الشَّهادتان عقيدة، والصَّلاة علم وتربية
معلومٌ أنَّ أركان الإسلام خمسة، وأركان البناء هي الَّتي يُقام عليها البناء وتحمله، فالشَّهادتان عقيدة، والصَّلاة علم وتربية يتولى الأسْتَذة [التعليم] فيها ربُّ العالمين إذا قرأ المسلم القرآن قراءة كتاب علمٍ وتربية، أمَّا قراءة النبرات والصوت الهوائي فهذه لا يكون المقصود بها العلم ولا التَّربية؛ لذلك لا تحصل لصاحبها الفائدة العلمية ولا الفائدة التَّربوية، كما هو واقع الكثرة الساحقة من المسلمين في عصرنا الحاضر فلا يستفيدون من علوم القرآن ولا من تربيته.
والقرآن هو علوم الإسلام، فأصبح الآن الإسلام في جانب والمسلم في جانب آخر من الأهواء والشَّهوات والتَّقاليد، فقبل خمسين سنة كانت كثير من التَّقاليد فاضلة فيها أخلاق وفيها إيمان.
هل أكلنا قشر الصَّبارة فقط؟
أخذنا من التَّقاليد الاستعماريَّة الصَّليبيَّة؛ حيث أتانا الاستعمار بعلوم وأتانا بأخلاق رديئة، فأخذنا من تلك العلوم بسائطها [بساطها أو سطحها: شكلياتها] ولم نأخذ لُبابها، لكن أخذنا كل رذائلها، كمثل الَّذي أكل الصَّبَّارة [تين الصبار: تين مُغَلَّف بقشر شوكي، ولُبُّه “داخله” حلو ونافع، وفيه بذور]، حيث أكل اللُّبَّ مع القشر، ولو أنَّه أكل اللُّبَّ مع القشر فهذا حسن، أمَّا أنْ يأكل القشر فقط ويأكل معه بذرتان أو ثلاث مما علقت به، فهل يجد راحة في تلك الليلة؟ أليس هذا الذي أصابنا؟
قبل خمسين أو ستين سنة كنَّا على بساطتنا وكثرة أمراضنا الجسديَّة والخرافات المنتشرة مثل أنَّك إذا ذهبتَ بين البساتين إلى الموضع الفلاني ستخرج لك عروس [مخيفة]، فيخاف الجميع أنْ يذهب إلى ذاك الموضع، فرغم انتشار أمثال هذه الخرافات فقد كانت هناك أخلاق كثيرة وعقيدة وصفات حسنة، وبشكل عام ربما كان أفضل مما عليه الآن، نعم أجسادهم كانت مريضة، والآن الأجساد صحيحة لكن نفوسهم وأخلاقهم كانت أفضل من الآن، وكان جاهلهم يتربَّى بالمقاهي.. والسِّينما.. والكركوز [مسرح الدُّمى]، وقد أدركتُ بعض ذلك.
كان مسرح الدمى يحمل معاني توجيهيَّة مع النِّكات والتَّسلية الَّتي قيل إنها من خير الأدوية للقلب، والمقاهي كانوا يُدَرِّسون فيها قصة عنتر والزِّير وبني هلال، وهي كلُّها كتب قصصيَّة ألَّفها كبار العلماء للتَّهذيب الشَّعبيِّ، فالَّذي لا يصل للجامع يصل إلى القهوة، فيصيدونه من القهوة بقصة عنتر التي كلُّها مكارم أخلاق، والشِّعر فيها شعبي وكتابتها شعبيَّة.
الصَّوم مدرسة
فالصَّلاة مدرسة، والصَّوم كذلك، فمن كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((صوموا تَصِحُّوا)) ، وقد صار الصَّوم اليوم نوعًا من أنواع الطِّب المستقل الشَّافي الَّذي يعطي نتائج هائلة ورائعة، وهذا يومي الثَّامن من صومي أنا [الصيام الطبي]، وقد درَّست يوم الجمعة وكنت نشيطًا وربَّما أحسن ممَّا أنا عليه حين أكون مُفطِرًا.
المال من الأعمدة التي يبنى عليها الإسلام
الزَّكاة هي المال، وهي ركن من أركان الإسلام، ويجب أنْ يُسخَّر المال ليكون ركنًا، فكما أن القبة لها أربعة أو خمسة أعمدة، كذلك المال هو من جملة الأعمدة التي يبنى عليها الإسلام، فالواجبات الإسلاميَّة تحتاج إلى المال لتُقام، فالمساجد والمدارس تحتاج إلى المال، والجهاد يتطلب المال، والدَّولة تتطلب المال، والفقير يحتاج المال، والعالِم كذلك حتَّى يَتفرَّغ من العمل يحتاج المال، وإلَّا فهو قادر أن يقوم بأي مِهنة ولا يحتاج فيها لأحد.
فسُمِّي المال بالزَّكاة.. والزَّكاة لها توابع، فهي ليست فقط الزَّكاة، النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكاة)) ، فالمسلم لا يكتفي بالأركان الخمسة فقط، فهي ليست الإسلام كلَّه، بل هي الأركان التي تُنبى عليها الطَّوابق، يعني هذه هي الأعمدة والجذور التي يُبنى عليها لنكون قادرين أن نحمل عليها عشرين أو ثلاثين طابقاً، فهل يمكن أن يُقام البناء من غير أركان؟ ومن جملة الأركان في الإسلام الغنى والثَّروة.. إذا لم تكن غنيّاً وثريّاً في الإسلام فأنت تهدم ركنين من أركانه؛ فالرُّكن الأول هو الزَّكاة، والرُّكن الثَّاني هو الحج، لأنَّ الحج يتطلَّب المال، والزَّكاة هي إنفاق المال، وهل تجب الزَّكاة على الفقير أم على الغني؟ فكم ركنًا من أركان الإسلام عند الفقير؟ فالصلاة ركن، والصَّوم ركن، والشَّهادتان ركن، والرُّكنان الباقيان تعطَّلا عنده.. إذًا فقد هدم الفقير ركنين من أركان الإسلام.. والفقر يأتي من الكسل والخمول وانعدام المسؤوليَّة.
فإذا قلنا إنَّ الغنى من أركان الإسلام فلا نكون أتينا أمراً إدّاً [منكرًا]، بينما صار مفهوم الدِّين معكوساً، وهو أنَّ الشيَّخ أو المتدين كلَّما كان أفقر وأبعد عن الدُّنيا وقعد برأس الجبل وبالمغارة فقد قدَّس الله سرَّهما [بمعنى أنه بلغ درجة عالية في الإيمان]، وإذا أراد أنْ يفتخر ويعتزَّ يأخذ لقب الفقير أو العاجز أو الحقير، فمتى كان الإسلام حقارة؟ ومتى كان ضعفًا؟ ومتى كان عجزًا؟ ومتى كان فقرًا؟
هل قال القرآن: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [سورة الضحى: 8] أم “غنياً فأفقر”؟ والنَّبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة رضي الله عنهم: ((ألم أجدكم عالة فأغناكم الله بي؟)) ، وقال تعالى: ﴿وَالَّذينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾ [سورة المؤمنون:4] فهذه صفة المؤمنين، فهل قال: “للزكاة آخذون”؟ فمفهوم المال ومفهوم الاقتصاد ومفهوم الثَّروة ركن من أركان الإسلام، فكل عمل زراعيٍّ وصناعيٍّ واقتصاديٍّ وتجاريٍّ هو طريق إلى بناء هذا الرُّكن الإسلاميِّ.
نصف الإسلام دنيا ونصفه آخرة
كلُّ مسلم يُفكِّر في الفقر ويقف عند حدٍّ، وهو يستطيع أنْ يبلغ ما هو أعلى منه في المال والثَّروة، فهذا قصور في فهمه الإسلاميِّ وقصور في أداء واجبه الإسلامي، فكثير من إخوانكم كانوا موظفين، لكن بتوجيه الشَّيخ لهم بأنْ يعملوا بعد الدَّوام الرَّسميِّ عملًا آخر تجاريّاً فصاروا تجَّارًا وتركوا الوظائف، وصار عندهم رصيد في البنوك بالملايين، وليس هذا من توجيه الشَّيخ فقط، بل من التَّوجيه الإسلامي ومن الفقه الإسلامي.
نحن حصرنا الفقه بالاستنجاء والوضوء والصَّلاة على الجنازة وصلاة الاستسقاء.. نعم هذا من الفقه لكنه ليس كلَّ الفقه، فأين فقه: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [سورة البقرة: 201]؟ هذا هو الإسلام.. نصفه دنيا ونصفه آخرة. والآن سنبحث في موضوع الزَّكاة وموضوع قيمة المال في الإسلام.
البُهَرَة شيعة فاطميُّون يهتمون بتنشئة علمائهم
أنا لم أرَ في عصرنا الحاضر فئة إسلامية تفهم الإسلام فهمًا جيِّدًا -مع بعض النَّقد عليها- مثل طائفة (البُهرة)، هؤلاء البُهرة شيعة فاطميُّون، يُنشِّئُون الشَّيخَ تنشئة.. حيث اطلعت على برنامجهم في بومباي في الهند وكانوا يُعلِّمون الطالب لغة أجنبية، ويُعلِّمونه الاقتصاد والسِّياسة والفلسفة، فيخرج قائدًا لمجتمعه؛ ولذلك فإن أغنى طائفة في الهند على الإطلاق هم طائفة البُهرة، ويُعطون شيخهم لقب السُّلطان، وله مجلس وزراء، والَّذين حوله بين وزير الدَّاخلية ووزير الخارجية، وله عيد في السَّنة، فيخرج بعربة تجرُّها ثمانية خيول ترتدي رداء مزركشًا ومع الموسيقى، إظهارًا لعزة الدِّين والإسلام أمام المجوس وأمام البراهمة.
لكن مفهوم الإسلام عندنا أنَّ على المسلم أنْ يكون مشرَّدًا، وملابسه مرقَّعة وقبَّعته متَّسخة وأظفاره سوداء، وشعره مثل شعر الغول، ويكون فقيرًا عاجزًا حقيرًا ميِّتًا، وهكذا يصير من أولياء الله! وهذا صار مفهوم الكلّ.. وهو لم ينتشر بين النَّاس إلَّا بتوجيه القسم الأكثر من الشُّيوخ، ولذلك ضعف المسلم وضعفت شخصيته وعقليته وحياته.. كان يُحرَّم قبل خمسين سنة على الطالب أنْ يدرس في المدرسة الثَّانوية وكان تعليم البنت لا يجوز، وأتى الفسَّاق ومن لا دين لهم فصاروا هم الحكَّام بالنَّاس فأفسدوا الإسلام عقيدة وأخلاقاً وسلوكاً وفي كل شيء، وسبب هذا كلِّه من قصور الشَّيخ وعدم صحة بنائه وعدم استكمال شخصيته العلميَّة والتَّربويَّة.
الزَّكاة معبر الدخول إلى الإسلام
نبدأ بالأحاديث النَّبوية من الكتاب من حرف الزَّاي.
الحديث الأول: يقول صلى الله عليه وسلم: ((الزَّكاة قَنْطَرَةُ الْإِسْلَامِ)) قنطرة الجسر تعني معبر الدخول، وإذا كانت كقوس يُوضع عليه البناء فهو أصل البناء، فالزَّكاة إذًا معبر الدخول إلى الإسلام وأساس بنائه.
وما معنى الزَّكاة؟ هي المال، ومعنى المال أي بذل المال لبناء الإسلام عقيدة وعلماً ومكاناً ومجتمعاً ومكافحة للفقر، بل أكثر من ذلك أنَّ الزَّكاة لو تُنظَّم لاستطعنا القيام بمشاريع كبيرة؛ هناك أغنياء في البلد يملكون أكثر من مئة مليون، ألا يوجد في البلد أكثر من ألف مليون، بل وآلاف الملايين تجب فيها الزكاة؟ ولو جُمعت زكاتُها وقُسمت نصفين، نصف نُعطيه للفقير والأرملة واليتيم كمصروف سنوي، والنِّصف الثَّاني نُقيم به المعامل والمصانع، ونصرِفُ رَيْعَها في مصارف الزَّكاة.
المرأة اليهودية عندها بدلتان، واحدة للعمل وأخرى لزوجها، ولا تصرف على شراء الذهب خمسين أوستين أو مئة ألف، لأن هذا من تعطيل المال؛ لذلك تفوَّق الأجانب وتغلبوا علينا وأذلُّونا بالعقل وبالعلم، وكُتبنا الإسلاميَّة المخطوطة موجودة في البلاد الأجنبية.. وقد زرتُ مكتبة واشنطن، وهي تعدل مدينة كاملة! والقسم العربي وحده من المطبوع والمخطوط يكاد يكون مدينة، فأين نحن من هذا؟
نحن صرنا لا مسلمين ولا أوروبيِّين، مثل العصفور الذي رأى الغراب يمشي، ومشية الغراب مشية جميلة متَّزنة رزينة، فأتى العصفور ليُقلِّده، لكنَّ المشية تقتضي جسمًا كجسم الغُراب فلم يستطع تقليده، فرجع حتَّى يمشي مشيته الأولى فما استطاع أيضًا، فصار يقفز قفزًا.
هكذا حال المسلمين اليوم لا صرنا أوربيين ولا بقينا مسلمين؛ فلا نحن على القديم ولا على الإسلام الحقيقي، وسبب ذلك هو الشَّيخ.
المعاهد الدِّينية لا تُنشئ الشَّيخ يا إخوان؛ لا الأزهر ولا غير الأزهر، لا من حيث المواد العلمية العربية الإسلامية ولا من حيث الفكر الإسلامي والفقه الإسلامي، والفقه ليس فقط فقه الفروع بل عليك أنْ تفقه علوم القرآن كلها حتَّى تصير فقيهًا، وعليك أنْ تكون فيك أخلاق الفقيه، وسلوكيَّات الفقيه، وروحانيَّة وربانيَّة الفقيه العالم حتَّى تصير عالماً، فالفلاَّح هو الَّذي يزرع بستانًا، وبائع “القباقيب” [أحذية من خشب] هو الَّذي يكون دكانه ممتلئًا بالقباقيب، والإسكافيُّ مثله، والخبَّاز هو الذي يصنع الخبز، والحلوانيُّ هو الذي يعمل الحلويات، والشَّيخ طالب العلم وحامل الشهادات ماذا يعمل؟ لا يعمل شيئًا! الشّيخ الآن عاطل عن العمل تمامًا، لذلك بقيت الخراف بلا راعٍ، وترعاها ذئاب الفكر الاستعماريِّ والصَّليبيِّ والتَّتري الأصفر الصِّيني أو الأحمر الشُّيوعي.
((الزَّكاة قنطرة الإسلام)) فإذا أردتم بناء إسلامكم ستحتاجون المال، والمال عندما تملكه على قسمين
القسم الأول: قال الله تعالى: ﴿جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾ [سورة الهمزة: 2-3] هذا المال إلى أين مصيره؟ مصيره: ﴿لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ﴾ [سورة الهمزة: 4] الله سيُحطِّم عظامه ورأسه ويطحنه طحنًا.
القسم الثاني: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاة وَآتُوا الزَّكاة وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [سورة المزمل:20]، وإذا أردت أنْ تصير مسلمًا فتحتاج النَّوع الثَّاني من المال: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [سورة التوبة: 103].
وليس المقصود أنْ تسمعوا فقط دون تطبيق، حتَّى لو كان أحدكم فقيرًا ليس عنده نصاب الزكاة فليتصدَّق صدقة النَّفل حتَّى يعوِّد نفسه على الصَّدقة، النَّبي عليه الصلاة والسلام في بعض الأحاديث أخبر بما معناه أن “على كل مؤمن في كل يوم صدقة” ، فإذا خرجت من البيت وليس عندك شيء فخذ معك رغيف خبز أو علبة كبريت، وابحث عن مسكين فأعطه علبة الكبريت ورغيف الخبز، أعطِ لولد صغير بعض الحلويَّات، عوِّد نفسك على إنفاق المال في أبواب الخير، ثمَّ إذا أعطاك الله تعالى النِّصاب تدفع النِّصاب هذا كفرض، وتدفع النَّفل وسنة الزَّكاة، ﴿وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [سورة الحديد: 18].
فإذا كانت الزَّكاة قنطرة وجسرًا تصل بها إلى الإسلام، فإذا لم توجد الزكاة فلا توجد قنطرة، وإذا لم توجد القنطرة فأنت بعيد عن الإسلام ومحروم منه، وإذا كانت القنطرة لحمل البناء فانعدامها يعني فقدك للإسلام، وهذا حال كثير من المسلمين، والسَّبب هو فقد المعلِّم والمربِّي، والمربِّي هو الَّذي يُربِّي الإنسان الدَّاخلي المسمَّى بالقلب أو النَّفس أو الرُّوح، وهو مسمًّى واحد، أو هو بحدِّ ذاته الإنسان الحقيقيُّ، وهو موضع الحب والكره والقبول والرَّفض، وهو موضع العلم وموضع الجهل.
احفظْ أموالك بالزكاة
الحديث الآخر: قال صلى الله عليه وسلم: ((حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكاة، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَأَعِدُّوا لِلْبَلَاءِ الدُّعَاءَ)) ، هذا الحديث لم يُشرح في عصر من العصور كما شُرح في عصرنا الحاضر؛ ما سبب الشُّيوعية والبروليتاريا؟ أليس منع الزَّكاة؟ حين لم يُزكُّوا أفلست شركاتهم، وعلى سبيل المثال فالشَّركة الخماسيَّة ماذا أقامت من المشاريع الإسلاميَّة في هذا البلد؟ فلو حصَّنوها بالزَّكاة لبقيت، هل أقامت مدارس إسلاميَّة أو مياتم؟ ربَّما قد أخرجوا من مالها زكاة، لكن قالوا إنَّ الحكم الشَّرعي في الزَّكاة المفروضة أنَّه يُستحبُّ الإعلان عنها، أمَّا زكاة النَّفل فيُستَحَبُّ الإسرار بها؛ فيستحب الإعلان عنها ليقتدي الآخرون، وحتَّى لا تكون موضع تُهمة أنَّك بخيل وشحيح لا تُخرج الزكاة.
ويجب أنْ يكون الإعلان بالشَّكل التالي: إذا أراد المسلم إخراج زكاته والإعلان بها فلا يُخرج زكاته لوحده، بل يجمع عددًا من إخوانه ويقول: أنا سأخرج زكاتي، وهي قنطرة الإسلام ونحن في رمضان، ألا تريدون إخراج زكاتِكم؟ فيجعل من نفسه إمامًا في زكاته ويجمع حوله مثل صلاة الجماعة.
النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صدقة السِّر تفضل صدقة العلانية بسبعين ضعفاً)) ، فصدقة السِّر أفضل، لأنَّ فيها حفظ كرامة الفقير وفيها عدم الرِّياء، لذلك ثوابها أعظم بسبعين ضعفًا، لكنَّ أحد الصَّحابة قال: يا رسول الله: “أرأيت لو تصدقت ليقتدي بي النَّاس؟” فبالسِّر لا تحصل القدوة، قال له: ((إنْ أردت ذلك فإن لك أجر السِّر وأجر العلانية)) .
الإسلام كله ذوق، وكله حقائق وواقع، يدور دائماً حول الأنفع والأصلح.. المساجد كانت مدارس، ولكنها الآن صارت مُصلَّيات ومكاناً للعاطلين الذين لا عمل لهم، هل يجتمع كل أهل المحلة في الجامع؟ كان الإمام إمام الفضائل، والإمام في العلم وفي الإرشاد مفقود أيضًا، فصار الجامع كأنَّه ليس جامعًا، فكان الجامع يجمع العلوم والإيمان والأخلاق والتَّربية والنِّظام وتفقُّدَ المجتمع لبعضه البعض، ولكنه اليوم فَقَدَ كلَّ هذه المعاني، مع أنها لا تزال موجودة في الكنيسة.
إمام الجامع راتبه مئة وخمسون ليرة، فهل سيَدرُس عشرين أو ثلاثين سنة ليعيش بمئة وخمسين؟ لو أنه عمل محاميًا أو طبيبًا أو مهندسًا لأخذ سبعة أو ثمانية آلاف.. هذا إذلال للعالم وإذلال للعلم! وإذا لم تُعطِ الدَّولة فعلى الشعب أنْ يُعطي، فالدَّولة تأخذ من الشَّعب وليس العكس، والشَّعب هو الذي يدفع راتب الشُّرطي والحارس والرَّاقص والرَّاقصة في التِّلفاز والمغني والمغنية، وللوزير والأمير، فلماذا لا يُشكِّل المسلمون لجنة في كل جامع ويجمعون للشيخ ثلاث آلاف ليرة؟ يجب أنْ يكون راتب الإمام ثلاث آلاف، وهذا مثل معاش الطَّيان [الذي يعمل بالطين، وهو البَنَّاء].
علينا أنْ نفهم الزَّكاة هكذا، فقبل كل شيء نؤمِّن رجل المسجد بكرامة ونهيئ له خادمًا وسيارة.
زارني من يومين بطرك السِّريان بسيارة (كاديلاك) طراز تسع وسبعين! فمن أين حصل عليها؟ أحد تلامذته زوَّج ابنته فدعاه للزفاف، ولحضوره عقد نكاح ابنته قدَّم له تكرمة لحضوره وزيارته سيارة (كاديلاك) طراز تسع وسبعين، والدَّولة أعطته ترخيصًا مجانيّاً مؤقتًا بلا جمارك، هذا فعل النَّصارى مع شيخهم.
أمَّا المسلمون فما هو موقفهم مع شيخهم؟ موقفهم الغيبة والنَّميمة، وإذا قُتل ابنه كثير منهم يكونون شامتين.
النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِذَا أَبْغَضَ الْمُسْلِمُونَ عُلَمَاءَهُمْ وَأَظْهَرُوا عِمَارَةَ أَسْوَاقِهِمْ وتألَّبوا عَلَى جَمْعِ الدَّرَاهِمِ رَمَاهُمُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ بِأَرْبَعِ خِصَالٍ، منها: بِالْقَحْطِ مِنَ الزَّمَانِ، وَالصَّوْلَةِ مِنَ الْعَدُوِّ)) ، والخصلتان الباقيتان لن أذكرهما، ومن أراد معرفتهما فليبحث عنهما في كتب الحديث.
[تعقيب: ذكر سماحة الشيخ هنا خصلتين فقط من الحديث، وهذا ما كان يفعله دائماً في دروسه العامّة عند الاستشهاد بهذا الحديث، وكان يفعل ذلك عن وعي وحكمة، وذلك كي لا يؤلب الحكام عليه- والحديث مذكور بتمامه في الهامش- حيث كانت له سياسة حكيمة في تعامله مع المسؤولين والحكام، فلم يكن يعاديهم، بل كان يداريهم ويحسن العلاقة معهم اتباعاً لما جاء في القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الحكام، وقد جنّب بذلك آلاف الدماء من المسلمين، وجَنَّبَ المسلمين فتناً كثيرة خاصة في سوريا، ولا يخفى أن كثيراً من العلماء ممن عرفوا الشيخ بعد تجربته كانوا يقولون: لقد حفظ الله الإسلام في سوريا بالشيخ أحمد كفتارو.. ولقد سمعتُه أكثر من مرة يقول: والله يا بني، لم تكن لقاءاتي بالحكام أبداً لحظ نفسي أو لمصلحة شخصية، وكانت كلها لخدمة الإسلام.. كتب هذا التعقيب محقق هذا الدرس: مصطفى كناكر]
نحن نعرف المرض وأسبابه والدَّواء وصيدليته وطبيبه، لكننا لا نتداوى، والسَّبب فقد الإيمان.. والإيمان يأتي من الذكر، ومن صحبة أهل الذكر، ومن رابطة الشَّيخ، وليست رابطة الشَّيخ أنْ ترتبط به بالحبل، وليست أنْ تتصور صورة الشَّيخ.. قد تخطر لك صورة امرأتك في صلاتك، أو صورة سيارتك، أو أموالك، أو دكانك، فهل قلبك متوجه إلى الله في صلاتك؟ هذه هي محبوباتك.
فالرَّابطة هي محبة وارتباط قلبي وحبي مع الشيخ، فإذا صحَّ الارتباط القلبي الحبي فسيوصلك يومًا من الأيام إلى محبة الله تعالى.. وارتباط القلب بالله تعالى قد فُقِد أيضًا، فُقِدت التَّربية القلبية ولذلك يُفقد ما وراءها، فإذا لم يصر لك الارتباط القلبي والحبي مع الشَّيخ على قاعدة العلماء ورثة الأنبياء، فكيف ستُحِبُّ أيها المؤمن النبي صلى الله عليه وسلم بأنْ يكون أحبَّ إليك من كل شيء سواه بعد محبة الله تعالى؟ لكن في الوقت نفسه أين هو الشَّيخ الَّذي سنُحبُّه؟ فإذا جلبنا لك امرأة بعمر الخامسة والتسعين، وعليها الأوساخ والروائح الكريهة، وكانت غبية ومريضة، وطلبنا منك أنْ تُقيم رابطة معها فهل تستطيع؟
وهذا الشَّيخ الحاليُّ من الصعب أنْ تُحبَّه وإذا أحببته فذوقك فاسد، أمَّا إذا جمعك الله تعالى مع الشَّيخ الحقيقي ولم تُحبَّه فحينها يكون ذوقك فاسدًا أيضًا، وإذا لم تصر رابطتك معه فالعيب فيك أنت، أليست لك رابطة مع زوجتك ومع عيادتك ومع مكتبك ومع مزرعتك ومع دكانك؟ هذه هي الرَّابطة يا بنيَّ.
((حصنوا أموالكم بالزَّكاة)) أنا من ثلاثين أو خمس وعشرين سنة كنت في جامع (يَلْبُغَا)، قلت لكم مئات المرات: يا أهل دمشق ستذهب مصانعكم وستذهب مزارعكم ومتاجركم، فاتقوا الله وارجعوا.. دعونا نقيم مدارس شرعيَّة ونُخرِّج علماء مربِّين، فنكفي فقراءنا ونخرج زكاتنا، وجمعت التُّجَّار عدة مرات، أدعو مئة فيجيء اثنان، فماذا حدث بعد ذلك؟ وهل يتركهم الله؟ لمّا صودرت أموالهم بالملايين، بذلت حتَّى صحتي ومرضت حزناً عليهم، وحين أنجح الله المشروع وأتى عيدٌ لم أرَ منهم أحدًا، لم أجد من يأتي ليشرب فنجان قهوة ويذهب على الأقلَّ، بينما النَّصارى حين يقعون بشدة يقولون أنت مُفتِينا وأنت شيخنا وأنت والدنا.
وإذا تكونُ كريهة أُدعى لها وإذا يُحاس الحَيسُ يُدعى جُندبُ
أنا في غنىً عنهم جميعاً لكن أين تكريم العلم والعلماء؟ أين الإيمان الَّذي يُحسِّ به بكرامة الدِّين؟ مليؤون بالنِّفاق، يأتون ويبكون مثل الأطفال الصِّغار على الأبواب، وحين ينجح العمل لا تراهم.
كنت ببيروت عند “أبي شاكر بساتنة” فأتاني رجل فقلت: والله هذا وفيٌّ قد سمع أنَّ الشَّيخ ببيروت فأتى ليزوره، فجلس خمس دقائق، قلت له: أنا لم أُصلِّ الظُّهر سأقوم لأصلي، فحين قمت تبيَّن أنَّه لم يأتِ لأجلي، بل كان لعمل مع أبي شاكر، فكلَّمه وأسرَّ إليه، وحين انتهى حديثه قال لي وأنا ما زلت في الصلاة: مع السلامة يا شيخي!
النَّصراني لا يتصرف هكذا، ففي أعياد النَّصارى يدخل النَّصراني على البطرك فيقبل ركبته ولا يتحرك له، أما الشَّيخ إذا دخل عليه عامل التنظيفات ولم يقم له تقوم الدُّنيا كلها ضدَّه.. يعدُّون الشَّيخ كعامل تنظيفات أو آذن [خادم] مدرسة يأتي ليأخذ صدقة! وإذا رأوه أنه استطاع قليلاً أن يعيش فيثورون كلهم ضدَّه ويُطالبون بقطع رأسه، لأنَّ حق الحياة حرام عليه، وحق العمل وحق الكسب محرَّمان! وعزة الدِّين الممثلة بالشّيخ حرام عليه أيضًا! هذا واقع المسلمين! فهم يذبحون الإسلام، وأعداؤه هم المصلُّون والصَّائمون، والسَّبب فقدُ المربي والمعلِّم والمثقِّف.
((حصِّنوا أموالكم بالزَّكاة)) الَّذي كان يملك مئة قرية في الجزيرة بقي بلا شيء، فزكاة مئة قرية قد تكون عشرة ملايين، لكنَّهم طردوا الفلاحين وهجَّروهم وجلبوا الجرَّارات فبعث الله تعالى لهم الاشتراكيَّة وأذهبَت أموالهم وقُراهم.
((حصِّنوا أموالكم بالزَّكاة وداووا مرضاكم بالصَّدقة))، وهذا لا يكفِي، بل فوق ذلك: ((تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَه لَمْ يَضَعْ دَاءً، إِلَّا وَضَعَ مَعَهُ شِفَاءً، إِلَّا الْهَرَمَ)) ، الوصفة الطبية تكون مكونة من عدة مواد لا من مادة واحدة، فهل نكتفي بالصَّدقة فقط؟
مرَّة كنا في وليمة وقد دعانا السيد يوسف الرِّفاعي وهو أحد النُّواب والوزراء السَّابقين في الكويت وهو رجل مؤمن صاحب دين، فبدأوا يتكلَّمون على الطعام أنَّه ﷺ كان ((يربط الحجرين على بطنه)) ، وكان ((يمضي عليه الهلال والهلال والهلال، ولا يوقد في بيت رسول الله نار)) .. كادوا يحرموننا الغداء!
فقلت لهم: اتقوا الله! لماذا تروون هذه الأحاديث؟ ألا تروون أنَّه قُدِّم للنبي صلى الله عليه وسلم خاروف مذبوح مطبوخ فقال: ((هاتوا الذِّراع))، فأحضروا له الذِّراع وأكلها، ثم قال: ((هاتوا الذِّراع))، فأحضروا له الذِّراع وأكلها، ثمَّ قال: هاتوا الذِّراع، فقالوا: يا رسول الله وكم للشاة من ذراع؟ قال: ((أمَا إنَّكم لو سكتم لوجدتم)) .. [من البدهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل ويطعم من حوله من الصحابة].
تروون تلك عن الجوع؟ فأين أنتم من هذه ومن قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنيا حسنة﴾ [سورة البقرة: 201] ومن قوله: ﴿كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾ [سورة المؤمنون: 51]؟ نروي البؤس.. الرّجل السَّيِّئ يأتي بالخبر السَّيِّئ دائماً، فيجب أنْ تكون إيجابيًّا بَنَّاء منتجًا معطاء، فتلك لها وقت وهذه لها وقت، فلا نقتصر على واحدة طوال عمرنا، لذلك قد أفقر الله تعالى المشايخ، لأنَّهم ينشرون هذه بين الناس ويتركون تلك، ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [سورة النمل: 90].
[يتكلم سماحة الشيخ بهذه الطريقة لأنها كانت مع إخوانه وأحبابه، فيريد أن يعلّمهم ويعلم المستمعين.]
((حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكاة، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ))، تصدَّق واستعِن مع المداواة بالطَّبيب، فاجمع بين الدَّوائين الحسيِّ والمعنوي، ((واستقبلوا البلاء بالدُّعاء والتَّضرع))، التَّضرع هو التَّذلل لله والاستغفار والاعتراف بالذَّنب، تفقَّد صحائفك ماذا فيك من ذنوب فتُب إلى الله تعالى منها.
إنَّ الله يكره الرجل البطَّال
السَّطر الثَّاني: ((وإنَّ الصَّدقة لا تزيد المال إلا نماء)) لا تزيد مال المسلم إلا كثرة، والمسلم هو المتفقه والمتعلم والمؤدي للإسلام بكلِّ واجباته، والملتزم لحدوده والمتجنِّب لمحرماته، والإسلام أيضاً يأمر المسلم المُزَكِّي بالعمل وعدم البطالة والإعراض عن اللَّغو، فليس من خُلُق المسلم أنْ يصرف وقته في لغو، أمَّا أنْ يصرفه في إثم وحرام فهو أسوأ، فوقت المسلم كله مملوء بالعمل، أمَّا أن يكون المسلم كسولًا والمسلمة كسولة وليس عندهم همة فهذا ليس من الإسلام، “إن الله يكره العبد البطّال” وقد ورد: ((إن الله يحب المؤمن المحترف)) ، فإنْ لم يكن عندك عمل للدنيا فاشتغل بعمل الآخرة، والآخرة علم.. وإذا ليس عندك ما يُشغلك فاذهب وعُد مريضًا، والزيارة ليست من أجل القيل والقال، بل خذ معك ببعض الطعام المناسب، وتفقَّده إنْ كان يحتاج لخدمة، فعيادة المريض لأجل هذا، وليست من أجل أن تجلس عنده عدة ساعات، فربما يكون عنده إسهال مثلًا أو غيره فتوقعه بحرج كبير.
يُروى أنَّ أناسًا كانوا يزورون الإمام الأعمش وكان مريضًا، فأطالوا عنده ولم يقوموا، فأشار لهم ولم يفهموا، فقال لهم: “قوموا عني فقد شفى الله مريضكم”، إذا كنتم أتيتم لعيادة المريض فقد شُفي!
لذلك فعلى المسلم أنْ يفهم فقه عيادة المريض، قيل
حقُّ العيادة يومٌ بعد يومَين ولحظةٌ كلِحاظ الطَّرفِ بالعَينِ
قد تكون بطنه مليئة بالغازات، ويحتاج لتنفيسها، فماذا يفعل بحضورك؟ وقد يكون له عذر من الأعذار، أو موجوع ويريد أن يئن، لذلك عليك أن تكون لطيفاً.
لا تُبرِمنَّ مريضًا في مساءلةٍ يكفيك من ذاك تِسْآلٌ بحرفينِ
لكن هذا لا نطبقه حرفيًا، بل حسب الظرف المُناسب، فعليك معرفة نفسية المريض؛ هل هو مرتاح ويأنَس بك أم لا، فعليك أنْ تُقدِّر ظرفه ووضعه.
ما نقص مال من صدقة
قال: ((وإنَّ الصَّدقة لا تزيد المال إلَّا كثرة))، أمَّا إذا كان عندك مال ولم تُشغِّله فسينقص، لأنَّ الإسلام كما يأمرك بالزَّكاة يأمرك أيضًا بالعمل وبالإنتاج.
وقال ﷺ: ((مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ، فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ)) لأنَّ الله تعالى في آية: ﴿وَالَّذينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [سورة التوبة: 34] قيَّدها بـ: ﴿ولا يُنفقونها﴾، ولو قال: “والَّذين يكنزون الذَّهب والفضة فبشرهم بعذاب أليم” لكان الكنز أي الادخار حرامًا، لكنَّه قيده بالإنفاق وشرح ذلك في الحديث فقال: ((مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ، فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ)).
وقال ﷺ في خطابه لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: ((إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ)) .
وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً
((فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ)) بعد أنْ نُعَرِّفهم بالله علينا تعريفهم بالدَّاعي، فإذا كان رسول الله ﷺ موجودًا فهو الدَّاعي، وإنْ لم يكن موجودًا فعليك أنْ تدلَّهم على الدَّاعي الموجود النَّائب عن رسول الله ﷺ، وعليك أنْ تدلَّهم على المعلِّم المربي المرشد المهذِّب المزكِّي، هذا إذا لقيت أهل الكتاب، فإذا لقيت المسلم ماذا تفعل؟
المسلم اليوم لم يستكمل إسلامه حتَّى يشعر بواجباته الإسلامية في ميدان الدَّعوة، فالطَّبيب والمهندس وأستاذ الجامعة والطَّالب والمرأة.. إذا حضر أحدهم ولقيَ أهل كتاب يفعل هذا، وإذا لقي المسلم ماذا يفعل؟ المسلم من كسله وبعده عن الدين اليوم لو أردت أن تطبق عليه أحكام الإسلام قد تجده مرتدًّا، فهو تارك للصَّلاة فيُحكم بردَّته في بعض الأقوال وبكفره، وهو مانع للزكاة؛ وسيِّدنا أبو بكر رضي الله عنه سمَّى مانعي الزكاة مرتدين وقاتلهم واستباح دماءهم، فإذا جلست في مجلس فكن أستاذًا للإسلام، فالثَّكلى توزع الحزن على من يُحيط بمجلسها، ومصباح الكهرباء يُوزِّع النور الَّذي يشع منه، وأنت كمسلم؛ لو كنت مسلمًا حقيقيًا وكنت صيدلياً فتجعل الصيدلية مكانًا للعلم، ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾ [سورة يونس: 87].
قال: ((فإذا جئتهم فادعهم إلى أنْ يشهدوا)) فرق بين “أنْ يشهدوا” وبين “أنْ يقولوا”، بالنسبة للقول ذَكَر الله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [سورة المنافقون: 1]، فليس المقصود إذًا أنْ تقول، بل المقصود أنْ تشهد، والنَّبي ﷺ عبَّر عن الشهادة بقوله: ((الإحسان أنْ تعبد الله كأنَّك تراه)) ، وهذا لا يكون إلَّا بسلوك الطَّريق والتَّصوف؛ التَّصوف الذي هو تزكية النَّفس حسب ما ورد في القرآن واصطلاح القرآن، ولا نحتاج إلى اصطلاح “النقشبندي ولا الشاذلي ولا الرابطة الشريفة”، قولوا: الحب في الله، لا نريد القفز [في الذكر] ولو أنَّ فيه رياضة بدنيَّة وتنشيطًا للدَّورة الدَّمويَّة، لكن نذكر كما علَّم النَّبي ﷺ أصحابه الذكر، وكما تكلم القرآن عن الذِّكر القلبي مع الذِّكر اللِّساني وقد جُمِعَا في آية واحدة في آخر سورة الأعراف: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً﴾ [سورة الأعراف: 205] هذا الذِّكر القلبيُّ، وذكره أيضًا في سورة الكهف: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا﴾ [سورة الكهف: 28]، والذِّكر الجهري في تكملة آية سورة الأعراف: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ [سورة الأعراف: 205]، يعني إخفاتاً ولم يقل جهراً.
ولما جهر الصَّحابة قال ﷺ: ((اِرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا)) فلا ترفعوا أصواتكم!
فلنرجع لا إلى التصوف، بل إلى تربية القرآن، وليكن إسلامنا قرآنيًّا مشروحًا بحديث رسول الله ﷺ، ونحترم الطُّرُق الصوفية لكن ضمن حدود القرآن والسُّنَّة، والطُّرق في الأصل هي هكذا، وإذا رأينا انحرافًا فسببه الجهل وعدم نضج الَّذي تصدى للتربية والتَّعليم.
وما عليه المسلمون اليوم هل هو عيب بالإسلام أم عيب بالمسلمين؟ إذا أردنا أنْ نفهم الإسلام من المسلمين فسنترك الإسلام! وكذلك التَّصوُّف إذا أردنا أنْ نفهمه من جاهل فسيُترك، لماذا ترى الجاهل ولا ترى العالم؟ ترى النَّاقص ولا ترى الكامل؟ لا ترى من بيت السُّلطان إلا بيت الخلاء! كالذُّباب الذي يترك كلَّ المستشفى ونظافتها وجمالها ولا ينزل إلا على محل العملية والجرح، يرى مئة حسنة أو ألف حسنة فيعمى عنها ويبحث عن السيِّئات، مثل الجرذ حيث يذهب مباشرة إلى البلوعة [مكان تصريف الماء الوسخ].
وكذلك إذا قدمت للحمار خمسين طبق بقلاوة ونمورة وكنافة بأنواعها مع الجبنة والقشطة [أنواع من الحلوى السورية الفاخرة] ووضعت أيضاً معلف تبن، ثم مرره عليهم أجمعين، فيشم البقلاوة ويقول: حرام أكلها، ويقول: النمورة لا تجوز، وكذلك الكنافة.. ويقول في نفسه عنك أنك لا تعرف قدر الضيف! [قدره]، وهكذا حتى يصل إلى مقامه ومأكله، وعند التبن يطيب له الأكل.
كذلك الإنسان السوء
إن يعلموا الخير أخفوه وإن علموا شرّاً أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا
سبب ذلك كله انعدام التَّربية، نحن بقينا مادة خام، مثل الحديد الخام في الجبل، فهو صخر، أمَّا الحديد فحين يدخل للمعامل ويُصفّى من الأحجار والتُّراب ثمَّ يُنقَل إلى معامل الصَّهر ثم يُصبُّ في القوالب، ثم تستعمله الهندسة فيصير طائرة تحمل أربعمائة راكب وسعرها خمسون مليونًا، فهذا حديد وهذا حديد! لكنَّ هذا دخله العلم والتَّنقية والتَّربية وذاك خام، وهكذا الفرق بين مسلم ومسلم! مئة ألف طن خام لا يساوون شيئًا [لا ثمن لهم]، وخمسة أو ستة أطنان على هيئة طائرة سعرها خمسون مليونًا، هناك مسلم يُساوي مئة ألف مسلم، ومائة ألف مسلم لا يُساوون شيئًا [لا قيمة لهم].
((فإنْ هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنَّ الله تبارك وتعالى قد فرض عليهم خمس صلوات في كلِّ يوم وليلة))، الصَّلاة من شروطها أنها: ﴿تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [سورة العنكبوت: 45]، ومن شروطها: ﴿الَّذينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [سورة المؤمنون: 2]، ومن شروطها: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)﴾ [سورة المعارج]
لماذا لم يذكر الفقهاء في كتب الفقه هذه الشُّروط التي هي روح الصَّلاة؟ إنما ذكروا شروط صلاة الجسد، والله تعالى لم يُرد صلاة الجسد، بل أراد مع صلاة الجسد صلاة الرُّوح، الصَّلاة التي تعطي الثِّمار، فشجرة المشمش إذا لم تُعطِك ثمارًا فما الفائدة منها؟ والسَّيارة إذا لم تنفعك في المواصلات فما الفائدة منها؟ لذلك حين يأخذ المسلم صلاته من غير مدرسة الصَّلاة ومن غير المرشد المربِّي قد يُصلِّي خمسين سنة ولا يشمُّ للصلاة رائحة ولا يتحسَّن له خُلُق.. فهؤلاء الَّذين قتلوا (زاهر) [ابن الشيخ] كانوا في الحج.. حُجَّاج ويقتلون علماء المسلمين، يقتلون خيار علمائهم!
فهل هذا إسلام؟ هذا حَجُّ من ليس له شيخ! وكذلك لو صلَّى وهو يأكل الحرام ويتعدى على النَّاس فهل صلاته هذه صلاة؟ هذه ليست الصَّلاة التي أمر الله بها وأرادها، والسَّبب هو فَقْد الشَّيخ، فقبل أركان الإسلام يجب وجود الشَّيخ.
هل عرف سيِّدنا أبو بكر رضي الله عنه أركان الإسلام أولًا أم عرف النَّبي ﷺ أولًا؟ عرف النَّبي ﷺ قبل الله تعالى، وهل سيِّدنا أبو بكر رضي الله عنه آمن بالله أولاً أو بالنبي ﷺ أولًا؟ فمن الَّذي علَّمه الإيمان بالله؟ فكذلك بعد النَّبي ﷺ تحتاج إلى المرشد حتَّى يُحقِّق إيمانك بالله تعالى، ويعطيك الإيمان الحقيقي ويُخلِّصك من الإيمان الميت، ويعطيك الصَّلاة الحقيقية ويُخلِّصك من الصَّلاة الميتة، فتُصلِّي جسداً وروحاً، وتتطهر جسداً وروحاً.. والشيخ فقدناه لأن المسلمين يقتلون مشايخهم قتلًا ويسفكون دماءهم، وهم ظلمة ومتعدُّون وجائرون فأكلوا أموالنا واستحلُّوا أموالنا ودماءنا وأرواحنا.
أتاني بطرك فقال لي: هؤلاء ما دينهم؟ والله يا بنيَّ كأنَّ شخصًا قطع رأسي، قلت له: مع الأسف هم مسلمون! قال لي: هل هم مسلمون؟ مسلمون ويفعلون هذا!
لا أقصد أشخاصًا بعينهم لكنَّ عموم النَّاس هكذا.. هذا الَّذي ظهر بمظهر الشَّامت وهو ليس بينه وبين الشَّيخ لا عداوة ولا بيع ولا شراء، فلِمَ عاداه؟ لقد عاداه لدينه.. فالدين مُمَثَّلًا ومَرْمُوزًا إليه بالشَّيخ، وهذا بحسب الظَّاهر أمَّا عند الله فلا نعرف.. والمفتي العام هو رئيس العلماء، فإذا كان هذا حال المسلمين تجاه رمز دينهم فأين إسلامهم؟ لم يبقَ عندهم إسلام، من الَّذي عزَّى الشّيخ التعزية العمليَّة الحقيقيَّة؟ بضع من إخواننا بقوا عندي أسبوعًا يحضرون لنا الطعام إلى البيت، ويمكثون طول النَّهار عندي يواسونني ويسلونني، فهذه هي التَّعزية.
قول: البقية في حياتكم!
في التعزية يقولون: “البقية في حياتكم”، بقية ماذا؟ يعني: هذا الميت لو بقي في عمره يوم هل يُعطيك إيَّاه؟ القائل يتبرَّع بالهواء ولا يعرف ما يقول.. بقية ماذا؟ هل بقية عمر الميت؟ لم يبقَ من عمره شيء، ولو بقي يوم واحد فلن يُعطِيَه لأحد، بل قل حين تُعزِّي: “عظم الله أجركم، وغفر الله لميتكم، وأحسن الله عزاءكم” هذه هي التَّعزية.. والمسلم لم يعد يعرف كيف يتكلَّم؛ لأنَّه بلا شيخ يُعلِّمه وبلا مربٍّ.
إنَّ في المال حقّاً سوى الزَّكاة
الخلاصة: ((فقل لهم: قد فرض الله عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإنْ هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أنَّ الله تعالى قد فرض عليهم صدقة تُؤخذ من أغنيائهم فتُرد على فقرائهم))، هذه هي الاشتراكيَّة حيث يُشارك الفقيرُ الغنيَّ في ماله، وإذا الزَّكاة لم تكفِ فالنَّبي ﷺ قال: ((إنَّ في المال حقّاً سوى الزَّكاة)) .
في مسألة الوصية فأكثر المسلمين يموتون مثل الدَّواب بلا وصية، ((ومن مات دون وصية حُشِرَ بين الأموات أخرساً)) ، ولو وصَّى ولم يكن قد ربَّى أولاده وعائلته التَّربية الإسلاميَّة فسيكونون هم أول من يأكل الوصية، وسيتصرَّفون معه وكأنَّه حمار دفنوه ورموه وتخلَّصوا منه، أين الوصيَّة بثلث المال ونصف الثُّلث؟ وللمسجد وإمام المسجد وخطيب المسجد وللعلماء وللقائمين بالعلم؟ ولأرحامك ولجيرانك ولهؤلاء الَّذين بحيِّك؟
العطاء في الحياة للبنت مثل الصَّبي وبعد الوفاة للذَّكر مثل حظ الأنثيين
المسلمون رجعوا إلى الجاهلية، أنا أعرف عدة عائلات يحرمون الإناث ويورِّثون الذُّكور، في حال حياته يُسجِّل أملاكه للذكور ليحرم الإناث، فهل هذا إسلام أم جاهلية؟ إسلام أمْ وثنية؟ وبعد ذلك يصلي.. أعرف بنات طلَّقهنَّ أزواجهنَّ، فلو مات زوجها أو افتقر فمن أين تعيش؟ فهل حرمانُها من التركة فيه شهامة؟ وإذا كان ابنك الذَّكر عاقًّا ماذا سيكون موقفك؟ وحتَّى لو لم يكن عاقًّا فالنَّبي ﷺ قال: ((إنَّ الله يأمركم أنْ تُسوُّوا بين أولادكم حتَّى في القُبَل)) ، إنْ قبَّلت الأول فيجب أن تقبِّل الثاني، وإذا أردت أنْ تهب المال في حياتك فعليك التَّسوية بين الذَّكر والأنثى، العطاء في الحياة للبنت مثل الصَّبي وبعد الوفاة للذَّكر مثل حظ الأنثيين.
أعرف بعض البنات تدعو على أبيها ليلًا نهارًا بأنْ يجعله الله في قعر جهنم، فزوجها فقير، وإخوتها عاشوا في بحبوحات النَّعيم، فهذه البنت هي عرضه وشرفه، ومع ذلك فقد أهمل الحق الشَّرعي لابنته وحق الله عليه، ونبذ شرع الله وطبَّق شرع الشَّيطان، وأهل الجاهلية كانوا لا يُورِّثون البنات حتَّى أنزل الله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [سورة النساء: 11].
هل هذا فقط؟ وأين بر الوالدين؟ يسب أباه ويستهتر به، ويُعامل أمَّه كأنَّها خادمة عنده، ويترك أرحامه يعيشون في جوع وفقر وهو في بحبوحة، ولو سألت عنه لوجدت حمض البول ارتفع للمئة من كثرة أكل اللحم، ومستوى الكوليسترول وصل للأربعمئة من كثرة الدهن، بينما أقاربه فقراء لا يوجد عندهم طعام.. هل هذا مسلم؟ ولو صلَّى وصام وحج! هذا يلزمه قتل.. [يقول ذلك الشيخ على سبيل التربية والبيان، لا على سبيل الفتوى] وكلُّ هذا يحدث في المجتمع لأنَّه لا يوجد شيخ حقيقي.
عداء المسلمين لعلمائهم
ولو أتى إلى الشَّيخ فلا يكفي، وإذا لم يدخل في حلقات الذِّكر ولم يدخل في الإيمان فلن ينتفع، فالدَّرس وحده لا يكفي، فالدرس هو حظ الأذن لكنَّنا نريد حظ القلب أيضًا، يجب أنْ يكون لك في كل يوم مجلس ساعة للذكر مع أستاذ الذكر، وربَّما تكون أستاذًا في الطِّب لكنَّك غير مُثقَّف بالإيمان، ولو كنتَ أستاذ جامعة- وأنعم وأكرم منك! [جملة تقال لإظهار الاحترام والرفعة للمخاطب] لكن الإيمان له أستاذه، يعني لو كنت أستاذًا في الجامعة فهل تعرف أن تصنع حذاءً أو إبريقًا؟ وإذا أردت إصلاح حذائك فستذهب إلى الأستاذ في إصلاح الأحذية.. فالإيمان له أستاذ، والطِّب له أستاذ، والهندسة لها أستاذ، لذلك مهما وقع على المسلمين من عناء وبلاء فهو قليل، فالله تعالى كان يُعذِّب قوم لوط لذنب واحد، وقوم شعيب لذنب واحد لأنَّهم يُطفِّفون الكيل والميزان، أمَّا نحن فقد جمعنا ذنوب كلِّ الأمم، ولذلك سلَّط الله علينا أذلَّ خلقه وهم اليهود، فأخذوا أموالنا وهجَّرونا من أوطاننا وهزموا كل جيوشنا في أربعة حروب؛ لأنَّنا نُقاتل بعروبة من دون إسلام.. هل كان أبو جهل كرديًا أو تركمانيًا؟ كان عربيًّا.. لكن لماذا كان أبا جهل وجاهلي؟ لأن عروبته كانت بلا إسلام، فهل نحن اليوم نعتز بالإسلام أم بالعروبة؟ وكيف صار الإسلام في الأذهان؟ صار عارًا وعيبًا، فبعضهم يسمونه رجعية، وآخرون يسمونه تزمتاً أو غباءًا.. والبلاء نازل بهم، ومثلهم كمثل الحمار يُضرَب خمسين عصًا، ولا يعرف ما السبب.. وهذا البلاء حتى يصححوا الخطأ، لذلك العصا لا تزال تضرب.. والأمر يحتاج إلى مشايخ، ومن الصعوبة بمكان اليوم أن يصير الإنسان شيخًا.. فنحن مثلًا عندنا طلاب العلم الذين يجب أن نرسلهم للأزهر.. أين أغنياء دمشق؟
أغنياء دمشق حين صُودرت أموالهم ركضوا إلينا لنساعدهم، أين هم الآن ليساعدونا في مشروعنا [بناء المجمع] وليقولوا: ماذا تعمل يا شيخنا وماذا يلزمك من مساعدة وماذا عليك من أعباء مالية؟ لماذا لا يأتون ويسألون؟ يجب أن يأتوا وينفقوا، ويجلبوا أشياء عينية، ويُسَفِّروا الطلاب، ويُقيموا لجنة مالية، فالشَّيخ يجب ألا يكون مسؤولًا عن المال، وأنا ليس عندي وقت لذلك، وعمليّاً فهناك أمين صندوق ومحاسب وسجلات وإلى آخر ذلك.
فالشّاهد أنَّ المسلمين يحتاجون إلى شيخ، أما بالدُّعاء وحده بأن يعيدنا الله إلى إسلامنا.. فهل إذا تعطَّل مُحرك السَّيارة يتصلح بالدُّعاء وحده؟ وإذا كان في العين ماء زرقاء هل تُفتح مرة أخرى وتُبصر بالدُّعاء وحده؟ تحتاج إلى طبيب: “اجعل مع الدُّعاء قطرانًا” .
بعض المسلمين ربما يحتاجون من الخطيب أن يأخذ بحرفية هذا القول، فيأخذ القطران ويرشه عليهم عند الدعاء.. ويقول لهم لأنَّ سيِّدنا عمر رضي الله عنه قال هذا؛ ويقول: إنَّ هذه كلمة مأثورة لسيِّدنا عمر رضي الله عنه فهل تحبون أنْ نعمل بها؟ سيقولون: نعم. [الشيخ يقول ذلك ضاحكاً وممازحاً].
ورد أنه أتى رجل إلى سيِّدنا عمر رضي الله عنه وقد أصاب الجرب إبله، وقال لسيِّدنا عمر: ادعُ لي الله أنْ يشفي جمالي من الجرب، فقال: أنا أدعو لك، ولكن اجعل مع الدُّعاء قطراناً.
فالخطيب يقول لهم: نحن سندعو الآن، وعملًا بقول النبي ﷺ: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الرَّاشدين المهديين من بعدي)) سنجمع لكم مع الدُّعاء قطرانًا، ثمَّ يرشَّه عليهم برشاش كهربائي.. هل يستطيع أحد أن يعمل ذلك؟ لا أحد يأخذ هذا الكلام، فأنا أقول ذلك على السبيل الفكاهة.. ومع الأسف فهناك من الناس من يأخذون الحديث فيًقطِّعونه ويشوِّهونه ويحرِّفون الكلم عن مواضعه، مثل أخلاق اليهود، وهم من أهل الدِّين يقومون بهذا حسداً وبغياً وأنانيةً، ومثل ذلك كثير. [بعض الناس كان يأخذ تسجيلات سماحة الشيخ كفتارو، ويقطع ويوصل بالجمل حتى يأتي الكلام بصوته مخالفًا للشرع، ويقول: اسمعوا ما يقوله المفتي الشيخ كفتارو]
الصَّدقة الواجبة
قال: ((فإن هم أطاعوا فأخبرهم أنَّ الله تعالى قد فرض عليهم صدقة))، هنا سمى الزَّكاة صدقة، ولكنَّ المقصود بها الصَّدقة الواجبة، ((تُؤخذ من أغنيائهم، فتردُّ على فقرائهم)).
كاد الفقر أنْ يكون كفرًا
وهكذا ننتهي من مكافحة الفقر ونقضي على الفقر، ((كاد الفقر أنْ يكون كفرًا)) ، كما يُكافح الكفر فعليه أنْ يُكافح الفقر، فإذا كاد أنْ يكون كُفراً، فحين يعتزُّ شيخٌ بالفقر يكون كأنه يعتز بالكفر!
وكان النَّبي ﷺ يقول: ((اللَّهم إني أعوذ بك من الجوع فإنَّه بئس الضَّجيع)) ، الضجيع هو الَّذي ينام معك في فراشك، فإذا نام معك الجوع بفراشك فهو بئس الضجيع.
((فإن هم أطاعوا لك بذلك فإيَّاك وكرائم أموالهم)) إذا أردت أخذ زكاة الغنم فلا تأخذ أحسن كبش، ومن زكاة البقر لا تأخذ البقرة الحلوب، كن منصفًا أيضًا في جَبْيِ الضريبة الإسلاميَّة وخذ من الوسط، لا تأخذ الهزيلة ولا الضعيفة ولا المريضة، ولا تأخذ كرائم الأموال، إلَّا إذا أرادوا ذلك هم عملاً بقول الله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [سورة آل عمران: 92] فهذا يرجع لهم.. ((واتَّقِ دعوة المظلوم)) احذر من أنْ تظلم فيدعو عليك المظلوم ولو كان كافراً، ((اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)).
وورد في حديث أنَّ الله تعالى يقول لدعوة المظلوم: ((لأرفعنك فوق السَّحاب ولأستجيبن لك ولو بعد حين)) ، واتقِ دعوة المظلوم، خاصة ممن ليس له ناصر إلَّا الله تعالى، وخاصة الضعيف الَّذي ليس له ملجأ ولا يستطيع أنْ يُدافع عن نفسه لا بكلام ولا بيد ولا بأنصار، ولا ترى نفسك أنَّك قوي وهو ضعيف.
لا تُهِنِ الضَّعيفَ علَّكَ أنْ تركَعَ يوماً والدَّهر قد رفعَه
أعرف شخصًا كان عندنا بالحارة ولا أعرف هل هو الآن حي أم ميت، كان ضابط شرطة وأحضر متَّهمًا معه، فلما وصل إلى رأس الدَّرج رفع رجله اليمنى وركله، فقلَبه من فوق الدَّرج إلى الأسفل، ولم تمضِ أقل من سنة حتى أُصيبت رجله بالغرغرينا أو الطاعون العظمي فقطعوا له رجله اليمين من نصف الفخذ! وكان صديقي في المدرسة، ((واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم.