تاريخ الدرس: 1981/02/08

في رحاب الآداب والأخلاق

مدة الدرس: 01:17:00

في رحاب الآداب والأخلاق (103): تارك الصلاة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصَّلوات وأعطر التّحيات على سيِّدنا وحبيبنا مُحمَّد خاتم النبيّين والمرسلين، وعلى جميع إخوانه من النّبيّين والمرسلين، وآل كلّ وصحب كلّ أجمعين، وبعد:

حقّ الروح على الإنسان

وقال صلى الله عليه وسلم: ((وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لَتُقِيمُنَّ الصَّلَاةَ)) 1 (هذا ليس حقّ الله على الإنسان، وإنما هو حقّ الروح للإنسان، أي حقّ الإنسان في الحياة الروحية، فيجب أن نعلم أن الله ليس بحاجتنا أو ليس لنا عليه دَين حتى يصنع لنا شيئاً لرد هذا الدين، فكل فرائض الله وشرائعه هي للإنسان، وإذا وردت كلمة “حقّ الله” فمعناها كما إذا كان الأبّ ملكاً أو غنياً أو شخصاً عظيماً، فيقول لابنه: “خذ هذا المال واذهب إلى المدرسة” فيقول ابنه: “أنا ذاهب من أجلك؟” أمّا الحقيقة فإن الدراسة للولد، رغم أن الأب هو الذي أعطاه المال، ومع ذلك يمُنُّ على أبيه، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [سورة الزمر: 7] ولكن هذا الأب سيكون راضياً ومغتبطاً عندما يرى ابنه سعيداً.

لتُقيمنّ الصَّلاة

((لَتُقِيمُنَّ الصَّلَاةَ)) هذه اللام لام القسم، أي: والله يجب أنْ تقيموا الصلاة؛ فإقامة الصلاة هي حقّ الإنسان في الحياة الروحية.

كَثُرَ الانتحار في عصرنا الحاضر عند الأوربيين، فالكثير منهم يعيش في بؤس نفسي وشقاء؛ لأنّ الانسان إذا لم يحصل له غذاء الروح فلن يكفيه غذاء الجسد.. فتجد عندهم جوعاً روحياً، فيستعملون المخدرات من الأفيون والخمر والحشيش وما يتفرع عن ذلك، ولكن عندما يصحون يعودون لعذابهم، أما لو صار لأحدهم صلة بالله عن طريق الصلاة وذكر الله عزَّ وجلَّ؛ فيرى من السرور والسعادة والغبطة ما لو قطعوه تقطيعاً وهو على هذا الحال مع الله تعالى؛ فإن لذة سعادته بالله عزَّ وجلَّ تتغلب على إحساسه بألم التقطيع.

لذلك كان المسلم الأول يقول

ولست أبالي حين أُقتَلُ مسلماً على أي جنبٍ كان في الله مصرعي

هم لم يتكلموا بذلك تبجحاً أو رياءً، بل كانوا يقولونها ذوقاً وواقعاً وحقيقةً.. فَقد المسلمون الآن هذه الصلاة بهذا المعنى، لذلك يريد الشيخ الحقيقي أنْ يعيدهم إلى الأساس الذي عليه الصلاة، وهو حياة القلب بالله عزَّ وجلَّ وذلك بدوام ذكره، فإذا اشتغل قلبه بالله تعالى عملت كل جوارحه.. كما لو دارت مولدة الكهرباء فإن الإضاءة والمذياع والغسالة وآلات المعمل وكل شيء سيعمل.. فالصلاة في زمن النّبي صلى الله عليه وسلم، وبحسب مفهوم الصحابة، وبحسب نتائجها وتحصيلها في قلوبهم ليس لها صلة بالصلاة في هذا الوقت، فقد كان الصحابة في عصر التابعين يقولون لهم: “لم يبقَ من الإسلام الذي كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير هذه الصلاة” ومنهم من يقول: “وحتى هذه الصلاة أيضاً ليست الصلاة التي كانت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم” [المقصود: الصلاة بمعناها الروحي].. لذلك يجب علينا أنْ نصير مسلمين بالمعنى الصحيح حتى نقطف ثمار الإسلام.. أي إن كنت تريد سيارة بالمعنى الصحيح حتى تصل للعمرة، فيجب عليك أن تهيأ كل نواحيها من كل الجهات.

ولَتُؤتُنَّ الزَّكاة

((وَلَتُؤْتُنَّ الزَّكَاةَ)) الزكاة هي الركن الثاني من الإسلام، وهو المال، فلا يقوم الإسلام بلا مال؛ لذلك جعله أحد أركانه الأربعة العملية.. أركان الإسلام خمسة: فالشهادتان عقيدة واعتراف، والأربعة الأخرى هي الأركان العملية، فأحد هذه الأركان الأربعة هو المال، فيجب أنْ تُقدم المال لبناء الإسلام ولتبني عليه الإسلام، فأركان الإسلام كأركان الجامع التي هي الأعمدة، فعلى هذه الأعمدة يبنى الجامع والمدارس، وعلى الأركان الأربعة العملية يبنى الإسلام أخلاقاً وتربيةً وإرشاداً ومجتمعاً ووحدةً وقوةً ودولةً وجيشاً وعالَماً موحداً.

فالركن الثاني هو المال ((ولَتُؤْتُنَّ)) لا يفهم المسلم أنّ الإسلام لا يقوم إلا على المال، فهو يريد إسلاماً بلا مال، ويريد فقط ركن الصلاة.

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويحب المتطهرين

الصلاة هي بناء الروح والوجدان، والشعور أنك مع الله عزَّ وجلَّ، وهي بناء الأخلاق وتعلم العلم والحكمة، وهذا كله يجب أن يؤخذ من مدرسة الصلاة.. فإذا نظّف المسلم جسمه وثيابه بالماء فلا بد له من أنْ ينظف قلبه ونفسه من رذائل الأخلاق، كالشح والطمع والغدر والجور والكذب والغيبة والنميمة وكل فواحش الأقوال والأعمال، فيأتي بهذه الطهارة [القلبية] مع تلك الطهارة [الجسدية]، وقد جمع الله عزَّ وجلَّ الطهارتين في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويحب المتطهرين [سورة البقرة: 222].

التوبة: ما هي التوبة؟ هي طهارة النفس، والتوبة: أن تبايع الله عزَّ وجلَّ عن طريق يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتضع يدك بيد النبي صلى الله عليه وسلم بيعة على التوبة، وتضع يدك بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيد نائبه عهداً وبيعةً.. كالذي يرفع دولاب [عجلة] القطار من الأرض ويضعه على السكة، فإذا فعلت ذلك لمن ستعود الفائدة؟ لك وللركاب، أما إذا وضعت الدولاب على الأرض يبقى ألفَ سنةٍ يحرق الكثير من البترول ويبقى في مكانه يحفر الأرض وينزل فيها، ولكن إذا وضعته على السكة؛ فهذه هي التوبة، عند ذلك إذا دست على البنزين أو المازوت ولو قليلاً ستمشي بسرعة كبيرة خمسين أو ستين كيلو متر في الساعة.. وقد قدم الله عزَّ وجلَّ طهارة النفس في قوله: ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويحب المتطهرين [سورة البقرة: 222]، أي طهارة صحائفك، معنى ذلك أن تتوب فلا ترجع إلى الذنب أبداً، وألا تلتفت إلى الوراء فتعود إلى قرناء السوء والشر، هذه هي التوبة.. فقد كان أحدهم إذا بايع النبي صلى الله عليه وسلم ترك قُرَنَاءْ السوء والكفار والمشركين والمنافقين، وصار يذكر الذكر الدائم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم هاجر معه، وعند الجهاد جاهد معه، وإذا ذكر ذكر معه.

﴿ويحب المتطهرين أي طهارة الثياب والبدن، وهذه جاءت في الدرجة الثانية، أما الدرجة الأولى [طهارة النفس] فلا يفهمها المسلم وهي مفقودة عنده؛ لأنه لا يعرف إلا إسلام الجسد، أما إسلام الروح والقلب، والإسلام مع الله عزَّ وجلَّ، إسلام العشق الإلهي والحب الرباني، ودوام الذكر، والمعلم والمرشد فهذا لا يعلمه، فإذا صار لك المعلم والمرشد صارت عندك الرابطة الفولاذية التي لا يمكن أن يقطعها شكوك ولا أوهام، ولا حبّ الدنيا ولا مشاغلها ولا مشكلاتها، ومهما اختلفت الظروف فسيكون ثباتك ثبات الجبال.

من غشنا فليس منَّا

يجب أن تثق بطبيبك الثقة الكاملة؛ فإذا أعطاك دواءً أحمرَ أو أخضرَ حلواً كان أو مراً، أو أعطاك حقنة، أو جرحك بسكينٍ أو بمنشارٍ، فإذا لم تكن مهيأً لكل هذه الأمور، ولم تكن بتمام الثقة به فلن تشفى، فالحياة كلها مبنية على الثقة.. فعندما تذهب إلى الجزار، إذا لم يكن لديك ثقة به أنه ربما يُطعمك لحم الحمير، وإذا وضعت الشكوك أمامك فقدت الثقة بكل شيء.. فقد حُكِي أنهم أمسكوا جزاراً يبيع لحم الحمير، فقال له القاضي: ما هذا؟ هل يجوز لك أن تغش؟ قال له: يا سيدي أنا أبيع النّصارى فقط، قال له: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا)) 2 قال له: أنا لم أغشّ المسلمين إنما أغشّ النصارى فقط.. مع أن الذمي في الإسلام هو المواطن غير المسلم وله ما لنا وعليه ما علينا.. وكلمة من غشنا يُقصَد بها العموم، وقد ورد الحديث أيضاً بنصّ ((مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا)) 3 .. فهذا الجزار أساء باسم الإسلام لنفسه وللإسلام أيضاً، نحن نغش؛ لأننا نحب الدنيا.. فيجب أن تثق بجَزَّارك وخَبّازك وطبيبك وأستاذك وبقائد جيشك عندما يقول لك: “إلى الأمام” وإلا فسيقف الجيش، وكذلك إذا لم تكن عندك ثقة بشيخك فلن تنجح، أو لم يكن له عندك الحبّ الكامل والغامر الذي يغمر كل جوانب قلبك فكذلك لن تُحصّل الفائدة.

رجلٌ يضرب أعناقكم

قال: ((أَوْ لَأَبْعَثَنَّ عَلَيْكُمْ رَجُلًا فَيَضْرِبُ أَعْنَاقَكُمْ عَلَى الدِّينِ أَنَا أَوْ خَاصِفُ النَّعْلِ)) 4 الخصف: هو الترقيع، يخصف نعله: أي يرقعه.. كان النبي صلى الله عليه وسلم من جملة أخلاقه في بيته ((كَانَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ)) 5 .. فمن هو خاصف النعل وما المقصود منه؟ هو سيدنا علي رضي الله عنه، هذا الحديث بعد أن اكتمل الإسلام وصار مع النبي صلى الله عليه وسلم قوتان: قوة التعليم والإرشاد والتربية، وقوة الدولة.. فالإسلام الصحيح عندما يكون هو الدولة التي تؤازر الإسلام، ومعنى “تؤازر الإسلام” أنها يؤازر العلم والأخلاق والاستقامة، يجب أن يكون الإسلام في هذا الزمان تصنيعاً ووحدة، لا رشوة فيه، وإنما حبّ وتعاون وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فإذا تبنَّت الدولة هذه المعاني نجحت، لأن هذه المعاني رقي للأمة، وتوفير لنصف ميزانية الدولة، فبهذه المعاني لن تحتاج الدولة إلى قصر العدل [مبنى المحكمة في دمشق] ولا إلى المحاكم ولا إلى الشرطة ولا إلى المخابرات [رجال الأمن] إلا على العدو في الخارج، ولن تحتاج إلى رقيبٍ أو إلى مفتشٍ في المعامل والمصانع والدوائر.

ولما صار الإسلام بهذا المعنى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانت الأمة والدولة كتلة وشخصية واحدة، فكم توفّر على دولة الإسلام بفضل تربية الإسلام وعقيدته وثقافته؟

لا تتركنَّ الصلاة متعمِّداً

وقال: ((لا تتركنَّ الصلاة متعمِّداً، فإنه من تَرَكَ الصلاة متعمِّداً فقد بَرِئَتْ منه ذمّة الله وذمّة رسوله)) 6 أي ليس بينك وبين الله رابط ولا كفالة ولا ضمان، وهو غير مسؤول عنك مهما صار معك من نكبات أو بلاء، ومهما تدعو وتستغيث وتقول: “يا ربي” فلن يستجاب لك، لأنه: ((بَرِئَتْ منه ذمّة الله وذمّة رسوله)) يُسلّط الله علينا الآن يهود –إسرائيل- وقنابل وقتل، وجوع وغلاء وأمراض كالكوليرا [التهاب معوي]، وعندما نقول: “يا الله” لا يستجاب لنا، ((فقد بَرِئَتْ منه ذمّة الله وذمّة رسوله))، هذا هو تارك الصلاة، والذي يرضى بترك الصلاة تجد ابنه لا يصلي، فيقعد معه ويضحك له ويعطيه النقود ويساعده “وكأنّ القطّ لم يأكل له شيئاً من عجينه” [مثل شعبي بمعنى أن الأمر عادي وكأنه لم يحدث شيء] أين الغضب لله؟ لو أنّ شخصاً داس على حذائك عامداً متعمداً ألا تغضب من أجل الحذاء؟ وإذا جاءك شخص بسكين وقطع لك طرف ثوبك عامداً ألا تغضب لثوبك؟ فهل تغضب لدينك كما تغضب لثوبك؟ وهل تغضب لله عزَّ وجلَّ؟ وهل تغضب لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هذا كله دليل ضعف الإيمان، ليس بالضرورة أن تغضب بهذا الوقت؛ لأنّ هذا الوقت لا يحتمل الغضب، لكن اهتم بابنك وبزوجتك وبرفيقك وبصديقك، حتى إذا لم يستجب لك فلا مانع أن تستغني عنه؛ لأنّه لا خير فيه، فقد قالوا: “لا تصحب من لا يَنهَضُك حالُه، ولا يَدُلُّكَ على الله مَقَالُهُ” 7 .

هل أرضيتَ الله أم الناس؟

فإذا أراد كل مسلم أن يحمل الإسلام، فيجب أنْ يكون عالماً ومعلِّماً، لأن العلم من تعاليم الإسلام، وأن يكون ذاكراً وخائفاً من الله، وأنْ يعبد الله كأنه يراه، وأنْ يرى الدار الآخرة دائماً بين عينيه، فيمكن أنْ تُصبح في الدنيا وتمُسي في الآخرة، وتُمسي في الدنيا وتُصبح في الآخرة، فيجب أن تكون دائماً مستعداً، فلا تَغُرَّنَّكَ الدنيا، كما قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿لَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [سورة فاطر: 5] لا شبابها ولا مالها ولا شغلها ولا عرسها ولا نساؤها ولا مآتمها ولا أصدقاؤها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أَرْضَى الله بِسَخَطِ النَّاسِ رضي الله عليه وأرضى عليه الناس، ومَنْ أَرْضَى النَّاسَ بسخط الله، سَخِطَ الله عليه وأسخط عليه النَّاسَ)) 8 .

بَرِئَتْ منه ذمّة الله وذمّة رسوله

قال: ((من تَرَكَ الصلاة متعمِّداً فقد بَرِئَتْ منه ذمّة الله وذمّة رسوله)) إذا قالت لك الدولة: إنها بريئة منك، عندئذ لو ضربك أحدٌ أو سَلَبَكَ مالك فلن تسأل عنك، وإذا نزل عليك لص تشتكي لها، فتقول لك: أنا بريئة منك، وإذا جاءك شخص في الطريق ونهبك فإذا طلبت الشرطة فلا تسأل عنك.. فكيف إذا برء الله منك ومن ابنك وزوجتك وأمك؟ فإذا أردت أن تشعر هذا الشعور فإن محل هذا الشعور هو القلب، فهل لك هذا القلب الذي في قول الله عزَّ وجلَّ؟ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ [سورة ق: 37]، ليس المقصود القلب الذي يضخ الدم إلى الجسم ويُغذي الخلايا، إنما هو الحسّ والشعور بالله تعالى، فالقلب هو اللبّ، والجسم هو القشر، واللب هو الروح، فإذا لم تكن الروح ذاكرة وعاشقة لله عزَّ وجلَّ، وإذا لم تتعود على مجالسته، ولم تُقْبِل عليه، فلن تحصل على هذا القلب، فالجسد وحده مجرد قشر، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [سورة الزمر: 21]، من هم أولو الألباب؟ قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [سورة آل عمران: 191] أي يتذكر الله قياماً وقعوداً وعلى جنبه وفي الحج وفي الصلاة، هكذا كان المسلم حينما كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل في زمنه أنه مسلم، فكان يقصد هذا الإنسان، وعندما كانوا يذكرون الصلاة يقصدون الصلاة التي كانوا يذكرون الله قبلها، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [سورة الأعلى: 14-15] ذكر بعد ذلك فصلى، وفي أثناء الصلاة: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [سورة طه: 14] وبعد الصلاة: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [سورة النساء: 103]، هذه هي الصلاة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن لا تتركوها، أما صلاة الجسد والقلب غافلٌ لاهٍ فليست هي الصلاة التي أمر الله عزَّ وجلَّ بها، ولا التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا التي صلّاها الصحابة، ولا التي دعا الله تعالى إليها.

اِصحبْ أهل الذكر وجالس أهل الحب الإلهي

تريد أن تتعلم صلاة الجسم فهذا جيد، أما إذا أردت أن تتعلم صلاة القلب فيجب أن تبحث عن فقيه وطبيب للقلوب، وتقول له: “قلبي لا يذكر الله عزَّ وجلَّ” ويجب أن تفتش في نفسك لعل أكلك وشربك وسهرتك حرام، أو جليسك ورفيقك يفعل الحرام، فاصحبْ أهل الذكر وجالس أهل الحب الإلهي، تورَّع عن الحرام في الأكل والنظر والسمع والمشي والسهرة، فهل تريد أن تدخل على الملوك وأنت غاطس ببحر أو نهر أو بئر من الآبار المالحة [مياه المجاري القذرة]؟ هذا لا يصلح، فإذا أردت مجالسة ملك الملوك تحتاج إلى طهارة وإلى نقاء ولياقة، فإذا صحت هذه المرحلة الأولى من الإسلام وصليت الصلاة الحقيقية تصير جليس الله عزَّ وجلَّ ويصير قلبك حاضراً معه وذاكراً له، فيفيض عليك من العلوم والحكمة والنور والطاقة الإلهية والهيبة والجمال والنجاح والمعونة والرعاية، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [سورة الحج: 40] هذه كالشيك المقبوض الذي تضعه في جيبك، أما إذا كنا تاركين للصلاة وحتى صلاة الجسد الصورية لا نصليها، ولا نغار عليها، ولا نهتم بما يهتم الله به، ولا ندعو إلى ما يدعو الله إليه، ولا نغضب لغضبه ولا نرضى لرضائه، ولا نحبّ بحبّه، وبعد ذلك نقول: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الروم: 47]، أي مؤمنين؟ هل هذا هو الإيمان؟ لا بل هذا نفاق، ماذا يعني ادعاء الإيمان مع فقده؟ هذا هو النفاق.

يجب أنْ تصلي

وقال صلى الله عليه وسلم ((وَاللهِ لَتُصَلِّيَنَّ، وَاللهِ لَا تَعْصِي اللهَ جِهَارًا)) 9 الظاهر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً تاركاً للصلاة فقال له: يجب أنْ تصلي، وأما أنْ أتركك تترك الصلاة، والصلاة أمرٌ ظاهر لكل الناس، وتعصي الله جهراً وأنا حي، فهذا لا يجوز أبداً.. والآن ألا يُعصى الله جهراً في بيتك، وفي مجلسك؟ فما كان من قبيل الضرورة في البيع والشراء، أو في مسألة من مسائل الدنيا والحياة، فهذا أمر آخر، ولكن ما بال صاحبك الذي تأوي إليه ويأوي إليك، وتأنس به ويأنس بك، وتزوره ويزورك وهو تارك للصلاة، فكيف تصاحب من لم يصاحبه الله عزَّ وجلَّ؟ وتحب من لا يحبه الله؟ وتُقْبِلْ على من يُعرِض الله تعالى عنه؟ اغضب لله واشتغل له، أنت عندما تشتغل لا تشتغل لدنياك وإنما تشتغل لدنيا الورثة، لأن الذي عندك يكفيك ويزيد، ورغم هذا تعمل خادماً لغيرك، اعمل خادماً لله عزَّ وجلَّ ولدينه، فإذا عملت لله تكون الفائدة لك وليس لله، وتكون قد جمعت لنفسك خيري الدنيا والآخرة.

من ترك الصلاة فكأنما وُتِرَ أهله وماله

الحديث الأول: ((مَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ)) 10 إذا جاء شخص إلى البيت ورأى البيت محروقاً، وزوجته كذلك محروقة، والولد ميتاً وأباه وأخاه كذلك، قال: ((مَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ)) وَتَر أي: فَقَد، أو وُتِر بالضم يعني: فُقِدَ، هل نشعر بهذا الشعور الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يشعره؟ يا ترى هل كان يُبالغ النبي صلى الله عليه وسلم؟ المبالغة: هي زيادة عن الحقيقة، لا، لم يبالغ النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه معصوم، يا تُرى هل يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بغير الواقع وهماً وخيالاً وغرضاً شخصياً؟ لا والله.. كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أنا ممسكٌ بِحُجَزِكُمْ -أي ممسك بزنانيركم- [الزنار: حزام يوضع على الخصر] وأنتم تتَهَافَتُون على النار كَتَهَافُتِ الْفَرَاشِ)) 11 أي كالذي يرمي نفسه على زجاج قنديل الكاز والنبي صلى الله عليه وسلم يدفعه عنه، وهو يظن أن هذا القنديل كالشباك في هذا الظلام، ويريد أنْ يخرج منه، ولكنه يقتحم النار؛ فيكون فيها هلاكه.. ونحن نقتحم شهوات الدنيا وملذاتها ومشاغلها جهلاً بالحقيقة، مع أن الإسلام لا يقول لك اترك الدنيا، بل على العكس، فقد جعل الإسلام نصفه دنيا، لكنها الدنيا التي تُستَعْمَلْ حسب المخطط الإلهي، فالذين استعملوها حسب المخطط الإلهي كسبوا، فكانت دنياهم بذرة، فلما وضعوها في تربة وحوض الإسلام حوَّل لهم البذرة إلى شجرة، وأعطاهم الملْك والعزّ والمجد في الدنيا، ولم تعرف جيوشهم الهزائم، ولم يستطيع عدوهم أنْ يذلّهم أو يدوسهم بنعله ويجعلهم تحت قدمه، وتحولت فرقتهم إلى كتلة من الفولاذ، وبعد ذلك وحدوا نصف العالم.. الآن تجد الأب وابنه، الأخ وأخاه، الشريك وشريكه، الجار وجاره، الضيعة [القرية الصغيرة] أو المكان الواحد فيه ثلاثة أو أربعة أحزاب، أين وحدة البلاد العربية؟ كيف نريد أن نقاتل اليهود؟ نقاتل الآن بعضنا البعض، فالأساس الإيمان والأخلاق.. من أعظم العرب من وقت أنْ خُلِقَتْ العرب؟ بالتأكيد النبي صلى الله عليه وسلم، لو وُجد في فرنسا رجل عظيم لرأينا كل الفرنسيين وراء ذلك العظيم، وفي انكلترا وفي إيطاليا أيضاً، يركضون الآن في روسيا وراء ماركس [فيلسوف ألماني، مؤسس الحركة الشيوعية والاشتراكية] وهو يهودي، ويركضون وراء دينه وشرعه، ماذا فعل لهم؟ وبماذا أتى لهم؟ أتى لهم بقطعة خبز وزيتون، أو فتوش [نوع من السلطات] ومجدرة [أكلة سورية مكونة من برغل وعدس] [أكلات الفقراء البسيطة] لا أكثر من ذلك، فجعلوا له صنماً بكل شارع، وعندما يزوره الزائرون ترى الدور طوله كيلو متراً، ماذا عمل لهم؟ جعل لكل شخص منهم غرفةً وحماماً فقط، ورغيفاً من الخبز وقليلاً من الزيتون، ولم يصنع لهم أكثر من ذلك؟ يركب أحدهم الباص فقط، أما سيارة الأجرة فممنوع، ولا يستطيع أحدهم أن يتكلم بكلمة، وإلا نفوه إلى سيبيريا؛ لأنه لا يوجد حرية عندهم، ومع ذلك يسجدون للينين [ثوري روسي ماركسي] ويعبدونه، أيهما أعظم النبي صلى الله عليه وسلم أم لينين؟ هل النبي صلى الله عليه وسلم أعظم للعرب؟- والآن أتكلم عن العرب فقط لا عن عموم المسلمين- ألم يعمل النبي صلى الله عليه وسلم للعرب أكثر مما عمل لينين للروس؟.. لذلك -يا بني- هذا الكلام لا يفيد؛ لأنك إذا تكلمت مع الأموات هل يفهمون كلامك؟ لا يفهمون، إذاً اشتغل أولاً بالإحياء [أي بإحياء القلوب] وبعد ذلك اشتغل بالكلام، ولذلك نحتاج إلى قلوب، فلو جئت إلى الجامع بلا قلب وصليت وصمت وحضرت الدرس فلن تنتفع، فيجب عليك أنْ تذكر الله عزَّ وجلَّ، وأنْ تقعد معه، وأن تجلس مع أهل الذكر، وأن تدخل أولاً مدرسة الذكر في الحضانة، ثمّ الابتدائي، ثمّ المتوسط، أي كل شخص على حسب استعداده.

انتفاع الشيخ عبد الرؤوف الاسطواني

جاء الشيخ عبد الرؤوف الاسطواني -رحمه الله- إلى شيخنا وكان قاضياً ومن عائلة الاسطواني، وهي عائلة عِلْمٍ مُسَلْسَلٍ [أباً عن جد]، في يوم من الأيام جلست معه، فأتينا على ذكر الشيخ عبد الرؤوف، ابتسم الشيخ وقال لي: “أُبَشِّرُكَ”، قلت له: “خيراً إنْ شاء الله سيدي”، قال لي: ” اليوم انتفع الشيخ عبد الرؤوف”.. ما معنى انتفع؟ أي انتفع قلبه، صار له قلب وحسّ وشعور بالله عزَّ وجلَّ.

الشيخ بشير الباني

وعندما جاء الشيخ بشير إلى شيخنا، وهو من بيت الباني، وهم بيت علم وتقوى وورع، وقد مضى الآن على وفاة شيخنا خمس وأربعون سنة، والشيخ بشير يتمنى لو رأى التراب الذي مشى عليه الشيخ ليضعه على رأسه ويكحل فيه عينه، لماذا؟ هل الشيخ بشير أُمّي؟ أم جاهل؟ أم طفل؟ على العكس، فقد وصل إلى أعلى مستويات القضاء والمحاماة والثقافة والعلم، ماذا رأى؟ مع أنك لو تسأله عن واحد من الألف [مما أخذه من الشيخ].. وهذا الواحد بالألف يجعلك تُغْمَرْ غمراً، فهو بكل شخصيته ومكانته وكيانه، وحتى لو ملك الدنيا.. والدنيا كلها مثل تِبْنَة بالنسبة لذرَّة من ذرَّات معرفة الله تعالى، [فذرَّة من ذرات معرفة الله أعظم من هذه الدنيا كلها] هذا الآن -يا بني- مفقود، وهذا ليس كل شيء، [فعلم القلب ليس كل شيء في الإسلام] فيجب أن نمشي به للآخر وبالتدرُّج، وبحسب المنهاج النبوي في بناء الأمة العربية، وبناء شخصية الإنسان، حتى تكون كل الخطوات ناجحة ومثمرة ومُعزِّة للأمة وموحِّدة لها، ليس في الدنيا فقط، لأنك إن كنت بائساً ومعذباً في الدنيا، فعندما يأتيك الموت يُنهي لك كل شيء، أما إذا جاء الموت وانتهيت من العذاب الأدنى لتدخل في العذاب الأكبر فهنا المشكلة.. لذلك اجتهدوا لتصبحوا مسلمين ومصلِّين في الحقيقة.

مِن راعي جِمال إلى قائد معارك

قال: ((أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ: إِنَّ أَهَمَّ أَمْرِكُمْ عِنْدِي الصَّلاَةُ)) 12 أي صلاة؟ ليست صلاتنا، إنما صلاتهم، الصلاة التي علَّمه إياها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي انتقل بها من راعي جمالٍ إلى أمير للمؤمنين، وآخر ما وصل في فتوحاته إلى السند، ولا يستطيع عامل أن يتحرك حركة في حدود منطقة خلافة سيدنا عمر-رضي الله عنه- إلا وعنده علم فيها، فيقول للعامل: صف لي المعركة كأني أشهدها وأحضرها، فيكتب له، فيقول له: تفعلون كذا وتعملون كذا، فمن راعي جمال لقائد معارك على مسافة آلاف الكيلو مترات، ولا يوجد معركة إلا وتنتهي بالنصر والظفر.. فأين عروبتنا نحن؟ وأين صلاتنا؟ وأين جامعنا؟ هل جامعنا مثل جامعهم؟ جامعنا قصر ملوكي من حيث الجسد، أما جامعهم كان قصراً ربانياً من حيث الروح، جامعهم كان النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي جمعهم على الله عزَّ وجلَّ وعلى الهدى، وجمع لهم العلم والحكمة ومكارم الأخلاق وفضائلها، هذا هو الجامع، فإذا لم يجمع الجامع هذه المعاني فهذا ليس بجامعٍ بل هو مُفَرِّق، هناك جوامع تفرِّق بين المسلمين، تقول له: إذا رأيت المسلم الفلاني لا تُسلِّم عليه، ولا تقعد معه، واحذر منه.. هل هذا جامع أم مفرِّق؟ هذا ليس جامعاً.

إنَّ أهمَّ أمرِكُم الصَّلاة

قال: ((إِنَّ أَهَمَّ أَمْرِكُمْ عِنْدِي الصَّلاَةُ، فَمَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا)) أي على كل ما فيها من برامج، [شروطها وأركانها وواجباتها وسننها وخشوعها] كما تحافظ على محرك سيارتك وعلى الدهان فيها والزجاج والباب، قال: ((حَفِظَ دِينَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ)) يضيِّع أخلاقه وسلوكه وتقواه ومخافته من الله ومحبته له، ((ثُمَّ كَتَبَ: أَنْ صَلُّوا الظُّهْرَ إِذَا كَانَ الْفَيْءُ ذِرَاعاً، إِلَى أَنْ يَكُونَ ظِلُّ أَحَدِكُمْ مِثْلَهُ)) 13 هذا بالنسبة لمواقيت الصلاة، وهي معروفة الآن بالساعات والتقويم، ولم يعد هناك حاجة إليه.. وقالت أم سلمة رضي الله عنها: ((كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: “الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ”)) أي: الزموا الصلاة، أدُّوا الصلاة، هذا مفعول به لفعل محذوف، ((“وما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ” حَتَّى جَعَلَ يُجَلْجِلُهَا فِي صَدْرِهِ، وَمَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ)) 14 كانت آخر الكلمات التي نطق بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الاحتضار ((الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ))، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بالصلاة هذا الاهتمام، ورغم أنك تحبّ النبي صلى الله عليه وسلم ولكنك لست مهتماً بالشيء الذي مهتماً به وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ومع ذلك زرته ووضعت يدك على شباكه، وصرفت الأموال وعطلت أوقاتك، فما الذي انتفعته من زيارتك وحجتك وعمرتك؟ وما الذي انتفعته من قولك “أشهد أن محمداً رسول الله”؟ فإن كنت تشهد أنه طبيب فيجب أن تقبل الدواء، فإن قال لك إن ابنك في خطر، كأن يكون لديه التهاب في الزائدة الدودية مثلاً، وقال لك إذا لم تسعفه فربما تنفجر الزائدة وتفقده، حينها ستقدِّر كلام الطبيب وتأخذ ابنك فوراً للمستشفى، وإذا كان الطبيب يحتضر، وقال لك: “إلحق بابنك، إلحق بابنك” وخرجت روحه وهو يقول لك: “إلحق بابنك”، فكم ستكون المسألة خطيرة؟ ولكن هذه تحتاج إلى قلب.. فإذا كنت تسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم منه ألف مرة وأنت بلا قلب فلن يُؤثّر فيك وإن كنت تراه بعينك، ألا يوجد أُناس جالسوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه وسمعوا كلامه بآذانهم ولم يؤثر فيهم؟ لماذا؟ لأنهم كانوا بلا قلب، فقد حجبهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ارتباط قلوبهم بالدنيا، وليس المقصود من الدنيا كثرة المال أو قلَّته، وليس المقصود الملك أو عدمه، فكل شيء يشغل قلبك عن الله تعالى ولو كان كشكول الشحاذين [المتسولين] فهو دنيا،[كشكول: جمعه كَشَاكِيلُ، وهو وِعَاءٌ يَجْمَعُ فِيهِ مَا يُتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهِ. أرشيف منتدى الفصيح (3/ 3512)] وكل من يجعلك في غفلة عن الله عزَّ وجلَّ، وينسيك إياه، ويشغلك عما سواه بشيءٍ فهو دنيا.. املك الدنيا من مشرقها إلى مغربها كسليمان عليه السلام: ﴿وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [سورة ص: 35]، وكسيدنا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم كذلك ملكوا الدنيا، ولكن يا ترى هل ملكتهم أم ملكوها؟ شغَلتهم أم شغَّلوها؟ طبعاً لا، بل شغَّلوها لخدمة دين الله تعالى، فما كان أحدهم يخطر على باله أيّ شيء منها.

هل أخذوا إيمانك؟

لما غضب سيدنا عمر رضي الله عنه من زوجة أبي عبيدة رضي الله عنه، وقال لها: ((لأغيظنّك)) أي: سوف أزعجك، قالت له: “لن تستطيع ذلك” فتحدَّته وبحضور زوجها وأَحرجت زوجها، رغم أن الذي يهددها هو الخليفة، قالت له: “أنت لا تستطيع ذلك، لا أنت ولا أبوك ولا جدك”، قال أبو عبيدة لها: “بلى يستطيع ذلك” قالت له: “لا أنت ولا هو”.. فهذا أمر غير عادي وغير منطقيّ، فعرف سيدنا عمر رضي الله عنه أنّ الأمر ليس عادياً، فقال لها: “وكيف ذلك؟” قالت له: “هل تستطيع أن تسلبني إيماني؟” قال لها: “لا أستطيع”، قالت له: “خذ ما تريده وافعل ما تريده، فلن يغيظني شيءٌ مادام إيماني سالماً” 15 ، أي تضربني أو تقتلني أو تأخذ مالي فأنا لا أهتم، مادام إيماني سالماً.. هذه لو لم تعرف وتذق طعم الإيمان هل تستطيع أنْ تصمد هذا الصمود؟ ثم هل تعرف أن تنطق بهذه الحكمة؟ فهي لم تبالِ بجسدها ولا بروحها ولا بحياتها، هذا هو الإسلام، وهذا حال امرأةٍ، فكيف بحال زوجها أبي عبيدة رضي الله عنه أمين هذه الأمة؟ كيف عرفوا الحروب ومخططاتها وهم أمام دولة إمبراطورية حكمت الدنيا ألفاً وخمس مئة سنة، غلبت مخططاتُهم الحربية مخططاتها، وأفكارُهم السياسية أفكارَها، وغلب قليلهم كثيرها، وفقرهم غناها، وغلب سلاحُهم البسيط الضعيف الذي هو من التنك فولاذَهم.. نحن -يا بني- لا ينقصنا مال ولا جنود ولا سلاح، ينقصنا الشخصية العربية التي ربَّاها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك نحن بحاجة إلى مربٍ.

وإنّما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ليس مهماً أن نتغنى فيها، المهم أن نكون أهلاً لبناء الأخلاق وإنشائها، ولا أن نتغنى بقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الروم: 47] فشريط التسجيل ينطق بها، الأهم من هذا كله، هل أنت مؤمن؟ وهل تستطيع أنْ تنقل إيمانك إلى الآخرين؟ إذاً يجب علينا أن نعمل وألا نكون عاجزين، ولا نقول بأن هذا شيئاً ميؤوس منه، لا أبداً، لا الآن ولا غداً ولا بعد غد، فالأشياء موجودة وميّسرة، وما عليك إلا أن تقبل عليها فتقبل عليك، وتَصدُق معها فتَصْدُق معك، ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ [سورة الأحزاب: 24] ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [سورة البقرة: 152] ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [سورة الإسراء: 18] ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [سورة الإسراء: 19] كل شيء يحصل بالإرادة، كما لما أردتم القدوم إلى الجامع هل وضع الله عزَّ وجلَّ أمامكم عقبات؟ لا، لم يضع.

استيقظت هذه الليلة الساعة الثانية، ولم أستطيع النوم بعدها، ولو أردت ألّا آتي فلن آتي، لكن أردت أنْ آتي وأتيت، وقد غيري إذا سألته يكون جوابه “تعبان ونعسان وصحتي ليست جيدة”، وأنت في البيت في الوضع نفسه، وصحتك في الجامع كصحتك في البيت، تعال إلى الجامع واجعل تعبك في مرضاة الله عزَّ وجلَّ، لماذا تتعب من أجل الدنيا؟ وإذا وجدت شيئاً من أمور الدنيا تقوم وتقفز مثل القطّ، وإذا كان الأمر لله فيكون جوابك “أنا تعبان” أنت لست تعِباً، ولكن ينقصك الإيمان، وبطاريتك بحاجة إلى شحن، كما يقال: “عَرَجَ الجملُ من شفته” [مثل شعبي].. تجد الآن العسكر مستيقظين من قبل الفجر، وهناك أُناس في الطرقات وعلى موقف الباصات بهذا البرد، فهل هذا من أجل الله أم منْ أجل الدنيا؟ لماذا يترك فراشه وزوجته منْ أجل الدنيا حتى لو كان مريضاً؟ يقول لك: “لا أستطيع الغياب حتى لا يخالفونني”، ولكن لماذا لا تسأل إذا كتب الله عليك مخالفة؟ أو يقول لك: “أخاف أن يقطعوا عني الراتب”، من الذي يعطيك الراتب؟ ومن الذي أعطاك العيون والقلب والزوجة والقوة والمال؟

الصلاة عِماد الإيمان

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الصَّلَاةُ عِمَادُ الإيمان)) 16 أي هي الجسر والعمود الذي يحمل، ولكن أيُّ صلاة؟ هل بمفهومنا أمْ بمفهوم النبي صلى الله عليه وسلم؟ بل الصلاة بمفهوم النبي صلى الله عليه وسلم التي هي عماد الدّين، ما هي هذه الصلاة؟ أن تركع وتسجد فقط؟ هناك أناس ركعوا وسجدوا شكلاً، فقال الله عنهم: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة النساء: 142] أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال: ((وَجعلت قُرَّة عَيْني فِي الصَّلَاة)) 17 فأيهما المطلوب؟ قرة عيني في الصلاة أم كسالى؟ فأين قرّة العين في الصلاة؟

((كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ -وقع في همّ أو في ضيق أو في شدة أو في أزمة- بادر إلى الصلاة)) 18 يجد في الصلاة حلّاً للأزمات ولعُقد الحياة، هذه الصلاة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابه تعب يقول: ((أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ)) 19 اتركنا نرتاح قليلاً فنصلي، ليس أرحنا منها، بل أرحنا بها، أي نجد بها روحاً وريحاناً وجنة النعيم.. ولكن هذا لن يصير معك إلا بحاسّة القلب، فإذا لم يكن لك قلب لن تصل إلى ذلك، ما هو تعريف القلب؟

قلوبٌ إذا منه خلت فنفوسُ لأحرفِ وسواسِ اللعينِ طروسُ

فالقلب الخالي من الله هو نفسٌ أمَّارةٌ بالسوء، وقلوبٌ إذا منه -من اللهِ- خلت فنفوسُ، لأحرفِ وسواسِ اللعينِ طروسُ، ما هي الطروس؟ الأوراق والدفاتر، أي تصير دفاتراً ليكتب اللعين فيها كلماته ووساوسه ونجاساته، لأحرفِ وسواسِ اللعينِ طروسُ.

وإن مُلأت منه ومن نور ذكره فتلك بدورٌ أشرقت وشموس

وإن مُلأت القلوب منه -من الله- ومن نور ذكره، فتلك بدورٌ أشرقت وشموس.

ذات مرة حضر أحد الأكراد- وهو شيخ قادري- الختم مع شيخنا [الشيخ محمد أمين] في وقت صلاة العصر، انقضى الختم ولم يكن هناك كلام ولا بحث بينهما، فسلَّم على الشيخ وذهب، كانوا يقولون له: “الشيخ أحمد القادري، وكان يلبس أخضراً بأخضر”، بعد أنْ ذهب هزّ لي شيخنا رأسه، وقال لي: “سبحان الله يا ولدي، هذا الرجل له قلب مثل الشمس”.. فالذي يعرف القلب الذي مثل الشمس، ويعرف القلب الواقع في الكسف، كيف يكون قلبه؟ قال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [سورة النازعات: 40] هذا روح الفقه وروح العلوم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رَأس الْحِكْمَة مَخَافَة الله تَعَالَى)) 20 وأعظم من مخافة الله عزَّ وجلَّ محبته، تُنال محبة الله بمجالسته وبذكره، فيجب أن تدخل مدرسة الذكر، وتجالس أستاذ الذكر والقلوب لتتعلم ذكر الله تعالى، فلن تصبح نجاراً من غير معلم نجارة، ولا معماراً من غير معلم، ولا إسكافياً [مصلح أحذية] ولا صانع حلوى ولا إنكليزياً ولا عربياً إلا بأستاذ، فمن هنا يبدأ تحصيل هذا العلم، فنسأل الله أن يكرمكم بهذا العلم الذي هو علم الأنبياء، فمن العلم القلبي أتت علوم الشريعة.

الجهاد سِنام العمل

((وَالْجهَاد سَنَام الْعَمَل)) ما هي أعلى قمة في الأعمال؟ الجهاد، وكل شيءٍ غيرهُ فهو دونهُ، ((والزكاة بين ذلك)) 21 ، سبحان منْ خلق النبي عليه الصلاة والسلام، وما أحلى هذا الكلام!

المال ضروري في بناء الإسلام والمجتمع الإسلامي؛ فالجهاد يحتاج مالاً، وكذلك المسجد، ويحتاج الرجال مالاً حتى يتفرغوا لواجباتهم الإسلامية، ويحتاج الفقراء والأيتام مالاً، وقد ضنَّ المسلمون بالمال وبخلوا به وخصوصاً الأغنياء، فتجد الغني يستغني عن الله ولا يأتي لبيته، وإنما يذهب إلى السينما وإلى الفنادق كالمرديان والشيرتون خاصة في عيد الميلاد حيث السكر والخمر والنساء مع الرجال والرقص والبنات ولعب القمار والرذائل، فيصرف ماله في القذارات وعلى النجاسات، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((الزكاة)) ما معنى الزكاة؟ يعني المال، ماذا يعني المال؟ يعني أنْ نصرف المال في الفضائل والعلم والبناء والإنشاء ومصالح الأمة ومصالح دينها، أما أن نصرفه في الأوساخ والقذارة وفيما يملأ البطن والأمعاء، فهذا ليس بزكاة، إنما هو أكل وشرب وشهوة ولذة، أما الزكاة فهي أنْ تصرف المال في مرضاة الله وفي الواجبات الإسلامية.

سوادُ وجه الشيطان وكَسرِ ظهره بالصلاة

وقال صلى الله عليه وسلم: ((الصَّلَاة تُسَوِّدُ وَجه الشَّيْطَان، وَالصَّدَقَةُ تكسرُ ظَهرهُ)) 22 إذا كانت الصلاة حقيقية يرجع الشيطان ووجهه أسود، فيقول له إبليس: أين كنت، وماذا عملت؟ هل أطغيته أم أضللته أم أذهبت دينه؟، يقول له: لا يوجد ما يبيض الوجه، يقول له: لماذا؟ يقول له: لأنه مصلٍّ، قال ((وَالصَّدَقَةُ تكسرُ ظَهرهُ)) إذا بذل المال في بناء الإسلام، وفي الواجبات الإسلامية كسر ظهر الشيطان، وإذا أدى حق الفقير والمسكين والمحتاج والمسجد والعلم ودور العلم والواجبات الإسلامية لم يبقِ للشيطان مجالاً أن يعمل له شيئاً، لماذا؟ لأنه قد تلقى ضربة على فقرات ظهره، فهو غير قادر على النهوض، أما الآن فالشيطان مثل الصاروخ، وعضلاته مثل عضلات الدبابات [كناية عن قوته]، وأما الشيخ فمكسور ظهره، وكذلك الإسلام، لأن الإسلام بماذا يُمَثَّل؟ هل يُمثَّل بحجارة المأذنة أم بالسجاد؟ يُمثَّل الإسلامُ بالشيخ، والشيخ قوته بإنتاجه وبحكمته وبسلامة المسيرة التي فيها سعادة الأمة بكل مستوياتها شعباً وحكومةً.

كجسدٍ واحد

إذا قام الإسلام تكون الدولة أعظم الدول، وإذا وُجد تكون الحكومة أقوى الحكومات، وجيشها أقوى الجيوش، ونظامها أعظم نظام، ووحدتها أعظم وحدة، ويتعلق بها الشعب كتعلق الرضيع بثدي أمه.. ألم يُمَثِّل النبي صلى الله عليه وسلم الدولة؟ ماذا كانت منزلة النبي صلى الله عليه وسلم وهو رئيس الدولة في قلب الشعب؟ وماذا كانت منزلة سيدنا أبي بكر رضي الله عنه في قلب الشعب؟ وكيف كان ارتباط الجيش بقائده وبشعبه؟ وما مدى ارتباط الأمة بعضها ببعض؟ الأب بالابن والابن بالأب، والأخ بأخيه والجار بجاره، والبائع بالمشتري والمشتري بالبائع، والقاضي بالمتقاضين؟ كلهم كانوا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى له سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)) 23 .. مرّ معكم في درس يوم الجمعة، لما قال النبي عليه الصلاة والسلام ((ظُهُورُ الْمُسْلِمِينَ حِمىً)) إذا حمَت الدولة أرضاً هل يجرؤ أحد أنْ يتعدّى عليها، ((لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْرَحَهَا إِلَّا فِي حَدٍّ)) 24 فلا يحل لأحد جرح ظهور المسلمين، ومعنى ذلك أنْ الشعب ورئيس الدولة والجيش والأغنياء والفقراء وإمام الجامع والمصلين كلهم يعيشون في سرور، هل صار ذلك من تلقاء نفسه؟ بل صار بالمعلم وبالمربي.. نسأل الله أن يُهيئ لهذه الأمة من يصلحها ويصلحنا جميعاً، ويصلح الشيخ قبل كل شيء؛ لأن الأمر يبدأ من عنده، فإذا صلح الشيخ وإمام الجامع فكلّ شيء سيصلح، وإذا لم يكن صالحاً فلن يصلح شيء، إذاً فمن الذي سيربي القلوب ويصنعها؟ ومنْ الذي سيربي النفوس ويزكيها؟ ومنْ الذي سيزينها بمكارم الأخلاق؟ هل صانع الحلوى أم النجار أم الطيان أم القاضي؟ إنه الشيخ.. لذلك نسأل الله أن يهيئ للمسلمين هذا الشيخ.

قال: ((والتحابّ في الله)) تحبّه في الله، فإما أن [يكون أقوى منك] تجد عنده قوّة فيجذبك إلى الله عزَّ وجلَّ وإلى مرضاته، وإلى العلم بالله تعالى وإلى صلتك به، وإما أن يكون [أضعف منك] محبّاً لله عزَّ وجلَّ يقول لك: “تعال أنقذي وخلصني وشدّني، فأنا على وشك أن أغرق”، فهو يحبك في الله لتنقذه، أو تحبّه لأنّه ينقذك، فتحبّه إما لأنه عالِم أو لأنه طالب للعلم ولله تعالى، فإذا كان يطلب الله منك، أو إذا طلبته أنت تجد في طَلَبِه طِلْبَتَك وغايتَك، فيوصلك إلى الله؛ فهذا الحبّ في الله، تحبّه في الله لأنّ الله أمرك بحبّه، ومنْ الذي أمرك الله بحبه؟ أمرك أن تحبّ منْ يحبّه، فإذا كان أبوك لا يحبّ الله عزَّ وجلَّ، فعليك أن تبرُّه لكن لا تحبه؛ لأن الله تعالى قال: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ [سورة المجادلة: 22] يوادّون: يحبون.. هذا هو الحبّ، أما في البرّ وأداء الحقوق فقال: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [سورة لقمان: 15] فيجب عليك أن تعطيه حقه، أما الحبّ فهو في الله تعالى، فنحبّ بحبّ الله عزَّ وجلَّ من يحبّه الله.

قطعُ دابر الشَّيطان

قال: ((والتحاب فِي الله والتودد فِي الْعَمَل يقطع دابره)) دابرُ الجيش: آخرُ جندي فيه، فإذا استمرينا في قتلهم حتى قطعنا دابرهم، أي آخر جندي من العدو قُتل، هذا قطعُ الدابر قال: ما الذي يقطع دابر الشيطان؟ قال: ((التحاب فِي الله والتودد فِي الْعَمَل))، لا يكون التودد إلى الله بالأماني، وحبّ الله ليس بالكلام، بل حبّ الله هو حبٌّ عمليّ.. أرنا حبك لله في ميدان العمل، ماذا يعمل هذا الحب مع الشيطان؟ يقطع دابره، فإذا انقطع دابرهم وانتهى آخر جندي منهم، عندئذ لا ترى لا أول عسكري ولا آخره منهم، معنى ذلك انتهت المسألة، فإذا فعلتم ذلك، أي: ((الصَّلَاة تسود وَجه الشَّيْطَان، وَالصَّدَقَةُ تكسرُ ظَهرهُ))، أي بذل المال، فإن في الصلاة صلة قلبك بالله عزَّ وجلَّ، ووعي عقلك وفهم درسك في الصلاة عن الله، ((الصَّلَاة تسود وَجه الشَّيْطَان، وَالصَّدَقَةُ تكسرُ ظَهرهُ، والتحاب فِي الله والتودد فِي الْعَمَل يقطع دابره، فَإِذا فَعلْتُمْ ذَلِك)) هذه ثلاثة أشياء، هل تستطيعون أنْ تفعلوها؟

قال: ((فَإِذا فَعلْتُمْ ذَلِك تبَاعد مِنْكُم كمطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا)) 25 والله هذا شيء عظيم.. كما لو كان هناك شخص مريض بمرض الكوليرا وأبعدوه عنك حتى صرت أنت بالمشرق وهو بالمغرب، هل تصيبك الكوليرا؟

ذات مرة حكى شيخ في الدرس أنّ الذي يتصدق بصدقة يفكّ حنك سبعين شيطان، فذهب أحد الدراويش [البسطاء] إلى البيت، وهو يريد أن يفكّ حنك الشيطان، ولكنه لا يملك نقوداً، فدخل إلى بيت المؤونة، وأخذ القليل من البرغل والقليل من الرزّ والعدس، يعني من الموجود عنده، أخذ القليل ووضعهم بثوبه مسرعاً حتى يفكّ حنك سبعين شيطاناً، فسألته زوجته: “ما هذا الذي تحمله؟” قال لها: سمعت الشيخ في الدرس يقول: أن الذي يتصدق بصدقة يفكّ بها حنك سبعين شيطان، وليس لدي نقود، فأخذت القليل من العدس لأعطيهم إلى فقير، قالت له: ارجع، لقد لعب الشيخ بعقلك، فتجادلا، فعندما وجد أنه لا فائدة من الجدال معها، فركض فلحقت به، وكان نحيلاً وهيَ قويّة فَرَمتْ به على الأرض، وسقط البرغل على الأرض وصارت تضربه، وفي اليوم الثاني جاء إلى الدرس، فرآه الشيخ مكسور الخاطر، فقال له: “هل استطعت فكَ حنك سبعين شيطان؟” قال له: “والله يا سيدي فكّيت، لكنْ أمّ الشياطين فكّت حنكي”.. أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوفقنا، والله -يا بني- كلام النبي صلى الله عليه وسلم جميل، قال: ((الصلاة تُسَوِّدُ وجه الشيطان والصدقة تكسر ظهره والتحابّ في الله)).. ما رأيك يا شيخ عمر أن تجرب ذلك؟ والله زوجتك ممتازة يا شيخ عمر- الله يرضى عليها- ووالدها الشيخ سعيد رضي الله عنه من أولياء الله تعالى”.. [سماحة الشيخ يقول ذلك ممازحاً الشيخ عمر] ((والتحابّ في الله))، أي أن يكون كل أصدقائك وأحبابك من أحباب الله عزَّ وجلَّ ومن أوليائه ومن الذاكرين، فإذا جلست معهم فحديثهم عن الله تعالى وعن ذكره ومرضاته وواجباته، فلا تقوم من المجلس إلا وقد زاد حبّك في الله وقربك إليه، ((والتحابّ في الله والتودد في العمل يقطع دابره)).. هذا الحديث يجب أن تحفظوه، هل حفظته يا أبا عبد العزيز؟ فلنعيده

((الصلاة تُسَوِّدُ وجه الشيطان، والصدقة تكسر ظهره، والتحابّ في الله والتودد في العمل يقطع دابره)).

جزاك الله عنا يا سيدي يا رسول الله خير ما جزى نبياً عن أمته ورسولاً عن أمته، اللهم أعطنا قلوباً وأوعية للعلم والحكمة تكون أهلاً لإيواء الحكمة واختزان العلم فيها، اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها وأنت مولاها.

وصلى الله على سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلّم، والحمد لله رب العالمين.

Amiri Font

الحواشي

  1. مستدرك الحاكم، رقم: (7819)، (7/362)، الجامع الكبير للسيوطي، رقم: (159)، (25480)، عن علي رضي الله عنه.
  2. صحيح مسلم، باب قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من غشنا فليس منا، رقم: (101)، (1/99)، صحيح ابن حبان، باب ذكر الزجر عن أن يمكر المرء أخاه المسلم أو يخادعه في أسبابه، رقم: (567)، (2/ 326).
  3. سنن الترمذي، باب ما جاء في كراهية الغش في البيوع، رقم: (1315)، (3/606)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
  4. مستدرك الحاكم، رقم: (7819)، (7/362)، عن علي رضي الله عنه، الجامع الكبير للسيوطي، رقم: (159)، (25480).
  5. مسند الامام أحمد، رقم: (24793)، (28/ 239)، بلفظ ((قِيلَ لِعَائِشَةَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ َقالَتْ: كَمَا يَصْنَعُ أَحَدُكُمْ: يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ.))، الأدب المفرد للبخاري، باب ما يعمل الرجل في بيته، رقم (539)، (190)، عن عائشة رضي الله عنها.
  6. مسند الامام أحمد، رقم: (27365)، (6/421)، عن أم أيمن رضي الله عنها.
  7. حكم الأيام، من حكم عطاء الله السكندري، (31).
  8. صحيح ابن حبان، رقم: (277)، (1/200)، ومسند عبد بن حميد، رقم: (1524)، (2/63)، بلفظ: ((قَالَ: مَنْ أَرْضَى الله بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ الله النَّاسَ، وَمَنْ أَسْخَطَ الله بِرِضَى النَّاسِ، وَكَلَهُ الله إِلَى النَّاسِ)) عن عائشة رضي الله عنها.
  9. معرفة الصحابة لأبو نعيم، رقم: (1820)، (6/7)، الإصابة في تمييز الصحابة، رقم: (1785)، (2 /275)، بلفظ: ((عَن الْحَكَمِ بْنِ مُرَّةَ، صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي فَأَسَاءَ الصَّلَاةَ فَانْفَتَلَ فَقَالَ لَهُ: "صَلِّ"، فَقَالَ: قَدْ صَلَّيْتُ، قَالَ: " صَلِّ "، قَالَ: قَدْ صَلَّيْتُ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مِرَارًا فَقَالَ: " وَاللهِ لَتُصَلِّيَنَّ، وَاللهِ لَا تَعْصِي اللهَ جِهَارًا")).
  10. شعب الايمان للبيهقي، باب فصل الصلوات الخمس في الجماعة، رقم: (2844)، (3/52)، مسند الطيالسي، رقم (1237)، (172)، عن نوفل بن معاوية.
  11. مسند الامام أحمد، رقم: (3704)، (1/390)، بلفظ ((إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ حُرْمَةً إِلاَّ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَطَّلِعُهَا مِنْكُمْ مُطَّلِعٌ، أَلاَ وَإِنِّي آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ أَنْ تَهَافَتُوا فِي النَّارِ كَتَهَافُتِ الْفَرَاشِ، أَوِ الذُّبَابِ))، مسند أبي شيبة، رقم: (271)، (1/185)، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه البخاري ومسلم بنحوه.
  12. موطأ الامام مالك باب وقوت الصلاة، رقم: (9)، (2/9)، السنن الكبرى للبيهقي، باب كراهية تأخير العصر، رقم: (1935)، (1/ 445)، بلفظ ((أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ : إِنَّ أَهَمَّ أَمْرِكُمْ عِنْدِي الصَّلاَةُ، فَمَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ، ثُمَّ كَتَبَ : أَنْ صَلُّوا الظُّهْرَ إِذَا كَانَ الْفَيْءُ ذِرَاعاً، إِلَى أَنْ يَكُونَ ظِلُّ أَحَدِكُمْ مِثْلَهُ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ، قَدْرَ مَا يَسِيرُ الرَّاكِبُ فَرْسَخَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَالْعِشَاءَ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، فَمَنْ نَامَ فَلاَ نَامَتْ عَيْنُهُ، فَمَنْ نَامَ فَلاَ نَامَتْ عَيْنُهُ, فَمَنْ نَامَ فَلاَ نَامَتْ عَيْنُهُ، وَالصَّبْحَ وَالنُّجُومُ بَادِيَةٌ مُشْتَبِكَةٌ))، عن ابن عمر رضي الله عنه.
  13. سبق تخريجه.
  14. تهذيب الآثار للطبري، مسند علي بن أبي طالب، رقم: (263)، (166)، شرح مشكل الآثار للطحاوي، باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من نهيه عن إضاعة المال، رقم: (3203) (8/ 226).
  15. تاريخ المدينة المنورة لابن شبة النميري، (2/58)، بلفظ: ((عن صفوان بن عمرو قال، حدثني سليم بن عامر قال: قدم عمر رضي اللّه عنه الجابية فقضى بين الناس، فلما أظهر توجه إلى أبي عبيدة، ثم قال: نحو منزلك يا أبا عبيدة، فقال: مرحباً وأهلاً يا أمير المؤمنين، ثم سبقه أبو عبيدة إلى منزله، فلما دخل قالت امرأة أبي عبيدة: مرحباً يا أمير المؤمنين، قال: فلانة؟ قالت: نعم فلانة. قال: والذي نفس عمر بيده لأسوأنك. قالت: إياي تعني؟ وقالت: واللّه ما تقدر على ذاك، فأعاد عليها مثل قوله، وأعادت عليه مثل قولها، فغضب، فلما رأى أبو عبيدة غضبه، قال: بلى والله يا أمير المؤمنين إنك لتقدر على ذلك فقالت: والله ما هو على ذلك بقادر، قال عمر رضي اللّه عنه: إنك لتُدلين بدالّة. قالت: هل تستطيع أن تسألني الإسلام فتذهب به؟ قال: لا والله، قالت: فلا واللّه ما أُبالي ما كان بعد، فقال عمر رضي اللّه عنه: أستغفر اللّه، ثم سلّم فانطلق. قال صفوان: فقلت لسليم: ما كان غضبه عليها. قال: بلغني أن امْرأةَ عظيم دمشق من الأعاجم حين فتحت دمشق أهدت إليها عقداً فيه خرزة لؤلؤ وجزع، لعله لا يساوي إلا ثلاثمائة درهم)).
  16. مسند الفردوس للديلمي، رقم: (3795)، (1/ 256)، بلفظ ((الصلاة عماد الدين والجهاد سنام العمل والزكاة يثبت ذلك))، الجامع الصغير للسيوطي، رقم: (5187)، (3/120)، عن علي رضي الله عنه.
  17. السنن الكبرى للنسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء (9/81)، ومسند الإمام أحمد (9/274)، والمستدرك على الصحيحين للنيسابوري كتاب النكاح، رقم: (2676) (2/174)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
  18. سنن أبي داود، باب وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، رقم: (1321)، (1/507)، مسند الامام أحمد، رقم: (23347)، (21/115)، بلفظ: ((كَانَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى.))، عن حذيفة رضي الله عنه.
  19. مسند الامام أحمد، رقم: (23202)، (5/ 371)، سنن أبي داود، باب في صلاة العتمة، رقم: (4334)، (13/166).
  20. نوادر الأصول في أحاديث الرسول للترمذي، الأصل السادس والعشرون والمائتان، في أن رأس الحكمة لم صار مخافة الله (3/84)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (742)، (1/47)، عن ابن مسعود رضي الله عنه.
  21. مسند الفردوس للديلمي، رقم: (3795)، (1/ 256)، بلفظ: ((الصلاة عماد الدين والجهاد سنام العمل والزكاة يثبت ذلك))، الجامع الصغير للسيوطي، رقم: (5187) (3/120)، عن علي رضي الله عنه.
  22. مسند الفردوس للديلمي، رقم: (3799) (2/405)، فيض القدير للمناوي، رقم: (5189)، (11/242)، عن ابن عمر رضي الله عنه.
  23. صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم: (5665)، (5/ 2238)، وصحيح مسلم، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم: (2586)، (4/ 1999)، بلفظ ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى))، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
  24. مصنف عبد الرزاق الصنعاني، باب لا يبلغ بالحدود العقوبات، رقم: (13675)، (7/413)، عن عمر رضي الله عنه.
  25. مسند الفردوس للديلمي، رقم: (3799)، (2/405)، فيض القدير للمناوي، رقم: (5189)، (11/242)، عن ابن عمر رضي الله عنه.
WhatsApp