تاريخ الدرس: 1981/02/08

في رحاب الآداب والأخلاق

مدة الدرس: 01:17:00

في رحاب الآداب والأخلاق (102): الحلم وكظم الغيظ (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

حقيقة الإيمان

الحلم: كما سبق معكم هو فرع من فروع الإيمان.. والإيمان بضعٌ وسبعون خُلقاً وفرعاً وشعبة، ومن جملتها: الحِلم والسَّخاء والصَّبر والشُّكر وعلو الهمَّة ومحبَّة الله عز وجل والعفو والتَّواضع، ومن يستجمع هذه المعاني يكون مؤمناً، ومن جملة هذه الشُّعب ذكر الله تعالى.

والذِّكر مع الأخلاق هو الَّذي يسمَّى الطَّريق والتَّصوُّف، وهو من شعب الإيمان.. فكانت كلمة إيمان ومؤمن في زمن النَّبيِّ ﷺ تعني من أجزاء الإيمان.. الصُّوفِّيِّ والتَّصوُّف.. لذلك لماذا نقول صوفيٌّ وتصوُّف، ونتقاتل ونتجادل ونتناظر ونصبح خمس مئة فرقة ومذهب؟ قل إيمان فقط، كما كان يُعَبَّر عن هذه المعاني في زمن النَّبيِّ ﷺ.

فهذه الكلمة [الذكر] يؤمن بها الوهَّابيُّ والصُّوفيُّ والشَّافعيُّ والحنفيُّ.. ولو كانت المذاهب الفقهيَّة على هذا الأساس فسنرى أنَّ المذاهب كلَّها تتَّصل بالإسلام، على كلٍّ هذا بحث آخر وليس موضعه الآن ولن نتوسَّع به.

المقصود أنْ يصير أحدكم مؤمناً، ولكن مؤمن العمل، ومؤمن الحقيقة.. مؤمناً حسب مراد ومواصفات الله والنَّبيِّ عليه الصلاة والسلام.. لا أن تكون مؤمناً بحسب أهوائك وأمانيك، وبحسب جهلك وغفلتك، فأنت مؤمن ولكنَّك غافلٌ عن معاني الإيمان، هناك أماني الإيمان من غير أنْ تعرف الإيمان من طريق العلم، سواء العلم الفكريُّ والإدراكيُّ العقليُّ، أو الذي أعظم منه وهو العلم الذَّوقيُّ الوجدانيُّ، بأن تعرف ذوقاً ما هو الجمال؛ لأنَّك رأيتَه، وتعرف ذوقاً حلاوة العسل؛ لأنَّك أكلتَه، أمَّا لو قالوا لك: العسل حلو، وآمنت بذلك فهذا علم فكريٌّ تصوُّريٌّ، وأما الذي أعلى منه وأعظم هو العلم الوجدانيُّ الذَّوقيُّ، وهذا الذي كانوا يسمُّونه تصوُّفًا؛ ولما جزؤوا الإسلام في الماضي وفصّلوه، ووضعوا لكلِّ شيء اسمَه الخاصَّ كان هذا مقبولاً في ذاك الزمن، أمَّا الآن فلم يعد مقبولاً.

والأفضل أنْ نعود إلى كلمة “إسلام”، ولكن ليس بالمفهوم التقليديِّ.. كل النَّاس الآن إذا رؤوا شخصًا تاركاً للصلاة ويسب الدِّين ويحلف خمسين طَّلاقاً ثم ينام مع زوجته مساءً، ويأكل الحرام، ويظلم، ويغشُّ، ولا يوجد عنده شيء لا من عمل ولا خُلق ولا حتَّى عقيدة رغم ذلك يقولون عنه مسلماً، ويزوِّجونه بناتهم، وإذا مات يُدفن في مقابر المسلمين.. لا؛ هذا ليس بمسلم، كانوا في زمن النَّبيِّ ﷺ يقولون عنه كافرًا ومرتدّاً ومنافقًا في الدَّرك الأسفل، كيف بنا لو نطبق اليوم: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: 59]؟

كان شيخُنا- رحمه الله- الَّذي توفِّي منذ أكثر من أربعين سنة يقول: سبَرت النَّاس فوجدت المسلم العاديَّ واحداً في العشرة آلاف، وأمَّا المسلم الذَّوقيُّ الوجدانيُّ وصاحب القلب فهو واحد في المئة ألف، وهذا يسمى صاحب اليقين، وهذا الَّذي يقول عنه الشَّيخ واحد في المئة ألف، وهذا هو صاحب اليقين.

فإذا عدنا للتَّعبير القرآني، وهذا ما أريدكم أنْ تسيروا عليه، لماذا؟ أوَّلاً: لنرفع الاختلاف بين الصُّوفيِّ والوهَّابيِّ، مع أنَّ الوهَّابيَّ صوفيٌّ، وعنده تصوُّف، لكنَّه يُنكِر البدع، ويظنُّ أنَّ التَّصوُّف كلَّه بدع.. لا نريد أنْ ندخل في هذا الموضوع، ونضيِّع أوقاتنا وجهدنا.

والشَّيء الثَّاني: يظنُّ المسلم أنَّ الطَّريق والتَّصوُّف شيء زائد عن الإسلام، لذلك لا يريد أنْ يصير صوفيّاً، ويقول أنا مسلم.. لا، أنت لست مسلماً، بل أنت منافق، لأنَّ ذكر الله من شُعب الإيمان، وكذلك محبَّة الله.. وشُعب الإيمان الَّتي هي بضعٌ وسبعون شعبة، والبضع ما هو؟ من ثلاثة إلى تسعة، هذا هو البضع، بضعٌ وسبعون من الممكن أنْ تكون ثلاثاً وسبعين، أربعاً وسبعين، خمساً وسبعين إلى تسعٍ وسبعين، ولكن ليس اثنان وسبعون ولا حتى ثمانون.. يقول النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن أخلاق الإيمان وخلاله من ثلاث وسبعين إلى تسع وسبعين.

الحلم شعبة من شعب الإيمان

فمن جملتها: الحِلم؛ فهل أنت مؤمن؟ وإذا كنت مؤمناً حقّاً فيجب أن يكون الحِلم من أخلاقك.. وضدُّ الحلم سرعة الغضب، وسرعة الغضب تُفسَّر بشيء آخر: بالحمق وسوء الخلق والرُّعونة، فالأرعن: أي الأحمق.. فسوء الخلق وعدم الحلم يوقع في المهالك والمعاصي والظُّلم والجَور والتَّعدِّي، وهذه كلُّها ضدُّ الإيمان والإسلام.

أمَّا الحلم فهو سعة الخلق وتحمُّل الأثقال والأعباء، وأن تملك غضبك، وتكظم غيظك، وتعامل النَّاس برفق، فالحليم يعامل الناس برفق وأعصابه فيها رفق، وأمَّا كظم الغيظ فقد يكون ثائراً من الدَّاخل، ولكنَّه يكبح نفسه من الخارج، وأمَّا الحليم فهو غير ثائر لا من الخارج ولا من الدَّاخل، فهذا من خلق الإيمان وهو يُنال بشيئين أحدهما ذكر الله عز وجل، والذِّكرَ بمعناه الحقيقيَّ أنْ تصير جليس الله عز وجل بكلِّ خليَّة من خلاياك، وبكلِّ لحظة من لحظاتك، وبكلِّ اتِّجاه فكريٍّ من أفكارك، كحال الشخص العاشق.. لو أنك تفتح دماغ القط [الهِرّ] في شهر شباط وهو يركض وراء القطة، فماذا تجد عندما تفتح دماغه وذرات مخه؟ ولو حجبوها عنه تراه يقفز ويصيح، أين تكون رابطته؟ مع من يحب، أين ذِكره وذاكرته؟ مع من يحب؟ وإذا وضعت له الأكل لا يأكل، وإذا ناداه صاحبه الذي كان يجلس في حضنه وكان يلبيه لا يلبيه، لأنه صار متجهاً كله لمن يذكره؛ لأنه أحبه.. فإذا أردت أن تحب الله فيمكن تعلم الحب من القطط ومن الكلاب والحيوانات؛ وأهل الحب تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه.. فهذا الذِّكر مع الحبِّ يجعلك جليس الله تعالى، فالَّذي يجالس ويخالط ويصاحب الثَّلج تسري به صفاته، والَّذي يصاحب ويجالس النَّار ينقلب إلى نار، فكم الله حليم!

حلم الله عزَّ وجلَّ

يعصي أحدنا الله عزَّ وجلَّ، فيحلم عليه أربعين سنة ولا يعجِّل بعذابه، ولكن لا بد من المؤاخذة، وأنا رأيت ذلك بعيني؛ فلا بد من الجزاء على الذَّنب مع النَّاس ولو في جيلين أو ثلاثة، لا يمكن إلا أن تقع المؤاخذة، وهذا الذي رأيته في الدُّنيا أمَّا في الآخرة فشيء آخر، رأيت ذلك في الدُّنيا قبل الآخرة، وذلك على الخير وعلى الشَّرِّ، وعلى التَّقوى وعلى المعصية، قال تعالى: ﴿وَلَويُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاس بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر: 45]. تأخير لا نسيان ولا ترك، لأن الحقوق لا تضيع، فالحلم من أخلاق الله تعالى، وكلَّما كان الإنسان أقرب إلى الله أصبح أقرب إلى أخلاق الله عزَّ وجلَّ.

حلم النبي ﷺ

من كان أعظم النَّاس حلماً؟ النَّبيُّ ﷺ.. عندما فتح مكَّة وصاروا بين يديه كالقطط والخرفان الصغيرة، وكان السَّيف بيده، وهم لم يتركوا شيئاً من أفانين التَّعذيب والغدر والكفر والعناد والإيذاء والدِّعاية والسَّبِّ والشتم والصَّدِّ عن سبيل الله فلم يتركوا من طاقتهم شيئًا إلّا فعلوه، وعندما دخل النَّبيُّ ﷺ مكَّة وأعطاه الله كلَّ طاقة ليتصرَّف فيهم كما يشاء، ماذا فعل؟ كان متخلِّقاً بأخلاق الله عز وجل، قال: ((اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ)) 1 .

يجب أنْ يكون طالب العلم حليماً قبل كلِّ شيء، وذلك مع الجاهل والأحمق والعدوِّ.. ولا يزيِّن العلمَ إلَّا الحلم والإغضاء وعدم العتاب، وإذا اضطر للمعاتبة في بعض الظُّروف فيُعاتب للمصلحة، ويترك العتاب للمصلحة.

وقال النَّبيُّ ﷺ: ((إنَّما بُعِثْتُ مُعلِّماً، إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ)) 2 .

فالإسلام علوم، وكلُّ شيء ينفعك في دينك أو دنياك فتعلُّمُه واجب، وهو من الإسلام، والذي يتوجَّ ذلك ليس الأخلاق، بل مكارم الأخلاق، تَصدُقُ فلا تَكذِب، وتَعِدُ فلا تُخلِف، وتتواضع فلا تتكبَّر، ولو أنَّ أعمالك الصَّالحة ملأت الدُّنيا قل: “اللَّهم لا تكِلني إلى نفسي طرفة عين”، ((لن يَدْخُل أحدُكُم الجَنَّة بعَمَلِهِ، قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ:”وَلا أَنَا- إذاً أنت كيف تتعامل؟ إذا كان النَّبيُّ يقول: ولا أنا، فأعمالي لن تُدخِلَني الجنَّة- وأشار بيده إلى رأسه وقال: إلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ)) 3 ، فيغسِّلُني ويدخلني الجنَّة.

الحلم بعد العلم

فإذاً هذا النَّبيُّ ﷺ، فأنتَ بمجرَّد صلاة ركعتين في اللَّيل ترى رأسك قد وصل إلى السَّقف، وترى نفسك أفضل من النَّاس، وهذا كلُّه بسبب عدم الذِّكر، ومن البعد عن الله تعالى.. والقرب والبعد من الله عزَّ وجلَّ ليس قرب مسافة، بل قرب حسٍّ، وقرب أخلاق، وقرب علم، فيصبح علمك من علمه، وخلُقك من خلُقه، وحكمتك من حكمته، وعفوك من عفوه، وتواضعك.. الله عزَّ وجلَّ لا يتواضع، ولكن يتودَّد إلى الخلق رحمةً بهم.

لا يظنَّ طالب العلم أنَّه قرأ، ماذا قرأ؟ حتى لو أنه قرأ علوم الدُّنيا.. لابد أن يَظهر أثر العلم في الأخلاق وفي التَّقوى وفي السُّلوك، وفي التَّسامي نحو الفضائل والكمالات، ويرى نفسه تراباً، ويجب أنْ يُعلِّم النَّاس بسلوكه وبأخلاقه.. وليس طالب العلم والشَّيخ فقط، بل كلُّ مسلم.

في زمن النَّبيِّ ﷺ لم تكن هناك كلمة شيخ، كانت هناك كلمة مؤمن؛ لأنَّ العلم من شُعب الإيمان، قال تعالى: ﴿وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ [البقرة: 221] من هي المؤمنة؟ أي العالمة ذات الأخلاق العالية، هذه هي المؤمنة.. ما خواصُّ المشركة؟ مهما كانت جميلة.. فإذا كانت هناك أفعى في كيس من حرير، وبعض الذهب في صرَّة من قماش عتيق.. هل يجب أنْ نرى المظْهَر أم المخْبَر؟

لذلك يجب أنْ يكون كلٌّ منكم المسلمَ الحقَّ والمؤمن الصَّحيح ويرى إيمانه في أخلاقه، ويرى إيمانه في داخليَّته القلبيَّة مع الله وفي خلواته وعند غضبه وشهواتِه ومصالحه الدُّنيَويَّة وعند جسده، فإذا رأى نفسه منجذباً نحو الله ونحو رضاه ونحو الدَّار الآخرة فليستبشر، وإلَّا فليذهب إلى المستشفى أو إلى الطَّبيب ويسلِّمه نفسه، فالَّذي في عينه مياه زرقاء يُسلِّم نفسه إلى طبيب العيون، والَّذي يعاني من مرض القلب يُسلِّم نفسه حتى يشقُّوا له صدره وقلبه وبطنه، ومن كان في قدمه (غرغرينا) يقطعونها له.

هكذا تسلِّم نفسك للشَّيخ، هذا إذا وجدتَ الشَّيخ! أين الشَّيخ في هذا الوقت؟ الشَّيخ فقهاً وخُلقاً وعقلاً وحكمةً ويقيناً وقلباً.. أنا طُفتُ الدُّنيا ورأيت أولياء، ولكن بعضهم كانوا دراويش [بسطاء] جداً من ناحية الحكمة، لذلك لا ينجح الإسلام، وهناك الكثير من العلماء، ولكن ليس لديهم قلب؛ عالم وحاصل على شَّهادات كبرى.. وكذلك يوجد تعبُّد مع العلم، ولكنَّ العقل العلميَّ الإسلاميَّ الحقيقيَّ والَّذي ينهض بالمسلمين غير موجود.

أنا منذ أسبوع اجتمعت باثنين من أصدقائي- أحبُّهما وهما تقيَّان- حصل بحث بيني وبينهم ولم أكمله معهم؛ لأنه لا يوجد إدراك، رغم أن مقامهم العلميُّ مقام كبير؛ المقام الاصطلاحيُّ وليس الحقيقيَّ، فلا توجد عندهم إمكانية.. ولذلك إذا لم يكن هناك إمكانية لا أدخل في البحث، فوقتي غالٍ بالنِّسبة لي، ولا أضيِّع جهدي. [سماحة الشيخ يتكلم بشكل خاص مع إخوانه في هذه المحاضرة، ولا يقول ذلك تكبراً- حاشاه- ولكن ليعلّمهم وليرفع من سلوكهم وحكمتهم وأسلوب حياتهم].

فلنرجع إلى درسكم: الحِلم.. وأرجو أنْ يجعل الله عزَّ وجلَّ لكم حظّاً من الحلم علماً وسماعاً، وبعد ذلك عليكم أنْ تُجاهِدوا أنفسكم لتكونوا حلماء ودون أنْ يستفزَّكم الغضب؛ مثل كلمة قد تأتي من أحمق أو طفل أو ولد أو جاهل.. كن مثل الجبل الرَّاسي: ﴿وتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النَّمل: 88]، وتخمِّن من ظاهره أنَّه لا يفهم، ولكنَّه يفهم في الذَّرَّات [في دقائق الأمور].

الحلم هو إمساك الغضب

ونعود الآن إلى أحاديث الحلم، قال سيِّدنا رسول الله ﷺ: ((مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ كَفَّ اللهُ عَنْهُ عَذَابَهُ)) إذا غضبت وتستطيع أنْ تُنفِّذ غضبك.. ودائماً تنفيذ الغضب يكون من القويِّ نحو الضَّعيف، ومن الكبير نحو الصَّغير، ومن العالي نحو الأدنى، والأخ الكبير مع الأخ الصَّغير، والمعلِّم مع الأجير، والضَّابط مع الجنديِّ، والأستاذ مع التِّلميذ، وسيِّدة المنزل مع الخادمة، والشَّيخ في الجامع مع الَّذين يدخلون إلى الجامع.

إذا أغضبك أحدهم فجرِّب هل تستطيع التَّغلُّب على غضبك دون أنْ يتفلَّت منك؟ مثل مقود السَّيَّارة مضبوط بحيث لا تذهب لا يميناً ولا يساراً، ماذا سيحدث للسَّيَّارة إذا لم تملك المِقْوَد؟ تهلك هي ومن فيها: ((مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ)) فهذا بحاجة إلى ذكر وإيمان بالله عزَّ وجلَّ- وهكذا يحبُّ الله تعالى- وأيضاً إيمان بالدَّار الآخرة؛ أي أن هناك حساب، وأن تتذكَّر مكارم الأخلاق: ((إنَّما بُعِثتُ لأتمِّمَ مكارم الأخلاق)) 4 فنصف الدين أخلاق، ومنها أن تكُفَّ غضبك.. فكفّ الغضب عندما تُستغضب يُسمى حِلماً، وهو من شعب الإيمان، ((مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ كَفَّ اللهُ عَنْهُ عَذَابَهُ)).

إذاً: لم يكن الأمر مجَّاناً، وهذا الكفّ لا يذهب سدى، فإن أغضبك أو أزعجك أو سبَّك أو شتمك أو احتقرك أو ازدراك أو أنه لم يكرمك ولم يعطِكَ حقَّك، مع أنه كان عليك إن فعل ذلك معك أنْ تغضب، لكنْ أنت مأمور أنْ تكبح نفسك، وأن تكفَّ غضبك، وألا يخرج من لسانك كلاماً أو من يدك عملاً فيه إساءة له، بل عليك أن تكافئه على سيِّئته؛ فهذا هو الإيمان: ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ [الرعد: 22].

فيجب عليك أن تكفَّ غضبك، ومع كفِّ الغضب يجب أنْ تكون محسناً، كأن تعطِّره، أو تعطيه الورود، أو تدعو له دعوة صالحة، مع أنه يستحقُّ أنْ يُضرَب، فهذا يكون فوق الحِلم، أو الحِلم الكامل، هذا من جهة الدِّين، ومن جهة الحياة فقد دَرَس الأوروبيُّون الأخلاق، ودرسوا الحلم ليس من طريق الدِّين، بل من طريق الفلسفة والمصلحة.

فإن كان الحليم هكذا فإن كلُّ النَّاس يحبُّونه ويحترمونه ويقدِّرونه ويرغبون بالعمل معه، أما سيِّئ الخلق الشَّرس المؤذي السَّبَّاب الشَّتَّام يخسر كلَّ النَّاس، ولا يحبَّه ولا يعامله أحد حتى أمَه وأباه وكذلك تبغضه زوجته، وكذلك إن كانت الزَّوجة حمقاء وليس عندها حلم فإن زوجها سيطلِّقها، والبقَّال ستهرب زبائنه إن لم يكن حليماً، وبائع الفول كذلك.. فعندما درس الأوروبيُّون الأخلاق درسوها من طريق المصلحة لذلك أصبحوا أخلاقيِّين، أما المسلمون فقد أتتهم الأخلاق عن طريق الإيمان والذِّكر والعبادة، ولكن العبادة بمعناها الخشوعيِّ وحضور القلب مع الله عزَّ وجلَّ، والعبادة مع الفهم والفكر، فأخذوا هذه الأخلاق بشكل أعظم وبطريق أقصر وبمقدار أكثر وأغزر.

أمَّا مسلمو هذا الزَّمن فقد فقدوا الأخلاق، لا من طريق الفلسفة ولا من طريق دراسة الحياة والمصلحة فيها كما فعل الأوروبيُّون، ولا من طريق الدِّين والقرآن كما فعل المسلمون الأوَّلون، فأصبحوا مثل فقراء اليهود؛ لا دين ولا دنيا.. ترى المسلم الآن يلبس العمامة والجبَّة وأخلاقُه شرسة، كالبغل الشَّموس، [البغل العنيد الذي لا يلين بأي طريقة] يرفع رأسه ويتكبر على الناس ويسيء إليهم، ويظنُّ أنَّ هذه هي قوَّة الشَّخصيَّة، مع أن قوَّة الشَّخصيَّة لا تكون لا بالضَّرب ولا بالسّب، ومن يظنها كذلك هم الجهَّال ويرون أنهم إن لم يفعلوا ذلك سيكونون محتقرين، فقوَّة الشَّخصيَّة هي اجتذاب القلوب إليك، أي أنْ تُحبَّك القلوب وأنْ تستولي على القلوب لا أنْ تستولي على جسده وتضعه تحتك؛ هذه قوَّة البغال والثِّيران، هل تريد أنْ تكون ثَورانيّاً أم إيمانيّاً؟ كان النَّبيُّ ﷺ أقوى الخلق شخصيَّةً، فقد مضى على وفاته إلى الآن خمسة عشر قرناً ولا تزال القلوب مملوءة من محبَّته وإجلاله والفناء فيه، هذه هي قوَّة الشَّخصيَّة.. فإن أردت أنْ تكون قويَّ الشَّخصيَّة مع زوجتك فليستولي حبُّك على قلبها، أو مع خادمتك وخادمك وأجيرك، فعاملهم كلهم بالعفو والصفح والإكرام والحلم والتَّغاضي.

هذا بالنِّسبة إلى الدُّنيا: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنيا حَسَنَةً [البقرة: 201]، أي إذا كان هدفك الدُّنيا فستنال الدُّنيا، وإذا صار هدفك الآخرة؛ أي تعمل هذا لأنَّ الله تعالى أمرك بذلك، ووعدك بالثَّواب عليه، ولأنه يُحبُّ ذلك، وعليك أنْ تُلاحِظ أنَّ لا تَمُنَّ على الله عزَّ وجلَّ؛ لأن هذا الأمر كله لك ومردوده إليك.. أنا كنت اليوم في مناجاة مع الله عزَّ وجلَّ فقلت: “دخيلك ياربي [أتوسل إليك]، دخيلك ياربي” لقد صرت أستحي أنْ أقول له: إني أطلب رضاك؛ لأنَّ رضاه كلّه لمصلحتي، فأنا أطلب فائدتي ومنفعتي، فهل يكون رضاه من أجل أنْ نبنيَ له بيتاً أو أن نُلبسه “فَرْوَةً” [لباس شتوي غالي الثمن شبيه بالعباءة مصنوع من جلود الغنم عادة] أو نوسِّع ملكه؟ بالطبع لا، بل رضاه أنْ تكون سعيداً وناجحاً ومكرَّماً وموفَّقاً، وكذلك طاعته وتقواك، وكلُّ ذلك مردوده إليك، ليس لله تعالى من المليار لا نصف ذرَّة ولا حتى ربعها.. والله استحيَيت ورأيت نفسي أنانياً، ثم قلت: “يا ربّ أنا فقير وأنت الغنيُّ فعاملني بفضلك وكرمك وأنا على بابك”.

الخلاصة: ((مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ كَفَّ اللهُ عَنْهُ عَذَابَهُ))، هذا العذاب يكون في الدُّنيا والآخرة، فإن سريعي وشديدي الغضب معذَّبون في الدُّنيا والآخرة، ففي الدُّنيا معذَّب نفسيّاً، يغضب ويقتل وآخرته إلى السِّجن أو إلى حبل المشنقة، وفي الآخرة أمامه جهنَّم، وأما الحليم فيُبعِد الله عنه العذاب في الدُّنيا وفي الآخرة، فالحِلم والحليم صفة من صفات المؤمن من بضعٍ وسبعين شعبةً.

فهل عندكم استعداد أنْ تُشمِّروا وتأخذوا الشُّعَب كلها؟ ومن جملتها ذكر الله تعالى، كيف وصف الله عزَّ وجلَّ الذِّكر في القرآن؟ ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران: 191]، يقول علماء النَّقشبَنْدِيَّة: اذكر نصف ساعة أو ساعة، لكنَّ الإسلام لم يرضَ بنصف ساعة ولا بساعة، بل أراد أن يكون الذكر: ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ، في القرآن: ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا [المزمل: 8]، يقول لك علماء النَّقشبَنْدِيَّة: اذكر نصف ساعة أو ساعة، وابقَ بعد ذلك في عملك وسوقك، أمَّا في القرآن: ﴿وَتَبَتَّلْ، أي: انقطع عن كلِّ شيء قلبيّاً حتى عن زوجتك واجعل قلبك دائماً مع الله عز وجل.. هذا هو الإسلام؛ إسلام القلب، وأما ((مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ)): فهذا إسلام الخُلُق، وأما الصَّلاة فهي إسلام العبادة، وفي الجيش هو إسلام الجهاد، وعندما تفهم الأمور وتضع الأشياء في مواضعها، فلا تخطئ ولا تُخذَل ولا تقع في المشكلات، فهذا يُدعى إسلام الحكمة: أي أن تضع الأشياء في مواضعها.. فالمسلم الحقيقيُّ الَّذي تعلَّم وتربَّى وصار صاحب قلب وحكمة سيقود الدُّنيا.. كما كان كل صحابي رضوان الله عليهم، فلو أنك ذَكرتَ أياً منهم لوجدته كذلك ولو كان بدوياً.. فعندما أتى أبو هريرة رضي الله عنه إلى النَّبيِّ ﷺ كان جائعاً يكاد أنْ يغمى عليه من الجوع والفقر، ولكنه صار فيما بعد أميراً لإحدى المدن الكبرى في المشرق.. وسعد، من هذا سعد رضي الله عنه؟ لولا الإسلام فمن سيسمع باسم سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه! ومن هما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما؟ كان عمر رضي الله عنه قبل الإسلام جمَّالاً وسمساراً.

لقد أتى الإسلام إلى أحطِّ أمَّة وأجهلها، ولكنَّه الإسلام الحقيقيَّ، إسلام العلم والذِّكر والتَّربية والأخلاق والحكمة، أتى فجعلهم كلَّهم كما قال النَّبيِّ ﷺ: ((عُلَمَاءَ حُكَمَاءَ فقهاءَ أُدباءَ، كَادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء)) 5 .. تجده الآن حاصلاً على شهادة الدَّكتوراه، ومن الممكن أنْ يكون “بائع الصَّبَّار” [بائع تين الصبار في دمشق يبيع في الطريق، وعادة ما يكون من أفقر وأبسط الناس] في تقواه ودينه وتعبُّده أفضل منه؛ لأن الدِّين يشمل كلَّ المعاني.

الاعتذار الحقيقي صفة النبلاء

الخلاصة: ((مَن كَفَّ غَضَبَه كَفَّ اللهُ عنْهُ عَذَابَه، وَمَنِ اعْتَذَرَ إلَى اللهِ قَبِلَ عُذْرَهُ)) فإذا أخطأ أو أذنب أو بدر منه فيما مضى بعض المشكلات ثم اعتذر، ولكن ليس الاعتذار بالقول وإنما بالعمل، مثلاً: إذا دفعتَ أحدهم وأوقعته في الطِّين، كيف تعتذر منه؟ وقد لوثت له عباءته، وهو يريد الذَّهاب إلى وليمة، فعليك أن تنزع عباءَتك وأنْ تُلبِسَه إيَّاها ثم تقول له: سآخذ ثيابك لأغسِلَها، هذا هو الاعتذار.. وإذا قال لك أبوك: أحضر لي الطَّعام، فتأخَّرت عنه ساعةً، وبعد ساعةٍ أتيت لتعتذر منه، وقلت له: لا تؤاخذني، ولم تأتِ له بالطَّعام، فماذا سيأكل أبوك؟ هل سيأكل الكلام؟ يجب عليك أنْ تُحضِر له الطَّعام ثم تظهر أسفك وندمك على ما فرطت، هكذا تكون قد أدَّيت الواجب، فإذا اعتذرتَ إلى الله قلباً وندماً، وشعرتَ أنَّك فعلت شيئاً لا يليق، واستدركتَ ما قصَّرت فيه؛ فهذا هو الاعتذار.

المرء مخبوءٌ تحت لسانه

((وَمَنِ اعْتَذَرَ إلَى اللهِ قَبِلَ عُذْرَهُ، وَمَنْ خزَنَ لِسَانَهُ)) أي: ضع قفلاً على لسانك وأغلقه، واجعل له باباً وأغلق عليه، ففي بعض الأوقات قد يؤذيك لسانك، ويدمر لك بيتك ويدخلك جهنَّم، ألا يفعل ذلك بمن يسبُّ الدين أو يُطلِّق زوجته أو يسبُّ النَّاس أو يغتاب أو ينم أو يدخل الحسد إلى قلبه فيتكلَّم بكلام الحاسد؟ وهذا كلُّه يجعل الإنسان يخسَرُ النَّاس ويخسر الله ويخسر سعادته في الحياة.

((وَمَنْ خزَنَ لِسَانَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ)) 6 إذا كنتَ جاهلاً فلا تتكلَّم أمام العلماء، وإلَّا ستفضح نفسك، فإذا سكتَّ تبقى مستوراً.

كان أحدهم ذات مرَّةٍ يجلس في مجلس الإمام أبي حنيفة أو أحد السلف الصَّالح، وكان ذا لحية طويلة- فقد كان جميعهم يُعفون اللِّحى ويضعون العمامة- فظنُّوا أنَّه عالمٌ كبيرٌ، فقال الإمام أبو حنيفة لتلاميذه: تأدَّبوا أمامه، فجلسوا أمامه بأدبٍ دون أن يمدّوا أرجلهم، وكانوا يدرسون في بحث الصَّوم، فقال الإمام: “إذا غابت الشَّمس أفطر الصَّائم”، فقال الرجل صاحب اللِّحية والعمامة: وإذا مضى نصف اللَّيل ولم تَغِبِ الشَّمس، فماذا يفعل الصَّائم بنفسه؟ فقال أبو حنيفة لتلامذته: “مدُّوا أرجلكم، آنَ لأبي حنيفة أنْ يَمُدَّ رجليه!” فقد فضح الرجل نفسه.

أنا عندما أصلِّي وراء إمامٍ بمجرَّد أن أسمع قراءته للفاتحة أستطيع أنْ أعرف إنْ كان عالماً أو جاهلاً، وكذلك إذا جلستُ معه وتكلَّم بكلمتين أعرف إنْ كان عالماً أو جاهلاً، فإذا أردت أنْ تستر نفسك فاخزن لسانك، وإذا كان لديك جواهر وحِكم فانفع النَّاس، وكن كالشَّحرور [طائر جميل الصوت] فأطرب النَّاس، أو كنت صاحب مطعمٍ فأطعم الناس وخلِّصهم من الجوع وأعطهم الشَّراب، وأنقِذهم من العطش.. اللَّهم اجعل نُطْقَنا حياةً للقلوب وحياةً للمسلمين، ولا تجعل نُطقَنا يُظهِر عيوبَنا، أو يُغضِب الله عزَّ وجلَّ علينا، أو يجعلنا نخسر قلوب الخلق.. ((مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ كَفَّ اللهُ عَنْهُ عَذَابَهُ، وَمَنِ اعْتَذَرَ إلَى اللهِ قَبِلَ عُذْرَهُ، وَمَنْ خزَنَ لِسَانَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ)).

الرضا بدل الغضب

وقال ﷺ:1- ((منْ كَفَّ غَضَبَه))، 2- ((وَبَسَطَ رِضَاه))، أي يطوي غضبه ويضعه في الصندوق ويغلق عليه، ماذا يُخرج إذاً؟ يُخرج الرِّضا، وتراه دائماً راضيًا عن الله عزَّ وجلَّ وعن الخلق، فإنْ أحسنوا فهو راضٍ، وإنْ أساؤوا فهو راضٍ، أعطوا أو منعوا راضٍ، كرَّموه ووضعوه في الصَّدر أو بالعتبة فهو راضٍ، إن كان مريضاً أو صحيحاً راضٍ، وفي الفقر دائماً راضٍ عن الله جل وعلا؛ لأنه يرى أنّ المتصرِّف الحقيقيَّ هو ربُّ العالمين، ولكن هذا لا يصير بالسَّماع والكلام، بل يحتاج إلى قلبٍ؛ لذلك اذكروا الله تعالى، فإن ذكره هو صلاةُ وعبادةُ وإسلامُ القلب، وقال النبي ﷺ: ((إنَّ الله لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلى قلوبِكُم وأعْمَالِكُمْ)) 7 .

صناعة المعروف

3- ((وبَذَلَ مَعْرُوفَهُ)) اصنع المعروف مع من تعرف ومع من لا تعرف، وافعل المعروف لله عزَّ وجلَّ مع من تحبُّ ومع من لا تحبُّ، مع المؤمن ومع غير المؤمن.. أنا أستطيع أنْ أقول مع المؤمن ومع الكافر؛ ولكن قلت: ومع غير المؤمن، لأن هذا التعبير أجمل وأليق، فتعلَّموا- يا بني- دائماً حسن النُّطق وانتقاء الألفاظ الجميلة، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة: 38]، ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ [الحج: 24].. فقد كان الشَّيخ بدر الدِّين- قدَّس الله روحه- إذا أراد أنْ يذكر لفظ الكلب لا يقول الكلب، بل يقول: هذا الَّذي يعوي في الزّقاق [الزقاق يطلق عادة على الطريق الضيّق بين الأبنية].. وذكر أحدهم شخصاً كُنيته أفندي، فقال: محمَّد، دون أنْ يذكر الكُنية، فغضب الشَّيخ بدر الدين- رحمه الله- وقال له: “أنتَ قصدت تنقيص أخيك المؤمن، قل: محمَّد أفندي”.. فماذا نقول للذين يذكرون المسلمين بعوراتهم وبأحقادهم وبأهوائهم؟ ويقولون عنه أنه مسلم! فإن كان مسلم العلم فهو لم يتعلَّم، وإن كان مسلم التَّربية فهو لم يتربَ، أو مسلم القلب فهو لم يذكر، أو مسلم الأخلاق وشعب الإيمان فليس له مزكٍّ.. لذلك فإن ألف مليون اليوم نزلوا بالمعركة مع ثلاثة ملايين يهوديٍّ.. سمعت البارحة في الإذاعة أن نصف الطاقة الكهربائيَّة عند إسرائيل من المفاعلات النَّوويَّة التي تصنعها بيدها؛ هذه المفاعلات تصنعها بيدها! وهذا حتى عام ألفٍ وتسع مئةٍ وتسعينَ، مع أننا نستطيع أنْ نصنع أكثر من ذلك، ولكنَّنا بحاجة إلى إيمان وإسلام؛ لأنَّ الإسلام يفرض علينا ذلك.

كنت أشاهد البارحة في إحدى الجرائد أنَّهم يريدون عمل ثمانيةٍ وعشرينَ سدّاً من السدود السطحيَّة التي تخزِّن حوالي ستِّين مليونَ مترٍ مكعَّبٍ، والله فرحت لذلك، فهذا من الإسلام، ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ [سبأ: 15]، هذا سدُّ مأرب، لماذا سمَّى الله عزَّ وجلَّ السُّورة بسورة السَّدِّ؟ هل تظنُّون أنَّ الإسلام صلاةٌ فقط؟ الإسلام صلاةٌ واقتصادٌ وسدودٌ وكهرباءٌ ومفاعلاتٌ نوويَّة وتكنولوجيا، حتَّى نكون أرقى وأقوى وأغنى الأمم، لنحقِّق قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنيا حَسَنَةً [البقرة: 201] فيجب على نطاق الشَّخص المسلم أنْ يكون غنيّاً وقويّاً؛ غنياً بالحلال وبالجدِّ وبالعمل وبالتَّعب وبالخُلق والوعي، أمَّا أن يكون غنيّاً بالسَّرقة والنَّهب والخيانة والغشِّ، فالموت أفضل له من هذا، أو أنه يريد أن يكون فقيراً! من أين يأتي الفقر؟ من شراسة الأخلاق والكسل ومن عدم العمل والاسترخاء والخمول والاتِّكاليَّة؛ فالفقر له بِذار، والغنى كذلك له بذار، والنَّجاح له بذار، والفشل له بذار، فإذا كنت خاملاً فاصحب أصحاب الهمم، أو كسولاً فاصحب أصحاب النَّشاط، أو جهولاً فاصحب العلماء، أو كانت أخلاقيَّاتك ضعيفة فاصحب المربِّين، فقد قال النبي ﷺ: ((مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً)) 8 .

صلة الرحم

4- ((وَوَصَلَ رَحِمَه)) يجب عليك أنْ تَصِل أرحامك، إن كنت غنيّاً فبمالك، وإن كنت ذا جاهٍ فبجاهك، أو كنت ذا بدنٍ فبقوَّتك كأن تزوره، أو كنت ذا دينٍ أو ذا علمٍ وهم ليس لديهم دين ولا علم فعليك أنْ تصل رحمهم وتسوقهم إلى العلم والدِّين، أمَّا أنْ تصِلَهم في الدُّنيا، أي تصِلَ أجسادهم وتقطَعَ أرواحهم فأنت قاطعُ رحمٍ، فإن كانوا جياعًا ودعاك أحدهم للأكل، وقال لك: أحضر معك من تشاء، فذهبت إلى الوليمة وحدك وكانت خالتك جائعة ولم تحضرها معك، فهل أنت واصلُ رحمٍ أم قاطعُ رحمٍ؟ بل قاطع رحمٍ، مع أن هذا الغذاء يصير بعد ثلاثِ ساعاتٍ أوساخاً كما كلنا يعلم، ولكن يجب عليك إن ذهبت إلى مجلس العلم أن تحضر خالتك وعمَّك وصديقك وجارك، هذا هو الإحسان إلى الجار، وليس فقط في أمر الدُّنيا، والإحسان إلى أرحامك ليس فقط في أمر الجسد، بل عليك أنْ تصل أرحامك جسداً وروحاً، ديناً ودنيا، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التَّحريم: 6]، هذه صلة الرَّحم، صلة الرَّحم هل تكون بأمور الدُّنيا أم بأمور الدِّين؟ بل بأمور الدين، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ [النِّساء: 1]، هذه بأمور الدُّنيا وتشمل الدِّين أيضاً لأنَّها مُطلَقة.

((مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ)): من يطبق: ((مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ)) ويكفّ غضبه؟ جربوا يوماً واحداً أو أسبوعاً كاملاًَ، من يستطيع أنْ يُنفِّذها منكم؟ طبعاً الكلام هين، لكن جرِّبوها لمدة أربعٍ وعشرين ساعة، واجعلوها على مراحل، فإذا استطعتم يوماً أضيفوا يومين، ثمَّ أسبوعًا، فأربعين يوماً، وقد ورد: ((من داوم على خلق أربعين يوماً صار ذلك له خلقاً)) 9 ، فالإنسان إذا حافظ على خُلُق أربعين يوماً يصير فيه خُلقاً ثابتاً وملكةً راسخةً، وهذا معنى من معاني الجهاد الأكبر، جهاد النَّفس والهوى.

((وَبَسَطَ رِضَاهُ))، أنْ يكون راضيًا عن الله عزَّ وجلَّ دائماً، من يستطيع هذا؟ ومن يشتري؟ ألا تريدون؟ إذاً قولوا: نريدها.. ولكن نريد أن نجرِّبكم.

((وبَذَلَ مَعْرُوفَهُ)) أنْ يكون معروفه مبذولاً لكلِّ طالب معروف.

((وَوَصَلَ رَحِمَه)): في أمر الدِّين وفي أمر الدُّنيا.

صاحب الأمانة

5- ((وَأدَّى أمَانَتَهُ)): إذا ائتمنك أحدهم أو استودع عندك مالاً فيجب عليك أن تؤدي هذا المال، أو أدانك فهذه أمانة، أو وكَّلك أمراً كذلك هي أمانة.. وإذا حملت العلم وصار عندك علم، هل العلم لك وحدك أم يجب عليك أن تعلمه لمن لا علم عنده؟ فإذا علَّمته فقد أدَّيت الأمانة، وإذا لم تعلِّم الجاهل فقد خُنتَ الأمانة، ألم يقل النَّبيُّ ﷺ: ((أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ))، قالوا: نعم، قال: ((اللَّهُمَّ اشْهَدْ)) 10 .

كان من أوصاف النَّبيِّ ﷺ “وأدى الأمانة”، ما هي الأمانة الَّتي أدَّاها للأمَّة؟ هل كانوا يضعون عنده خشباً وسلَّمهم الأخشاب؟ لا، بل أودع الله تعالى عنده العلم والإيمان فأدَّاه، وأنتم أيضاً بمقدار ما تحملون من علمٍ فيجب عليكم أنْ تؤدُّوه لمن لا علم عنده، وبمقدار ما يكرمكم الله عزَّ وجلَّ بالإيمان يجب أنْ تُفيضوه لمن لا إيمان عنده، ذكِّره بالله، وإذا لم تستطع خذه إلى مجالس العلم والإيمان، وإلَّا فأنت خائنُ للأمانة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا [الأحزاب: 72]، بلِّغ أباك الأمانة كما فعل إبراهيم مع أبيه: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ [مريم: 43]، قال له ذلك بأدبٍ: يا أبتِ، لم يقل له: بابا، بل يا أبتِ فيها رقَّة ودغدغة عواطفٍ، ﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيطان إِنَّ الشَّيطان كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا [مريم: 44] يا أبتِ، يا أبتِ، وبماذا أجابه؟ بأفظِ جوابٍ: “لأرجمنك”: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ [مريم: 46]، فقال له: ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ [مريم: 47]، ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان: 63]، وعندما وجد أنَّه لا فائدة من الكلام معه، قال له: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ، مع ذلك قال له: ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم: 74]، لعلَّ الله أن يزحزح لك قلبك، ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُولِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التَّوبة: 114]، ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُولِّلَّهِ أي: لا فائدة منه أبداً، ﴿تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ لَأَوَّاهٌ: أيُّ عاشقٌ لله ومشتاقٌ، حَلِيمٌ مع الجهلاءِ والغلاظِ والأفظاظِ.. أسأل اللَّه أن يخلِّقنا بأخلاق الأنبياء.

نور الله الأعظم

((مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ وَبَسَطَ رِضَاهُ وبَذَلَ مَعْرُوفَهُ ووَصَلَ رَحِمَهُ وَأدَّى أمَانَتَهُ أدْخَلَهُ الله عزَّ وجلَّ يومَ القيامةِ في نُورِهِ الأعْظَمِ)) 11 . هذه خمسة أمور.

الملك والحياة والعمر والسَّعادة هناك في الدار الآخرة، أما هنا فنحن في منام، كنَّا البارحةَ أطفالاً، أنا أتذكر عندما كنت ألعب بالكرات وبما كان يلعب به الأطفال وكأني البارحة، والآن ذهبت الطُّفولة، وذهب زمن العرس وزمن الشَّباب والشَّيخوخة، وبعد ذلك يذهب الجسم وينتقل إلى عالم النُّور، فمن يحمل هذه الأخلاق والَّتي هي من شُعَب الإيمان أدْخَلَهُ الله عزَّ وجلَّ يومَ القيامةِ في نُورِهِ الأعْظَمِ يوم لا نور إلا نوره.

كظم الغيظ

وقال النبي ﷺ: ((ألا أُخْبِرُكُم بالأشدَّين؟)) أي: اثنان متصارعان قويان متنافسان يريدان أخذ بطولة العالم، بماذا؟ بكرة السَّلَّة! كان الأبطال فينا كخالد بن الوليد، وصار همنا الآن الكرة، هم [أهل الغرب] يلعبون كرة السَّلَّة من أجل الرِّياضة وتقوية الجسم، ونحن نلعب كرة السَّلَّة فقط للهو، وهذا كلُّ ما في الأمر، وهنالك منهم من يأخذه الحال فيتأثَّر ويبكي إذا ضاعت الكرة من يده، ويقول: انهزمنا، أو انتصرنا إلخ.. قال: ((ألا أُخْبِرُكُم بالأشدَّين؟- أي: هما- الرَّجُلَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا الشَّيءُ فَيَغْلِبُ أَحَدُهُمَا َشَيْطَانَه حتَّى يأتِيَه فَيُكَلِّمُه))، كمثل اثنين مؤمنين تخاصما وغضِبَا من بعضهما، وأخطأ أحدهما مع الآخر وفعل معه فعلاً ناقصاً: ((ألا أُخْبِرُكُم بالأشَدَّيْن، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الرَّجُلَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا الشَّيءُ- يعني ممَّا يُباعِدُهما ويغيظهما ويغضِبُهما- فَيَغْلِبُ أَحَدُهُمَا َشَيْطَانَه حتَّى يأتِيَه فَيُكَلِّمُه)) 12 .

اليوم يقال له: ألا تصالحه؟ يقول: أنا أصالح فلاناً! وهل أنا أذهب إليه! ويقوم بشتمه.. من يرفض الصُّلح مع أخيه المسلم هل يتكلَّم بالإسلام أم بالجهل؟ هل يتكلَّم بهدي النَّبيِّ ﷺ أم بوساوس الشَّيطان؟ هل يتكلَّم بتربيةٍ أم بلا تربيةٍ؟ هذا هو الإسلام، وهذا قسم تزكية النَّفس ومكارم الأخلاق، ومن قسم: “مَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الخُلقِ، زَادَ عَلَيْكَ فِي التَّصَوُّفِ” 13 ، هذا من حيث الدِّين والعقيدة والإيمان، أما من حيث الدُّنيا والحياة والمصلحة، فمن يكون بهذه الأخلاق تنجذب إليه القلوب فيملكها، وتصير الألسن تلهج بمدحه والثَّناء عليه، ويقول خصمه: “والله فلان أفضل مني”، وتذهب العداوة بينه وبين الناس، أما إذا رأى أحدكما الآخر ونظرتما لبعضكما نظرة حقدٍ، ثم تسبُّه ويسبُّك، وتؤذيه ويؤذيك، فهل هذا أفضل؟ أم أن نمحي كل هذه المشكلات بوليمةٍ وبسَّلامٍ وبكلامٍ جميلٍ وقليلٍ من العطر، وتذكره في غيبته بالخير، فإن كلُّ هذا سيبلغوه عنك.

وإذا حضرت صلحاً بين متخاصمين فكن دائماً مبلِّغ الخير، حتَّى تكون صالحاً مصلحاً، لا مبلِّغ السوء، فتكون نمَّاماً مُفسداً مخرِّباً، فالنمَّام لا يجد رائحة الجنَّة.. من هو النَّمَّام؟ هو الَّذي يسمِّيه النَّاس: “أبو نجيب يأخذ ويجيب” [مثل شعبي].. إذا تخاصم رجل مع أخيه أو ابنه، فسبَّه وشتمه، فيقوم بفعل الأمين الشَّيطانيِّ؛ أي أميناً على كلِّ وصايا الشَّيطان، فيذهب ليبلِّغ نميمةً وإفساداً وتخريباً وحقداً وحسداً وجهلاً وجاهليَّةً، فإن هذا لن ينفعه ولو كان مدرِّساً ذا عمامة ولحية ويلقي المحاضرات، الكلام سهل، ولكن يجب أن نرى ثمرة العمل كما نرى من شجرة المشمش ثمرَها، ومن الزَّوجة ولدَها، ومن الحليب القشدةَ والسَّمنَ، أما إذا هززنا الحليب ولم يخرج منه شيء؟ [يُستَخرج السمن من الحليب بخضه وهزه كثيراً] فإذاً هو حليبٌ مغشوشٌ.

قال النبي ﷺ: ((ألا أُخْبِرُكُم بالأشدَّين، الرَّجُلَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا الشَّيءُ فَيَغْلِبُ أَحَدُهُمَا َشَيْطَانَه حتَّى يأتِيَه فَيُكَلِّمه)).. من منكم عنده مشكلة مع أحد أقربائه أو أصدقائه أو أحد من أصحابه؟ هل تستطيعون تطبيق هذا الحديث، وتكونون أحد الأشدَّين المحبوبين إلى الله ورسوله؟ هنا تكون البطولة، ليس الذي يوصل الكرة إلى المرمى فيصيح له المجانين، فإذا استطعت تطبيق هذا الحديث سيصفِّقُ لك النَّبيُّ ﷺ، وسيرضى الله عنك، وتأخذ شهادة التَّوفيق والنَّجاح، ويمدحك الناس ويقولون عنك: ما شاء الله فلان رجل صالح.

أنا قد تجنَّى عليَّ كثيرٌ من الشُّيوخ وأهل العلم- غفر الله لهم- ظلموني وآذوني وقاطعوني وتكلَّموا عنِّي- اللهم اغفر لهم وسامحهم- مرضوا فعُدتُهم، وأنا مرضت فلم يعودوني، زرتُهم وقت الشِّدَّة فلم يزوروني، ولم يقع في قلبي- بفضل الله عزَّ وجلَّ وكرمه- شيءٌ تجاههم لأنهم لم يزوروني؛ لأنني لم أفعل ذلك من أجل نفسي، بل من أجل أن أستكمل إيماني.. وأنت أيضاً يجب أن تفعل ذلك، حتى لو لم يفعله خصمك، وهذا لا يعني أنَّه مدين لك، أي يجب عليك ألا تحاسبه، بل اجعل حسابك مع الله عزَّ وجلَّ، ألم يأمرك الله تعالى بذلك؟ إذاً فقد انتهى الأمر، وإذا قام هو أيضاً بفعل ذلك فإنَّه يقوم به لأجل نفسه.. قولوا آمين: أسأل الله أن يعطيكم العقل، ولكن العقل الإسلاميَّ لا العقل الجاهليّ الأنانيّ وعقل: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزُّخرف: 22]، أو كالذي إذا تكلَّم بكلمة تردها له عشرين كلمةً، هل هذا عقل الإسلام أم عقل الجاهليَّة؟ وهل هذا العقل الرَّابح أم العقل الخاسر؟ طبعاً الخاسر؛ لأن الرِّبح كلُّه في مكارم الأخلاق، وفي طاعة الله ورسوله.. فتواضع واحلم واصفح وصل الرَّحم وأدِّ الأمانة وابسطْ رضاك وكفَّ غضبك، وكن أحد الأشدَّين: ((الرَّجُلَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا الشَّيءُ فَيَغْلِبُ أَحَدُهُمَا َشَيْطَانَه حتَّى يأتِيَه فَيُكَلِّمه)).

كان شيخنا مرةً مع بعض إخوته، وكان بينهم أخاً جاهلاً، فتطاول على الشَّيخ وسبَّه وتهجَّم عليه، فكان ذلك الأخ [أخو الشيخ أمين] يبكي عندما يذكر الشَّيخ بعد وفاته، ويقول: أتاني الشيخ بعد ساعة إلى بيتي وقد بعث لي الطحين وأعطاني ثلاث ليرات ذهبيَّة! لم يكلَّمه الشيخ بالإحسان فقط، بل أعطاه طعاماً ونقوداً أيضاً.. ومع ذلك فالمعروف مع النَّاس ضائعٌ، فلا تعمل المعروف لأجل النَّاس ولا تنتظر منهم مكافأةً؛ فالنَّاس كالقطط يضيع المعروف معهم؛ وذلك لأنَّه لا يوجد إسلام، مع أن الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرَّحمن: 60]، وهذه الآية لا تؤثر فيه، لأن بذرة هذه الآية زُرعت في تربة قلبه السَّبخة، [الأرض السَّبْخَة التي لا تُنْبِت] فالبذار ضائع، فافعل لله تعالى ولا تنتظر المكافأة لا من ابنٍ ولا من أخٍ ولا من صديقٍ؛ فالنَّاس في جاهليَّةٍ جَهلاء، وفي عَمايةٍ عَمياء، وفي هلاكٍ وفناءٍ إيماناً وأخلاقاً وعقلاً، فهم جسديُّون كالحيوانات، مع أن بعض الحيوانات ليس هكذا، فالكلب مثلاً ليس جسديّاً بل عنده فضائل.. كنتُ في بعض الأوقات أضع الطَّعام لكلب المزرعة وأذهب، فكان يترك الطعام ويمشي معي، أي يترك شهوته، وكأنه يقول لي: ربما تحتاجني في الطَّريق، لذلك أنا أترك طعامي من أجلك.. مع أنه حيوان، ولكن يوجد عنده مكارم أخلاق.

وذات مرّةٍ تخلَّصت [أرسلتها بعيداً] من كلبة بسبب صوتها؛ لأننا لم نكن نستطيع النَّوم منها، فأخذتها إلى جوبر [منطقة في ضواحي دمشق، بعيدة عن البستان الذي فيه بيت سماحة الشيخ] وفي اليوم التَّالي عادت وبدأت تنظر إليَّ وكأنَّها تقول لي: أهكذا يفعل الشُّيوخ؟ [سماحة الشيخ يضحك] فقلت لها: وأنت أيضاً تزعجيننا أثناء النَّوم، أهكذا يفعل الجيران؟ والله- يا بني- في بعض الأوقات أحسُّ بشعور الجماد إذا أسأت إليه، وأحسُّ بالسَّيَّارة إذا ضغطت عليها، وهذا بفضل الله.

إن الفضائلَ والعلمَ والأخلاقَ كلّها مربحٌ للإنسان، وكلَّ ما هو عكس ذلك فهو خسارة له، فلا تفعلوا الخير مع النَّاس ثم تنتظروا المكافأة؛ لأنه لا توجد مكافأة إلَّا إذا صار هناك إيمان.. أسأل اللَّه أن يهيِّئ لنا الإيمان وأن يهيِّئ صُناع الإيمان لعباد الله.

((أَغْلَظَ رَجُلٌ لأَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه- أي: تكلَّم رجل بكلامٍ فظٍّ وغليظٍ وسيِّئ مع سيِّدنا أبي بكر رضي الله عنه، فَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيّ “أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ”- أي اسمح لي بقطع رأسه- قَالَ: فَانْتَهَرَهُ، وَقَالَ: مَا هِيَ لأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)) 14 .. إذا أساء أحدهم إلى النَّبيِّ ﷺ يجوز أنْ يُقطع رأسه؛ لأنَّ الله نهى عن رفع الصَّوت فوق صوت رسول الله ﷺ، ونهى أدباً أنْ نتقدَّم بين يديه بأجسامنا أو بآرائنا أو بنطقنا.. قال له سيِّدنا أبو بكر رضي الله عنه: لا يكون قطع الرأس إلا إذا أساء أحدهم إلى النَّبيِّ ﷺ، أمَّا أنا فلستُ نبيّاً.. لكنَّ على كلِّ حالٍ هذه قلَّةُ أدبٍ من جهة الرَّجل مع سيِّدنا أبي بكر رضي الله عنه، وحلمُ وكرمُ أخلاقٍ من طرف سيِّدنا أبي بكر رضي الله عنه.

وقال النبي ﷺ: ((مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ جَرْعَةً مِنْ لَبَنٍ وَلَا عَسَلٍ خَيْراً مِنْ جرعة غَيْظٍ)) 15 : كما لو أحضر أحدهم لك كأس عسلٍ محلّىً وباردًا، وكنتَ تشعر بالحرِّ، فكم ستكون لذيذة؟ أو كأساً من الحليب البارد وشربتها وتجرعتها، فكم ستكون لذيذة؟ قال: أفضل من هاتين الجرعتين جرعةُ غيظٍ؛ لأنَّ ذاك الشراب سيصير بولاً، أي أنْ يغيظك أحدهم وبدلاً من أنْ تُظهر غيظك ويخرج غيظك للخارج وتبدأ بالسِّباب والشَّتائم والضَّرب والإيذاء: أنْ تبتلع غيظك وتُظهر رضاك وصفحك وعفوك وحلمك.. في هذا الحديث ينصحنا النَّبيُّ ﷺ فهل يجب أنْ نقبل نُصحه أم نُصحَ الشَّيطان؟ سيقول لك الشَّيطان: هل سمعتَ ماذا قال؟ قم واذبحه، أو قم لسبه ودعه يعرف ما هي قيمته؟ ويخرج من لسانه الكلام البذيء والألفاظ القذرة كما تخرج الأوساخ من البئر المالح! [كناية عما يخرج من الإنسان في بيت الخلاء] فالذي يفعل ذلك لا هو من بني آدم ولا إنساناً ولا مسلماً ولا مؤمناً.. والناس يسمّون المجتمع كله مسلماً، وهذا خطأ!

إسلام العلم وإسلام اللقب

فالإسلام؛ هو علومٌ عليك تعلُّمها، وأخلاقٌ يجب عليك أنْ تتربَّى عليها وتتخلَّق بها، ومعلِّم يُعلِّمك ومُؤدِّب يؤدِّبك، يكون ذا قلبٍ يلقح قلبك من قلبه بالله وبذكره.. ما هو الطِّبُّ، وكيف تأخذ لقب الطبيب؟ الطِّبُّ هو علومٌ وتدريبٌ ومدرسةٌ وكليَّةٌ وأساتذةٌ وامتحاناتٌ، فإذا نجحتَ فيها تأخذ لقب الطبيب.. كلمة مسلم بالمعنى الصَّحيح لمن يريد أنْ يُدخله الله عزَّ وجلَّ الجنَّة ويُزَحزِحَه عن النَّار، أعظم من ألف طبيبٍ ومهندسٍ؛ لذلك نحن الآن ألف مليون مسلمٍ، وألف مليون ذبابةٍ، إذا أصبح عدد الذُّباب مليارًا، هل يُشرِّفه العدد؟ بالطبع لا، ما يُشرِّف الإنسان ليس العدد، بل العلم والإيمان.

الإيمان: الَّذي هو بضعٌ وسبعون شعبة، ليس الإيمان القوليَّ كما في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاس مَن يَقُولُ آمَنَّا [البقرة: 8]، بل الإيمان الخُلقيُّ والعلميُّ والحكمة، إيمان القلب والذِّكر والحبِّ، فإن أعظم درجات الإيمان هو الحبُّ، فإذا صار لك محبوب جامع لهذه الفضائل فيجب أنْ يُحَبَّ، فإذا عرفت كيف تحبُّه، وعرفت معنى هذا الحبِّ الذي هو ربط سلكك الَّذي ليس فيه طاقة كهربائيَّة مع السِّلك الَّذي فيه التَّيَّار الكهربائيُّ، فبمجرَّد هذا الرَّبط الحبي القلبيِّ ستنير أضواءك، والمذياع سوف يغني، والغسالة سوف تغسل، والمكواة سوف تكوي، وكذلك الغاز والمدفأة، وكل شيء سينير [كناية عن صلاح أمورك كلها].. أسأل اللَّه أن يرزقكم هذا الحبَّ.

اغتنم صحبة الأكابر واعلم أنَّ في صحبة الصِّغار صَغاراً وابغِ من في يمينه لك يُمنٌ وترى في اليسار منه اليسارا

هناك أناس صِغار النُّفوس والإيمان وصِغار الهمم والأخلاق والعلم فلا تصحبهم، بل اصحب كبار العلم والإيمان والأخلاق والعقل والفكر والحكمة، وابغِ، أي: تَطلّب وابتغِ “وابغِ من في يمينه لك يُمنٌ” أي: ضع يدك بيده اليمنى تجد يده كلُّها يمن وبركة، وإذا لم تستطع أخذ اليمين فخذ يساره، “وترى في اليسار منه اليسارا”؛ سيُبدِّل الله عُسرك يسراً وضيقك فرجاً.

((مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ جرْعَةً مِنْ لَبَنٍ وَلَا عَسَلٍ خَيْراً مِنْ جرعة غَيْظٍ)) من يستطيع منكم فعل ذلك؟ هذه بحاجة إلى امتحان، كأن يكون أحدكم وهو على حينِ غرَّةٍ وغفلةٍ ودون أنْ يشعر فيأتيه شخصٌ يفعل معه شيئاً يغيظه، ليس من العيار الثَّقيل؛ لأنه ربَّما لا يتحمَّل، فالتَّمنِّي غير الحقائق، فكل الناس يتمنَّون أنْ يصيروا أبطالاً، أو أنْ يصيروا أولياءً، ولكنَّ هذا الأمر يحتاج إلى تمرُّغ على نعال أحباب الله، وأن تغسل قدميهم بدموع عينيك، وتسهر اللَّيالي في ذكر الله عزَّ وجلَّ والفناء في خدمتهم وصحبتهم، والفناء في الإخلاص.

عندما تزور النَّبيِّ ﷺ أنت تزور جدراناً ونافذة من الحديد؛ لأنك لم تعرف كيف تكون زيارة النَّبيِّ ﷺ، يجب أنْ تُهيِّئ نفسك من هنا [من بلدك] لزيارة النَّبيِّ ﷺ، فإذا لم تتهيَّأ من هنا فلن تفهم هناك شيئاً، يلزمك سنة أو سنتان لكي تكون لائقاً بزيارته وتعرف كيف يُزارُ النَّبيُّ ﷺ، وهناك أناس يزورُهم النَّبيُّ ﷺ! ألم يكن النَّبيُّ ﷺ يزور أصحابه؟ هل هذا تنقيص لقدر النَّبيِّ ﷺ؟

دخلت مرّةً على شيخنا- قدَّس الله روحه- عندما اشترى منزله في الشَّام، وكان الوقت ضحًى ورأيته مُشرقَ الوجه باسمَ الثَّغر، بعدما جلست التفتَ إليَّ وقال: كان عندي الآن نبيُّ الله يحيى، زارَني وهنَّأني بالبيت! فهو ليس في صحبة النَّبيِّ ﷺ فقط، بل في صحبة سيِّدنا يحيى وصحبة الأنبياء والرُّسل.. مرّةً أخونا سعيد الكاشف ذهب إلى الحجِّ، قال لي: عندما كنتُ واقفاً أمام الحُجرة متوجِّهاً نحو النَّبيِّ ﷺ رأيت إخوتنا الشِّيعة يسلِّمون على النَّبيِّ ﷺ ويبكون، فوقع في قلبي أنَّهم يكرهون سيدنا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فيا تُرى هل يرد النَّبيِّ ﷺ عليهم السَّلام عندما يسلِّمون عليه؟ قال: والله ما استكملت الخاطر في نفسي، حتَّى رأيت النَّبيَّ ﷺ وهو يرفع كلتا يديه لردِّ السَّلام! هناك مخطئون.. فهم في الحقيقة لا يسبون أبا بكر وعمر الحقيقيَّين رضي الله عنهما، إنما يسبون أبا بكر الَّذي ظلم السَّيِّدة فاطمة رضي الله عنها، أمَّا سيِّدنا أبو بكر الحقيقيُّ رضي الله عنه لم يظلم السَّيِّدة فاطمة رضي الله عنها، ويسبون من منعها حقَّها، وسيِّدنا أبو بكر رضي الله عنه لم يمنعها حقَّها، ذاك أبو بكر الخياليُّ الَّذي يقومون بسبه، ويسبون عمر الَّذي آذى أهل البيت، وهو خياليٌّ من كرتون، أما سيِّدنا عمر الحقيقيُّ رضي الله عنه فهو الَّذي أنقذهم.. فنحن بحاجة إلى بعض الحكمة وكل شيء يأتي بالحكمة.

ليس هناك شيخ يأتي من إيران إلى الشَّام إلَّا ويريد أنْ يأتيَ إلى جامع أبي النُّور أوَّلاً، فعندما أتى السَّفير وهو من كبار علماء إيران، عالم كبير، وقد زارني قبل أنْ أزوره، قال لي: أنا مأمورٌ من إيران أنّه بمجرَّد وصولي إلى الشَّام أنْ أزورك وأقبِّل يدك.. أليس ذلك أفضل من أنْ نسب الشِّيعة ويسبوننا، ونلعنهم ويلعنوننا؟ هم مسلمون مؤمنون يحبُّون الله عزَّ وجلَّ والنَّبيَّ ﷺ، ويبذلون الملايين في سبيل الإسلام، ويحبُّون شيوخهم، هذا الخمينيّ [شيخاً منهم]، وقد طردوا الشّاه! [شاه إيران]، هل يحبُّ المسلمون شيوخهم هكذا؟ نحن ليس عندنا شاه ولا نخرج شاهاً ولا نعمل بالسِّياسة، لكن- يا بني- أسأل الله أن يُفهمنا الإسلام؛ لأنَّك إذا فهمت أين يوضع الأوزي [أكلة سورية فاخرة مصنوعة من الرز واللحم والمكسرات ومُغَلَّفة برقائق العجين] وعرفت ما هو الأوزي وكنت جائعاً، فماذا تكون النَّتيجة؟ ستذهب للبراد لتأكل، وإذا وجدته مقفلاً تحاول أن تكسره لتصل إلى الطَّعام بأيِّ طريقة، وإذا لم تعرف الأوزي ولا أين هو موجود ولم تفهم منافعه، فسيقتلك الجوع وأنت جالسٌ في مكانك.. هل اعتمدتم على تطبيق حديث جرعة غيظ؟

الشديد من يملك نفسه عند الغضب

((مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأُنَاسٍ يَتَجَاروْنَ مِهْرَاسًا))، والمِهْرَاس: هي صخرة عظيمة منقورة للماء، أي كالجرن الَّذي هو صخرة يحفرونها ويستعملونها لصنع الكبَّة [أكلة شرقية عربية] أو يضعون فيها الماء، هذا يسمى المهراس، ((يَتَجَاروْنَ مِهْرَاسًا)) أي: يرفعونه ويتبارَون بحمله، فقال: ((أَتَحْسَبُونَ أَنَّ الشِّدَّةَ فِي عَمَل الْحِجَارَةِ؟))، أي أتظنون أن الرَّجل الشَّديد العظيم القويّ الَّذي يرفع الحجارة؟ مع أن البغال تستطيع جرَّ عرباتٍ لا يستطيع محمَّد علي كلاي [ملاكم أميركي مسلم] جرَّها.. يتدرب بعض الناس على رفع الحديد، فإذا كان لتقوية الجسم فلا مشكلة، ويقولون عنه: هذا بطل، هل بطل الوزن الخفيف أم الثَّقيل؟ ولكن هل يقولون: بطل الإيمان أو الحلم أو الكرم أو خشية الله أو بطل الدَّعوة إلى الله والأمر بالمعروف؟ وكذلك يقولون ملكةَ جمالِ السِّيقان! ولكنهم لا يقولون: ملكةَ جمالِ الأخلاق، وملكةَ جمالِ تربية الأبناء الَّتي ربَّت أعظم ولدٍ علماً وخُلقاً وديناً.

كانت عندي البارحة إحدى النساء ولها ضرَّة نصرانيَّة وتوفِّيَ زوجُها، وكان متزوجاً بثلاث نساءٍ، هذه الزوجة النَّصرانيَّة كانت تأمر أولادها بالصَّلاة والوضوء وتقف على وضوئهم، وهي تصلَّي صلاة النصارى! تُربِّي أولادها على دين أبيهم وتقف على وضوئهم وهي نصرانيَّة! فالأمُّ المسلمة الَّتي لا تأمر ولدها بالصَّلاة، ويدخل الوقت وينتهي وهي تجلس كالبغال، ولا تغضب لله تعالى ولا تفهم دينها، هل الدِّين أنْ تُصلِّي هي فقط؟ قال الله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاة [طه: 132]، بل يجب عليها أنْ تأمر ابنها وابنتها وابن ابنها وبنت ابنتها والجالسين معها، ومن لم يرضَ أن يصلي تقول له: “مع السلامة”، [ارحل وابتعد عنا] أي يجب أنْ تغضب لله عزَّ وجلَّ.. ألا تغضب إذا أخذ أحدهم حذاءك؟ بل وتعمل مشكلةً، فاغضب لله عزَّ وجلَّ، وإذا كنتَ حكيماً وحليماً ستجعلهم يصلُّون من غير غضب، وهذا أفضل من الغضب، كأن تقول له: “يا بنيَّ إن صليت سيرضى الله عنك، والإسلام والدين أمرنا بالصلاة، وتارك الصَّلاة ملعون، وقال الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ الصَّلاة كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا [النساء: 103] وماذا ينقصك حتى لا تصلي؟ وسيفتح الله تعالى عليك إن صليت ويغنيك ويعطيك، فهذا أفضل من السباب، وإذا لم تتمكَّن من ذلك فتغضب لله عزَّ وجلَّ.. كان النَّبيّ ﷺ لا يغضب لنفسه ولكن يغضب لله تعالى، وهذا من الإيمان، فالَّذي لا يغضب لله عزَّ وجلَّ فهذا يَنقصُ إيمانه شعبةً من شعب الإيمان؛ لأن الغضب لله عزَّ وجلَّ شعبةٌ من شعب الإيمان، وكذلك الحبُّ في الله شعبةُ من شعب الإيمان.

“مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأُنَاسٍ يَتَجَارُوْنَ مِهْرَاسًا- وهي صخرة عظيمة منقورة للماء- فقال: ((أَتَحْسَبُونَ أَنَّ الشِّدَّةَ فِي عَمَل الْحِجَارَةِ؟)) -أي في رفعها- ((إنَّما الشِّدَّة)) – القوَّة والعظمة والبطولة كمحمد علي كلاي، فتكون بطلاً إسلاميّاً- ((أَنْ يَمْتَلِئَ أَحَدُكُمْ غَيْظًا ثُمَّ يَغْلِبَهُ)) 16 يأتي أحدُهم ويشعِلُهُ غَضَباً وغَيْظاً حتَّى يُصبِح كالنَّار في الغضب، فالغيظ: هو شدَّة الغضب، وبعدَ ذلك يستطيع أنْ يتغلَّب على غضبه وغيظه.

سأسألكم صباحَ الثُّلاثاء أي في الدَّرس القادم، من نفَّذ هذا؟ وقام بعمل مناورةٍ وتدريباتٍ عسكريَّةٍ في هذه الأخلاق المحمَّدية- إن شاء الله لا يضيع ذلك معكم- ولكن قوموا بذكر الله تعالى وراقبوا الله عزَّ وجلَّ، فالله تعالى دائماً معكم، يسمع نطقكم ويرى عملكم في خلواتكم، ومع أهلكم، وفي أسواقكم: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد: 4] فليرى الله فيك ما يرضيه وما يحبُّه وما أمرك به.

وفي رواية: “قالوا: يا رسول الله هذا حجر كنَّا نسمِّيه الحجر الأشدَّ”، قال: ((ألَا أدُلُّكُمْ عَلَى أَشَدِّكِمْ، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أمْلَكُكُم لنفسِهِ عِند الغَضَبِ)) 17 وفي رواية قال النَّبيّ ﷺ: ((ما تعدُّونَ الصُّرعة فيكم؟ قالوا: الَّذي لا تَصْرَعُهُ الرِّجَالُ، قال: بَلِ الَّذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ)) 18 ، هذه هي الرُّجُولة، وهذا هو المصارع والبطل: بطلُ الحلمِ وكظمِ الغيظِ ومِلْكِ الغضبِ.

البطولة في حجز النفس عن الهوى

﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ أي: يحسب دائماً حساب الوقوف بين يدي الله عزَّ وجلَّ، ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فعندما تغضب تهوى نفسك الكلام والسباب، وتهوى يدك الضَّرب والأذى، والسِّعايةَ بأذى أو ضررٍ بعمل أو بقول، أمَّا في الدِّين، فقد قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النَّازعات: 40-41]، لذلك قال النَّبيُّ ﷺ: ((أبْغض إِلَهٍ عبد فِي الأَرْض الْهَوَى)) 19 .

فالذِّكر، أي ذكر الله عزَّ وجلَّ، أنْ تكون مع الله حضوراً ومحبَّةً ومراقبةً واستجابةً لأوامره، ليراك الله تعالى حيث أمرك، ويفقدك حيث نهاك.

انتهت أحاديث الحِلم.

وصلَّى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم، وجزاكم الله عنَّا خيراً.

أنا قاعد من السَّاعة الثَّانية، أقول لكم هذا حتَّى إذا أراد أحدكم أنْ يستيقظ وهو يشعر بالنُّعاس، يقول لنفسه أن الشَّيخ رغم تعبه وسوء حالته الصِّحِّيَّة ومع ذلك يستيقظ قبلنا ويشعر بالتَّعب أكثر منَّا، ولكن عندما كُنتُ شابًّا مثلكم كانت تمضي عليَّ اللَّيلة واللَّيلة؛ أي ثمانٍ وأربعين ساعةً لا أنام فيها.. أسأل الله أنْ يرزقكم علو الهمَّة.. ولكن مع ذلك أقول لكم لا تُحمِّلوا أنفسكم ما لا تطيقون، ((اِرْبِعوا على أنفسكم)) 20 ، ((فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ، وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى)) 21 .

أظن أن الشمس طلعت الآن، لأنها تطلع الساعة السادسة والنصف، هل نستطيع إذاً أن نصلي ركعتي الضحى، فالنَّبيِّ ﷺ قال: ((من صلى الصبح فِى جَمَاعَةٍ وجلس يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ- أعظم مجالس الذكر مجالس العلم- ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْ الضحى كتب اللَّهُ له ثوابَ حجةٍ وعمرةٍ مقبولتين مقبولتين مقبولتين)) 22 .

هذه مقبولتين ثلاث مرات، إذاً اختموا المجلس بركعتين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

Amiri Font

الحواشي

  1. السنن الكبرى للبيبهقي، رقم: (18275)، (18276)، (9/199).
  2. ورد بهذا اللفظ في السنن الكبرى للبيهقي، رقم: (20782)، (10/323)، ومسند القضاعي، رقم: (1165)، (2/192)، موطأ مالك باب ما جاء في حسن الخلق: (5/1330)، وهو في مسند أحمد، رقم: (8952)، (14/512)، بلفظ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالحَ الأَخْلاَقِ)).
  3. متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب المرضى: باب تمني المريض الموت، برقم (5673)، صحيح مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار: صفات المنافقين وأحكامهم باب لن يدخل أحد الجنة بعمله، برقم (2816).
  4. سبق تخريجه.
  5. حلية الأولياء، أبو نعيم، (9/279)، و(10/192)، البداية والنهاية، ابن كثير، (7/371).
  6. شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (8311)، (6/315)، مسند أبي يعلى، رقم: (4338)، (7/ 302)، واللفظ: «وَمَنْ خزَنَ لِسَانَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، ومَنْ كَفَّ غَضَبَهُ كَفَّ اللهُ عَنْهُ عَذَابَهُ، وَمَنِ اعْتَذَرَ إلَى اللهِ قَبِلَ عُذْرَهُ».
  7. صحيح مسلم، في كتاب البرِّ والصِّلة والآداب: باب تحريم ظلم المسلم وخذله، رقم: (2564).
  8. سنن ابن ماجه، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، رقم: (3438)، (2/ 1138)، ورواه البخاري في صحيحه، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، رقم: (5678)، بلفظ ((مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً)).
  9. نوادر الأصول فى أحاديث الرسول (4/30)، بلفظ: وروي عن وهب بن منبه أنه قال: ((من داوم على خلق أربعين يوماً صار ذلك له خلقاً)).
  10. صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، رقم: (4406)، صحيح مسلم، كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، رقم: (1679).
  11. رواه الديلمي عن عمر، كما نقل السيوطي في جامع الأحاديث (21/368) المتقي الهندي في كنز العمال (3/406). بلفظ: «مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ وَبَسَطَ رِضَاهُ وبَذَلَ مَعْرُوفَهُ وَوَصَلَ رَحِمَه وَأدَّى أمَانَتَهُ أدْخَلَهُ الله عزَّ وجلَّ يومَ القيامةِ في نُورِهِ الأعْظَمِ».
  12. رواه ابن أبى الدنيا فى مكايد الشيطان عن مجاهد مرسلاً، كما نقله الهندي في كنز العمَّال، (3/ 7164).
  13. قول لأَبُي بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيِّ الكَتَّانِيُّ، القُدْوَةُ، العَارِفُ، شَيْخُ الصُّوْفِيَّةِ، َقَالَ: "التَّصَوُّفُ خُلقٌ، فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الخُلقِ، زَادَ عَلَيْكَ فِي التَّصَوُّفِ، ينظر سير أعلام النبلاء، (28/ 114).
  14. مسند الإمام أحمد، رقم: (55)، (1/58)، سنن النسائي، باب الحكم فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: (3534)، (2/ 304).
  15. مسند الإمام أحمد، رقم: (6114)، (10/270)، بلفظ: ((مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ جَرْعَةً أَفْضَلَ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ، يَكْظِمُهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى)).
  16. الزُّهد والرقائق لعبد الله بن المبارك المروزيِّ، رقم: (740)، (1/ 256).
  17. مسند البزَّار، رقم: (7280)، (13/ 474).
  18. سنن أبي داود، كتاب الأدب: باب من كظم غَيظاً، رقم: (25378).
  19. معجم الطبراني الكبير، رقم: (7373)، (8/ 289)، بلفظ: «مَا تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ مِنْ إِلَهٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَعْظَمُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ».
  20. سنن أبي داود، كتاب سجود القرآن، باب في الاستغفار، رقم: (1528)، (1/478)، بلفظ: ((أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ))، عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه.
  21. السنن الكبرى للبيهقي، رقم: (4743)، (3/27).
  22. سنن الترمذي، باب ذكر ما يستحب من الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، رقم (589)، (3/3)، بلفظ ((مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِى جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ». قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ
WhatsApp