الخليفة عمر رضي الله عنه يتوقف ليستمع لخولة بنت ثعلبة
فنحن في تفسير بعض آياتٍ من سورة المجادِلة، المدافِعَةِ عن حقوق المرأة المضطَهدة، والمحامية والمدافِعة والمستنجِدة بقِوى السَّماء لتنقذها من ظلم وجور أبناءِ الأرض، فسبق معكم أنَّ سورة المجادلة -سورة قد سمع- أنزلها الله عزَّ وجلَّ في حق “خولة” أو “خويلة بنت ثعلبة” وفي حق زوجها “أوس بن الصامت” عندما حرَّمها على نفسه بقوله: “أنتِ كظهرِ أمي”، وكان هذا يُعتبر طلاقًا في الجاهلية، ولم يُنْزِل اللهُ فيه حكماً قرآنيّاً شرعيّاً، حتى اشتكت “خولة” زوجَها “أوساً” في ظِهاره منها وانتهى الأمر، فأنزل الله عزّ وجلّ التَّشريع والتَّعليم والتَّربية وتقويمَ الزوجِ الظالِم المستخفِّ بقدسيَّة الحياة الزَّوجية: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾ [سورة المجادلة: 1].
ذات مرةٍ التقت خولة مع سيدنا عمر رضي الله عنهما في خلافته وكان يمشي في الشارع فاستوقفته فوقف لها، وصارت تحدّثه، وكان حديثها طويلًا حتى أتعب مَن حول عمر رضي الله عنه، ثم انتهى المجلس فقالوا: يا أمير المؤمنين! أَلِمِثْلِ هذه العجوز –يعني التي هي من عامّة النَّاس- تقف لها هذه الوقفة الطويلة؟ فقال لهم: “واللهِ لو أنَّها استوقَفْتني طيلة النَّهار لوقفتُ لها إلَّا استجابةً لصلاة الجماعة في المسجد ثم أعود إليها لتستنفذ حاجتها وسؤالها، إنَّ الله قد سمع شكواها من فوق سبع سماوات، أفلا يسمع عمرُ لشكواها ونجواها؟!” .
القرآن الكريم يُبيِّنُ كفَّارة الظهار
انظر إلى المرأة في الإسلام وفي القرآن الكريم كيف رفع الله قدرَها وأعزَّها وانتصر لها على الرجل، وكيف أنَّب ووبَّخ الرجلَ وجعلَه كاذباً آتِياً للمنكر: ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ﴾ ما ينكره الله سبحانه وما ينكره شرعه، وما تنكره الأخلاق، وما تنكره العقول الكاملة: ﴿وَزُورًا﴾ يعني كذباً، لقد فعلتَ المنكر أنت أيها الزَّوج، وأتيتَ بالزُّور والبهتان والكذب، وكما قال عليه الصلاة والسلام: ((أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الشِّرْكُ بِاللهِ)) هذا الذي لا يُغتَفَر، ودائمًا يُقرَنُ بالشيء ما يقابُله أو يشابِهُهُ، ((قال ثمَّ ماذا؟ قال: ثُمَّ عُقُوْقُ الْوَالِدَيِنِ)) لم يقرنهم مع الزِّنا أو مع شرب الخمر أو مع شيء آخر، لا بل مع الشرك بالله على أنَّه أكبر الكبائر، ((قال ثمَّ ماذا؟ قال: وَشَهَادَةُ الزُّوْرِ وَقَوْلَ الزُّور)) هنا في هذه الحادثة لا يوجد شهادة زور، لكنَّه قال قولًا: ﴿مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا﴾ تقول أنها أمي ولكنها ليست بأمك! ﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ﴾ [سورة المجادلة: 2]، أدَّبه الله ووبَّخه وجعله قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة؛ ولم يكتفِ بالتَّوبيخ والتَّأنيب، بل أتبعه بالقصَاصِ والعقوبة بأن يُعتِقَ رقبة -عتق الرقبة هو أن يشتري عبداً ويعتقه- فالعقوبة ليست جسدية تسبب له الألم كالضرب، ولا تسبب الضرر كأن يسجنه ويمنعه من اكتساب الرزق لنفسه وأهله، ولكن عاقبه على سيِّئَتِهِ بأن يفعل الحسنة، بأن يُعتق إنسانًا فينقله من عبوديَّته إلى حرِّيته.. فقال: “لا أملك إلا هذه الرقبة”، فقال له: “تَصُومُ سِتِّيْنَ يَوْمًا”، وكان شيخًا قد بلغتْ به السنُّ، قالت زوجته: “يا رَسُوْلَ الله: إِنْ لَمْ يَأْكُلْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ؛ يَعْشَى بَصُرُهُ وَلَا يَقْوَى عَلَى الحْرَكَةِ” قال: “فلْيُطعِمْ سِتِّيْنَ مِسْكِيْنًا” قالت: “لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَلَكِنْ أَنَا أُعِيْنُهُ بِالنِّصْفِ”، فقال النَّبيُّ ﷺ: ((وَأَنَا أَعِيْنُهُ بِالنِّصْفِ الآخَرِ)) .
حادثة ظِهار أخرى
وظاهَرَ رجلٌ آخر من زوجته، ثم قال لقومه: اسألوا لي رسول الله ﷺ فقالوا له: تعمل عملك الشَّنيع، ثم تطلب منا أن نسأل لك رسول الله ﷺ حتى نأخذ نصيبنا من التوبيخ! فذهب إلى النَّبيِّ ﷺ فقال له النبي ﷺ: وقد فعلتَها؟ ((أنتَ وذاك؟)) أنت وهذا الأمر؟ قال له: “أنا وذاك” صار وانتهى، قال له: ((أنتَ وذاك؟)) قال له: “أنا وذاك”، قال له: ((أنتَ وذاك؟)) قال له: نعم “أنا وذاك” -يعني يعترف بذنبه من باب قول النبي ﷺ ((كلُّ بَني آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخَطَّائينَ التَّوابونَ)) – قال له: ((أعتق رقبة))، قال له: “لا أملك إلَّا هذه الرَّقبة”.. ظهار أوس بن الصامت كان بسبب ضيق خُلُقِهِ وخِفَّةِ عقله كما ورد في الحديث، أما هذا فقد كان شابّاً ودخل رمضان وخشي أن يغلِبَه شبابُه فيقترب من امرأته فيفسد صومه؛ لذلك قال لها: “أنتِ كأمي” ليمتنع عن أن يطأَها في حال الصيام.. فقال له: ((أَعْتِقْ رَقَبَةً))، قال له: “وَاللهِ أَنَا لَا أَمْلِكُ غَيْرَ هَذِهِ الرَّقَبَةَ” فقال له: ((صُمْ شَهْرَيْنِ)) فقال له: لم أستطع أن أضبط نفسي في رمضان فكيف سأستطيع صوم ستين يوماً متتابعاً؟ -وإذا أفطر يومًا فعليه أن يعيد صيام الأيام كلها- وهذا قصاص نفْسيّ لتقوية إرادة المؤمن ولتقوية إرادة المسلم؛ كي لا يستفزّه غضبٌ أو شهوةٌ أو هوى نفسٍ أو سُخْفٌ أو حديثٌ يسمعُه من نمَّام أو من كاذب أو من مغرض أو من فاسق فيستفزّه مثل النار، هذا لا يصح يا بني! كلمة مسلم: أي هو الإنسان الفاضل والعاقل والخلوق والنزيه والواعي! أما لمجرد أن تقول كلمة “أنا مسلم” فهذا لا يعني أنك صرت مسلماً.. تستطيع أن تقول عن نفسك أنك ملياردير، وأنت نائم فوق حاويات القمامة، هل يفيدك هذا الكلام؟
قال له: ((أَطْعِمْ سِتِّيْنَ مِسْكِيْنًا))، قال له: “والله بِتُّ أَنَا وَأَهْلِيْ وَحْشَيْن” فالوحش لا يوجد عنده في المغارة بيت مؤونة، قال له: ((اذهبْ إلى بني زُرَيق)) -عشيرته- ((فقُلْ لَهُمْ أَنْ يَدْفَعوا لَكَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ صَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ، فَتَصَدَّقْ بِهَا عَلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا))، فقال: “يا رَسُولَ اللهِ: والَّذي بَعَثَكَ، بِالحَقِّ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا” يعني بين جنبَي المدينة المنورة “أهلُ بيتٍ أَفْقَرَ مِنَّا، فَعَلَى مَنْ أَتَصَدَّق؟!” ألا تريدني أن أتصدق على الفقراء؟ أنا أفقر الفقراء، فضحك النبي ﷺ وقال له: ((خُذْهَا فَكُلْها أَنْتَ وَأَهْلُكَ))! يا الله.. يا الله! هذا الحكم القضائي، وهذا القانون الاجتماعي، وهذه المدرسة التربوية، فرجع إلى قومه وقال: “بئس العشيرة أنتم، وجدتُ عندكم الضِّيق والنَّبَذ، ووجدت عند رسول الله السَّعَةَ والبركة” ، إذا لم يقوَ المريض على دواء ما فالطبيب يحَوِّله إلى دواء ثانٍ أو ثالث أو رابع حتى يتلاءم مع الهدف من معالجته لتحقيق الشفاء.
أهمِّيَّة تثقيف الزوجين بفقه الحياة الزوجيَّة
أنزل الله سبحانه العقوبة وبيّن أن الظهار إساءة للزوجة، وكذلك هو الأمر في الطلاق فليس هناك فرق، ففي الظهار حرَّمها على نفسه لكنَّ عقد الزواج قائم، وفي الطلاق حرَّمها على نفسه وقطع صلة الزَّواج فارتكب خطيئتين وجريمتين: ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق)) ، فلو كنت أملك الوسائل لم أكن لأسمح بعقد زواج بين زوجين إلا أن يكونا مثقّفين في الحياة الزوجية، وبكتب فقهية للحياة الزوجية، سواء كيفية تعامل الزوجين مع بعضهما البعض، أو في الحياة الجنسية، أو في حُسن الأخلاق وفي الصبر وفي التحمل وغير ذلك، أمَّا أن نُسَلِّم سيَّارة لمن لا يُحسِن قيادَتَها فستكون السَّيَّارة نكبةً عليه، فكم من زواج يصير نكبة على الزَّوجين وعلى الأولاد وعلى البنات وعلى المجتمع! لماذا لا تسمح الدَّولة بقيادة سيَّارة إلَّا لمن تعلَّمها عِلْمًا وعَمَلًا؟ فهل قيادة السيارة أقل خطراً من حياة الأسرة والأبناء والبنات ومصيرهم؟ أسأل الله أن يتحقَّق هذا الهدف.
كنتُ أفكِّر أن أتكلَّم مع بعض الإخوان ليكتبوا كتابًا حول هذا الموضوع، وفي طريقي إلى المسجد قّدم لي أحد إخوانكم الطبيب الجراح الأستاذ: “بسام الشاعر” كتاباً بعنوان: “المنهج العلمي للعلاقات الجنسية”، لم أقرأه بعد فقد كنْتُ راكباً في السيارة، لكنْ نظرتُ إلى الفهرس، وهذا الذي كنت أفكر به، وهذه الثقافة تُدرس في المدارس في أوروبا وأمريكا، والنَّبيِّ ﷺ تكلم عن أشياء كثيرة في هذا الموضوع ، لكن لعلي لو قلتُها أنا في الدرس لفُهِمْ الموضوع بشكل خاطئ، لأن مجتمعنا صار معادياً لإسلامه الممثَّل فيمَن يُعلِّم الإسلام، الآن مهما فعل الشيخ من أكل وشرب وذهاب وإياب ومشي فالناس تتكلَّم في حقِّه: “الشيخ أكل كذا، والشيخ فعل كذا، والشيخ قال كذا”، فهذا يدل على أننا نعيش في جوِّ الجهل والجاهلية، بعيدين عن عشق العلم والمعرفة والتربية سواء الأخلاقية أو الروحية أو الربانية.
بيان الله للأحكام من أجل أن تؤمنوا بالله ورسوله
فالآن نحن في سورة “قد سمع”، هذه السورة بحسب الحقيقة هي مدرسة لبعض الأخلاق في الحياة وفي المجتمع، فبدأ أولًا في ناحية من نواحي الحياة الأُسرية وبين الزَّوجين وفي الرابطة التي تربط بينهما، وبعد أن وبَّخ وأنَّب اللهُ جل جلاله الزَّوجَ المتَعَدِّي على قُدْسية عقد الزواج، وبعد أن فرض عليه العقوبة المناسبة، ختم الله هذه القصة بقوله: ﴿ذَٰلِكَ﴾ يعني هذا البيان في موضوع “أوس” و “خولة” وظهاره منها وتحريمها على نفسه، واستنكار الله لهذا التحريم -هذا التحريم معناه: إبطال الحياة الزوجية- وبعد ذكر العقوبة وهي الكفارة بعتق الرَّقبة، أو صيام شهرين متتابعين بحسب القواعد الشرعية، أو إطعام ستين مسكينًا، ﴿ذَٰلِكَ﴾ هذا البيان ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ الإيمان الذي يوجب العمل؛ فالمؤمن لا يؤذي أحدًا والبَرُّ هُوَ الَّذيْ لا يُؤْذيْ الذَّر، ولو كانت نملة، إلا إذا حصل من الحيوان إيذاء فالمؤذي يُعامَل بحسب مقتضى إيذائه، والمؤمن لا يظلم ولا يجور ولا يتعدَّى لا بيده ولا بلسانه ولا بنظراته ولا بتفكيره.
شروط الطلاق في الإسلام وحكمة هذه الشروط
﴿ذَٰلِكَ﴾ هذا البيان في موضوع “خولة” و “أوس” وظهاره منها ﴿لِتُؤْمِنُوا﴾ يعني: الإيمان العملي، وتمتنعوا عن ارتكاب مثل هذه الأمور، بتحريم زوجاتكم على أنفسكم بالظهار -وذلك بقولكم “هي كأمي”- أو بالطلاق، والنبي ﷺ يقول: ((تزوَّجوا ولا تُطَلِّقوا؛ فإنَّ الطَّلاق يهتزُّ مِنْهُ عَرْشُ الرَّحمنِ)) ، إذا أردت أن تُطلِّق فالإسلام جعل أمام الطلاق خمسين إشارة حمراء: قف، فكر، ائتِ بالحَكَمَيْن، لا تطلِّق عندما تكون المرأة أثناء الدَّورة الشهرية، وإن كانت طاهرةً واقتربْتَ منها فلا تطلِّق حتى تَحِيْض ثم تطهر، وأشْهِدْ على الطلاق، وإذا طَلَّقْتَ: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ﴾ [سورة الطلاق: 1] أين ينبغي أن تقضي المطلَّقة عدتها؟ عند زوجها، يعني إذا وضعت البارود بجانب النار ماذا سيحدث؟ سيشتعل، أضف إلى ذلك إذا كانت المرأة تقوم بأشياء تحرك قلب زوجها وتلفت انتباهه، فأحيانًا تضع المكياج، وتارةً تطقطق بأساورها، ومرة بقبقابها أفلا يلتفت إليها ويتقرب منها؟ فمن الذي هيَّأ هذا الجو بين المطلَّقَين؟ أما في الوقت الحالي فأهل الزَّوجة يحرِّضونها على ترك بيتها وهي لم تزل زوجة، أما الإسلام فيقول لها: بل حتى وأنتِ مطلَّقة فلا يجوز لك أن تتركي البيت، هل فهمتم لماذا؟ هذه هي: ﴿يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ هذا معنى قول الله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [سورة البقرة129].. ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ﴾ قال أنا لا أخرجها بل أكرمها لكنْ هي التي تريد أن تخرج، قال تعالى: ﴿وَلَا يَخْرُجْنَ﴾ [سورة الطلاق: 2] فالبقاء في البيت لا باختيارها ولا باختياره، فهل يمكن أن يمضي شهر وشهران وثلاثة أشهر ودورة شهرية واثنتان وثلاثة ثم لا يحدث بينهما ميل ولا يصير بينهما عتاب؟! هل يمكن خلال هذه المدة ألا ينظر إليها أو ألّا تلفت انتباهه بحركاتها؟ هل يمكن أن تمرَّ ثلاثة أشهر دون أن يفعل شيئاً؟ وهل يمكن أن يصبر؟ فما أعظم أحكام الإسلام وقانونه! وهذه ناحية في الحياة الزَّوجية وليست كل النَّواحي.
ضرورة الحصول على دورة تثقيفية في الزواج للمقبلين عليه
بعد أن ذكر الله تعالى موضوع الظِّهار، قال: ﴿ذَٰلِكَ﴾ هذا البيان ﴿لِتُؤْمِنُوا﴾ الإيمان العملي فلا تتعدَّوا حدودَ الله، ويعتدي الزوج على زوجته بظِهار أو طلاق بغير الذي رسمه الله سبحانه وخطَّطه القرآن وخطَّطتْه السماء ﴿وَتِلْكَ﴾ هذه الآيات والأحكام ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾ لا تتعدَّى حدودَك إلى ما وراء حدودِك ﴿وَلِلْكَافِرِينَ﴾ يعني بهذه الأحكام: يُظاهِر ويأتي منكراً من القول وزوراً، أو يُطلِّق خارج المخطَّط الإسلامي وخارج التَّربية الإسلامية.. يجب ألَّا يحدث زواج حتى نُدخِل الزوجينِ في مدرسة للزواج تستمر لثلاثة أشهر تقريباً: نعلِّمهم فيها الأخلاق الزَّوجية، ونعلِّمهم كيف يصبر كل واحد منهما على الآخر، ونعلِّمهم الحياة الزَّوجية الجنسية التي كان النبي ﷺ يعلِّمها لأصحابه الكرام، نعلِّم الزَّوج والزوجة الصَّبر والاقتصاد وغير ذلك.. نرى كثيرًا من النَّاس يكون زواجهم في بعض الحالات دون وأحطَّ من الزواج الحاصل بين الحيوانات أو بين الطيور.. قال: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ﴾ يعني بهذه الأحكام وليس الكفر العام، كمثل: ((مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ فَقَدْ كَفَرَ)) يعني كفر بفرضيَّتها، وكفر بأنها من أركان الإسلام، فكيف تكون مسلمًا وَأحد أركان القُبّة مُهَدَّم؟ فإسلامك صار ضعيفًا، فالمقصود هُنا: إذا كفرت بأحكام الظِّهار ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ﴾ لأن هذا عدوان؛ وقد أسماه الله منكرًا وأسماه زورًا، وقال ((أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: قَوْلُ الزُّورِ وشهادة الزور))..هل تفهمون أنتم أيها الرجال ويا أيتها النساء؟! كذلك المرأة لا يجوز لها أن تُغْضِبَ زوجَها، وألَّا تصبر على فقره أو على سوء خلقه، أو عن الأمور الطَّارئة ((الصَّبْرُ شَطْرُ الْإيمانِ)) .
كان المسجد وإمامه هو المعلم وهو المرشد
أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا الإسلام، إسلام اللسان وإسلام العين وإسلام اليد وإسلام الزَّواج وإسلام الالتزام بكل آية في القرآن، تفهمها وتتخلَّق بها وتنفّذ أمرها، وينبغي أن تكون هذه الآيات سلوكك مثل سلوك القطار على سِكَّته حتى يصِلَ المسافرُ إلى هدفه وبغيته، أما إذا خرج القطار عن السِّكة فالعاقبة تكون وخيمة، خرج المسلمون الآن عن سكة الإسلام، كلٌّ بحسبه؛ الإنسان الفرد أو الرجل أو المرأة أو الأسرة أو المجتمع أو الدول، والسبب هو عدم وجود المدارس الكافية لتُفَقِّهَ الناس بالإسلام الفقه الكافي.. كانت مدرسة الإسلام هي المسجد، وكان المسجد وإمامه هو المعلم وهو المرشد وهو المربِّي وهو الحكيم الذي يعلِّم النَّاسَ الكتاب والحكمة ويزكِّي النُّفوس.
ولكن إمام المسجد الآن لا تُهيَّأ له العيشة الكريمة، ولا حتى أدنى درجات الحياة، فترى عامل نظافة يأخذ راتباً بمقدار أربعة آلاف ليرة، بينما يُعطَى الإمام ألف ليرة! [من المعروف في سوريا أن أفقر الناس وأقل الناس منزلة في عيون الناس وأدنى الرواتب لكل أنواع العمال هي رواتب عمال النظافة، فلك أن تتخيل حالة الأئمة بهذه الرواتب!] وهكذا لن يتقَدَّم أحدٌ لإمامة المسجد، وبالتالي لم يبق وجود للإمام، وترى أئمة المساجد هم بائع الخضار أو الصيدليّ أو النجار الذي يسكن بقرب المسجد، وهذا معناه اندثار ودفن الإسلام، ثم لا نزال نسمّي مجتمعنا بالمجتمع الإسلامي!
عناية الأديان الأخرى بعلمائهم
رأيت في التوراة أنَّ من حقوق الحاخام -شيخ اليهود- على اليهود أنه إذا ذبح اليهوديُّ خروفًا أن يُقدِّمَ له ذراعه -والذراع هي أحسن ما في الشاة- وإذا قطف من بستانه فأول قطافه للحاخام شيخ اليهود، وإذا كان عنده غنم: فأول خروف يولد هو للحاخام.. والكنيسة بألمانيا الاتحادية -التي تعتبر من أرقى دول العالَم- فرضت ضريبة شهرية على كل موظف حكومي وكل عامل في مصنع وتُعطى للكنيسة ورجال الكنيسة.. إخواننا المسلمون في إيران: خُمس أرباحهم من التجارة للإسلام وتُعطى للمسجد ورجل المسجد، ورجل المسجد يتصرف بها كيف يشاء، فالزكاة والكفارات وكل الأموال الدينية التي تؤدّى للمسجد لا يتصرف بها المزكِّي بل الذي يتصرَّف بها هو الشيخ، لذلك بقي الإسلام في إيران قويًّا، أسأل الله أن يوفقهم ويوفق كل بلاد المسلمين.
القرآن رسالة الله إلينا
وعندما نرى العالَم الإسلامي يُذَبَّح ويُقَتَّل ويُدّمَّر، وفي القرن العشرين، وفي قارة أوربا في البوسنة والهرسك، ولا أحد من الذين يدّعون حقوق الإنسان من أمريكا أو أوروبا يتحرك، [ويدَّعون أنهم سيساعدون في تأمين الغذاء لهم، وذلك مثلما يعطون الغذاء للخراف الـمُساقة إلى المذبح]، لكنها حرب صليبية وعالمية، والإسلام في نَفَسِهِ الأخير، والموضوع راجع لعدة أسباب: هجوم الاستعمار والصَّليبيَّة والصَّهيونيَّة، والجاهليَة الإسلاميَّة.. يجب أن ندرك قيمة وجود إمام الجامع الكفؤ، إمام الجامع هو: نائب النبي ﷺ ليقوم بمهمة: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ [سورة البقرة: 129] علوم القرآن، أليس هذا من فقه القرآن يا بني؟ أنتم كأزواج ألم تقرؤوا سورة: (قد سمع)، نزوِّر اسمها ونسميها (قد سمع)، لكن اسمها ليس سورة: (قد سمع) وإنما اسمها سورة: (المجادِلة)، فالله جل جلاله كرَّم المرأة، ليس كجنس امرأة وإنما بصفة معينة، وهي عندما تكون مدافعة عن حقوق المرأة، وهناك في القرآن العظيم سور أخرى نزلت من أجل المرأة كسورة التحريم عندما حرم النَّبيُّ ﷺ مارية رضي الله عنها على نفسه، فقال الله سبحانه وتعالى له: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ [سورة التحريم: 1]، وفي سورة الطلاق قال جل جلاله ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [سورة الطلاق: 1].
هذا كلام الله سبحانه وتعالى أرسله لك مع سيدنا جبريل عليه السلام رسولِ السماء، وسيدنا محمد ﷺ رسول الأرض، فهل فهمت رسالة الله؟ إذا أتتك رسالة من إنسان سفيه، أو من تاجر خمر، أو من فاسق، أو من كافر، وباللغة الإنكليزية أو الألمانية ولم تفهم المكتوب تبحث عن مترجم، ثم تعمل بمقتضاها، فإذا قال لك: “ستصل البضاعة يوم كذا إلى المرفأ الفلاني” فهل تستلمها أم تخالف ما كُتِبَ إليك وأُرسِل؟ فيا ترى هل هذا المرسِل أكثر أهمية عندك واعتباراً من الله؟ أين الإسلام يا بني؟ متى سنصبح مسلمين؟ حتى يتحقَّق وعد الله بنصرنا: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة الروم: 47]، ومع ذلك لا نيأس، والقنوط حرام، وإذا لم نستطع أن نعمل كلَّ شيء، فلا نترك كل شيء
افعل الخير ما استطعتَ ولو كا ن قليلًا فلن تحيطَ بكلِّه
ومتى تفعل الكثير من الخيـ ـر إذا كنتَ تاركًا لأقلِّه
فقال الله تعالى للمظاهرين وأمثالهم من الذين يعتدون على حقوق المرأة والزَّوجة: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ﴾ يعني كافرون بوجوب حقوقها وأداء هذه الحقوق ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [سورة المجادلة: 4].
عقوبة الَّذين يحادُّون الله ورسوله
ثمَّ قال الله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ فانتقل من الكفر الجزئي إلى الكفر العام، الكفر بكل الإسلام، هذا الذي يُسَمَّى “كافراً”، وكلمة يحادُّون تعني: يحاربون ويصدُّون الناسَ عن سبيل الله، ويعملون كل الأعمال لهدم دين الله سواء في الأخلاق أو في العقائد أو في الفرائض ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا ﴾ [سورة المجادلة: 5] يعني خُذِلوا، يعني سيُخذَلون وسيفشلون وسينهزمون، متى؟ عندما يكون الإيمان ممثَّلاً في المجتمع الإسلامي التمثيل الحقيقي؛ فالله سبحانه سيهزم أعداء الإسلام، والذي يهزمهم هو الإسلام الممثَّل في الإنسان المسلم، لكنْ إذا كان الذين يحادُّون الله ويعادون دينه ويعادون نبيَّه موجودين، والإسلام غير موجود في مرآة المجتمع الإسلامي فلن يكون هناك انتصار، ﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ﴾ [سورة الكهف: 18]: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ﴾ [سورة النمل: 80] يعني جيشٌ من الأموات هل يهزم ويغلب جيش الغُزاة؟ الناس يريدون أنَّ ينصر الله الإسلام على أعدائه، والإسلام يعني المسلمين، فيا ترى هل المسلمون مسلمون حقاً؟ إسلام الثقافة والأخلاق وأداء الواجبات وترك المحرَّمات والتحابب والتَّعاون والتآخي والفقه بالقرآن، القرآن الآن يُقرأ على الأموات أو للـمَغنى، يعني إذا فتح شخص المذياع على محطة يُقرأ فيها القرآن ولم يعجبه صوت القارئ ثم حوَّل المحطة إلى محطة ثانية وكان عبد الوهاب أو أم كلثوم يُغنِّيان فيها [اسمان لمطربَين مشهورين]، فهل يستمع للقرآن أم لغناء أُمِّ كلثوم؟ إذا استمع للغناء فهذا إلهه هواه ومصلحته من مال أو لذَّة أو متعة وليس الله سبحانه وتعالى!
﴿كُبِتُوا﴾ فلما ظهر الإسلام بمعناه الحي أمام المشركين الوثنيين؛ كُبِتَ أعداءُ الإسلام وخُذِلوا وهُزِموا، وإذا عاد المسلمون الآن: ﴿وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا﴾ [سورة الإسراء: 8]، كما أنه ﴿لَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [سورة الصف: 5]، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [سورة الرعد: 11].. ﴿وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ﴾ بماذا ردَّ الله جل جلاله عليهم؟ قال ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ يريدون الجنَّة بالأماني ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ أَرُونا أعمالكم وأخلاقكم وإيمانكم: ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾ يستسلم لأوامر الله وينقاد لها ويمتثلها ويعمل بها ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ يؤدِّيها على أحسن الوجوه لا بالشَّكل السَّيِّء ﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ لا في الدنيا ولا في الآخرة ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [سورة البقرة: 112-111].
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ فمعنى ذلك أنَّ الله تعالى ذكر هذه الآية بعد آية حُكْمِ الظِّهار ليخبرنا أنَّ الإساءة إلى المرأة نوع من معاداة الله ورسوله، لأنَّه خروج على قانون القرآن، وخروج عن قانون الإسلام.
هناك متغيرات وهناك ثوابت لا تتغير على مرِّ الزمان
قال تعالى: ﴿وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ الإسلام واضح للعقل وللفكر وللاقتناع وللحقيقة، وإذا أراد الإسلام أن يقول أن هذا الشيء أبيض فمهما تغير الزمان ومهما تغير المكان فهل يمكن أن نغير هذا الحكم؟ يعني إذا قال النبي ﷺ عن هذا الشيء أنه أبيض في القرن الأول الهجري، فهل بعد خمسة عشر قرناً نقول أن الزمان تغير وينبغي أن نقول عنه أنه أحمر؟ الحقيقة لا تتغير، من أين كان يشرب الإنسان في عهد سيدنا آدم؟ من فمه، يعني هل عليه أن يشرب من أنفه في القرن العشرين؟ يعني هل هذه قضية رجعية، “وأكل الدَّهر عليها وشرب”؟ [مَثَلٌ يطلق على الشيء القديم جداً]، هناك أشياء ومتغيرات تتغير، وهناك ثوابت لا تتغيَّر بملايين الدهور وملايين السنين.
كفر عام وكفر خاص
﴿وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ﴾ للذي يكفر بعموم الإسلام، أو الذي يكفر بحكم من أحكامه: ﴿عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [سورة المجادلة: 5] ستلحقه الإهانة، لمَ؟ لأنَّه يخرج عن الحقائق إلى الباطل، يخرج من الطريق المستقيم الموصِل إلى حيث يريد إلى الصحراء المحرقة، فلا ماء ولا طعام، فهذا: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ [سورة الأنعام: 153] فإذا حاد عن الطريق، وإذا تركت السيارة الطَّريق المعبَّد وسارت في الصَّحراء فهل يوجد عذاب هناك أم لا؟.. ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [سورة المجادلة: 4] بالنسبة للظِّهار، وهنا: ﴿عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [سورة المجادلة: 5] الهوان والذل.. العالَمُ الإسلامي الآن في أيِّ هوان؟
الظلم الحاصل على المسلمين لو كان حاصلاً على اليهود لقامت له كل الأمم
لو كان حاصلاً على خمسة أشخاص من اليهود شيء من الاضطهاد في أي بلد من بلاد العالَم كيف سيكون موقف رئيس أمريكا وموقف مجلس الأمن؟ أو خمسة من ألمانيا أو من فرنسا أو من أمريكا، إذا حصل عليهم أي اضطهاد أو أي تفظيع فإنهم يستنفرون مجلس الأمن وهيئة الأمم والأساطيل والطائرات، وماذا عن العالَم الإسلامي! اليوم سمعت في الإذاعة أنَّ بعض اللاجئين من إخواننا المسلمين في يوغسلافيا دفعهم الصِّرب إلى موضع المعركة ليجتازوها، يريدون أن يمرُّوا بين الـمَدافع وبين الدبابات! هذه أوربا! وهذا فعل المجرمين، وأما فعل المدافعين عن الجريمة فليس بأقل من فعل المجرمين، أين رئيس أمريكا؟ وأين إنسانيته؟ وأين حقوق الإنسان؟ وأين قرارات مجلس الأمن؟ لا أريد قول أنه مجلس صليبي، لكنه مجلس استعماري أناني لمصلحة الدول الكبرى، ويخافون من الإسلام.
المسلمون الآن لا يحسنون تعليم الإسلام
كما أنَّ الإسلاميين أيضًا لا يُحسِنون تعليم الإسلام، فالعمل الذي قام به الإسلاميون الأصوليون في الجزائر ليس صحيحًا، يجب على الإسلاميين أن يتعاونوا مع دولتهم الوطنية، ويضعوا يدهم بيدهم، ويتفاهموا ويتحاوروا، أما أن يُعرَض الإسلام بجمودٍ وتعصُّبٍ وتزمُّتٍ وبعقلٍ رجعِيٍّ، فهذا ليس إسلاماً! الناس لا ترفض الإسلام، لا يستطيع عطشان أن يرفض الماء المبرَّد المحلَّى، لكنْ عندما تضع له كأس مازوت وتضع فيه المثلجات وتسمِّيه ماء عذباً فهل يرفضه أم لا يرفضه؟ هل يُغيِّر الاسم الحقيقة؟ لذلك يا بني مصيبة المسلمين تكمن في السموم الاستعمارية الصليبية الصهيونية، وفي جمود وضعف الروحانية عند العالِـم الإسلامي أو رجل الدين الإسلامي -سمِّه كما تريد- “وبين حَانَهْ ومَانَهْ ضاعت لحانا” .. أسأل الله تعالى أن يبدّل حالنا إلى أحسن حال، ولكنْ لا تتبدَّل الأمور بالقعود، ولا بالتمنِّي ((ليسَ الإيمانُ بالتَّمنِّي ولا بالتَّحلِّي، ولكن الإيمان ما وقَرَ في الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ)) .. ﴿وَلِلْكَافِرِينَ﴾ الكفر العام: ﴿عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [سورة المجادلة: 5]، وبالكفر الخاص: ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [سورة المجادلة: 4].
حفظ الله تعالى لأعمال العباد وعرضها عليهم يوم القيامة
﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ الكفار من هذا النوع أو من النوع الثاني ﴿فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا﴾ إذا كان نزل الوحي من أجل “أوس” واللهُ تعالى ربَّاه وقاصَصَهُ وأنزل في عدوانه قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة، فهل هناك قرآن جديد ينزل الآن إذا أخطأنا؟ لكنْ كله مسجَّل، وكله عند الله سبحانه معلوم ومحفوظ: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [سورة الزلزلة: 8،7]، ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾ [سورة غافر: 19] إذا كنت تنظر نظرة حقد أو نظرة كذب أو نظرة مكر أو تستمع لمنكر فنظراتك مسجّلة وسماعك مسجَّل وخطواتك مسجَّلة وكلماتك مسجَّلة.. ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا﴾ [سورة المجادلة: 6] المسجِّل [آلة التسجيل] اليوم يحفظ الصورة والصوت والركض والرقص والغناء وكل الحركات، هذا من صنع الإنسان، فكيف يكون المسجِّل الذي صنعه خالق الأكوان سبحانه وتعالى؟ ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ﴾ بعد أداء الشهادة ﴿يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ﴾ الجزاء العادل ﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾ [سورة النور: 25-24] ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾ [سورة المجادلة: 6] أنت نسيت أعمالك وإساءاتك، وأنتِ نسيتِ أعمالكِ وإساءاتكِ، لكنْ الله لا ينسى! في كتابٍ: ﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [سورة الكهف: 49].
إحاطة علم الله تعالى بكلِّ شيء
﴿وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [سورة المجادلة: 6] فكما شهد قصة “أوس وخولة” حينما كانت تكلِّم النبي ﷺ في حين كانت السَّيِّدة عائشة رضي الله عنها قريبة من النبي ﷺ ولا تسمع شكواها، ولكنَّ الله سمع شكواها من فوق سبع سماوات، وليست “خولة” هي وحدها التي يكون الله رقيب عليها، ومسجَّلة أعمالها وكلامها ونظراتها وشكواها وظلامتها وظلم زوجها لها، لا! بل كل الظالمين وكل المظلومين وكل الأعمال يطلع الله عليها، يقول الله تعالى ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ﴾ أيها الإنسان! أي شأن من شؤونك: سواء كنت تأكل أو تشرب، جالساً أو نائماً، مسافراً أو مقيماً، طائعاً أو عاصياً، سعيداً أو حزيناً ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا﴾ [سورة يونس: 61] من الشاهد؟ الله تعالى، ومن القاضي؟ الله جل جلاله، فإذا كان القاضي والشاهد هو الله تعالى، والقاضي بنفسه رآك أنك قاتل وأنك ظالم، وهو قاضٍ لا يجور ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [سورة الكهف: 49] فماذا يكون موقفك؟ ومن سيدافع عنك؟ كنت في الدنيا محامياً لكن في الآخرة أنت بحاجة إلى محامٍ؛ وليس هناك في الآخرة محامٍ، كنت قاضيًا في الدنيا، لكن تصبح مطلوبًا في الآخرة، كنت وزيرًا أو أميراً أو ملكاً أو رئيساً أو شيخاً في الدنيا هذا بنظر الناس، أما عند الله فهناك الحقيقة، والحقيقة وحدها، فأسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المؤمنين حقًّا ومن المسلمين صدقًا!
قال تعالى: ﴿فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ۚ أَحْصَاهُ اللَّهُ﴾ كلُّه مسجَّل عند الله ﴿وَنَسُوهُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [سورة المجادلة: 6] لم تصلِّ في وقت الصلاة فالله شهيد على ذلك، كذبت عند الحديث فالله شهيد على ذلك، وعندما تظهر نفسك رجلًا صالحًا وأنت مكَّار من أعماقك فالله شهيد على ذلك ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [سورة الملك: 13] يطلع على عملك إذا نظرت إلى امرأة أو نظرت امرأة إلى رجل نظرة غير صحيحة ﴿وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [سورة المجادلة: 6] أين ستذهب يا بني؟ كيف ستحجب نفسك عن الله؟ كيف ستُخلِّص نفسَك وأعمالُك كلُّها مسجَّلة؟ ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ﴾ الجزاء العادل ﴿وَيَعْلَمُونَ﴾ عند ذلك ﴿أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾ [سورة النور: 25،24].. انتهينا من قصة المجادلة وزوجها، ومناجاة المجادلة وشكواها إلى النبي ﷺ.
الله سبحانه حاضر في أي حديث يحصل بين الناس
سينقلنا القرآن الآن إلى المناجاة خارج نطاق الأسرة، قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ سواء في السموات أو في الأرض ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ النجوى والتناجي والحديث مع الناس والتحدث فيما بين بعضهم البعض، في السهرة أو على المائدة أو في السيارة أو في البيت أو في الدكان، أيُّ متحدِّثين، قال تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ﴾ حديث بين ثلاثة، وخاصة إذا كانت النَّجوى ذات أهمية ويحاول أصحابها أن لا يسمعها غيرهم ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ﴾ قال ليسوا ثلاثة فقط بل أربعة، هم ثلاثة في نظرك، أما في الحقيقة هناك رابع، قال تعالى: ﴿إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ فعندما تكون في سهرة مع جماعة من الناس وعددهم عشرة مثلاً فيجب أن تزيد عليهم الحادي عشر، ومن هو الحادي عشر؟ إنه الله سبحانه وتعالى.. إذا كنت في مكان تجارتك أنت والمشتري فيجب أن تُقدِّر أنَّه يوجد معكم ثالث، من الثالث؟ الله سبحانه وتعالى.. إذا تخاصمت مع إنسان فيجب أن تُقدِّر وجود ثالث معكم هو الشاهد وهو القاضي.. إذا كنت مع زوجتك، مع عدوِّك، مع صديقك: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ [سورة المجادلة: 7].
قصة: يذبح ديكاً في مكان لا يراه فيه أحد
يُروى عن أحد الشيوخ أنّه قال لمريديه: من منكم يأتيني غدًا بديكٍ يذبحه في مكانٍ لا يراه فيه أحد؟ فـالمريدون والمحبِّون في صباح اليوم الثَّاني أتوا والديك المذبوح في أيديهم، فيسألهم: يا بني! ألم يرك أحد عندما ذبحته؟ فيقول له لا، فيسأله كيف ذبحته؟ فيقول له: أنا عندي زريبة [حظيرة الماشية] فأخرجت الدَّواب وأقفلت الباب وذبحته، ثم يسأل الآخر فيقول له: لم أدع زوجتي ولا أولادي ولا أي أحدٍ يراني أبدًا، ثم يسأل شخصاً آخر فيقول له: أغلقت باب الدكان وذبحته، إلا شخص واحد منهم أحضر الدِّيك غير مذبوح؛ فسأله عن السبب، فقال له: يا سيدي أنا لم أستطع أن أحقق الشرطين، استطعت أن أحضر لك ديكًا، لكنْ لم أجد مكانًا لا يراني فيه أحد، قال له: وكيف ذلك؟ قال له: أينما ذهبتُ وجدْتُ اللهَ يراني، وأنت اشْتَرَطْتَ أن يُذبَح في مكان لا يراني فيه أحد، فقال له: أنتَ خليفتي.
من هو معلمك الذي يعلمك الإسلام؟
هذا يا بني أدب من آداب القرآن، فيا ترى هل المسلم والمسلمة، والزوج والزوجة، والأب والأبناء، والأخ والإخوة، والجيران، والبائع والشاري، والمتعادون، عند الكلام أو الأعمال، هل هم مسلمون بهذه الآية؟ تقول أنك مؤمن بالقرآن، أرِنا إيمانك ولو بنصف آية! يا بني لا يمكن أن تصبح سائق سيارات بلا معلم، ولا طيَّاراً بلا مدرسة طيران وأساتذة الطيران، ولا طبيباً بقراءة الكتب، لا تصبح طبيباً إلا بإشراف الأطباء مع كتب الطب، فمَنْ هم أساتذة المسلم في علم القرآن؟ مَنْ هو مربِّيه على الأخلاق الإسلاميَّة؟ من هو أستاذه في تعلُّم الحكمة؟ من هو أستاذه في تزكية النفس والمستوى الأخلاقي؟ لا أحد؛ ولذلك النتيجة أيضًا: لا شيء!
قصة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مع راعي الغنم الصائم
﴿ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم﴾ يروى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان في طريقه بين مكة والمدينة فعطش، ورأى راعياً فقصده، وطلب منه السقاية فقال له: لا يوجد عندي غير الحليب فسقاه حليباً، فلما شرب زاد شيء من الحليب فقال له: خذ أنت فاشرب، قال له: أنا صائم -راعٍ أسود اللون- قال له: أفي حرارة هذا اليوم تصوم؟! قال له: أصوم في حرارة هذا اليوم اتِّقاء حرارة ذلك اليوم!.. عليك يا بني أن تهيِّئ من دنياك لمستقبلك في الآخرة، ومن شبابك عليك أن تربي شيخوختك، ومن غناك تحسب حساب فقرك، ومن النِّعمة تحسب حساب زوالها، يجب أن يكون لديك رصيد واحتياط.. قال: فأحبَّ ابنُ عمر أن يمتحن إيمان الراعي، قال له: اذبح لنا شاة، قال له: أنا لستُ ربَّ الشياه -يعني لستُ مالكها- قال له: أنا أعطيك ثمنَها، وتقول لسيِّدك: “أكلها الذئب” -فـالذي يؤمن بهذه الآية: ﴿إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ هل يفعل هذا ويقول له: أكلها الذئب؟- فلما قال: تقول له: “أكلها الذئب” صاح بأعلى صوته حتى رنَّ الوادي: فأين الله؟ فأين الله؟ فأين الله؟
ينبغي أن يرتبط المسلم بالمعلم برباط متين
((اُعْبُدِ اللهَ كأَنَّكَ تَرَاهُ)) ، يا بني هذا قطرة من بحر الإسلام، إذا كنت لم تفهم هذه الحقيقة فمتى ستعمل بها؟ متى ستكون هي خُلُقَك وصفاتك؟ هل يكون هذا من غير معلِّم ومن غير مربٍّ ومن غير مرشِد؟ وإذا لم يدخل حبُّ المعلم في كل ذرات وجودك، وارتبطْتَ فيه كل هذا الربط فحينها إذا سار لا تستطيع السَّير معه؛ فتبقى في مكانك، وإذا ربطت نفسك به بخيط دقيق فإنك ستبقى في مكانك، كما لو ربطنا سيارة بسيارة بخيط فإنها لا تتحرك من مكانها، ولذلك ارتبط المسلمون الأُول برابطة الحب بالمعلم الذي هو النبي ﷺ، وينبغي أن يكون من بعدهم على هذه الطريقة، قال ﷺ: ((لا يُؤْمِنُ أَحَدَكُمْ حَتَّى أَكُوْنَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَنَفْسِهِ الَّتِيْ بَيْنَ جَنْبَيْهِ)) لا نريد منك أن تحب شيخك المربي الحكيم لهذه الدرجة! ولكن على الأقل أحبِبْهُ كما تحبُّ ابنك أو زوجتك أو سيَّارتك أو مزرعتك أو بيتك، أما الحب الواجب فهو كما كان حب المسلمين لمعلِّمهم ومربِّيهم، وعلى قدر الحب تكون النتائج والثمرات، ((اللهم إنا نسألك حبُّك وحبَّ من يحبُّك وحبَّ عملٍ يقرِّبنا إلى حبِك)) ، وفي الحديث القدسي: ((وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَالمْتَزاوِرِيْنَ فِيَّ)) إلى آخر الحديث.
بعض الناس تخاف من شرطي وتراقبه ولا تخاف من الله سبحانه
قال: ﴿وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ﴾ ولا ألف ولا مليون إلا هو معهم ﴿وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ [سورة المجادلة: 7] في البَرِّ أو في البحر، في الطَّيارة أو في القطب الشمالي أو في الغواصة ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [سورة الحديد: 4] فإذا كان شرطي السير في الطريق يراك فهل تستطيع أن تمشي على اليسار [مخالفاً]؟ وإذا كان هناك رجل أمن فهل تستطيع أن تتكلَّم شيئًا ضد نظام الدولة؟ فلماذا تخافُ من إنسان مخلوق ضعيف مثلك، ولا تخاف من جبار السماوات والأرض؟! لأنك لم تؤمن بالله تعالى وبصفاته القدسية؛ آمنتْ بـ (ألف ولام ولام وهاء)، هذه الأحرف لا تعمل شيئًا يا بني، ولذلك لا يخرج منك شيء!
من مات قلبه لا يستجيب لعلاج القلب
﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [سورة ق: 37] الجسد لا يحيا إلا بالغذاء، والقلب لا يحيا إلا بذكر الله، والمرض لا يزول إلا بالطبيب والدَّواء، ومرض القلوب: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ [سورة البقرة: 10] فهل بحثت عن طبيب أمراض القلوب؟ الآن هناك أطباء النفس يعالجون الإنسان مما يصيب نفسَه من هذيان أو خوف أو غير ذلك، وماذا عن أمراض الروح؟ وأمراض الإيمان؟ هل يقول الميِّت: “خُذُوني إِلَى الطَّبيب”؟ المريض إذا كان جاهلًا لعلَّه لا يذهب، ولعلّه إذا عرف لا يقبل الدواء؛ فإذا لم يخالف النفس والهوى ويشرب الدواء المرَّ ويسلِّم نفسه للجرَّاح؛ فسوف يقتله المرض، وهكذا مرض القلوب وضعف الإيمان إذا ما استُدرِك وبسرعة فسيموت القلب ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ﴾ [سورة النمل: 80] ولذلك مهما سمع من موعظة أو من قرآن أو من كلام الأنبياء لا يتأثَّر ﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ هل هناك أعظم من النَّبيِّ ﷺ ومن روحانيته ومن حكمته؟ ﴿حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ لأحياء القلوب الذين تغذّوا بكلام النبي ﷺ ﴿مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾ لم نفهم شيئًا! قال الله تعالى عنهم: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ [سورة محمد: 16] لا يخطر في باله الله ولا القرآن، وهذا ميَّت القلب، أما حيُّ القلب فتراه عندما ينادي منادي القرآن ومنادي الإيمان في كل موقف ويقول له: “احذر، اعمل، اركض، قف” يقوم فيلتزم الأمر، فأسأل الله أن يُحيي قلوبَنا بنور الله.
إنباء الله تعالى لعباده بعلمه بهم يوم القيامة
قال تعالى: ﴿إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [سورة المجادلة: 7] وقت سعادة الأبد والخلود وشقاوة الأبد والخلود، يقول لك “أنت فعلت كذا وكذا، في مكان كذا، في يوم كذا، في محل كذا، مع فلان كذا، أنت غشَشْتَ، أنت خدعت، أنت كذبت، أنت سمعت الأذان ولم تصلِّ، أنت غضبت وسببْتَ الدِّين، وأنت ظلمت، وأنت ارتشيت” ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا﴾ هل آمنا بهذه الآية؟.. الصلاة التي فرضها الله تعالى يا بني هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، والبطَّارية التي تشتريها هي التي تعطي الطاقة للنور وتشغيل الراديو، وإذا كانت فارغة فحجمها لم يختلف؛ لكنَّ الروح فيها غير موجودة.. فأسأل الله تعالى أن يجعل الإسلام فينا حقيقةً وروحانيةً، ليظهر أعمالاً وأخلاقاً وسلوكاً في ظواهر أمرنا وفي بواطنه.. ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [سورة المجادلة: 7] الذي علم قصة “خولة وأوس بن الصامت”، وفي الحال أصدر الحكم، وأصدر الجزاء الأدبي والمالي، وجعله شرعاً خالداً إلى يوم القيامة.
نهي المنافقين عن النجوى بالباطل
وبمناسبة قصة “أوس وخولة” في بناء الأسرة على النظام والأخلاق والقانون والتثقيف السماوي القرآني؛ انتقل الله تعالى من أسرة الزوجية إلى أسرة المجتمعِ وأبناءِ المجتمع، فعندما صار النَّبيُّ ﷺ في المدينة وظهر الإسلام، وصار له دولة وله قوة، فعند القوة يظهر المنافقون، أما عند الضعف فلا يوجد نفاق إنما الكفر الصّريح؛ فكان المنافقون يتسترون بالإسلام ليكيدوا له وليحاولوا تخريبه والصدَّ عنه بالأساليب المتستِّرة، فكانوا يخططون للمؤامرات سرّاً في خلواتهم، ويحاولون التَّخريب ليفسدوا إيمان ضعاف المؤمنين، فكانت نجواهم وتناجيهم في مثل هذه الموضوعات، وكان أمرهم لا يخفى على الله عزَّ وجلَّ، فيُعلِمُ اللهُ بذلك نبيَّهُ ﷺ، ويَنزل القرآن بتوجيههم وزجرهم وتحذيرهم، فقال القرآن في هذا الموضوع: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ﴾ [سورة المجادلة: 8] يكيدون المؤامرات في سهراتهم الخاصة، ويعملون على تشويه سُمعة الإسلام، والطَّعن في النَّبيِّ ﷺ، والطَّعن في القرآن والطَّعن في الإسلام، فكان يَبْلُغ أمرهم للنَّبيِّ ﷺ، وكدولة: فالذي يعمل ضد الدولة وضد أمن الدولة يُقطَع رأسه في بعض الأوقات، أما دولة القرآن والإسلام لم يكن القانون الجزائي إلا النُّصح والإرشاد والتَّوجيه.
شرح سماحة الشيخ للآيات التي تتكلم عن خيانات أهل الكتاب
ذات مرة زارني أحد كبار إخواننا المسيحيين للمعايدة، وأنا أتكلَّم معه حول التَّقارب الإسلامي المسيحي، وأذكر له الآيات القرآنية التي ذكرت المسيحيين الأُصلاء، كيف التقى القرآن الكريم معهم، فقال لي: “شيخي تكلّم لنا عن آيات القرآن التي تتكلم عن المسيحيين بسوء، وليس الآيات التي تمدح المسيحيين”، قلت له: أبشر، يقول الله تعالى في سورة المائدة: ﴿۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ﴾: لا تصادقوهم ولا تصاحبوهم ولا تثقوا بهم وابقوا منهم على حذر ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ يستحيل أن تصير نيَّتهم صافية معكم ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ يخرج من الإسلام ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [سورة المائدة: 51] فقال لي: “رَقِّعْها لي” [من الرقعة والترقيع، أي هذه الآية تخدش معاني الآيات التي ذكرتها منذ قليل وتدعو إلى التفرقة فكيف تجيب عن ذلك؟] فقلت له: أبشر! ومن فضل الله عليَّ أنني حافظ للقرآن منذ الطفولة، سأحضر لك المصحف لترى بعينيك: فقبل هذه الآية بنصف حزب (صفحتان ونصف) تتكلم الآيات عن خيانات ودسائس ومحاولة اليهود والنصارى في زمن النَّبيِّ ﷺ لهدم الدولة العربية القرآنية الإسلامية، وبعد هذه الآية أيضًا بنصف حزب (صفحتان ونصف) في مخازيهم وخياناتهم وتآمرهم مع الاستعمار -حرب الرِّدَّة من كان يُغذِّيها؟ كانت تُغَذِّيْها الدولة الرومانية البيزنطية- ثم قلت له: ماذا تَبيَّن لك؟ ألم يتبيَّن أنَّهم هم الذين يذمُّهم القرآن بما تقدَّم من الآيات وما تعدَّد من أعمال، ما اسم هذا عندكم في القانون -وكان هو رجلاً من كبار رجال القانون والقضاء- قال لي: هذا اسمه خيانة وطنية، قلت له: حسنًا لو كان في سوريا بعض النَّاس يعملون مع إسرائيل مثل عمل هؤلاء مع النَّبيِّ ﷺ ودولة الإسلام؛ فماذا يكون الحكم في هذا الزمن؟ قال لي: الإعدام رَمْيَاً بالرصاص! قلت له: القرآن لم يعدم اليهود والنصارى الخونة لوطنهم رمياً بالرصاص ولا أمر بسجنهم بحكم المؤبّد ولا حتى خمس عشرة سنة، ولا جلدهم ولا ضربهم وإنما قال للمسلمين فقط: “احذروهم وكونوا على يقظة منهم ثم قلت له: هل يوجد قانون في الدُّنيا وإلى أن تقوم الساعة يعامِل الخائن الوطني بـ: “فقط انتبهوا منهم، احذروهم، لا تقعوا بمكائدهم وبمؤامراتهم فلا يخرِّبوا عليكم مجتمعكم ودولتكم” فقال لي: والله يا شيخي أنا أقرأ القرآن كثيرًا، لكنْ لم أفهمه هكذا، فقلت له: إذا كنت أنت الذي لم يفهم فما ذنب القرآن؟ الذنب ذنبك أم ذنب الإسلام؟
إياك والفحش والتفاحش
وهنا أيضًا هذه الآية في الذين نُهوا من النَّجوى، يعني نسج المؤامرات في الاجتماعات والسَّهرات ضد الإسلام وضد القرآن وضد المجتمع وضد الدولة، فكان النَّبيُّ ﷺ لا يسجنهم ولا يعاقبهم ولا يردُّهم، بل يقول لهم: “لا تعودوا لمثل ذلك” قال تعالى: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ﴾ يتآمرون ويتحدثون ﴿وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ﴾ بكل ما يخرج عن طاعة الله إلى معصيته، ﴿وَالْعُدْوَانِ﴾ على الآخرين ﴿وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ﴾ معصية الدَّولة ومخالفة الدولة، وخروج عن أوامر الله، وخروج عن مصلحة الوطن ومصلحة الدولة، وفي اصطلاح الجيش هم الطابور الخامس [المنافقون أو الفئة التي تظهر المودة لكنها تخون في الخفاء] يتآمرون مع العدو، ويتناجون في سهراتهم ومجتمعاتهم ضد المجتمع الإسلامي، وضد الدولة الإسلامية.
﴿وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ﴾ [سورة المجادلة: 7] لأنَّ اليهود كانوا يدخلون على النَّبيِ ﷺ، بدلًا من قولهم: “السلام عليكم” يُلَخِّنون [يميلون بكلامهم] ويقولون “السَّام عليكم” لا يلفظون اللام، والسام: هو الموت! وكانت السَّيِّدة عائشة رضي الله عنها ذات مرةٍ في المجلس، وسلم أحد اليهود بهذا اللفظ فقالت له: “وعليك لعنة الله وغضبه وسخطه”، فقال النَّبيُّ ﷺ: ((يا عائشة)).. الرسولُ ﷺ سفير السماء ورجل الدَّولة أمام خائن جاسوس عميل للصهاينة! قال لها: ((يا عائشة: إنَّ اللهَ رفيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ في الْأَمْرِ كُلِّهِ، وَإِياكِ والفحش والتفاحش)) لا تتكلمي بالكلام غير اللائق، ما أجمل هذا الكلام.
أهمية محبة أحباب الله سبحانه
هذا فعل الإسلام مع ألدِّ أعدائه من اليهود، فكيف يجب أن يكون المسلم مع المسلم؟ والولد مع أبيه؟ والزوج مع زوجته؟ فعندما حاد الرجل عن الصواب سُمِّيت السورة كلها باسم امرأة مظلومة، وتبقى الآيات إلى قيام الساعة وتُتلى في الجنة أيضاً.. فيا ترى هل تفهم القرآن عندما تقرأه؟ وإن فهمت فهل لديك الطاقة للعمل، كما تُشغِّل الطاقةُ المحرِّك حتى تسير السيارة وتصل حيثما تريد؟ فقد تقرأ وتفهم ولكنْ أنت عاجز ومُقْعَد عن العمل، وتحتاج لإيمان من داخلك وأنت بحاجة إلى ذكر وارتباط بروحٍ أقوى؛ حتى إذا لم تستطع السير فتسير بقوَّة ارتباطك بتلك الروح، وهي رابطة الحب.. وورد في الأثر: ((لا إِيمانَ لمِنْ لا مَحَبَّةَ لَهُ)) ويكرِّرها ثلاث مرات: ((لا إِيمانَ لمِنْ لا مَحَبَّةَ لَهُ، لا إِيمانَ لمِنْ لا مَحَبَّةَ لَهُ)) وهل عداء الذين عادوا النبي ﷺ كان نابعاً عن الحق؟ أم زُيِّنَ لهم سوء عملهم فرأَوهُ حسنًا؟ هناك أُناسٌ عاشت أعينهم لكنها عجزت أن تبصر نور وكمال وجمال النُّبوَّة، وهم أنبياء الله سبحانه! وكذلك في كل زمان هناك الأولياء فهل عرفهم كل الناس فأحبُّوهم وارتبطوا بهم بهذه الرابطة؟ وهكذا الحال إلى يوم القيامة، ولكنْ نسأل الله كما قال عليه الصلاة والسلام: ((اللهم إنا نَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنَا إِلَى حُبِّكَ)) .
من أخفى أمراً لا بُدَّ وأن يظهر عليه
﴿وَيَتَنَاجَوْنَ﴾ يعني يتحدَّثون في مجتمعاتهم وسهراتهم ونواديهم ﴿بِالْإِثْمِ﴾ بكل ما حرَّم الله، مما يُخرِّب على النبي ﷺ وعلى الدَّاعي الدَّعوةَ الإسلامية ﴿وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ﴾ [سورة المجادلة: 7] بالكذب والغش، فقد تآمروا على تسميم النبي ﷺ، ووصفوه بالكذاب والساحر، ووصفوا القرآن بـ: ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ هذه النجوى، وكانوا يبثونها في الميدان الذي يتَّسع لسماع كلامهم، وشيءٌ آخر: ﴿وَإِذَا جَاءُوكَ﴾ “أَبى الحُبُّ أَنْ يَخْفَى “، وكذلك: أبت العداوةُ أن تَخفى، و((مَنْ أَسَرَّ سَرِيْرَةً)) مهما خبَّأها ((أَلْبَسَهُ اللهُ رِدَاءَهَا، إن خيرًا فَخَيْر، وَإِنْ شرّاً فَشَرٌّ)) مِنَ النَّظر يتبيَّن المحبُّ الصَّادق من الكاذب؛ فكيف نظر الله؟ إن المسجِّل يُسجِّل أنفاس الإنسان، فكيف مسجلات الله؟ تسجل لك خطرات قلبك: ﴿وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [سورة ق: 16] هل أسلمت لهذه الآية؟ هل آمنت بها؟ هل آمنتِ بها أنتِ أيتها المسلمة؟ إذا أردتِ أن تعلِّمي فعلِّمي النَّاس بأعمالِك، وبأخلاقِك وبسلوكِك، وهذه أعظم وسائل التعليم.
قصة جحا والغني الذي جاء يريد خطبة ابنته
قيل عن جحا -رحمه الله- أنه كان عنده بنت لكنها جميلة جدّاً، فخطبها أحد الأغنياء فقال له جحا: لا أزوِّجك، فقال له: لمَ؟ قال: لأنَّه إذا صار بينكما مشكلة ستقول لها: “يا بنت الشَّحاذين (المتسوّلين)” وبهذا أعرّضها للهوان والإهانة يومًا بعد يومٍ، فمستوى معيشتك لا يناسبنا، فقال له: قل لي ما تريد وأنا سأُلَبِّي طلبك كي أتزوج ابنتك، فقال له: إذا كان ولا بدَّ! فعليك أن تشحذ (تتسوّل) أربعين يومًا حتى لا تستطيع أن تقول لها: “يا بنت الشَّحاذين” لأنك قد أصبحت أنت شحاذاً أيضاً وأخذت شهادة بهذا! ومرّة ذهبا معاً إلى حمام السوق، وأثناء الاستحمام قال له الخاطب الذي يريد أن يصير صهرًا: يا عمّي هل يمكنك أن تشحِّذني الصابونة الَّتي معك؟ فقال له جحا: الآن صرت شحَّاذًا حقيقياً.. صار شحَّاذاً بالعمل، شحاذاً بالقلب، حتى في الحمَّام وفي المكان الذي لا يوجد فيه شحاذين!
وهكذا الإيمان، فعلى أي حال كنتَ لا بُدَّ وأن يظهر عليك، سواء كنت في الرضى أو في الغضب، في مصلحتك أو ضد مصلحتك، فأسأل الله أن يرزقنا حقائق الإيمان الذي يتجلَّى في أعمالنا وأخلاقنا، وسرائرنا وضمائر قلوبنا؛ لأنَّ الله عليمٌ بذات الصدور: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾ [سورة غافر: 19] نظرة الحب أو البغض، نظرة الإخلاص أو الرِّياء! فهل يستطيع أي كائن أن يغيب عن مراقبة الله؟ لا يمكن، لا يمكن اللعب على الله ولا الضحك على الله، الله سبحانه وتعالى لا تَخْفى عليه خافية!
إيذاءَ النبي ﷺ وأحبابِه إيذاء لله سبحانه
اعتبر الله تعالى عدوَّ النَّبيِّ ﷺ عدوًّا لله تعالى فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [سورة الأحزاب: 57] هل يجرؤ أحدٌ أن يؤذي الله؟ لكنَّ الله اعتبر إيذاء النبي ﷺ كأنَّه إيذاءٌ للهَ عزَّ وجلَّ؛ فإذا كنت تؤذي الله عزَّ وجلَّ وبيده ملكوت السماوات والأرض فماذا سيكون مصيرك؟! إذا كنت تريد أن تعادي أحباب الله فماذا يكون مصيرك؟ ولا تغتر إذا لم تجد العقوبة في الدنيا؛ فكل ما يجده الإنسان من عقوبات في الدنيا هي فقط مثل ما يلقاه المذنب في غرفة التوقيف والتحقيق! أما الحكم والمحكمة النهائية تكون في الدار الآخرة، فإما سعادةٌ فلا شقاء أبدًا، وإما شقاء فلا سعادة أبدًا.. إذا كنا نحن مؤمنين بهذه الحقائق، فنحن من المسلمين والمسلمات، أما إذا كانت أعمالنا لا تدل على إيماننا بهذه الحقائق يصير اسمنا منافقين؛ لأنَّ النِّفاق هو: أن تدَّعي الإسلام ولا تعمل به، فهل المنافقون أكثر أم المسلمون أكثر؟ لا أريد منكم جوابًا، فالله سبحانه تعالى أعلم!
ذكر الله سبحانه يزيد الإيمان
فـأسأل الله أن يجعلنا من الذين قال عنهم في كتابه العزيز: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ إذا رأى إنسان إنسانًا ممزَّقًا تحت عجلات القطار -أمعاؤه ويداه وأقدامه- فكلما خطر هذا المنظر بباله يقشعرُّ بدنه؛ فاعلم أن الله أعظم في عذابه، واللهُ أعظم في عطائه.. ولو أعطاك الملك مئة مليون فالله أعلى وأجل، ﴿إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ قلوبهم تمتلئ من جلاله، ومن خشيته، ومن الخشوع بين يديه ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ﴾ عندما يسمع آيات الله تعالى، وأحكام الله عزَّ وجلَّ، والأخلاق القرآنية والأوامر ﴿زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ بأي شيء؟ بتطبيقها والعمل بها ﴿وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [سورة الأنفال: 2] ثقته تكون بالله وبوعد الله، وإذا استقام على أوامر الله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [سورة النور: 55] يجعلهم الله عزَّ وجلَّ خلفاءه على الأرض؛ فالله هو مالك الأرض وقادر على أن يجعلهم ملوك الأرض كلها، وعندما صدق المسلمون الأَوائل مع الله سبحانه وتعالى تحققت فيهم هذه الآية.
لا قيمة للدنيا كلها إذا ما قورنت بالآخرة
فكلمة الإسلام كلمة سهلة على اللسان لكنَّها ثقيلة في الميزان والأعمال، ولكنْ ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ [سورة البقرة: 46،45] كانوا ينفِّذون الأوامر مهما كانت عظيمة، وهل هناك أكثر من الموت؟ فكان المسلم الأول عندما يبدأ النبي ﷺ الهجوم في معاركه يصلي ركعتين ويدعو الله ويقول: “اللهم ارزقني الشهادة ولا تردني إلى أهلي خائبًا” فالذين جادوا بالأرواح وبالدِّماء وبالأموال لم يكونوا أغبياء، ولم يبيعوا بناءً مؤلَّفاً من عشرين طابقاً بخمس ليرات سورية، ولكن اشتروا البناء كله بخمس ليرات سورية، فالدنيا بالنسبة للآخرة أقل من خمس ليرات بالنسبة للعشرين طابقاً، يقول النبي ﷺ: ((ما شَبَّهتُ الدُّنْيَا مَعَ الآخِرَةِ إلَّا كَمِخْيَطٍ وُضِعَ في بَحرٍ ورُفِعَ)) فهذه الإبرة ماذا يعلق فيها من الماء؟ هذا مثال الدنيا، والذي بقي في البحر هذا مثال حياة الآخرة، ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾ إذاً ﴿اهْبِطُوا﴾ [سورة البقرة: 61] والآن أليس العالَم الإسلامي يَستَبْدل ويترك الفاضل ويسعى وراء توافه الأمور؟ فنحن في الزمن الحالي ألا نقلِّد الأوروبيين في كل شيء؟ في لباسهم وشكل شعرهم ورقصهم وسهراتهم.. وتجرَّدْنا من شخصياتنا، حتى أننا تجردنا بلسان القومية من قوميَّاتنا ومن عاداتنا، وأعظم من كل هذا أننا تجردنا من ديننا، وهل الدِّين بالاسم والتَّسمِّي؟ ((لَيْسَ الإِيمانُ بالتَّمنِّي ولا بِالتَّحَلِّي، لَكِنَّه مَا وَقَرَ فِيْ الِقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ)) .
الخبيث الذي عميَ قلبه لا يتغير وكذلك الطيب لا يتغير
﴿وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ﴾ إذا قيل لهم: خافوا من الله، هذا نبي وهذا رسول الله ﴿وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ﴾ أو مع بعضهم بعضًا “لو كان نبيًّا لعذَّبَنا الله، لكنْ مادام الله لم يعذبنا ولم ينتقم منا فهذا دليل على أنَّه ليس نبيًّا” رغم أنَّ اليهود كانوا يعترفون أنَّهم كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، وهذا مسجَّل في توراتهم، ولكنْ أسأل الله أن يحمينا من موت القلوب، أو مما يسمى “موت الوجدان” أو موت الشعور بالحقائق، أو من تزيين العمل فنرى الحسنَ قبيحًا والقبيحَ حسنًا.. مهما قلت للجرذ: اجلس في غرفة الملوك على الأرائك والمكيفات [أجهزة تعديل الحرارة]، لا يستطيع إلا أن ينزل في البلوعة ويسير في المجاري، ومهما قلت للذباب: هذا المكان نقي ونظيف ومكيَّف، لا يمكن إلا وأن يسقط على المزابل وعلى الجِيَف، ومهما قلت للنَّحل ألَّا تفعل ما خُلِقَتْ له فإنك لا تراها إلا على الورود وعلى الزهور، فأسال الله عزَّ وجلَّ أن يطيِّب قلوبَنا ويصحح إيماننا وإسلامنا.
إن الله يمهل ولا يهمل، وقصة لجحا
﴿وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ﴾ قال الله تعالى: ﴿حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ﴾ [سورة المجادلة: 8] إذا أمهلهم الله فلن يهملهم! وإن لم يسارع الله عزَّ وجلَّ في عقوبتهم، لكنْ لابد منها، وجهنم تكفي وإنْ تأخَّر أمدُها، أما في أكثر الأحيان فيعذّب الله الكفرة في الدنيا قبل الآخرة، فهل ترك الله قوم فرعون إلى الآخرة؟ لا، بل أغرقهم، وعذب قوم عاد ﴿بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾ [سورة الحاقة: 6] أبادهم، وعذّب قوم صالح بصيحةٍ من السماء، وعذّب قوم نوح بالطوفان بعد أن انتظرهم الله ألف سنة إلا خمسين عامًا.
قيل: البدوي يأخذ بثأره بعد أربعين سنة، يذكرون عن جحا -رحمه الله- أنه دعا على شخص، والظاهر أن هذا الشخص اعتدى عليه أو سبَّه أو شتمه أو ضربه -يعني آذاه بنوع من الأذية- فاستقبل جحا القبلة ورفع يديه وقال: “يا رب أنت ترى ظلم هذا الظالم، فبحق أنبيائك وأوليائك أن تكسر رجله بعد أربعين سنة” ضحك النَّاس كلهم.. وذلك بسبب أنَّ أموره كلها فُكاهة، وإذ بعد الدعاء لم يمشِ الرَّجُلُ إلَّا قليلاً، فوطئ بقدمه على قشرة موز فوقع وانكسرت رجله، وعندما رأى الناس هذا المنظر رجعوا إلى جحا وقالوا له: تعال وانظر ماذا حدث لهذا الذي دعوت عليه، قال لهم: وماذا حدث؟ قالوا له: كسرت رجله الآن واستجاب الله لدعوتك، فقال لهم: لا، هذه ليست دعوتي أنا، فإذا انكسرت رجله الأولى الآن فهذه لشخص دعا عليه قبل شهر أو سنة أو سنتين، أما دعوتي فهي أن يكسر الله له الثانية بعد أربعين سنة، فإِنَّ اللهَ يُمْهِلُ وَلَا يُهْمِلُ.
لكنْ يا بني إذا زُيِّن للإنسان سوء عمله واغترَّ بالحياة الدُّنيا ولم يصدِّق بوعد الله، فيقول هكذا مثل قولهم: ﴿لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ﴾ [سورة المجادلة: 8] نحن نعمل كل شيء فأين حساب الله؟ ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ﴾ ووقتٍ ﴿مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ﴾: وقت التنفيذ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ [سورة فاطر: 45] لا يحتاج الله تعالى إلى من يُذكِّره، ويقول له: هل نسيت؟ فالله لا ينسى، بالإضافة إلى أن كلَّ شيء مسجّل في كتابٍ، وليس هناك من يستطيع أن يمحو ما كتبه الله عزَّ وجلَّ
الجلوس مع الفاسق والمنافق يَضرُّ صاحبه
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ﴾ [سورة المجادلة: 9] كان بعض ضعاف الإيمان وحديثوا الإسلام يجلسون مع هؤلاء المتآمرين على الإسلام وعلى رسول الله ﷺ، يجلسون للتَّسلية، هذا مع ابن عمه، والآخر مع ابن أخيه، وهذا خاله، وذاك صديقه وصاحبه، لا يصح هذا يا بني! ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ﴾ [سورة النساء: 140] وقال بعض الحكماء: “قل لي من تجالس ومن تصاحب أقلْ لك مَنْ أنت كنت في حياة شيخنا أُحضِر اللحمة من عند اللحام، فعندما أدخل إلى البيت يدور حولي قطُّ البيت ويشتم الرائحة، والظاهر أنَّ رائحة اللحم ملأت ملابسي؛ لأني كنت عند اللحام، والناس لا يشتمُّونها، لكنَّ حاسَّة الشَّمِّ عند القط أقوى منها عند الإنسان -وكذلك أيضاً عند النمل- فشمَّ رائحة اللحم رغم أنِّي لم أمسكها بيدي ولم تلمس ثيابي، وهكذا الجلوس مع الفاسق أو المنافق أو الشقي أو المخذول، إن لم تحرقْكَ نارُه يؤذيْكَ بشرَرِه أو تشمَّ من دُخَّانه رائحةً خبيثة!
قُلْ لي مَنْ تصاحِب أقُلْ لكَ مَن أنت
فضِعاف الإيمان كانوا يجلسون مع هؤلاء المنافقين الذين يتناجون بالإثم والعدوان، أو مع اليهود، سواء كان قريبه كابن عمه أو صديقه وصاحبه.. وهذا لا يجوز ﴿لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ﴾ يصادقون أو يحبون أو يجالسون أو يساهرون ﴿مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [سورة المجادلة: 22] الذي يعادي الله تعالى والنَّبيَّ ﷺ، ويعادي أولياءَ اللهِ، ويعادي الإسلام، من كان هذا حاله هل يكون صاحبك؟ لا، إلا للضرورة؛ عندما يكون الإنسان في ضرورة، ألا يذهب إلى بيت الخلاء؟ وهل يذهب صداقةً أو محبَّةً أو شوقًا؟ إنما يذهب ضرورةً؛ لأنَّه إذا لم يذهب سيبول في ملابسه، فإذا ذهب إلى هناك وقضى حاجته أفضل أم أن يلوث ملابسه؟ فتجالِس السيءَ إذا ثبتت ضرورة! أما أن تجالسه صحبةً ومناجاة ومسامرة فلا.. برتقالة عفنة واحدة ضعها في صندوق برتقال، فبعد يومين أو ثلاثة ترى الصُّندوق كله قد فسد، وهكذا تفسد النفس والأخلاق والإيمان بصحبة الفاسدين وبصحبة المفسدين، ولذلك قال الله تعالى لهؤلاء الضعفاء الذين كانوا يجالسون أعداء النبي ﷺ وأعداء الإسلام: كيف تحبُّ النَّبيَّ ﷺ والإسلام ثم تجالِسُ أعداءَه؟ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ﴾ يعني إذا اجتمعتم بهؤلاء ﴿فَلَا تَتَنَاجَوْا﴾ لا تشاركوهم ﴿بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ﴾ يجب عليكم أنتم أن تقلبوهم، وتقلبوا حديثهم ومجلس الشر إلى مجلس الخير، فتغيِّروا مجلس الكفر إلى مجلس الإيمان، وإذا لم تكن لديك هذه القوة فربما يحولون إيمانك إلى كفر وحبَّك إلى كراهية، فتخسر إيمانَك ودينَك وإسلامَك.. بعد ذلك قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ احذروا عقوبة الله إذا استمريتم على صحبتهم أو مجالستهم أو التناجي والتحدِّث إليهم ﴿الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [سورة المجادلة: 9].
﴿إِنَّمَا النَّجْوَىٰ﴾ هذا التحدُّث والمسامرة والسهرة بالشكل الذي لا يُرضي الله ﴿إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ كان المنافقون واليهود وبخاصة عندما يبعث النَّبيُ ﷺ سرية من السرايا لقتال العدو يجلسون مع بعضهم البعض أربعة أو خمسة أو ستة، وعندما يمرُّ مسلم يبدؤون بالتهامس، ويتناجون سرًّا ليوهموا الصَّحابة أنَّ الجيش قد هُزِمَ! أو أنَّ قريبًا لذلك الصحابي المارِّ كابنه أو أخيه قُتِل! فقال الله سبحانه ﴿إِنَّمَا النَّجْوَىٰ﴾ الذي يتناجى فيه أعداء الإسلام من كفار اليهود والمنافقين ﴿مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ حتى يوهموهم بأخبار سيئة ﴿وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ لا تضع في بالك شيئًا من نجواهم، ولا تناجيهم ولا أسرارهم التي يحاولون كتمها عنك حتى يشوِشُوا بالك أو يُدخلوا الحزنَ إلى قلبك، قُلْ في نفسك: إذا قدَّر الله في سابق علمه أنَّ ابني الذي في الجهاد سيُقتَل فكلامهم هذا لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر ﴿وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ يعني إلا بمشيئة الله وحسب قضائه وقدره ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [سورة المجادلة: 10].
اللهم إنا نسألك حبَّك وحبَّ من يحبُّك وحبَّ عمل صالح يقربنا إلى حبِّك.