تاريخ الدرس: 1981/02/17

في رحاب الآداب والأخلاق

مدة الدرس: 01:00:54

في رحاب الآداب والأخلاق (104): الصلاة والجهاد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصَّلوات وأعطر التّحيات على سيِّدنا وحبيبنا مُحمَّد خاتم النبيّين والمرسلين، وآل كلٍّ وصحب كلّ أجمعين، وبعد:

الاتصال بروح النبي ﷺ

تنقصنا في صحبة ومجالسة رسول الله ﷺ رؤية جسده والاتصال بروحانيته، والاتصال بروحانية النبي ﷺ يهيئ القلب والنفس، أي يهيئ أرض النفس وأرض القلب لإنبات بذور العلم وبذور الإيمان، أما إذا لم تصر هذه الصلة بروح رسول ﷺ، فإن الإنسان حتى لو سمع كلام النبيّ ﷺ وكان ينتفع ويستفيد منه إلا أن هناك فرق بين شخص متصل الروح بروح رسول الله ﷺ وآخر لم يتصل، ويمكن أن يكون الفرق بينهما كما هو الفرق بين الواحد والمئة، أو الفرق بين الواحد والألف، أو الواحد والمئة ألف.. ولا يمكن للروح أن تتصل بروح رسول الله ﷺ ببساطة، فروح النبي ﷺ طاهرة ومقدسة وفيها الحياة بالله وبروح القدس، فمن غير الممكن أن تكون يد الشخص طاهرة ونظيفة ثم يأتي ويصافح بها يداً ملوثة بالقذر والنجاسة، وكذلك روح النبي ﷺ الطَّاهرة المطهَّرة بروح الله عزَّ وجلَّ وبنور القدس.

ذم تعلق القلب بالدنيا

فإذا كانت روحك جيفة في الدنيا، كما ورد في الأثر أن النبي ﷺ قال: ((الدنيا جيفة، وطلابها كلابها)) 1 ، وقلبك لم يطهر بعد من الدنيا.. والمقصود من الدنيا ألا يكون لك تعلق قلبي إلا بالله عزَّ وجلَّ، فإذا أردت أن تشتغل بالدنيا فاشتغل، والدنيا ضرورية؛ من مالها وسلطانها وقوتها وكل ما فيها من خير وسعادة للإنسان، فاعمل بيدك بعد أن تسلم قلبك لله تعالى، ثم املك الدنيا كلها من شرقها إلى غربها، وكلما ملكت أكثر- إذا كان قلبك مع الله عزَّ وجلَّ – كلما ازداد إيمانك وارتفعت درجاتك وانتشر الإسلام أكثر.. والإسلام يحثك على أن تكون قوياً في المال وفي العلم وفي الحكم وفي السلطان، لكن الأمر المهم أن يكون قلبك مع الله تعالى، وهذا يحتاج إلى توبة صادقة.. ويجب أن تفقه التوبة، فهناك فقه الوضوء وفقه التوبة، أليس فقه التوبة فقهاً أيضاً؟ فعليك أن تعرف ما هي التوبة؟

تعريف التوبة

التوبة: أن تأتي إلى كل مقاصدك وأهدافك في الحياة، وميولك ورغباتك التي لا تلتقي مع رضاء الله عزَّ وجلَّ ومع طاعته فتقطعها قطعاً كلّياً، وتربط كل رغباتك وطلباتك وإراداتك وميولك بالله عزَّ وجلَّ وبرضائه، وإذا أسأت في أعمال فيما بينك وبين الله عزَّ وجلَّ، أو فيما بينك وبين الناس، أو فيما بينك وبين خلقه، فيجب أن تنهي الحساب المالي والجسدي والكلامي معهم، وتستسمح منهم بعد أن تتطهر هذه الطهارة، وتجمع قلبك على الله ذكراً، حتى يطهر قلبك وتصير هناك مناسبة [تناسب] في الطهر والحضور مع الله ومناسبة في الميول والرغبات، فتتصل روحك بروح رسول الله ﷺ، عند ذلك إذا سمعت كلام وحديث النبي ﷺ، فكأنك مع النبي ﷺ لا يختلف معك إلا جسد النبي ﷺ، والنبي ﷺ ليس بجسد، إنما هو روح النبي ﷺ، وهو روح يقال له رسول الله ﷺ، وهو جسد اسمه جسد رسول الله ﷺ.

العزم على الإسلام الحقيقي

إذا أردتم أن تصيروا مسلمين ومؤمنين حقيقيين، مؤمنين من الذين أعد الله عزَّ وجلَّ لهم الجنات؛ فهذا يحتاج إلى إيمان القلب والذكر والتوبة والإنابة والصحبة، “تصحب من يَنهَضكَ حاله، ويَدُلُّكَ على الله مَقَالُهُ” 2 ، فإذا طلبت العلم وسمعت كلام النبي ﷺ وقرأت القرآن، انقلب كل ذلك نوراً في قلبك.

الشيخ أمين قدس الله روحه عند أخذه للطريق

عندما أخذ شيخنا [الشيخ أمين] الطريق على شيخه -الشيخ عيسى- منعه من قراءة القرآن، لأنه مثل الذي في معدته قرحة، ويريد أن يأكل أكلاً دسماً، فالأكل مغذٍ وجيد، ولكن الجهاز الهضمي المعدة والأمعاء والكبد هل سيعملون بشكل جيد؟ بالطبع لا؛ لأن فيهم مرض القرحة.. فيقول له الطبيب: لا تأكل شيئاً، بل صُم على الماء حتى يرمم جسمك هذا الخراب كله، وبعد أن يتعافى جهازك الهضمي كُل ما شئت.. فبعد كل ذلك إذا صلى يصير كما قال النبي ﷺ: ((وجُعِلَتْ قُرَّةُ عيني في الصَّلاة)) 3 وإذا عمل عملاً يعمله خالصاً لوجه الله عزَّ وجلَّ، فيشتغل في الدنيا ويكون في أسواقها وتجاراتها، ولكن قلبه معلق بالله تعالى وبالدار الآخرة، فيقوده الله جل جلاله ويتولاه ويرعاه ويحوطه ويحفظه ويحرسه، فتصير حياته سعادة وقرة عين وسرور، وينتقل من جنة الدنيا إلى جنة الآخرة.

فضائل الصلاة

درسكم اليوم في فضائل الصلاة فرضاً ونفلاً، وستأتي أحاديث النوافل في باب النوافل خاصة.

قرأنا سابقاً بعض الأحاديث مثل قوله ﷺ: ((الصَّلَاة عماد الدَّين، والجِهَادُ سَنَامُ العَمَلِ، والزكاة بين ذلك)) 4 ، وقوله ﷺ: ((الصَّلَاة تسود وَجه الشَّيْطَان، وَالصَّدَقَةُ تكسرُ ظَهرهُ، والتحاب فِي الله والتودد فِي الْعَمَل يقطع دابره، فَإِذا فَعلْتُمْ ذَلِك تبَاعد مِنْكُم كمطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا)) 5 .. هل ما زلتم تحفظون هذا الحديث، أم لا؟ من يحفظه منكم؟

هذا الحديث عظيم، فما أجمل أن يُكتب ويُلفَت النظر إليه!

من يحفظه من الشباب؟ هذا من طلاب المعهد، ما اسمك أنت؟ صالح، رضي الله عنك يا صالح، أين تسكن؟ “أنا الآن إمام جامع سعيد باشا”.. كان شيخنا [الشيخ أمين] -قدس الله سره- أول من صار إماماً لجامع سعيد باشا باختيار باني الجامع سعيد باشا -رحمه الله-

حتى لو أتى المشايخ والمهندسين والأطباء متأخرين فليدخلوا إلى هنا، وليجلسوا في الصفوف الأمامية. [كان من عادة سماحة الشيخ أن يكرم أصحاب العلم في مجلسه، وكان أيضاً عظيم الاهتمام بطلاب العلم وتعليمهم ورعايتهم وتربيتهم ومباسطتهم]

أيهما أفضل الجهاد أم الصلاة

وأما الحديث الذي يليه، قوله ﷺ: ((إِنَّ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالذِّكْرَ يُضَاعَفُ عَلَى النَّفَقَة فِي سَبِيل اللَّه بِسَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ.)) 6 يعني أفضل من الجهاد؛ لأنه إذا لم ينفق على الجهاد، لم يعد هناك إمكانية للجهاد، والنبي ﷺ قال عن الجهاد: ((سَنَامُ العَمَلِ))، ولكن في هذا الحديث يقول إن الصلاة أفضل من الجهاد، وقد قال تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 41]، وهو جهاد العدو؛ جهاد الصهاينة والمستعمر، أما الجهاد في بلاد المسلمين فهو جهاد الدعوة، فندعوا المسلمين المقصرين الجاهلين الذين لم يتهيأ لهم من يعلمهم ومن يفقههم في دين الله عزَّ وجلَّ بالحكمة والموعظة الحسنة وبالحب وبالابتسامة الجميلة، أما أن نكفره ونعاديه لأنه بعيد عن الدين، فلم يكن رسول الله ﷺ يفعل ذلك، وهنا يقول ﷺ: بأن الصَّلاة والصِّيام والذِّكرَ أفضل من الجهاد.. كما لو قيل: هل الدفء الآن [فصل الشتاء] بمثل هذا الوقت أفضل من مراوح الكهرباء والمكيفات الباردة، أم المدافئ أفضل؟ فكأن النبي ﷺ يقول: المكيفات والمراوح في تموز وآب [فصل الصيف] أفضل، ولكن التدفئة والمدافئ وإغلاق الأبواب الآن أفضل، فكل شيء له وقت.. فعلينا بناء الإسلام إن كان مخرباً في القلوب.. والمقصود الإسلام الذي كان في البداية، والذي دعا إليه النبي ﷺ، والذي عرفوه في زمن النبي ﷺ وأصحابه الكرام، وليس هذا الإسلام الذي هو موجود في الجوامع الآن، لا أبداً.

“لا إله إلا الله” تعني الانقياد الكامل لله

فأول ما بدأ الإسلام بقول: “لا إله إلا الله، محمد رسول الله” ليس لفظاً أو نطقاً، وإنما ترجمةً باللسان، أي يترجم بلسانه عن حقيقة قلبية، عن “لا إله إلا الله”، أي أنه لم يبقَ في قلبه من يسيِّره ويتعلق به ويتوله فيه.. والوَلَه: هو الحب المشتعل، وهو الحب بأقصى أبعاده وأبعد حدوده.. فلم يبق في قلبه من يتوله به ويغرم فيه، ويشتاق إليه ويعشقه، وينقاد إليه ويعتمد عليه في كل شؤونه إلا الله عزَّ وجلَّ.

فعندما يترجم اللسان ويصف حالة القلب، هذه هي الشهادة ” أشهد”، ليس المراد أن أقول الشهادتين أو القولين، فهناك فرق بين أن تشهد وبين أن تقول، فهل شهد قلبك؟ هذا يحتاج إلى ذكر، فتذكر الله عزَّ وجلَّ حتى تفنى وتتوله في ذكره، كما قال رسول الله ﷺ: ((أكثروا من ذكر الله حتى يقولَ المنافقونَ عنكم إنكم مجانين)) 7 .

هذا ليس طريق ولا تصوف، وليس الطريق النقشبندي، فيجب علينا أن نرجع إلى اصطلاح القرآن والسنة حتى لا يقال لك: “أنا لا أريد أن أكون صوفياً، أو لا أريد أن أكون نقشبندياً”، نحن لا نريد أن نحْدِث فتنة، ونحرم النّاس من أساس وروح الإسلام، فقل له: إن الله عزَّ وجلَّ هو الذي يقول: ﴿اذْكُرُوا اللَّـهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب: 41]، وليس النقشبندي، والله تعالى هو الذي يقول: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا [المزمل: 8]، وليس الشاذلي، وهو الذي يقول: ﴿قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ [النساء: 31]، فيجب عليكم أن تعودوا إلى الإسلام؛ إسلام القرآن.

كان الإمامان الشافعي والحنفي من كبار الأولياء

لقد كان إسلام الشافعي والحنفي-رحمهما الله- بمفهومنا في هذا الزمان غير مفهوم الإسلام الذي فهمه الشافعي والحنفي، فقد كانا يذكران الله عزَّ وجلَّ دائماً، ليلاً ونهاراً، وقياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، كانا من كبار أولياء الله تعالى، ومن أصحاب القلوب والكشف.. كان الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- إذا رأى رجلاً يتوضأ يرى ذنوبه تسقط مع ماء وضوئه، فيقول له: “تب من الزنا” “وتب من الغيبة” “وتب من النميمة”، وكان الإمام الشافعي- رحمه الله- يصلي الصبح ويذكر الله تعالى إلى طلوع الشمس.

فأين هو من المذهب الشافعي؟ تعلَّمَ من المذهب الشافعي أن يرفع إصبعه في التشهد في الصلاة، وذاك تعلم أن يخفضها، وتعلم من المذهب الشافعي ألا يصلي وراء الحنفي، وتعلم الحنفي ألا يصلي وراء الشافعي.. بينما الإمام الشافعي لما صلى صلاة الفجر عند قبر الإمام أبي حنيفة -رحمه الله- لم يقنت فيها، وبعد أن سلَّم، قالوا له: “لمَ لم تقنت؟” قال لهم: “أدباً مع صاحب هذا القبر”، قالوا له: لماذا كان هذا الأدب؟ قال: “لأنه كان يصلي الفجر ولا يقنت، فأنا اقتديت به بعد موته”.

ذات مرة كنت أحكي هذه القصة أمام عالم، فقال لي: هل يجوز للإمام الشافعي أن يترك سنة رسول الله ﷺ لأجل إنسان؟ هل أبو حنيفة أعظم أم النبي ﷺ؟ هل يريد أن يقلد النبي ﷺ أم يقلد أبا حنيفة؟ كان هذا السؤال والنقد بمحله، وهو وجيه وصحيح، ويجب أن لا تتضايقوا من النقد، فإذا انتقدكم أحدهم فاشكروه.. فقد كان سيدنا عمر-رضي الله عنه- يقول: “رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي” 8 .. قلت له: “لا -يا أخَا العرب- لم يقصد الإمام الشافعي أن يترك كلام وسنة سيدنا النبي ﷺ من أجل كلام أبي حنيفة، ولكنه قد ثبت عنده بأن النبي ﷺ صلى الفجر وقنت، وصلى ولم يقنت، فهذه سنة وهذه سنة، ولكن ترجح عنده القنوت فقنت، فعندما ذهب إلى الإمام أبي حنيفة تأدب عنده حتى يفهمَنَا كيف نتأدب، وكيف تأدب أهل العلم مع بعضهم؛ فهو عمل بسنة النبي ﷺ التي ثبتت عند الإمام أبي حنيفة، فإذاً هذا هو الإمام الشافعي وهذا هو الإمام الحنفي -رحمهما الله تعالى-

معنى محمد رسول الله ﷺ

ما معنى شهادة “أن محمداً رسول الله”؟ وما معنى رسول الله ﷺ؟ إذا جاءك أحد من عند الله يحمل لك هديةً أو عطاءً أو سعادةً، فهل تتركه؟ وكيف يكون ارتباطك فيه ومحبتك وصحبتك وقربك ومجالستك له؟ فهكذا أحبوا رسول الله ﷺ، فالإيمان لا يكون إلا بشهادة ” لا إله إلا الله، محمد رسول الله” بمعناها الحق وكذلك بالصحبة، ولكن رسول الله ﷺ التحق بالرفيق الأعلى، فإذا ذهب هل انتهى الإسلام؟ لا، لم ينتهِ، وإنما قال: ((الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء)) 9 ، فالإسلام جعل لك العالِم في مقام النبوة فأين أنت من صحبة النبوة؟ وأين أنت من الهجرة إلى النبوة؟ وأين أنت من الأدب مع النبوة؟ ومما ورد: ((عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ)) 10 .. كما لو أنك قلت: “فلان كالأسد”، ما معنى كالأسد؟ هل معنى ذلك أن له أظافر وأنياباً؟ لا، بل المقصود الصفة التي علا بها الأسد على أمثاله، وهي الإقدام والجرأة والشجاعة والقوة والبطش و.. إلخ، فمعنى كأنبياء: أي في الهداية والقرب وفي وجوب الصحبة ووجوب الهجرة ووجوب الأدب وفي وفي.. إلخ.

الصلاة أول الإسلام

ففي أول الإسلام لم يكن سوى شهادة: “لا إله إلا الله، محمد رسول الله” فعندما بُنِيَت في القلوب، وتولهت هذه القلوب بالله عزَّ وجلَّ، وارتبطت برسول الله ﷺ، فرض عليهم الصلاة؛ ركعتين في الصباح، وركعتين في المساء، ثم بعد ذلك فرض عليهم شيئاً من الصيام، والذكر كان قبل كل شي، كانت الأرض في ذلك الوقت صحراء.. فإذا كانت الأرض صحراء ولم نمد لها السواقي من نهر الفرات، ولم نعمل لها المجاري، ولم نُقَسِّمها ولم نصلحها، هل نبذر مباشرة؟ أم علينا أن نعمل هذه المقدمات أولاً؟ يجب أن نعمل هذه المقدمات أولاً.. ففي صحراء حياة الإنسان عليك أن تشتغل بالذكر قبل كل شيء، وبالصلاة وبالعبادات وبالتوجه إلى الله عزَّ وجلَّ حتى تتمكن ملكة الإيمان بالله تعالى، وبكل شعب الإيمان: ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ))، يجب ألا يكون في قلبك غير الله؛ هذه أعلاها، فلا يخاف ولا يرجو ولا يتعلق ولا يذكر غير الله عزَّ وجلَّ، فهذه هي أعلاها، ((وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ)) 11 ، فليس المراد أن تنطق بالحديث، وإنما أن يكون الحديث خُلُقَك، وملكة نفسك والمسيطر على كل سلوكك، وهذه أدناها، فأين هذا الذي يغتاب وينمّ ويحقد ويحسد ويتكبر ويغدر ويغش ويسرق ويرتشي؟ وأين الذي يأكل الحرام أشكالاً وألواناً؟ فالصلاة في أول الإسلام، وأنت الآن في أول إسلامك، فالصلاة بالنسبة لك أفضل من الجهاد، لأنك إذا أردت أن تجاهد، والجهاد عندك لم يستكمل بعد لكل شروطه من الإيمان القلبي إلى الإيمان الأخلاقي، وإلى الفقه في الدين وإلى الحكمة، فلن تنجح، فعليك فعل كل ذلك حتى ينجح جهادك، فإذا جاهدت بلا حكمة فلن تنجح.

سبب أفضلية الصلاة على الجهاد أول الإسلام

هل المقصود من الجهاد قتل الأنفس وسفك الدماء؟ أم المقصود النصر وإعزاز الإسلام؟ فإذا لم يحقق الجهاد نصراً، ولم يعز إسلاماً ولم يرفع منارته، وإنما يذله ويسفك الدماء ويوقع في الأرض الفساد؛ صار الجهاد حراماً، وانظروا إلى حياة النبي ﷺ، لماذا لم يجاهد في مكة؟

((الْإِيمَانُ بضعٌ وسبعون شُعْبَةً)) ما هو البضع؟ من ثلاثة للتسعة، أي من ثلاثة وسبعين، أربعة وسبعين، للتسع وسبعين، ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً)) فقال: نزَل على النبي بضع وسبعون آية كلها تنهاه عن الجهاد قبل معركة بدر، لم؟ لأن الأسباب لم تتهيأ بعد؛ ولهذا إذا لم يعطِ الجهاد نتاجه، ولم يعطِ الهدف منه؛ فعند ذلك يصير حراماً، ففي قوله تعالى: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّـهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال: 45]، فإذا لم يسمح الله عزَّ وجلَّ لك بترك الذكر في أثناء الحرب، فكيف في أوقات فراغك؟ مع أنه في أثناء الحرب تتطاير الرؤوس في ساحة المعركة، وتصير الأعضاء أشلاء مبعثرة، وتنزف الدماء، وتتدلى الأمعاء، رغم ذلك قال: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّـهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال: 45]، والمقصود هنا من الفلاح النصر.

الفلاح ثمرة الحكمة

فمعنى “حي على الفلاح”، أي على النجاح في كل شؤونك، فإذا لم تكن فقيهاً في الدين ستدخل في الجهاد لتسجل الهزائم، وهذا لا يصح أبداً، فلا يسمح لك أن تدخل في معركة تذل بها الدين والإسلام، أو تسجل بها هزيمة للإسلام، ألم يمر معكم؟ ((لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤمنِ أَن يذل نَفسه يَتعرضُ للبلايا لما لا يطيق)) 12 .. عندما كان النبي ﷺ في مكة لم يسمح الله له أن يقاتل، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يسمح للصحابة بالقتال، مع أنهم كانوا يريدون أن يقاتلوا، فقد كانوا شباباً ولديهم حماس، ولكنهم كانوا مرتبطين بالنبي ﷺ.. وأنت كذلك يجب أن تكون مرتبطاً بمن هو مرتبط بالله عزَّ وجلَّ وبحكمته وبأحكامه وبشرعه، ولذلك كان هذا الحديث: ((إِنَّ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالذِّكْرَ يُضَاعَفُ عَلَى النَّفَقَة فِي سَبِيل اللَّه -هذا كان في مكة أي في أول الإسلام- بِسَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ)) فأيهما أفضل؟ وأيهما أعلى في أول الإسلام؟ أن تجاهد وتنفق المال على الجهاد، أم أن تنفق المال على الصلاة والصيام والذكر؟ فإذا انتهيت من هذه المرحلة، وصار عندك الطاقة والشَّعب، والمجتمع الصائم المصلي الذاكر؛ فعند ذلك أنفق في سبيل الله عزَّ وجلَّ، وجاهد اليهود، وهم الآن موجودون على الحدود، يتحدون العرب والعالم الإسلامي وهيئة الأمم، وبالحقيقة ليس اليهود هم الذين يتحدون فقط، وإنما أميركا أيضاً تتحدى بكل مخترعاتها وقنابلها الذريّة والنيتروجينية، وكذلك الحلف الأطلسي، وأوروبا وأميركا فكيف سنحاربهم جميعاً؟

الحرب تكون في وقتها المناسب

يجب أن نرجع للقائد العربي الذي سطّر بالإسلام عزة ومجد وخلود العرب، نقرأ مخططه الحربي وكيف حارب؟ وكيف أعد المقاتل للحرب؟ لو كان النبي ﷺ حياً الآن، فاعلم يقيناً أنه لن يحارب أبداً، فلو أراد النبي ﷺ أن يحارب في غزوة الخندق لم يمنعه من الحرب جبن ولا خوف، ولا حرص على الحياة، ولكنه لم يرد أن يسفك دماء العرب، بل اختزن وخَبَّأ هذه الدماء لجهاد الاستعمار والدولة البيزنطية الرومانية، والدولة الفارسية المجوسية، ولو كان النبي ﷺ حياً الآن، فإنه سيرسل الدعاة إلى أمريكا وإلى أوروبا، فليس المراد أن نشن حرباً يذهب فيها مليون مسلم، فلو بعثنا إلى أوروبا ألف داعية إلى الله سيفتحونها، ولو بعثنا ألف داعية لأميركا سيفتحونها بالذكر وبالصلاة وبالصوم.

تَعَرَّف إخوانكم الأوربيون المسلمون النقشبنديون من الإيطاليين والألمان والأمريكان على خوري كندي في يوم الجمعة الذي مضى، وأتوا به إلى الجامع، وأعتقد أنه لن تأتي الجمعة القادمة إلا وقد أسلم، فإذا أسلم الخوري فلا داعي للكنيسة، ومن الممكن أن تتحول الكنيسة إلى جامع.. صار بفرنسا الآن حوالي ثلاث مئة وستين أو سبعين أو ثمانين مسجداً، منذ متى كان يحصل هذا؟ يوجد من إخوانكم الآن في إيطاليا من كبار العلماء والأطباء، وفي أمريكا وإنكلترا وفرنسا، إذا ذهب أحدكم الآن وعرفوا أنه من جامع أبي النور سيجد إخواناً له بفرنسا في قلب باريس، فعندما ذهب الشيخ رجب والشيخ أبو الفضل وبعض الدعاة إلى هناك عادوا مندهشين، وقالوا: إذا صار هناك نشاط دعوي، فإن الإنتاج يعادل ألف إنتاج في دمشق.

الدعوة قبل السيف

فإذا كان الجو مهيأً هناك [في بلاد الغرب]، فهل سيستعمل النبي ﷺ السيوف ويقطع رقابهم؟ بالطبع لا، بل سينقلهم من الشقاء إلى السعادة، ومن المعاصي إلى الطاعة، ولذلك كان الحديث: ((إِنَّ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالذِّكْرَ)) أي الصلاة التي عرفها النبي ﷺ وليست الصلاة التي نصليها نحن؛ صلاة الجهل والجاهلية، صلاة الجسد والقلب غافل لاهٍ، الصلاة من عاشق الدنيا وفاقد الحب الإلهي مع الله عزَّ وجلَّ، فاقد الحب في أخلاقه وفي صفاته وفي قلبه، وفي محبة أحباب الله وفي محبة الأعمال الصالحة، بل المقصود الصلاة التي عرفها النبي ﷺ، والصوم الذي عَرَفَه وعلمه النبي ﷺ، فالصوم ليس فقط صوم الجسد، فصوم الجسد الذي يترك فيه الصائم الأكل والشرب، هذا الصوم للصحة فقط، لكن هناك صوم الأخلاق والنفس عن الرذائل، وهناك الصوم الإلهي الرباني: أي أن يصوم قلبك عما سوى الله عزَّ وجلَّ؛ فيتفرد به وينقطع إليه ويمسك عن غيره “إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي” فعندما يكون الإسلام في أوله، يكون الحديث: ((إِنَّ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالذِّكْرَ يُضَاعَفُ عَلَى النَّفَقَة فِي سَبِيل اللَّه بِسَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ)). رواه أبو داود والحاكم عن معاذ بن أنس.

أَفْضَلُ الرِّبَاطِ الصَّلَاةُ

وقال ﷺ: ((أَفْضَلُ الرِّبَاطِ الصَّلَاةُ، وَلُزُوَمُ مَجَالِسِ الذِّكْرِ)) 13 ، والرباط: هو وقوف الجيش على الحدود أمام العدو، حتى لا يقتحم بلادنا وينتهك حرماتنا، ويستولي على أراضينا، فالجيش الحارس على الحدود هم المرابطون -أسأل الله أن يجعلهم مرابطين في الأرض وفي السماء-

فالإسلام يقول: الرباط ليس فقط مكافحة العدو والوقوف عند الحدود، وإنما يوجد هناك رباط ثانٍ وهو أفضل من الأول، فقال: ((أَفْضَلُ الرِّبَاطِ الصَّلَاةُ)) أيّ صلاة؟ الصلاة التي في قوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه: 14]، الصلاة التي في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون: 2]، الصلاة التي: ﴿تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ [العنكبوت: 45]، الصلاة في قوله تعالى: ﴿إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّـهِ [الجمعة: 9]، هل قال: “فاسعوا إلى الصلاة؟” فلمَ حذف الصلاة، وقال الذكر؟ لأن روح الصلاة هي الذكر، كما في قول النبي ﷺ: ((الْحَجُّ عَرَفَةَ)) 14 ، وهنا الصلاة هي الذكر، وليس معنى ذلك ألا تركع ولا تسجد، لأن الركوع فيه ذكر، والسجود فيه ذكر، والقعود فيه ذكر، والقيام فيه ذكر، فإذاً أين محل الذكر؟ هل في الأنف أم في اليد أم في الرجل؟ لا، بل محله في الشعور والحس والقلب والفكر والعقل والخيال، فعليك أن تشغل قلبك وفكرك بالذكر، وهذا لن يكون حتى تفنى وتقوى محبتك بعارف بالله.. فمن المستحيل أن تتعلم البقلاوة إذا لم تحب معلمك، ولم ترتبط فيه ولم تسمع كلامه، وإذا لم تأتِ باكراً ولم تفتح له الباب وتكنس له الدكّان، حتى لو قام بسبك وشتمك وضربك، وجعلك تحمل على ظهرك، وكلما أطعته وانقدت له أكثر، أعطاك سر المهنة.

التسليم للمربي

كيف كان الصحابة رضوان الله عليهم مع النبي ﷺ؟ وكيف كان المسلمون مع الشيوخ ومع المعلمين الذين انتفعوا بهم، وصار فيهم الإيمان الحق، وكيف كان الذين لم ينتفعوا مع الشيوخ؟ أنا أعرف أناساً صحبوا شيخنا [الشيخ أمين] خمسين سنة، وتوفوا وكانوا محبين، ولكن كان هناك شيء في داخلهم غير صحيح، وكانت أعمالهم وسلوكياتهم تدل على ذلك، فقد كانت تقوم قيامتهم [كناية عن الغضب الشديد وعدم الرضا] على أمور الدنيا التافهة البسيطة، تجدهم تتقلب أحوالهم بين الغضب وعدم الرضا وحب المال والعجب والكبر والتقدم والتأخر.

الجهاد الأكبر

من صار قلبه مع الله عزَّ وجلَّ فإنه سيرمي كل ذلك وراء ظهره، ولا يعني ذلك أن يترك حقوقه ولكنها لا تهمه، لأنها ليست الشيء الأصيل فيه.. فإذاً كان النبي ﷺ يعدّ الجهاد الأكبر في الدرجة الأولى، والجهاد الأكبر: هو جهاد النفس والهوى، ويعد الرباط في الوقوف أمام الشيطان، حتى لا يصدك عن سبيل الله عزَّ وجلَّ ولا يغفل قلبك عنه، ولا يوقعك في مخالفته، فلا يوجد من يحميك إلا ذكر الله عزَّ وجلَّ؛ لذلك قال النبي ﷺ: ((أَفْضَلُ الرِّبَاطِ)) فيجب أن تكون دائماً حارساً لقلبك فلا يدخله الشيطان ولا تدخله الغفلة ولا الجهالة.

الذكر مع الجماعة

((أَفْضَلُ الرِّبَاطِ الصَّلَاةُ وَلُزُوَمُ مَجَالِسِ الذِّكْرِ)) أي الذكر مع الجماعة؛ لأنه قد يكون معك فقر دم قلبي، ولا تستطيع أن تقوم بالواجبات وحدك؛ فاذكر مع الجماعة، عملاً بالحديث القدسي: ((منْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي -وهذا الذكر النفسي القلبي- وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأ -في جماعة- ذَكَرْتُهُ فِي مَلأ خيرٍ من ملئه)) 15 ، فإذا كنت تذكره فهو يذكرك، وإذا كنت تعمل ورداً له فهو يعمل ورداً لك، وإذا كنت تدعوه ليستجيب لك فهو يدعوك لتستجيب له، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال: 24]، يا أيها الذين آمنوا، ويا: في الأصل أداة نداء، ولكنها هنا أداة دعاء أيضاً؛ لأن الله يدعونا لنستجيب له، فعندما ندعوه ليستجيب لنا، يقول: “أنا دعوتكم فهل استجبتم لي، حتى إذا دعوتموني أستجب لكم؟” كما في قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 153]، أي استجيبوا لي أستجب لكم، وهذا شيء واضح، فهو من فقه القرآن، وأنتم -يا طلاب العلم- لا تظنوا أن هذا الذي تقرؤونه في المدرسة هو الأساس، لا، هذا مَعْبَرٌ وطريق لا بد منه، أما الأساس فهو ما أنتم فيه الآن، وهذا هو المعوَّل عليه علماً وفقهاً وقلباً وذكراً وأخلاقاً وسلوكاً.. أسأل الله تعالى أن يفتح عليكم.

((أَفْضَلُ الرِّبَاطِ الصَّلَاةُ)) متى كان هذا؟ كان هذا في مكة، لكن إذا صارت معركة أحد هل نترك المعركة مع النبي ﷺ لنذهب ونصلي في الحرم، الحكمة: أن تضع الأشياء في مواضعها.. هل فهمتم ذلك؟ ((أَفْضَلُ الرِّبَاطِ الصَّلَاةُ وَلُزُوَمُ مَجَالِسِ الذِّكْرِ)).

القعود للذكر

((وَمَا مِنْ عَبْدٍ يُصَلِّي ثُمَّ يَقْعُدُ فِي مُصَلَّاهُ -أي يقعد ليذكر الله عزَّ وجلَّ- إِلَّا لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ -تمده بأنوارها وبحكمتها وبلطائفها- حَتَّى يُحْدِثَ أَوْ يَقُومَ)) 16 أي يقوم من مجلسه، أو يترك عمله، وقال ﷺ: ((إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا دَخَلَ فِي صَلاَتِهِ أَقْبَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ، فَلَا يَنْصَرِف عَنْهُ حَتَّى ينقلبَ، أَوْ يُحْدِثَ حَدَثَ سُوءٍ)) 17 ، فإذاً الصلاة هي مواجهة مع الله تعالى؛ لأنك تقول فيها: “وجهت وجهي”، فهل حَدَثَت لك هذه المواجهة؟ يعني هل واجهته؟ وهل حَدَّثْته وحَدَّثك؟ أو شعرت به وأقبلت عليه؟ وهل امتلأ قلبك من جلاله، أو أُخذ بجماله؟ وهل أحسستَ بقربه وبخشيته؟ وهل سَرَت فيك من روحه؟ كما في قوله تعالى: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا [التحريم: 12]، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النحل: 2].

قال: ((إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا دَخَلَ فِي صَلاَتِهِ أَقْبَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ))، هذا تمثيل لتلاقي الروح الإنساني مع الروح الإلهي، ((فَلَا يَنْصَرِف عَنْهُ حَتَّى ينقلبَ))، فعندما تنقلب وتعرض عن الله عزَّ وجلَّ يعرض الله عنك، ((أَوْ يُحْدِثَ حَدَثَ سُوءٍ)) أو ينقلب من الطاعة إلى المعصية، ومن الذكر إلى اللغو أو إلى الإثم. رواه ابن ماجة عن حذيفة.

تعمير المساجد من التقوى:

وقال ﷺ: ((إن الله تبارك وتعالى إذا أنزل عاهةً من السماء على الأرض- بلاء أو مصيبة أو كارثة- صُرِفت عن عُمَّار المساجد)) 18 أي الذين يعمرونها بذكر الله عزَّ وجلَّ وبمرضاته، ويعمرونها ببناء الإسلام وبدين الله عزَّ وجلَّ، ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّـهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 18]، هل المقصود النجّار والحدّاد والمهندس والبنَّاء؟ ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ [التوبة: 108] وهل المقصود أنه أسس على الحجر المنحوت والاسمنت؟ ﴿ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى الأساس هو التقوى، والعمارة الظاهرة هي الإيمان بالله واليوم الآخر.. الإيمان بالله في إنجيل برنابا يقول: “الإيمان بالله حق الإيمان؛ أن يملأ نورُ الله قلبك”، أي أن يشع الإيمان ويمتلأ ويصير نوراً.

أبو مصطفى الخرفان -رحمه الله

في يوم من الأيام قال لي: أبو مصطفى الخرفان -رحمه الله- أنه نزل مع شيخنا بعد صلاة التراويح إلى غرفته، واستأذنه بالجلوس فقال له: “اجلس”، وقال لي: “أغمض الشيخ عينيه بالمراقبة والتوجه إلى الله عزَّ وجلَّ، فأغمضت عيني، فكنت أرى مثل الشلال من النور من قلب الشيخ إلى قلبي، ثم بعد ذلك صرت أسمع دوياً، ففتحت عيناي فلم أجد الشيخ على السجادة وإنما وجدت نوراً محضاً”، قال لي: “لم أرَ جبته ولا يديه ولا رجليه ولا عمامته ولا لحيته، لم أرَ إلا نوراً محضاً”.

الهجرة إلى الشيخ

هذا الإيمان غالٍ كثيراً، ويحتاج إلى توبة صادقة، وأن يفنى في ذكر الله عزَّ وجلَّ ويعشق الله ولو ترك كل شيء، فإذا كان مرتبطاً بالشيخ وصادقاً معه فلن تستغرق معه أكثر من شهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر، وممكن أقل أو أكثر بحسب القابلية وصدق الارتباط، حتى لو بقي ينتظر طول الحياة فالمكسب معه.. كم صرف طالب البكالوريا [الشهادة الثانوية] من الوقت من أجل ذلك؟ من أجل البكالوريا يبذل اثنتي عشرة سنة، ثم من أجل الجامعة؟ رغم أن عامل النظافة يحصل على أكثر مما يحصل عليه طالب الجامعة، مع أنه درس الجامعة، ويحمل شهادة جامعية، رغم ذلك يأخذ عليها ألف ومئة ليرة، ويأخذ عامل النظافة ألف وست مئة ليرة من بداية عمله في التنظيف، فخذ بكالوريا من الله عزَّ وجلَّ.. أخذ النبي ﷺ شهادة النبوة والرسالة بثلاث سنين، جلس في الغار مع الله عزَّ وجلَّ، وترك السيدة خديجة وتجارتها وقافلتها وأصحابه.. أنتم لا تتركوا، لأن من ليس له شيخ عليه أن يقعد في المغارة، ومن كان له شيخ فلا يقعد فيها، فالصحابة رضوان الله عليهم لم يقعدوا في المغارة، وإنما قعدوا مع النبي ﷺ، وهل هاجروا إلى النبي ﷺ؟ لا، إنما هاجروا إلى الله ورسوله، هل كان الله عزَّ وجلَّ في المدينة؟ لا، لكن إذا قعدت مع النبي ﷺ وهو بالمدينة سترى نفسك مع الله تعالى.. فهذا الإيمان فُقِد الآن مع أنه لم يُفقَد كلياً، ولكن من ندرته صار مفقوداً مع أنه هو الأساس.

خطأ أهل التصوف

كان خطأ أهل التصوف أنهم وقفوا عند هذا الحال ولم يتجاوزوه، لم يتجاوزوه إلى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً [البقرة: 201]، ولم يتجاوزوه إلى الحكّام، قالوا: “بئس العلماء على أبواب الأمراء”، وهذا خطأ كبير، هل هذا القول آية في القرآن أم حديث في البخاري؟ وهل معنى ذلك بئس النبي ﷺ على باب أبي جهل وأبي لهب وعلى باب مشركي ووثني العرب؟ وهل بئس النبي ﷺ عندما دخل في حماية المطعم بن عدي؟ هل بئس النبي ﷺ عندما كان يعرض نفسه على القبائل؟ ويقول لهم: ((إن قريشاً منعتني من أن أبلغ دعوة الله، فاحموني)) 19 يطلب الحماية منهم، هذه هي الحكمة وهذا هو الإسلام.

الاستجابة لله وليس لرياء الناس

قالوا: “يجب ألا نذهب إلى الحكام، لأن هذا من الرِّياء”، أي حتى يقول الناس: أنهم لا يذهبون إلى الحكام، هل يطلبون الله عزَّ وجلَّ بذلك أم يطلبون الناس؟ ماذا يقول القرآن؟ هل يقول: اذهبوا إلى الحكام أم لا تذهبوا؟ قال الله تعالى: ﴿اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ [طه: 43]، ما الذي ستقولونه له؟ هل قال لهم: سبوه واشتموه وكَفِّروه؟ بل قال لهم: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ [طه: 44].. فإذا أصبحت رئيساً للدولة كما النبي كان ﷺ بالمدينة، عند ذلك أره قدره [وقيمته]، مع ذلك لم يقاتل النبي ﷺ العرب، وإنما قاتل الرومان؛ لأن الرومان لم يقبلوا الإسلام، من الذي حرك حرب الردة؟ الذي فعل ذلك هو الاستعمار الروماني والفارسي، ولما زحف الإسلام إلى فارس وإلى الروم كان قتالاً وقائياً؛ لأنه لو لم يزحف الإسلام سيزحفون هم إليه، ويقضون عليه عقيدة ودولةً، مع أن النبي ﷺ لم يرد قتل العرب، ولكن لما صاروا عملاء الاستعمار في عهد أبي بكر رضي الله عنه شن عليهم الحرب، وأنهى العملية بأربعة عشر شهراً.

غياب المنهج الرباني عن حياة العرب اليوم

نحن العرب بلا إسلام، وبلا برنامج القائد الأعظم الذي كتب التاريخَ الخالدَ العالمي للعرب، فهل سننجح من غير منهاجه؟ العرب كلهم اليوم يتقاتلون ويقتلون بعضهم بعضاً، واليهود يرقصون ويمرحون وهم مسرورون، والآن لم تبقَ إلا سوريا في الميدان، وليس لنا نجاة لا نحن ولا غيرنا إلا أن نسلك طريق النبي ﷺ، فيا ترى هل يسير نواب النبي ﷺ: ((الْعلمَاء -الذين هم- وَرَثَة الْأَنْبِيَاء)) في طريقه؟ فلو أنهم مشوا لتوحدوا كلهم، ولكنهم لا يتوحدون ولا يحبون بعضهم البعض، ولا يرجعون للهدي النبوي ولا للطريقة النبوية.. سنة النبي ﷺ: أي طريقة النبي، فمكة لها حكم مكة، والمدينة لها حكم المدينة.. ولما كان موسى وهارون عليهما السلام في وضعهما أمرهما الله عزَّ وجلَّ أن يذهبا إلى فرعون، فقال: ﴿اذْهَبَا.

لا يكفيه اليوم أنه خاطئ في طريقه، كذلك يريد أن يخرب على المصيب عمله، كيف إذاً سينجح الدين؟ مستحيل -يا بني- مستحيل.. أسأل الله أن يرزقنا فهم الإسلام كاملاً بما فيه من الحكمة.

قال: ((صُرِفت عن عُمَّار المساجد)) هذه السوكرتا [الضمان والأمان والعناية] الإلهية، أي إذا أتت عاهة صرفت عن عمار المساجد، قال تعالى: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد: 8-9]، لا يوجد شيء عبثاً، وكل شيء بتقدير إلهي، ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر: 49-50].

جعلت قرة عيني في الصلاة

وقال ﷺ: ((حُبِّبَ إليَّ من دنياكمُ النِّساءُ والطِّيبُ، وجُعِلَتْ قُرَّةُ عيني في الصَّلاة)) 20 ، ((حُبِّبَ إليَّ من دنياكمُ النِّساءُ)).. كلمة “ثلاث” ليست من أصل الحديث، فانتبهوا لذلك حتى لا يخطأ أحدكم أمام أحد الشيوخ فيهينه أمام كل الناس، وإذا كان الشيخ فهيماً فلا يهينه أمام الناس، وإنما يتكلم معه بعد انتهاء المجلس، ويقول له: “يا بني هذه الكلمة لم ترد في الحديث” ومع ذلك لو قال كلمة “ثلاث” فهو مصيب؛ لأنها ثلاثة أشياء بالفعل، وعند ذلك يكون قد روى الحديث بالمعنى، وهذا يصح عند المحدثين.. ولكن يوجد أناس يحبون أن يفعلوا ذلك؛ ليراهم الناس أنهم على فهم وعلى علم، وهذا يسمى رياءً وكذلك قلة أدب؛ لأنه لم يتربَّ عند العلماء، ولكن من الأفضل ألا تخطئوا أمام أحد.. ((حُبِّبَ إليَّ من دنياكمُ النِّساءُ))، هل معنى ذلك أن النبي ﷺ كان يحب النساء؟ ألم يكن النبي ﷺ يحب الطعام كالموز والبقلاوة [حلوى شرقية] والرّز بالحليب، وكشك الفقراء [نوع من الحلوى، وهو حليب مطبوخ بالنشاء] هل هذا عيب؟ لا، فهذا ليس عيباً، حتى لو أحب امرأته بالحلال فإن هذا من صفات الأنبياء، لكن يجب ألا تحبها أكثر من الله عزَّ وجلَّ، وإنما تحب الله أكثر من كل شيء، تحبه الحب العملي، أي تسعى دائماً لمرضاته، وتترك كل ما يسخطه، فلو نادتك الزوجة أو المال أو الابن أو الحياة، وناداك الله عزَّ وجلَّ والإسلام؛ تعرض عن كل نداء، وتلبي نداء الله تعالى والإسلام.. هل تحبّون النساء؟ ولكن كم واحدة تحبون؟ تخافون أن تقولوا أكثر من واحدة، لأنه يوجد من نسائكم من يحضر المجلس، حرصاً على ألا يصل الكلام لهنَّ [يقول الشيخ ذلك ممازحاً].. ((النِّساءُ والطِّيبُ)) معنى النساء: أن تحب النساء حب التكريم وحب التقدير، ولا مانع من الحب الجسدي، ((والطِّيبُ)) معنى ذلك: يجب أن تكون رائحة المؤمن طيبة، ورائحة الجامع طيبة، وكذلك أن تكون سمعتك بين الناس رائحتها طيبة، وحتى إذا أردت أن تتركنا، اترك برائحة طيبة، كما يقال: “فارقنا برائحة طَيِّبَة” [مثل شعبي]، ((وجُعِلَتْ قُرَّةُ عيني في الصَّلاة))، فقد كانت ألذ وأسعد ساعات النبي ﷺ عندما يكون في الصلاة، متى تصبح قرة عينك في الصلاة؟ عندما تكون حاضر القلب مع الله منيباً مخبتاً ذاكراً حاضراً خاشعاً.. فأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحبب إلينا هاتين الاثنتين، أما الصلاة فلم يُدخلها ضمن الحب، وإنما أدخلها ضمن قرة العين.

قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين

وقال النبي ﷺ فيما يرويه عن الله تعالى، قال الله تعالى: ((قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ))، نصف الصلاة للمصلي، ونصفها الآخر لله عزَّ وجلَّ، قال: ((وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ)) فإذا كنت في مقام العبودية؛ هناك عبادة وعبودية، فالعبادة: أن تشغل جسدك لامتثال أوامر الله تعالى، والعبودية والعُبُوْدَة: أن تشغل قلبك وحسك وفكرك بالتوجه والارتباط والحضور مع الله عزَّ وجلَّ، فالعبودة والعبودية: أخلاق وأوصاف وأحاسيس ومشاعر، والعبادة: حركات الجسم لامتثال الأوامر وإقامة الشعائر.

((قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي)) لا تجعل حمدك باللسان فقط، اجعله بلسانك وبكل مشاعرك وأحاسيسك، وبكل فكرك وتوجهك القلبي إلى الله عزَّ وجلَّ، ((وَإِذَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي)) امتدحني وأثنى عليَّ ((وَإِذَا قَالَ: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)) يوم الدين: أي يوم القيامة، من هو الملك والمالك والحاكم؟ الله عزَّ وجلَّ، ((قال: مَجَّدَنِي عَبْدِي)) عظمني وجعل لي المجد، والمجد: هو الحب مقروناً بالتعظيم، ((فَإِذَا قَالَ: ﴿إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي)) انتهى النصف الذي لي، وهذا هو الحد الفاصل، والتي تأتي فيما بعد هي لعبدي، ((وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) يقول له: سأهديك، ((﴿صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، قَالَ هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ)) 21 .

الهداية في القرآن

وعندما تنتهي من قراءة الفاتحة، اقرأ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الأحزاب: 1]، هذه هداية لك، أو اقرأ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59]، وقوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب: 41]، وهذا كله يدخل تحت معنى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ [مريم: 41] وهذه تدخل تحت معنى: ﴿صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ.

سيدنا إبراهيم عليه السلام وامتثاله لأوامر الله عزَّ وجلَّ

يقص لك حياة سيدنا إبراهيم عليه السلام وأعماله وجهاده وبطولته ودعوته ومخافته من الله عزَّ وجلَّ وامتثاله لأوامره، عندما أمره الله بذبح ولده، هذا معنى اهدنا، وقد هداه الله تعالى.. ماذا تفعل إذا أمرك الله عزَّ وجلَّ بذبح ولدك؟ هل تقول له: حاضر سأفعل؟ أمر الله تعالى سيدنا إبراهيم عليه السلام بذلك فاستجاب، وألقاه في النار ولم يتلجلج ولم يتزلزل، ولم يشك ولم يسيء ظنه بالله سبحانه ولم يحجب عنه، لم يرَ النار، وإنما رأى نفسه مع الله تعالى، فظهر له جبريل فسأله: “هل لك من حاجة يا إبراهيم؟” قال: “أما إليك فلا”، فقال: “سل ربك”، قال: “حسبي من سؤالي علمه بحالي” 22 ، وهذا مقام من المقامات.. هناك أناس تدعو مع أن الله عزَّ وجلَّ عالم بحالها، هو لا يدعو الله ليُعْلِمه بحاله، وإنما يدعوه ليظهر له ضعفه وافتقاره وذله وتضرعه، فلا يدعوه لأجل الإعلام والإشعار، لا، وإنما يدعوه للتقرب والتودد والتضرع والتذلل.

الصلاة تكفر الذنوب إن أُديت على الوجه المطلوب

وقال ﷺ: ((الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعُةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانِ إِلَى رَمَضَانَ مُكفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إذا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ)) 23 ، والحديث الذي بعده يتناول المعنى نفسه تقريباً، وهو قوله ﷺ: (( مَا مِنَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ -أي مفروضة- فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا، إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ تُأتَ كَبِيرَة، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ)) 24 ، فَالصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات، ولكن يجب أن تؤدي الصلوات الخمس حسب ما أراد الله ورسوله، أي الصلاة التي أمرك الله عزَّ وجلَّ بها، وليست الصلاة التي تؤديها على حسب عقلك، وإنما على حسب عقل النبي ﷺ، ولا كما تريد أنت، إنما كما أراد الله تعالى، وكذلك أن تصلي صلاة الجمعة كما هي مطلوبة منك.. أين كان الصحابة يصلون الجمعة؟ كانوا يصلونها مع النبي ﷺ، فهل صلاة الجمعة مع النبي ﷺ مثل الصلاة مع غيره؟ وهل صلاة الصحابة بعدما حَيِيَت قلوبهم بالله عزَّ وجلَّ هي صلاتهم نفسها عندما كانت قلوبهم ما تزال ميتة؟

فلا يكون الإسلام الذي أراده الله ورسوله ﷺ بلا ذكر، ولا يكون الإسلام الذي ينجي في الضراء والبأساء إلا أن يكون مسبوقاً بالذكر وتزكية النفس، أي بالإيمان الأخلاقي والسلوكي، فلا تغتروا بطلب العلم مهما سمعتم وقرأتم، حتى لو قرأتم وحفظتم كل كتب الحديث والقرآن فلا تغتروا بأنفسكم.. فلو أنكم قرأتم كل كتب الحلويات والبقلاوة [حلوى شرقية] وألقيتم ألف محاضرة عن ذلك، هل ستعرفون البقلاوة مثلما تأكلونها؟ ولو ألقيت ألف محاضرة عن الزواج، هل سيأتيك أولاد؟

العلم لا ينفع دون عمل

فالعلم والقراءة وسماع الدرس كل ذلك للعمل، أما السماع للسماع، والقراءة للقراءة وللنطق، فلا؛ فهذا علم ميت لا بركة فيه، والإتيان بالفرائض كما أمر الله يكفر الصغائر.. والصغائر: هي الذنوب التي ليس فيها حد شرعي كالقتل أو الزنى أو السرقة أو قطع الطريق أو شرب الخمر؛ فهذه كبائر فيها حدود، والحدود: هي إقامة عقوبات معينة، والصغائر هي الذنوب التي لم يرد فيها غضب إلهي، كقوله تعالى: ﴿وَغَضِبَ اللَّـهُ عَلَيْهِ [النساء: 93] أو لعن أو نعت بالكفر، كحديث النبي ﷺ: ((مَنْ تَرَكَ الصَّلَاة فَقَدْ كَفَرَ)) 25 .. هذا ما ذكره أكثر العلماء بهذا المعنى [عن الكبائر]، وما سواها من الذنوب فهي صغائر، فيجب علينا أداء الطاعات على الوجه المطلوب، وأن نبذل جهدنا وطاقتنا، والله أكرم الأكرمين، ولكن لا نتخذ من كلمة “أكرم الأكرمين” وسيلة للتقصير وعدم إتمام العمل المطلوب، وإنما علينا أن نجدّ، ونبذل كل طاقتنا، ثم نقول: “الله أكرم الأكرمين”، قال: ((مُكفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إذا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ)).

طلب العلم والحث عليه

وفي السطر الأخير قوله ﷺ: ((مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مَنْ بُيُوتِ اللهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللهِ)) 26 أي فريضة الصلاة أو فريضة العلم، فتعلم العلم فريضة، قال النبي ﷺ: ((اطلبوا العلمَ ولو في الصين)) 27 ، وقال ﷺ: ((ليسَ مني إلا عالمٌ أو مُتَعَلِّمٌ)) 28 ، وقال أيضاً: ((إنما النَّاسُ رَجُلانِ: عَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ، وَلا خَيْرَ فِيمَا سِوَاهُمَا)) 29 ، وقال: ((طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)) 30 ، وهذا يشمل المسلمة أيضاً، فليس المقصود بالمسلم الذكر فقط، وإنما يتناول الخطاب من يحمل الإسلام ذكراً كان أو أنثى.. قال: ((مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ)) أي توضأ وأتى إلى الجامع متوضأً، وكذلك تاب واستغفر وأناب، ((ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مَنْ بُيُوتِ اللهِ)) وبيت الله هو الذي تجد الله عزَّ وجلَّ فيه، أما إذا دخلت إلى الجامع ولم تجد فيه شيئاً، أي ليس فيه ذاكر أو مذكر أو مرشد، ولم تجد في الجامع إلا الحركات الجسدية، فهذا ليس ببيت الله عزَّ وجلَّ، وليس معنى بيت الله أنه يسكنه وإنما الذي تجد الله تعالى فيه.. كانوا يجدون الله عزَّ وجلَّ في مسجد النبي ﷺ؛ فهذا هو بيت الله، وهذا هو المسجد والجامع الذي يجمع قلبك على الله، وعلى الفضائل والحكمة، وإذا كان المسجد فارغاً، فهذا المسجد الميت، وإذا كان المسجد يفرق بين المسلمين فهذا ليس بمسجد: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 107]، فإذاً هناك مساجد تفرق بين المسلمين.. فأين أخلاقنا وشعورنا بالإسلام الحقيقي؟ هل الإسلام هو الإسلام الأناني والقبائلي والعشائري؟ ليس هذا هو الإسلام.

اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعلنا من المنتفعين بكلام رسولك ﷺ، واجمع قلوبنا على محبتك وذكرك، واستعمل جوارحنا وأجسادنا وأموالنا في طاعتك ومرضاتك.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

Amiri Font

الحواشي

  1. حلية الأولياء: (8/238).
  2. حكم الأيام، من حكم عطاء الله السكندري، (31).
  3. السنن الكبرى للنسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء (9/81)، ومسند الإمام أحمد (9/274)، والمستدرك على الصحيحين للنيسابوري كتاب النكاح، رقم (2676)، (2/174).
  4. مسند الفردوس للديلمي، رقم: (3795)، (1/ 256)، بلفظ: ((الصلاة عماد الدين والجهاد سنام العمل والزكاة يثبت ذلك))، الجامع الصغير للسيوطي، رقم: (5187)، (3/120)، عن علي رضي الله عنه.
  5. مسند الفردوس للديلمي، رقم: (3799) (2/405)، فيض القدير للمناوي، رقم: (5189)، (11/242)، عن ابن عمر رضي الله عنه.
  6. سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب في تضعيف الذكر في سبيل الله تعالى، رقم: (2498)، (2/11 )، والحاكم في المستدرك، رقم: (2415)، (3/93)، عن معاذ بن أنس رضي الله عنه.
  7. مسند الإمام أحمد (18/195)، رقم: (212)، مسند أبي يعلى، (2/521)، حلية الأولياء، (2/124).
  8. الدارمي، رسالة عباد ابن عباد الخواص الشامي (1/205) بلفظ "رحم الله من أهدى الي عيوبي". ( (
  9. سنن أبي داود، أول كتاب العلم، باب الحثُّ على طلب العلم، رقم: (3641)، والتِّرمذيُّ، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682)، سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحثُّ على طلب العلم، رقم: (223).
  10. المقاصد الحسنة للسخاوي، رقم: (702)، (459)، قال: "قال شيخنا ومن قبله الدميري والزركشي: إنه لا أصل له، زاد بعضهم ولا يعرف في كتاب معتبر، وقد مضى في: أكرموا حملة القرآن: ((كاد حملة القرآن أن يكونوا أنبياء، إلا أنهم لا يوحى إليهم))."
  11. صحيح ابن حبان، رقم: (191)، (1/ 420 )، المعجم الكبير للطبراني، رقم: (680)، (19/ 278).
  12. )المعجم الكبير للطبراني، رقم: (13507)، (12/408).
  13. مسند الطيالسي، رقم: (2632)، (4/246)، بلفظ: ((أَفْضَلُ الرِّبَاطِ انْتِظَارُ الصَّلاَةِ، وَلُزُومُ مَجَالِسِ الذِّكْرِ، وَمَا مِنْ عَبْدٍ يُصَلِّي ثُمَّ يَقْعُدُ فِي مَقْعَدِهِ إِلاَّ لَمْ تَزَلِ الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ حَتَّى يُحْدِثَ، أَوْ يَقُومَ)).
  14. سنن الترمذي، أبواب الحج، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع، رقم: (889)، سنن ابن ماجه، كتاب الحج، باب من أتى عرفة قبل الفجر، رقم: (3015).
  15. صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: ﴿ويحذركم الله عزَّ وجلَّ نفسه﴾، رقم: (7405)، صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب الحث على ذكر الله تعالى وباب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى، وفي التوبة باب الحض على التوبة والفرح بها، رقم: (2675).
  16. مسند الطيالسي، رقم: (2632)، (4/246)، بلفظ: ((أَفْضَلُ الرِّبَاطِ انْتِظَارُ الصَّلاَةِ، وَلُزُومُ مَجَالِسِ الذِّكْرِ، وَمَا مِنْ عَبْدٍ يُصَلِّي ثُمَّ يَقْعُدُ فِي مَقْعَدِهِ إِلاَّ لَمْ تَزَلِ الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ حَتَّى يُحْدِثَ، أَوْ يَقُومَ)).
  17. صحيح ابن خزيمة، رقم: (924)، (2/62)، إتحاف المهرة لابن حجر، رقم: (4166)، (4/232).
  18. شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (2686)، (4/379).
  19. أبي داوود، باب في الشفاعة (2/648)، بلفظ ((أَلاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلاَمَ رَبّي))، ( ( وسنن الترمذي، باب ما جاء كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم (4/254).
  20. سنن النسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، رقم: (3940).
  21. صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، رقم: (395).
  22. فيض القدير للمناوي، (2/ 234).
  23. صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، رقم: (233).
  24. صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه، رقم: (228).
  25. سنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، رقم: (1079)، سنن الترمذي، أبواب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، رقم: (2621)، سنن النسائي، كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، رقم: (463)، جميعهم بلفظ: ((إِنَّ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمِ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ)).
  26. صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات، رقم: (666).
  27. كشف الخفاء، (2/49).
  28. مسند الفردوس للديلمي، (3/419).
  29. المعجم الكبير، رقم: (10461)، (10/201).
  30. سنن ابن ماجه، افتتاح الكتاب، باب فضل العلماء والحثُّ على طلب العلم، رقم: (224).
WhatsApp