تاريخ الدرس: 1992/08/28
في رحاب التفسير والتربية القرآنية
مدة الدرس: 1:29:06
سورة المجادلة: الآيات 7-11 / الدرس 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيد ولد آدم، أميرِ الأنبياء والمرسلين، وعلى أبيه سيدنا إبراهيم، وأخَوَيْه سيدنا موسى وعيسى، وعلى جميعِ الأنبياء والمرسلين، مَن عرفنا ومن لم نعرف، وعلى آلهم وأصحابهم وأحبابهم، والتَّابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وبعد:
تكريم الإسلام للمرأة
فنحن في تفسير بعض آيات من سورة المجادِلة، فما أعظم القرآن وما أعظم الإسلام في تكريمه للإنسان “المرأة”، وتشريفِه لها، ودفاعِه عن حقوقِها، وإرجاعِ كلِّ حقٍّ لها، لتتمتّع به، من غير أن تُهيِّء الاتِّحادات أو الجمعيات أو المظاهرات أو البرقيَّات، أو تمرُّ القرون ومئات السنين وهي مدفونةٌ في ظلامها وظُلمها وظُلُماتها، فيأتي الإسلام ليدافعَ عنها ويُعَنْوِن دفاعَها بالجدال والمجادَلة؛ فيسمِّي سورة باسم دفاعِها: (المجادِلة) هذه التَّسمية تسمية تكريمٍ وتسمية احترامٍ وتسمية تشجيع؛ يعني جادلي عن حقِّكِ أيتها المرأة؛ فإنَّ حقوقكِ في دستور السماءِ محفوظة كالرجل، وليس الرجل أفضلَ من المرأة ولا المرأة بأفضلَ من الرجل، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، ﴿لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾ [آل عمران: 195]، فيأتي إلى سورةٍ من أطولِ سور القرآن فيجعل عنوانَها (سورة النساء)، أيُّ اهتمام للإسلام بالإنسان؟ الإنسان المرأة، والإنسان اليتيم، والإنسان الفقير الـمُعدَم، والإنسان العامل الذي لا يكفيه راتبه فيسمِّيه “المسكين” ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ﴾: الـمُعدَمين ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ [التوبة: 60] الذين واردهم لا يقوم بكفايتهم.
ثم ذكر سوراً للمرأة: سورة التَّحريم؛ فعندما حرَّم النبي ﷺ بعضَ أزواجه على نفسه، قال الله سبحانه وتعالى له: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم: 1] إذا تنازلت أنت عن حقوقك كزوج! لكنَّ المرأة لا تتنازل عن حقوقها كزوجة، لماذا تعمل هذا العمل؟ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ﴾، ﴿لِعِدَّتِهِنَّ﴾: يعني ينبغي أن تُطَلَّق، والخطاب للأمَّة لكنه وُجِّهَ إلى النبي ﷺ إشارة إلى عظيم الاهتمام بحقوق المرأة، أن هؤلاء الذين يظلمون المرأة ليسوا أهلاً أن يُخاطَبوا؛ فيكون الخطاب موَجّهاً للنبي ﷺ والنبي ﷺ يبلِّغ المطلِّقين، يعني كأنَّ الله جل جلاله حَزِنٌ [منزعج] من المطلِّقين لذلك لم يخاطبهم، بل خاطَبَ النبي ﷺ وقال له: “بلّغهم، أنا لن أخاطبهم” وبعد ذلك قال في العدَّة: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ﴾ [الطلاق: 1] البُعد يورِث الجفاء، والقُرب يحرِّك الحب والوِداد، ولو أن الزوج لم يخرجها لكنَّها هي التي تريد أن تخرج فقال لها: “أنتِ أيضًا لا تخرجي”! فما هذا الإسلام المجهول واقعيًّا وعمَليًّا، والمجهول عِلْميًّا وفَهميًّا وفِكْريّاً؟ حتى المرأة المسلمة تقلِّد المرأة الأجنبية تحت عنوان “المطالبة بحقوق المرأة!”.
التقليد الأعمى وقصة البغلين
كان محجوراً على المرأة قبل عشرين سنة في سويسرا التصرُّف بمالها الخاص، فلا تستطيع أن تبيع أو تتصرَّف بمالها إلا بموافقة زوجها، يعني محجورٌ عليها التصرُّف بأملاكها حتى يأذن لها زوجها، أما في الإسلام: فمنذ خمسة عشر قرنًا وهي حرَّة في التصرف بكل حقوقها من غير إذن ولا استئذان إذا بلغت المحيض وبلغت مبلغ النساء.. فالمرأة العربية أو المسلمة تطالب بهذه الحقوق تقليدًا لذلك البغل؛ يقال: بأن بَغلَيْن كان مُحمَّلاً أحدُهما مِلحاً والآخر إسفنجاً، فدخل البغل المحمَّل بالملح وخاض في النَّهر فذاب الملح وتخلَّص من الحِمل الذي كاد أن يقصم ظهره، فأراد البغل الثاني أن يتعلم الثقافة من البغل الأول في مدرسة البغال، لكن لم يلاحظ الفرق بين نوع الحِملين، فأحدهما يحمل ملحًا، والآخر يحمل اسفنجاً، فنزل النهر؛ وكان حمله مثلاً مئة كيلو فلما امتلأ بالماء صار خمس مئة كيلو، فانكسر ظهره! هذا هو التَّقليد الأعمى، من غير عرض ما تقلِّده على العقل الكامل والعلم الصحيح.
وضع المرأة في أوروبا
المرأة في أوربا: أنا كنت أنزل في فنادق فأجد المرأة في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل تزيل الثلج من الشوارع، فهذه المرأة العربية المسلمة تريد حقوق المرأة الأوربية! وهذه المرأة تنظِف الشوارع بالمكنسة الطويلة، وتجلس في الشوارع عند مفترق طرق السِّكك الحديدية حتى تفتح السِّكة لليمين، وتفتح السكة لليسار.. وإذا أباح الإسلام لزوجها التَّعدد حتى الأربعة فذلك للحاجة وللمصلحة والضرورة، ورجَّح وحبَّب الاكتفاء بالواحدة، أما المرأة الأوربية فزوجها له خمس مئة زوجة، فمن خمس مئة زوجة لابدَّ وأن تكون واحدة موبوءة بمرضٍ من الأمراض فيحمل لها هدية الإيدز أو الأمراض التناسلية من سيلان أو قرحات لَيِّنَة وسواها، والمرأة عندنا على مذهب البغال: تريد أن تقلِّد بلا فَهم ولا عِلم ولا هدى ولا كتاب منير.
حكمة الإسلام من فرض العقوبة
ذكر الله جل جلاله “خولة” المجادِلة، وسمَّاها المجادِلة وهذا الوصف ليس وصْفَ ذَمٍّ وتحقير! بل وصْفَ مدحٍ وتكريم ومناصرةٍ وتدعيم، لأن اللهَ ناصَرَ جِدالَها، واستجاب لجدالها وطلبِها، ثم في أثناء القصة تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: “كانت خولة تناجي النبي ﷺ في موضوع زوجها وظهاره وأنا أكاد أن لا أسمع كلامَها” 1 مع كل هذا الإخفات والصَّوت الضَّعيف: ﴿سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾ [المجادلة: 1] ثم بعد ذلك، وبعد أن ذكر القصة ووصف الزوج بالتعنُّت وأنه كذاب حين قال أن زوجته مثلأمِّه، وأنَّ هذا منكرٌ ينكره الله ودين الله والسماء والعقل والأخلاق: ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا﴾ [المجادلة: 2] لم يكتفِ بالتوبيخ والتأنيب؛ بل وضع العقوبة المالية: عتق رقبة، أو تربية نفسية: صيام شهرين متتابعين، وإذا أفطر في اليوم التاسع والخمسين عليه أن يعيد صوم ستين يومًا، أو إطعام ستين مسكينًا، وهذه العقوبات كلها -بعيدة عن السجن، لأنَّ السِّجن تعطيل للقوى العاملة عن العمل، أما العقوبة النَّافعة فعتق رقبة، أو تحرير العبيد والرقيق من أسْرِ الرِّق، وإذا عجز فالصوم ستين يومًا لتقوى إرادته، فلا يستفزه الغضب لأقل شيء، وقد ثبت علميًّا في الصوم الطبي بأن عشرة أيام من الصوم الطبي تطهِّر الجهاز العصبي كلَّه، فتقلِّل من غضبه قليلًا، ويكثر حلمه، ويقوى ضبطه لنفسه، وفي ستين يوم يخرج من الحمق إلى الحلم، ومن سرعة الغضب إلى الهدوء والسكينة والتفكير، وإذا عجز عن الصوم ستين يومًا فلا يعفيه، بل يقول له: ﴿فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾ [المجادلة: 4] لأنَّ إخراج المال بحاجة لمخالفة النفس، وبحاجة لضبط الأعصاب، لأنَّه ليس كلُّ أحد يستطيع أن يتحمَّل إنفاق المال، خاصَّةً إن كان شحيحًا!
ضرورة تعليم الزوجين الأحكام الشرعيَّة للزواج
ثم انتقلت السورة باعتبار أنَّه رغم شكواها وبالصوت الخافت، فقد سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [المجادلة: 7] ألا يعلم ظلامة المرأة المظلومة؟ إذا أباح الله لك الظهار أو الطلاق فلا تظنّنّ أنَّ هذه الإباحة مطلقة غير مقيَّدة، يجب ألَّا يكون فيها ظلم ولا عدوان: ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق)) 2 فالطلاق هدم لشخصية المرأة، وهدم لشخصية الأولاد، وهدم لشخصية الأسرة، وأكثر ما يقع لجهل الزوجين بالحقوق الزوجية المتبادلة بينهما من أخلاق ومن معاملات ومن صحبة ومعاشرة، وقد أوضحها الإسلام كلَّها بصغيرها وكبيرها، فإسلامك في الزواج أن تكون متفقِّهاً بكل الحقوق الزَّوجية، ما لكَ وما عليكَ، وما لكِ وما عليكِ، من كل نواحي الحياة التي تكون تحت ظلِّ الحياة الزوجية، أنا لو يكون بيدي شيء من الأمر لا أعطي إذن زواج للزوجين حتى أمتحنهم فقهيًّا: “أنت تريدين الزواج؟”، “نعم”، “إذن قولي لنا ما حقوق الزوج على الزوجة؟”، وإذ بك تراها لا تعرف؛ اسأل العروس فلا تعرف الإجابة واسأل الحمارة فلا تعرف الإجابة، فهي والحمارة أو الأتان في العلم على حدٍّ سواء، واسأل الزوج “أفندي”: “ما حقوق الزوجة عليك أيها الزوج؟”، يسكت أيضًا! مثل الحمار عندما تسأله “ما حق أتانك عليك؟”، يقول لك “لا أعرف” هؤلاء ينبغي ألا يتزوجوا حتى يعرفوا حقوق الزوجية، يعني هل قيادة السيارة أخطر، أم قيادة الأسرة وبناء الأولاد؟
سؤال آخر لكِ: “ما حقوق الزَّوج؟ وما حقوق الأولاد؟ وكيف تربِّي الأولاد أخلاقيًّا وجسميًّا وتغذيةً؟”
“الأم مدرسة 3 الأم مدرسةٌ أم حمارةٌ؟ أم شُباطيةٌ؟ لا تفكر بالزواج إلا في شهر شباط، [الزواج في شهر شباط “فبراير” موعد تزاوج القطط في سوريا وما حولها، والمقصود أن لا يكون زواج الإنسان كتزاوج البهائم] هذا بُعْد عن الإسلام، فالإسلام عِلْمٌ، ولا يوجد عندها عِلْمٌ، وكل قضية من الأمور الحياتية لها ثقافتها وعلومها وآدابها وأخلاقها، هذا هو العلم.. فإن حوَّلتَ العِلْمَ إلى عمل وبإخلاصٍ وصِدقٍ؛ تكونُ مُسْلِمًا في هذا العمل، ولا نعطيه رخصة بيع وشراء حتى يعرف أحكام الشرع في البيع والشراء، والأخلاق في البيع والشراء، مثل قول النبي ﷺ: ((رحم الله امرَءًا سَمْحًا إذا باع، سَمْحًا إذا اشترى، سَمْحًا إذا اقتضى)) 4 ، أي عندما يطالب بحقوقه، فإذا أراد أن يشتري بيتًا فلا نعطيه ورقة “الطابو” [الملكية] حتى نفحصه في القانون الإسلامي والأخلاق الإسلامية في الجوار، فلعلَّ هذا الذي اشترى البيت يؤذي جيرانه، وجار السوء: اِبْعد عنه ألف كيلو متر، وإذا سلمت من شره يكون شيئًا حسنًا، وعندما يريد قيادة درّاجة نارية يتقدَّم لامتحان وشهادة حتى لا تصبح قيادته دون رخصةٍ إيذاءً للآخرين.
قصة خولة قصة شخصية لكنها دستور لكل المجتمع
بعد أن ذكر الله جل جلاله علمَه بشكوى خولة، وهي قصة شخصيَّة، لكن لتكون دستورًا لكل المجتمع وإلى يوم القيامة، من منطلق أن الله علمَ ظلامتَها وسمع شكواها، مع أنَّ شكواها كان فيها عنف وفيها تجاوز، فكلَّما يقول النبي ﷺ لها: ((حَرُمْتِ عليه)) 5 : تجادله من جديد، فلا تستحي ولا تخجل ولا تهاب: ((إنَّ لصاحب الحق مَقالًا)) 6 فما أعظم الإسلام! فالنُّبوَّة فتحت صدرها للمرأة، والسَّماء فتحت أبوابها للمرأة لتسمع شكواها، وما احتاجت حتى تصدر الحكم لخمسين جلسة ولخمس سنوات أو عشر سنوات، فالشكوى والحكم والمناصرة في الحال ومن دون طوابع أو رسوم: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ﴾ [المجادلة: 1] هل انتصر الله للرجل أم للمرأة؟ من الذي اختصَّه بالعقوبة والملامة منهما إلى يوم القيامة؟ وليس “أوس بن الصامت” وحده الذي استحق هذه الملامة، بل كل من يمشي على هذا الطريق في ظلمه لامرأته وعدوانه عليها هو “أوس”، كما يقول بعضهم
كل عصرٍ فرعونُ فيه وموسى وأبو الجهلِ في الورى ومحمَّدُ
أبو جهل كان واحدًا في زمان النبي ﷺ، وما أكثر أمثال “أبي جهل” في زماننا وعصرنا الحاضر! جهلاً بالإسلام، وأعمال جهل مع المسلمين، ومع من يدعو إلى الإسلام من إيذاء بأشكال مختلفة بالأقوال والأعمال وبحسب ما يتيسر لأبي جهل الزمن.
سعة علم الله تعالى
ثم انتقل الله تعالى من منطلق: ﴿قَدْ سَمِعَ﴾ من قضية جزئية إلى قضية كلية: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: 59] يعني في علم الله الواضح، انتقل إلى القاعدة العامة: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ هذا الخطاب موجَّه أولًا للنبي ﷺ، وبعد النبي ﷺ لكل إنسان، ولم يقل للمرأة “ألم تَرَي” لأنَّ كلمة “تَرَ” المقصود بها الإنسان، والإنسان يشمل الذكر والأنثى، وإن كان بعضهم يسمِّي إنسانة، ويقول: “إنسانةٌ فَتَّانةٌ.. شمسُ الضحى..” [شاهد لغوي] الخلاصة: كلمة “إنسان”، وقد وردت في اللغة العربية “إنسانة” لكنْ على قول ضعيف، وكلمة إنسان تشمل الرجل والمرأة.. فالله تعالى قال: أيها الإنسان من رجلٍ وامرأةٍ ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ يعني: ألم تعلم؟ كأنَّك ترى، ألم تعلم علم اليقين؟ ﴿أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ الَّذي سمع شكواها ونجواها وظلامتها، ولا يسمع فقط شأنها، بل كل ما في السموات والأرض من صغير وكبير، من ظاهر ومستور، في الظلام أو في النور، في الجهر أو في السر، باللسان أو في خفايا وحنايا الصدور ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [المجادلة: 7].
فما معنى إذا كنت تمشي بسيارتك ووراءك سيارة شرطة السَّيْر، وتَرى كيف تطبِّق قانون السير؛ مع هذه المشاهدة والمعاينة هل تستطيع أن تخالف الآمر المراقِب؟ وكذلك نحن الإنسان تجاه أوامر الله ومحارم الله، فأعمالنا وأخلاقنا وكلامنا ونظراتنا وسمعنا وسهراتنا ومقاصدنا ونوايانا وأفكارنا: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق: 16] إذا أردتَ أن تعمل عملًا شائنًا، تغلق ستائر البيت حتى لا يراك طفلٌ أو ابنك الطفل، فتَستحي من ابنِكَ وهو طفل، وإذا أردت أن تعمل عملًا شائنًا يُغضِبُ الله تعالى؛ ألا تستحي من الله؟ تخاف من شرطة السير؛ ألا تخاف من خالق شرطة السير؟ تخاف من السجن، ألا تخاف من سِجِّين؟ سِجِّين: هي مبالغة في السِّجن، في السَّجن “أكل ومرعى وقلَّة صنعة” [قلة صنعة: قلة عمل وشغل]، أما سِجين: ﴿نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ﴾ [الهمزة: 6]، ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [البقرة: 24]! هل أنت مؤمن بالقرآن؟ هل أنتِ مؤمنة؟ مؤمنة بأن الله: ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: 7]؟ كلُّ ما في ضميرك مكشوف لله تعالى، فهو سرٌّ على العبد، لكنه مكشوفٌ للخالق!
تستحي من الإنسان، فهل هذا الإنسان الذي تُخفِي عنه قبائحَكَ أعظم في نفسكَ شأنًا وعَظَمَةً من الله جبَّارِ السماوات والأرض؟ والذي يعلم ما في السماوات والأرض، والذي تكون فيه أعمالك مكتوبة عنده في كتابٍ: ﴿لَا يُغَادِرُ﴾ لا يترك ﴿صَغِيرَةً﴾ [الكهف: 49] من أعمال الظاهر أو أعمال السر والباطن “النفس”، فإذا كان في قلبك مَكر أو حقد أو حسد أو رياء أو سمعة أو غشّ ولو لم تطبِّق فإن الله عز وجل يعلمه.. فعمل القلب هو الأَوَّل، والثَّاني بعده هو عمل الجسد ويُعَدُّ كفرعٍ وظِلٍّ له، لذلك قال الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ [الأعراف: 33] الرِّياء هذا من الفواحش الباطنة، والسمعة أن تعمل العمل الصالح ليسمع بك الناس، وتعمل العمل الصالح ليراك الناس، “سمعة ورياء”، وعند الله لا تستطيع أن تُرائي: ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾، ﴿ألا يعلم من خلق﴾ [الملك: 14]؟ ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16]! وأعمالك التي تعملها يخلق منها الله تعالى -إن كانت حسنات- قصورًا في الجنة أو حوريات أو مناظر أو أنهاراً، ويخلق منها النيران والوديان والدركات في جهنم إن كانت أعمالًا خبيثةً: ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النمل: 90] فانظر ماذا تصنع وماذا تنسج بجوارحك وأعضائك الظاهرة والباطنة في حياتك الدنيا ((هذه أعمالكم أوفيها لكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله)) أنَّ الله لم يضيِّع له عملَه الصالح ((ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسَه)) 7 .
العمى والصمم الحقيقي هو الذي يصيب القلب، والإيمان ادِّعاءٌ يُصَدِّقُهُ العملُ أو يُكَذِّبُه
﴿أَلَمْ تَرَ﴾، إذا كان الشخص أعمى وقلنا له خمس مئة ألف مرة: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ فالنتيجة ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ﴾ [النمل: 80] إذا ناديت للأطرش، مهما ناديت ورفعت صوتك، ومهما ضغطت على مزمار السيارة فلن يسمعك! كان لي أخ اسمه أبو نذير -رحمه الله- كان سائق سيارة، وكان فيه نَزَقٌ [سرعة غضب]، ذات مرَّة وأثناء قيادته للسيارة مرَّ من أمامه رجل مسنٌّ ليعبر الطريق، فضغط على المزمار فما توقَّف ولا تراجع، فكرر الأمر مرة ثانية وثالثة، ثم أوقف السيارة ونزل منها ووبّخه- على حسب غضبه- لكنَّه أيضًا لم يرد عليه، فازداد غضبه أكثر وقال له: “ألم أعجبك؟”، فلم يرد عليه أيضًا، حينها اكتشف أن الرَّجل كان أطرشًا.. إذا كان أطرش الدنيا وأطرش الأصوات فهذا لا يؤاخذ عند الله، أما إذا كان أطرشاً عند سماع كلام الله وأوامره وأوامر رسوله ﷺ؛ فهذا الطرش والصَّمم الذي يجعله من أشقى الأشقياء: ﴿وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ ۖ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ﴾ [النمل: 81] الذي يستمع سماع القبول وسماع العمل هو المؤمن، وإذا سمع ولم يعمل؛ معناه هذا ليس المؤمن الذي أراده الله وهيَّأ له الجنان! فلا تغترُّوا بإيمان القول وإيمان الأماني! فالإيمان ادِّعاءٌ يُصَدِّقُهُ العملُ أو يُكَذِّبُه، فلا تكونوا ﴿مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة: 41].
﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ اكتُشِفَت الآن مجرَّتان تبعدان عن أرضنا وشمسنا سبعة عشر مليار- والمليار: ألف مليون- سبعة عشر مليار سنة ضوئية، السنة بسرعة الضوء، فإذا سار الضوء سنة تسمَّى سنة ضوئية، وكم هي سرعة الضوء؟ في الثانية الواحدة يقطع الضوء مسافة ثلاثمئة ألف كيلو متر، يعني النور يطوف حول الأرض في الثانية الواحدة سبع أو ثماني مرات، فما بالنا إذا كان بين المجرَّتين وبين الأرض سبع عشرة مليار سنة ضوئية! واللهُ تعالى يقول: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ هذا الخطاب للبصير المبصر، أما إذا كان أعمى فيقول له: “لا، لا أرى، ولا أريد أن أرى” يقول له النبي ﷺ: ” يجب أن ترى”، والشيخ يقول له والقرآن يقول له: “يجب أن ترى”، وهو يقول: “لا، لا أريد أن أرى”، فأولئك الذين: ﴿اسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ﴾ [فصلت: 17] فإذا استحب العمى؛ هل اللهُ سبحانه هو الذي استحبّ له العمى والضلال؟ بل هو الذي استحب لنفسه وهو الذي اختار؛ فله: ﴿لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾ [المدثر: 37].
أهميَّة مراقبة الإنسان لله سبحانه
وباعتبار أن أول السورة يتعلق بالكلام والتظلُّم ونجوى خولة رضي الله عنها مع النبي ﷺ، قال ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: 7] إذا تحدّث ثلاث أشخاص ولو سرًّا عن الناس يجب أن يعرفوا إذا سأل أحدهم كم شخصًا هنا؟ يقول: ثلاثة، واحد منهم يقول لهم: “لا، نحن أربعة”، “من معنا؟ لا يوجد أحد!”، يقول لهم: “بل رابعنا: الله”، هذا قرآن، هل أسلمت بهذه الآية؟ في بيعك: أنت والزبون وتنوي أن تغشه وتكذب عليه؛ هل تعلم أنَّ الله ثالثكم وأنَّه تعالى يسمع كلامك، والملائكة تسجِّل بالمسجِّل صورةً وصوتًا، وبعد ذلك سيُسجَّل في كتاب لا يُمحى حتى يستدعيك اللهُ يوم القيامة على مشهد مِن أمم العالَم وكلُّهم يسمعون محاكمتك، ما الذي سيفيدك ساعتئذٍ؟ ذهبَ المالُ وذهب الحكم وذهبت قوّتك، وبقيت أنت والبدوي [البدوي: كناية عن الإنسان الفقير الجاهل] مثل بعضكم، ولو كنت “بوش” [رئيس أمريكا حينها] أو “غوربتشوف” أو “فرعون” أو “قارون”، ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [فاطر: 5] الشباب لا يدوم والقوة لا تدوم والغنى لا يدوم، عندما يموت الإنسان ماذا يأخذ من الدنيا؟ هل تنفعه أوسمته وشهاداته؟ لا تنفعه، بل صارت للقمامة! أوراق “الطابو” [الملكية] يأخذها الأعداء أو الأصدقاء ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197] يا أولي العقول!
﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: 7] يجب أن تكون هذه معنا مثل نفَسنا، أن نعرف أنَّ الله موجود: هل تستطيع أن تقول كلامًا ضد الدولة إذا كان رجل الأمن موجودًا؟ تقول: “يا أخي الأرض مسكونة!” [مثل عامي يُقصد منه أن الآخَر يعرف عنك خفاياك، وتنقل الأرض أخبارك له] ما معنى هذا الكلام؟ إذا كانت مسكونة بالله، ومحضورة بالله، فالله حاضر ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد: 4] إذا كنت تستطيع فقم بمراءاة الله، ولا ترائي الناس؛ تريهم من نفسك أنك صالح في نظرهم أو في سمعهم، والأفضل لك والأنفع أن ترائي الله؛ واجعل من نفسك رجلًا صالحًا في نظر الله وفي سمعه، ومن الرابح أكثر؟ هل الذي يلاحظ الله ويرائي الله ويعمل “سمعةً” حتى يسمع الله به؟ أم من يرائي الناس ليسمع به الناس وهو كاذب؟ وبعد ذلك يا بني
ومهما يكن عند امرِئٍ من خليقةٍ وإن خالَها تخفى على الناس تُعْلَمِ
خليقة: طبيعةٍ، خالها: ظنَّها
إذا أخفيت شيئًا قبيحًا، مهما أخفيته فسيظهر، فكخائن تظهر خيانتك، وكمنافق يظهر نفاقك، ومرائي تظهر حقيقتك.. نسأل الله ألا يفضحنا لا عند الخلق ولا عند الخالق ﴿وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ﴾ لو كنت وحدك فالله معك ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾.
أعمال الخلائق ستعرض عليهم يوم القيامة
﴿وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ﴾ بعد العلم، يعني بعد العلم يوجد حساب: ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [المجادلة: 7] يقول له على مشهد من الأمم: يا فاسد، يا كذّاب، يا خائن، يا ظالم، يا مُتَعَدّ، يا سِكِّير، يا زانٍ، ألم أرسل لك الأنبياء والرُّسل والكتب السماوية، وبلَّغك المبلِّغون في زمانك، هل هكذا كان هواني عندك وعدم اكتراثك بأوامري وخَلقي ونِعمي عليك؟.. هذا الرِّيق الذي في فمك لو جفَّفته لا تستطيع الكلام، ولا يمكن أن تأكل كعكة، لأنها بحاجة للرِّيق، سيجفُّ حلقك، هذا البصاق وحده.. خروجك إلى بيت الخلاء: يزيِّت لك المخرَج من أجل قضاء حاجتك، لو لم يزيِّته لك لمِتَّ بما في أمعاءك، ويقتلك ببولك.
﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ﴾ كم يؤكِّد على علم الله بأعمالنا وبسرائرنا، يقولون: وجدان! الوجدان يحيا ويوجد بالإيمان، أما إذا لم يوجد الإيمان؟ أي وجدان يا بني! الوجدان يعني الأنانية والمصلحة الشخصية، أو المصلحة الأهوائية والشيطانية، يكون بلا فائدة، مثل حكاية العقرب والضفدع، قال لها: “أنا لا أستطيع السباحة أركبيني من شط النهر للشط الثاني وسأدعو لك وكذا وكذا، وإلا سأغرق!” أركبته لوجه الله، وفي منتصف النَّهر لدغها، ولدغة العقرب معروفة، فولولتْ المسكينة وصرخت “لم فعلت هكذا؟ هل هذا جزاء المعروف؟” قال لها: “لا تؤاخذيني، هذا طبعي، والطَّبع غلب التطبُّع” عندها غاصت الضفدع بأعماق النَّهر وتركت العقرب يطفو على وجه الماء، فصار يولول: “سأغرق، أرجوك، ما هكذا عاهدتني” قالت له: “أنت لماذا لدغتني؟” قال لها: “هذا طبعي”، قالت له: “وأنا أيضًا من طبعي: أني أسبح مرة على وجه الماء، وأغوص مرة”.. أسأل الله عز وجل أن يخلّقنا بأخلاق القرآن، وأن يجعل الإيمان ربيعَ قلوبنا، وأعمالنا من ثمار القرآن.. وهل يضرُّك يا ترى إذا راقبت الله هذه المراقبة؟ أخبروني: إذا راقب شخص الله سبحانه، وكان عند مرضاة الله في خلوته وفي جهره، وفي لقائه مع الناس وفي انفراده بنفسه وفي سمعه وفي بصره، وفي بيعه وفي شرائه وفي زواجه وفي طلاقه وفي جواره وفي صحبته، هل يضرُّه إذا سار على صراط الله المستقيم؟ والله لا يضرُّه شيء، هل يغش الله أحداً؟ يعني نصح كل الأمم قبلنا، فهل يغشنا؟ نسأل الله ألا يجعلنا من الغافلين! ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ بأعمالك وبأعمال الكون وتحت الأرض وفي البحار وفي السماوات وفي الفضاء!
خطر المنافقين في الطَّعن بالإسلام
ثم انتقل بعد أن أوضح علم الله وأنَّه: ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ومن جملتها قصة خولة مع زوجها أوس بن الصامت.. وخولة بنت ثعلبة أو خويلة، إذا أراد إنسان أن يسمي وعنده بنات: خولة أو خويلة، وسمَّاها ماذا؟ “المجادِلة” لكن: المجادلة بحق، المجادلة بحق وليس بباطل.
ثم انتقل في ظل علم الله فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ﴾ [المجادلة: 8] النَّجوى: هي التحادث والتكلم بين شخصين أو أكثر بالكلام السريّ المكتوم الذي لا يحبون أن يطَّلع عليه الآخرون، فكان هناك بعض المنافقين في زمن النبي ﷺ يُظهرون إسلامهم مع النبي ﷺ، لأنَّ الإسلام في المدينة صار قويًّا وصار دولةً، لذلك لم يعد أعداء الإسلام قادرين على أن يجهروا بالعداوة، فصاروا يُخفونها بادِّعاء الإيمان وهم كاذبون، لكنَّهم كانوا يكيدون للإسلام ويتعاونون مع اليهود -أعداء الإسلام- وسرًّا فيما بينهم، فيتناجون ويتسامرون ويتحدثون ويتآمرون ويكيدون الدسائس، ويصدون عن سبيل الله ويطعنون بالنبي ﷺ وبالإسلام، والخ.. فهؤلاء المنافقون الذين: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾ [البقرة: 14] بالقلب والعمل والأهداف والتخطيط، ويُظهِرون إيمانَهم أمام سيدنا محمد ﷺ وأصحابِه الكرام رضي الله عنهم، مستهزئين وهم يضحكون ويستهزئون بقولهم: هؤلاء عقلهم قليل ويُصدّقون أقوالنا.. والمنافقون موجودون في كل زمان.. فأسأل الله أن يجعلنا من المؤمنين الصادقين!
وماذا يستفيد الإنسان من النفاق؟ ماذا يستفيد عند الله؟ وفي اليوم الآخر ماذا سيستفيد؟ وبعد ذلك لابدَّ وأن يُكشَف النفاق، ويهان ويُنظَر له باحتقار؛ فلْنتُب كلُّنا من النِّفاق: بيننا وبين الله، وفي إسلامنا، ومع إخواننا، ومع الناس أجمعين، فنكون صادقين ومخلصين للناس أجمعين، ولكن أيضاً بالحكمة، فلا تظهر أسرارك لأعدائك من باب الإخلاص، فهل يُعقل أن تعطي سرَّك لليهود؟ لا! فمع العدو قوله تعالى: ﴿وخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ [النساء: 71]، فهؤلاء المنافقون كانوا دائمًا يجتمعون في السهرات والذهاب والإياب، وأحاديثهم السرِّية كلُّها طعن بالنبي ﷺ وطعن بالإسلام، وتعاون وتحالف مع أعداء الإسلام الذين هم اليهود في المدينة.. ولا يخفى شيء! ولا شيء يبقى مخفيًا!
ومهما يكن عند امرِئٍ من خليقةٍ وإن خالَها تخفى على الناس تُعْلَمِ
لماذا يصير وجهك أسوداً عند الله يوم القيامة وعند أحبابك وإخوانك؟ كن صادقًا ومخلصًا، وكن دائمًا -ليس مع الهوى- كُنْ مع التقوى ومع الله، واللهِ تربح أكثر، ولا تكن مع الشيَّطان ومع نفسك الأمَّارة بالسُّوء؛ واللهِ ستخسر ولن تربح.
المصيبة أن تكون شقيّاً ولا تعرف شقاوتك
والذي لا يصدق فليذهب ويأكل سمكاً يوم الأربعاء ويشرب لبناً ويذهب إلى الحمَّام ويرى نفسه هل يصاب بالجنون أم لا يصاب؟ ذهب المجرِّب وطبَّق الوصفة وخرج عاريًا إلى سوق الحميدية، من حمَّام نور الدين الشهيد في سوق البزوريّة قائلاً: انظروا إلى الكذب، انظروا الكذبة المفضوحة، أنَّ من يأكل سمكًا يوم الأربعاء ويشرب لبنًا، ويذهب إلى الحمَّام يصير مجنوناً.. فقال: الحمد لله هذا يوم الأربعاء، وأكلت بالأمس سمكَاً كثيرًا وشربت كثيرًا من اللبن، وها أنا خارج، كيف ترونني؟ كما أنا لم أصبح مجنوناً، ولم يحدث لي شيء، ربي كما خَلَقْتَني.. كما ولدَته أمه -من دون ملابس- [فكاهة كثيراً ما يقصُّها سماحته في محاضراته، ويعرفها الحضور، لذلك أتى بها سريعاً معقِّباً على الدرس المستفاد منها] هذه المصيبة: أن يكون مبتلىً ولا يرى الابتلاء، ويكون مصابًا ولا يعرف مصابه، ويكون شقيًّا ولا يعرف شقاوته ﴿زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ [فاطر: 8] الله يحمينا يا بني.. ومن أين تسعد؟ من صحبتك للسعداء، ومن أين تشقى؟ من صحبتك للأشقياء، فسهرة أو نظرة أو جلسة أو نزهة قد تفسد عليك إيمانك.. في بعض الأوقات ينتقل الجرثوم أو المرَض عن طريق النَّفَس إلى الصَّحيح، أو أن يشرب من كأس المريض.. والقلوب والأرواح والنُّفوس والأخلاق تتغير بأقلِّ وأدقِّ من هذه الأمور، لذلك فإنَّ صحبة الصالحين والبُعد عن المخذولين والأشقياء والتُّعساء فرض الفروض: ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ﴾ [النساء: 140] بأي شيء؟ بالصُّحبة والمجالسة.. الحكماء يقولون: “قل لي من تجالس ومن تصاحب وأنا أقول لك من أنت”.
النَّهي عن النَّجوى بالباطل
قال ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ ألم تعلم ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ﴾ [المجادلة: 8] التَّناجي والتَّحدُّث والسَّهرات والمؤامرات ضد فلان، ونخرِّب عمل فلان، ونشوِّه سمعة فلان، لماذا؟ هل هكذا أمر الله تعالى؟ لا، هل هكذا أمر الإسلام؟ لا، هل الأخلاق تأمر بهذا؟ وهل العقل السليم يأمر بذلك؟ إنه الهوى، اتخذ إِلَٰهَهُ هواه: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ﴾ مثل التيس أو مثل الثور ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: 43- 44] فإيَّاك أن تكون تَيسًا، أو أضلَّ من التيس وأجهل، ولا تغترّ إذا صدَّقك الناس وكذَّبك اللهُ، وإذا رضي عنك الناس وغضب عليك اللهُ.. واللهِ لن يربح من خسر الله ولو كسب الناس كلهم ((من أرضى اللهَ بسخط الناس رضي الله عليه وأرضى عليه الناس، ومن أرضى الناسَ بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)) 8 .
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ﴾ من هؤلاء؟ الذين كانوا يدَّعون الإيمان وهم كاذبون منافقون كَفَرة، يدَّعون الحب لرسول الله ﷺ، ويبطنون العِداء والحقد والبغضاء لرسول الله ﷺ، يُظهِرون الإسلام، ومن وراء ذلك يعملون على هدم الإسلام.. إن الذي سمع صوت وكلام “خولة” الخافت الذي لم تسمعه السَّيِّدة عائشة رضي الله عنها على بُعد مترين منها، ألا يسمع كلامك ويرى قلبك؟ والملائكة ألا تسجل أعمالك؟ وهل تستطيع إذا كنت في نجوى وحديث باطل أن تقول للملائكة: ابقوا خارجًا لدينا حديث خاص، هل تستطيع؟ هل تستطيع؟
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ﴾ ما النجوى؟ التحدُّث بالأمور السرِّيّة لأهداف خسيسة أو حقيرة أو مضادة لله جل جلاله ولرسوله ﷺ ولدينه وللصالحين من عباده، أو لظلم، أو تآمر على ظلم أو تآمر على ضرر أو لخديعة أو لغش ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم﴾ بما يغضب الله من كل عمل لتهديم دين الله، أو الإساءة إلى الإسلام أو إلى المسلمين، أو التعاون مع أعداء الإسلام من اليهود ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ﴾ ما يوجب لهم الإثم والغضب الإلهي ﴿وَالْعُدْوَانِ﴾ على المؤمنين أو على النبي ﷺ أو على المسيرة الإسلامية ﴿وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ﴾ [المجادلة: 8] عندما يدخل المنافقون أو اليهود على النبي ﷺ كانوا يقولون للنبي ﷺ بدلًا من: “السلام عليك” “السام عليك” يحذفون اللام، ومعنى السام: الموت، ((إنّ هذه الحبّة السّوداء شفاء من كلّ داء إّلا من السّام، قلت: وما السّام؟ قال: الموت)) 9 ، الخلاصة: يعني يُلخِّنون، ألا يقول الناس “يلخِّن” يعني يقول كلمة يوهم فيها الخير لكن هو يلفظها بالشر ويخفيها بعض الخفاء.. يا بني! إنّ التيس لو ألبسته في رأسه رأس ملكة جمال؛ تظهر المسألة أنها زورٌ وبهتان، ويبدو رأسه لابساً رأس ملكة جمال، لكنه يبقى تيساً، وهل يصير ملكة جمال؟ فـاسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا من المؤمنين حقًّا ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ﴾ تذكّر الله ولقاء الله وكلام الله: ﴿وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنفال: 2] تمتلئ من الوجل والحياء والخجل من معصية الله.
الأصدقاء ثلاثة والأعداء ثلاثة
﴿ثُمَّ يَعُودُونَ﴾ مع النهي، ومع الملاحقة، ومع التنبيه ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ [البقرة: 10] لأنَّهم لا يقبلون لا معالجة الطبيب، ولا الدواء من الصَّيدلي، فكيف سيُشفَى من مرضه؟ ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ﴾ أحاديثهم السِّرِّية في خلواتهم الخاصَّة وفي مجالسهم التآمريّة ﴿وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ﴾ بكل ما فيه غضب الله ومعصية الله جل جلاله ﴿وَالْعُدْوَانِ﴾ على الإسلام وعلى النبي ﷺ وعلى الصحابة رضي الله عنهم، وعلى المسيرة الإسلامية ﴿وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ﴾ [المجادلة: 8] لا يقولون له: “السلام عليكم” حتى أنَّهم يبخلون بكلمة السلام، يلخِّنون ويقولون له: “السَّام عليكم”.. إنّ العداء يظهر من الوَجهِ، ومن فَلَتات اللسان، ومن الجلساء والأصحاب؛ فإذا جالستَ عدو إنسان وصادقتَ عدوَّه فهل أنتَ صديقه؟ والصديق الحقيقي لا يصادق عدوَّ صديقه! يقولون: “الأصدقاء ثلاثة: صديقُك، وصديقُ صديقُك، وعدوُّ عدوِّك” هؤلاء الأصناف الثلاثة يكونون أصدقاءك، الأُوَل: الصَّديق، من يصدق في صحبتك، وفي محبَّتك وفي إيصال الخير إليك، “صديقك: صديق، وصديق صديقك” إذا أحببتَ إنساناً فإنَّك تحب كل أحبابه، وإذا أبغضت أحبابه فما هو وصفك؟ تحبُّ النبي ﷺ لكنْ تبغض سَيِّدتنا عائشة رضي الله عنها، تحب النبي ﷺ لكنْ تبغض سيدنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه، أيُّ حبٍّ هذا للنبي ﷺ؟ “وعدو عدوك صديق”، “والعدو ثلاثة: عدوُّك وصديقُ عدوِّك” تحب فلانًا لكن تصادق أعداءه، هذا لا يجوز “وعدوُّ صديقِك” إذا أحببته يجب أن تحبَّ أصدقاءه وتعادي أعداءه، هذه هي الصداقة بالمعنى اللغوي!
إن الله يحب الرفق في الأمر كله
﴿وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ﴾ التَّحيَّة: “حيَّاك الله” يعني الله يعطيك الحياة السعيدة أو الطويلة أو الرغيدة ﴿بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ﴾ [المجادلة: 8] دخل أحدهم على النبي ﷺ وقال له: “السَّام عليكم” بحضور سيدتنا عائشة رضي الله عنها، والسيدة عائشة رضي الله عنها يبدو أنها كانت جالسة ففَهِمَتْ ماذا أراد، والنبي ﷺ أيضًا فهم، يعني هل سيِّدتنا عائشة رضي الله عنها تفهم أكثر من النَّبيِّ ﷺ؟ لكنْه حلم النبي ﷺ وسعة صدر النبي ﷺ، فقالت له السيدة عائشة رضي الله عنها: “عليك السَّام ولعنة الله وغضبه ونكاله” قال النَّبيُّ ﷺ لها: ((يا عائشة! إنَّ الله يحبُّ الرِّفق في الأمر كلِّه)) ((ويكره الفحش والتفحُّش)) 10 الكلام الفاحش والكلام القبيح.. صلى الله عليك يا سيَّدي يا رسول الله! لا مدرسة ولا أستاذ ولا مربٍّ ولا مرشد ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1] تعلمْ وتفقَّهْ وتثقَّفْ من طريق اسم الله وذكره، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 282] العلم النافع والعلم النور، العلم الذي يثمر الأخلاق والفضائل والكمالات والقلوب النقية والصدور الطاهرة.
استعجال المنافقين لعذاب الله جل جلاله
﴿وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ﴾ [المجادلة: 8] ما دمنا نشتمه ونتكلَّم بحقِّه واللهُ لا يعذِّبنا، فلو كان نبيًا لعذَّبنا الله وأَهْلَكَنا، فدليلُ أنَّه ليس نبيًّا أنَّ الله لا يعذبنا، ونسوا كيف أنه ورد في التوراة أنَّ الله عزَّ وجلّ أهلك اليهود وسلَّط عليهم الرومان و”بختُنَصَّر” والعراق وضرب عليهم الذلة والمسكنة، لأنهم كانوا يقتلون الأنبياء بغير الحق، ولكنْ إذا طمس الله جل جلاله على القلب فلا يفرِّق بين الحق والباطل، وبين النُّور والظلام، وهل لدى الأعمى فرقٌ بين الليل والنَّهار؟ ﴿أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24]، ﴿حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ﴾ إذا حَلِم الله عنهم في الدنيا فإنَّ جهنَّم تكفيهم ﴿يَصْلَوْنَهَا ۖ فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [المجادلة: 8] إذا كان مصيرهم هو جهنم فلو عاشوا مليون سنة وكانت آخرتهم هي جهنم فماذا استفادوا؟ لكنْ يا بني واللهِ، لم يتركهم اللهُ في الدُّنيا، أحد الصحابة أحضر رأس أبي جهل للنبي ﷺ وألقاه أمامه كالقمامة المهملة، وعندما رأى النبي ﷺ رأس أبي جهل سَجَدَ لله سجدة الشكر وقال: ((الحمد لله الذي أراني مقتل فرعون هذه الأمة)) 11 النبي ﷺ من كان فرعونه؟ أبو جهل، وسيدنا موسى كان عنده فرعون مصر، وكل عارف بالله، وكل حبيب إلى الله، يجعل له الله فرعوناً، لكنْ ماذا كانت نهاية فرعون؟ الغرق، وعندما أدركه الغرق قال “آمنتُ” قالت له الملائكة: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ﴾ لكن بأي شيء؟ بروحك؟ قال: ﴿بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ۚ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا﴾ ومواعظنا وتعاليمنا ﴿لَغَافِلُونَ﴾ [يونس: 92]، الله لا يجعلنا من الغافلين عن القرآن وعن ذكر الله سواء في الغضب والرضى وفي الـمَطامع والهوى وفي الغَفَلات وفي الحياء من الناس وفي مُسايرة المغضوب عليهم، هذه الغفل لا تجوز يا بني! عليك بقول الحق، هل سيقطع رأسك؟ لا، يقول: لكنَّني أخاف من قول الحق كيلا يسخطوا عليَّ، هل إذا سخطوا عليك ورضي الله عنك أفضل، أم إذا سخط الله وهم راضون؟ أنت تبيع رضى الله بهؤلاء السُّفهاء الحمقى المغضوب عليهم؟
قصة اليهودي: صاعك لم يمتلئ بعد
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بعد أن خاطب الله المنافقين بأنَّه لا يخفى عليه الأمر، وإذا لم يعاجلكم بالعقوبة فليس معناه أنَّكم نجوتم من العقوبة ﴿أُولَٰئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ [هود: 20] يعني لا يستطيعون أن يهربوا من الله، والله قادرٌ على أن يمسك بهم من رقابهم.. يقولون أنَّ أحد بني إسرائيل لم يكن له أولاد، ومن حُمقه يحسد الذين لهم أولاد، وكيف يُظهر حسده؟ كلَّما رأى طفلًا صغيرًا لإنسان يخطفه بشكل من الأشكال، ويقتله في البيت، ولَديهِ بئر فيرميه فيه، وله زوجة مؤمنة، تقول له: “حرام عليك، سينتقم الله منك” فيقول لها: “ها أنا أعمل كل شيء والله لا ينتقم” يعني كأنَّه لا وجود لله ولا وجود للانتقام، تقول له: “صاعك لم يمتلئ بعد” عند يكيلون القمح بالمد وبالنّصف مد، متى يفرغونه؟ [عندما يملأون الإناء متى يفرغونه؟] عندما يمتلئ، وإذا لم يمتلئ يضعون فوقه شيئًا ثم يضيفون شيئاً آخر حتى يمتلئ.. إلى أن قتل آخر طفل، فأهله ذهبوا إلى نبي زمانهم وشكوا له، سألهم النبي وقال لهم: “ماذا كان مع الولد عندما خرج؟” قال: “كان معه كلب” قال: “أحضروا لي الكلب” أحضروا له الكلب فمسح النَّبيُّ على ظهر الكلب وقال له بعض الكلام، ثمَّ قال لهم: “الحقوا الكلب يدلُّكم على ابنكم”، حتى وصل للبيت ودخلت الشرطة إلى البيت، فوصل الكلب للبئر وصار ينبح، فأخرجوه من البئر، وإذ كان هناك عدة أطفال بما فيهم ابن ذلك الإنسان، وعندما أرادوا شنقه قالت له زوجه: “ألم أقل لك لم يمتلئ صاعك بعد، الآن امتلأ صاعُك”
يا بني لنتُبْ إلى الله قبل أن يمتلئ الصَّاع! نتوب إلى الله قبل أن ينزل علينا غضب الله، وكل واحد منا يعرف نفسه “وأنا يجب أن أتوب إلى الله أيضاً؟” النبي ﷺ كان يقول: ((إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مئة مرة)) 12 وهو أشرف خلق الله، فكم مرة علينا نحن أن نستغفر؟ مئة مليون مرة؟ لكنْ ليس استغفاراً باللسان، الاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة تُنال بالتوبة الصادقة!
وَتَنَاجَوْا بالبرِّ والتَّقوى
بعد ذلك وجَّه الله تعالى الخطاب للمؤمنين الصادقين، لأنَّ المؤمن غير معصوم، لكن عليه أن يكون دائمًا في حالة حذر من الوقوع في المرض، والمريض يُعالَج بالعلاج الدوائي، والصحيح يُعالَج بالعلاج الوقائي فيتحصَّن من المرض ومن الجراثيم حتى لا يقع في المرض، فالطِّبُّ الوقائي للمؤمنين الصادقين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ﴾ إيَّاكم أن تعملوا كما يعمل المنافقون ﴿فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ﴾ بغضب الله، وبتخريب دين الله، وبالعدوان على مظلوم، وبالتآمر على عمل من الأعمال الصالحة أو على الصالحين ﴿بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ يتآمرون ويعتدون على فلان بقول أو عمل أو ببيعة أو بشراء أو بزوجة أو بزواج الخ ﴿وَتَنَاجَوْا﴾ إذا سهرتم، وإذا تجالستم في نزهة، وإذا دعيتم إلى طعام ليكن حديثكم نافعاً، وليكن بطريقة البرِّ، وليكن تناجيكم بعمل الخير والأمر بالمعروف والنهبي عن المنكر، وبنصيحة المخطئ وبشد همَّة ضعيف الهمَّة ﴿وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ﴾ [المجادلة: 9] الأمر بتقوى الله، فمن ترك فرضًا من فرائض الله نأمره به بالشكل الحكيم والموعظة الحسنة، وإذا كان واقعاً في حرام ننهاه بالحكمة والموعظة الحسنة أيضًا.
الإيمان بالقرآن هو التطبيق العملي له
هذا هو الإيمان بالقرآن، أما إذا قرأنا بلا فهم وبلا تطبيق، فنحن ألدُّ أعداء القرآن، لأنَّ الذي لم يقرأ ولم يسمع قد يُعذَر، فيقول: “يا ربي لم أسمع ولم يعلمني أحد”، أما بعد أن تقرأ وتسمع التفسير ويكون لديك كتب أو تكون عالماً وتخالف القرآن الكريم وتقول عن نفسك أنك “عالم” فهذا جهل.. عندما ذكر النبي ﷺ زوجته صفية رضي الله عنها، أمام السيدة عائشة رضي الله عنها يظهر أنه مدحها وأجاد، فغارت السَّيِّدة عائشة وقالت له: يعني “حسبك من صفية” إذا ما فيها عيب إلا عيب واحد “أنها قصيرة!” بمعنى ألا ترى كم هي قصيرة ولا تزال تمدحها، فغضب النبي ﷺ، ولم يغضب لأنها ردَّت عليه أو كذا، لا! فالنبي ﷺ كان يسمع الرَّدَّ من الأجلاف ومن البدو ومن اليهود ويتحمَّل، فقال: ((يا عائشة)) لأنَّها يجب أن تكون قدوة، وعليها أن تعلِّم النَّاس ((لقد قلتِ كلمةً لو أُلْقِيَتْ في بحرٍ لأنتنتْهُ)) 13 النبي ﷺ يتكلم بنور البصيرة وبأحوال عالَم الروح، فغدًا بهذه الكلمة قد يصير حولكَ إنتان يعمُّ الفضاء، فكل الملائكة وكل الصالحين يبعدون عنكَ ويطردونك.. قالت: ((يا رسول الله ﷺ ما قلتُ إلَّا ما فيها)) ما كذبت، فهي قصيرة! فقال: ((لو قلتِ غيرَ ما فيها لبهَّتِّيها)) يصير كذبًا وبهتانًا.. وإذا قلت الحقيقة ومرادك التنقيص والذم والتحقير فهذه غيبة، أما إذا سألوك: “نريد أن نخطب فلانة، فما مواصفاتها؟” قلت: “فلانة قصيرة” هذا للتعريف فلا بأس به، أما إن كان بطريق الحقد أو الذم أو السباب أو الشتائم فهذا بمعنى آخر!
﴿وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [المجادلة: 9] خَفْ من الله، وراقب الله، وامتثل أوامر الله، واجتنبْ محارمَ الله، وأحبَّ ما يحبُّه الله ومن يحبه الله، وأبغضْ ما يبغضه الله من أعمال وأخلاق في نفسك أو في الآخرين، وأبغضْ من يبغضه الله من الناس ولو كان أباك، ولو كان أخاك، ولو كان ابنك، ولو كان أعزَّ أصدقائك، فهل سيكون أعزَّ عليك من الله؟ إذا كان الله أعز عليك فترضي الله، وإذا كان غيره أعزَّ عليك من الله فإنَّك ترضيه.. هنا ابحث عن نفسك لتعرف ما مصيرك في الآخرة!
الإيمان القوي يرفض كل الجراثيم سماعاً ونظراً وحباً
﴿إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ﴾ [المجادلة: 10] يعني هؤلاء الذين يدَّعون الإيمان، وتراهم يتهامسون دائمًا، وإذا جاء أبو بكر أو جاء عمر رضي الله عنهما يشيرون إلى بعضهم البعض أن اسكتوا، لأنَّ الناقص في أقل الدرجات يعرف نقصه، والمذنب في أقل الدرجات يعرف نقصه.. فإذا خطف القط [الهِرّ] من المائدة “قرص كبّة” [قطعة من الطعام] هل يأكلها على المائدة؟ أين يأكلها؟ يهرب بها ويأكلها على السَّطح، لأنَّه يعرف ماذا فعل! ﴿إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ﴾ من تسويل الشيطان لضعافِ الإيمان الذين في قلوبهم مرض، والجرثوم متى يتغلّب على الجسم؟ إذا كان جهاز المناعة ضعيفاً، أما إذا كان جهاز المناعة قوياً فإنَّه يتغلب على الجرثوم! هذا في الأمراض الجسدية، وهكذا في الأمراض الروحية؛ فإذا كان إيمانك قويَّاً فإنَّه يرفض كل الجراثيم سماعًا ونظرًا وصحبةً ومجالسةً وميلًا وحُبًّا، وإذا كان العكس “فكل ولْفٍ على وِلْفِهِ يَلفي”، لكن للطبيب أن يجالس المريض، لأنَّ عنده قوة الإنقاذ ونقله من المرض إلى العافية، أما إذا كان لا يملك هذا الاستعداد ويجلس مع الجربان فسيجرب، أما الطبيب فإنَّه يأخذ بكل الاحتياطات.
وقال: لا يهمكم أيها المؤمنون، فمهما عملوا من مؤامرات ومكائد وتستُّر ﴿لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ حتى يضارُّوهم ويؤذوهم ﴿وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ﴾ للمؤمنين ﴿شَيْئًا﴾ من كل مكائدهم ونجواهم ومؤامراتهم ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ ومشيئته، وإذا كان هناك شيء في علم الغيب الأزلي الذي سبق في علم الله أنه سيكون فلا بُدَّ من أن يكون، سواء تآمروا أم لم يتآمروا، وأَخفَوا أم أعلنوا، ولا يعني ذلك أنه إذا كان لا يُرضي الله فهذا عذر لك! لا، لأنك تعمل هذا العمل لا بإجبار الله، وإنما بمنتهى إرادتك واختيارك ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [المجادلة: 10] لا يبالوا بالكائدين ولا الحاسدين ولا المتآمرين، وتكون ثقتهم بالله ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47].

مُلْحَق

آداب المجالس، ولطف القانون الإلهي
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾: بمناسبة آداب وأخلاق المسلم في أحاديثه وفي سهراته وفي مجالسه، يذكر الله جل جلاله بعض الأخلاق الاجتماعية التي تأتي من هذا النوع، وهذه الآية كان لها سبب ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المجادلة: 11] يعني هذه من الأمور البسيطة، بدءًا من خولة ومرورًا بـ ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: 7] مرورًا إلى نجوى ومؤامرات وأحاديث المنافقين في الكيد والتآمر على الإسلام وأهله، إلى: ﴿إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾ فكان سبب نزول هذه الآية أنَّ النبي ﷺ كان جالساً في الصُّفَّة يوم الجمعة، والصفة كانت في مسجد النبي ﷺ، وهي كناية عن “سدّة” [مكان خاص داخل المسجد] من تراب ولِبْن، وكانت مرتفعة حتى يرى النَّاس النَّبيَّ ﷺ، والمسلمون حول النبي ﷺ، ويكاد يكون الجامع ممتلئاً، فأتى بعض الصحابة من أهل بدرٍ، الذين شهدوا غزة بدر- أول معركة في الإسلام- وكانوا قلةً والأعداء في كثرة، وصمدوا حتى نصرهم الله.
فكان النبي ﷺ يُكرِّم أهل بدر حتى أن الصحابي “حاطب” رضي الله عنه لما كتب رسالة لكفار قريش يُعلِمُهم فيها أن النبي ﷺ قادمٌ إليهم بجيش ليجهِّزوا أنفسهم”، والنَّبيُّ ﷺ اطَّلع عليه، فقال سيدنا عمر رضي الله عنه: دعنا نقطع رأسه.. فهذه خيانة عظمى! فالنبي ﷺ قال له: ((ما يدريك يا عمر، لعلَّ الله اطَّلع على أهل بدرٍ فقال: “اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم”)) 14 ، ومع أنَّها خيانة عظمى إلا أن كل ما حدث أنَّ الله تعالى أنزل في الموضوع قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعني لـ “حاطب”، لم يقل: “يا حاطب”.. انظر ما ألطف القانون والمحاكمات الجنائية! لم يقل له: “يا مجرم”، ولم يقل له: “يا خائن”، ولم يقل: “اشنقوه” ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [الممتحنة: 1] العقوبة تربوية، والعقوبة تهذيبية أخلاقية، فما أعظم القرآن! هل نحن نفهم القرآن؟ نتكلم عن تجويد القرآن؟ أي تجويد؟ أيهما أهم؟ التجويد والإجادة بنطق حروفه قلقلةً ومدودًا وغنَّةً وإدغامًا؟ أم الأعظم منه الإجادة والتجويد في فهم معانيه ومقاصده، ثم تحويلها إلى أعمالٍ وسلوكٍ وواقع؟
تعويد اللسان على قول الكلام الحسن
النبي ﷺ كان يقول: ((لو يؤاخذني الله وعيسى بنَ مريم بما جنته هاتان)) ويشير بأصبعيه ((لعذَّبَنا ثم لم يظلمنا شيئًا)) 15 ، ((ولا تُعيِّرْ أخاكَ بما فيه؛ فيبتليَك اللهُ ويعافيه)) 16 ، لا تُعيِّر وتفضح وتشهِّر وتنشر المعايب.. مرَّ سيدنا عيسى عليه السلام مع الحواريين على جيفة، فسدَّ الجميع أنوفهم واجتازوها، ووقف سيدنا عيسى مثل الذي ينظر إلى ملكة جمال! أو المناظر الجميلة فقالوا له: “يا روح الله، يا نبي الله تعال!” فقال لهم: “أنتم تعالوا”، قالوا: “على أيِّ شيء تريدنا أن نأتي؟”، قال لهم: “أنتم تعالوا لأريكم”، فجاؤوا كلهم، فقال لهم: “انظروا إلى هذه الجيفة ما أشد بياض أسنانها!” هل ترون بياض أسنانها؟ قالوا له: “يا نبي الله ألا ترى هذا الدود الذي فيها، وهذه الروائح التي تكاد تقتل الروح في الجسد، وهذا المنظر البشع؟” فقال لهم: “أحببتُ أن أعوِّد لساني الكلام الحسن!”
كان النبي ﷺ لا يُقابل أحدًا بما يكره، فإذا عمل أحدهم سوءًا أو عملًا ناقصًا، كان يقول: ((ما بال أقوامٍ يفعلون كذا وكذا)) 17 ، وما يدريك بهذا المسيء إذا تاب وتاب الله عليه؟ فهل أنت مستشار الله وهل الله لم يشاورك فيه بعد؟ يعني: إذا لم يشاورك فيه فهو لا يزال غير تائب! ما يدريك لعلَّ خاتمته تكون أفضل من خاتمتك؟ فيختم الله لك بخاتمة سوء ويختم له بخاتمة صالحة، يقول النَّبيُّ ﷺ: ((إن أحدكم ليعمل بطاعة الله سبعين سنة)) سبعين سنة في التقوى والصلاح ((حتى لا يبقى ما بينه وبين الجنة إلا مقدار ذراع فيسبق عليه الكتاب)) علم الله الأزلي ((فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا مقدار ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيكون من أهلها)) 18 ، لا تعيِّر أخاك بما فيه، فيبتليك الله ويعافيه!
آداب المريد الصَّادق
جاء فئة من أهل بدر “البدريين” والمسجد مزدحم، قالوا: “السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم أيها المسلمون”، فقد سَلَّموا، ولا يوجد مكان لجلوسهم فظلُّوا واقفين؛ فشقَّ ذلك على النبي ﷺ.. وكان النبي ﷺ لا ينسى لأهل السوابق الفاضلة سابقتهم، ولم يقم لهم أحد ليجلسوا، فالنَّبيُّ ﷺ قال لهم ((قم أنت يا فلان)) “قم أنت، قم أنت، قم، قم.. تعالوا تفضلوا إلى هنا”، لأنَّه كان يقول: ((لِيَلِيَني منكم)) ليكن قريباً مني ((أهل الأحلام والنُّهى)) 19 أصحاب العقول، وأصحاب السَّوابق في الإسلام، الذين خدموا الإسلام بِمُهَجِهم وأرواحهم ولهم ماضيهم، هؤلاء يكونون قريبين مني! أما أن يجلس أبو هريرة رضي الله عنه على يمين النبي ﷺ وأبو بكر رضي الله عنه بالعتبة، لا يصح! كان النَّبيُّ ﷺ يقول: ((أُمِرْنا أن نُنزِّل الناسَ منازلهم، وأن نخاطبهم على قدر عقولهم)) 20 .. أن يقوم فلان فهذا شيء يكسر الخاطر! فالذين قاموا ظهر على وجوههم الزَّعَل “هل يعني أننا غير جيدين؟ وهل يعني أنَّ هؤلاء أفضل منَّا؟”
إذا أردت أن تكون مؤمنًا ومع النبي ﷺ وتريد أن تقدِّم رأيك على رأي النبي ﷺ وعقلك على عقل النبي ﷺ، فإنَّ الله تعالى قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [الحجرات: 1]، والخضر قال لموسى عليه السلام: ﴿فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾ [الكهف: 70]، والمريد مع الشيخ يريد أن يكون هو أستاذ الشيخ، وهو يُعلِّم الشيخ والشيخ يتعلّم منه! هذا ليس مريداً ولا أديباً وليس عنده فهم، ومن الذي يأمره الشيخ بأن يقوم ويعطي مكانه للقادم؟ الذي يكون له كل الثقة بمحبته وصدقه وإخلاصه، فإذا أقامك فافرح، وقل: “لو لم يكن الشيخ يُحبّني ويعرف أنَّ حبِّي لا يتغير، ما أقامني وأجلس الغريب مكاني!” هل إذا قال الأب لابنه: “قم” وقال للغريب: “اقعد” فهل هذا يعني أنه يحب الغريب أكثر من ابنه؟ على العكس، بل عليه أن يفرح بها كثيراً ويحتفل، وإذا قال له: “امسَح لهم أحذية الضيوف”؟ قولوا آمين: أسأل الله أن يرزقنا الفهم والذوق والتوفيق الإلهي!
جاء دور الصيادين في الماء العكر، وصار موسمهم، أولئك الذين اسمهم “المنافقون”، فقال المنافقون للصحابة بعد أن انفضَّ المجلس: أنتم تدّعون أنَّ محمدًا ﷺ نبي، أليس كذلك؟ “ألستم تزعمون أن صاحبكم” ولم يقولوا “صاحبنا”، وأيضاً ليس “نبيكم” وليس “نبينا” وإنما “صاحبكم” كما نقول: هذا صاحبك! [على وجه التقليل، وإظهار أنك مخدوع بهذا الذي تحب] “ألستم تزعمون أن صاحبكم يعدل بين الناس؟ واللهِ ما رأيناه عدل في هذا ولا في غيره” لأنَّ الذي يضع منظاراً أصفراً يرى الأبيض والأحمر والأخضر وكلَّ شيء أصفراً، والذين في قلوبهم عَمىً لن يرَوا جَمال النبوّة؛ لا في حكمها ولا في حكمتها ولا في أخلاقها ولا في شريعتها.. “واللهِ ما رأيناه عدل قبلها حتى يعدل في هذه” انظروا إلى الغيرة! فقد غاروا على المؤمنين وأحباب النبي ﷺ، وقالوا: “إن قومًا أخذوا مجالسهم ومكانهم وأحبُّوا القرب من نبيِّهم، انظروا كيف يُهينهم!” يريدون أن يثيروا الصحابة ويُغيّروا لهم إيمانهم، حتى يقولوا: “نعم والله! فهل نستحق نحن هذه المعاملة! النبي ﷺ ليس محقاً”، فصارت الغيرة على من؟ على الصحابة وصارت الحَملة على النبي ﷺ، وهم لا يحبُّون النَّبيَّ ﷺ ولا يحبُّون الصحابة رضوان الله عليهم، وهم يريدون أن يقضوا على النبي ﷺ وعلى الصحابة الكرام وعلى الإسلام وعلى المسلمين، ولكن ضعفاء العقل ينفعلون بهذه المواقف، ويقولون: نعم يا أخي فالنَّبيّ مخطئ، نحن جئنا قبلهم، ويجب أن يكون المكان لنا!
ما معنى أنت مؤمن برسول الله ﷺ يا بني؟ وما معنى “اسمعوا وأطيعوا”؟ قد يُطلب منك في بعض الأوقات أن تبذل حقك لمصلحة الإسلام ولتكريم السابقين حتَّى يصير كل النَّاس بَدريِّين.. وهل هناك بدر واحد فقط في التاريخ الإسلامي؟ بل هناك خمس مئة ألف بدر؛ “اليرموك” أليست بدرًا؟ و”القادسية” أليست بدرًا؟ والآن يوجد بدر، وما هي بدر؟ هي عندما تبذل في سبيل الإسلام في حال ضعفه.. وكذلك الصدِّيقين، فهل الصدِّيقون فقط أبو بكر الصديق رضي الله عنه؟ الصديقون موجودون إلى يوم القيامة
كلُّ عصرٍ فرعون فيه وموسى وأبو الجهل في الورى ومحمَّدُ
أسأل الله أن يجعلنا من بدريِّي زماننا! أن نناصر الإسلام، ونعمل له، ونبذل في سبيله كل ما نملك في حدود الحكمة والمنطق وحُسن النتائج، فلعل الله أن يلصقنا بقافلتهم رضي الله عنهم!
فجاؤوا حتَّى يثيروا الفتنة ويصطادوا بالماء العكر، يقولون لهم مادحين: “أنتم وأنتم.. أنتم عملتم مع النبي ﷺ كذا وكذا، وساعدتم النبي ﷺ، وقدَّمتم أموالكم، وبعد كلِّ ذلك يهينكم هذه الإهانة؟”، “إن قومًا أخذوا مجالسهم” يعني أنتم “وأحبُّوا القربَ من نبيِّهم، فجعل يقيمكم ويُجلِسُ من أبطأ عنكم”، يعني: “هم جاؤوا متأخرين، وأنتم السابقون وأصحاب الحق، والذين جاؤوا بعدكم كسالى، وجاؤوا في آخر الوقت، ويجلسهم مكانكم وأنتم تقومون وتقفون؟ هل هذا عدل؟ هل هذا هو النَّبيُ ﷺ؟” الآن ألا يحدث هكذا؟ يقول لك: “هل هذا الشيخ؟ هل هذا كذا؟” وهو لا يحبُّ الشيخ، ولا يحبُّك ولا يحبُّ الدِّين ولا يحبُّ الإسلام، وغيرته للشيطان وليس للإسلام، ولكنَّ “الدبَّان يُهَدِّي على فم اللبّان” [مثل شعبي: الذباب يقف على فم صانع اللبن] هل ترى الذُّباب في الحدائق الجميلة الظريفة؟ أو في الصالونات المعقَّمة المنظَّفة بالعطور؟ وإنما على الفطائس وعلى المزابل.. فأسأل الله ألا يجعلنا مزابل لوساوس أعداء الله وأعداء رسوله ﷺ وأعداء أحبابه، وأن لا يجلسوا في قلوبنا أو يستقروا في عقولنا.
القصة يا بني: محبة لحظة تجعلك من أسعد السعداء، وتأخّر خطوة للوراء يمكن أن تشقيك وتحرمك السعادة طول الحياة! ﴿لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ﴾ [الحجرات: 2] إذا رفعت صوتك فوق صوت النبي ﷺ، يقول: ما الَّذي حدث؟ لكنْ لو كنت تحبّه الحب الحقيقي لا تستطيع أن ترفع صوتك؛ لأنَّ الحبَّ أعظم معلم، ولو كنت تحبه الحب الحقيقي لا تستطيع أن تعمل أو تنطق أو يخطر على بالك شيء يتنافى مع صدق المحبة.. فأسال الله أن يرزقنا الحب بمعناه الحقيقي لله ولرسوله ﷺ ولأحبابه.
مداراة الناس
فبلغَ ذلك النبيَّ ﷺ، فصار يقول: ((رحم الله امرَءًا يفسح لأخيه)) 21 يعني هل قال ذلك مراعاةً لهؤلاء المنافقين أم تألُّفًا لقلوبهم؟ الذي كان يقول في هذا السبب: ((أُمِرْتُ بمداراة الناس كما أُمِرْتُ بإقامة الفرائض)) 22 ، فكانوا يقومون بعد ذلك فيفسح القوم لإخوانهم، ونزلت هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا﴾ [المجادلة: 11] اذهبوا إلى مكان آخر، مادام النبي ﷺ يقول فافعل، فهل تريد أن تقدِّم عقل النبي ﷺ على عقلك؟ أم عقلك على عقل النبي ﷺ وعلى الوحي؟ أم كلثوم إذا قالت لأحدهم “قم” ألا يقوم؟ بل يضع حذاءها على رأسه، وإذا قال ذلك عبد الوهاب؟ [أم كلثوم وعبد الوهاب مغنيان مصريان مشهوران] لما مات [الرئيس المصري] عبد النَّاصر هناك أناس رموا أنفسهم من الطابق الرابع والخامس، وماذا فعل لهم؟ الشيخ يُرَبِّيك عشرة وعشرين وثلاثين وأربعين سنة، ثم يأتي أحد الشياطين الصغار ليلعب بعقلك! ويجعل رأسك لتحت وأرجلك لأعلى، هل أنت مريد يا بني؟ بماذا تقابل الطبيب الذي يعالجك والمحامي الذي تشاوره؟ تدفع في كل جلسة ذاك المبلغ الكبير برضى منك وابتسامة وشكر، وبماذا تقابل الشيخ الذي صرف حياته كلها من أجلك لوجه الله تعالى؟
حكى لي أحد إخواننا الأطباء- أظنه الدكتور محمود- جاء وعنده أحد المرضى الصائمين، واستشاره بمسألة في موضوع الصِّيام قال له: كذا وكذا، ثم جاء ليدفع له فقال له الدكتور: أنا لم أعمل لك شيئًا”، قال له: “ألم آخذ من وقتك؟” وهذه استشارة، هذه الاستشارة تذهب لعند المحامي فتجده قد كتب: “الاستشارة بمبلغ كذا”، والطبيب أيضًا، أما الشيخ فتقعد عنده ساعة وساعتين وتضايقه كثيراً، وتعيش عشرين وثلاثين سنة ولا تشعر بحقِّه عليك؛ لا الحق الكبير ولا الحق الصغير، فقط تقول “أرأيتم قد عدل؟” تنتظر قضيَّة لتستغلّها بحسب أهوائك وأنانيتك وشيطانك الذي يركبك حتى تجعل من نفسك أفهم من الشيخ وأعلم من الشيخ وتريد أن تكون أستاذ الشيخ.. هل ندعو الله أن يقلل المريدين المزوَّرين؟ لكن لا نجرؤ، والأفضل أن نقول “اللهم اهدهم” لأنَّه يجب أن نكون أطباء لا قضاة.
أقل مراتب المريد الصادق مع شيخه أن يعتبر نفسه كالمريض مع الطبيب
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا﴾ ارتفع.. انهض إلى القتال أو إلى عمل الخير أو قم من المجلس فقُمْ ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ﴾ الذي يمتثل ﴿وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11] يعني إذا قال لك النَّبيُّ ﷺ: “قُمْ” فهذا ليس تحقيرًا لك، بل هذا رفعة لدرجتك، فلو لم يثق النَّبيُّ ﷺ بإيمانك ومحبتك لما أمرك بهذا الأمر، وإذا لم ترضَ فمعناه أنك رفضت هذه الدرجة العالية والمنزلة الرفيعة.. هل على الشيخ أن يكون كيفما تريد دائمًا؟ ألا يجب أنت أيضًا أن تكون كما يريد؟ فإذا رأى شيئًا لا يصلح حينها أن يعتذر؛ فهل عليه أن يشرح لك ويقول: “قُمْ، لأنَّ فلانًا الفلاني.. وفي المصلحة الفلانية.. وفي الأمر الفلاني، ولأنَّه.. ويمكن في الأيام القادمة أن يخدم دين الله أو ينقذ هالكاً أو كذا، ويعمل لك محاضرة حوالي ثلاث أرباع الساعة أو ساعة حتى تقوم يا أفندي”؟ بئس هذا المريد! وبئس المريدون من أمثاله! وهل هذا مريد!
وأنت لا تسأل الطبيب: “لماذا أ كثرت الدواء، ولماذا أكثرت من الإبر، ولماذا الإبر هكذا، ولماذا الدواء مرٌّ، ولماذا الدواء حلو، ولماذا خمسين إبرة؟” لا تسأله! لأنَّك تعرف أنَّه أعلم بوصولك إلى الشفاء وخلاصك من الدَّاء.. وأدب المعلِّم والمتعلم ذكره الله تعالى في القرآن الكريم في سورة الكهف، قال: ﴿فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ﴾ ليس سؤال العلم والاستفهام؛ وإنما سؤال النقض والاعتراض ﴿حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾ [الكهف: 70]! حتى يكون المريد مريداً صادقاً ينبغي عليه في أقل المراتب أن يعتبر الشيخ معه كالطَّبيب مع المريض، وكالدَّليل في الصَّحراء لمن لا يعرف الطَّريق في الصَّحراء، فإذا قال له: “الطَّريق من هنا وعرٌ، ومن هنا وادٍ، ومن هنا جبل، وامشِ من هنا” يجب أن يمشي.. وعندما يصل في النهاية إلى بلده يقول له: “جزاك الله خيراً”.. وأنا لا أعني واحداً منكم، لكنْ لو فرضنا أنَّ أحدكم لم يفهم فليقل هو شيخي وأنا تلميذه، أنا متعلم وهو المعلم.. والموَفَّق لا يخطر في باله شيء.. ﴿وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا﴾ ارتفعوا، وانهضوا إلى الأخلاق العالية؛ هذا من التواضع، وهذا من الإيثار ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ﴾ [الحشر: 9].
ينبغي أن نكون مع أوامر النبي ﷺ وورثته أن نقول سمعنا وأطعنا
بعد ذلك قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11] فامتثالكم مع رضاكم ومع سروركم بامتثال أمر النبي ﷺ هذه رفعة درجات لكم، والصحابة لم يقولوا شيئًا ولا ظهر منهم شيءٌ، أما المنافقون هم الذين غاروا على الصَّحابة، وهل كان ذلك غَيرةً على الصحابة أم هدمًا لدين الله؟ فـالذي لا يعرف كيف يفرق بين العدوِّ والنَّبيِّ ﷺ، وعدوِّ الإسلام وعدوِّه، وجاءه حتى يكمّل له دينه وإيمانه ويستغلّ هذا الأمر الطارئ لقلة فهمه فهذا يُقال فيه
أيها القوم الذي في المدرسة كل ما عُلِّمتُموه وسوسة كل مَن لم يعشَقِ الرَّبَّ الحبيب ماله في النشأة الأخرى نصيب كل مَن لم يعشَقِ الشيخَ الحسن قَدِّمِ الجُلَّ إليه والرسن
لا يكفي أن تكون محبًّا، بل يجب أن تكون عاشقًا، والعاشق لو وضعه معشوقه على المزبلة لا يرى المزبلة؛ لأنَّ عقله وفكره أين؟ في المزبلة أم بوجه الحبيب؟ ولو وضعه في العتبة فليس له تفكير إلا أن ينظر إلى وجه من يحب، وإلى رضاء من يحب! هذا الحب يا بني!
﴿وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ﴾ بامتثالكم لأمر النبي ﷺ، فإن أمرنا أن نكون فوق نلتزم الأمر، وإن أمرنا أن نكون تحت نلتزم الأمر ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [النور: 51]، ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ﴾ [النساء: 65] ((العلماء ورثة الأنبياء)) 23 ، يا بني: أنا لم آمر أحداً بمعصية، ولا سكتّ عن هضم حق، وفي بعض الأوقات أتنازل عن كل حقوقي وأتحمَّل الإيذاء في سبيل خدمة الإسلام، فيأتي أحدهم ليجعل من نفسه أفهم من الشيخ وأعلم من الشيخ وأرحم من الشيخ وكذا وكذا! ويريد أن يُعلِّم الشيخ! إذن اجعل من نفسك شيخًا، ولماذا جئت إلى الشيخ؟
﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ﴾ المؤمن يمتثل إيمانًا، وأما الذين ﴿أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ يعرف أنَّ المصلحة-مصلحة الإسلام- أن يفعل الذي فعله رسول الله ﷺ، وهو هنا تكريم من يستحق التكريم.. ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة: 11] إذا فرّغت المكان طاعةً لله وطاعةً لرسول الله ﷺ فالله يعطيك مكاناً في الجنَّة ودرجة أعلى من هذا المكان، وإذا فعلته بغير الرضى وبغير القبول فقد تُحرَم الثواب، وإذا خرجت وشتمت وقلت: “أنا جئت باكرًا، ويضعني النبي ﷺ في الخلف؟” فاجعل أنت من نفسك رسول الله! فأسأل الله أن يوفقنا يا بني، وأن يرزقنا التوفيق في صحبة أهل السعادة.
وإذا سَخَّرَ الإلهُ أُناسـ ـًا لِسَعِيْدٍ فإنَّهم سُعَداءُ
وأسأل الله أن يرزقنا حُبَّ أحباب الله، وأن يبعدنا عمَّن لا يحب أحباب الله.. كان من دعاء النبي ﷺ: ((اللهمَّ إنِّي أسألك حبَّك وحبَّ من يحبُّك وحبَّ عملٍ صالحٍ يقرِّبني إلى حبِّك)) 24 ، أسأل الله أن يجعل نيتنا صالحة، وعملَنا صالحاً، وأن يجعل كلَّ ما نعمله لوجه الله ناجحًا، ليس فقط في الآخرة، فالآخرة مضمونة، بل في الدنيا والآخرة.
[سماحة الشيخ رحمه الله يلقي هذه المحاضرة في مسجده وبين تلامذته، وهو مربٍّ، وهذا التوجيه التربوي لإخوانه ومريديه، وليس في محاضرة عامة، ومن الضرورة أن نتذكر ذلك لنفهم الحكمة من كلامه وتوجيهه].
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- سنن النسائي، كتاب الطلاق، باب الظهار، رقم: (5654)، (3/ 368)، سنن ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب الظهار، رقم: (188)، (1/ 67)، بلفظ: ((عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ لَقَدْ جَاءَتْ خَوْلَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ تشْكُو زَوْجَهَا فَكَانَ يَخْفَى عَلَىَّ كَلاَمُهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا}.
- سنن أبو داود، كتاب الطلاق، باب في كراهية الطلاق، رقم: (2178)، (1/ 661)، سنن ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب حدثنا سويد بن سعيد، رقم: (2018)، (1/ 650)، عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
- سماحة الشيخ يشير إلى البيت: الأم مدرسة إذا أعدَدْتَها أعدَدْتَ شعبًا طيب الأعراقِ
- صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع ومن طلب حقا فليطلبه في عفاف، رقم: (1970)، (2/ 730)، صحيح ابن حبان، رقم: (4903)، (11/ 267)، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
- الطبقات الكبرى لابن سعد (8/ 379)، جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي (18/ 20)،
- صحيح البخاري، كتاب الوكالة، باب الوكالة في قضاء الديون، رقم: (2183)، (2/ 809)، وصحيح مسلم، كتاب المساقاة، بَابُ مَنِ اسْتَسْلَفَ شَيْئًا فَقَضَى خَيْرًا مِنْهُ، وَخَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً، رقم: (1601)، (3/ 1225). بلفظ: ((عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَقَاضَاهُ، فَأَغْلَظَ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالاً»، ثُمَّ قَالَ: «أَعْطُوهُ سِنّاً مِثْلَ سِنِّهِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا أَمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ، فَقَالَ: «أَعْطُوهُ، فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً».
- صحيح مسلم كتاب البر والصلة والآداب باب: تحريم الظلم، رقم (2577)، (4/ 1994)، واللفظ: يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً، فليحمد الله ومن وجد غير ذلك، فلا يلومَنّ إلا نفسه»، عن أبي ذر رضي الله عنه.
- صحيح ابن حبان، رقم: (277)، (1/200)، ومسند عبد بن حميد، رقم: (1524)، (2/63)، بلفظ: ((قَالَ: مَنْ أَرْضَى الله بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ الله النَّاسَ، وَمَنْ أَسْخَطَ الله بِرِضَى النَّاسِ، وَكَلَهُ الله إِلَى النَّاسِ)) عن عائشة رضي الله عنها.
- صحيح البخاري، كتاب الطب، باب الحبة السوداء، رقم: (5363)، (5/ 2153)، سنن ابن ماجه، كتاب الطب، باب الحبة السوداء، رقم: (3449)، (2/ 1141)، عن عائشة رضي الله عنها،
- صحيح البخاري، كتاب استتابة المرتدين، باب إذا عرض الذمي وغيره بسب النَّبي صلى الله عليه وسلم، رقم: (6528)، (6/ 2539)، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ عَلَى النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ: ((يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّه)) قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: ((قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ))، وفي رواية أخرى في صحيح مسلم، كتاب الآداب، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم، رقم: (2165)، بلفظ: ((حدثنا الأعمش بهذا الإسناد غير أنه قال: ((ففطنت بهم عائشة فسبتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش والتفحش))، وزاد فأنزل الله عز وجل {وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله}.
- مسند أحمد، رقم: (4246)، (1/ 444)، مصنف ابن أبي شيبة، رقم: (37852)، (14/ 373)، المعجم الكبير للطبراني، رقم: (8469)، (9/82)، واللفظ: عن عبد الله بن مسعود، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فقلت: إني قد قتلت أبا جهل، قال: «الله الذي لا إله غيره، لأنت قتلته؟» قلت: الله الذي لا إله غيره لأنا قتلته، فاستخفه الفرح، فقال: «مر أرنيه» فانطلقت به حتى وقفت به على رأسه، فقال: «الحمد لله الذي أخزاك، هذا فرعون هذه الأمة، جروه إلى القليب» قال: وقد كنت ضربته بسيفي فلم يحك فيه، فأخذت سيفه فضربته به حتى قتلته، فنفلني رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه.
- سنن ابن ماجه، كتاب الأدب، باب الاستغفار، رقم: (3815)، (2/ 1254)، مُصنف ابن أبي شيبة، كتاب الدعاء، ما ذكر في الاستغفار، رقم: (30055)، (10/ 297)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
- سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة، رقم: (4875)، (2/ 685)، بلفظ: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته»، سنن الترمذي، باب ما جاء في صفة أواني الحوض، رقم: (2502)، (4/ 660)، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها.
- متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الجاسوس، رقم: (2845)، (3/ 109)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم، رقم: (2494)، (4/ 1941)، عن عَلِيٍّ رضي الله عنه.
- صحيح ابن حبان، عن أبي هريرة، رقم: (659)، (2/435)، أبو نعيم في الحلية: (8/132)، بلفظ: ((لو أنَّ الله يؤاخذُني وعيسى بذنوبنا- وفي رواية: بما جنت هاتان يعني: الإبهام والتي تليها- لُعذَّبَنا ولا- وفي الرواية الأخرى: ولم- يظلِمنا شَيئاً)).
- سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب، (2506)، (4/ 662)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (6777)، (5/ 315)، بلفظ: ((لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيكَ))، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ
- حديث: (ما بال أقوام) له روايات كثيرة منها البخاري عن أنس، كتاب الصلاة باب رفع البصر في السماء رقم: (750). وسنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في حسن العشرة، رقم: (4788).
- صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، رقم: (3036)، (3/ 1174)، صحيح مسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، رقم: (2643)، (4/ 2036)، بلفظ: ((فَوَاللَّهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ أَوْ الرَّجُلَ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ بَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ أَوْ ذِرَاعَيْنِ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا))، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ رضي الله عنه.
- صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامته، رقم: (432)، (1/ 323)، سنن أبي داود، باب من يستحب أن يلي الإمام في الصف، وكراهية التأخر، رقم: (674)، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ وَيَقُولُ: اسْتَوُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ).
- نوادر الأصول في أحاديث الرسول للحكيم الترمذي، (1/ 209)، بلفظ: ((أُمِرنَا أن نُنزل النَّاس مَنَازلهم))، وفي سنن أبو داود، كتاب الأدب، باب في تنزيل الناس منازلهم، رقم: (4842)، (2/ 677)، بلفظ: ((أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ))، عن عائشة رضي الله عنها، وفي مسند الفردوس للديلمي، رقم: (1611)، (1/ 113)، بلفظ: ((أمرت أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ))، عن ابن عباس، وفي الضعفاء الكبير للعقيلي، رقم: (2053)، (4/ 425)، عن سعيد بن المسيب، بلفظ: ((إنا معشر الأنبياء كذلك أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم))، وفي مسند الفردوس، رقم: (111)، (1/10)، عن جابر بن عبد الله، بلفظ: ((أيها الناس جالسوا الناس على قدر أحسابهم وخالطوا الناس على قدر أديانهم وأنزلوا الناس على قدر مرؤاتهم وداروا الناس على قدر عقولهم)).
- السيرة الحلبية، (2/280)، بلفظ: ((كان صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر ويقدمهم على غيرهم. ومن ثم جاء جماعة من أهل بدر للنبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في صفة ضيقة ومعه جماعة من أصحابه فوقفوا بعد أن سلموا ليفسح لهم القوم فلم يفعلوا، فشق قيامهم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لمن لم يكن من أهل بدر من الجالسين: قم يا فلان، قم يا فلان بعدد الواقفين، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجه من أقامه، فقال: «رحم الله رجلاً يفسح لأخيه» فنزل قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا [المجادلة: الآية 11] الآية فجعلوا يقومون لهم بعد ذلك» أي ولعل المراد يجلسونهم مكانهم.))، تفسير ابن كثير، تفسير سورة المجادلة، في قوله تعالى: {فَافْسَحُوا يَفْسَح اللَّه لَكُمْ}، (13/ 457)، عن مُقَاتِل بْن حَيَّان.
- فيض القدير للمناوي، رقم: (1695)، (9/ 70)، مداراة الناس لابن أبي الدنيا، رقم: (4)، ص: (25)، عَنْ زَيْدِ بْنِ رُفَيْعٍ، بلفظ: ((أُمِرْتُ بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أُمِرْتُ بِالصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ))، ثلاثة مجالس من أمالي ابن مردويه، رقم: (42)، ص: (215)، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها.
- ذكره البخاري في بَابٌ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ في المقدمة دون سند. سنن أبي داود، أول كتاب العلم، باب الحثُّ على طلب العلم، رقم: (3641). والتِّرمذيُّ، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682). سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحثُّ على طلب العلم، رقم: (223)، عن أبي الدرداء.
- سنن الترمذي، أبواب تفسير القرآن: باب من سورة ص، رقم: (3235)، (5/368)، مسند أحمد، رقم: (22109)، (36/422)، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه