا فسر النبي ﷺ وعد الله؟
﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ [الذاريات:5] كان النبي ﷺ يفسّر وعد الله بقوله: ((ستفتح لكم الْهِنْدُ)) هل صدق رسول الله؟ ((ستفتح لكم الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ)) هل صدق رسول الله؟ ((ستفتح لكم الشَّامِ)) هل صدق رسول الله؟ ((ستملكون كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ)) هل صدق رسول الله؟ وقال فيما معناه وهو موقوف على ابن مسعود: ((لا تَكْرَهُوا مُدَّ الْفُرَاتِ)) طوفانه ((فسيأتي يوم تذهب المرأة إليه فلا تجد فيه كأساً من ماء)) لكن توجد أحاديث صحيحة أن الفرات ينشف ويحصل من أجل جفافه اقتتال، ويموت من المتقاتلين تسعون بالمئة أو أكثر ، والآن إذا صار سد أتاتورك.. [كان الكلام كثيراً في وسائل الإعلام عن سد أتاتورك في تركيا على الفرات في تاريخ هذا الدرس، وكان مما يقال في ذلك أن هذا السدّ سيسبب جفاف الفرات في سوريا والعراق، ونحن بعد أكثر من ثلاثين سنة في تاريخ تدوين هذا الدرس نرى أنه ولله الحمد لم يحصل شيء من ذلك، لكن الآن بدأت تظهر بعض البوادر التي تدل على نقصان تدفق المياه وبدأت تجف مناطق واسعة في العراق] فمن أين أخذ النبي ﷺ هذا العلم وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب؟ فلو قرأت علوم الدنيا كلها فهل تعرف شيئاً من الذي سوف يحدث بعد خمسة عشر قرناً أو بعد مئة قرن أو في عالم الأرض أو في عالم السماء؟ فهل أنت مؤمن بأنه رسول الله؟ أليست كل هذه معجزات؟ ماذا كان العرب؟ ومن كان العرب قبل الإسلام؟ فالذي كان يتكلم بالعربية هم أهل البوادي، أما أهل المدن دمشق وحمص وحماه وحلب فكانوا يتكلمون باليونانية والرومانية، وأهل مصر بالقبطية وشمال إفريقيا بالبربرية، فمن حررها؟ ومن خَلَقَ القومية العربية؟ [يتكلم سماحة الشيخ عن القومية العربية بهذا الشكل، مظهراً أنه لولا الإسلام لما بقي عرب ولا لغة عربية، وهو يخاطب بشكل غير مباشر العرب الذين ينادون بالقومية العربية، ويقول لهم: لماذا تتنكرون للإسلام وتحاربونه ولولاه لما كانت قوميتكم ولا لغتكم.. ولم يكن الشيخ ينادي أو يدعو للقومية ولا للعروبة، كما يفعل القوميون العرب، ولم يكن يحاربها أيضاً، بل كان يدعو دائماً للإسلام، ويحترم جميع القوميات والشعوب] رأيت في كتاب أن المستعمرين يقولون: “كنا نحارب المسلمين في الحروب الصليبية بحروب العنف والسلاح، فالآن ينبغي أن نحاربهم الحرب البطيئة، بأن نحارب الإسلام والمعتقدات في قلوبهم وأفكارهم وأخلاقهم؛ تهديم العقيدة في القلب والنفس، وتهديم الأخلاق في المعاملة، والجهل في أحكام الإسلام” وهذا حاصل في كلّ العالم الإسلامي، ويضاف إلى ذلك أيضاً فَقْد العالِم الذي عناه القرآن وعناه رسول الله ﷺ، فالعالم الحقيقي وارث رسول الله يرث حكمته وروحانيته؛ يرث من روحانيته ومن أخلاقه وسلوكه ودعوته وإرشاده، فهذا وارث رسول الله! أمّا الشّهادة [الورقية فماذا تنتج؟]، وإذا كنت وارث النبي فهل عملت كما عمل؟ فقد بذل كل ما يملك من طاقة ليُخرِج الناس من الظلمات إلى النور ومن الشقاء إلى السعادة ومن الجهالة إلى العلم والحكمة والمعرفة وتزكية النفس.
﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ [الذاريات:5] وَعَد الله عز وجل أنه يوجد حساب وآخرة، فأعمالك كلّها مسجَّلة عليك، ويأتي يوم من الأيام يُوقِف الله لسانك ويُشهِد عليك أعضاءك؛ أين مشت رجلُك؟ وما هو المشوار؟ وأين دخلت؟ قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ﴾ [النور:24] ففي مواقف يشهد اللسان، وفي مواقف أخرى اللسان لا يدافع، لكن الأعضاءَ كلَّها تشهد، فهذا وعد الله وهل هذا سيقع أم لن يقع؟ فإذا وقع وأنت تارك للصلاة أو منّاع للزكاة أو مؤذ بلسانك أو بيدك أو برجلك أو كنت لا تتفقه في دينك.. ((وطلب العلم فريضةٌ على كل مسلمٍ)) ومسلمة، “ومن المهد إلى اللحد” ، من حضن أمك حتى تدخل قبرك، فأمّا نحن فعندنا طلب الدنيا والمال والشغل من المهد إلى اللحد.
التأكيد على وقوع يوم الدين
﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ [الذاريات:5-6]، أليست فتنة القبر وعداً، وكذلك عذاب القبر؟ مر النبي ﷺ وهو راكب بغلته على قبر فجفلت، حتى كاد النبي ﷺ أن يسقط، فأمسكوها، فقال: إن هذه الحيوانات ترى مالا ترون، فرأت قبرين يعذب صاحباهما ((أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لا يستنزه مِنْ بَوْلِهِ)) فلمّا يقضي حاجته يبقى شيء من النجاسة في لباسه الداخلي أو يصيب لباسه الخارجي، ((وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بين الناس بِالنَّمِيمَةِ)) ، ما أكثر النميمة! ولا تظن أنّ النمّام هو الذي يتكلم فقط، بل يشمل شريكه الذي يستمع إليه.
رأى أحد الصالحين في منامه وقد قُدِّم له جُثَّة عبد زنجي ميّت، وقالوا له: “كُلْ من لحمه”، قال: “كيف آكل من لحمه وهو ميّت؟” فقيل له: “ألم يقل الله تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ [الحجرات:12]؟” فإنّك اغتبته، فقال: “لم أغتبه”، فقالوا له: “البارحة بالمكان الفلاني”، فقال: “هم اغتابوه وأنا لم أغتبه”.
ترى المسلم في وقتنا الحاضر حينما يسمع كلام غيبة على مسلم آخر يُسَرّ ويُشارِك.. لما كان الصحابة في الحديبية ومنعوهم من العمرة، مرّ بعض الوثنيين المشركين وهم ذاهبون إلى العمرة، فقال المسلمون: كما منعونا من العمرة فلنمنع جماعتهم من العمرة، فقال الله تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾ [المائدة:2] فهؤلاء أبرياء ولو مشركين! ما أعظم عدالة القرآن! والآية الأخرى بعدها في المائدة: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة:8] نسأل الله أن يجعلنا مسلمين قبل أن نموت، فإذا متَّ وليس عندك من الإسلام إلا واحد من الألف فلا يوجد استدراك هناك.
الحساب بعد الموت
﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ [الذاريات:5] مِن وَعْدِ الله أنّ الله سيبعثك بعد موتك ويحاسبك على أعمالك وعلى أقوالك وعلى ما في صدرك ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران:119] وعلى سرائرك وعلانيتك ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [النحل:19] ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ [البقرة:284] إن كان هناك حقد أو غلّ أو نية سوء ﴿يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ [البقرة:284] إنّ القرآن إذا لم يظهر في أعمالكَ وفي أعمالكِ وفي أخلاقك وفي معاملاتك فلا تفرح أنك أتيت إلى الجامع وتقول: سمعنا الدرس أو ذكرنا الله وقلنا: “الله الله”! أرنا اللهَ عند غضبك وعند أهوائك وعند مطامعك وعند أنانيتك وعند مصالحك، أرنا الله هنا.
قصة ابن عمر مع الراعي
رأى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما راعياً في طريق المدينة، وكان عطشاناً فطلب منه أن يشرب الحليب [اللبن]، فأحضر له الحليب وشرب، وزاد قليل منه، فقال له: “اشرب”، فقال الراعي: “أنا صائم”.. وحرارة الشمس في الحجاز تزيد على خمس وأربعين درجة، فقال له: أبهذا الحرّ تصوم؟ فقال له: “لأتقي به حرّ يوم القيامة”.. هناك من يصوم كثيراً لكنه عند مصالحه ينسى الصوم وينسى الصلاة وينسى المسبحة وينسى الذكر وينسى حق المسلم على أخيه المسلم.
أراد سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن يختبره، هل يصوم فقط؟ وماذا عن بقية العبادات؟ فقال له: “اذبح لنا شاةً”، فقال له: لست بصاحب الغنم، فأنا عبدٌ لصاحب الغنم، فقال له ابن عمر: نعطيك ثمنها وقل له: أكلها الذئب.. فما أَتَمّ كلمته حتى صاح بوجهه ورنّ بذلك الوادي قائلاً: فأين الله؟ فأين الله؟ فأين الله؟ فمِن صِدْق الراعي تأثر عبد الله بن عمر رضي الله عنه بحال الراعي وصار يقول: فأين الله؟ فأين الله؟ هذا الإسلام! يكون عند الشهوات وعند الأهواء وعند الرضا وعند الغضب وعند الحب وعند العداوة، ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النساء:135] فإذا أخطأت قل: “أنا أخطأت” هذه هي الشجاعة، يظن النّاس أنّ الشّجاعة أن يضرب أو يسب أو يشتم، وهذا خطأ، فالشجاعة: هي الإقدام على المكاره في أمور الفضائل والمكارم، فإذا أقدمت بشجاعة في الجهاد فهذه شجاعة، وإن أقدمت لدفع الأعداء فهذه شجاعة، أمّا أن تكون شجاعتك على ضعيف أو على مظلوم أو بغير حق فهذا اسمه ظلم أو تهور أو حماقة.
وهناك الشجاعة الأدبية، فإذا أذنبت فأغلب الناس عندهم جبن وخوف من أن يعترف بالواقع بأن يقول: أنا أخطأت، فهذا جبان، فالشّجاع إذا أخطأ يقول: “أنا أخطأت”.. لمـّا عبس النبي ﷺ بوجه ابن أم مكتوم ونزل الوحي ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ [عبس:1] فلو كان النبي ﷺ جباناً لما قرأ السورة على المسلمين، لأن فيها عتب ومؤاخذة ومحاكمة للنبي عليه الصلاة والسلام، لكن النبي ﷺ أشجع الشجعان، فبَلَّغها للناس ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى﴾ [عبس:1-2] فكل هذا عتب على النبي ﷺ ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾ [عبس:3] فإذا أخطأت قل: أنا أخطأت، وإذا أذنبت فقل: “أنا مذنب” فالأمم الراقية هكذا تربي شعوبها.
قد تأخذ شهادة ثانية وثالثة، والغني يظن أنه إن صار عنده ذهب يصير “بني آدم”، [يصير فلان بني آدم: في العامية السورية بمعنى أنه يصير إنساناً سوياً جيداً] فإذا حمّلنا الحمار خُرْجاً من الذهب ماذا يصير؟ يبقى حماراً، وإذا ألبسناه “بِرْنِيطة” [قبعة أجنبية بالنمط الأوربي غالباً] فهل يصير خَوَاجَة؟ حتى لو صار خواجة، لكنه يبقى خواجة حمار. [الخَوَاجَة: رجل من الزعماء أو الأغنياء وأصحاب الطبقة الراقية، وكثيراً ما تُطلَق على الرجل الأوربي ذي المظهر الأنيق].
فالإنسان الحقيقي هو المسلم الحقيقي لا مسلم الادعاء؛ مسلم العلم، ومسلم العقل، ومسلم الحكمة، ومسلم الحلم، ومسلم السلوك، ((أن يحبّ لأخيه ما يحبّه لنفسه)) .
بماذا وعد الله عز وجل عباده؟
﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ [الذاريات:5] قال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾ فهذا وعد، ﴿فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾ الحياة الحسنة والدولة الحسنة والمكانة الحسنة والصحة الحسنة والدار الحسنة ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ [النحل:30] لكن تحتاج لكلمة “آمنوا” ((لَيْسَ الإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي، ولكن الإِيمَانَ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ)) ، بأن يظهر إيمانك في أعمالك وفي أخلاقك، ويظهر حلمك في غضبك، ويظهر تأنيّك في الأمور التي تثيرك، فالمؤمن هو الإنسان الفاضل الكامل.. ويبدأ من حياة القلب بالله التي تأتي من كثرة النوافل ومن كثرة ذكر الله حسب منطوق القرآن، ومن الهجرة إلى وارث محمدي، فهل كانت الهجرة من مكة إلى المدينة أم من أهله ودياره ومن المحيط الجاهلي إلى محيط العلم والحكمة وتزكية النفس الممَثَّلَة في شخص رسول الله ﷺ؟
هاجرت أم سلمة رضي الله عنها، امرأة وحدها وكان ابنها الرّضيع معها وأتى أهله [أهل زوجها] يريدون أخذه منها، فشدته وشدوه حتى خلعوا يده، ومنعوها من أخذه، فقالوا لها: “إن أردت الذهاب فاذهبي وحدك لأن الولد ابننا”، فبقيت سنة تبكي، ثم أعطوها ولدها، فهاجرت وحدها خمس مئة كيلومتر من مكّة إلى المدينة ومن الجهل إلى العلم ومن الكفر إلى التّقوى ومن اللا تربية إلى مدرسة التربية، ومن الإنسان الخام إلى مصنعِ تصنيع الإنسان الفاضل، ثم حلّت أم سلمة بالإسلام أعظم مشكلة سياسية وحربية وقومية في صلح الحديبية، ومازال البعض يقول: “المرأة ناقصة!” فالنّاقص هو قليل الدين، هناك امرأة واحدة مؤمنة صالحة أفضل من مئة ألف رجل فاسق ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾ هل الرجال؟ ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:13]، فالنسب والحسب والغنى كله ليس له قيمة عند الله.
﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ [الذاريات:5] سواء وعود الآخرة من الجنة والنار والحساب والوقوف بين يدي الله وقراءة الكتاب ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ﴾ [الإسراء:14]، ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ [الانشقاق:7] فهذا كله وعد، كم يميناً حلف الله عز وجل؟ أربعة أيمان بأنه ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ فهل صدقتم كلام الله؟ لكننا نقول: “لا نصدق! فهذا كلّه كلام بكلام!” إن كنا لا نقول ذلك بألسنتنا لكن أعمالنا هي تنطق بهذا المعنى، نقرأ ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)﴾ وبعدها ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5)﴾ فلا نفهم الذاريات ولا ﴿فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2)﴾ ولا ﴿فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3)﴾ ولا ﴿فَالْمُقَسِّمَاتِ﴾ الملائكة ﴿أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5)﴾ فبماذا وعدنا الله عز وجل؟ وَعَدَنا في الدنيا لمن اتقى واستقام بعزّ الدنيا والآخرة، وفي الآخرة كذلك سعادة الأبد لمن اتقى الله في كلّ شؤونه والعكس بالعكس.
﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ يمين ثم يمين ثم يمين ثم يمين، ثم قال: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ فهل صدقتم الله؟ هل من الضروري أن يحلف الله لكم الأيمان؟ فقد حلف لأهل الجاهلية، وليس من الضروري أن يحلف لنا، ومع ذلك يحلف الله لنا، لكننا صرنا أسوء من أهل الجاهلية، فهم قد سمعوا، وبعد ذلك أثّر فيهم وصدّقوا وعد الله ووعيده.
معنى الدين
﴿وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ ما الدِّين؟ ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار:17-19] الدين هو الجزاء، كما تدين تدان وبالكيل الذي تكيل تكتال، تزرع قمحاً ينبت قمحاً وتزرع شعيراً ينبت شعيراً، فالدنيا مزرعة الآخرة.. فبهاتين الكلمتين ومن غير يمين تقتضي أن تصدّق الله.. ولمـّا تقرأ القرآن تقول في الختام: “صدق الله العظيم” صَدَّقت بلسانك أمّا بأعمالك فهل صدّقت؟ سواء عند غضبك أو عند رضاك أو من أجل قرابتك أو من أجل صاحبك أو من أجل صديقك أو عند أنانيتك أو عند مصلحتك، والواجب ((أن يكون الله ورسوله أحبّ إليك مما سواهما)) .
غداً يا بني ستجد ما قال تعالى في سورة ق: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18] وقوله: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق:16] هل تستطيع أن تعمل شيئاً قبيحاً أمام ابنك الصغير؟ فإذا كان الله معك وهو أقرب إليك من روحك، كيف يجب أن تكون طاعتك لله وحذرك من معصيته؟ وسبب ذلك كلِّه: الغفلة، وقد حذر الله من الغفلة فقال: ﴿وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [الأعراف:205] وقال: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر:22] فلا يتذكّر الله من قسوة قلبه، فمحرك السيارة إن تعطل فهل يتصلح لوحده؟ نأخذه إلى “المَكَنِسْيَان [مصلح السيارات]، وإذا سَوَّسَ سنُّك فهل لوحده يشفى؟ لا؛ بل تذهب إلى طبيب الأسنان، وإذا صارت مياه زرقاء بعينك هل لوحدها تذهب؟ بل تذهب إلى طبيب العيون، وإذا كان دينك خَرِباً؟ وأنت يا بني لا تشعر بالخراب لأنك ميت القلب، فالميّت إن لدغه ثعبان هل يصرخ؟ وإن مشى قطار على رجله هل يطلب النجدة؟ وهل هذه شجاعة؟ هذا موت.. فالذي لا يخاف من الله عز وجل هو ميت القلب وميت الضمير وميت الوجدان وميت الشعور بالله.
معنى السماء ذات الحبك:
﴿وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ [الذاريات:6] ثمّ حلف يميناً آخر فقال: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ [الذاريات:7] ومعنى هذه الإيمان أن الذي خلق هذه المخلوقات من الرياح وسخّر البحار للسفن وسخّر السّحاب لتحمل الأنهار العظيمة في الفضاء فتَخْتَزِنها في ينابيعها لتَخْرُج أنهاراً عظيمةً كالبحار لتضمن لكم الحياة والاستقرار.
وبعد ذلك قال: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ [الذاريات:7] محبوكة حبكاً بالنجوم، كان الناس لا يرون من النجوم إلا الذي تراه العين، والذي تراه العين من نجوم السماء لا يتجاوز ستة آلاف نجم، أمّا العدد الحقيقي فقد قال علماء الفلك: لو وُضِع رقم واحد على خط الاستواء، أين خط الاستواء؟ الذي بنصف الكرة الأرضية، ووُضِع أمام الواحد أصفار، فإذا وضعنا صفراً واحداً صارت عشرة، وإن وضعنا صفرين صارت مئة، وإذا وضعنا ثلاثة أصفار صارت ألفاً، وإذا وضعنا أصفاراً على مدار الكرة الأرضية كلها حتى يرجع الصفر الأخير لوراء الواحد، فما اسم هذا الرقم؟ فهذا الرقم لا يحيط بعدد النجوم والشموس والأقمار والكواكب التي خلقها الله في هذا الكون، هذا قول علماء الفلك في العصر الحديث.
فحلف بالسماء التي حُبِكَت حبكاً، ومتشابكة تشابكاً بنظرنا، لأن الحقيقة لا يوجد تشابك، فبين النجم والآخر آلاف السنين الضوئية وأقل من ذلك وأكثر، ولكل واحد طريقه.
﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ [الذاريات:7] ذات الجمال، وفي تفسير ذات الطرق، فلكل واحدة طريق لا تتركه إلى طريق آخر، فللسيارة مسار للذهاب ومسار للإياب، فلو غيّرتْ إحدى السيارات مسارها لحدث الاصطدام.
ذات الحبك: ذات الطرق المنظمة المحددة، فالأرض بعظمتها لا تخرج عن سِكَّتِها ولا ميليمتر إلا بالترتيب الإلهي، ويُغَيِّرها من أجل تحقيق الفصول الأربعة والليل والنهار.. وإلى آخره.
موقف الناس من النبي ﷺ:
﴿إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾ [الذاريات:8] أُقسِم بالسماء المُحَبَّكة بالنجوم وبجمال النجوم وبطرق النجوم بأنكم لفي قول مختلف؛ فمرّة تقولون عن النبي ﷺ: “مجنون” ومرة: “ساحر” ومرة: “كاهن”، وعن القرآن: “أساطير الأولين”، “ويُعَلِّمه بشر”، وعن الآخرة: ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ [الصافات:16].
﴿إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)﴾ بعيد عن الحقيقة ﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ﴾ يُؤفَك عن القول الحق ﴿مَنْ أُفِكَ (9)﴾ يُصرف عن الإيمان وعن قبول الحقيقة من يَستَحق أن يُصْرَف عنه، فمن يصرفه الله عن الحقيقة إلى الباطل وعن الهدى إلى الضلال وعن العلم إلى الجهل؟ كلّ من أراد اللهُ خذلانَه وشقاءه وتعاسته حسب القانون الإلهي، فقد جعل الله لك الاختيار الكامل، فإن اخترت الهدى يهديك وإن اخترت الضّلال يُضِلُّك، فمن الذي يَنصَرِف عن الهدى؟ قال: يُصرَف عنه من صُرِف من أهل الخذلان ومن أهل التعاسة والشقاوة، فبعد أن يرى الحق يزيغ، أو يُوضَع الحجاب على عقله وقلبه وبصيرته فلا يُفَرِّق بين نور وظلام مثل الأعمى، ولا بين صوت جميل وقبيح إن كان أطرشاً، وإذا ختم الله على قلبه فلا يفرق بين الحق والباطل ولا بين الهدى والضلال ولا بين الكفر والإيمان.
﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ﴾ [الذاريات:9] وقد تكون ماشياً بطريق الحقّ فيُؤفِكُك الله عنه ويصرفك لأمر ما، وذلك بسببك، فإمّا لأنك تجلس مع القوم الفاسقين أو مع القوم الضالين و((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِه، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)) ، أو لأنك تُطِيْع هواك وأناك ومصلحتك، فتغضب لنفسك، وعليك أن تغضب لله، وإذا غضبت لله فيجب أن يكون غضبك ضمن الحكمة، فنغضب لله لكن ضمن حدود الحكمة.
قصة في الحكمة في دعوة أحد الملوك:
كان ملك من الملوك لا يلبس إلّا الحرير، وهذا محرّم على الرجال؛ لأنّ الإسلام ينشئ جيلاً مُتَخَوشناً لا جيلاً مُخنّثاً، لذلك فالذهب والحرير محرّمان على الرجال.. وعظ الملكَ كثير من العلماء، لكنه لم يتعظ، فهذا يقول له: حرام، وهذا يقول له: يدخلك الله النار، لكنه لم يفهم، فقال لهم فقيه حكيم: اتركوه لي، فدخل عليه، فلما قعد آنسه، ثم وضع يده على الثّوب الحرير الملكي، فقال له: ما هذا الثوب يا ملك الزمان؟ فهذا لا يليق بك، فكل النّاس صاروا يلبسون منه، وأنت ملك الزمان تلبس مثل ما يلبس العوام! فما زال يتكلم معه بهذه اللغة والمنطق حتى أقنعه، فقال له: ماذا ألبس؟ فقال له: أتى شالٌ عجميٌّ؛ صوفٌ أنعم من الحرير، وأغلى من الحرير بعشرين مرة، وهذا الذي يليق بك، فقال له: جزاك الله خيراً ليس عندي علم به، فخلع الحرير المحرَّم وألبسه الصوف المباح، ليس بفقهه فقط، بل بفقهه وحكمته، فإذا قال له: “حرام” فهذا فقه، لكن كيف تنقله من الحرام إلى الحلال؟ تحتاج الحكمة، فأن تقول لفلان: “أنت زنيت ويلزمك الحد” فهذا فقه، أمّا المقصود أن تنقله من الحرام إلى الحلال بالطريق الحكيم، مثل ماعز عندما قال له ﷺ: ((لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، لَعَلَّكَ لَامَسْتَ)) ((ومَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ مؤمن تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ)) ، فالناس الآن إذا كان الشخص ليس له عورة يخلقون له عورة كذباً وبهتاناً، وبمجرد أن يتكلم أحدهم يكون عدواً مغرضاً، حاسداً وحاقداً.. الكثير من الناس اليوم -إن لم يكن الأكثر- لم يبق شيء يلجم هواهم عن معصية الله لا في سمع ولا في بصر ولا في لسان ولا في معاملة إلّا من رحم الله؛ لأنّ الجوامع خَرِبة، فهي تُعَمَّر بذكر الله والعلم والحكمة والتزّكية، فإذا لم يكن في الجامع المعلم الحكيم المزّكي فهذا جامع خَرِب، وهذا خراب، قال الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ هل المهندسون والبناؤون؟ لا ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [التوبة:18].
وقال تعالى: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ﴾ هل بالحديد والإسمنت؟ ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة:108] نسأل الله عز وجل أن يثبتنا، ولا يصرفنا ويَأْفِكنا عن الحق إلى الباطل ولا عن العلم إلى الجهل ولا عن الذكر إلى الغفلة ولا عن تقوى الله إلى الهوى والأنا، وهذا ما كان يدعو به النبي عليه الصلاة والسلام حيث يقول: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ)) ألا يقولون: كَوَّر العمامة، فإذا نقضها فهذا حور، يعني من النقصان بعد الزّيادة ومن النّقص بعد الكمال ومن الجهل بعد العلم ومن المعصية بعد الاستقامة ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ)).
﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ﴾ عن الحق إلى الباطل ﴿مَنْ أُفِكَ﴾ [الذاريات:9] ومن الذي يُؤْفَك؟ هو الذي يطلب الإفك ويطلب الانصراف، فإن كنت تريد الهداية والله يضلّك فهذا مستحيل، ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد:17]، ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5].
الآخرة يقين:
﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ﴾ [الذاريات:10] الخرص: هو التّخمين، مثل “الضَّمَّان” لما يريد أن يضمن بستاناً يخرّص ويخمّن: مئة قنطار أو مئتي قنطار.. [الضَّمَّان هو الذي يأتي إلى محصول زراعي أثناء نضجه، ويشتريه من المالك، ويكون السعر المحدد بناءً على تخمين الضَّمَّان وظنه لكمية المحصول بعد نضجه ثم الثمن الذي يبيعه به] فقد يصح وقد لا يصح، وقد يربح وقد يخسر، ففي الدنيا إذا خسرت تخسر الدنيا، أمّا بالآخرة فهل تكون من الخرّاصين؟ هل يوجد آخرة أو لا يوجد؟! ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ﴾ يعني لُعنوا وهَلَكوا، لأنّهم مُشَكِّكين، والآخرة يقين.. واللهِ سنموت كما ننام وسنبعث يوم القيامة كما نستيقظ من نومنا وسنحاسب على كلّ أعمالنا وعلى مثاقيل الذّرّ إلّا أن يتغمدنا الله برحمةٍ منه وفضل، لكن مَن الذي يَتَغَمَّده الله برحمته؟ هو الذي يحسب حساب الله ويبذل جهده، وإذا صدر منه تقصير فالله يغفره، أمّا أن يترك كل شيء ويقول: “إن الله غفور رحيم”، فقد قال تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه:82].
قصة عن رؤية من مشاهد يوم القيامة:
يقول بعض الصالحين: رأيت في منامي كأنّ القيامة قد قامت وأنّ الموازين نُصِبَت وأن الحساب قد بدأ، وأوتي برجلٍ وُزِنت حسناته وسيئاته، فنقصت حسناته وزادت سيئاته، فرأيت شيئاً من السّماء نزل كالغمام في كفّة الحسنات فرجحت، فقالوا له: “اذهب إلى الجنة”، لأنّ موازين الحسنات ثقلت، ورجل آخر كذلك نقصت كفة حسناته، فنزلت صرّة من السّماء على كفّة الحسنات فرجحت، فقيل له: “اذهب إلى الجنة”، فسأل ما هذا الغمام؟ قيل: هذا الكلام والعلم الذي كان يسمعه ويعلِّمه للناس، فصوّره الله بصورة الغمام وثقّل به الموازين يوم القيامة.. فالذي تَسمعُه عليك أن تُبَلِّغه، قال النبي ﷺ: ((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آية)) ، ولو حديثاً واحداً.
أمّا الصرّة ففتحها فرأى فيها تراباً ثقلّت موازينه، فقال: ما القصة؟ قالوا: “في يوم من الأيام خرج في جنازة رجل فقير، ولما أرادوا أن يدفنوه لم تكن المجرفة موجودة، فلما ذهبوا ليحضروها صار يحمل بيده التراب ليواريه، فوضع قبضة تراب على قبره فكتبها الله له”.. هل تخطر على البال أن هذا الفعل له هذا الأجر؟ بل من الممكن أن تطيش كفة الإنسان بخمسة دراهم، فإذا تعادلت الكفتان ولو كان فيهما القناطير ووضعتَ كأساً من الماء تطيش إحداهما.
والثالث: استوت حسناته وسيئاته فنزلت ورقة من السّماء على كفّة السّيئات فرجحت سيئاته، فقيل: “خذوه إلى جهنم”، فقال لهم: أرجوكم أخبروني! ما هذه الورقة الصغيرة التي ثَقَّلَت ورَجَّحَت سيئاته حتى أُرسل إلى جهنم؟ ففتحوها فإذا بها أنه قد قال لأبيه: “أُفّ”.. فتلك قبضة من تراب.. وهذا هو قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7-8]، والثالث: ما الكلمة؟ كلمة “أُفّ”، فإذا قال الله له: ألم أقل لك أن لا تقول: “أُفّ”؟ ﴿فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ﴾ [الإسراء:23]، وإذا كان قد ضرب وخَبَّص وفعل كلّ شيء وكأنه لم يعمل شيئاً! فهذا موت القلب، وإذا مات القلب لا تؤثّر في مَيِّتِه الموعظة، وإذا ذُكِّر لا يتذكر، وإذا وُعِظ لا يتعظ.. وهذه علامة موت القلب وموتِ الإيمان في القلب.. نسأل الله العافية وأن يحمينا.
وبينما هو ذاهب رأى أباه يسوقونه إلى جهنم، فقال: إلى أين يا أبي؟ فقال له: كما ترى إلى جهنم، فقال له: وأنا مثلك أيضاً، ماذا نعمل؟ فقال للمَلَك مترجياً: أرجوكم ردوني لأتكلم مع الله عز وجل، فسأل الملَكُ فقيل له: ردّوه، فسأله الله عز وجل: ماذا تريد؟ قال: “يا رب وبينما أنا ذاهب إلى جهنم رأيت والدي ذاهباً إليها، فأدعوك أن تقبل أن أضم عذاب والدي إلى عذابي وأنا أتحمل عذابي وعذابه، واغفر لأبي ليدخل الجنة، قال: فيضحك الرب عز وجل ويقول له: لقد عققته في الدنيا وبررته في الآخرة، خذ بيد أبيك وادخل أنت وإياه الجنة.. لكن هذه يا بني لا تصير لكل واحد، واحذروا أن تسيئوا للوالدين في الدنيا، فهذه كانت لواحد ولا تصير لكلّ النّاس.. فالشاهد هو كلمة “أُفّ” .
﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ [الذاريات:5-6] ما الدين؟ الجزاء والثواب والحساب ﴿مَالِكِ﴾ ومَلِك وحاكم ﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة:4] يوم القيامة الذي فيه الحساب على الصّغيرة والكبيرة.
﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ﴾ [الذاريات:9-10] هل الخرّاصون الذين يخمّنون المحاصيل الزراعية أم خَرَّاصي القيامة ومواعيد الله والقرآن؟ يقول: “حُطْ بالخُرْج، بَلا آخرة بَلا شيء” [الخرج: هو الذي يوضع على الحمار ليضع فيه ما يريد.. فهو لا يبالي بما يضع في هذا الخرج، وهذا مثل عامي دارج على ألسنة الناس، وهو يعني أن لا تهتم بالآخرة ولا تفكر بها] ويقول: “إن الله سيغفر لي” وما أدراك وكيف تعرف أن الله سيغفر لك؟ عثمان بن مظعون رضي الله عنه عندما مات قالت زوجته: ((هنيئاً لك الجنة)) فغضب النبي ﷺ وقال لها: ((وما يدريك! أما أنا فلا أدري ما يفعل الله بي، قولي: أرجو له الجنة)) أمّا أن تقولي إنه في الجنة، فأنا لا أدري ماذا سيفعل الله بي! إذا كان النبي ﷺ هكذا، فماذا سنقول نحن؟ وحالنا يقول: سندخل الجنة مباشرة وبلا حساب ولا سؤال ولا مثقال ذرة ولا قرآن.. وحال بعضهم يقول: “إنه سيضرب باب الجنة برجله فيكسره ويدخل”.. إن سيّدنا عزرائيل وخازن جهنم سيذيقانه ألوان العذاب.
﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ﴾ [الذاريات:10] ليس لهم يقين بالآخرة، بل تخريص وتخمين وظن ووهم لا يحجزهم عن معاصي الله ولا يعطيهم قوةً على أداء فرائضهم وواجباتهم نحو الله عز وجل.
﴿الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ﴾ [الذاريات:11] في بحر من الغفلات، حُجبوا عن كلام الله فلا يفقهونه، ويسمع القرآن ولا يفهمه، ويسمع العظة ولا يتعظ؛ لأنّه غارق في غمرة وفي بحيرة من الغفلات ومن الحجب ومن ظلمات الذّنوب ومن ظلمات الغفلات ﴿سَاهُونَ﴾.
﴿يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾ [الذاريات:12] يقولون في الدنيا: متى الآخرة؟ ومتى هذا الوعد؟ يسألون سؤال استهزاء وعناد وتكذيب وكفر، كانوا في الدّنيا ﴿يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾ بهذه الطّريقة، فقال الله: ﴿يَوْمَ هُمْ﴾ هذا هو يوم الدّين، وهو اليوم الذي هم ﴿عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ [الذاريات:13] يعني يُحْرَقون ويُعَذَّبون ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ﴾ العذاب والحريق ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ [الذاريات:14] يقولون للنبي ﷺ: متى هذا الوعد؟ يوجد أناس الآن تقول لهم: خَف من الله، فيقول لك: أرني أين الله؟ فالله قد يمهل.. ويوجد في الدنيا الدّين والجزاء والحساب وكذلك يوجد الجزاء والإدانة في الدار الآخرة، فقد أدان الله فرعون في الدنيا قبل الآخرة، أدانه بماذا؟ وحكم عليه بماذا؟ حكم عليه بالغرق، والنمرود تَنَمْرَد على الله، فبعث الله بعوضة دخلت في أذنه.. والآن يوجد الجراثيم والطفيليات والفيروسات التي لا تُرى بالمكَبِّرات تَرْمِي بوش وغورباتشوف وغيرهما [بوش: رئيس أمريكا، وغورباتشوف: رئيس الاتحاد السوفيتي] ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ [المدثر:31] علينا أن نخاف من الله، وإذا أمهلنا الله فلا نغتر بحلم الله ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ﴾ فلا تستعجل يا محمد ﴿أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ [الطارق:15-17] فإذا أمهلك الله وأنت لا تزال تعمل المعصية وبعدها المعصية ثم المعصية؟ فليس معنى ذلك أنه قد تركك، ولكن من رحمته يحلم عليك، قال تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [النحل:61] ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ [فاطر:45] لا يحتاج إلى شهود، ولكن مع ذلك يُحْضِر لك شهوداً من الملائكة ويُشَهِّد عليك أعضاءك.. فنحن نسجِّل الأعمال بالفيديو، ألا يوجد عند الله فيديو!
فهل نحسب حساب الآخرة! وقد حلف الله في القرآن أربعة أيمان وبعدها قال: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ [الذاريات:5-6] فهل صدقتم الله؟ فإذا عملنا ولو مثقال ذرة من الخير أو من الشر فهل سَنُدَان عليه أم لا؟ ولو كانت كلمة واحدة وسماع كلمة واحدة!
فهذا الولي الذي قيل له: كُلْ لحم العبد الميّت؛ لأنك اغتبته، فقال لهم: ما اغتبته، فقالوا له: “ولكنك كنت في مجلس اغتيب، فلم تُنكِر ولم تَقُم”، فصار حكمك حكم من؟ ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ [النساء:140] أين هذا العمل الآن؟ إن كان ابن عمتك تقول: “استحييت منه”، ألا تستحي من الله؟ تقول: “واللهِ خجلت منه”، ألا تخجل من الله؟ تقول: “واللهِ حسبت حسابه”، ألم تحسب حساب الله؟ فهذا كلام الله والقرآن والنبي ﷺ والرسالة وسيدنا جبريل! فهذا كلّه أليس له قيمة عندك؟
ما كان أصل الطائرة؟ كانت حجارة في الجبال، وكل المعادن ماذا كانت؟ رمالاً وحجارة، فكم صانع صَنَّعَها؟ يمكن أن يكونوا عشرين ألف صانع عملوا بها حتى صارت طائرة.. والزّجاج أتى من الرّمال والتّراب، والحديد والألمنيوم وغيرهما من أين؟ وأنت حتّى تنتقل من الخام إلى المـُصَنَّع كما انتقلت الطّائرة، فهل من غير صانع يمكن ذلك؟ وهل من غير مربٍّ ومن غير مزكٍّ ومن غير حكيم ومن غير عالم بالقرآن تصير مسلماً؟! هل يمكن أن تصير “كِنْدَرْجِي” [صانع أو مصلح “الكِنْدْرَة” وهي الحذاء] من غير معلم؟ وهي صناعة حذاء، وهل تعرف أن ترقّع نعلك وتصير اسكافياً من غير أن تجلس عند الاسكافي وتتعلم منه؟ [الاسكافي: كلمة عامية أيضاً لمصلح الأحذية] فهذا دين الله الذي يضمن لك سعادة الدنيا والآخرة، فهل يصير من غير معلم ومن غير مربٍّ؟! واللهِ لو مشى الإنسان على رمش عيونه مئة ألف كيلو متر وجمعه الله بالمربي والمرشد الرباني، فسيجد أن ما بذله قليلاً في مقابل شيء لا حدّ له، نسأل الله أن يُوَفِّقَنا ويُعَرِّفنا بنعم الله بوجودها، ويحمينا من قلّة الأدب، وإذا استمرت قلة الأدب -لا سمح الله- يُطْرَد، وإذا طُرِدَ -نسأل الله العافية- يصير كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يس:9] وضعنا على أعينهم غشاوة فهم لا يبصرون.. فإن صادفه بئر يسقط فيه، أو وادٍ يقع فيه، وإن مَرَّ على سبع يطأ بطنه.
﴿يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ [الذاريات:12-13] ما معنى يفتنون؟ يُعَذَّبون ويُحَرَّقون، ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ [الذاريات: 14] يعني تستعجلونه تكذيباً وعناداً واستهزاءً.
مصير المتقين:
بعد ذلك قال: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ [الذاريات:15] الذين اتقوا الكفر واتقوا المعصية واتقوا الغفلات واتقوا صحبة الفساق والفجار ومجالستهم إلّا بمقدار الضّرورة والحاجة.. إذا جلست على مائدة “الأُوْزِيْ” [لون من الطعام الدمشقي الفاخر]، كيف تكون جلستك؟ تجلس جلسة شوق ورغبة وفرح وسرور، وكذلك تجلس مع عروستك جلسة شوق وفرح وسرور، أما إذا جلست في “التواليت” [بيت الخلاء] فهل تجلس جلسة حب وشوق ولذة وبَسْطٍ أم جلسة ضرورة؟ فإذا انتهيت من قضاء الحاجة هل تقول لهم: أحضروا “الأركيلة” والشاي والقهوة حتى تتنزه هناك؟ فإذا جلست مع الغافلين أو الفاسقين أو الضالين أو المضلِّين جلسة شوق وانبساط فأنت لم تتق الله.. فعليك أن تتقي الكفر وأهل الكفر والمعصية وأهل المعاصي والنفاق وأهل النفاق، وعليك أن تتقي أن يمتزج قلبك بقلوبهم وصحبتك بصحبتهم ومجالستك بمجالستهم، فإذا اتقيت هذا كله.. كيف تجلس مع النبي ﷺ؟ وهل تجلس مع أبي جهل جلسة ضحك ومزح ومرح؟ أمّا إن كانت هناك ضرورة لهدايته وعندك الطاقة الجيدة فمرحباً، وإن لم تكن عندك طاقة لإنقاذ الغريق فيَغْرَق ويُغْرِقُك معه، فقبل أن تصارع السّبع انظر إلى نفسك وإلى سلاحك فهل هو كافٍ؟ فإذا كان معك سلاح ناري فانزل، وإن لم يكن معك غير المسواك والمسبحة وتقول: توكلنا على الله! هل هكذا أمرك الله؟! فالتوكل بعد الحساب وبعد التفكير وبعد التدبير، ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ﴾ متى النبي ﷺ يعزم؟ يعزم بعد أن يدرس الأمور وبعد المشورة وبعد وبعد وبعد، وبعد العزم ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [آل عمران:159].
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ [الذاريات:15] نسأل الله أن يجعلنا منهم، ويحمينا ممن أُفِكَ عنه: الذي صُرِف عن الحق والهدى والتقوى، ومَن صُرِف؟ إذا وضعنا العطر للخنفساء أو الهرّ، فإن شمه يهرب؛ لأنّه ما خُلِق العطرُ له ولا خُلِق هو من أجل العطر، والنّحل خلق للزّهور والورود، والجرذان خلقوا للمجاري والمياه النجسة، فنسأل الله أن يجعلنا من الطيبين حتى نستطيب الطيبات.. اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.