انتصار الإسلام للمرأة
نحن الآن في تفسير سورة الطلاق.. هذه السورة تُسمَّى سورة الطلاق، وتسمى سورة النساء الصغرى، فهناك سورتان خاصَّتان بالنساء: هما سورة النساء المعروفة بأنها ثالث أطول سور القرآن، وسُمِّيت بالنساء لأنَّ الله عزَّ وجلَّ ذكر في كثيرٍ مِن آياتها ما يتعلَّق بحقوق المرأة، تلك الحقوق التي كانت مهدورةً للمرأة قَبل الإسلام، فكانت المرأة لا ترث مِن أقاربها، وكان العرب يقولون: إنَّما الإرث لِمَن حمل السلاح ودافع عن العشيرة.. ولقد انتصر الإسلام للمرأة مِن غير وجود اتِّحادٍ نسائيٍّ، ومِن غير ثورات سلبية أو إيجابية، بل مِن غير أنْ تطلب المرأة حقَّها في الميراث، فكأمٍّ قال: ((الْجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الْأُمَّهَاتِ)) ، وكأختٍ وأمٍّ لـمَّا سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ أيُّ النَّاس أَولَى بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ فقال له: أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ ثُمَّ أَبُوكَ ثمَّ َأُخْتُك فأَخوكَ))، أو ((أُمُّكَ ثُمَّ أبوك، ثمَّ أُخْتُكَ فأَخوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ فأَدْنَاكَ)) ، وانتصر لها كزوجة فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يُكرِمُهنَّ إِلَّا كَرِيمٌ، ولا يَضرِبُهنَّ إِلَّا لَئِيمٌ)) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا: ((خَيْركُمْ خَيْركُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْركُمْ لِأَهْلِي)) ، وقال: ((اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا)) .
فصلَّى الله عليه وآله وسلَّم، لقد كان صلى الله عليه وسلم المرآةَ التي انعكست فيها الأخلاق الإلهية والقوانين الربانية التي فيها سعادة الإنسان في جسده وروحه وأرضه وسمائه.. ولكنْ مع عميق الأسف فإنّ المسلم والمسلمة [اليوم ليسا كذلك]، ومن المؤكَّد أنه لا يكون إسلامٌ إلَّا إذا كان هناك إيمانٌ بالله وملائكته وكتبه ورسله.. ومِن الكتب القرآن، ومِن القرآن سورة النساء وسورة الطلاق، فهل آمن المسلم المتزوِّج بسورة الطلاق؟ ((الإِيمَانُ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ)) ، ولا يُصَدِّقه القلبُ إذا كان قارؤه جاهلًا بأحكامه ووصاياه وأخلاقه، فهل درس الزوج قَبل أن يتزوَّج أحكام الإسلام في الزواج وفي الطلاق وفي حقوق الأسرة وكيف يُربِّي الأولاد؟
مسؤولية الزوج عن أسرته
الزوج مديرٌ لدائرةٍ ولدولةٍ صغيرةٍ، فهو مالكها وهو القَوَّام عليها، أفلا يجب عليه أنْ يعرف قوانين هذه الدولة وهذه الإدارة؟ وبعد هذا العلم ألا يجب عليه أن يؤمن بها الإيمان الحقَّ الذي ينعكس أعمالًا وأخلاقًا؟ وبهذا الإيمان تنعكس حياة الأسرة سعادةً ونجاحًا، وينقلب البيت إلى جنة وفردوس.
إنّ الطلاق مِن خصائص الرجال.. وكلُّ ما يُبنى على غير الإسلام يُبنى على الجهل والجاهلية بأهوائها وحَمِيَّتها ورضائها وغضبها وحبها وكراهيتها.. وإذا فُقِد الإسلام؛ إسلام سورة النساء التي كثيرٌ مِن أحكامها تتعلَّق بالحياة الزوجية، وفُقِد الفقه في سورة الطلاق، ينتهي الأمر إلى أنْ يكون البيت جحيمًا لا جنةً، وشقاءً لا سعادةً: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [طه:124]، أعرض عن منهاج الله تعالى في أيِّ مستوًى مِن مستويات الحياة، وكذلك في مستوى الحياة العائلية، فإنْ أعرضتَ عن ذكر الله وقوانينه في الحياة العائلية فإنّ لك معيشة ضنكاً.
المرأة اليوم لا تعرف الأحكام الإسلامية في الزواج، ولا تعرف ما هو حقُّ الزوج على زوجته والزوجة على زوجها، فكيف ينجح الإنسان بقيادة سيارةٍ لم يتعرَّف على قيادتها مِن معلِّمِي قيادة السيارة؟ وكيف ينجح إنسان يريد أنْ يُدير معملًا وهو جاهل بآلِيَّتِه وإدارته؟ وهذا أيضًا في العائلة وفي البيع وفي الشراء وفي الصحبة وفي الجوار وفي السياسة وفي الدولة وفي الحرب وفي التجارة.. المسلم اليوم ليس مسلمًا في ميادين حياته، فحياتُه حياة الجاهلية، يعيش بأهوائه وأنانيته وحَميَّته الجاهلية، يغضب لأنانيته ولمطامعه وأهوائه، ولا يغضب لغضب الله عزَّ وجلَّ ولا يرضى لرضائه.
ضرورة إنشاء مدرسة للتثقيف العائلي
لو كان لي مِن الأمر شيء لا أُعطي ولا أسمح برخصة الزواج إلَّا بعد أنْ يدخل الزوجان مدرسةً للتثقيف العائلي والزواجي، لِتعرف المرأة ما هو إسلامها في زواجها؟ وكيف تتعامل مع الزوج؟ وما هي حقوقه عليها؟ وكيف تؤدِّي هذه الحقوق؟
وكذلك الزوج لا يُعطى رخصة الزواج.. وهذا مِثل رخصة السيارة في عصرنا، فهل تعطي الدولة رخصة استعمال سيارة دون ثقافة القيادة ومعرفة ما يجب معرفته مِن أمور الطوارئ مِثل انفجار العجلة أو ما شابه ذلك؟ لا، لأنَّه قد ينقطع في الطريق أو تنقلب فيه السيارة فيَهلك ويُهلك.. وكذلك الزوج والزوجة إنْ لم يكن لديهما ثقافة إسلامية في الزواج فيَهلكان ويُهلكان الأولاد وتهلك الأسرة وتفشل، فأنت أيها المسلم مطلوبٌ منك أنْ تؤمن بالقرآن، وهل يكون إيمان بمجهول؟ فإذا كنت تجهل القرآن فما هذا الإيمان وما هذا الإسلام الذي تدَّعيه ولا حقيقةَ له، وليس فيه إلَّا الأماني والادِّعاء؟
والدَّعاوَى إنْ لم تَقُم عليها بَيِّناتٌ أَصحابُها أَدعِياءُ
وهكذا قل عن الزواج وعن البيع والشراء والتربية والتجارة والقضاء والحكم والحرب والزراعة والاقتصاد، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام:38]، وشرح النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام القرآن في حياته الشخصية والعائلية والقضائية والسياسية والعسكرية والاجتماعية والدولية والعلمية.
إنّ كلمة مسلم مِثل كلمة طبيب، فلا يُؤخذ هذا اللقب إلَّا بعد عشرين سنة مِن الدراسة، والعشرات مِن الأساتذة، فيا ترى كم أستاذاً للمسلم في دراسته وثقافته الإسلامية؟ والمسلمة كذلك والقاضي أيضًا والتاجر.. إلخ.
في القرآن منهاج الاختيار لكل من الزوجين
الطلاق هو مرحلة ثانية في أمر العائلة، فأولًا تبدأ العائلة بالزواج، وقد وضع القرآن قبل الزواج منهاجًا لتعرفَ كيف تختار الزوجة؟ ولتعرفي مَن هو الزوج الذي تختارينه؟ يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حتَّى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة:221]، أيُّ إيمانٍ؟ هل إيمان التمني والتَّحلِّي، أم الإيمان الذي وقر في القلب وصدقه العمل؟ ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ [البقرة:221]، فلا تزوج ابنتَك لمشرك ﴿حتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ [البقرة:221].
ترى المسلم الآن عندما يريد أنْ يتزوج يقول لعائلته: ابحثوا لي عن امرأة عيونها خضراء.. يوجد الكثير مِن القِطط عيونها خضراء، وهناك كلاب وكلبات أيضًا عيونهنَّ خضراء، وبقر وحيوانات كثيرة، فإذا أراد العيون الخضراء فلينزل إلى سوق الحمير أو يذهب إلى القطط، [الشيخ يضرب هذا المثال لِيبيِّن أن هذه الصفات ليست مقياسًا للجمال، وإلا فهي موجودة في الحيوانات أيضًا] وشخص آخر يقول: أريدها شقراء؛ فهناك قطط بيضاء وحمراء وشقراء مِن ذيلها إلى رأسها.. يجب أن يقول لهم: ابحثوا لي عن مؤمنة، لأنَّ الإيمان بالقرآن والإسلام يحضُّ ويدفع إلى البحث عن الزوجة المؤمنة، الإيمان القلبي والإيمان العملي بأداء الفرائض واجتناب المحارم والتحلي بمكارم الأخلاق الإسلامية، ولكن هل يكون الإنسان طبيبًا بلا مدرسة طب وكلية طب؟ وهل تكون المرأة مؤمنةً بلا مدرسة إيمان وبلا معلمٍ ومربٍّ حكيم ومزكٍّ يعلمها الكتاب والحكمة ويزكي منها النفس؟ فنحن أيها الإخوة والأخوات مع الأسف في جاهلية، ظَلَمْنا بها أنفسنا، وظَلَمْنا الإسلام مع ظُلمنا لأنفسنا
طَلَعَ الدِّينُ مُستَغِيثًا إلى اللهِ وَقَالَ العِبادُ قَد ظَلَمُونِي
يَتَسَمُّونَ بِي وَحَقِّكَ لا أَعرِفُ مِنهُمُ أَحدًا وَلا يَعرِفُوني
أميَّة المسلمين بدِينهم اليوم
هذا بالتأكيد لا ينطبق على كل النَّاس، ولكنَّ كثيراً مِن النَّاس “لا يَعرِفُ مِن الإسلامِ إلَّا اسمَهُ، وَلا مِن القُرآنِ إلَّا رَسمَهُ”، كما قال سيِّدنا عليٌّ كرم الله وجهه ، فإلى متى نبقى في سَكْرة الجهل وسَكْرة الأمية بالإسلام؟ وإذا كانت الأمِّيَّة عدم الكتابة والقراءة فالحديد -ومنه الآلة الكاتبة- صار يكتب الحديث، ومنه كذلك شريط التسجيل والتلفاز اللذان صارا يقرآن، فهل هذه الأشياء أُمِّيَّةٌ أم قارئة وكاتبة؟ صار الجماد يقرأ ويكتب.. لكنْ أنت أيها المسلم هل قرأت القراءة التي ذَكَرها القرآن العظيم: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى﴾ [الأعلى:6]، هل قرأت القراءة التي قال الله تعالى عنها: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذِي خَلَقَ﴾ [العلق:1]؟ ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف:204].
هل يرضى المسلمون والمسلمات أنْ يعيشوا طيلة أعمارهم أُمِّيِّين عِلمًا وفهمًا؟ والأخطر والأكثر ضررًا أنْ يكونوا أُمِّيِّين أخلاقًا وعملًا، فيبقون أميِّين ولو عَلِموا عِلْمَ اللسان وقرأوا الكتاب؟
يروى عن سيِّدنا عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى هذهِ الأُمَّةِ مِن عَلِيمِ اللِّسَانِ جَهُولِ القَلب)) ، فإذا كان القلب جاهلًا تجد أعماله جاهليةً، وأخلاقَه جاهليةً.
رسالة الإسلام أمانة
نرجع إلى سورة الطلاق، هل فهمها المسلم الذي ائتمنه الله عزَّ وجلَّ على عقد الزواج؟ وقد صار هذا العقد أمانة عنده: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ﴾ [الأحزاب:72]، فشَبَّه الله عزَّ وجلَّ رسالة الإسلام ورسالة القرآن وتعاليمه بشيء ثمين وعظيم، وقد رفض كلُّ الكون أنْ يتحمله لعظيم مسؤولية حمله، وحمل الإنسان هذه الأمانة، فهل أدى هذه الأمانة كما يجب أداؤها؟ ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء:58]، حمَّلك الله عزَّ وجلَّ أمانة أداء الصَّلاة، فهل أدَّيتَ هذه الفريضة؟ وحمَّلك أمانة أداء فريضة الزكاة، فهل أدَّيتَ الزكاة؟ وأعطاك البصر والعينين وحمَّلك أمانةَ أنْ تحفظهما إلَّا في حدود الله فلا تتعداهما إلى استعمالهما فيما حرَّم الله تعالى، فهل أدَّيتَ هذه الأمانة؟ قال: فحملها الإنسان، ولكنه لم يُؤدِّها، ولذلك: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب:72]، أمَّا المؤمن فحملها وأحسن أداءها، فلم يقل الله عزَّ وجلَّ: “وحملها المؤمن إنَّه كان ظلومًا جهولًا” لأنَّ المؤمن لا يكون ظلومًا ولا جهولًا.
البحث عن ذات الدين الحقيقي
لذلك يجب على الرجل إذا أراد الزواج [أن يبحث عن الزوجة الصالحة]، فلو أتينا إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مستشيرين بمَن نتزوَّج يا رسول الله؟ لقال لنا: ((تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا وَجَمَالِهَا وَحسَبِهَا وَدِينِهَا))، فمَن تزوَّج امرأةً لِمالها أفقره الله عزَّ وجلَّ ويجعله دائمًا فقيرًا إليها وذليلًا بين يديها، فتسبُّه وتستهزئ به، وربما تطرده مِن البيت.. ((فَعَلَيكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)) والدِّين -أيها الإخوة- ليس مجرَّد صلاة الجسد، بل الدين صلاةٌ ﴿تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت:45] وصلاةٌ تَنقل الإنسان مِن أخلاقٍ بهيميةٍ وجاهليةٍ إلى أخلاقٍ ربانيةٍ وملائكيةٍ.. ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ مَن الهلوع؟ قال: ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا﴾ [المعارج:19-20] ليس له صبر ولا حُسن تحمُّلٍ عند الشدائد والأزمات، فتجده طفلًا، وإذا رأى دودةً صغيرةً يصرخ مِن خوفه منها وجزعه، وإذا ضاع منه شيء أيضًا يبكي جزعًا على ما فَقَد، أو إذا فَقَد حبيبًا أو ابنًا.. ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج:20-21] إذا صار غنيًّا تجده بخيلًا، وإذا صار حاكمًا تجده ظالـمًا، وإذا كان مؤتَمَناً تجده خائنًا.
﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ [المعارج:19]، مَن الهلوع؟ هو الذي ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا﴾ [المعارج:20]، إذا أصابه الشر في ماله أو في بدنه أو في أهله وأحبابه ومحبوباته يجزع بفقدها، قال: ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج:21]، إذا أعطاه الله جاهًا أو مالًا أو قوةً يفرض الإسلام عليه أنْ يُساعد به الآخرين، فيمنع رِفْدَه ومعاونته للآخرين، قال: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ [المعارج:22].
فالمصلي لا يكون هلوعًا ولا جزوعًا إذا مسه الشر، ولا مَنُوعًا إذا مسه الخير، فهل أنت هلوع أم غير هلوع؟ هل يستطيع الهلوع الآن أن يرفع يده؟ ولكنه غدًا يوم القيامة ينفضح أمره، وإذا سحبوه مِن رجليه على وجهه لا يستطيع أنْ يتوب ولا أن يغيِّر.
الإنسان في هذه الدنيا يذهب إلى المختبر الطبي ويُحلِّل دمه، فإذا وجد فيه الكولسترول أو أسيد أوريك يُعطيه الطبيب دواءً ليخلِّصه مِن هذه الأمراض، لكن إذا مات الإنسان بسبب الكولسترول والأسيد أوريك فهل سينفعه الدواء بعد الموت؟ فداووا أنفسكم الآن.
هل يستطيع أحدٌ منكم أنْ يُقِرَّ على نفسه إن كان هلوعاً؟ غدًا سننفضح أمام الله تعالى وأمام النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وفي مواقف القيامة لا يوجد فضيحة فقط، بل ستُسحَب مِن رجليكَ وتُسحَبين مِن رجليكِ ومِن شعركِ على وجهك، وستُجَرين في نار جهنم، وتصيرين مِثل الكرة التي تُقذف مِن أعلى الجبل يضربها أحدهم برجله فتنزل إلى أسفل الوادي: ﴿فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ(95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الشعراء:94-97]، هناك لا ينفع الندم، أمَّا هنا فإذا وُجد أنَّ معك كولسترول فالمداواة بالدواء تنفع، فهل تستطيعون أنْ تُقِرُّوا على أنفسكم بأنَّ معكم كولسترول دِيني أو أسيد أوريك دِيني لنُعطيكم وصفةً طبيةً؟ مَن منكم يستطيع أنْ يُقرَّ ويعترف؟ الآن إنْ أقررتَ ينفعك الإقرار، أمَّا غدًا فإذا أقررتَ ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر:48-49] يعني إذا ذُكِّروا كانوا يفرُّون مِن التذكرة ومِن العِظة ومِن العلم ﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ﴾ [المدثر:50] أي كأنهم حمير خائفة ﴿فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾ [المدثر:51] وهو السَّبُع، ماذا يحدث للحمار إنْ رأى السَّبُع فجأة؟ ربما إذا لم تُشلَّ حركته يقفز قفزةً كبيرةً ولو كان على رأس جبل إلى أعمق الوادي.
الإيمان بحقوق المرأة
نرجع إلى سورة الطلاق، فهل أنتم مؤمنون بسورة الطلاق؟ يا ترى هل أنتم مؤمنون بحقوق المرأة في القرآن وفي أحاديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟ فقد كان عليه الصلاة والسلام يقول: ((اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا)) ، ((خَيْركُمْ خَيْركُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْركُمْ لِأَهْلِي)) .
مرةً حدث بين عائشة رضي الله عنها وسيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما يَحصل بين الزوجَين، والمرأة مشهورةٌ بالغَيرة، فهي تغار ممَّا فيه غَيرة وممَّا لا غَيرةَ فيه، والغَيرة دليل الحبِّ، فلو لم تكن زوجتك تحبُّك فإنها لا تغار عليك، أليس كذلك؟ أَلا تغار أنتَ عليها؟ يعني إذا نظرتْ بطرف عينها إلى رجلٍ غيرك أما تغضب وتغار عليها؟ وكذلك هي تغضب وتغار عليك.. فحصل بينه صلى الله عليه وسلم وبين عائشة رضي الله عنها ما يحصل بين الزوجَين، فقالت له: “أنتَ الذي يَزعُمُ النَّاسُ أنَّكَ رَسولُ اللهِ؟” هذه اللَّفظة إذا أردنا أن نطبِّق عليها أحكام الفقهاء فهي شكَّت في النبوَّة والرسالة، وهذه مُرتَدَّةٌ، وهذه كذا وكذا.. ولكنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يعرف أنَّها لا تُنكر النبوة ولا الرسالة، هي تُريد العدل، ولكن بحسب مفهومها كامرأة وزوجة، وبحسب ما تحمل مِن غَيرةٍ وأنانية، فابتسم النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم.. لم يقل لها: كفرتِ أو ارتددتِ، لأنَّه يعرف بأنَّها متمسِّكةٌ بالإسلام، بل قال لها: ((أَوَفِي شَكٍّ أَنْتِ يَا أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ؟)) هذا: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء:19]، وهذا: ((خَيْركُمْ خَيْركُمْ لِأَهْلِهِ)).
إذا أردنا أنْ نطبِّق الحكم الفقهي الشافعي أو الحنفي أو الجعفري أو المالكي أو الحنبلي نقول: هذه مرتَدَّةٌ، ويجب قطع رأسها بالسيف، ولكنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يعرف: ﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ [المائدة:89]، ويعرف بأنَّها لم تقصد ما تقوله ولم تقصد ما يدلُّ عليه لفظ كلامها، بل هي تقصد أنْ يستجيب النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لهواها وأنانيتها كزوجة وامرأة.. قال لها: ((أَوَفِي شَكٍّ أَنْتِ يَا أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ؟)) قَالَتْ: “فلماذا لا تعدل؟” ، النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يعدل، ولكنَّها تريد عدلها، وليس العدل الحقيقي الذي يُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه.
البحث عن المؤمنة للزَّواج
يجب على الرجل إذا أراد أنْ يتزوَّج أنْ يبحث عن المؤمنة، والمؤمنة هي المتعلِّمة والفقيهة والذاكرة والقانتة والمؤدِّية لفرائض الله، والواقفة عند حدود الله عزَّ وجلَّ، لأنَّ هذه المرأة إذا أنجبت لك ولدًا صالحًا فسينفعك في حياتك وبعد موتك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)) ، أمَّا إذا كان الأمر بالعيون الزرقاء فلدينا كثير من القطط أعينهنَّ زرقاء لِمن يريد العيون الزرقاء، وزيادة على ذلك لها “كْرَافِة” من الوراء، [الكْرافِة: ربطة العنق التي يلبسها غالباً الرجال، وهي تُلبَس عادة للتجمل والزينة]، وكذلك المرأة إذا أرادت أنْ تتزوَّج فليبحث أبوها لها عن الرجل الصالح.
قصة زواج ابنة سعيد بن المسيب
يذكرون عن سعيد بن المسَيِّب رضي الله عنه أنه كانت له ابنة، وكانت قمةً في الجمال وفي العلم وفي الأدب وفي الأخلاق وفي الذكاء، فخطبها خلفاء وملوك بني أُميَّة فلم يزوجها أبوها، ولـمَّا اشتد الضغط عليه سأل أحد تلامذته وقال له: هل أنت متزوِّجٌ؟ قال: لا، قال: ما رأيك في الزواج؟ قال: لا يوجد عندي مهرٌ ولا شيء في البيت، قال: ليس عن هذا أسألك، قال له: نعم أتزوَّج لكنْ مَن؟ قال له: أُريد أنْ أزوجك ابنتي.. التي هي خطيبة مَن؟ خطيبة خليفةٍ حُكمُه مِن إسبانيا إلى الصين، فلماذا زَهِد سعيد بن المسيب في هذه العَظَمة الدنيوية، وقَبِل بطالب علمٍ لا يملك فراشًا في بيته؟ فزوَّجه إيَّاها، وعقد نكاحه عليها على درهمَين.. وليس كما يفعلون في العقود الكاذبة اليوم، حيث يتَّفقون على مئة ألف، ويسجِّلون مليون مثلًا، وليس كزواج أيامنا حيث يَطلبون المهر المقدَّم والمؤخَّر ولُبْس البدن والذهب وحفلة الزفاف.. فيُحمِّلون الشاب أعباءً لا يُطيقها.. وصار ذاك الطالب يفكِّر فهو يُريد أنْ يجهز بيته ويفرشه، قال: في تلك الليلة بعد المغرب طُرق الباب، قلتُ: من الطارق؟ قال: سعيد، قال: فجاء في ذهني كلُّ صديق لي اسمه سعيد إلَّا سعيد بن المسيب.. لأن سعيد بن المسيب كان شيخ الإسلام في ذلك الوقت، وليس مِن المعقول أنْ يأتي إلى بيته، قال: فلمَّا فتحتُ الباب وجدتُ سعيد بن المسيب، فقال له: هذه زوجتكَ، خُذها، بارك الله لك فيها، والسَّلام عليكم.
هذا الشَّيء الذي فعله سعيد بن المسيب بمثابة الحفلة والعَرَاضة والهدايا والنفقات التي تكسر الظَّهر في وقتنا الحاضر. [العَرَاضَة: بعض الأهازيج الشعبية المشهورة في دمشق التي تُقال في عرس الشاب]
قال: فحِرت في نفسي وفوجئت، لأنه لم يكن يعلم بمجيء الشيخ وابنته، حتى إنَّه لم يجهز البيت من ترتيب وتنظيف وما شابه، قال: فحرت في أمري وطرقت الباب على جيراني: أرجوكم وقعت في مشكلة، تعالوا ساعدوني! في بيتي عروس ولا يوجد شيء في البيت، ولا أعرف ماذا سأفعل بنفسي، فقال جيرانه: لا تقربها ثلاثة أيام، فأخذوها وغَسَّلُوها وجهزوها.. قال: لكنْ تلك الليلة لم يكن في غرفتي إلَّا حصير وجرة مغطاة برغيف خبز يابس، قالت له: ما هذا الرغيف؟ قال لها: هذا تركتُه لنأكله إذا لم نجد خبزًا طريًّا، قالت له: لقد غُشَّ أبي فيك، ذكر لي أنَّه زوَّجني مِن رجل متوكِّل على الله، فهل هذا شأن المتوكِّلين؟ هل خبَّأتَ رغيفًا لوقتٍ لا تجد الخبز الطري؟! قال: فوجدتُها عالمةً وللقرآن قارئةً، وفي الفقه فقيهةً، وفي الحديث حافظةً، وابنة شيخ الإسلام.. إلى آخر القصة.. هكذا كانوا يَفقهون إسلامهم في الزواج وفي الطلاق وفي العِشرة وفي المعاملة وفي البيع وفي الشراء وفي الصحبة وفي أداء كلِّ واجبٍ فَرَضه الله عزَّ وجلَّ على المسلم.
الإسلام هو الاستجابة لكلِّ ما أمر الله عزَّ وجلَّ
الإسلام والتقوى هو أنْ تؤدي وتمتثل وتستجيب لكل ما أمر الله عزَّ وجلَّ، وتنفذه بأعمالك وسلوكك، وتقف عند حدود الله عزَّ وجلَّ فلا تتجاوزها إلى ما حرم الله عزَّ وجلَّ في لسانك وعينك وأذنك وقلبك وفكرك: ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الملك:13]، ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [النمل:25]، فهل آمن المسلم والمسلمة وأسلما واستسلما لهذه الكلمات القرآنية؟ ما معنى: ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الملك:13]؟ يعني إيَّاك أنْ تعصيني في سِرِّك وفي نفسك أو تنوي الغش لأحد أو الغدر والمكر بأحد.
أنواع المؤمنين
كان عليه الصلاة والسلام يقول: ((المؤمنون ثلاثة أنواع ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الحجرات:15])) الإيمان حق الإيمان: ﴿الذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ وزادتهم تقوًى وصلاحًا وأخلاقًا.. بعض الناس يسمع القرآن مِن الإذاعة بتجويدٍ وصوتٍ مِن أجمل الأصوات، ولا يتأثَّر ولا يزيد في إيمانه ولا تقواه ولا أخلاقه قطرةً مِن بحرٍ، فهذا ليس مؤمنًا، بل هو ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ﴾ [الجمعة:5] إذا قرأ أو إذا سمع ﴿يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ [الجمعة:5]، سمى الله تعالى مَن يقرأ القرآن ولا يفقهه ولا يعمل به، سمَّاه مكذِّبًا، وقال: بئس القارئ وبئس التالي وبئس ذلك الإنسان.
فإذا قرأت القرآن وقال الله عزَّ وجلَّ لك: بئست قراءتك، حتى لو قرأتها على القراءات السبع وبأجمل الأصوات فهل الله عزَّ وجلَّ يُريد النغم؟ هل طلب منَّا الأنغام أم الأحكام؟ هل طلب منا التقوى أم هزهزة الرؤوس والآهات بلا فهم ولا نية عمل ولا استجابة لنداء الله عزَّ وجلَّ ولا امتثالٍ لأمره؟
((والنوع الثاني: الذين يأمنهم النَّاس على أموالهم وأنفسهم)) فلو أعطيتهم مئة مليون دولار أو مئة مليون ليرة ذهب أو ما شابه، فإنه لا يقع في نفسه أنْ يغدر بك أو يغصبك، أو لا يؤدي الأمانة إلى صاحبها.. ((يأمنهم النَّاس على أموالهم وأنفسهم)) فلا يغتاب أحدًا ولا يكذب عليه ولا يمكر به ولا يغشه.
((والنوع الثالث: الذي إذا أشرف على طمع)) أي صار أمامه مطمَعٌ بحيث إنه يستطيع أنْ يغشَّ أو يأكل مال النَّاس بلا بيِّنةٍ ولا سندٍ، ولا يستطيع أَحدٌ أنْ يقيم عليه دعوى.. ((الذي إذا أشرف على طمع وَرَعَ وتحرَّزَ عن حقوق النَّاس وأموالهم)) على الإنسان المسلم أن يَزِن نفسه بهذا الحديث النبوي وبالإيمان بمعناه العادي.. وهل أنت مؤمن بأنَّ لدغة الأفعى قاتلة؟ نعم أنا مؤمن، فإذا رأيناك وضعتَ إصبعك بين أنيابها فهل هذا يدل على صدقك في الإيمان أو على كذبك في ادعائك للإيمان؟ وإذا قال لك أحدهم: هل تؤمن بأنَّ هذه جوهرة؟ فقلت: نعم، فإذا قال لك: أنا سألقيها على الأرض لِمَن أراد أنْ يأخذها.. فإذا أعرضتَ عنها ظِهِريًّا فهل تكون صادقًا في إيمانك بأنَّها جوهرةٌ غالية الثمَّن؟ لذلك لا يكون الإيمان بالتمني، ولا بأن يكون اسمك مُحمَّداً بن محمود، فمجرد الاسم لا تصير مسلمًا ومؤمنًا؟ إنّ للإيمان مدارسه وأساتذته، ولذلك كانت الهجرة إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في المدينة فرضًا، ومَن لم يهاجر ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ﴾ [النساء:97-98]، ولذلك يجب على كلِّ مسلم أنْ يتعلم، ثمَّ يعلِّم أولاده وأسرته وزوجته، وكذلك الزوجة تتعلم وتعلم أولادها وزوجها وقريباتها، قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلناسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [آل عمران:110]، أول صفة للخيرية أنَّ المسلم مُصلِحٌ للمجتمع؛ مجتمعه الصغير أو المجتمع الكبير أو الأكبر، وكلُّ هذا في حدود الحكمة والموعظة الحسنة: ﴿وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ [آل عمران:110].
الخِطاب في أحكام الطلاق موجَّه للرجال
الآن لاحظوا أنَّ سورة الطلاق يُخاطبكم الله عزَّ وجلَّ بها بعدما خاطب بها نبيَّه صلى الله عليه وسلم، ولِمن وُجه الخطاب بعد النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ هل إلى الرجال أم إلى النساء؟ إلى الرجال لأنَّ الطلاق بيد الرجال، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ [الطلاق:1]، ما قال: “يا أيها الذين آمنوا” إشارةً إلى أنَّ أمر الطلاق أمرٌ عظيمٌ ومقدَّسٌ جدًّا، لذلك يجب أنْ يُبَلَّغ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ثمَّ هو يُبلِّغه للرجال المسلمين.. ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ﴾ [الطلاق:1]، يعني قل لهم: إذا طلقتم، يعني إذا أردتم الطلاق، وعزمتم على الطلاق.. في الزواج الإسلامي لا يصل الزوج إلى الطلاق إلَّا بعد أنْ يجتاز عدَّة مراحل، فالطلاق لا يكون حسب الهوى، كمن يدعو رجلًا إلى الطعام، ولم يقبل، فيحلف عليه بالطلاق أن يأكل، ما علاقة الطعام بزواجك وزوجتك وطلاقك؟ وما الداعي لذكر زوجتك بحضرة الرجال الأجانب؟ وما علاقة تحريم زوجتك على نفسك بأن لا تقربها بدعوتك لضيفك أن يأكل لقمة أو لقمتين من الطعام؟ هذا ليس جاهلية، بل إن الحيوانات لا تفعل فِعْل هذا الرجل، فبعض الأزواج أخلاقهم دون أخلاق الحيوانات.. أَمْرُ الطلاق ليس على هواك، صحيحٌ أنَّ الله أباح الطلاق، ولكن قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أيضًا: ((إنَّ أَبْغَضَ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ)) ، ((تَزَوَّجُوا وَلا تُطَلِّقُوا، فَإِنَّ الطَّلاقَ يَهْتَزُّ مِنْهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ)) .
في زمان النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان الرجل إذا أراد أنْ يطلِّق زوجته يستأذن النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فمرة أتى أبو أيُّوبَ الأنصاريُّ رضي الله عنه يستأذن النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم في طلاق زوجته، فلم يأذن له النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يعني لم يُعطِه رخصةً بالطلاق، وقال له بعدما عرض عليه الأمر: ((إِنَّ طَلاقَ أُمِّ أَيُّوبَ لَهُوَ الحُوبُ)) ، الحوب كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [النساء:2] يعني إثمًا ووزرًا كبيرًا.
فأنتَ قبل أن تطلِّق هل تشاور الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء؟؟ ألم يقل القرآن قَبل الطلاق: ﴿فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا﴾ [النساء:35]؟ وقَبل الحَكَمَين هل دخلتَ في مدرسة: ((خَيْركُمْ خَيْركُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْركُمْ لِأَهْلِه)) ؟ قد تُحبُّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وتزوره لتقف أمام الواجهة الشريفة.. لكن هل الشُّبَّاك النحاس [في الواجهة الشريفة] أفضل أم إذا امتثلت كلام النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ أيُّهما أقرب إلى الله عزَّ وجلَّ وأحب إلى الله تعالى ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم: إذا أمسكت بشُبَّاك النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أم إذا امتثلت سنَّته وأوامر الله عزَّ وجلَّ ورسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم؟
ولكن المسلم اليوم كلام الله عزَّ وجلَّ والنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وراء ظهره، وهو متمسك بالحديد والنحاس، لذلك عندما يمنع السعوديون الزائرين عن التَّمسُّك يعني تمسَّكوا بالحقائق ولا تبحثوا عن هذه الأمور، وإن كان يُتبرَّك بكلِّ شيءٍ مِن آثار رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتباركون بشعر النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ويتباركون بكل أثر مِن آثار النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب رضي الله عنه: ((إِنَّ طَلاقَ أُمِّ أَيُّوبَ لهو الحوب)) .
ومرةً طلَّق عبد الله بن عمر رضي الله عنهما زوجته وهي حائضٌ، والطلاق في وقت الحيض منهيٌّ عنه في الإسلام، فللطلاق شروطٌ، كما أنَّ للصلاة شروطًا، ومن شروطها أنْ تكون متوضِّئًا ومستقبِلَ القِبلة وساترَ العورة، فإذا أدرتَ وجهك إلى موسكو، [اتجاه موسكو في سوريا عكس اتجاه القبلة] وأنتَ بلا وضوء وعارٍ، وقلت: الله أكبر، وصلَّيتَ وقرأت في الركعة الأولى سورة البقرة وفي الثانية سورة آل عمران، فإنك تكون قد صلَّيت بلا أداء شروط الصَّلاة، فهل تُقبل هذه الصلاة؟ لا تُرفَض فقط، بل عليك لعنة الله، لأنَّك أدَّيت الصَّلاة على عكس ما يريد الله عزَّ وجلَّ ويرضاه.
أداء الحق وحسن العشرة
وقبل الطلاق هناك شروط كثيرة، فيجب عليك أولًا أنْ تدرس حقَّها، وتؤدِّي لها حقها وتُحسِن عِشرتها: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء:19]، كلمة “عاشروهن” أمرٌ مِثل كلمة “أقيموا الصَّلاة”، فكيف تؤمن بـ: ﴿أَقِيمُوا الصَّلاة﴾ [الأنعام:72] ولا تؤمن بـ: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء:19]؟
والمرأة أيضًا يقول لها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لَو أنَّ بَدَنَ الرَّجلِ صَدِيدًا أو دماً وَلَحَسَتْه، لَمْ تُؤدِّ إليه حَقَّهُ)) ، وقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا يُكرِمُهنَّ إلَّا كَريمٌ)) .
هناك أحاديث ووصايا للنساء، وأحاديث ووصايا للرجال، فالمرأة يجب عليها أنْ تحفظ وصاياها التي أوصاها النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في زوجها، وتعرف أنها مهما خدمته فحقُّه عليها أكبر، ويجب على الرجل أنْ يسمع مِن الأحاديث ويتمسَّك بوصايا النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالزوجة، فإذا تمسَّكتِ الزوجة بقول الله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وهي لا تعاشره بالمعروف فقد استعملتْ العلم في غير موضعه.. ومما ورد أيضاً: ((الصَّابِرُ عَلى سُوءِ خُلُقِ زَوجتِه ثَوابُه عندَ اللهِ كَثَوابِ صَبرِ أَيُّوبَ عَلى بَلائِه، وَالصَّابِرُة على سُوءِ خُلُقِ زَوجِها كصَبرِ آسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ على فِرعَونَ)) .
قصة أبي ربيعة الرَّأْي وأمه
هناك زوجة تُربِّي لك ولدًا خيرًا مِن الدنيا وما فيها ﴿وَلأَمَة مُؤْمِنَة خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ [البقرة:221]، مِثل زوجة عمر بن فروُّخ، فإنه لـمَّا ودَّع زوجته وذهب إلى الجهاد استودعها أربعة آلاف دينارٍ، وتركها حاملًا، ولم يرجع إلَّا بعد ثمانٍ وعشرين سنةً، وقد وَلَدت ربيعة الرأي الذي كان أحد أساتذة الإمام أبي حنيفة، فلمَّا دخل عمر بن فروُّخ إلى بيته وجد شابًّا في البيت، فحمل سيفه وأراد أنْ يقتله غَيرةً لوجود رجلٍ أجنبيٍّ في البيت، وهو ابنه ولكنه لا يعلم، والابن أيضًا لـمَّا رأى رجلًا غريبًا لا يعرفه قد دخل البيت بلا إذن حمل السيف، وكادت أن تقوم بينهما المعركة، فمَن الذي حل المشكلة؟ الزوجة الأم عَرَّفَتْهما ببعضهما وتعانقا، وكان قد ترك لها قبل سَفَره أربعة آلاف دينارٍ، وفي المساء قال لها: يا امرأة ماذا حلَّ بالأربعة آلاف دينار؟ قالت: غدًا أُخبرك.. قال: فذهب قَبل الظهر إلى المسجد النبوي، فوجد حلقة علمٍ وقد ملأ المستمعون مِن العلماء مسجدَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فجلس في مجلس العلم، قال: فسمعتُ مِن العلم والحكمة والإيمان وفقه القرآن ما ملأني إعجابًا ودهشةً ممَّا سمعت، ورجع إلى بيته مثل السكران، سألته زوجته: ما بك؟ قال: رأيتُ عالـمًا وحوله العلماء بالمئات يكتبون ما يُملي ويلقيه عليهم.. وصار يَذكر إعجابه بعِلمه وبحكمته.. فقالت له: كم تدفع ليكون لك ولدٌ مثله؟ فقال: لو أملك مِثل جبل أُحدٍ ذهبًا ويكون لي ولد مثله فإنني أكون قد اشتريت كثيرًا بقليل وعظيمًا بحقير.. قالت له: هو ابنك، وقد أنفقتُ عليه الأربعة آلاف دينار حتَّى ربَّيتُه وأنشأتُه كما رأيتَ وسمعتَ .
هذه هي الزوجة! هل كانت عيونها خضراء أو زرقاء أو.. إلخ.
الفقه الحقيقي
نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يرزقنا الفقه في الدِّين.. لا فقه بعض المشايخ الذين يبذلون جهوداً كبيرة في تعليم الوضوء من كتب الفقه، وفي النهاية عندما يكبر لا يعرف كيف يتوضَّأ.. النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم علَّمهم الوضوء بأنْ توضَّأ أمامهم وانتهت المسألة، وسيِّدنا جبريل علَّمهم الوضوء أمام النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.. خاصة الكتب الكبيرة، فلا تزال تقرأ فيها: قال فلان، وقال فلان، حتَّى تنسى ما قرأتَ.. عفا الله عنَّا.
أمَّا التربية [فهي الفقه]، وهي تربية القلب ليصبح موضع نظر الله عزَّ وجلَّ، وليصبح مستودَع النور والحكمة والإيمان، حتَّى يمتلئ العقل بالحكمة ويحصل النجاح في الأعمال، ولكنَّ مجتمعنا اليوم بَعُدَ عن هذا مع الأسف، ولذلك قَلَّ العالِم الحقيقي الذي أَخبر عنه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه مَن يُعلِّم النَّاس الخير ، والوارث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والوارث لعِلمه ولحِكمته وربانيته ونورانيته وأخلاقه وإنتاجه، فأين ما يسمَّى بالعلماء مِن هذه المعاني؟ نحن قرَّاءٌ ولسنا علماء.
شرار النَّاس وخيار النَّاس
سئل النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن شِرار النَّاس وعن خِيار النَّاس فقال: ((شِرارُهُمُ الذينَ يَمشُونَ بِالنَّمِيمَةِ، وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ)) بدَسِّهم وبوسوستهم وبإفكهم وبنيَّاتهم السيئة والشعور بعدم المسؤولية ((وَيَبغُونَ لِلبُرَاءِ الْعَنَتَ)) يكون أحدهم بريئًا فيُلصق به تهمةً كاذبةً ليتسلَّى، وهذا مِثل العقرب الذي لا يَفرح إلَّا إذا لَدغ النَّاس، ومِثل البعوض لا يفرح حتى ينقل الملاريا مِن المرضى للأصحاء قالوا: ومَن خِيار النَّاس؟ قَالَ: ((الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى)) ، هذا إذا رؤوا فقط، فكيف إذا رؤوا ونَطقوا بالحكمة وبالعلم الذي بسببه اتَّصلت قلوبهم بالله عزَّ وجلَّ: ﴿يُنَزلُ الْمَلَائِكَةَ بِالروحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا﴾ [النحل:2]، فإذا لم تتنزل الرُّوح في قلوب الدُّعاة إلى الله عزَّ وجلَّ مِن طريق إدمان ذِكر الله عزَّ وجلَّ، ومِن طريق صحبة ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمهما قرؤوا [لا ينتفعون].
نحن الآن لسنا في أزمة شهادات، ولا في أزمة كتب، بل نحن في أزمة رجال يَصنعون الرجال، لا يصنعون عَضلاتهم وعِظامهم وطولهم وعرضهم، وإنَّما صناعة الرجال هي صناعة عقولهم وإيمانهم وأخلاقهم وحكمتهم وعلمهم
يَبنِي الرِّجالَ وَغَيرُه يَبنِي القُرَى شَتَّانَ بَينَ قُرًى وَبَينَ رِجالِ
وجوب التَّفقُّه قَبل الزواج
لذلك عندما يريد الرجل أنْ يتزوَّج يجب عليه أنْ يدرس، ويا حبَّذا لو تُؤَلِّفون أنتم يا طلابَ العلم كتاباً في الثقافة الزوجية بدءً مِن الخِطبة وانتهاءً بالطلاق، ومرورًا بالحياة الزوجية بكلِّ مراحلها رضاءً وغضبًا، حبًّا وكراهيةً، جنسًا وغير جنس، طلاقًا وصحبةً، عطاءً وإمساكًا، واقتصادًا وإنفاقًا، وهذا مِن الدِّين، وإلَّا فلماذا أنزل الله عزَّ وجلَّ سورة النساء؟ ولماذا أنزل سورة الطلاق؟
مرةً طلق سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وقد كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يفعل بعض الأعمال بترتيبٍ مِن الله عزَّ وجلَّ في بعض الأوقات، ويفعل الأمور التي مِن الأفضل أنْ لا يفعلها، ولكنَّه كان يفعلها بإلهامٍ مِن الله عزَّ وجلَّ ليُعلم الأُمَّة كيف يُصَحِّحُون عملهم إذا فعلوا نفس هذا الفعل، ولكنَّه صلى الله عليه وسلم لا يعمل أمرًا حرامًا أو غير لائق، وإنما في الحدود المباح، وفي المباحات يوجد فاضلٌ وأفضل، ويوجد ما هو جائز وما هو أفضل منه، والطلاق جائزٌ.
فطلَّق النبي صلى الله عليه وسلم حفصةَ رضي الله عنها، فنزل سيِّدنا جبريل عليه السَّلام بأمرٍ مِن الله عزَّ وجلَّ يقول لسيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((رَاجِعْ حَفْصَةَ، فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ))، ما قال له: لأن عيونها زرقاء أو هي بيضاء أو ما شابه ذلك.. ((وَإِنَّهَا زَوْجَتُكَ فِي الْجَنَّةِ)) ، الله عزَّ وجلَّ قد زوَّجه إياها زواجًا أبديًّا، فراجَعَها سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
أمر الطلاق عظيم
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ [الطلاق:1]، لم يقل: “يا أيها الذين آمنوا” إشارةً إلى أنَّ موضوع الطلاق أمر عظيم ورهيب، فلا يتحمَّل تقديره وتقدير أبعاده إلَّا النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ﴿إِذَا طَلقْتُمُ﴾ [الطلاق:1]، لو كان الخطاب للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لقال له: “إذا طلَّقتَ”، لكنْ قل لهم: ﴿إِذَا طَلقْتُمُ النسَاءَ فَطَلقُوهُن لِعِدَّتِهِن﴾ [الطلاق:1]، أنتم ألستم مسلمين؟ [الحضور يجيبون نعم] ولكن إذا سألنا رجلًا: هل أنت طبيب؟ يقول: نعم، وقد درس سبع سنوات، فإذا سألناه عن شيءٍ في الجسم كالعين أو اللسان أو القلب فإنه يجيب، وكذلك المسلم إذا سُئل عن الإسلام هل يجيب؟ فما معنى ﴿لِعِدَّتِهِن﴾؟ أليس هذا قرآناً؟ أليس مِن الواجب أنْ تؤمنوا بالقرآن؟ هل يُقال للإنسان: إنه مؤمن بشيء إذا كان لا يعرفه؟ إذن يجب عليك أنْ تعرف.. إذا قال شخص لآخر: هذه صرة فيها خمس مئة ليرة ذهبية، هل آمنت؟ يقول له: يا أخي أرني إيَّاها، لأرى بعيني لعلَّها فرَنْكات، [الفرَنْكات جمع فرَنْك، وعشرون فرنك سوري يساوي ليرة سورية واحدة، وقد كانت قطعاً معدنية باللون الأصفر، يعني أنها تشبه الذهب شيئاً ما] فإذا رآها فقد صار مؤمنًا إيمانًا يقينيًّا.
كان أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقولون في أدب قراءة القرآن والإيمان به: “كنَّا لا نقرأ ولا نحفظ عشر آيات حتَّى نعلم ونُتقن ونعمل بالعشر آيات التي قَبلها، فإذا أتقنَّاها عِلمًا وعملًا وفقهًا حفظنا العشرة آيات الأخرى” .. والمسلم والمسلمة اليوم يقول: أنا قرأت في رمضان ثلاث ختمات.. ولكن ماذا فهمت منها؟ يقول: ما فهمتُ شيئًا.. وماذا نفذتَ مِن أوامر الله عزَّ وجلَّ؟ يقول: ما نفذتُ شيئًا.. وهو مصمم أيضًا أن لا ينفِّذ، لأنَّ التنفيذ يلزمُه إيمان، مثل السيارة فإنها تسير إذا كانت فيها بطارية وكانت الكهرباء قوية وخزان الوقود ممتلئاً، فالسيارة تمشي بالنور الكهربائي وبالنَّار البترولي، وكذلك الإيمان والإسلام يصير بالنور الرباني ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُور من ربهِ﴾ [الزمر:22].
الإسلام ليس بالكلام فقط
مِن أين يأتي النور؟ مِن الذكر، ومِن أين تأتي الظلمات؟ مِن الغفلة، فهل لك أستاذ في الذكر؟ وهل لك أستاذ في تزكية النفس؟ وهل لك أستاذ في الفقه؛ فقه الأحكام الجسدية، وفقه الأحكام القلبية والروحية وفقه الأحكام والأخلاق الاجتماعية؟ هذا كلُّه مِن الإسلام، لكن كلمة مسلم لا تعني أن صاحبها مسلم حقيقي، يمكنك أن تقول: أنا وزير الدفاع، وإذا مررت أمام الضُّبَّاط ولم يقدموا لك تحيةً وبخهم واشتمهم واسألهم: لماذا لم تقدموا لي تحية؟ فسيُرسلونك آخر النهار إلى سرايا دوما، أتعرفونها؟ في القُصَيْر [هو مكان قرب دمشق فيه مشفى للأمراض العقلية والمجانين، ودوما والقُصَير: أسماء مناطق قرب دمشق]، هذه السرايا لِمَن تكون؟ للوزراء المجانين، فإذا أرادوا أنْ يقيموا دولةً فهناك تكون سراياهم، والوزراء هم وزراء القُصَيْر، يعني مستشفى المجانين، فادِّعاؤك أيضًا للإسلام كادِّعاء هذا للوزارة، وهذا جنون! لذلك هذا المسلم لا يقف عند حدود الله عزَّ وجلَّ، ويتجرَّأ على المعاصي في أكله وشربه وبيعه وشرائه وغضبه ومحبته وعداوته والتلكؤ عن أداء الفرائض، ويتجرَّأ في الهجوم على محارم الله تعالى.
الإيمان بالقول فقط نفاق
أين الإسلام من هذا؟ هذا اسمه نفاق: ((مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)) ، ماذا تعني كلمة مسلم؟ سيِّدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه قال مرةً لحِجْر بن عديٍّ: “والله لو قُطِّعتُ إربًا إربًا ما بلغتَ حقيقة الإيمان” ، فكلمة حقيقة الإيمان كلمةٌ كبيرةٌ، هذا سلمان! وما أدراك ما سلمان رضي الله عنه صاحب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذي قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عنه: ((سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ)) .
أَحد الصحابة وهو حنظلة رضي الله عنه رأى سيِّدنا أبا بكرٍ رضي الله عنه فسأله أبو بكر: كيف أصبحت؟ قال: نافق حنظلة، قال له: كيف؟ قال: إذا كنَّا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صَفتْ قلوبنا حتَّى كأنَّنا نرى الدار الآخرة رأيَ عينٍ، فإذا فارقنا مجلسه وعافسنا الأهل والولد أنكرنا قلوبنا، قال له: وأنا أيضًا كذلك.. فذهبا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وشكوَا حالهما فقال لهما صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لَو بَقِيتُم عَلى مَا أَنتُم عَليهِ عِندِي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَلَكِنْ سَاعَةً وَسَاعَةً)) .
أولئك قالوا: إذا كنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صفت قلوبنا.. ونحن أحدنا لم يلقَ رسول الله ولا وارث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصباحه مع الشياطين، ومساؤه مع الأباليس.. ومَن أكثر خبثًا شياطين الجن أم شياطين الإنس؟ لـمَّا أنزل الله تعالى: ﴿شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِن يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْض زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام:112]، سأل أصحاب رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أَوَلِلْإِنْسِ شَيَاطِينُ؟ فقَالَ: ((نَعَمْ، وَهُم شَرٌّ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ)) ، وهم كلّ مفسِدٍ بين الأحبَّة، وكلّ موغِرٍ للقلوب بعضها على بعض، وهو يظنَّ أنَّه يمزح ويضحك، ولا يفكر أنَّه يمزِّق كتاب الله عزَّ وجلَّ، ويدوس شريعة الله بقدمه، ولا يفهم هذا الأمر، لماذا؟ لجهله القلبي، وضعف إيمانه الروحي، فليس الإيمان بالأقوال.
إيمان الأقوال هو إيمان المنافقين
إيمان الأقوال هو إيمان المنافقين: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنكَ لَرَسُولُ الله﴾ [المنافقون:1]، بالقول قالوا: “نشهد” و”إنَّك” و”لَرسول” هذا كلُّه في عِلم البلاغة مِن المؤكِّدات، فقال الله تعالى: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ إِنكَ لَرَسُولُهُ﴾ [المنافقون:1]، فهل الله عزَّ وجلَّ يلزمه شهادة ليثبتوا هويَّتك عنده؟ ﴿وَاللهُ يَشْهَدُ إِن الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون:1].
وكلنا ذلك الرجل، فلنتب إلى الله عزَّ وجلَّ جميعًا، هل تعاهدونني على أنْ ننتقل مِن إسلام القول والتمني إلى إسلام العلم والعمل؟ وهذا لا يكون إلَّا بإصلاح القلب.. والقلب إذا صار فيه انسدادٌ أو خللٌ في أحد صمَّاماته هل يعالَج بالدعاء وبالكلام، أم يلزمه جرَّاح قلوب؟ يحتاج إلى عملية القلب المفتوح، وإذا كان على عينه المياه الزرقاء هل تزول بالكلام؟ لا، يحتاج إلى عملية، وإذا كان معه بروستات ولا يستطيع البول، ويُوَلْوِل بالليل والنهار، [يُوَلْوِل: يبكي ويصرخ] فهل يذهب هذا المرض وضغط البروستات بمجرد التمني؟ ((لَيْسَ الإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَلا بِالتَّحَلِّي)) ، والموت إذا أتاك ولم تستكمل إيمانك فماذا تستفيد مِن دنياك ومِن شهاداتك ومِن تجارتك ومِن غناك ومِن ثروتك؟.. أسأل الله تعالى أن يوفِّقنا لنكون ذلك المسلم والمسلمة رجل الدنيا والآخرة، إنسان العلم والعمل.
الأمر بطلاق الزوجة لعدتها
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق:1]، ما معنى ﴿لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق:1]؟ إذا طلقتموهنَّ، لا يعني أنك طلَّقتَ، بل يعني إذا أردت الطلاق، فقَبْل الطلاق يقول لك الإسلام: قف، إن أردت الطلاق فقبل كل شيء: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء:19]، فهل عاشرتها بالمعروف؟ وقبل المعروف هل انتقيتَها ذات دِينٍ؟ فإذا انتقيَتها ذات دِين فذات الدِّين مطيعةٌ وقانتةٌ وحافظةٌ للغيب بما حفظ الله، ((فَعَلَيكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)) .
[الشيخ يرحب بأحد الضيوف ويقول: أهلًا وسهلًا مولانا الشيخ يوسف ومرحباً، ويتابع كلامه:]
قَبل الزواج هناك مخطَّط وخريطة وضع الله عزَّ وجلَّ لك فيها كيف تتزوَّج؟ ومَن تتزوج؟ فإذا تزوجت وحدث خلافٌ.. مع أنه بين المؤمنين والمؤمنات قلَّ أنْ يكون هناك خلافٌ، لأنَّ الزوج إذا كره مِن زوجته شيئًا كما كان صلى الله عليه وسلم يقول: ((لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً)) يعني لا يُبغضها ((إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا خُلُقًا آخَرَ)) ، ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيئَاتِ﴾ [هود:114].
قصة صبر أبي عبد الله القرشي على زوجته
يقال عن أبي عبد الله القرشي: إنه كان له زوجة لئيمة الطبع، سليطة اللسان، وكان هو يطبِّق القول: ((الصَّابرُ عَلى سُوءِ خُلُقِ زَوجَتِهِ لَه مِنَ الثَّوابِ كَصَبرِ أَيُّوبَ عَلى بَلائِهِ)) ، ويبدو أنَّها أثقلت عليه الحمل لدرجة أنه لم يستطع أنْ يتحمَّلها، حتى إنها مِن سوء خلقها كانت عندما تريد أنْ تكنس الأرض لا ترضى أنْ تكنس إلَّا بمكنسة لها عصا طويلة، فكانت تركب على كتفه وتكنس وهي راكبة، وهو يحملها، ولكنَّها زادت الأمر كثيرًا فما استطاع أنْ يتحمَّلها فهرب مِن البيت، وخرج مِن داره هاربًا هائمًا حتى صار في البرية وفي الفلاة، وأمسى عليه المساء بين الجبال والوديان، وهو يريد أنْ ينام، فبحث ورأى كهفًا فدخله، فوجد فيه رجلَين يعبدان الله عزَّ وجلَّ، فسلَّم عليهما فاستقبلاه، وبعد الصلاة وعند العَشاء رفع أحدهما يدَيه فدعا ودعا.. نظر أبو عبد الله في المكان فلم يجد عندهم قِدراً ولا مَوْقِداً ولا آلة طبخ، فمِن أين يأكلون؟ فلمَّا استكمل الدعاء نزلت مائدةٌ مِن السماء بدعاء ذلك العابد، فيها ما لذَّ وطاب، فأكلوا.
وفي اليوم الثاني دعا الآخر، ودعا ودعا، فنزلت مائدة أخرى مِن السماء، وفي اليوم الثالث قالوا لأبي عبد الله القرشي: يجب أنْ تدعو اليوم، قال لهم: أرجوكم والله أنا لست بهذه المنزلة، فألحُّوا عليه: إمَّا أنْ تدعو وإمَّا أنْ تخرج، فنحن لا يُجالِسنا إلَّا مَن كان مِن جِنسنا، قال لهم: الوقت ليلٌ، وفي الخارج وحوش وبرد وشتاء، فلم يقبلوا، فصلى ركعتين، ورفع يديه ودعا ودعا، فما انتهى من دعائه إلَّا وقد نزلت مائدتان مِن السماء، قالوا: والله لن نأكل حتَّى تقول لنا بماذا دعوتَ، فنحن هنا منذ أربعين سنةً ولم تنزل لنا إلَّا مائدة واحدة، وأنت مِن أول يوم تَنْزِل مائدتان.. قال: بل قولوا أنتم بماذا دعوتم.. وبعد إصرارٍ قال لهم: والله أنا دعوتُ وقلت: يا ربِّ ببركة دعاء هذَين الرَّجلَين الصالِحَين لا تُخزني أمامهما، وأنزل لنا طعامًا لليوم فقط، وغدًا لن أطلب مرةً أُخرى وسأهرب، فقال لهما: أنا دعوتُ بدعائكما، وأنتما بماذا دعوتما؟ قالوا له: يوجد رجل في هذا البلد مِن كبار أولياء الله، وله زوجة سليطة اللسان وسيئة الأخلاق وهو يتحمَّلها ويصبر عليها ابتغاء مرضاة الله عزَّ وجلَّ، فنحن نقول: يا ربي ببركة صبر أبي عبد الله القرشي على زوجته أنزل علينا مائدةً مِن السماء، قال: فنحن ندعو ونتوسل ببركة أبي عبد الله القرشي وصلاحه وصبره.
فعاد إلى نفسه وقال لها: يا نفسي هؤلاء الأولياء يُنْزِل الله عزَّ وجلَّ لهم موائد مِن السماء بصبرك، فكيف تهربين مِن هذا المقام؟ نسأل الله العافية من البلاء.. هل تستيطعون الصبر على زوجاتكم وتحملونهن فوق رقابكم؟
المسلم الذي لا يفقه دينه مسلم مزوَّر
علينا أن نتفقه بالإسلام، فالنَّجَّار يُتقن نِجارته ويعيش منها؟ وكذلك الحداد يُتقن الحِدادة، والطبيب يُتقن الطِّبَّ، فإذا لم يُتقن وقال عن نفسه طبيبًا فأين يصير؟ ربما يقتلونه لأنه قد يقتل عدة أشخاص بإساءته وجهله، فماذا عن المسلم المزوَّر؟ مسلمٌ لا يفقه مِن الإسلام فهمًا ولا عملًا ولا أخلاقًا ولا ربانيةً ولا خوفًا مِن الله عزَّ وجلَّ، ولا مسارعةً إلى رِضاه ولا أداءً لفرائض الله، ولا وقوفًا عند حدود الله في غضبه وفي رضاه وفي مطامعه وفي عدوانه، وبقوله وبلسانه وبعينه وبسهراته وبأصحابه.. ما معنى: ﴿الْأَخِلاءُ يَوْمَئِذ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:67]؟ ما معنى قول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((الْجَلِيسُ الصَّالِحُ كَحَامِلِ الْمِسْكِ والْجَلِيسُ السَّوْء كنَافِخِ الْكِيرِ)) ؟ هل هذا يعني أنْ صاحِبوا الأشرار وعادُوا الأخيار؟ الآن المسلم يُصاحب الأشرار ويُعادي الأخيار، فتجده في أماكن الفسق والفجور، وهو هاجِرٌ ومجافٍ لمجالس العلم والحكمة، هل هذا مسلمٌ؟ هل هذه مسلمةٌ؟ وإذا قيل لها مثلًا: تستَّري، تقول: هذه رَجعيَّةٌ.. يعني هي تعيب وتحتقر أحكام الإسلام، وإذا قيل لها: هناك فيلم سينمائي، أو قلت للشاب: هناك مباراة كرة قدم تحت الشمس والمطر، والدخول لحضورها بخمسين ليرة مثلًا [يسارعون إلى ذلك]، والآن لو جَعَلْنا الدخول إلى الجامع بخمسين ليرة كم شخصًا منكم سيدخل؟
الزوجة الصالحة رزق من الله
أسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يرزقكم الزَّوجات اللواتي وصفهن الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَٱلصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ﴾ مداومات على طاعة الله عزَّ وجلَّ وخاشعات لأمره، ﴿حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾ [النساء:34].. ((ما أوتي الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ، إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ)) دائمًا مبتسمة وضاحكة تُدخِل على قلب زوجها السرور والهناء ((وَإِنْ غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ)) ، فالرجل المسلم والزوج الصالح يُحافظ على وصايا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كما يُحافظ على أعزِّ شيءٍ يَملِكه في الحياة، ويكفيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خَيْركُمْ خَيْركُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْركُمْ لِأَهْلِي)) ويكفيه: ((اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا)) .
حُرمة طلاق الحائض
قال الله تعالى: ﴿فَطَلقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق:1]، يعني يحرم عليك إذا عزمت على الطلاق في وقت الحيض أنْ تطلقها وهي حائض، وإذا كانت طاهرًا وقد وَطِئها في طُهرها كذلك لا يجوز الطلاق، لماذا؟ لأنَّه لعلها أنْ تكون حاملًا، ففيه ضياع الولد إذا تفرَّق الزوجان، وهو ضرر للولد.. فإذا كانت في طُهر قد وطئها فيه، يقول له القرآن والإسلام والنَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: قِف لا تطلِّق.
هل فهمتم؟ ولكن فهمتم للعلم ثم “سمعنا وعصينا” أم للعلم والعمل؟ للعلم والعمل إنْ شاء الله.
نعود للقصة: طلق عبد الله بن عمر رضي الله عنهما زوجته وهي حائضٌ، فذكر عمر رضي الله عنه ذلك لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فتغيَّظ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وغضب.
هل تحبُّون النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ وهل تحبُّون أنْ يغضب منكم النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((تَزَوَّجُوا وَلا تُطَلِّقُوا)) ، وأنتِ أيتها المرأة هل تحبِّين النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ أم تحبِّين شُبَّاكه ولا تحبِّينه هو؟ إذا كنتُ تحبِّينه فلتسمعي كلامه، ولتستجيبي له: ﴿اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال:24]، فإذا لا تستجيبين له فماذا ينفعك شبَّاك النبي صلى الله عليه وسلم؟ وماذا تنفعك قُبَّتُه؟ ولكن إذا أحببناه حبًّا عمليًّا [نمشي على هديه ونتبارك بآثاره].. واللهِ إنَّ التُّراب الذي يمشي عليه حمار النبي صلى الله عليه وسلم يُتبارَك به.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: ((قٌل لابنِكَ عَبدِ اللهِ: فَلْيُرَاجِعْهَا)) هذا الطلاق لا يُسمح به ((حتَّى تَطهُرْ))، وإذا طلقها في طُهرٍ لم يطأها فيه فهل يجوز الطلاق؟ يجوز لكنْ لأنَّه خالف الإسلام قال له: عليك أنْ تتأخَّر شهرًا آخر، قال له: ((ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، فإِنْ شَاءَ طَلَّقَ بعد ذَلِكَ أو أَمْسَكَ)) .
الطلاق مرتان
أتى رجل ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وقال له: إنه قد حلف مئة طلقة، فما الحكم يا ابن عم رسول الله؟ قال له: “بثلاثٍ حَرُمتْ عليك، وسبع وتسعون غلٌّ في عنقك إلى يوم القيامة” .
وجاء رجل حلف بالطلاق ثلاثًا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فغضب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقال: ((أَتَلْعَبُونَ بِكِتَاب اللهِ، وَأَنا بَين أظْهركُم)) ، لأنَّ الله تعالى قال: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ [البقرة:229]، فإذا قلتُ: أنا أكلتُ مرَّتَين، فماذا يعني “أكلتُ مرتين”؟ يعني أكلتُ وقعتَين [وجبَتَين] في وقتَين مختلفَين، لذلك قال الله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة:229]، بعد الطلقتين ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ﴾ [البقرة:229]، إذا أرجعتها بعد الطلقتين فإمَّا أنْ تُمسكها بحُسن الأخلاق وبحُسن المعاملة أو تُفارقها بما تعارف عليه الإسلام والقرآن، فتُمتِّعها مَتاعًا حسنًا، ولا تَكسر بخاطرها، ولا تسبها ولا تعتدي عليها، ولا تأخذ مِن حقوقها ومِن مالها ومِن مُؤَخَّر مَهرها ومن مَتاعها.. إنّ تربية القرآن هي تربية الإنسان الفاضل التي حُرِم منها إنسانُ عصرنا، خاصةً في البلدان التي تدَّعي أنَّها متقدِّمة، فالزوجة لا ترى زوجها زوجًا، والزوج لا يرى زوجته زوجةً، وبأقلِّ حَدَثٍ يذهب كلٌّ منهما إلى صديقه؟
التحذير من الفاحشة
ويقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَا كَثُرَتِ الْفَاحِشَةُ في قَومٍ حتَّى يُعْلِنُوا بِها إلَّا ابتَلَاهُمُ اللهُ بِالأمراضِ وَالْأَوْجَاعِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ خَلَوا)) ، فبعدما ضربهم الله تعالى بمرض الإفرنجي والزهري، ماذا أتاهم الآن؟ الإيدز الذي مضى له أكثر مِن عشر سنوات وهم عاجزون عن إيجاد علاجٍ له، فالرجم وقتل الزاني في نصف ساعة هذه رحمة كبيرة، ولكن هنا سيبقى يُرجم حوالي عشر سنين، لأنَّ جهاز المناعة عنده قد تلف، والجو والطعام والماء والهواء كلُّها مليئة بالجراثيم، ولذلك تتسلَّط عليه كلُّ الأمراض والأوجاع والأسقام، ويتمنَّى أنْ يموت في لحظته، ولكنْ ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾ [إبراهيم:17].
فقدان الأمن إذا فُقِد شرع الله عزَّ وجلَّ
إن من يمشى في نيويورك لا يأمن على نفسه مِن القتل أو خطف ما في يده، والمرأة لا تأمن على نفسها من أنْ تُخطف حقيبتها، أو إذا كانت تمشي في الشارع أنْ يُعتدى عليها، هذه المدنيَّة! وهذا الغرب بالمخدرات والمُسْكِرات وأولاد الحرام والطلاق.. ونادرًا ما يدوم زواجٌ بين زوجَين، وذلك بسبب خيانة كلٍّ منهما لصاحبه، أمَّا في الإسلام الحقيقي فالزواج سعادة والأبوة سعادة والبنوة سعادة والأسرة سعادة والحكم سعادة والقضاء سعادة والتجارة سعادة والبيع والشراء سعادة: ((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّه لِنَفْسِهِ)) ، ((والْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَعراضِهِم)) ، لا يمكن لمؤمن أنْ يؤذي مؤمنًا بنظْرَة ولا بكلمة، لا في حضور ولا في غياب، لا في مال ولا في معاملة.
وفي عهد النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يكن هناك محكمة ولا شرطة ولا سجون ولا قضاء ولا قضاة، ولا حتَّى في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وقد عيَّن أبو بكر سيِّدنا عمر رضي الله عنهما قاضياً، وبقي سنين لم يأته خصمان، فما هذا الإسلام الذي بنى هذا المجتمع؟ وما هذا الإسلام الذي أنتج وصنع هذا الإنسان! الفاضل أخلاقيًّا كالملائكة! والعظيم سياسيًا وعسكريًّا واجتماعيًّا وعلميًّا! حتَّى صاروا غُرَّةً في جبين التاريخ.. لذلك علينا أن نرجع إلى الإسلام؛ إسلام العلم والمعلم، إسلام التزكية والمزكِّي والمزُكَّى، وإسلام الحكمة والعقلانية القرآنية التي هي: معرفة الأمور بحقائقها، ومعرفة ارتباط المسبَّبات بأسبابها قَدَرًا وشرعًا وخَلْقًا وأمرًا، ومعرفة حِكمة الأقدار، وحِكمة الخَلْق.. والحكمة هي: فعل ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الشكل الذي ينبغي.
الحكمة جزء مِن إسلام المسلم، لذلك فإنه مِن جملة إسلام المسلم أنْ يكون حكيمًا في اقتصاده وفي رضاه وفي معاملاته وفي بيته وفي سياسته، وقد وصف النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم المسلمين وأصحابه في حياته فقال: ((عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ فُقَهاءُ، كَادُوا مِنْ فِقْهِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ)) .
الحث على الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ
الواقع أن درسكم اليوم لا يوجد فيه تفسير، بل فيه مقدمةٌ لتفسير السورة.. ونسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا مِن الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.. والفرض على كلِّ واحد منكم أنَّ ما سمعه أن يُسمِعه لغيره، وما عَلِمه أنْ يُعلِّمه لغيره، ((ولَأنْ يهديَ اللهُ بكَ رجُلًا واحدًا)) إنسانًا واحدًا ((خيرٌ لكَ مِن حُمْرُ النَّعَمِ)) ((وخَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ)) .
ادْعُوا الله تعالى لي أنْ يعافيني ويعافي كل مرضى المسلمين، ويفرِّج عن المسلمين في البوسنة والهرسك وفي فلسطين وفي الصومال وفي كلِّ مكان.. ولا يُمكِن أن يُفَرِّج حتَّى نعود إلى الله تعالى.
فإذا لم نتب ونرجع إلى الله عزَّ وجلَّ فلن يرفع الله تعالى سوط عقوبته عن المسلمين، وهذا كله تنبيه.. وتسلط الأعداء وذل العرب والمسلمين في كل بلادهم، وتخلفهم وفقرهم وضعفهم كل ذلك بسبب بُعدِنا عن الإسلام، فنحن عندما نقول ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة:5]، هل نحن صادقون فنعبد الله عزَّ وجلَّ ونستجيب لأوامره أو نعبد أهواءنا ونستجيب لها؟ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:5]، وهل نستعين بالله سبحانه؟ الاستعانة بالله هي العمل، وقد قدَّم الله عزَّ وجلَّ لك للمعونة كتابَه هديةً.. وبعد أن سألت الله تعالى الهداية: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6]، أعطاك الهداية فوراً في أول سورة البقرة: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:2]، الكتاب هدى، والكتاب هو النور في الظلام، فهل ستمشي على هذا النور؟ إنْ مشيتَ عليه سَلِمتَ مِن السقوط في الآبار والأودية، وإنْ لم تستعمله سقطتَ في المهالك، فنحن لا نعرف ما معنى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة:5]، ولا نعرف ما معنى ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:5]، ولا نعرف ما معنى ﴿اهْدِنَا الصَّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6]، نحن بحاجة إلى ذكرٍ وصحبة الذاكرين ومحبة الصالحين، ((فلا إِيمانَ لمِنْ لا مَحَبَّةَ لَهُ)) ، ((والْحَبُّ فِي اللهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ مِن أعلى شعب الإيمان)) .
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.