المسلمون كالجسد الواحد:
نحن في تفسير بضع آيات من سورة الصفّ، وقد سبق معكم قول بعض أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حين قال أحدهم: “لو علمنا أحبّ الأعمال إلى الله عزَّ وجلَّ لنفعلها”، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ﴾ يعني في اتحادهم وصيرورتهم في وحدتهم كالجسد الواحد، ﴿يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصف:4] البناء المرصوص المتين المتراصّ لا تسقط بعض أحجاره عن بعض، ولا تتفرّق أجزاؤه بعضها عن بعض.. ثمّ سمّيت السورة كلّها بسورة الصفّ.
هذا في حال الحرب والقتال، أمّا في حال السِلمِ والأمان، فعن وحدة المسلمين قال عليه الصَّلاة والسَّلام: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ)) الوداد والحبّ وتفاني بعضهم في بعض.. فما مثلهم في توادّهم وتراحمهم؟ حيث يرحم قويُّهم ضعيفَهم، وحاكمُهم محكومَهم، وغنيُّهم فقيرَهم، قال: ((مثلهم كمَثَلُ الْجَسَدِ الواحد)) هذا مجتمع الإيمان والمؤمنين الذي من مظاهره هذا الاتّحاد، فاليد في الجسم لا تقول: أنا، والعين لا تقول: أنا، وحين يقول الإنسان: أنا، يعبّر بهذه الكلمة عن كلّ أعضاء جسمه.
وهكذا فعل الإسلام بالعرب لما كانوا أعداءً، فكانت الأوس تقاتل الخزرج، وبنو صخر يسفكون دماء بني تميم، وليست هناك رابطة ولا جَمَاعِيَّة تجمعهم على كلمة واحدة، فلو لم يكن للنّبيّ ﷺ من خوارق للعادات إلا أنه جمع القلوب المتنافرة لكفاه! فالوحوش يألف بعضها بعضًا، أما العرب فكانوا أعداء بعضهم البعض.. ولم تقف وحدة الإسلام عند العرب، بل جعل المسلمين من حدود الصّين إلى حدود فرنسا كالجسد الواحد في توادّهم وتراحمهم.
هؤلاء عرب الإسلام والقرآن! فكيف حال عرب القرن العشرين وفي ظلّ الجامعة العربية؟ وهل يا ترى وصلت العروبة والقوميّة في اتحاد العرب وتجميع قواهم إلى ما وصل إليه العرب تحت لواء القرآن في توادّهم وتراحمهم حتَّى صاروا كالجسد الواحد؟
فعلينا أن نرجع إلى القرآن، لا قرآن التلاوة والتجويد وإجادة النّطق بالحروف، ولا قرآن الأنغام والموسيقا والألحان، بل إلى قرآن العلم؛ العلم بالقرآن: بأوامره ونواهيه، وأخلاقياته ووصاياه.. فما لم نرجع إليه رجوع العلم، نرجع إلى ما دعانا إلى العلم به والعمل والإخلاص [وإلا لن ننجح ونحقق العِزّ والمجد].
نحن قوم أعزنا الله بالإسلام:
كما قال سيِّدنا عمر لسيِّدنا أبي عبيدة رضي الله عنهما عندما أتى عمر لفتح القُدس، وخاضَ في الطّين، وعلى مرأى من عظماء الرومان.. حيث لم يكن الصحابة يتعاظمون بالمظاهر الرغوية، أو عِظَمَة الزَّبَد والرغوة، بل كانت عظمتهم في قلوبهم وأعمالهم وجهادهم وإيمانهم، فقال له: “ما هذا يا أمير المؤمنين؟ فعظماء الروم يشهدونك ويشاهدونك وأنت تُشَمِّر عن ساقيك وتخوض في الطّين، وتقودُ غلامك على جَمَلِهِ وأنت تقود الجَمَل!” هل هناك ديموقراطية في العالم كهذه؟ وهل يفعل الرئيس “بوش” هكذا مع نائبه؟ ليس مع الحاجب ولا مع الخادم! [بوش: رئيس الولايات المتحدة الأمريكية] وديموقراط اليوناني بذاته هل يفعل ذلك؟
فكم العرب والمسلمون في حالة انعكاس في مفهوم وفهم حقائق الأشياء! يتباهون أن يكونوا ديموقراطيين! ويدلّ ذلك على جهلهم بما كان عليه الإسلام والمسلمون في زمن سيِّدنا رسول الله ﷺ وتلامذته وأصحابه.. فقاهر كسرى وقيصر يمسك زمام الجَمَل بعَبدِهِ ويقوده ويخوض الطّين، وعلى مرأى من الأعداء وعظماء الرّومان ولا يبالي! ولم يفكر بنفسه أو بجسمه أو بأنه عمر! بل يفكر بالله عزَّ وجلَّ وبإرضائه وبامتثال كلام رسول الله ﷺ: ((مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ)) .
فجمع عمر أصابعه بكفّه -يسمّونها “بوكس”، وفي اللغة العربية اسمها الوكز: ﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى﴾ يعني ضربه موسى عليه السَّلام “بوكس” ﴿فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ [القصص:15]– فوكز عمر أبا عبيدة رضي الله عنهما في صدره وقال له: “نحنُ قَوْمٌ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ” ليس بلقب الإسلام، بل أعزّنا الله بِعِلْمِنا بواجبات وفرائض الإسلام، وبأخلاقية الإسلام، وبإيمان الإسلام، “ومهما نرد العزّة بغيره” ديمقراطية، لينينية، ماركسية، إيطالية.. “ومهما نرد العزّة بغيره يذلّنا الله”، فأيّ ذُلّ على العرب خاصّة؟ فهذه فلسطين منذ خمسين سنة.. وهل العرب أكثر أم اليهود؟ وهل تاريخنا أعظم أم تاريخ اليهود؟ لماذا [هذا الذل؟] لأنه: “مهما نرد العزّة بغيره يذلّنا الله”.
عندما نُسَمِّي أبناءنا نتحاشى اسم مُحمَّد، أليس كذلك؟ ونتحاشى اسم خديجة وفاطمة، وأحدهم يسمي ابنه أبا لهب، أنا أعرف أحدهم سمّى ابنه هكذا، لماذا؟ فهل يعني هذا نكاية بالنَّبي ﷺ ونكاية بالإسلام؟ وأحدهم يسمّي لؤي، ومن لؤي؟ هل سمّاه لؤي لأنه من أجداد النَّبي ﷺ؟ لا، بل يريد أن يبتعد عن الأسماء الإسلامية إلى الأسماء الجاهليّة.. وهذا ليس له قيمة، ولكنه رمز على مسخ شخصيّة العرب والمسلمين، وهذا بعض غبار المسخ.. ونسأل الله عزَّ وجلَّ أن يردّنا إلى حقيقتنا، ويردّنا إلى إسلامنا ردًّا جميلًا.
أحب الأعمال إلى الله:
لـمّا قالوا: “لو علمنا ما أحبّ الأعمال إلى الله لعملناها”، أنزل الله عزَّ وجلَّ سورة الصفّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا﴾ [الصف:4] يا ترى هل يقاتل المسلمون صفًّا؟ وهل هم في شؤونهم الاجتماعية والاقتصاديّة والتربويّة والعلميّة والعسكريّة صفًّا؟ وكأنّ هذه الآية يُخاطَب بها يهود العالم! فاليهوديّ في اليابان واليهوديّ في نيويورك تجده صفًّا تجاه العرب ﴿كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصف:4] اليهود متمسكون بتوراتهم المحرّفة، بينما المسلمون ابتعدوا عن قرآنهم الذي ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت:42]، والذي قال فيه تعالى أيضاً: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:9].
بعد أن قالوا: “ما أحبّ الأعمال إلى الله عزَّ وجلَّ؟” قال الله لهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف:2] يوجد بعضهم ممن كان لا يحبّ القتال جبنًا أو ضعف إيمان، وإلى آخره.. وسورة الصفّ تحمل راية الجهاد بنَوْعَيْهِ: الجهاد الذي هو القتال لإعلاء كلمة الله عزَّ وجلَّ، أي لإعلاء شريعة الله، ولتكون شريعة الله هي العليا، لا لأجل استعمار أو استيلاء على بلدان أو حيازة على أموال.. وكلمة الله التي قاتلوا لإعلائها هي ما ذكرها الله من رسالة سيِّدنا رسول الله ﷺ: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ﴾ [البقرة:129]، فأين نحن من ثقافة القرآن؟
الحرص على اتخاذ المعلم:
النّجار هو الذي تثقف بالنجارة عِلمًا وعَمَلًا؛ فبعِلْمه بِصَنْعَةِ النِّجَارة وبالتطبيق العَمَليّ أَخَذَ لقب نجّار، والحَدَّادُ استحق لقب حَدَّاد لأنه عَلِم بالحِدَادَةِ وطبَّقَها عَمَليًّا أيضًا.. فهل يا ترى عَلِمَ المسلم عُلومَ القُرآن إيمانًا وفَهمًا وتَصدِيقًا وعَمَلًا؟ ثم إن الحدّاد لا يبقى من دون تلامذة بين يديه، بل يُعَلِّم الآخرين صنعة الحدادة، فيكون عَالِماً وعَامِلاً ومُعلِّماً، ويُعلِّم بأقواله وبأعماله؛ فبأقواله يقول: يا بُني افعَل هذا واترُك هَذا، وبأعماله: يَعمَل أمامَهُم ليُعلّمَهم بأعيُنِهم وآذَانِهم.. لذلك بيَّن النَّبي ﷺ أن القتال لإعلاء كلمة الله، أي لتكون شريعة الله هي الأعلى من كلّ شرائع الخلق وفي كلّ العالم ﴿رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107].
والحكمة هي: “فعل ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الشكل الذي ينبغي”.. هذه هي “كلمة الله”.
﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [الجمعة:2]، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ [الأعلى:14] تُخرِج من نَفْسِكَ كلّ الصّفات الرديئة والأخلاق الفاسِدَة، وتستبدلها بالأخلاق الفاضِلَة والصّفاتِ المحمودة.. فكانوا يقاتلون لهذه المعاني التي هي “كلمة الله”، ليُعَمِّموا العِلمَ على كلّ شعوب العالم، ولينقلوا العالم من الأمّية في العِلمِ والفِكر والأخلاق والفضائل إلى العِلم بالأخلاق والفضائِل والإنسانيّة، ويُخرِجوا النَّاس من الخُرافاتِ والأباطيل إلى الحقَائقِ والعقلانيةِ التي هي الحكمة.
﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [الجمعة:2] هم قاتَلوا من أجل إعلاءِ كلمة الله التي هي القرآن والإسلام.. والجهاد لا يكون بالقتال فقط، فالجهاد نوعان: جهادٌ أصغَر: والذي هو جِهادُ العدوّ؛ بأن تَبذُل كلّ جَهدِك بكلّ ما تملكُ من طاقاتٍ لهذا العدوّ لتقلِبَه إلى أخٍ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:10]، ولتقلبه من جاهلٍ إلى عالم، ومن خرافيٍّ إلى عقلانيّ، ومن أخلاقِ الوحوشِ إلى أخلاقِ الملائكة، هذا معنى الجهاد في سبيل الله ولإعلاء كلمة الله! لكنَّ الجهادَ ليس محصورًا بالقتال؛ فالنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام يقول: جاهدوا المشركين.. كانت كلمة المشركين في القرآن تطلق على عبدةِ الأوثَان، أما اليَهود والنّصارى فقد سُمّوا في القرآن بأهل الكتاب، والنَّبي ﷺ يقول: ((قاتلوا المشركين بأنفسكم)): بالقتال ((وأموالكم)): النَّبي ﷺ أعطى معاوية بن أبي سفيان من غنائم حنين مئة ناقة، وأعطى أبا سفيان أيضًا مئة ناقة، وليزيد كذلك، ((وأموالكم وألسنتكم)) : وهنا التعليم والدّعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، وبأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة.
الجهاد بالكلام الحسن:
الجهاد لا يكون بالسيف فقط، ولا يكون بالاغتيالات وبسفك الدّماء! هل هناك أعظم من موسى عليه السَّلام إيمانًا في زمانه! فهو كليم الله ومن أولي العزم، وهل هناك أخبث من فرعون؟ فالله عزَّ وجلَّ علّمنا أسلوب الدّعوة عندما خاطب وأمر موسى وهارون عليهما السَّلام بدعوة فرعون فقال: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه:44].. ولما دعا النَّبي ﷺ خالد بن الوليد إلى الإسلام، وكان أخوه الوليد بن الوليد قد سبقه إلى الإسلام، قال: ((اكتب لأخيك خالد، إذا أتاني مسلمًا أعطه أعنّة الخيل)) ، أجعله قائد الفرسان في الجيش.. هذه دعوة إلى الله عزَّ وجلَّ بالمرَغِّبات وبالوظيفة العالية، بأن يصير قائد الجيش وقائد الفرسان والمـَركَبات.. أين نحن -مَن نُسَمّي أنفسَنا دعاةً إلى الله- من فقه الدّعوة حَسْبَ القُرآن وحَسْبَ السُنّة العمليّة أو القوليّة؟
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا﴾:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا﴾ [الصف:4] هذا هو القتال، أمّا جِهادُ الدَّعوةِ فقَد ذَكرَه الله عزَّ وجلَّ بعد ذلك: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ [الصف:5] ﴿وَإِذْ﴾ بمعنى حين، أي: اذكر يا مُحمَّد، واذكر يا مُسلم ويا مُسلمة إذا قرأتم القرآن.. ولماذا تذكرون؟ لتتفقهوا بِفِقْهِ القرآن.. ما أعظم خسارة المسلمين لَمَّا بَعُدُوا عن فِقه القرآن، وحصروا الفِقه بالعِبادات والمُعاملات حَسْبَ المـَذاهبِ المـَعروفة! فالفِقه في الإسلام يشْمَل عُمومَ القرآن مِن سورة الفاتحة إلى آخر سورة فيه، والفَقيه هو الذي فَقِه الآخرة وفَقِه الأخلاق وفَقِه الحكمة وفَقِه الكتاب وفَقِه برّ الوالدين، وإلى آخره.
﴿وَإِذْ﴾ اذكر يا مُحمَّد، ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ أي: حين قال موسى لقومه: ﴿يَا قَوْمِ﴾.. انظر ما أحلى كلمة ﴿يَا قَوْمِ﴾ [الصف: 5]! فلم يقل: يا كفرة، أو يا ملاحدة، أو يا قساة القلوب.. وفي آيات أخرى في سورة الشعراء وغيرها: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾ [هود:50] الله عزَّ وجلَّ يُسَمِّي نبيَّ قوم عادٍ أخاهم، ﴿وَإِخْوَانُ لُوطٍ﴾ [ق:13] مع أنّ قوم لوط لم يؤمِن أحدٌ منهم، إلا ابنتين له، حتَّى زوجته ما آمنت به، ومع ذلك سمّاهم الله عزَّ وجلَّ ﴿وَإِخْوَانُ لُوطٍ﴾ [ق:13].. ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ [الحج:24] ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة:83] أليس هذا فقهًا! أليس أمرًا إلهيًّا! والأمرُ إذا أُطلق ألا ينصرف إلى الوجوب ما لم تكن قرينةٌ تصرِفه عن الوجوب؟ أين نحن من فقه القرآن يا بني!
مخاطبة العشيرة بألطف خطاب:
﴿وَإِذْ﴾ أي: يا مُحمَّد ﷺ، وبعده عليه الصلاة والسلام فهذا الكلام موجّه إلى كلّ مسلم ومسلمة، ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى﴾ [الصف:5] اذكروا أيّها المسلمون والمسلمات حين قال موسى، ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ﴾ انظروا ما أحلى هذه الكلمة: ﴿يَا قَوْمِ﴾! يا عشيرتي، يا أسرتي.. [يمكن أن تقول:] أخي في الإنسانيّة، أخي في العلم، أخي في السلاح.. ﴿لِمَ تُؤْذُونَنِي﴾ لم يقل: آذيتموني وأريد أن أنتقم منكم، أريد أن أقاتلكم.. ﴿لِمَ تُؤْذُونَنِي﴾ سؤال استرحام، سؤال استرفاق وتقارب ﴿وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾ [الصف:5] وهنا العلم موجود، ولكن لم يصاحبه التوفيق وموجبات العِلْم، فالعِلمُ يوجب العَمَل بالعلم، فإذا علمت أنّ هذا عقربٌ فما مقتضى العلم؟ هل هو أن تضعه في كفّك أو في صدرك! مقتضى العِلْم العَمَل بما يوجِبُه العِلْم وهو أن تُبعِدَه وتبتَعِدَ عنهُ، وإذا رأيت عِقدَ ألماسٍ وأخبروك أنه هبة لك وهدية، فما مقتضى العلم؟ هل أن ترميَه بالنّهر أو البحر أم أن تأخذه ويمتلئ قلبك حبًّا للمعطي وللمحسن؟ ((جُبلت النّفوس عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهَا)) .
﴿وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾ [الصف:5] فإن كنتم تعلمون أني رسول الله إليكم يجب عليكم أن تستجيبوا لندائي وتطيعوا أوامري، التي هي من أوامر الله عزَّ وجلَّ.. ولكن العِلْم وحدَه لا يكفي، فالعِلمُ كثيرًا ما يكون سبَبَ هَلاكِ صاحِبِه إذا تغلّب عليه الهوى والأنا، ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ لم اختلفوا؟ قال: ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران:19] استعلاء بعضهم على بعض.. ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الجاثية:23]، وفي كثير من الأحيان لا ينفع العِلمُ صَاحِبَه، وكثيرًا ما يُضرُّه، أما إذا تزَكّتِ النّفس، فالنّفس المزَكَّاة ينفعها العِلمُ ويرفعُها، فكم من عَالمٍ مُجرمٌ! ولكن لا يكون المُزكّى مُجرمًا ولا ظَالمًا: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ)) .. إن إبليس لم يكن ينقُصُه العِلم؛ بل كانت تنقُصه تزكية النّفس، ولو كانت نفسُه مُزكاةً لسَجَدَ كما سَجَدَت نُفوس الملائكة لآدم عليه السَّلام.
مَن يُرِد الضلال يُضِلُّه الله:
كانت اليهود تَعْلَم أن سيدنا موسى عليه السلام رسول الله، ومع العِلم يجب أن يكون التَّكريم لو كانت النّفوس مزكاة، لكن النّفوس غير مُزكاة فصَدَر منهم الإيذاء بَدَلَ التّكريم، ﴿وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا﴾ حادوا عن الاستجابةِ وحُسن الاستماع إلى كلام الله وكلام نبيّ الله موسى عليه السلام، وأصرّوا واستكبروا استكبارًا، وآثروا الإصرار على الضّلال، ونَبَذوا الهداية فأزاغ الله قلوبهم ﴿أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5]، ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ﴾ [فاطر:8] فمتى يُضِلّ الله؟ حين يشتاق الإنسان إلى الضَلال ويعشَق الضالّين ويُؤثِرُ صُحبتَهم على صُحبة المُهتدين، وحين يُؤثِرُ صُحبة الفاسقين على صُحبة الصّالحين، ومجَالسَ الجهل والجاهليّة والفسوق على مجالسِ العلم والذكر ومجالسِ القُرب إلى الله عزَّ وجلَّ.
﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5]، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾ [التوبة:115] الله يُضِلّ [بأسباب]، فكما أنّ الله يرزقك الولد [بأسباب].. وهل يرزقك بلا أسباب منك؟ وهل تبقى عازبًا ويعطيك ولدًا؟ يعني هل أنت تَحْبَل وتَلد؟ هل يفعل الله عزَّ وجلَّ ذلك؟ الله قادر على ذلك، لكن هل يفعلها؟ هناك كلمة لبعض المشايخ، وهو الشَّيخ أحمد القاسميّ حفظه الله، يقول: “الله قادر أن يجعل قبّة هذا الجامع بَطِّيخَة، لكن لا أظنّ أنّه يَفعلها”، كذلك: يُضلّ بأسباب ويهدي بأسباب، والله عزَّ وجلَّ قال: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا﴾ [مُحمَّد:17] طلبوا الهداية بقلوبهم وبأعمالهم وبهجرتهم إلى مجالس العلم ومجالس الذكر ومجالس الدّعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، ((مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ)) .
وهل الله عزَّ وجلَّ يمْسِكك من رقبتك ويخرجك من الجامع؟ هل يُخرج أبا بكر رضي الله عنه من مجلس النَّبي ﷺ ويَضعه عند أبي جهل ويقول له: إذا تركت أبا جهل أضعك في نار جهنم؟ أهكذا فعل الله عزَّ وجلَّ؟ بل يضلّ برغبتك في الضّلالة، وبصحبتك لأهل الضّلالة، وببعدك عن أهل الهداية، وبمعاداتك لأهل الاستقامة.
﴿فَلَمَّا زَاغُوا﴾ نفسيًّا بميلهم إلى الزائغين، وحياتيًّا بصحبتهم ومُؤاكلتهم ومُشارَبَتِهم ومَيل القلوب إليهم ﴿أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5] لأنّهم هكذا يريدون، فهم يريدون الضّلال.. ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾ [المدثر:37]، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾ [الأعراف:28] فهل يدعوك الله عزَّ وجلَّ إلى الهداية ويمنعك منها؟ هذا صار متناقضًا في حقه سبحانه وتعالى!
﴿فَلَمَّا زَاغُوا﴾ [الصف:5] بأقوالهم وأعمالهِم وصُحبتِهم للزائغين.. ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ أيّها المؤمن والمؤمنة ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [الأنعام:68] عن مجالستهم، وعن السّماع لهم، والنظر في وجوههم.. يذكرون عن عبد الله بن المبارك قال: “نَظرتُ مرّة في وجه مُبتَدِع” مبتدع يعني أخلاقيًّا أو عقائديًّا أو عِباديًّا؛ مخالف للإسلام، قال: “نظرتُ في وجه مُبتدع وابتسمتُ له، فأظلم قلبي من تِلك النّظرة أكثر من سنة”، ولا يعرف ظُلمة القُلوب إلا من شاهد أنوار القلوب: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ [الزمر:22]، وفي سورة النّور: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ﴾ يعني في قلب المؤمن ﴿كَمِشْكَاةٍ﴾ [النور:35] إلى آخر الآية.
وجوب الغضب لله:
﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5] أوحى الله عزَّ وجلَّ إلى بعض الأنبياء أنّي مهلك من الصّالحين من قومك أربعين ألفًا، ومن الفاسقين ستين ألفًا، قال: “يا رب هؤلاء الفاسقون -معلوم استحقاقهم للهلاك- فما بال الصّالحين؟” قال: ((واكلوهم)) يتغدّون معهم ويتعشّون معهم ويتنزهون معهم ويسهرون معهم، ((وشاربوهم وناكحوهم))، يزوجه ابنته ويتزوج ابنته ((ولم يتمعّر وجه أحدهم يومًا لأجلي)) فإذا رأى منه معصية في القول أو في العمل أو في السّلوك ولا يغضب لله ولا يَتَمَعَّر وجهه، ولا يحمرُّ ولا يَظْهَر عليه عدم الرضا، فمعناه أنه يوافقه في العمل.. ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ يخوضون فيما يُغضب الله عزَّ وجلَّ من قولٍ أو عمل ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ عن صُحبتهم وعن مُجالستهم وعن محبتهم وعن الابتسام في وجوههم ﴿حتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ حتَّى يُغَيِّروا الخَطّ والمسيرة، ﴿وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ﴾ نسيت الوصيّة الإلهيّة فجلست ﴿فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام:68] هذا أليس فقهًا؟ وهل الاستنجاء والاستبراء فقط فقه؟ هذا فقه وهذا فقه.
الرجوع إلى مدرسة القرآن فقهًا وعملًا:
فما لم نرجع إلى مدرسة القرآن فقهًا وعملًا وخُلُقًا وحياةً فلا فائدة، وقد كان أصحاب رسول الله ﷺ يقولون للتابعين: “نحن أوتينا الإيمان قبل القرآن، وأنتم أوتيتم القرآن قبل الإيمان” والتابعون هم الجيل الذي بعد الصّحابة، يعني أما كان التابعون يصلّون؟ أما كانوا يصومون؟ أما كانوا يقرؤون القرآن؟ الصحابة رضي الله عنهم يقولون لهم: “أوتيتم القرآن قبل الإيمان” ماذا يعنون بالإيمان؟ هناك إيمان القول، بأن يقول شخص ما: “أنا مؤمن”، وهناك إيمان التمنّي والأماني، فيعتقد أنه مؤمن، لكنّ أعماله لا تدلّ على ذلك، وأخلاقه لا تدلّ على ذلك، وخوفه من الله عزَّ وجلَّ أيضاً لا يدل على ذلك: ﴿وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:175].
الميل إلى محبة أحباب الله علامة السعادة:
﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5] نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحمينا من زَيغ القلوب.. إذا مالت القلوب إلى محبة أحبابِ الله، وإلى المقرّبينَ إلى الله، وإلى أنبياءِ الله، وإلى أولياءِ الله عزَّ وجلَّ، فهذه علامة السّعادة.. وإذا مالتِ القلوبُ إلى الفَسَقَةِ والفَجَرة وأهل الجاهلية في المأكل والمشرب، وفي المَعْشَر والصُّحبة، وفي الذهاب والإياب، فهذا زيغٌ.. فإذا اختار طريقَ الزيغِ فإنه يقول لله عزَّ وجلَّ: “أنا أُريد أن أَزيغَ وأُريدُ منكَ الزَيغ”: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5] لا يعني هذا أنه يُخرِجك من الجامع، لا.. فقانون الله الخَلْقِيّ الكَونيّ: أنّك إذا رَغِبتَ في شيءٍ مِن خيرٍ أو شرٍ فالله عزَّ وجلَّ جعلكَ مُختارًا فيما تَرْغَبُه وفيما تميلُ إليه، لذلك قال النَّبي ﷺ: ((الْجَلِيسِ الصَّالِحِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ: إمّا أن يبيعك، وإمّا أن يعطيك، وإمّا أن تشمّ منه رائحة طيبة، والجليس السوء كنَافِخِ الْكِيرِ)) كير الحداد ((إما أن يُحرقك بنارِهِ، أو يُؤذيكَ بشرارِه، أو تشمّ منه رائحة خبيثة)) .
محبة صحبة أهل الزيغ:
﴿فَلَمَّا زَاغُوا﴾ رغبوا في الزَيغِ وفي أهلِ الزيغِ وفي صُحبة أهلِ الزيغِ، وتركوا أهلَ الهُدى وتركوا مجلسَ سيِّدنا موسى عليه السَّلام وهِدايتَه ودعوتَهُ وصحبتهُ ﴿أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5] لماذا؟ لأنّهم خرجوا عن الصراط المستقيم، “فالدّولاب” [العَجَلَة] إذا خرج عن السّكة اسمه فِسقٌ، فسَقَ الدّولاب يعني: خرج عن سِكَّتِه.. والفِسقُ في الشرع: حين تخرج عن طريق الشرع في امتثال الأوامر، وفي المحبة: ((الحبّ في الله والبغض في الله، من أعلى شعب الإيمان)) ، من دعاء النَّبي ﷺ: ((اللهم إني أسألك حبّك وحبّ من يحبّك)) تُحِبّ من يُحبّه الله، وهذا في القرائنِ الظاهرةِ، أما القلوب فلا يعلمها إلا علّام الغيوب، لكن هناك علامات وأمارات تدلّ في أكثر الأحيان على القُرب والبُعد.
((الحُبّ في الله والبُغض في الله)): ليس معنى البُغض أن تترك النَّاس، فهل كان النَّبي ﷺ يُحبّ أبا جهل؟ لكن كان في الوقت نفسه يدعوه إلى الله، وهل كان يُحبّ أبا سفيان؟ ما كان يحبّه، ومع ذلك أعطاه مئة جمل، قال له: ولابني معاوية؟ قال له: مئة، قال: وليزيد؟ قال: أيضًا مئة.. فالبُغض عَملٌ قلبيّ، لكن إن رأيت الصّحبة لا تفيد وقد تَتَأثَّر بها.. قال: “يا صياد احذر أن تُصاد”.. إذا أردت أن تناطح الثور لتقاومه وتردّه عن إفساده وأنت لست أهلًا، ينطحك نطحًا يُهلكك، فالذي يريد أن يناطح الثور يجب أن يكون رأسه مِثل رأس الثور، يعني يكونُ قويًّا، فإذا لم تكن من أهل الميدان فاسْلَم بنفسك.
﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الصف:5] الذي يبْعد عن النَّبي ﷺ في صُحبتِه، ويبعد عن النَّبي ﷺ في مَحبّته، ويُقاتل النَّبي ﷺ ويُعارض دعوته في أقواله وأعماله، هل سيهديه الله عزَّ وجلَّ؟ فإذا كنت متّجهًا لجهة الشمال باتجاه موسكو، وأنت تقول: “اللهم أوصّلني إلى الكعبة!” [الكعبة جنوب دمشق، وموسكو شمالها، ودمشق المكان الذي فيه هذا الدرس] يا ترى أيّهما أصح طلبًا ورغبةً أقوالك أم أفعالك؟ ما دام ظهرك متجهًا للكعبة ووجهك لموسكو فكيف سيوصلك الله عزَّ وجلَّ للكعبة؟ إلا إذا أردت أن تدور حول الكرة الأرضية فستموتُ حينها ولا تَصل، وتغرقُ في البَحر المتجمد الشمالي وتصقع معَ الثلوج.
لا يهدي الله من اختار الفسق والبعد:
﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الصف:5] لكنّه يهدي القوم الذاكرين المهاجرين المحبّين لله عزَّ وجلَّ ولرسول الله ﷺ، الممتثلين لأمر الله تعالى.. والهداية أنواع: أعظمها: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن:11] هداية القلب أن يتّصل قلبك وروحك بنور الله، حتَّى تُبصر الدّار الآخرة في مرآة قلبك، كما قال أحد الصحابة رضي الله عنهم لما سُئِل: “كيف أصبحت؟” قال: “أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا” فقال له عليه الصَّلاة والسَّلام: ((إِنَّ لِكُلُّ حَقٍّ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟)) قال: “أصبحت كأني أنظر إلى ربي في عرشه”، قال: “كَأَنِّي”.
يعني إذا رأيت رئيسنا حافظ الأسد في التلفزيون فتقول: رأيته.. فهل رأيت حقيقته! بل انعكاس ظلّ صورته على شاشة التلفزيون، كذلك إذا صفا قلبك بالتوبة الصّادقة وبدوام ذكر الله عزَّ وجلَّ، فكلّ النقط السوداء تُمحَى بالذِكر وبِصِدْقِ التوجه إلى الله عزَّ وجلَّ، فتنعكس صورة عالَم الغيبِ في مرآة القلب، وهذا الذي عناهُ هذا الصّحابي الجليل رضي الله عنه: “أصبحتُ كأني أنظرُ إلى ربي في عرشه، وإلى أهل الجنة في نعيمهم، وإلى أهل النَّار في عذابهم”. فقال له عليه الصَّلاة والسَّلام: ((عَبْدٌ نَوَّرَ اللهُ قَلْبِهِ بالْإِيمَان)) فهذا إيمان، و﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾! [النساء:137] فإيمان هؤلاء هل هو الذي ذَكَرَه النَّبي ﷺ بقوله: ((عرفت فالزم، عبد نوّر الله قلبه بالإيمان))؟ فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا حقائق الإيمان ونضج الإيمان.
هناك جهاد الحرب وجهاد الدعوة:
فالله عزَّ وجلَّ يذكر هذه الآية للنَّبيّ ﷺ، وبعد النَّبي ﷺ لكل مسلم ومسلمة، لِمَاذا؟ يقول له: هذه سورة الصفّ تُعلِّم الِجهاد، وهناك جِهاد الحرب لإِعلاءِ كلمة الله عزَّ وجلَّ، وهناكَ جهادُ الدّعوةِ والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.. والقتال يجب أن يكون حسب الشرائط الربانيّة، ومن الشرائط قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال:60]، ومنها أيضاً: ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ [النساء:71]، فيصلي صلاة الخوف وسلاحه بيده، وبعض الصحابة كانوا يسجدون ويبقى نصف الجيش قائماً بعد الركوع، ويكون السّلاح معهم، فلربما هجم العدو أثناء تلك السّجدة! [فيحسبون حساب] نصف الدقيقة أو ربع الدقيقة تلك.. انظروا: كيف يعلّمنا القرآن الأخذ بالأسباب والحذر واليقظة! وقد صار المسلمون يتركون الأسباب باسم التوكّل، وكثيرٌ من معاني الإسلام حرّفوها عن حقائقها تعريفًا وفهمًا.
صبر الأنبياء على الأذى:
حين يَذكر الله عزَّ وجلَّ لسيِّدنا رسول الله ﷺ في السورة إيذاءَ موسى عليه السَّلام وصبرَه، يعني: أنت أيضًا يا مُحمَّد ﷺ لك في إخوانك الأنبياء أسوةٌ حسنة: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف:35]، والنَّبي ﷺ صبر، وهل الآية فقط في حقِّه ﷺ ولأجله؟ [ولو كانت كذلك] لَوَجَب أن تُنسَخ! إذًا هي في حقّ كلّ داعٍ إلى الله عزَّ وجلَّ، حتى ولو أنّه لا يكون في العقل شيء يناقض أنّ هذا الرجل من الدّعاة إلى الله، ومن الصّادقين المخلصين.. كما يقول سيِّدنا عيسى عليه السَّلام: “من ثمارهم تعرفونهم” ، كيف نعرف العنب؟ حين نرى العناقيد نقول: هذه شجرة عنب، ومن أين نعرف غصن البطيخ؟ حين نرى البطيخة لاصقة فيه.
كلّ داعٍ إلى الله عزَّ وجلَّ أسوة ووراثة لرسول الله ﷺ لا بد أن يُؤذَى، وكلّ مسلم ومسلمة مأمورون بصريح القرآن بالدّعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، وبالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ثم لا بد أن يحصل له إيذاء مهما كان يحمل من الحكمة والموعظة الحسنة، فهل النَّبي ﷺ دعا وجافى أو فارق الحكمة والموعظة الحسنة؟ ومع ذلك أوذي.. فإذا كان النَّبي عليه الصلاة والسلام قد أوذي أَمَا لنا في رسول الله ﷺ أسوة حسنة؟ يجب أن تفرح بإيذائِكَ إذا كان في سبيل الله، فهذا كلّه ربح وكله زوَّادة للدّار الآخرة، ورصيدٌ أُخْرَوِيّ من الباقيات الصّالحات، وكذلك الداعية إلى الله إذا أصابها أذى تقتدي بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي﴾ [الصف:5].
لما كان النَّبي ﷺ يقسم غنائم حنين، وغنائم حنين كانت أعظم غنائم غَنِمَها الصحابة ورسول الله ﷺ، فأنفق معظمَها على المؤلفَةِ قُلوبهم؛ الذين أسلموا حديثًا من الطُلقاءِ من أهل مكّة، وإذا بأحد الجفاة من المسلمين في أقوالهم، المسلمين تقليدًا لا إيمانًا ولا علمًا ولا تزكية ولا حكمة، قال: “إنّ هذه قسمةٌ ما أُريدَ بها وجه الله!” [يا للعجب!] فإذا كان النَّبي ﷺ يعمل لغير الله، فكم هذا البدوي الأعرابيّ غيور على دين الله عزَّ وجلَّ!
كما حدث حين تزوج النَّبي ﷺ بصفيةٍ رضي الله عنها، وماذا كانت صفية؟ يَهودية، وبعد ذلك أسلمت، فمن الذين ثار عليهم دينُهم؟ [“ثار عليه دينُه” مصطلح عامي، بمعنى أنه صار يكافح ويقاتل ويثور من أجل دينه، وتُستَخدم عادة لبيان التناقض الرهيب عند من يقول ما يناقض حاله، فهذا المنافق الذي لا يعرف الدين ويحاربه تراه فجأة يصرخ ويثور ويهتاج لنصرة الدين، وهذا الهيجان في حقيقته ما هو إلا حرب على الدين] المنافقون، قالوا: “انظروا إلى مُحمَّد!” إنّ هدْمَ النَّبي ﷺ وهدمَ الدّاعي هو هدمٌ للإسلام؛ منافق يثور: لماذا النَّبي ﷺ تزوج يهوديّة؟ يغارون على الإسلام وهم يهدِمونه بالمعاول ليلَ نهار.. وهذا الأعرابي يُريد أن يَنال حَظًّا من المال، والنَّبي ﷺ يُوزّع المال لمصلحةِ الإسلام، ولتقويةِ أهلِ مكّة هؤلاء، وأهل مكّة كلّهم صاروا صحابة وصاروا من القادة الفاتحين.. لم يُعجبه لأنّه ما ناسب هواهُ ومصلحته الشخصية، فاتّهم النَّبي ﷺ أنّ هذه قسمةٌ ما أريد بها وجهُ الله، إذًا النَّبي ﷺ منافق مُراءٍ ليس مُراده وجهَ الله عزَّ وجلَّ.. وأعرابي بدوي لا يعرف كيفَ يستنجي يتّهم النَّبي ﷺ أنّه مراءٍ لا يريد وجه الله ويريد قلوب النَّاس! فمن تأثُّرِ النَّبي ﷺ وغضبه احمرّ وجهه وقال له: ((خِبت وخَسئت! إن لم أعدل فمن يعدل؟)) ثم قال: ((لقد أوذي موسى بأكثر مما أوذيت فصبر)) .
القلب محل الإيمان:
فهذه الآية درسٌ لنا، لا تَفهَم منها: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ﴾ [الصف:5] هذا مدّ وهذه قلقلة وهذا إدغام وهذه غُنّة.. يوجد كثير من القُرّاء لا يفهمون من القرآن إلا هذا، ويوجد آخرون يفهمون النَّغم: فإذا كان صوته جميلًا استمع له، وإن كان غير جميل يُغَيِّر محطة [الراديو أو التلفزيون]، أليس كذلك؟ لكن هل يسمعون ليفهموا شيئًا؟ وهل يسمعون أوامر الله ليمتثلوها، ومحارم الله ليجتنبوها؟ إنّ الإيمان في القلب: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق:37] ومتى يصير لك قلب وتخرج من القسوة إلى اللين؟ ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر:22] فإذا لم يَحْيَ قلبك بذكر الله عزَّ وجلَّ ولم يتنوّر بنوره وتنطَرِد ظُلمات المعاصي والغفلات لا تستفيد شيئًا، ولو قرأت القرآن مليون مرّة
رُبَّ تالٍ يتلو القُرَانَ بفيهِ وهْو يُفضي به إلى الخذلانِ
الصبر في ميدان الدعوة:
إنّ هذه الآية موجّهة إلى كلّ مسلم ومسلمة، فقد أوذي موسى عليه السَّلام، وأوذي سيِّدنا مُحمَّد ﷺ، فهل أنت يا مسلم وأنت يا مسلمة عندكم الصبر في ميدان الدّعوة إلى الله تعالى إذا أوذيتَ أو أوذيتِ لتتحملوا إيذاء النَّاس وتصبروا؟ ((الصّبر شَطر الإيمان)) ، هكذا يُقرَأ القرآن، وهذا من فِقه القرآن، وهذا فَهْمُ القرآنِ فكرًا، أما قلباً فإذا لم يكن القلب مُنَوَّرًا بنور الله عزَّ وجلَّ ومعقّمًا من محبّة الدّنيا ومالها وجاهها وقلوب النَّاس ورضا النَّاس سواءرضوا أم سخطوا، فإن حجاباً وبرزخاً يكون بين قلبك ونور القرآن وروحانيته، فما لم تُكثر من ذكر الله عزَّ وجلَّ وتُهاجر إلى مجالس العلم ومجالس القرآن، تكون هذه المعاني أماني في نفسك، وتعجز عن تحويلها إلى أعمال وحقائق مشهودة وواقعية.
﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الصف:5] لكنه يهدي القوم الذاكرين المنيبين المتّقين المحبّين لأحباب الله عزَّ وجلَّ، المهاجرين إلى مجالس العلم والحكمة، ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا﴾ طلبوا الهداية من مجالسها ومصادرها ﴿زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [مُحمَّد:17] إذًا المقصود من الآية أن نتحمّل نحن الأذى في سبيل الله وفي جهاد الدّعوة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا)) والنساء إذا هدى الله عزَّ وجلَّ على يدكِ امرأة واحدة، أو ابنكِ أو أخاكِ أو أيّ إنسان كان ((خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ)) .. اللهم اجعلنا هادين مهديين، اللهم اجعلنا مُشاةً في طريق الأنبياء ومسيرتهم وحياتهم.
صبر الأنبياء السابقين في سبيل الله:
هذا إيذاء اليهود لسيِّدنا موسى عليه السَّلام.. والله عزَّ وجلَّ ما اكتفى بذلك بل قال: سأقص لك عن عيسى ماذا حدث معه، حتَّى تعرف أنّه: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام:90]. الله عزَّ وجلَّ هداهم إلى الصّبر وإلى الصمود، إلى الاستقامة وإلى الحكمة، إلى الرّحمة وإلى التواضع.
﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [الصف:6] يعني اذكر يا مُحمَّد ﷺ، وبعد مُحمَّد ﷺ فالخطاب موجّه إلى من؟ [إلى كل مسلم ومسلمة] يعني: اذكر يا شيخ بشير، واذكر يا دكتور محمود، واذكري يا فلانة.. إذا أردتم أن تَرِثوا مقام الدّعوة قدوةً بالأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام فسيُصيبكُم الأذى من الحاسدين ومن المنافقين، من الملحدين ومن الجاهلين، “ومن صَحَّ في الله تَلَفُه كان على الله خَلَفُه”، فإذا بذلت من مالك أو من وقتك أو من جهدك أو أوذيت في الله؛ فالله تعالى لا يجحد حقّ صادقٍ عَمِل لوجه الله عزَّ وجلَّ، وهو يكافئ في الدّنيا ويكافئ في الآخرة ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ [النحل:30].. ((وإنه لا يَذِلّ من والَيت، ولا يعُزّ من عادَيت)) ، لكن علينا أن نمشي على الحِكمة والمَوعظة الحَسنة: ((من أَمر بِمَعْرُوف فَلْيَكُن أمره بِمَعْرُوف)) .. ومع كل ما أوتي الأنبياء من الحكمة والرحمة والتواضع فهل نجَوا من الإيذاء ومن القتل؟ فمنهم من قُتِل، لأنه يوجد من الأعداء مَن هم أعداءٌ للحقّ وللنّور وللهُدى، مِثلُ عداوةِ الذِئب للغَنَم، لا يُرضِيه إلا العُدوانُ وإلا البَغيُ وإلا الجور، ولا يَعرِف حقًّا ولا يُذعِن لحَقيقَة.
أدب الخطاب في القرآن:
﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الصف:6] ناداهم بأشرفِ الأسماء، يعني يا أبناءَ الأنبياء! يا أهلَ البيت! ومن هو إسرائيل؟ هو يعقوبُ عليه السَّلام، مثل أن يقول: يا أبناء مُحمَّد ﷺ، فهم أبناء يعقوب، وإذا قلت لأحدٍ من المسلمين: يا ابن مُحمَّد! يعني أنه يجب أن يكون على طريقة أبيه، على الصّراط المستقيم، يقبلُ الحقّ ويرفض الباطل، ويهشّ ويبش لكلّ ما يقربه إلى الله عزَّ وجلَّ.
﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ لم يقل لهم: يا جَهَلة يا حَمقى يا كَفرة، يا كذا.. بل ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الصف:6] سيِّدنا موسى عليه السَّلام قال: ﴿يَا قَوْمِ﴾ [الصف:5] فَما أحلى أدبَ القرآن، وما أحلى فقهَ القرآن! لكن فقهَ القرآن يلزمُه قلبٌ، أمّا بلا قلب: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ [الأنفال:21] ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ﴾ [النمل:80] فما كانوا صُمّ الآذانِ، لكن كانوا صُمّ القلوب، وما كانوا عُميان العُيون، لكن كانوا عُميان القُلوب.
﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾ [الصف:6] أنا أحمل لكم رسالة، أنا ساعي بريد، أنا بريد الله عزَّ وجلَّ.. فمِن السَّماء إلى الأرض سيدنا جبريل، ومن الأرض إلى النَّاس الأنبياء، وبعد الأنبياء ورثتهم، الذين ورثوا أخلاقهم وروحانيتهم وحكمتهم وجهاد الدّعوة، بكلّ ما ملكت طاقاتهم، وبالصدق والإخلاص وإرادة وجهِ الله عزَّ وجلَّ.
﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ [الصف:6] يعني أنا لن أُخرجكم من دينكم ولن أَحجُبكم عن كتابكم وتوراتِكم.. أنا مؤمن بموسى عليه السَّلام كإيمانكم، وبتوراتِكم كإيمانِكم، الآن إذا اجتمعتم أنتم بالمسيحيّ قُولوا له: إنَّنا مُصدِّقون بالإنجيل، ومُقدّسون لعيسى عليه السَّلام.. إذا كان المؤمن بنبوة عيسى عليه السَّلام وإنجيله مسيحيًّا فالمسلم أيضًا يحمل هذا المعنى، وهو مع المسيحيةِ مُسلم أيضًا.. ثم إن كلمة مُسلم ليست لقبًا عائليًّا يُوْرَث، ويورِّثه الأبّ لابنه، بل هي مثلُ كلمةِ حداد، فالذي يتعلّم الحِدادة وصِناعتَها وأدواتِها يأخذُ لقبَ حداد حقيقيّ، أما اللقبُ المتوارث فلا يعطي حقيقة الحدّاد ولا حقيقة المسلم.
الإسلام معناه الانقياد والاستجابة الكاملة:
كذلك ما معنى مسلم وإسلام؟ الإسلام معناه الانقيادُ والاستجابة الكاملة والاستسلام لكلّ أوامر الله عزَّ وجلَّ وشرائِعِه، فإذا أنت استجبت للقرآن بأن أطعت كلّ الأوامر، وابتعدت عن كلّ المحارم، فلسانك لا يتكلّم بالحرام، وعينك لا تنظر إلى حرام، وأذنك لا تستمع إلى حرام، ولا تُجالس وتُحبّ إلا أهلَ التقوى، وتُبغض أعمالَ أهلِ الضّلال، عندَ ذلك هذا إسلامٌ ولقبك مُسلم.
إذا رأينا رجلًا في دكان وفيها كور الحدادة وفيها سِنديان وفيها مَطارق، ويُخرج قِطعَة الحديدِ فيضعُها على السِنديان ويطبخها حتَّى يجعلَها مِحْفاراً أو كذا أو كذا، فهذه الأشياء والأفعال ما اللقب الذي تعطيه؟ تعطيه لقب حداد.. فالحلاق هل يأخذ هذا اللقب؟ والحداد هل يأخذ لقب حلاق؟ وكذلك مسلم ومسلمة إذا ادّعيا الإسلام ولم تظهر عليهما صفات الإسلام في الأعمال والأخلاق والعلم والحكمة؛ فهما مُدّعيان وأدعياء
والدعاوى إن لم تقم بيناتٌ عليها أصحابُها أدعياءُ
أنت تدّعي الإسلام، وتستطيع أن تدَّعي وتقول: أنا رئيس الجمهورية.. وإذا ادعيت فهل صرت بذاك رئيسًا؟ بل يضعونك في مستشفى المجانين، مع مجلس وزراء المجانين في تلك المشفى.. كذلك ادّعاء الإسلام ولا حقيقة عندك اسمه نفاق وأنت منافق، و﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [التوبة:67] بعضهم أنصار بعض وبعضهم أحباب بعض وبعضهم جلساء بعض وإلى آخره.
ثبوت تحريف الكتب المقدسة عند اليهود والنصارى بشهادتهم:
﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ [الصف:6] نحن نؤمن بالتوراة، لكنها التوراة التي أنزلها الله عزَّ وجلَّ على موسى عليه السَّلام، وبالإنجيل الذي أنزله الله عزَّ وجلَّ على عيسى عليه السَّلام.. ذكرتُ لكم من أسابيع عن بيانٍ أذاعتهُ الجريدةُ في لوس أنجلوس في أمريكا، عن لجنةٍ أمريكيةٍ مؤلّفةٍ من مئتي عالمٍ كنسيّ إنجيليّ، من رؤساءِ الجامعات ورؤساءِ الكنائسِ في أمريكا، درسوا الأناجيلَ الأربعةَ لمدة ست سنوات، فخرجوا بالنتيجة التالية: إن الذي صَحّ عندهُم من الأناجيلِ الأربعة عُشرون بالمئة، وثمانون بالمئة نسبتُها إلى سيِّدنا عيسى عليه السَّلام غيرُ صحيحة.. لم يجتمع مئتا شيخٍ شافعيّ وصوفيّ وحنفيّ وسلفيّ! لا؛ بل مئتا عالم كَنَسيّ من رُهبان وخوارنة ومستوياتٍ جامعيةٍ عاليةٍ في الكنائسِ الجامعيّة الكَنَسيّة، لسنا نحن من قال ذلك، بل هم.
إذًا التقوا مع الإسلام، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ [النساء:46] ﴿أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران:23] أخذوا قسمًا، والنصيب يكون أقلّ من المتروك.. وهذا لم ينطق به العلماء العلمانيون -مع أنّ هذا من البدَهيات في نظرتهم إلى التوراة والإنجيل- بل قاله علماء الكنيسة، فصدق الله العظيم.. وقد قال: ﴿تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ [آل عمران:64]، ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ [المائدة:68] يعني الإنجيل الذي أنزله الله عزَّ وجلَّ على عيسى عليه السَّلام، والتوراة التي أنزلها الله عزَّ وجلَّ على موسى عليه السَّلام، إلى آخره.
﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف: 6] إلى الآن في إنجيل “يوحنا” -وهذا الأكثر في ظنّي- لما ظهر سيِّدنا عيسى وسيِّدنا يحيى عليهما السَّلام، أتى اليهود ليبحثوا ويتعرفوا على حقيقة سيِّدنا عيسى عليه السَّلام، لأنّه في التوراة يوجد بشائر بالمسيح، ويوجد بشائر بالنَّبي المنتظر ﷺ ﴿ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ﴾ [الأعراف:157] ولو لم يكن اسم النَّبي ﷺ مكتوبًا في التوراة والإنجيل في زمن النَّبي ﷺ لأحضروا التوراة للنَّبيّ ﷺ وقالوا له: ها هي التوراةُ فأين اسمك؟ ولأحضروا له الإنجيل وقالوا له: أين اسمك؟ فأنت تدّعي ما لا حقيقة له، لكنهم ما استطاعوا ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة:146].
﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف:6] ظهر كتاب من خمسين سنة أو ستين لرئيس كنيسة كلدانيّ ومختص بلغات الإنجيل والتوراة، فرأى اسم مُحمَّد ﷺ في الترجمات للتوراة والإنجيل، فألّف كتابًا سمّاه: “مُحمَّد في الكتاب المقدّس” وطُبِع باللغة العربية، فأسلم المؤلف وغيّر اسمه، وهو بروفيسور في الجامعات الكنسية في لندن، وأصله من إيران، وإلى آخره.
فلما أرسل الحاخامات وفدًا إلى يحيى عليه السَّلام يسألونه:” أأنت المسيح؟ بناءً على أنّ التوراة تبشرُ، فقال: لا.. والتوراة تبشر بنزول إيليا، أحد أنبيائهم، قالوا: أأنت إيليا؟ قال: لا، ثم قالوا له: أأنت النَّبي؟” فالمسيح عليه السَّلام ما قال أنا النَّبي، بل قال: أنا المسيح.. فإذًا الإنجيل الحالي الآن يبشِّر بالنَّبي ﷺ، أما قبل ذلك فكان مذكورًا اسمه أحمد ومُحمَّد، وهذا ما ذكرهُ إنجيل “بَرنَابَا” الذي اكتُشِف في القرن السابع عشر، بنُسختين: واحدةٌ في مكتبةِ الفاتيكان، وواحدةٌ باللغة الإسبانية، وتُرجم إلى اللغة العربية، واسم سيِّدنا مُحمَّد ﷺ مذكور في إنجيل “برنابا” في خمسة وثلاثين موضعًا، والله عزَّ وجلَّ قال: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة:146].. إنّ العلمُ وحده لا يكفي، فإذا لم تُهذَّب النّفس وتُهذَّب الروح والضمير ليكونوا مع الحقّ أينما كان الحقّ، وإلا فالعلمُ وحده لا يكفي، فاللّهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
قصة المثل العامي المشهور “ماعز ولو طاروا”:
لا نكن مثل تلك القصّة، يقال: كان رجلان يمشيان في أرض بَرِّيَّة، في فلاة من الأرض، فرأيا سوادًا من بعيد، فقال أحدهما للآخر: ما هذا السواد؟ قال له: غِربان، فقال له صديقه: لا، بل هذه ماعز.. فتجادلا: غربان أو ماعز، فقال أحدهما: عندما نصل إلى هناك يتبين لنا الأمر، فلما وصلا إلى ذلك السواد طاروا، فقال الذي قال إنه غربان: أما قلت لك إنه غربان؟ فقال له: لا، ليست غربانًا، قال: أما رأيت بعينك كيف طاروا؟ قال له: “هي ماعز ولو طاروا!” فهذا لا ينقصه علم وإنما ينقصه تزكية النفس من الهوى والأنا، مثل قول الشاعر: “بَيْنِيْ وبَيْنَكَ إِنِّي..”
“إنِّي” هي التي سماها القرآن الهوى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾ [الفرقان:43]، ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الجاثية:23] لا ينقصه علمٌ، ولكن تنقصه تزكية النّفس، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرينا الحقّ حقًّا ويرزقنا اتباعه.
التبشير بالنبي ﷺ في الكتب السابقة:
﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ رُفِع الستار، وماذا يوجد وراء الستار؟ يقال: أن شخصاً قال لآخر: ماذا يوجد وراء الستار؟ فقال: يوجد وراء الستار صناديق، فقال الثاني: لا، بل كراسي، فلما رُفع الستار وظهرَ أنها كراسي قال: أما قلت لك؟ قال له: لا، بل هي صناديق! ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الصف:6] المخذول مخذول، فاليهود رأوا معجزات سيِّدنا موسى عليه السَّلام، وهل هناك أعظم من فَلقِ البحر وانقلابِ العصا إلى حيةٍ وكذا وكذا؟ هل نفعتهم المعجزات؟ فالمخذول مخذول، قال الله عزَّ وجلَّ عنهم: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ﴾ لو شاهدوا الملائكة ينزلون من السَّماء ويَشهدون لمُحمَّد ﷺ بأنّه رسول الله ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى﴾ لو يَخرُج الأمواتُ من القبورِ ويقولون لأبي جهل:” مُحمَّد رسول الله”، وهل هناك أبلغُ من هذا في تبيانِ الحقائق؟ ﴿وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا﴾ لو جَلبنا الملائكة وصاروا يقابلونَهم ويقولون لهم: مُحمَّدٌ رسول الله، ﴿مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا﴾ [الأنعام:111].. نسألُ الله العافية من الشَّقاء، ومن النّحسِ ومن الخُذلان، ومن عَمى القُلوب وموتِها، وصُمِّ الآذان ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة:18] ﴿فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة:171] هذا هو الشّقاء.
من ختم الله على بصيرته لا يرى نور الحق:
أبو جهل كان يرى النَّبي ﷺ، وعليه نور النَّبي وعنده حكمته.. وبعض النّساء لما أسلمت قالت: لقد كنت أشهد النّور يخرج من فم رسول الله ﷺ.. وقد أُوتِي جوامع الكلم ، والأخلاق والفضائل، والحكمة وغير ذلك، فأبو جهلٍ ما رأى ذلك كله.. المنحوس منحوس ولو وضعوا بين عيونه خمس مئة مليونَ فانوس، والأعمى ماذا تفيدهُ الفوانيس والمصابيح والكهرباء؟ والعميان لم يستطيعوا أن يروا النَّبي ﷺ، وكذلك ففي كلّ زمان أبو جهل وفراعنة الزمان
كلُّ عصرٍ فرعونُ فيهِ وموسى وأبو الجهلِ في الورى ومُحمَّد
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا من حزب سيِّدنا مُحمَّد ﷺ، أن يجعلنا مُحمَّديِّين ولا يجعلنا من حزب أبي جهل، ولا يجعلنا جَهلِيِّين.. ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [الصف:6] الحِجج الواضحة والمعجزاتِ الباهرة قالوا: “هذا سَحَرَ عيونَنا”.. وهذا هو عدم التوفيق.
من أكبر الظلم الافتراء على الله سبحانه:
ثم قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ وأيّ ظالم في الدّنيا أكبر وأعظم ظلمًا ممَّن؟ قال: ﴿مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ [الصف:7] مَن الذين افتروا على الله الكذب؟ الذين كانوا في زمان النَّبي ﷺ وقالوا عنه: ساحر، أليس كذِباً؟ وبعضهم قالوا عنه: شاعر، أليس كذِباً؟ وعن القرآن قالوا: أساطير الأولين، أليس كذِباً أيضاً؟ وسيِّدنا نوح عليه السَّلام قالوا عنه: كذَّاب.. قال: أيّ واحد أظلم لنفسه من الذي يفتري على الله وعلى كتاب الله، وعلى أنبياء الله الكذب؟
وفي هذا الزمان أيضًا يوجد من يفترون على الله الكذب، وعلى أحباب الله، وعلى الدّعاة إلى الله عزَّ وجلَّ، فينسِبون إليهم النِّسبَ الكاذبة، ويخترعون الكذب، ومنهم من يبيع بالمُفَرَّق: يأخذون من المصْدَرِ الكاذب ويوزعونه بالبضاعةِ المفرَّقة، [“يبيع بالمُفَرَّق والبضاعة المُفَرَّقة”: مصطلحات عامية يستخدمها سماحة الشيخ لتشبيه الكذابين بها، ففي البيع والمحلات التجارية يوجد عادة نوعان من البيع، فهناك بيع الجُمْلَة، حيث يبيع التاجر كميات كبيرة من البضاعة لتجار يبيعونها بالمُفَرَّق، والذي يبيع بالمفرق يبيع بالقطعة الواحدة أو الاثنتين، لا بكميات كبيرة، ويعرض بضاعته لكل الناس، فهؤلاء الكذَّابون الذين يشبههم سماحة الشيخ يأخذون الأخبار من مصادر كاذبة، ويوزعونها وينشرونها بين الناس بكل ما يستطعيون من قوة] فكلُّ زمان فيه مفترونَ على أنبياء الله، وعلى ورثة رسول الله ﷺ، نسألُ الله عزَّ وجلَّ أن يحميَنا من صُحبتِهم ومن مُجالستِهم ومن صَداقتِهم: ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِه، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)) ، ((الجليس الصالح كحامل المسك، والجليس السوء كنافخ الكير)) .
فالله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ أيّ انسانٍ أشدّ ظلمًا لنفسه ولمجتمعه ولمن يُجالسه ويُعطيه أُذُنَه وقلبه وعقله ﴿مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ [الصف:7] ألا تجاوبون الله عزَّ وجلَّ؟ الله عزَّ وجلَّ يسألنا، فنقول: لا أحد يا ربنا أشدُّ ظلمًا من الذي يَكذب على الله ويَكذب على أنبياء الله ويَكذب على كتاب الله ويَكذب على ورثة رسول الله ﷺ.. فكم من النَّاس يكذبون على الصالحين وعلى الدّعاة! يخترعون الكذب اختراعًا، ومنهم المستورِدون ومنهم المصدِّرون للكذب، والقرآن يقول: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات:6] لكنهم لا يؤمنون بهذه الآية، ويقول: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ﴾ [الحجرات:12] ولا يؤمنون بهذه، ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [الحجرات:12] ولا يؤمنون بهذه أيضاً.. ويقول: أنا قرأت في رمضان هذا خمس ختمات، ولكن الله لن يقبل منه ولا نِصف حَرف!
قراءة القرآن للتمعن والعلم:
يقول لك: أنا حافظٌ للقرآن.. على أيّ قراءة قد حفظ؟ هل على قراءةِ ورشٍ أم حفص؟ حفظ على القراءة الخامسة عشرة! القراءات المعروفة أربع عشرة، لكن الآن توجد قراءة جديدة ظهرت حديثًا، ما هي؟ الله عزَّ وجلَّ ذكرها في القرآن العظيم في سورة الُجمُعة: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ [الجمعة:5] قرؤوها تجويدًا وعلى السبع وعلى الأربع عشرة، لكنْ ما قرؤوها للعِلم والفهم، وما قرؤوها للعَمل والتطبيق، وللتخلّق والدّعوة إلى الله بالصدق والإخلاص، بل قرؤوها ليأخذوا ورقة اسمها شهادة، أو قرأ القرآن كي يقول: “أنا قرأت ختمة وختمتين وثلاثًا”.. هذا ما استفاد شيئًا يا بني.
حُسن اختيار الصاحب:
أتى أعرابي إلى النَّبي ﷺ فقال له:” عظني وأوجز”؛ أعطِني درسًا يكون مختصرًا، فقال له ﷺ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7-8] فقال الأعرابي: ” كفتني”؛ تكفيني هذه! فقال النَّبي ﷺ: ((أفلح الأعرابي إن صدق)) وإن ثبت على الصدق، لأنك قد تَقْبَل في هذه اللحظة، لكن عندما تخرج من المسجد ترى شيطانًا من شياطين الإنس فيُجرِّدك ويَسلَخك من كلّ ما سمعته، لذلك فإن المصاب بالجَرَب إذا دخل المستشفى وشُفِي من الجَرَب، ثم رَجَع فخَالَط الجَرْبى وأكلَ وشرِب معهم، ونام على فراشٍ واحدٍ معهم، فسيعود المرضُ ليظهر على بدنه في اليوم التالي، قال
فصاحبْ تقيًّا عالمًا تنتفعْ بهِ فصحبةُ أهلِ الخيرِ تُرجى وتُطلَبُ
“وإيّاك والفساق لا تَصْحَبَنَّهم”: لا تعاشرهم ولا تسهر معهم ولا تأكل معهم، إلا إذا كنت صيادًا تستطيع أن تصطادهم، ونورُك يغلب ظُلماتِهم، وتقواك يغلب فِسقَهم، أمّا إذا كان فسقُهم سيغلب تقواك، وضلالهم سيغلُب هِدايتَك، فانجُ بنفسك يا مسكين.. ولا بأس لطبيب أن يداوي أجرباً، أما شخص لا يعرف الطبّ ولا يعرف الوقاية ويريد أن يداوي الأجرب، ويمسح له الجرب بيده ويلعقه بلسانه، فهل هذا يشفي الأجرب؟ أم يكون الأجربُ واحدًا فيصيران اثنين؟
وإيَّاكَ والفسّاقَ لا تصحبنَّهم فقُربُهُمُ يُعْدي وهذا مجرَّبُ
كما قيلَ: طينٌ لاصِقٌ أو مؤثِّرٌ كذا دودُ مَرجٍ خُضْرةً منه يَكسِبُ
“كما قيلَ: طينٌ لاصِقٌ”: إن مشيت على أرض فيها طين فسيلصق برجليك، “أو مؤثِّرٌ”: تُطبَع رجلك مكان الطين “كذا دودُ مرجٍ خضرةً منه يَكسِبُ”: الدود يصير لونه بلون المرج الذي يتغذّى منه. كما أن الأجسام لها غذاؤها كذلك العقول والنّفوس لها غذاؤها من جلسائها وأصحابها، “قل لي منتعاشر وتصاحب وأنا أقول لك من أنت”.
الافتراء على الله من أظلم الأفعال:
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ [الصف:7] في حقّ الأنبياء أو في حقّ القرآن، أو في حقّ الإسلام أو في حقّ الصّالحين، [فإن أنت عرفت] ظالماً وهو أظلم النَّاس، وأنت تجالسه وتأكل وتشرب معه، وتسهر معه لهوًا ولعبًا وبطالةً.. لكن أن تجالسه هدايًة ونصحًا وإرشادًا، فواللهِ ((لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك ممَّا طلعت عليه الشَّمس وغربت)) ، أمّا غفلةً وجاهليةً فالله يقول: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ [الصف:7] فاالله عزَّ وجلَّ يقول لك: أنت أظلم الظالمين.. وهل هناك أظلم منك؟ والله يقول: هل هناك أظلم من إنسان كهذا؟ لا يوجد أظلم من هذا الإنسان.. فإذا جاوبتم الله تعالى بهذا الجواب فما معنى ذلك؟ هل معناه أن تعاشروا الظالمين وأظلم الظالمين؟ بل يعني ابتعدوا عنهم.. وإذا قرأناها فهل فهمناها؟ وإذا فهمناها فهل عندنا إيمان وطاقة لنُنَفِّذَها في حياتنا؟ ولو كان هذا الشخص أمّك أو أباك!
الإيمان بالله ومودة أعدائه لا يجتمعان في قلب المؤمن:
﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ الذي يعادي الله عزَّ وجلَّ والنَّبي ﷺ، أو يعادي أحباب الله وأحباب النَّبي ﷺ ﴿وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾ هناك أناس آمنوا بألسِنتهم ولم تؤمن قلوبهم، أمّا المُهم فهو ﴿كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ [المجادلة:22] ونسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا منهم.
مرّةً خرجت من فم والد سيدنا أبي بكر رضي الله عنه -أبي قحافة- كلمةٌ في حق النبي ﷺ، فصفَعه سيدنا أبو بكر صفعَةً قوية.. مَن؟ الابن لأبيه، و[حاله يقول]: أتتكلم على النَّبي ﷺ؟ وآخرُ سَبَّت زوجتُه النَّبيَّ ﷺ -واسمها العصماء- وزوجها أعمى، فأتاها في الليل وهي نائِمة وأغمَد السيف في بطنِها وأخرجَه من ظَهرها، فلما أصبحوا شاعَ الخبر، فقال النَّبي ﷺ: ((أَنْشُد اللهَ رجلًا يعلم عن مقتل العصماء شيئًا إلا أخبرنا؟)) فقام هذا الضرير وقال له: “أنا يا رسول الله، فهل عليّ في قتلها شيء؟” كانت مشهورة بأنها تسبّ النَّبي ﷺ وتعادي الإسلام وتعمل ضدّ الدّعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، فقال النَّبي ﷺ: ((لا ينتطح فيها عنزان!)) ، حتى التيوس لا تختلف بوجوب قتلِها.. ولكن إياكم أن يفعلها أحد منكم! فترتيب النَّبي ﷺ شيءٌ آخر، لكن إذا رأينا رجلًا على هذه الشاكلة فكل ما في الأمر: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف:199] إلى آخره.
الله يسأل ويريد الجواب:
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ [الصف:7] حين تقرأ هذه الآية، هل تفهم أنّ الله عزَّ وجلَّ يسألك ويريد منك جوابك؟ وهل يريد منك جوابًا بلسانك أم جوابًا بأعمالك؟ فتبعد عن الظالم، وتبعد عن وساوسه وضلاله وإضلاله وتخريبه.. وإذا لم يمكنك إصلاحه فأقلّ الدرجات أن تبتعد عن تخريب إيمانك وأخلاقك وعقلك وفكرك [بمصاحبته]، ولا تقلْ: أنا لا أتأثّر.. تكون هناك شجرة كبيرة وجذعها ثخين، فيقطعونها ويضعون عرقًا صغيرًا من نوع آخر، أو يضعون فيها لَصْقَةً من نوع أجود -وهذا يسمونه التلقيح والتطعيم للشجر- فيتغير كلّ إنتاج الشجرة، ولو وضعوا نوعًا أسوأ لتغيرت إلى أسوأ.. فهذه اللَّصْقَة الصغيرة تُغيِّر طبيعة وثمر وزهر ولون وإنتاج كلّ ما كانت عليه الشجرة الأصل الأمّ.
لا تقلْ: لا أتغيّر! فالصحابة رضي الله عنهم كانوا قبل النَّبي ﷺ وثنيين، فبماذا صاروا ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ [آل عمران:110]؟ بصُحبة النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام، والعكس بالعكس.
﴿وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ﴾ [الصف:7] يفتري الكذب وتُبَيَّن له الحقائق ويُدعى إلى الإسلام، ولكن يُصرّ على كَذبِه وافترائِه، فهذا ظالم لنفسه وأظلم الظالمين، والذين يكون ظلمهم بهذا الشكل ويختارون طريق الضلالة على الهداية، وطريق الغواية على الرشَد، هل يهديهم الله عزَّ وجلَّ إلى الصّراط المستقيم؟ لا؛ وإلا يكون الله غير حكيم، لكن الله عزَّ وجلَّ حكيم، فالذي يُقبِلُ على الهِداية يَفتَح لهُ أبوابَها، والذي يُقبِل على الضّلالة يَدَعُهُ وما يختار، قال: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الصف:7].
ورد في الحديث: مرةً أُتِي النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في المَنام -ومنامُ النَّبي ﷺ يُعتبر وحياً- فقيل له: ((لِتَنَمْ عَيْنُكَ، وَلْتَسْمَعْ أُذُنُكَ، وَلْيَعْقِلْ قَلْبُكَ، قَالَ: فَنَامَتْ عَيْنَايَ، وَسَمِعَتْ أُذُنَايَ، وَعَقَلَ قَلْبِي)).. ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ﴾ [الصف:7] “وهو يدعى إلى الإسلام” فمع وجودِ الدّاعي صارتِ الحجّة قائمة، ((ثم قيل لي: سَيِّدٌ بَنَى دَارًا، فَصَنَعَ مَأْدُبَةً)) عَمل غدَاءًا مثل: خِرفان مَحشوة وبقلاوة ونمورة [البقلاوة والنمورة حلويات فاخرة مشهورة في سوريا وغيرها] ((ثم أَرْسَلَ دَاعِيًا)) يَدعو النَّاس إلى بيتِه وإلى هذه الوليمةِ والحفلة، قال: ((فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ، دَخَلَ الدَّارَ، وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ وَرَضِيَ عَنْهُ السَّيِّدُ)) السَّيِّد الذي بنى الدّار وأرسل الداعي وهيّأ الوليمة، ((ومن لم يُجبِ الدّاعي، لم يدخلِ الدّار))، تصور أنه أتتك بطاقة: “تفضل إلى المحل الفُلاني على الوليمةِ الفُلانيّة”، فإذا لم تُجِب الداعي هل تذهب وهل تدخل؟ ((وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ، لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ، ولم يأكل مِنَ الْمَأْدُبَةِ)) ولم يأكُل من الطعام، ((وَسَخِطَ عَلَيْهِ السَّيِّدُ)) فصاحبُ الدّعوة الذي بنى الدار يغضبُ عليه أيضًا.. ثم قيل للنّبيّ ﷺ -قال له الذين يضربون له المثل-: ((فالله السيِّد، ومُحمَّد الدّاعي، والدّار الإسلام، والمأدبة الجنّة، فمن أجاب مُحمَّداً ﷺ دخل في الإسلام، ومن دخل في الإسلام دخل الجنّة، ومن دخل في الإسلام رضي عنه السيِّد: الله جلّ جلاله)) .
العلماء ورثة النَّبيّ ﷺ في الدعوة:
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ﴾ [الصف:7] يُدْعَى من قِبَل السيِّد، و﴿إِلَى الْإِسْلَامِ﴾ إلى الدّار، ومَن الدّاعي؟ هو النَّبي ﷺ، والنهاية ماذا تكون؟ ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [مُحمَّد:12].. إن الله عزَّ وجلَّ بنى الإسلام، بنى دارًا، وأرسل داعيًا، والنَّبي ﷺ دعا، ولا تزال دعوته في أحاديثهِ الشريفة وفي سيرته الشريفة، لكن من سيبلّغ من بعده في كل زمان ومكان؟ نوابُه وورثتُه: العلماء العاملون.. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعَلَنا من أحبابهم وأصحابهم وجُلسائِهم الصّادقين معهم، ويدعون البشرية إلى الإسلام -الدّار- وإلى الوليمة ليدخلوا الجنّة، فمن أجاب الدّاعي دخل الدّار وأكل من المأدُبة، فالله عزَّ وجلَّ هو السيِّد، والدّار هي الإسلام، والدّاعي هو مُحمَّد ﷺ، والوليمة هي الجنة، فهل أنتم مستعدون أن تُلبّوا الدّعوة؟
الإجابة بالفعل وليس بالقول:
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن ٍيجعلنا من الملَبِّين لهذه الدعوة: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأحقاف:31-32] هل يستطيع أحدٌ أن يقاتل الله عزَّ وجلَّ؟ أن يحارب الله؟ أن يهرب من الله؟ هل يعجز الله عزَّ وجلَّ عن أن يمسكه؟ ﴿وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ﴾ أنصار ﴿أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الأحقاف:32].
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ من أشدّ النَّاس ظلمًا ومن هو أظلم الظالمين؟ ﴿مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ هل هناك أظلم منه! ﴿وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ﴾ [الصف:7] إذا أصرّ على الافتراء وعلى الكذب وعلى الإعراض وعلى الضّلال؛ فهل سيهديه الله عزَّ وجلَّ؟ تخيلوا شخصاً متّجهاً إلى موسكو: ويقول: اللهم أوصلني إلى الكعبة.. فإن قالها ودعا بها، فهو إمّا أبله وإما مستهزئ بالله عزَّ وجلَّ.. يقول: “اللهم اهدنا فيمن هديت” وهو لا يسلك طريق الهداية، ولا يصاحب أهل الهداية ولا يحبّ أهل الهداية، ويكون مع أهل الضلال ويصحبهم ويجالسهم ويضاحكهم ويصادقهم، ولماذا لا يقول: “اللهم أضللنا فيمن ضل؟” يقول بلسانه عكس ما يفعله بأعماله، وأيّهما أصدق؟
وإذا الفِعالُ مع المقالِ وزنتَهُ رجحَ الفعالُ وخفَّ كلُّ مقالِ
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، واجعلنا اللهم هادين مهديين، ولا تجعلنا ضالّين ولا مضلّين، واجعلنا من عشّاق كتابك الكريم، ومن أحباب الدّعاة إليك من الأنبياء والصّالحين والعلماء العاملين، بفضل منك وكرم يا أكرم الأكرمين.