مكانة المرأة في الإسلام
فنحن في آخر سورة الطلاق.. وبعدما ذكر الله عزَّ وجلَّ بعضًا ممَّا يتعلَّق بالمرأة في شؤون فراقها، وانفصال الحياة الزوجية بين الرجل والمرأة لا على الشكل الإنساني، ولكن على الشكل الرباني، المملوء رحمةً وعدالةً وأخلاقًا كريمةً وإحسانًا بين الطرفَين، في جوٍّ لم تطلب فيه المرأة هذه الحقوق، ولم يكن لها مِن الشأن ما تستطيع أن تُطالب بكرامتها المهدورة، وفي وقتٍ كانت المرأة ليست ممنوعةً مِن حقِّها مِن ميراث أهلها وأقربائها فحسب، بل كانت فوق ذلك تُعتبر مَتاعًا تُورَث ولا ترث، مثل الكرسي أو الطاولة في البيت، تُقْسَم على الورثة، وكذلك إذا مات الرجل كان الابن الأكبر يرث زوجة أبيه كزوجةٍ، وإذا لم يرغب في أنْ يتزوَّجها تصير كأنها مملوكةٌ له، لا تتزوَّج إلا بوِلايته عليها، بما يحقِّق له بعض الفوائد المادية، إلى جانب القانون الجاهلي، أو قانون الأقوياء تِجاه الضعفاء، حيث كانوا لا يورِّثون المرأة ولا الطفل الصغير، فالطفل الصغير لا يرث مِن والده ولا مِن والدته، ويقولون: “إنما الميراث لِمَن حمل السلاح”، يعني الأقوياء، أمَّا الضعفاء فلا حقَّ لهم في أنْ يأخذوا مِن مال مورِّثهم ما يُساعدهم إلى أنْ يبلغوا قوَّتهم، ويستطيعوا كسب أرزاقهم.
الإسلام هو استجابة لأوامر الله عز وجل
ذكر الله عز وجل أحكام العِدة في هذه السورة، وفي سورة البقرة، وفي سورة النساء، والكثير مِن هذه الأحكام يقرؤها المسلم والمسلمة مئات المرات، ولا يَعلَق في الأذهان منها شيءٌ، لا فهمًا، ولا عملًا، ولا تطبيقًا، وإحدى هذه الأمور اعتداد المرأة بعد طلاقها في بيت زوجها مع صريح المَنْطِق والمَنْطُوق القرآني ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ﴾ [الطلاق:1] أيها الأزواج، إذا طلَّقتم زوجاتكم فلا تخرجوهنَّ مِن بيوتهنَّ، ﴿وَلَا يَخْرُجْنَ﴾ لو أبقاها الزوج، لكنها هي ترغب بالخروج فكذلك لا خِيارَ لها، هذا صريح القرآن ومنطوق القرآن الذي يفهمه حتى الطفل، وهل هذه الآيات في واقعنا العملي منعكِسةٌ في أعمالنا وفي واقعنا؟ تجد المرأة تخرج مِن بيت الزوجية قَبل الطلاق، وأبوها يُخرجها قَبل الطلاق، وأمها وأختها وأخوها، ويقولون لها: لا تقعدي عنده، ويشتمونه، ويذكرون لها مِن صفاته المذمومة.
أليس هذا واقعنا؟ فهل هذا إسلامٌ أو ردَّةٌ عن الإسلام؟ تكلموا! إنّ الإسلام آياتٌ بيِّنات، لَبِناتٌ لَبِنات، واللبنة جزء هامُّ في الإسلام، والإسلام هو الاستجابة لأمر الله عزَّ وجلَّ، فالحجُّ أمرٌ، فإنِ استجبتَ فحججتَ فقد أسلمتَ، والصلاة أمرٌ، فإن صليتَ وأدَّيت الصلاة التي فرضها الله عزَّ وجلَّ، وهي صلاة ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون:2] فقد أسلمتَ.
أثر الصلاة الحقيقية في سلوك الإنسان
الصلاة التي فرضها الله عزَّ وجلَّ هي التي ﴿تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت:45]، الصلاة التي فرضها الله عزَّ وجلَّ هي التي قال عنها: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ [المعارج:19] ما هو الهلوع؟ قال: هو الذي ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا﴾ [المعارج:20] الشَّرُّ مِثل فَقْدِ ابنك أو أبيك أو مالك أو صحتك أو وظيفتك، وكل نكبات الحياة، فإذا جَزعتَ وانزعجتَ فأنتَ هلوعٌ، أو نصف هلوعٍ، والنصف الثاني ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج:21] إذا صار حاكمًا -الحاكمُ الخيِّرُ يَعدِل بين الناس- أما هو فتجده قد يحكِّم هواه، وقد يحكِّم مصلحته المادية، وقد يحكِّم رضاء أصحابه أو أقاربه في قضيةٍ تخصُّهم، فيمنع العدل الذي هو الخير في الحكم، وكذلك الغنيُّ يمنع في ماله حقَّ السائل والمحروم، وحقَّ أقاربه مِن الأرحام، وبِرَّه بوالديه، هذا: ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾.
فالجزوع عند الشدائد والأزمات، والمنوع عند الخيرات والإمكانات ما اسمه؟ ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ [المعارج:19] فالهلع إذًا كنايةٌ عن معنيَين: الجزع عند الشدائد وعدم الصمود، والمنع عند الرخاء والغنى والقوة، فيَمنع هذه القوة أنْ تُستعمَل في الخير، فما الذي يَشفيك مِن هذا المرض؟ قال: الصلاة، ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ [المعارج:19] ما هو الهلوع؟ ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ [المعارج:20-22] قال: والمصلُّون لهم شرائط: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [المعارج:23-25].
هذه شرائط الصلاة.. ولماذا لم يذكرها الفقهاء في كتب الفقه مع شرائط الصلاة الجسدية؟ إنّ هذه هي الصلاة الأخلاقية، وتلك الصلاة التي كَتَبوها في كتب الفقه هي الصلاة الجسدية، وهناك الصلاة الروحية: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون:1-2].
هناك الطهارة للصلاة، وقد علَّموهم طهارة الأعضاء، ولكن ما علَّموهم طهارة القلب والنفس، التي قال الله عنها: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه:14]، وقال: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ﴾ هل قال: فتوضؤوا؟ هل الآية هكذا؟ فتوضؤوا: لطهارة الجسد، أما: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة:9] فهي لطهارة النفس ولطهارة الروح، حتى تستفيد مما تسمعه مِن دروسٍ ربانيةٍ مِن الله عزَّ وجلَّ الذي يتولَّى أنْ يكون معلِّمك ومدرِّسك ومربِّيك، وليعلِّمك الحكمة.. ويعلِّمك الحكمة حتى لا تُخطئ في أعمالك وفي سلوكك وفي تصرفاتك.
هذه الصلاة هي التي تُشَكِّل ركناً مِن أركان الإسلام، ونحن عندما نقرأ القرآن لا نفهمه، لماذا؟ لأنَّ القرآن ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة:79] وفي زمن النبي ﷺ لم يكن يوجد مصحف حتى يُمَسّ، ولم يكتمل القرآن حتى آخر حياة النبي ﷺ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة:3] ففي زمان النبي ﷺ لم يكن يوجد مصحف، فمعنى ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ لا يمس روحُ القرآن، فلا تمس روحُه روحَك إلا إذا كانت روحُك طاهرةً مِن الأغيار، طاهرةً مِن الأوزار، طاهرةً مِن الذنوب الظاهرة بأعمال الأعضاء والجسد، ومن الذنوب الباطنة بأعمال النفس والفكر؛ بأن تكون نفسك طاهرةً مِن الحقد، ومِن نيَّة الأذى، ومِن المكر، ومِن الغشِّ، ومِن الخيانة، وأنْ يكون فِكرك طاهرًا مِن الحِيلة، ومِن نيَّة العدوان، ونيَّة الغدر، فهذه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة:222].
وقوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة:28] فالمقصود مِن النجس هنا نجاسة النفس، ونجاسة الفِكر.. وإنْ كان إخواننا المسلمون في إيران يُضيفون لها طهارة الجسد، أي إنَّ غير المؤمن جسده غير طاهر أيضًا، وهذا اجتهاد، ولا مشاحة في الاجتهاد.
من رحمة الإسلام بالزوجة
بعد أن ذكر الله في سورة الطلاق بعض ما يتعلَّق بضمان سعادة الزوجين، ذَكر المرحلة الأخيرة في الحياة الزوجية عند الفراق، فالفراق يجب أنْ يكون إنسانيًّا؛ إمساكٌ بمعروف، والإمساك أنْ تُبقيها بحسب العرف القرآني، وبحسب العرف النبوي والوصايا النبوية، مِثل قول النبي ﷺ: ((اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا)) ، ومثل: ((خَيْركُمْ خَيْركُمْ لِأَهْلِه، وَأَنَا خَيْركُمْ لِأَهْلِه)) ، ومثل قول النبي ﷺ: ((رفقًا بِالْقَوَارِيرِ)) ، القوارير يعني الزجاج الرقيق، والزجاج الرقيق يُكْسَر قِطعاً أو يُخْدَش مِن أقلِّ ضربة، يعني: لا تَكسِرْ مشاعرها.
هذا هو الإسلام، فإنِ استجبتَ إليه فأنتَ مسلمٌ ومؤمنٌ به، وإنْ رفضتَه، وأبعدتَه عن حياتك العملية، فأنتَ كافرٌ به، فيأتي كفرٌ مِن هنا، [كفرٌ بأمر إسلامي]، وكفرٌ مِن هنا، [وكفرٌ بأمر آخر]، وكفرٌ من هنا، [وكفرٌ بأمر ثالث]، حتى يصير الكفر العام.. ((مَن ترك الصلاة فقد كفر)) ، يعني كفر بالصلاة، وإذا لم يحجَّ وهو مستطيعٌ فقد كفر بالحجِّ.. إلى آخره. [فهنا كفر بالصلاة، وكفر بالحج، ثم كفر بغير ذلك، وهكذا حتى يصير عنده الكفر العام].
لقد ذَكر الله تعالى في سورة الطلاق بعض ما يتعلَّق بالحياة الزوجية.. لاحِظوا حكمة القرآن، لم يذكر قضية مِن القضايا في مكان واحد، فمثلاً لم يذكر الصلاة في مكانٍ واحد، كذلك الجهاد ما ذُكِر في مكانٍ واحدٍ، والأخلاق ما ذَكَرها في مكانٍ واحدٍ، وهذا مثل الطعام، فهل إذا وُضِع الطعام مِن نوعٍ واحدٍ يكون أقوى لشهيَّة الإنسان أم إذا كان منوَّعًا؟ فتجد سورة الطلاق فيها أحكامٌ منوَّعة، وآداب ٌمنوَّعة، ودروسٌ وثقافاتٌ منوَّعة.. وبهذا الأسلوب التعليمي الرباني جعل الله تعالى مَن كانوا أشبه بالحيوانات والدَّوابِّ [خير أمة أخرجت للناس].. ﴿بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [الجمعة:2] فقد كان أحدهم يعبد الحجر ويعتبره إلهًا، وهذا ما لا يفعله الحيوان.
أحدهم رأى صَنَمه وقد علاه ثعلبٌ يبول على رأس صنمه وربِّه وإلهه في زعمه، فقال
أَرَبٌّ يَبُولُ الثَّعلبانُ بِرَأسِهِ
لا خَيرَ فِيمَنْ بَالَتْ عَلَيهِ الثَّعالِبُ
فالحيوان فيه عقلٌ وإدراكٌ للأمور بحقائقها أكثر مِن هذا الإنسان الذي جَعَله الله عزَّ وجلَّ خليفته في الأرض، فهناك فرق بين أنْ يكون خليفة الله عزَّ وجلَّ في الأرض مغذًّى بالعلم والحكمة والأعمال العظيمة الجليلة، وبين أنْ ينحطَّ إلى أنْ يكونَ الحيوان أفهمَ منه وأعلمَ منه.. فأتى القرآن إلى هذا الإنسان الذي هو دون الحيوان، وجعل منه قاهراً لاستعمار العالَم الشرقي والغربي، وهازماً لجيوش العالَم في الشرق والغرب، وباحثاً عن علوم الشعوب -علوم الدُّنيا- في كلِّ مكتبات العالَم، حتى صار العرب بالإسلام ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران:110]، ولَمَّا كانوا عربًا دون إسلام كانوا أذلَّ وأجهلَ وأفقرَ أمم وشعوب الأرض.. وإذا تحوَّل العرب مِن الإسلام -إسلام القرآن- إلى لا إسلام، ولا قرآن، كذلك يعودون إلى ما كانوا عليه: ﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ [الإسراء:8] هذه المقدمة ولن نقف هنا.
العقاب لِمَن يخالف أمر الله تعالى
نرجع إلى السورة.. بعدما ذكر الله عزَّ وجلَّ في الآيات أحوال الطلاق قال: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ﴾ فتجاوزتْ أمر الله عزَّ وجلَّ إلى مخالفته وإلى معصيته، ﴿فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا﴾ [الطلاق:8]، إنّ وراء معصية الله عزَّ وجلَّ ومخالفة أوامره هناك حساب، الحساب يعني أنَّ القمح سيُخرِج قمحًا، وزارع القمح يحصد قمحًا، وزارع الشعير.. الشعير أرخص، لكن أيضًا يأتي الإنتاج أرخص، وزارع الشوك لن يحصد العنب، فالحساب موجود، لكن الناس بُلَهَاء في فهم قوانين الله عزَّ وجلَّ، مِثل الحمار يُضرَب ولا يدري لماذا يُضرَب.. المسلمون الآن صاروا أحطَّ أمم وشعوب العالَم، ولا يدرون ما السبب، منهم مَن يريد أن يرجع إلى الدِّين لكن بلا فقهٍ في الدِّين.. والدِّين هو ما يَضمن للإنسان سعادة الدنيا والآخرة، فتكون سعيدًا ولو كنت فقيرًا، وتكون سعيدًا ولو كنت سجينًا، ولو كنت مريضًا، ولو كنت مصابًا، أمَّا إذا كنتَ غنيًّا وعزيزًا وقويًّا فتكون السعادة نورًا على نورًا.
﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾
الله عزَّ وجلَّ يحصي ما تُخفي أنفسُكم، وما تُسرُّه قلوبُكم ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران:119]، ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه:7]، ((إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) فالحساب على النوايا، وعلى النظرات.. مرة أهدر النبي ﷺ دم أحد كبار المجرمِين، فدخل هذا الإنسان في غَبَاشَة الصبح وظلام المسجد، وقال: ما تقول يا محمد إذا أتاك فلانٌ مؤمنًا؟ يعني فهل تعفو عنه؟ فسكت النبي ﷺ ولم يُجب، أعاد السؤال مرَّتَين وثلاثًا، فقال النبي ﷺ: ((نَعفُو عَنهُ))، ثم قال النبي ﷺ لأصحابه: ((لِماذا لَمَّا رَأَيتُمونِي سَكَتُّ)).. والنبي ﷺ كان قد أهدر دمه، وحكم عليه بالإعدام، ((لِماذا لَم يَقُمْ أَحَدُكُم إِلَيه فَيَقطَعَ رَأسَهُ؟)) قالوا: “يا رسول الله لو أشرتَ إلينا بطرف عينك”، يعني لو غمزت بعينك فنفهم ما تريد، يا الله! يا الله! ما هذه التربية السماويةَ! فقال: ((إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ)) .
هل أبتسم له، وأعطيه الأمان بأسارير وجهي، ثم بطَرَف عيني أُخالف ما يُشاهده في وجهي؟! لا يليق بالإنسان النبي، والإنسان المثالي، وابن السماء أنْ تكون عنده خائنة الأعين، فأين خائنة الأعين، وخائنة الأموال، وخائنة الصحبة، وخائنة البنوة والأبوة، والزوجية، والصداقة، وأداء المعروف؟ إذا صنع أحد الناس معك معروفًا صرتَ مَدينًا له، ويجب عليك أن تُكافئه عليه، ولكنك تُقابله بأسوأ ما يقابَل محسِنٌ مِن مُسيءٍ، هل هذا إسلامٌ! هذا كفران بالإسلام، ورفضٌ لأحكام القرآن والإيمان.
قال: ﴿فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا﴾ [الطلاق:8] هذا الآية أتت بعد الكلام في الطلاق، يعني افهم أيها الزوج، كذلك أنتِ أيتها الزوجة، فقد تكون الزوجة هي الظالمة، وهي المعتدية، وقد يكون الزوج هو الظالم والمعتدي، وقد تكون الأم، تقول له: طلِّق زوجتك.. أنت أيتها الأم ما علاقتكِ بهذا؟ وقد يقول له الأب: طلِّق زوجتك.. وأنت أيها الأب ما علاقتكَ بهذا؟
سيدنا أبو بكر رضي الله عنه أمر ابنه أنْ يطلِّق زوجته، لكن أَمَره أنْ يطلِّقها لأنها كانت سببًا له في تأخُّره عن صلاة الجمعة ، يعني غَيرةً على دِين الله عزَّ وجلَّ، أما أن يأتي الأم أو الأب اليوم ويأمران ابنهما أنْ يطلِّق زوجته لمصالحهما الخاصة ولفكرهما الجاهلي، فهذا لا يجوز: ((لا طَاعَةَ لِمَخلُوقٍ في مَعصِيَةِ الخالِقِ)) .
المسلم الحقيقي، والمسلمة الحقيقية هو الإنسان الذي لا يخطو خطوةً إلا حسبَ منهاج الإسلام، فإذا أراد أن يذهب في أمر ما ينظر هل هذا الأمر يُرضي الله عزَّ وجلَّ؟ وهل يُوافق عليها الإسلام؟ وكذلك إذا أراد أن يأكل طعامًا، أو يسهر سهرة، وإذا أراد أن يُرافق إنسانًا، أو يتزوَّج، أو يطلِّق، أو يُصاحب إنسانًا، أو يَهجر إنسانًا، فالمسلم هو الذي يتقيَّد بأوامر الله عزَّ وجلَّ، وأوامرُ الله تعالى مِثل قانون السير للطائرة، فالطائرة إذا خالفت خط سيرها بارتفاعها أو انخفاضها، أو يمنةً أو يسرةً، ربما تصطدم بطائرةٍ أُخرى فيهلك الطيار ومَن معه، وكذلك كل قضيَّةٍ تَخرج فيها عن أوامر الله عزَّ وجلَّ تكون فيها خسارتك لا ربحك، وشقاوتك لا سعادتك، وذلتك لا عزتك: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق:4]، ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون:8].
الالتزام بأوامر الله سبب للنصر
يقال: إنه في بعض الفتوحات الإسلامية استعصى على المسلمين فتح مدينةٍ، حاصروها حصارًا طويلًا ولم تُفتح، وكان في الجيش بعض الفقهاء الحكماء الأصفياء الأنقياء، فشَكَوا له وقالوا: إن الله تعالى قال: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47] أين النصر؟ قال لهم: ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ [الروم:6] فانظروا في أنفسكم ماذا تركتم مِن أوامر الإيمان حتى تأخَّر عنكم نصر الرحمن؟ قالوا: والله نحن نصلِّي ونذكر و.. و.. قال لهم: ابحثوا جيدًا، وبعد البحث الدقيق، وإذ بهم قد تركوا سنة السِّواك.. فكيف إذا كانت المعصية هي الغيبة، والنميمة، وأكل الحرام، وسهرات الحرام، والصديق الحرام، والصديقة الحرام، والسهرة الحرام، والنزهة الحرام، وجلسات الحرام، باللسان، وباليد، وبالمال، وبالبيع والشراء! هل هؤلاء سينصرهم الله!
قال: فاستعمَلوا سنة السواك، وبعد يومَين أو ثلاثة بعث الأعداء لهم كتابًا أنهم سيُسلِّمون مدينتهم ويستسلمون وسيتفقون على الشروط، ولما سَلَّموا وتم الفتح، قالوا لهم: نحن نُحاصركم منذ شهور، ولم تفتحوا المدينة وتسلموها، فلماذا الآن استستلمتم؟ يعني بدءًا من استعمالهم للسواك، قالوا لهم: شاهدناكم وكل واحد منكم يُمسك المسواك ويَنْشَغل بأسنانه، فقلنا: هؤلاء يسنُّون أسنانهم ليأكلونا.. ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ [الأحزاب:26].
معركة اليرموك كانت مع الرومان، والدولة الرومانية عمرها أكثر مِن ألف سنة حضارةً ونظامًا ودولةً راقيةً، والعرب مِن البدو ولم يكونوا يعرفون الحضارة والنظام.. والرومان ربع مليون، مئتان وخمسون ألفًا، والعرب بالإسلام كان عددهم خمسة وثلاثين ألفًا، فانتهت المعركة بستة أيام، هذه ستة أيام للعرب بالإسلام، وهنا معركة ستة أيام للعرب بلا إسلام؛ بالوطنية والقومية وما شابه ذلك. [يقصد سماحة الشيخ بمعركة الأيام الستة للعرب من دون إسلام معركةَ 1967م، التي كانت بين العرب وإسرائيل، وانتصرت فيها إسرائيل، والتي كانت فيها شعارات العروبة والقومية والوطنية، ولم يُرفَع فيها شعار الإسلام].
الإسلام لا يُنكر القومية ولا الوطنية، الإسلام مع الوطنية والقومية، ولكنْ هناك أمورٌ أُخرى ليضمن لك النصر بأقصر المدد، وبأقل الخسائر، وبأعزِّ وسائل النصر.. ستة أيام يا بني معركة اليرموك! تنهزم فيها أعظم إمبراطورية، وتُبنى على أنقاضها أعظم إمبراطورية منذ أنْ خلق الله الدنيا وإلى أن تقوم القيامة.
العرب اليوم ضاعوا، لأنَّ المسجد ضاع، والمسجد ليس جدرانًا ولا زينةً، المسجد علمٌ وحكمةٌ وتزكية.. مصنع الزجاج هو الذي يُنتج الزجاج، ومصنع القماش يُنتج الأقمشة، والمسجد مصنعٌ يُنتج العلماء الحكماء الفقهاء، رهبانٌ في الليل، أُسُوْدٌ في النهار، رجل الدنيا والآخرة، والمرأة كانت امرأة الدنيا والآخرة، وكانت في معارك الحرب تَسبق الرجال، وكانت عظيمة في أعمال البيت، وفي طاعة الزوج، وفي تربية الأولاد.
إن تربية الأولاد ليست تربية الجسد، فالقطة تربِّي في بطنٍ واحدٍ أربع أو خمس قطط، والكلبة كذلك تربي في بطن واحد سبعة أو ثمانية، تربِّي أجسادًا، فإذا كانت المرأة الإنسان تربِّي الأجساد فهي والحيوان سواء، ولكن المرأة المسلمة هي التي تربِّي عقولًا، وتربِّي أخلاقًا، وتربِّي شخصيةً، وتربِّي سلوكًا، وتربِّي سعادةً ونجاحًا.. وهذا لا يكون إلا إذا تخرَّجت المرأة في مدرسة التربية عقلًا حكيمًا، ونفسًا مُزكَّاةً، وتعلمت علوم القرآن التي أخبر الله تعالى عنها: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام:38] مِن كل ما يحقِّق سعادة الإنسان الفرد والأسرة والمجتمع والوطن والعالم، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107].. هذه هيئة الأمم فشلتْ، وعصبة الأمم فشلتْ، ولا يمكن أن يكون نجاح إلا بقانون الله عزَّ وجلَّ الذي خلق الإنسان.
قال: ﴿فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا﴾ [الطلاق:8] وبعد الحساب إذا عتت وتجبَّرت، وتجاوزت أمر الله، ولم تبالِ بقانون الله تعالى، فالله تعالى لا يبالِي بها: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ [الحشر:19]، وبالمقابل: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة:152]، ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة:40]، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة:186] قال: فكما أنَّكم تدعونني لأستجيب لكم، أنا أيضًا أدعوكم لتستجيبوا لي ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ [البقرة:186] إذا ناديتهم.. ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة:104] أليس هذا نداءً؟ إنك عندما تقول: يا الله أنقذني، أسعفني، ساعدني، هذا نداء، فإذا كنتَ تجيب الله تعالى إذا ناداك، فإنك إن ناديتَه وكنتَ له مستجِيبًا فسيكون لك مستجِيبًا.
القلوب من غير ذكر الله دفاتر الشيطان
هل نقرأ القرآن للفهم والعلم والعمل حتى نكون قرَّاء حقيقيِّين؟ وهذا لا يكون إلا لِمَن كان له قلبٌ، ولا قلبَ لإنسانٍ غافلٍ عن ذكر الله
قُلوبٌ إذا مِنهُ خَلَتْ فَنُفُوسُ
لِأَحرُفِ وَسْواسِ اللَّعِينِ طُرُوسُ
وَإنْ مُلِئَتْ مِنهُ وَمِنْ نُورِ ذِكرِهِ
فَتِلكَ بُدُورٌ أَشرَقَتْ وَشُمُوسُ
“قلوبٌ إذا منه خلتْ”: أي القلوب إذا خلت مِن ذِكر الله، ومن خشية الله، ومن محبة الله.. “قلوبٌ إذا منه خلت فنفوس”: تصير نفوساً أمَّارة بالسوء “لأحرفِ وسواسِ اللَّعينِ طُرُوْسُ”: الطروس هي الدفاتر، فالقلوب تُصبح دفاتر الشيطان وكُتُبه، ويصير قلبه ونفسه مِن الداخل كتاباً للشيطان، فإذا أراد أي شيء يفتح كتاب الشيطان في نفسه، ويمشي كما كتب له الشيطان، فهل هذا ينجح؟
“وإن مُلئتْ منه”: إذا مُلئ قلبك مِن محبة الله، ومن خشية الله، ومن عظمة الله.. “وَإنْ مُلِئَتْ مِنهُ وَمِنْ نُورِ ذِكرِهِ، فتلك بدورٌ أشرقت وشموس”، ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ﴾ يعني في قلب المؤمن ﴿كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ﴾ [النور:35] إلى أن قال: ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ [النور:40].
فلا تغتروا بإسلام القول، ولا بإسلام التمنِّي، ولا بإسلام العائلة، [المقصود هنا بإسلام العائلة الاسم الذي تحمله العائلة المسلمة، مثل “محمود تقي أو خالد المدني” أو ما شابه من الأسماء المنتشرة] الإسلام علمٌ وعملٌ، والعلم يحتاج إلى معلِّم، والعمل يحتاج إلى مدرِّب، والإسلام حكمةٌ تحتاج إلى حكيم، وهو تزكية النفس، وتحتاج إلى مزكٍّ، فإذا لم تدخل البيوت مِن أبوابها فلن تصل إلى هدفك، وإلى تحقيق أمنيتك.
﴿فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا﴾ [الطلاق:8] إذا كان حسابه شديدًا، فهذا يعني أنه سيُحاسبنا على الفتيل والنقير والقطمير ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:8]، مثقال ذرة.. ما معنى ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾ [غافر:19]؟ يعني أنَّه يُحاسبك على نظرة العين، نظرة الخيانة، ﴿وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر:19]، حتى لو لم تتكلَّم سيُحاسبك على ما في الداخل، فهل قرأنا هذه الآيات؟ وهل كانت هي الحارس والمراقِب على تصرُّفاتنا الداخلية؟ فضلًا عن الخارجية وعن العملية، وبذلك يكون المسلم مسلمًا، وتكون المسلمة مسلمةً، ودون ذلك فهذا تمنٍّ، والإيمان لا يكون ((بِالتَّمنِّي)) ولا بالأشكال ((وَلا بِالتَّحلِّي، إنَّما الإيمانُ ما وَقَرَ في القَلبِ، وَصَدَّقَهُ العَمَلُ)) .
قال: ﴿فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا﴾ [الطلاق:8] عذابًا فظيعًا تستنكره العيون والقلوب والنفوس، ﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا﴾ بعد الحساب الشديد، وبعد العذاب المنكر، سيذوق، قال: هذا ذَوْقٌ، وليس هذا كلَّ العذاب، مِثل الذي يذوق مِن وعاء السَّمْن لعقة بطرف أصبعه، هذا اسمه ذوقٌ، وبعد الذوق قال: ﴿وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا﴾ [الطلاق:9] المستقبل خاسر لِمَن يخرج عن صراط الله عزَّ وجلَّ، مِثل عجلة القطار إذا خرجتْ عن السكة هل يصل المسافر إلى البلد التي يريد؟ فإذا توقف القطار فهذه نعمة، ولكن ربما ينقلب مِن فوق جسر عالٍ في بحرٍ أو في نهرٍ عميق.. نسأل الله العافية مِن الخذلان ومِن الخسران ومِن الشقاء ومِن الحرمان.
بعد أن قال: “ذاقتْ وبال أمرها، وحاسبناها، وعذَّبناها”، بعد كل هذا قال: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ [الطلاق:10] هذا في الآخرة، ففي الدنيا: ﴿فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا﴾، والأمر الثاني: ﴿وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا﴾ [الطلاق:8] والأمر الثالث: ﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا﴾، عُوقبت على أعمالها المحرَّمة، والأمر الرابع: ﴿وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا﴾ [الطلاق:9]، لا ينجح، بل يفشل، والأمر الخامس والأخير: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ [الطلاق:10] هذا في الآخرة، كما قال الله تعالى عن قوم فرعون: ﴿أُغْرِقُوا﴾ وبعد أنْ أُغرقوا ﴿فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾ [نوح:25] يعني ينتقل مِن عذاب الدنيا إلى عذاب الآخرة.. المسلم الكذَّاب، والمسلم “المحرَّف” [غير الحقيقي] الدَّجَّال يمحو كلَّ هذا الكلام بأصبعه ويقول لك: “الله غفورٌ رحيمٌ”، واللهِ هذا الشيء ما سُمِعَ في أُمَّةٍ مِن الأمم!
التوبة ومحاسبة النفس
الصحابة كانوا إذا عمل أحدهم الذنب [كما حدث مع] الثلاثة الذين خُلِّفوا في تبوك عن المسير مع النبي ﷺ إلى الجهاد، ولَمَّا رجع النبي ﷺ وسألهم: هل لكم مِن عذر؟ فصدقوا وقالوا: لا عذر لنا، فأمر ﷺ الناسَ بمقاطعتهم، وأن لا يكلِّمهم أحد، فظلُّوا ليلَهم ونهارهم لا يجفُّ لهم دمعٌ مِن البكاء، ثم بعد مدَّةٍ أمر نساءهم أنْ تعتزلهم.. لماذا كل هذا؟ الجيش كان ثلاثين ألف جنديٍّ، فإذا تخلَّف منهم ثلاثةٌ فهل هؤلاء الثلاثة سيصنعون النصر إذا وُجِدوا، أو سيصنعون الهزيمة إذا فُقِدُوا؟
هذا هو الإسلام، كما أنَّ ثوابه عظيم، كذلك عقابه جسيم، هذا في الدنيا قَبل الآخرة، ومع كلِّ هذه المؤاخذة هل غضبوا؟ هل تمرَّدوا؟ هل رَفَضوا حكم المحكمة الإلهية النبوية؟ لا، بل ظلُّوا يبكون على أنفسهم ليل نهار، لا يرقأ لهم دمعٌ، ولا يجف لهم دمعٌ، حتى بعد خمسين ليلة أنزل الله عزَّ وجلَّ توبتهم مِن السماء، وبسببهم سُمِّيت السورة سورة التوبة، لنتعلَّم فقه التوبة إذا وقعنا في الذنب، فهل إذا قرأت سورة التوبة تفهم العنوان؟ هل تفهم القصة عندما تقرؤها، وفيها الأشياء الكثيرة، أم إنك لا تفقه منها شيئًا مِن أوَّلها إلى آخرها؟ مِثل شريط التسجيل تسمع منه القرآن بأجمل نغمةٍ، وبأفصح نطقٍ، لكن هل مِن فهمٍ أو علمٍ أو عملٍ؟ ﴿صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٌ﴾ [البقرة:18]، لأنه لا قلب لهم.
وَإنْ مُلِئَتْ مِنهُ وَمِنْ نُورِ ذِكرِهِ فَتِلكَ بُدُورٌ أَشرَقَتْ وَشُمُوسُ
فأسأل الله تعالى أنْ يجعل قلوبنا شموسًا بنور الله، وبذكر الله، وبخشية الله، وبجلال الله، وعظمة الله عزَّ وجلَّ.
لا بدَّ مِن تربية قَبل الزواج
ثم قال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [الطلاق:10] سواءٌ في الحياة الزوجية [أو أمور الحياة الأخرى]، ففي الحياة الزوجية؛ في أمور الطلاق بأن ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ﴾ [الطلاق:1]، ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة:229] المرأة أيضًا يجب أنْ تتَّقي الله عزَّ وجلَّ في زوجها، فتكون أمينةً على ماله وعلى عِرضه، ولا تُدخِل بيته مَن يسوؤه دخول بيته، وتكون فقيهة في دِين الله عزَّ وجلَّ.
وأنا لو أملك مِن الأمر شيئًا لا أعقد عقد زواجٍ إلَّا بعد شهادةٍ مِن مدرسة الزواج، يَدرس فيها الزوجان الأحكام الفقهية، والأخلاق الزوجية، وكيفيَّة تربية الأولاد، كيف تربِّي الأم ولدها، فلا تعلِّمه الإسراف، ولا تعلِّمه الكلمات القبيحة، والأب لا يُدلِّل ابنه دلالًا يُفسد عليه أخلاقه بسبب حبِّه له، هذا اسمه حبُّ القطط، لأن القطة مِن حبِّها لابنها تأكله، والأب الجاهل أو الأم الجاهلة مِن حبِّها للولد تعلِّمه الألفاظ الفاحشة، تعلِّمه الإسراف والتبذير، فيشتري ما يلزم وما لا يلزم، ما ينفع وما لا ينفع، هذا ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء:27] وهذا لا يجوز، وقد قال الفقهاء: “يُحكَم على الإنسان بالسَّفَه، ويُحجَر عليه، فيُمنع مِن التَّصرُّف إذا أنفق درهمًا في غير موضعه”، فإذا أنفقت ليرة سورية في غير موضعها أو في غير نفع تُعتبَر سفيهًا ويُحجر عليك كل تصرفاتك، ويُقام عليك وليٌّ يتصرَّف عنك، فما أكثر السفهاء اليوم! والقرآن يقول: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء:5] إذا أردتَ أنْ تشتري لابنك أو لامرأتك، وإذا أردتِ أنْ تشتري لابنتكِ، فيجب أنْ تسأل نفسك: ما فائدة هذا؟ ما منفعته؟ هل هو لازمٌ أو غير لازمٍ؟ فهل يصحُّ زواجٌ بلا أخلاقٍ ولا عقل ولا تربية نفس؟
القطة تربِّي أولادها حتى تصير مِثل أمِّها وأبيها، أمَّا الإنسان فيجب أنْ يُنتج مؤمنًا ومؤمنةً، متعلِّمًا ومتعلِّمةً، أخلاقًا عاليةً، ونفوسًا زكيةً، وتصرُّفًا صحيحًا شرعيًّا.
ويجب أنْ نفحص الزوجَين شفهيًّا وتحريريًّا، فإنْ نجحا نعطيهما رُخْصَة [شهادةً] في الزواج، وإذا لم ينجحا نقول لهما: أنتما ما زلتما طفلَين صغيرَين، وما بلغتما مبلغ الحلم، أنتَ أيها الرجل ما بلغتَ مبلغ الرجال وما زلتَ طفلًا، وأنتِ ما زلتِ طفلةً، والطفلة هل يمكن أنْ تكون أمًّا؟
هل تتذكرون ربيعة الرأي كيف ربَّتْه أُمُّه، وقد غاب زوجها قريبًا مِن ثلاثين سنة، فجعلتْ منه أكبر علماء المسلمين؟ هذه أمٌّ للأولاد، وهذه زوجةٌ للزوج، أمَّا اليوم فتجد الزوج “أَعْجَر” غير ناضج، والزوجة “عجراء” غير ناضجة، فكيف سيكون الأولاد؟ [الأعْجَر: يطلق في الأصل على الفاكهة القاسية التي لم تنضج بعد].
الإسلام هو بناء الإنسان ليكون سعيدًا في جَسَده، وفي دُنياه، وفي المال، فالغنى مِن أركان الإسلام، أمَّا الفقر فقد قال النبي ﷺ عنه: ((كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا)) بماذا يكون الغنى؟ بالكسب وبالعقل وبالأخلاق وبالاستقامة، أنا أعرف شبابًا كثيرين منكم كانوا فقراء، ولكن بأخلاقهم، وبحُسن سلوكهم مع الناس قدَّم الناس لهم أموالًا بلا حساب، وصاروا أغنياء في غاية الغنى، وشكروا المربِّي، ورأوا المربِّي أعظمَ مِن الأب والأم، حتى أنه أعظم عليهم مِن أنفسهم، والذي لم يتربَّ ولم يتعلَّم، واللهِ ليس الزوجة، بل “القطة كثيرةٌ عليه”، والحمارة الصغيرة أيضًا كثيرةٌ عليه، أوَّلًا يجب أنْ يصير إنسانًا، ثم نزوجه إنسانةً. [القطة كثيرةٌ عليه: كلمة في اللهجة العامية، وتعني أنه لا يستحق أن يتزوج، ولا يستأهل نعمة الزوجة، حتى أنه لا يستحق ما دون الزوجة بكثير، والمعنى العام أنه ليس أهلاً للزواج أبداً.. يقول سماحة الشيخ هذه الكلمات التي تبدو قاسية وغريبة، وهذا شأن المربي.. فالمربي -كما هو معلوم- يحتاج إلى أساليب التربية المتنوعة، وهذا الدرس وأمثاله ليس فقط محاضرة علمية، بل درساً إيمانياً تربوياً، يكون اهتمام الشيخِ الأولُ به تغييرَ سلوك إخوانه وتربيتَهم ليكونوا على النهج القرآني النبوي].
معنى تقوى الله تعالى
﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ [الطلاق:9-10] فإذا كان الأمر عذابًا، وعذابًا نكرًا، وحسابًا شديدًا، وستذوق عاقبة مخالفتها لأمر الله عزَّ وجلَّ، والعاقبة خسرًا ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [الطلاق:10] ما معنى اتَّقوا؟ التقوى امتثال أوامر الله عزَّ وجلَّ على الوجه الأتم، فإذا أمرك بالصلاة يجب عليك أنْ تصلِّي الصلاة على الوجه الأتم التي وصفها الله تعالى في القرآن، مِن ذكر الله عزَّ وجلَّ في الصلاة، ومِن: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت:45]، ومن خشوع: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون:2].
فإذا امتثلتَ أمر الله عزَّ وجلَّ كما أمر الله فهذه هي التقوى، وإذا ابتعدتَ عن محارِم الله عزَّ وجلَّ كما أمر الله فهذه هي التقوى، فالتقوى امتثال أوامر الله، واجتناب محارمه؛ في العين، وفي النطق، وفي السمع، وفي المال، وفي العمل، وفي النوايا، وفي الصحبة، وفي المجالسة: ((أَوْحَى اللَّهُ إلى بَعضِ النَّبِيِّينَ أَنِّي مُهْلِكٌ مِنْ قَوْمِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، ومِنَ الفَاسِقِينَ سِتِّينَ أَلْفًا)) النسبة قريبةٌ مِن بعضها، الفرق بينهم عشرة، الستُّون إذا نقصوا عشرة صاروا خمسين، والأربعون إذا زادوا عشرة صاروا خمسين، ((قالَ: يا رَبِّ هَؤلاءِ الفَاسِقُونَ عَرَفنَا لِمَاذا تُهلِكُهُم، مَا بَالُ الصَّالحِينَ تُهلِكُهُم؟ قال: وَاكَلُوهُم)) يتغدَّى معه، ويذهب معه في نزهة، ويسهر معه، ويتعشَّى معه، ((وَشارَبُوهُمْ، ونَاكَحُوهُمُ)) زوَّجوهم وتزوَّجوا منهم، ((وَلَم يَتَمَعَّرْ وَجهُ أَحَدِهِم يَومًا لِأَجلِي)) ، إذا رأى رفيقه أو صديقه أو قريبه على معصية الله عزَّ وجلَّ مِن قولٍ أو عملٍ أو سمعٍ لا يَغضَبُ لله، فهل هذا إسلام؟ هل هؤلاء ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47]؟ هؤلاء محكومون بالإعدام مِن طرف الله عزَّ وجلَّ.. هؤلاء الصالحون، ما ذَنبهم؟ ذَنبهم أنهم كانوا أصدقاء للفاسقين في أكلهم وشربهم وذهابهم ومجيئهم، فليُحاسب كلُّ واحدٍ منكم نفسه الآن، مَن يُصاحب؟ ومَن يُؤاكل؟ ومَن يُشارب؟ ومَن يُحبُّ؟ ومَن يُجالس؟ ومَن يَأنس به؟ يجب أن لا تأنس إلَّا بالصالحين، وإذا كان غيرَ صالح يجب أن تنصحه وتدعوه إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، فإنِ استجاب فمرحبًا، وإن لم يستجب: ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ [النساء:140].
لماذا تقرأ القرآن إذن؟ هل القرآن للمخالفة أم للمتابعة؟ هل هو للطاعة أم للمعصية؟ يجب أن يكون للإنسان الصديق الصالح والجليس الصالح والسهرة الصالحة، أمَّا في الأعمال والمعاملات كالبيع والشراء فلا مانعَ أنْ يتعامَل الإنسان مع كلِّ أنواع الناس، أمَّا صحبةً ومحبةً وشوقًا واستئناسًا فهذا لا يمكن: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ [الزخرف:67]، ((الْجَلِيسُ الصَّالِحُ كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وجَلِيسُ السَّوْء كنَافِخِ الْكِيرِ)) .
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [الطلاق:10] ما معنى اتَّقوا الله؟ في موضوع الطلاق هو سواءٌ للمرأة وللرجل، وهذا الخطاب موجَّه لكلِّ الناس.. ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ﴾ [الطلاق:1] المرأة تكون على عِصمة زوجها ويقول لها أبوها وأمها: اتركيه، اخرجي من بيته، لا تقعدي عنده، بينما الله عزَّ وجلَّ يقول له: إذا طلَّقها فلا يجوز أنْ تخرج مِن بيت الزوجية، ولا يجوز لزوجها أنْ يُخرجها.
جَعَلَنا الله تعالى خادمِين لدِين الله عِلمًا وعملًا وتعليمًا.
على كلّ مسلم أنْ يكون داعيًا إلى الله عزَّ وجلَّ
علِّموا غيركم ما تعلمتموه، فهذا الذي تتعلَّمه عليك أنْ تعلِّمه غيرك، وقد صار هذا أمانة في عُنقك، علِّمهم في المجالِس.. أنا أتكلَّم معكم بأبسط أنواع الكلام، حتى يفهم الطفل تفسير القرآن. [كلام سماحة الشيخ في دروسه العامة فيه اللغة الفصحى والعامية، لذلك يأتي مفهوماً لجميع المستويات العلمية والعُمْرِية، ومما يتميز به أنه لا يمر على كلمة أو جملة في القرآن أو الحديث أو الشعر أو غيرها مما تحتاج لشيء من البيان إلا يشرحها، ويركِّز دائماً في حديثه بشكل أساس على أن يفهم المستمع ما يقول].
مرة جاءني وفدٌ أمريكيٌّ مِن رجال الجامعات ورجال الكنائس الكبرى، قال لي رئيسهم: هذه المرة الخامسة نزورك فيها، ونرغب في زيارتك، لأننا نرى في كلامك السهل الممتنع؛ سهل الفهم، صعبٌ أنْ يتكلَّم غيرك مثله.. وبفضل الله عزَّ وجلَّ في كلِّ المؤتمرات في العالَم مَن يسمع الإسلام مِن هذا الجامع لا يستطيع إلا أنْ يُطأطئ رأسه راكعًا وساجدًا وخاشعًا لعظمة الله عزَّ وجلَّ، وعظمة كلامه وشرعه. [“من يسمع الإسلام من هذا الجامع”: المقصود من يسمع الإسلام منه؛ من سماحة الشيخ أحمد كفتارو، وهو من إخلاصه وتواضعه لا يذكر اسمه أو يشير إليه].
فيجب على كلِّ واحدٍ منكم [أنْ يتخرَّج مِن المسجد داعيًا إلى الله]، فالذي يدرس في كلية الطب ماذا يتخرَّج؟ هل يتخرج “خُضَرِيًّا” [بائع خضار]؟ الصحابة في مدرسة النبيِّ ﷺ ماذا تخرجوا؟ تخرجوا ((عُلماءَ حُكماءَ فُقهاءَ، كادُوا مِن فِقهِهِم أنْ يَكونوا أَنبياءَ)) ، فاستطاعوا بأقلَّ مدَّة تاريخية أنْ يوحِّدوا نصف العالَم، والأمَّة العربية الآن وبالقومية العربية والثقافات هل استطعنا أن نوحِّد بين بلدَين؟ هل استطعنا؟ مضت خمسون سنة بعد الاستقلال، أين الوحدة العربية؟ أين الجامعة العربية والقومية العربية؟ سيدنا أبو بكر رضي الله عنه هل قام بالقومية العربية؟ وسيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي رضي الله عنهم وأرضاهم هل قاموا بالقومية العربية؟ لا، بل بالقرآن، قال: “نَحنُ قَوْمٌ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ” إسلام العِلم والعمل والتعليم، بالأقوال وبالأعمال وبالمعاملات، “وَمَهمَا نُردِ الْعِزَّةَ بِغَيرِه يُذلَّنا اللَّهُ” .
الناس كلُّهم بخير، وما رأيتُ في حياتي إنسانًا لا خيرَ فيه، لا مسلمًا ولا غير مسلم، لا علمانيًّا ولا ملحدًا ولا شيوعيًّا.. بفضل الله وكرم الله، وليس مني أنا، فأنا تَنَكَة قديمة [التَّنَكَة وعاء معدني مصنوع غالباً من القصدير، يوضع فيه السمن أو الزيت وما شابه.. ويقول الشيخ هذا عن نفسه من تواضعه]، وهناك تنكة نضع فيها بُرْغُل [البُرغُل: قمح مُكَسَّر، يُستخدَم عادة للطبخ]، وتنكة نضع فيها سُكَّر، وأُخرى نضع فيها زبالة، وأُخرى نضع فيها ألماس.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا وعاءًا للطيِّبات، وأن يجعلنا مِن الطيبين.
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [الطلاق:10] سواءٌ في الطلاق أو الحياة الزوجية أو البيع أو الشراء أو العلم أو الذكر، وفي كلِّ أوامر الله عزَّ وجلَّ.
معنى أولي الألباب
هذا خطاب موجَّه لأولي الألباب، أصحاب العقول التي تفهم على خالقها أمره إذا أمر، ونهيه إذا زجر، ووصاياه إذا وصَّى، والسلوك والأخلاقيات إذا وجَّه، ولكن إذا لا يوجد ألباب؟ البطيخة إذا لا يوجد فيها لُبّ، أو لُبُّها فاسد، هذه البطيخة للمَزْبَلَة [القمامة]، والجوزة إذا كان لبُّها أسوداً ومعفناً ومدوِّداً، هل هي من أولي الألباب؟
فأولو الألباب هم الذين يتَّقون الله عزَّ وجلَّ، فإذا لا يوجد تقوى، ولا يطيع أمر الله، ولا يحترز عن محارم الله، فهل هذا مِن أولي الألباب؟ هذا الذي لبُّه لبُّ الجَوْز الأسود المُدَوِّد المليء بالحَبَّات الصغيرة مِن غائط الدود، والدليل على ذلك أنه لا يوجد عنده: “واتُّقوا الله”، لأن التقوى مِن علامة أولي الألباب، وما هو وصف أولي الألباب؟ قال: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران:191] فهل يصحُّ أن يكون المؤمن بلا ذِكرٍ ومِن غير أن يدخل مدرسة الذكر؟ هل تستطيع أنْ تتعلم اللغة الإنكليزية مِن غير أستاذ اللغة الإنكليزية؟ هل تستطيع أن تتعلَّم الكيمياء والفيزياء بلا أستاذ؟ الذكر هو روح الأديان كلِّها، وروح العبادات كلِّها، وكذلك الجهاد الحقيقي كما قال الله تعالى: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأنفال:45].
لا بد من معلم وحُبّ لأي شيء تتعلمه
إذا كنتَ في الحرب والهجوم بالصواريخ والدبابات قال: يجب عليك أن لا تترك ذِكر الله، إذًا كيف وأنتَ بلا حربٍ وبلا ضربٍ، وليس لديك عمل، وأنت لا تذكر الله؟! وإذا أردتَ أن تذكر الله فمَن أستاذك في الذكر؟ ركوب الدراجة يحتاج إلى معلِّم، وإذا أراد أن يعمل “نُوْنِيَّة” الأطفال الصغار يحتاج إلى معلم، [النُّوْنِيَّة: في العامية السورية اسم للوعاء الذي يبول فيه الطفل الصغير ويقضي حاجته، والطفل “يعمل نونية” أي يبول فيها ويتغوط، ومن المعروف أن الطفل الصغير تعلمه أمُّه وتدربه كثيراً على استعمال النونية، ولا يعرف هو استخدامها من تلقاء نفسه.. وقد ذكرها الشيخ مثالًا ليدل على أن أصغر الأشياء يحتاج إلى معلم]، وإذا أراد الإنسان أنْ يعمل إسكافيًّا يُصلِّح النعال يجب أن يكون له معلم، فهل يصحُّ أنَّ روح الأديان، وروح العبادات، وروح الحياة، وأصل السعادات بلا معلم؟! والمعلم إذا لم تكن بينك وبينه رابطةٌ بالمجالَسة والحب والملازَمة العقلية والقلبية فلا تستطيع أن تتعلَّم ممَّن لا تحبُّ.. هل يصير الرجل حشَّاشًا بلا حبٍّ وبلا محبوب؟ إنه ما صار حشَّاشًا حتى صار عاشقًا ومحبًّا لحشَّاش آخر، أليس كذلك؟ وهل يصير الرجل مقامِرًا مِن غير أنْ يحبَّ المقامِرِين؟ وأنتَ هل أحببتَ وليًّا مِن أولياء الله؟ هل أحببتَ محبوبًا مِن أحباب الله، ومِن المقرَّبِين إلى الله عزَّ وجلَّ؟ حتى إنه في تلقيح [أو تطعيم] الأشجار تأخذ قشرةً صغيرةً مِن الثمرة الجيدة، وتُلْصِقها بالشجرة الدُّوْن التي ليست جيدة، وتربطها بالخيط حتى لا يتخلَّل الهواء بين القشرة والغصن، وإذا تخلَّل الهواء فلا ينجح اللقاح.
فالإنسان إذا لم يَحدث له اللصوق القلبي والحب مع المعلم القلبي فإنَّ أي هوى مِن أهواء النفس سيُفشِل التلقيح، والمشمش الكلَّابِي سيبقى كلَّابيًّا ولا يصير بَلَدِيًّا، [الكلَّابي والبلدي نوعان من أنواع المشمش في الشام، فالبلدي جيد، والكلابي ليس جيداً، لذلك يأخذ المزارع قشرة من غصن البلدي، ويربطها في شجرة الكلابي، في عملية تُسَمّى التَّطْعِيْم].. اللهم إنا نسألك حبك، وحب مَن يحبك، وحب عملٍ يقرِّبنا إلى حبك.
عليك أن تتعلَّم الحب.. فالقطط في شهر شباط عندما تحبُّ بعضها، [شهر شباط هو الثاني في السنة الميلادية، وفيه تتزاوج القطط] والقطط تبرد كثيراً، ويكون الجوُّ باردًا والثلج ينزل، وتكون على السقف وفي العراء.. أَلَا تشعر القطط بالبرد والثلج ينزل؟ لا يشعرون.. مَنْ الذي قَلَبَ البرد إلى حرارة؟ الحب.
القطة تخاف مِن الكلب، فإذا هجم الكلب على صغارها تهجم عليه وتهزمه، مَن الذي قَلَبَ الجُبن إلى شجاعةٍ، والضعف إلى قوةٍ؟ الحب، وهكذا أصحاب رسول الله ﷺ لَمَّا ذَكَروا الله وأخذوه مِن أستاذ الذِّكر، وأخذوا الإيمان مِن أستاذ الإيمان انقلب ضعفهم قوةً، وانقلب جهلهم حكمةً، وانقلب بخلهم سخاءً وبذلًا، وهكذا انقلبت كلُّ أخلاقهم وأعمالهم إلى أضدادها مِن النقص إلى الكمال، ومِن الشر إلى الخير، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الضعف إلى القوة.
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الطلاق:10] يوجد “الذين آمنوا” أولو الألباب، ويوجد “الذين آمنوا” ولكنهم لا زالوا مِن أهل القشور، أخذوا مِن الإيمان قشره، وصورته الجسدية، ولكن ما أخذوا لباب حكمته، ولباب إيمان القلب واليقين: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر:99]، ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾ [التكاثر:5-6].
علم النبوة لم يكن بقراءةٍ، ولا بتعليم معلم، لقد كانوا يَرَون الآخرة بأعينهم، وكانوا يَرَون كلَّ ما أخبر عنه الله عزَّ وجلَّ بمشاهداتهم، وهذا لا يكون إلا بتغذية القلب بذكر الله عزَّ وجلَّ، حتى ينمو فينمو وينمو، فيصير له السمع والبصر والعقل الإلهي، ولذلك كما قال النبي ﷺ: ((صَوْتُ أَبِي طَلْحَةَ فِي الْجَيْشِ بِأَلفِ رَجُلٍ)) ، والآن المسلمون مليار مسلم، ولكنهم غُثاء كغُثاء السيل، لأنهم بلا معلم وبلا مربٍّ، [فالمعلم والمربي مهمَّان في حياتك] حتى ينعكس القرآن فيك تلاوةً بلسانك، إلى أعمال في سلوكك، وأخلاق في نفسك، وحكمة في عقلك، وإذا بك ناجحٌ في كلِّ أعمالك، فتنتقل مِن ذلٍّ إلى عزٍّ، ومِن فقرٍ إلى غنًى، ومِن ضعفٍ إلى قوة، ومِن هزائم إلى انتصارات، وهذا معنى قول الله تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47].
معنى التقوى الحقيقي
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [الطلاق:10] فهل سنتقي الله أم سنبقى عند الأقوال فقط؟ قولوا.. إذا كنتم لا تريدون أن تتقوا الله فلا تكذبوا، وقولوا: يا رب لا نريد أن نتقي، ونحن نحكي كلاماً فقط ونقول: “فاتقوا الله” ونرمي كلامك، ونحن نقرأ كلامك لكن لا على أساس أن نُطَبِّق، بل على أساس أن لا نطبِّق.. والذي يريد أن يُطبِّق كلام الله فإنّ الله عزَّ وجلَّ يخاطبنا الآن ويقول: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [الطلاق:10] فإذا كنا مِن أُولي الألباب نقول: يا ربي نحن سنطبِّق.. فما رأيكم؟ هل ستطبِّقون؟ وهل هذا [الكلام] فقط في الجامع أم خارج الجامع أيضًا؟ يعني إذا رجعتم وصاحبتم أصحابكم وجيرانكم وإخوانكم وأهلكم هل تنسون؟ ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [الطلاق:10] يعني امتثلوا أوامره على الوجه الأتم.
إذا كنت تمشي بسيارتك على يسار الشارع، وقال لك شرطي السير: امشِ على اليمين، اتَّقِني، امتثل أمري، هل تُخالفه؟ عشُّ الدبابير كُتِب على بابه: “الدخول ممنوع” بخطٍّ يقرؤه الأُمِّيُّ والقارئ، فهل تستطيع أنْ تُخالف هذه التقوى؟ هل تستطيع أنْ تضع أصبعك عليه؟ الدَّبُّوْر تتقي أمره وتمتثله، وتجتنب محارمه، يقول لك: “الدخول ممنوع”، فلا تدخل لا برأسك ولا بأصبعك.. وإذا خالفتَ فستنال جزائك، تقول له: أيها الدبور، سمعًا وطاعة.. لأنك تعرف أنه سينفِّذ وعيده، والنحل سيحقِّق وعده ويُعطيك العسل إذا اتَّقيت أمره.. فالله تعالى الذي خَلَقنا ولم نكن شيئًا مذكورًا [أليس أولى أن نتقيه؟]: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [الإنسان:1] [الشيخ يخاطب أحد الحضور:] كم عمرك؟ خمس وعشرون سنة، قَبل خمس وعشرين سنة ماذا كنتَ؟ لم تكن شيئًا مذكورًا، [ثم يخاطب رجلًا آخر:] وأنت أبا ماهر ماذا كنتَ قبل ثمانٍ وأربعين سنة؟ فالذي أوجدك، وأوجد لك كلَّ شيء ألا يجب أن تتقيه؟ هل يغشُّك؟ هل له مصلحة معك؟ هل يريد الله عزَّ وجلَّ أن “يَرْبَح مِن ورائنا”؟ [يربح مِن ورائنا: استخدام عامي، بمعنى: يربح خِلسَة ومن غير أن نعلم] وهل يخسر إذا خالَفْنا أمره؟ واللهِ كلُّ هذا لنا: ﴿يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف:157].
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [الطلاق:10] ما أحلى هذا الكلام! امتثلوا أمري، أطيعوا شريعتي، أطيعوا قرآني، أطيعوا رسولي، ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [الطلاق:10] لم يقل: يا حمير، يا جَهَلة، بل قال: ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا﴾ [الطلاق:10] القرآن ذِكْرٌ يُذَكِّرُنا، لأن أوامره إذا عرضتَها على عقلك تراها صحيحةً، فأنتَ تعرفها بفطرتك، ولكن غلبت عليك شهواتك فنسيتَها، فيأتي القرآن فيذكِّرُك بأنها حقائق، أنتَ نسيتَ أنَّ هذا أبيض لأنك لا تلتفتُ إليه، والله يقول لك: هذا أبيض.. فالقرآن يأتي مصدِّقًا للحقائق والوقائع، ولا يأتي مخالِفًا لها.
﴿قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا﴾ [الطلاق:10-11] رسولًا: يعني وأرسل رسولًا، وهذا [في اللغة العربية] مِثل قول الشاعر
عَلَفتُها تِبْنًا وَماءً بارِدًا
الماء ليس علفًا، بل هو سقاية، فالمعنى هنا: علفتُها تبنًا، وسقيتها ماءً باردًا.. ﴿قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا﴾ يعني وأرسل رسولًا ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ﴾ يقرأ عليكم ﴿آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ﴾ [الطلاق:10-11]، مبيِّنات: يُنير لك بالضوء، يقول لك: هنا يوجد بئر، احذر أن تقع فيه، وهنا يوجد أفعى، احذر أن تطأها بقدمك، وهنا يوجد أسد، احذر أن تسلك هذا الطريق فيأكلك، وهذا الطريق هو الذي يُوصلك إلى مأمنك وإلى مطلبك، ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ﴾ [الطلاق:11] مُبَيِّنات للخير مِن الشر، وللسعادة مِن الشقاء، وللنجاح مِن الفشل، وللنصر مِن الهزائم، فتمشي على نور الله، وتمشي على مخطط الله عزَّ وجلَّ، لتصل إلى أحسن ما تريد، وإذا خالفتَ ومشيتَ في طريق الألغام فيخرج لك اللُّغْم ويمزِّقك شرَّ ممزَّقٍ، وحينها لا تلومنَّ إلا نفسك.
الدعاء مع اتِّخاذ الأسباب
وبالدعاء فقط: “اللهم انصر الإسلام والمسلمين” هذه أماني، ومهما دعونا الله عزَّ وجلَّ فالدعاء بلا عمل كأننا نهزأ بأنفسنا.. كم يدعو المسلمون منذ مئة سنة: “اللهم انصر الإسلام والمسلمين”! فهل نصر الله المسلمين؟ لكن الأجانب ما دعَو، و”غُوْرُوْ” عندما دخل إلى دمشق هل قال: اللهم انصرنا على العثمانين وعلى السوريين؟ لا، بل أَعَدُّوا الأسباب، [غُوْرُوْ: هو الجنرال الفرنسي قائد الحملة العسكرية الاستعمارية التي دخلت دمشق عام 1920م] الإسلام إعدادٌ للأسباب، ومع إعداد الأسباب هناك التوجُّه إلى الله عزَّ وجلَّ بالدعاء، وبالأسباب مع الدعاء ومع التوجُّه الصادق إلى الله يجعل الله تعالى مِن قليلك كثيرًا، ومِن ضعفك قوةً، وهكذا ينصر الله عزَّ وجلَّ مَن ينصره.
عاقبة الذين آمنوا وعملوا الصالحات
قال: ﴿رَسُولًا﴾ يعني أرسل رسولًا ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ﴾ يقرأ عليكم ﴿آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ﴾ توضِّح لكم الطريق، لتسيروا على نور، ﴿لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ ((الإيمانُ ما وَقرَ في القلبِ وصَدَّقَهُ العملُ)) ، وعملوا الأعمال الصالحات باليد وبالرجل وباللسان وبالفكر والظاهر والباطن، ﴿لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ مِن ظلمات الجهل، ومِن ظلام الفقر، ومن ظلام الذل، ومن ظلام التفرقة، ومن ظلام استيلاء الأعداء على المسلمين، ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ﴾ الإيمان الذي يملأ قلبك حبًّا لله، وتعظيمًا لأمره، ومسارعةً إلى رضاه، ﴿وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ فالقصور من فوق والأنهار تحتها، والأشجار من فوق والأنهار تحتها، ومناظر جميلة ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ قال: وأكَّد الخلود، لأن الخلود قد يُفَسَّر بالزمن الطويل، لكن أكده فقال: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [الطلاق:11]، خلودٌ أبديٌّ فلا فناء، شبابٌ فلا هرم ولا شيخوخة، وغنىً فلا فقر، وعزٌّ فلا ذل، وصحةٌ فلا مرض.. مَن يبيع بهذه الأمور الشقاء والتعاسة والضعف والذل؟ إنَّما يفعل ذلك التعساء الأشقياء.. اللهم اجعلنا مِن الموفَّقِين الأتقياء.
﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا﴾ [الطلاق:11] له الرزق الحسن، الرزق الجميل، فالطائر يطير في الجنة وهو يقول: يا وليَّ الله، جنبي الأيمن مَشْوي، وجنبي الآخر مَقْلي أو مَغْلِي.. وبعد أنْ تأكله ويصبح عظامًا يرجعه الله عزَّ وجلَّ إلى ما كان عليه، فيطير كما كان .. وهكذا، أشجارها مُسخَّرة لك، وأنتَ تحتها وعندما تشتهيها لا تمدُّ يدك إليها، بل يتدلَّى الغصن إليك، ويقول لك: تفضل.
نساؤها لهن “بَارْ”، هل تعرفون البار؟ [بار: كلمة أجنبية صارت تُستخدَم في العامية السورية، يأتي بها الشيخ للشرح وتقريب الفهم] هناك بار الأبرار وبار الأشرار، البار هو محلُّ الرقص والشرب، أليس كذلك؟ وفي الآخرة هناك بار، فيه شربٌ وفيه رقصٌ وفيه غناءٌ، فيُغنِّين فيقلن: “نحن الناعمات فلا نبأس، ونحن الراضيات فلا نسخط، ونحن الخالدات فلا نبيد، طوبى لِمَن كان لنا وكنا له”.
﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا﴾ [الطلاق:11] سواءٌ رزق الطعام أو رزق اللباس.
المرأة في الجنة تلبس سبعين حُلَّةً يعني سبعين ثوبًا، أَلَا تعرق ألا تشعر بالحر؟ قال: ((عَرَقُها المِسكُ)) ، اللهم ارزقنا من نساء الجنة واجعلنا أهلًا، من الآن افعلوا “إِذْنْ نَامَة” [إِذْنْ نَامَة: عقد قران أو رخصة زواج: وهي كلمة قديمة كانت تستخدَم أيام شباب الشيخ]، وحضِّروا أنفسكم مِن الآن “ليُكْتَب الكتابُ هنا، والدَّخْلَة” تكون هناك. [ليُكتَب الكتاب: أي ليُكتَبَ عقدُ النكاح، والدَّخْلَة: في العامية السورية هي ليلة الدخول على العروس].
النبي ﷺ يقول: ((المرأَةُ تَلبَسُ سَبعِينَ حُلَّةً يُرَى مُخّ سَاقِهَا مِن تَحتِ سَبعِينَ حُلَّةً)) ، واللهِ إنَّ هذا لشيءٌ عظيم جميلٌ! في الدنيا المرأة تغتسل وتتعطَّر ليذهب ريح عرقها، وإن لم تغتسل كل يومين أو ثلاثة تخرج منها الرائحة الكريهة، وأنتَ “تموت خمس مئة مِيْتَة” لتصل إليها، “وأسبوع طاهرة وأسبوع غير جاهزة”.. إلخ، [تموت خمس مئة مِيْتَة: في اللهجة العامية، وهو تعبير عن تعبك الشديد وبَذْلِك للمجهود مثل أن تموت خمس مئة مرة، وكل هذا تبذله في الدنيا حتى تحصل على زوجة، ثم بعد ذلك لا تستطيع أن تقربها في أي وقت، فأحياناً تكون طاهرة من الحيض، وأحياناً أخرى تكون بالحيض ولا تستطيع أن تقربها، وهذا قوله: “أسبوع طاهرة وأسبوع غير جاهزة”] أمَّا في الجنة فكلهنَّ طاهرات مطهَّرات، لا بول ولا غائط، وعرقهنَّ كالمِسك، وتجلس في بار الجنة.. جعلنا الله مِن أهل ذلك البار بفضله وإحسانه.
عظيم خلق الله سبحانه
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ [الطلاق: 12] الأوامر الإلهية في السماوات السبع وفي الأرضين السبع، هناك أوامر إلهية وقوانين إلهية وشرائع إلهية، وورد في الأحاديث بأنه في السماء هناك أرضون كأرضنا، وأنبياءُ كأنبيائنا، ونوحٌ كنوحنا، وآدمُ كآدمنا، وعيسى كعيسانا، هكذا ورد في أحاديث رسول الله ﷺ، ومرة أشار النبي ﷺ إلى جهة المغرب وقال: ((إنَّ هَاهُنا أَرضًا نُورٌ كُلُّها، وَنُورُها بَيَاضُهَا، يَومُهَا أَربَعُونَ يَومًا مِن أَيَّامِكُم))، قالوا: يا رسول الله وهل للشيطان عليهم سبيل؟ قال: ((لا يَعرِفُونَ الشَّيطَانَ))، وَلم يَسمَعُوا بِاسمِ الشَّيطانِ، قالوا: أهم مِن ولد آدم؟ قال: ((لم يَعرِفُوا آدمَ، وَما سَمِعُوا بِآدَمَ)) .
فأرضنا تعتبر نقطةً صغيرةً في عالَم الله عزَّ وجلَّ الذي لا حدودَ له، فهذه عوالم مسكونةٌ بمخلوقاتٍ مثلنا، وأشكال مختلفة مِن ملائكةٍ ومخلوقاتٍ اللهُ بها عليمٌ، وكان الأنبياء يَرَون ذلك، والأولياء يَرَون بمعراجهم الروحي، والقرآن أخبرنا بالعِلم الإلهي ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ﴾ [الطلاق:12] الأوامر الإلهية، والقوانين الربانية في هذه الأرضين وهذه السماوات، قال: أخبرناكم بذلك ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الطلاق:12] الله الذي خلق هذا الكون بعظمته وبقوانينه وبأوامراه التنفيذية، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق:12] هذا الكون كلُّه لا يغيب عنه منه مثقال ذَرَّةٍ، أَفلَا يعلم أعمالكم؟ أَلَا يعلم طاعتكم ليثيبكم عليها؟ أَلَا يعلم معاصيكم لينفِّذ قانونه فيكم؟ ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا﴾ [الطلاق:8] كم مِن أُمَّةٍ عتت فأهلكها الله عزَّ وجلَّ! فأنتَ إن كنتَ جبَّارًا عتيًّا هل سيتركك الله عزَّ وجلَّ؟ يعني هل أنتَ أقوى مِن الله تعالى، أو أقوى مِن الأمم، أو أقوى مِن فرعون ومن هامان ومن نمرود؟
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [الطلاق:10].. نسأل الله أن يجعَلَنا مِن قُرَّاء القرآن الطاهرين المطهَّرين، حتى ينقلب القرآن فينا، ويُهضَم، ويَتَمَثَّل أعمالًا جسديةً، وأعمالًا أخلاقيةً، وأعمالًا روحية، وأن يجعَلَنا عز وجل مِن طلَّاب العلم الذين: ((تَضَعُ الملائِكَةُ أَجنِحَتَها لِطَالِبِ العِلمِ رِضاءً بِمَا يَصنَعُ)) .
واجبنا بعد الانتهاء مِن سورة الطلاق
الآن انتهت سورة الطلاق، فكيف نيَّتكم؟ هل ستطبِّقون وتنفِّذون وتعملون أم فقط تسمعون وتتسلَّون على حِسَاب صحةِ الشيخِ وقلبِه؟ [يقول سماحة الشيخ هذا الكلام حثّاً لإخوانه على العمل، حيث إنه معروف لعموم إخوانه أن الشيخ ممنوع من الأطباء من الكلام والتدريس، فقد كان يعاني من كثير من الأمراض، والتي منها القلب، ولكنه كان يضحي بكل ذلك حرقة على الإسلام والمسلمين، وحباً لإخوانه وأملاً في تحويل ما يتعلمون إلى عمل] والذي سمعتموه يجب عليكم أنْ تُعلِّموه غيركم، أم ستكونون محتكِرِين؟ ((وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ)) ، كان النبي ﷺ يقول: ((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً)) ، آيَةً واحِدَةً.. فاذهبوا إلى أهلكم وأصحابكم، واجعلوا مجلسَكم مجلسَ القرآن: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾ [النساء:114] مجلس النجوى تسلية، تجلس أنت ورفاقك، أنت وأهلك، والله عزَّ وجلَّ قال: مجلس التناجي والاجتماع لا خير فيه ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ بأن نتذكَّر فقراءنا مِن أرحامنا، ومِن جيراننا، وممَّن نعرف، وممَّن لهم علينا واجب، ﴿أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ أوامر الله المعروفة لدينا، نتذاكرها حتى نطبِّقها وننفِّذها ﴿أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء:114] نتذكر فلاناً، هو وأخوه مختلفان، أو فلاناً مع جاره، أو فلاناً مع شريكه، أو فلاناً مع قريبه، نذهب إليهم ونُصلح بينهم، قال النبي ﷺ: ((أَصلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ إِذَا تَفَاسَدُوا، وَقَرِّبُوا بَيْنَهُمْ إِذَا تَبَاعَدُوا)) ، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال:1].
اللهم اجعلنا مِن الذين يَستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.
مفتي دوما توفِّي عليه رحمة الله، كان مِن الصالحين الصالحين، والعلماء الفضلاء، وكذلك الأخ محمد ضعضي أبو عدنان، وزوجة أبو حسن الشاهد.. هم السابقون ونحن اللاحقون، غفر الله لنا ولهم.