معنى العاديات
سبق معكم في سورة ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا﴾ [العاديات:1] أن العاديات هي الخيول التي تعدُو وتركُض في سبيل الله ولإعلاء كلمة الله، ووَضْعِ دستور الله تعالى وقانونه في هذا الكوكب، ليُحقِّق سعادة الإنسان وتقدُّمه في العِلم والحكمة ومكارم الأخلاق، فكانت تركُض وكانوا يتراكضون على تلك الخيول العاديات، ومِنْ شدَّة ركضِها يصير نَفَسُها مسموعًا، ونَفَسُ الخيل وتنفُّسُها عند ركضها هو الضَّبْح، أما إذا كانت تمشي الهوينى وبتأنٍّ فلا يخرجُ لنفَسِها الصوت المسمَّى بالضَّبْح.
الفرق بين فتح المسلمين للعالَم واحتلال الغرب له
لقد أقسم الله تعالى بالعاديات ضَبْحًا، الرَّاكضات، ومِنْ شدَّة الركض -سواءٌ كانَت في طريق مُعبَّدة أو طريق صخرية ذات أحجارٍ- فإنها تلمَعُ تحت حوافرها الشَّرر والنَّار إقدامًا واقتحامًا على المخاطر والمهالِك مِنْ أجل إنقاذ الإنسان وتخليصه مِنْ جَوْرِ الطُّغاة والحكَّام، ونقلِه مِنَ الجَهالة إلى العِلم، ومِنْ تأليهه لجسده حيث يكون خادِمًا له إلى أن يكون خادِمًا -واللهُ تعالى لا يحتاج إلى خدمتنا- إلى أن يكون عبدًا -واللهُ تعالى لا يحتاج إلى عبوديَّتنا- ولكن المقصود أن نُطيعه كما يُطيع العبد مالِكَه، لأنه بهذه الطاعة والانقياد تكون سعادة الإنسان، وبمقدار طاعته ومُسارعته يكون مقدار سعادته.
﴿فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا﴾ [العاديات:3] وصلَتْ إلى هدفها، وهي في وسط ومَعْمَعَة الهدف في مقاتلة الطغاة والجائرين والمعتدين على حقوق الإنسان بالظلم والجورِ والتخلُّف ومَنْعِ العلوم عنهم.
إن المسلمين لَمَّا فتحوا البلاد قدَّموا كلُّ ما حملوه مِنْ علومٍ لتلك الشعوب، حتى سبَقَتْ تلك الشعوب الأعجمية العربَ في العلوم والمعارف، بينما لَمَّا استعمَر العالَم الغربي البلاد المستضعَفة هل قدَّم لها العلوم حتى تُساوِيَه أو تسبِقَه أو تتقدَّمَ عليه؟
الجهاد في سورة العاديات
﴿فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا﴾ [العاديات:4] الغُبار مِنَ الرَّكض والتسابُق والإقبال في الجهاد لإنقاذ الإنسان مِنَ الجهل والتخلُّف والظلم وجَوْرِ الجائرين، فغُبار المعركة قائمٌ وهو النَّقع، ﴿فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا﴾ [العاديات:5] وصلوا إلى وسط المعركة.. وهذه الآيات مكيَّةٌ، ولم يكن في ذلك الوقت حربٌ ولا قتال، فماذا تعني هذه الآيات؟ والقتال في ذلك الوقت مُحرَّمٌ وغير مشروعٍ، لأنه لا يُعطي الفائدة التي تُتَطلَّبُ مِنْ عمله، ولكن كان هناك جهاد الدعوة وجهاد نشر العِلم والمعرفة وجهاد تزكية النفس وتحليتها بمكارم الأخلاق وفضائل الصفات.. فحَلَفَ الله عزَّ وجلَّ بالخيل التي تُركَب فصارت مُقدَّسة، فكيف برُكَّابها وفُرسانها؟ أليسوا أقدس منها وأعظَمَ كرامةً عند الله عزَّ وجلَّ؟
ثم ذَكَر الله تعالى الهجوم والهدف من هذا الركضِ والمسابقةِ بينما النيرانُ تقدَحُ تحت سنابك الخيل، والخيل تُسمَعُ أصوات تنفُّسِها، والغبار يعلو في الجو.. لِمَ؟ قال: لأن الإنسان لربه لكنود، ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ [العاديات:6] الإنسان جهولٌ بربِّه وكافِرٌ به وعاصٍ لأوامره، وأنتم يا ركَّاب وفرسان العاديات ضَبْحًا عليكم مسؤولية إنقاذ هذا الإنسان الكَنود الكَفور بأوامر الله، الجَحود لنعم الله عزَّ وجلَّ، الجَهول بما يُسعِدُه ويُحوِّلُه لا إلى إنسانٍ سعيدٍ فقط، بل إلى أن يكون سعيدًا، وفوق الإنسان السعيد أن يقوم ليُسعِدَ الإنسان الشقيَّ التَّعيس.. وهذا توجيهٌ للعاديات وفرسانها التي تسرع بما تملك الخيل من مُسارعةٍ وإقدامٍ حتى تُسمَعُ أصوات أنفاسها مِنْ مسافات، ومِنْ شدَّة ركضها يخرج الشَّرر مِنْ تحت سنابِكِها، والغبار يعلو في السماء، وقد وصلوا إلى قلب المعركة، وهي معركة كُنُود الإنسان، لتُخرِجَ هذا الإنسان مِنْ جهلِه وجاهليته وخُرافته وكسلِه وفقرِه والتنازع والعداوات فيما بينه وبين الآخرين.
ولإنقاذ المرأة التي كانت تُعتَبَرُ كأغراض البيت، حيث تُورَثُ كما تُورَثُ الكراسي والبُسط ووسائد القَش، وليس لها نصيبٌ مِنَ الميراث، وهذا ضد شريعة الله عزَّ وجلَّ وكُنودٌ وكُفرانٌ بها.. قال: عليكم أن تتوجَّهوا الآن لإصلاح هذا الإنسان الكَنود، لكن لا تذهبوا مشاةً، لأنكم إذا ذهبتم مشاةً يطُول المشوار لتُحقِّقوا الهدف، إذًا يجب أن تستعمِلوا أسرع الوسائل التي تُوصلكم إلى تحقيق هذا الكفاح وهذا الجهاد، وهو إنقاذ الإنسان مِنْ تخلُّفه وجهلِه وعداوة بعضه لبعضٍ، وعبادتِه لجسده وبطنه وفرْجِه حتى صار دون الحيوان.
بناء الإنسان السعيد الصالح
مُهمَّتُكم أن تبنوا الإنسان السعيد الصالح الإنساني، وأن تُنقِذُوه مِنْ إنسان الحيوان، الذي لا يعرِفُ إلا بطنه وفرْجَهُ، ومِنْ إنسان الشيطان الذي لا يعرف إلا الإفساد وإيذاء الآخرين، وتحوِّلوه إلى الإنسان الإنساني الذي يرى الإنسانية كلَّهم قوميَّته وإخوته، وكما ورد: ((الإنسانُ أَخُو الإنسانِ أَحَبَّ أَم كَرِهَ)) ، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء:1]، ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات:13].
إذا كان هناك ثلاثة إخوة: أحمد ومحمود وخالد، فالتفرقة بالأسماء يجب أن لا تُمزِّقَ أُخوَّتهم وقُربهم وتعاونهم، وكذلك الشعوب إذا اختلفت أسماؤها يجب أن لا تُضيِّعَ إنسانيَّتها، ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ﴾ لا لتتقاتلوا وتتعادوا، بل ﴿لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات:13]، هذا الشعب العربي وهذا التركي وهذا الإنكليزي للتعارف، لا للاقتتال والتعادي.
التفاضل يكون بالتقوى
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ﴾ التفاضل بين الشعوب والأفراد ﴿عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:13]، والتقوى هي العِلم والعمل، وكلَّما كنتَ أكثر عِلمًا لِمَا ينفعُك وينفع الآخرين في دنياهم وفي دينهم -وبهذا المقدار- تكون الأكرم والأفضل عند الله عزَّ وجلَّ.. ((لا فَضْلَ لِعربِيٍّ عَلى أَعجَمِيٍّ، وَلا لأَبيَضَ عَلى أَسْودَ إلَّا بالتَّقوَى)) ، يعني إلا بالعِلم والعمل.. فالإسلام نَزَعَ التفاضل بالجنسية واللون والقومية والغِنى والفقر إلا بالعِلم والعمل.
هذه السورة حضٌّ ودفعٌ لقارئها ليركَبَ العاديات، وأن لا يمشي بها الهُوَيْنَى نحو إصلاح الإنسان الكَنود، بل يركض بها بأقصى سرعةٍ، حتى يصير لنفَسِها صوتٌ يُسمَعُ مِنْ بعيد، وليس فقط صوتها، بل يُرى كذلك شَرر حوافِرها في رَكْضِها على الصخور وفي الأراضي الوعرة، ولا يتوقَّف حتى يصير في وسط المعركة.. والجهاد مع مَن يكون؟ مع الإنسان الكَنود، وذلك لمُجاهدته بالتعليم والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونَقْله مِنَ الظلمات إلى النور.
فهدَفُ القرآن والإسلام كلُّه هو الإنسان وبناء الإنسان الفاضِل، لا في محيط الوطن أو القوميَّة، بل في محيط الإنسان في كلِّ هذا الكوكب الأرضي، كما قال الله تعالى للمُعلِّم الأول ﷺ: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ﴾ هل قال: للعرب نذيرًا؟ بل قال: ﴿لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان:1].
تطبيق سورة العاديات
فإذا قرأتَ هذه السورة أيُّها المسلم وأيَّتها المسلمة، هل فهمتَها؟ وإذا فهمتَها هل وطَّنْتَ نفسك لتُحْيِيَها بالعمل؟ بأن تُفتِّش عن فرسٍ تعدُو فتركبها وتتَّجِه بها ركضاً
رَكضًا إلى اللهِ بِغَيرِ زادِ
إلَّا التُّقَى وَعَمَلَ المَعَادِ
فيكون قصدُكَ اللهُ وعملُ الآخرة.
﴿فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا﴾ [العاديات:3] فهل نجِدُك وسط المعركة تهدي الضَّالين، وتُذكِّر الغافلين، وتُصلِح المعوَجِّين بالحكمة والموعظة الحسنة؟ عند ذلك تكون قد قرأتَها وآمنتَ بها.. والإيمان بها أن تنتقل مِنْ مرحلة التصديق والإيمان إلى مرحلة العمل، بحيث تُقرَأُ هذه السورة في صفاتك.. والآن لا توجد خيل، بل توجد دراجة نارية، فعليك أن تركب الدراجة إلى إنسانٍ كَنودٍ لتُصلِحَه وتُحوِّلَه مِن كَنودٍ إلى شَكورٍ، ومِن جَهولٍ إلى عليمٍ، ومِن غافِلٍ إلى ذاكِر، وإذا لم تكن عندك دراجة نارية فالدراجة العادِيَّة، هذه هي: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا﴾ [العاديات:1]، العَدْوُ هو الرَّكض، والعاديات هي الراكضات، والسيارة صارت أيضًا من العاديات: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا﴾ [العاديات:1]، وضَبْحًا الذي للنَّفَس هو زمورها [البوق] وصوت المحرك.. إلخ، فليس المقصود أن نقرأ القرآن ولا نفهمه، فأوامر الله لتُسعِدك ويُسعِدَ الله بك الآخرين.
الإيمان بالقرآن هو فهمه وتطبيقه
هذا هو الإيمان بالقرآن، أمَّا أن تضعه في ثوبٍ مُطرَّزٍ بخيطان الذهب، وتُقبِّل “الخِرْقَة” بشفتيك ولا تفهم منه شيئًا، [الخِرْقَة: قطعة قماش صغيرة بالية، ويُقْصَد بها هنا غطاء المصحف]، وإذا فهمت لا تُوطِّنُ نفسَك على التطبيق والتنفيذ، فهل أنت مؤمنٌ بالقرآن أم جاحِدٌ له ومُعرِضٌ عنه وتُعلِنُ أنك لا تمتثِلُ أوامره؟ لأنك طول حياتك ما قصَدتَ أن تفهمه لتُنفِّذَه وتُطبِّقَه.
فهذه السورة مُوجهةٌ إلى كلِّ مُسلِمٍ ومسلمةٍ ليفتِّشَ عن مركوبٍ سريع المشي وسريع الوصول إلى الهدف، ويكون قويًا بحيث لو وَطئ على الصخر ينقدِحُ الشَّرر، ولا يتراجع إلى أن يصل إلى ﴿فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا﴾ [العاديات:5] إلى وسط وجمْعِ الجهل والجاهليين والغَفْلة والغافِلين والضَّياع والضائعين وإلى الإنسان الكَنود، مثلما يفعل الطبيب، حيث أنّ مُهمَّته أن يصل إلى الإنسان المريض، وإذا كان مرضه خطيرًا عليه أن يركب أسرع مركوبٍ ليُنقِذَه مِنْ خطره.. وهذا الخطر على الجسد الذي هو عُلْبَة [صندوق] الكَرْتُون للساعة الذهبية، فإذا كانت عنايتنا بالكرتون هكذا فكيف بالألماس الذي يوجد داخل الكرتون التي هي الروح والنَّفْسُ والعقل؟
عندما يَصِل المجاهد إلى المعركة فإن الله تعالى يقول له: هذا هو الكَنود، انزِل إليه، وهنا جهادك.. ﴿وَجَاهِدْهُم بِهِ﴾ [الفرقان:52] يعني بالقرآن وتعاليمه وأخلاقه وآدابه حتى تُلَبِّسَهُ إياها، وتُوصِله بماء سمائها حتى يكون طاهرًا ومُطهِّرًا.
القرآن مصدر الحياة الراقية
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ [العاديات:6] كَفورٌ جَحودٌ ناسٍ لله، مُضيِّعٌ لأوامر الله، ومُرتكبٌ لمحارِمِ الله، وبسبب ذلك يبقى واقعاً في الشقاء والحرمان مهما تقدَّم في أمور المادة والحياة.
أمريكا الآن هل وصلَتْ إلى ما أوصلَ القرآنُ العربَ مِنْ سعادةٍ وإنسانيةٍ وربانيةٍ وأخلاق؟ كان النَّبيُّ ﷺ يقول في الفقر: ((ما آمَنَ بي -ساعةً مِن نَهارٍ- مَن أَمسَى شَبعانَ وجارُه جائعٌ إلى جَنبِه وهو يَعلَمُ)) ، يعني في القانون الإسلامي لا يجوز أن يوجد جائع.. ولَمَّا فتَحَ خالدٌ رضي الله عنه الحيرة -وهي مدينةٌ في العراق- وكان لها شأنٌ في ذلك الوقت، وعقَدَ المعاهدة فيما بين خالد بن الوليد رضي الله عنه وأهل البلد وهم نصارى، وعلى نصرانيتهم كان مِنْ جملة بنود المعاهدة: الضمان الاجتماعي؛ أيُّ شخصٍ مِنْ سكان البلد إذا عجَزَ عن أداء دَينه، فلا حقُّ الدائن يضيع، ولا المدين يبقى تحت ذلِّ طلب الدائن، قال: فيقوم بيت مال المسلمين بأداء دَين ذلك المدين العاجِز عن أدائه.. هل يوجد في أوروبا وأمريكا واليابان مثل هذا الضمان الاجتماعي؟ وإذا عجزَ عن العمل لشيخوخةٍ أو مرضٍ أو بطالةٍ وعدم عملٍ فنفقته الحياتية على بيت مال المسلمين، هذا مع النصارى! لأنهم صاروا مِنْ رعيَّة الدولة الإسلامية، ولذلك لَمَّا كان المسلمون يُحاصِرون بلدةً يحكُمها الرومان -ولِمَا عرفَت الشعوب من هذه القوانين الإسلامية الإنسانية الملائكية التي هدفها إسعادُ الإنسان أيَّ إنسانٍ كان- كانوا عونًا للعرب المسلمين على حكَّامهم النصارى في فتح مُدنهم، ليستلِم الإسلام والقرآن قيادتها وسياستها.
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ [العاديات:6] جَحودٌ يجحَدُ نِعَمَ الله عزَّ وجلَّ وفضله، فهو خَلَقَك مِنْ نطفةٍ ومِنْ ذرَّةٍ، ووَهَب لك السمع والبصر واللسان والجوارح والأعضاء، وأعطاك الأعصاب، وركَّب لك العِظام، وجعل لك العضلات للقوة وكذا وكذا.. فهل شكَرتَه؟
إنك إذا عطِلَ سِنُّك وتسوَّس يضع طبيب الأسنان المخرز في سنِّك، وتمضي شهراً وشهرين إليه ذهاباً وإياباً ليُصلِحَ سنًّا واحدًا، وإذا ذهبَت أسنانك يضع لك بَدْلَةً إذا سعَلْتَ قد تخرج إلى الخارج، وإذا عضضتَ تفاحةً بدل أن تصبح التفاحة في فمك تصبح أسنانك على التفاحة، [بَدْلَة أسنان: مجموعة مصنوعة لكامل الأسنان، توضع في الفم وتُخرَج بسهولة، وقد كانت واسعة الانتشار في زمن هذه الدرس].. فهل تشكُر هذا الخالِق العظيم! وقد أرسل لك هديةً كتابًا، وأيُّ كتاب! ﴿لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت:42].
أثر الإسلام في حياة المسلمين الأوائل
كتابٌ واحدٌ إلى أمَّةٍ تعيش في الصحارى جوعًا وعطشًا يأكلون الميتات، ومِنَ الفقر يذبحون أولادهم ويدفنون البنات، جعَلَهم أعظَم وأعلَم وأعزَّ أهل الأرض، وبأقل المدد والتكاليف.. إنك حتى تأخذ ليسانس من أمريكا في فرعٍ مِنْ فروع العلوم تحتاج إلى عشرين سنة مِنَ الابتدائي إلى التخرج، وسيِّدنا عمر رضي الله عنه إلى كم سنةً احتاج في الجامعة الإسلامية؟ “لا إله إلا الله مُحمَّد رسول الله” وصُحبةُ النَّبيِّ ﷺ.. وقد صحبوه ﷺ بحُبّ، وبهذا الحب كانوا يفدونه بآبائهم وأمهاتهم وأموالهم.. والحُب مثل ربط المصباح بالتيار الكهربائي، فإذا كان خمسة آلاف شمعة، ورُبِطت بالتيار تقلِبُ الظلمات إلى نور، وإذا لم يكن لها هذا الربط والرابطة فلو كان مئة ألف مليون شمعة فضوء السيجارة في الليل يبث النور أكثر منه، فالرابطة كانت رابطة الحُب، وكانوا يفدونه بأرواحهم وأموالهم وأولادهم، فهل خسروا؟ وهل غُشُّوا؟
إعراض الإنسان عن الله وتعاليمه
قال: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ [العاديات:6-7] إعراض الإنسان عن الله وتعاليمه شيءٌ مُشاهَدٌ ومعروفٌ: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ يعني عن القرآن وثقافته وعلومه والعمل به كائنًا مَنْ كان ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ معيشة الهوان والذلِّ والشقاء والتعاسة، ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا﴾ القرآن ﴿فَنَسِيتَهَا﴾ [طه:124-126]، الآن اسأل أيَّ مسلمٍ عن سورة العاديات هل يفهم منها شيئًا؟ هل يعمل منها شيئًا؟ هل يقوم ويركب العاديات بأقوى ما يُمكن حتى يُسمَعُ نفَسُها مِنْ ألف مترٍ ضَبْحًا ضَبحًا، وتصير حوافِرها تقْدَحُ قَدحًا قَدحًا، حتى يصل إلى قلب المعركة ولا يخاف العدو، ﴿فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا﴾ [العاديات:5].
قدسية خيول الجهاد
أُقسم بهذه الخيول وبصفاتها.. وإذا صار لهذه الخيول شرف القدسية حتى صارت يمين الله فبمَن شُرِّفَت؟ هل بحوافِرها وشعرها؟ لا، بل شُرِّفَت بركَّابها وفُرسانها وأهداف فُرسانها الذين يُريدون أن ينقُلوا العالَم مِنَ التخلُّف إلى التقدُّم، في الدِّين والدنيا، في العقل والنفس، في الأخلاق والسلوك، فهل آمن المسلم بسورة ﴿وَالْعَادِيَاتِ﴾؟ إذا آمنتَ بورقة المحكمة أنه في يوم الاثنين في الساعة الواحدة عليك أن تكون في “المخابرات” رقم (215)، فهل تستطيع أن تتخلف وتأتي في الساعة الثانية؟ لا، لأنك مؤمنٌ أن الطاعة والانقياد والاستجابة واجبٌ عليك، [المُخابَرات: سلطة الأمن في الدولة] فهل المخابرات أعظَمُ أمِ الله؟ لكن عمليًّا هل النَّاس يُعظِّمُون شرطيَّ السير أكثر أمِ الله؟ الرجل الذي يقود سيارته على اليسار بمجرَّد ما يرى الشرطيَّ يقود فورًا باتجاه اليمين، أليس كذلك؟ واللهُ تعالى دائمًا يراك وأنت تُخالِفُ أمره وأنت جاهلٌ وحيَهُ ورافِضٌ كتابَه ولا تتعلَّمه.. والتَّعَلّم ليس قراءة الألفاظ فقط، بل عليك أن تتعلَّم الهدف مِنْ آيات القرآن لتحوِّلَها مِنْ كلماتٍ تُكتَبُ وتُنطَقُ باللسان إلى أعمالٍ عظيمةٍ يُبذَلُ في تحقيقها كلُّ الجهود والطاقات، لتكون ذلك الإنسان المؤمن المسلم.
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ [العاديات:6] [هنا يتكلم الشيخ عن تلامذته الدعاة الذين رباهم ويقومون بالدعوة في سبيل الله] كثيرٌ منكم واللهِ يركَب العاديات ضَبْحًا وتكون العادياتُ المورياتِ قَدْحًا، وأيضًا يكون ﴿فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا﴾ [العاديات:5] في وسط المعركة وهو مُقبِلٌ على الإنسان الكَنود ليجعله الإنسان الشَّكور، وعلى الإنسان الجَّهول ليجعَله الإنسان العالِم، وعلى الإنسان الغافل ليجعَله الإنسان الذَّاكر، وعلى الإنسان الذي هو دميةٌ بيد الشيطان ليجعَله نورًا مِنْ أنوار الرحيم الرحمن.
ولكن يوجد أيضًا أناسٌ منكم لا توجد لديهم العاديات ضَبْحًا ولا الحمير نَهقًا في طريقه إلى الإنسان الكَنود ليَهدِيَهُ ويُنقِذَهُ مِنْ كُنودِه إلى تقواه وإيمانه وإسلامه، فما رأيكم؟ إذا حَلَفَ الله بالخيل وبالبغال في سبيل هداية الخلق فهل الفضل للخيل أم لراكِبها؟ فكيف راكِبُها؟
تطبيق السورة في الحياة
هل لديكم استعدادٌ لتؤمنوا بسورة ﴿وَالْعَادِيَاتِ﴾ وتُطبِّقُوها في ميدان العمل والحياة؟ تفقَّدْ أهلك وجيرانك: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم:6] وإذا انتهيتَ منهم فمَنْ حولك: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء:214] هذا هو الإسلام، وليس إسلام الكلام والهوية، وأظنُّ أنه حتى في الهوية لم يبقَ أيضًا، أليس كذلك؟ [كان مكتوباً على الهوية أو البطاقة الشخصية في سوريا دين الشخص، ولكنه حذف قُبَيل تاريخ هذا الدرس، وهو عام 1996م]، هل يوجد إسلامٌ بالهوية؟ لا، وحتى بالهوية لم يبقَ الإسلام! فليكن إسلامك بهويَّة أعمالك، وليكن إسلامك بالهوية الربَّانية، ومكتوبٌ عند الله أنك مؤمن.. لقد سمعتَ اليوم ﴿وَالْعَادِيَاتِ﴾ وآمنتَ بها، فعليك أن تنظر مَنْ مِنْ أقاربك وجيرانك وأولادك في البيت وغيرهم [تُطَبِّق فيهم هذه الآيات].. ولا تقل: لا يمكن، يُقال: “مَنْ دقَّ الباب..”، إذا دققتَ أول دقَّةٍ ولم يردُّوا عليك ماذا تفعل؟ تدقُّ مرةً ثانية، وإذا لم يردُّوا أيضًا، وقال لك أحدهم: ربما هم نائمون، تقول: لا، لقد سمعتُ صوت نعالهم في البيت، ولكنهم لا يُريدون أن يفتحوا.. إذاً دقَّ أكثر ولو أزعجتهم قليلًا.. يُقال: “مَنْ دقَّ الباب ولجَّ وَلَج”، يُفْتَحُ الباب ويلِجُ ويدخل الدار.
شهادة أعمالنا علينا
﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ [العاديات:7] أعمالك كلها تشهد عليك أنك كَنودٌ لله ولست بالشكور، مع أنك تسمع المؤذن وتقرأ القرآن: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [الانشقاق:6]، لو قالوا لك: غدًا يوجد لقاءٌ مع الأمن رقم كذا، أو في المحكمة الفلانية أو كذا، أو مع التاجر الفلاني أو البضاعة الفلانية، ففي اليوم التالي تعمل بمقتضى عِلمك وما أُخبِرتَ وعُلِّمتَ.. وربُّ العالمين يُخاطبك ويقول: ﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ [العاديات:7] فتِّش نفسَك، هل أنت مؤمنٌ شكورٌ؟ هل أنت مؤمن تقيٌّ؟ هل تُؤدي أوامِر الله عزَّ وجلَّ في نفسِك وأعضائك وأهلك؟ وإذا رأيتَ منكرًا هل تُنكِرُه بالقول والعمل وبالحكمة والموعظة الحسنة؟ عليك أن تكون كالطبيب مع المريض، فإذا كان الدواء مُرًّا والمريض طفلًا فإنك تمزِجُ مع الدواء المرِّ سُكَّرًا، وتُلبِسُ الدواء بالشوكولا أو تخلِطها به حتى تستسِيغها نفسه الضعيفة الصغيرة، ﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ [العاديات:7] أنت كَنودٌ مُقصِّرٌ مع الله عزَّ وجلَّ.. فتِّش نفسَك، وقبل كلِّ شيء اجعل الهجوم على نفسك؟
محاسبة النفس
﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية:23] جاهِد: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت:69] فتِّش نفسك، لقد كان بعض السلف الصالح مِنَ الصباح يضع الحصى في كيس، فإذا عمل حسنةً يضع حصاة في جيبه اليمنى، وإذا عمل سيئةً يضع حصاة في جيبه اليسرى، وفي المساء يَعُدُّها، فإذا كانت حصيات الحسنات عشرة والسيئات خمس عشرة يقول: زادت سيئاتي اليوم، فيستدرك في المساء حتى الحسنات يُذهبنَ السيئات.. كان إيمانهم بالقرآن إيمان العمل، وإيمانهم بالإسلام إيمان العِلم والفهم والتطبيق، وإذا أخذتَ كمبيالةً [شيك] فلم تفهمها، أو قرأتَها لكن لم تعرِفها، وإذا عرَفتَها لم تقبضها من البنك، وأنت جائعٌ وعريانٌ ونائمٌ في العراء، والكمبيالة مليون دولار، وأنت تقرؤها أمام النَّاس، وهم يسمعون قراءتك ويرونَك بهذا الشقاء وهذه التعاسة ماذا يقولون عنك؟ يقولون: لو أُعطِيَت هذه لحمارٍ فإن الحمار لا يفهم بالكمبيالات، وإذا أُعطِيَتْ لإنسان وصار مثل الحمار.. فالحمار لا يُعاتَب لأنه ليس لديه قدرة على الفهم، وإذا ذهب إلى البنك ومعه الكمبيالة هل يُعطونه؟ بل يأخذونها منه ويقبضونها هم. [يعني: هذا شخص أدنى من الحمار].
الحرص على فعل الخير
كان الأعرابي يأتي إلى النبي ﷺ ويقول: علِّمني وأوجِز، فيقرأ له: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)﴾ يعني يرى الجزاء والأجر على الخير ولو كان مثقال ذرة، يعني احرص على الخير مهما كان ضئيلًا، ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7-8] فيصيح الأعرابي ويقول: “كفَتْني كفَتْني!” لأنه أتى ليفهم القرآن عِلمًا وعملًا وتطبيقًا، وأنت عندما تقرأ القرآن هل تقرؤه لتعلَمه وتفهمه وتعمل به وتُعلِّمه للناس وتقوم بنشر رسالته في أعمالك وأحوالك وبالصدق والإخلاص؟ عند ذلك تكون مؤمنًا بالقرآن: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة:121].
﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ [العاديات:7] فتِّش نفسَك، هل أنت كَنودٌ أم شكورٌ أو تقيٌّ صالحٌ مُستجيبٌ لكلِّ رسالة الله عزَّ وجلَّ وكتابه وقرآنه في نفسِك وأهلِك وفيمَنْ حولك وفيمَنْ رأيتَ؟ و: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:286]، ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة:195]، ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ [الطلاق:7]، فإذا استعملنا القوة الممكنة ألا يُصير الإنتاج أكثر مما هو عليه الآن؟
الدعوة لمن حولك
يا تُرى لو دعا أحدكم جيرانه أو رفقاءه في الأسبوع لشُرب الشاي لأجل سورة العاديات، [شرب الشاي عادة شعبية يجتمع فيها الناس لشرب الشاي وتبادل الكلام].. مع أن الدعوة لكأس الشاي لا يوجد بها عادياتٌ، إلا إذا اعتبرنا صوت بَبُّور الشاي من العاديات ضبحاً! [البَبُّوْر هو الموقد الذي يعمل على الكاز وله صوت، وكان واسع الانتشار في أول القرن العشرين ووسطه]، هل يكون هذا ضَبْحًا؟
وقد يسمعون لك نصف ساعة، فذكِّرْهُم.. وليس شرطًا أن يستجيبوا كلهم، ولا أن يستجيبوا مِن أول مرَّة، بل تحتاج إلى التكرار، وعلى كلِّ حالٍ فالمسجِّل الإلهي يسجِّل لك جهادك ودعوتك وأَمْرك بالمعروف ونَهْيك عن المنكر، وأنت ماذا يُهمُّك إن استجابوا أم لا؟ هل أخذتَ الأجرة أم لا؟ وهل الأجرة مُسجَّلةٌ أم لا؟ ألا تكفيك؟ وهل يكون الإسلام بهذا أم بتَرْكِه؟ هل تُعاهدونني على أن تؤمنوا بسورة ﴿وَالْعَادِيَاتِ﴾ إيمان التطبيق؟ واليوم لا تحتاج إلى خيلٍ أصيلة كما ذكرها القرآن: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا﴾ [العاديات:1]، بل يمكن أن تكون على الدراجة العادية، والله تعالى يجعلها لك في الآخرة مِنْ الخيل الأصيلة، ويجعلها لك مرسيدس (500) على الصراط.. نسأل الله أن يُفَقِّهَنا في الدين: ((مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفقِّهْهُ في الدِّينِ)) . [سيارة مرسيدس (500) كانت أحدث طراز في الإنتاج في تاريخ هذا الدرس].
الإسراع إلى الهداية
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ [العاديات:6] انظُر لنفسِك أيضًا قد تكون أنت الكَنود وأنت الكَفور وأنت العاصِي لله عزَّ وجلَّ، جاهِد نفسك بهمَّة العاديات ضَبْحًا، وأسرِع إلى هداية نفسِك قبل أن يُسارِع إليك الموت، وأسرِع إلى مجالس العِلم قبل أن تفقِدَها.. ﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ [العاديات:7] لا يستطيع الإنكار، ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [يونس:31] مَنْ يُنزِّلُ الأمطار مِنَ السماء؟ ومَنْ يُخرِجُ الفواكه والخضار مِنَ الأرض؟ ﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ [الأنعام:95] يُخرِجُها: ﴿سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ﴾ [البقرة:261].. مَنْ يفلِقُ النواة؟ مثل بذرة المشمش، أو بذرة التين التي بحجم رأس الدبوس، حيث يطوي شجرةً كبيرةً في بذرةٍ صغيرة.
فعلى المؤمن أن يُفتِّش نفسَه، ﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ [العاديات:7]، وأن يستدرِك قُصوره وغفلَته بالذِّكر، وجهلَه بالعِلم، وكسَلَه بالعاديات.
مجالس الناس اليوم ومجالس المؤمنين
تسهر مع رفاقك ساعةً وساعتين وكلّها إما لغوٌ أو إثم أو غيبةٌ أو نميمةٌ أو حسدٌ.. وأحسن الأشياء فيها أن تكون كلاماً بطَّالاً لا خيرَ فيها ولا شرَّ، ولكن ما هكذا سهرات المسلمين في القرآن، الله تعالى قال: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾ النَّجوى عندما يجتمع الأصدقاء والأصحاب مع بعضهم ويتحدثون ويتسلون، يقول الله تعالى عنها: لا خيرَ في كثير مِنْ تلاقي النَّاس بعضهم مع بعضٍ ﴿إِلَّا﴾ نجوى وسهرة واجتماع ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوف﴾ [النساء:114]، مَنْ مِن الموجودين ترَكَ واجبًا مِنَ الواجبات نُذكِّرُه بلُطفٍ وحكمةٍ وشيءٍ يتناسب مع قابليَّته.. والنَّاسُ بخير، لا تقُلْ: هذا لا يَقبَل، أنت على كلِّ حالٍ ارمِ البِذارَ والمطرُ على فضل الله عزَّ وجلَّ، فهل يجوز للفلاح أن يمتنع عن رمي البذار لأنه يظن أنه ربما لن ينزِل المطر؟ هل يفعلها الفلاح؟ لا، بل نرمي والباقي على فضل الله عزَّ وجلَّ، وحاشا لفضل الله! كما قال تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ توبوا إلى الله توبةً نصوحًا ﴿إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ توبوا التوبة الصادقة، ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ﴾ يجعل السماء بيدِكم، ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾، كالمزاريب، وهل هذا فقط؟ لا، بل: ﴿وَيُمْدِدْكُمْ﴾ هل قال: بالفقر والجوع والمسكنة؟ هل الآية هكذا؟ بل قال: ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ [نوح:10-12]، فالله تعالى جعل علامة التقوى الغِنى، هل هذا صحيح؟
علامة التقوى الغِنى
والنبي ﷺ يُوضِّح أكثر مِنْ هذا فيقول: ((كادَ الفَقرُ أنْ يَكونَ كُفرًا)) ، فهل معناه افتَقِروا أم استغنوا؟ والغِنى هل يصير بالكسل أم بالعمل؟ هل يصير بالأخلاق أم بلا أخلاق؟ هل يصير بالفِكر أم بلا فِكر؟ وبماذا امتنَّ الله عزَّ وجلَّ على النَّبيِّ ﷺ؟ هل بالفقر أم بالغِنى؟ قال له: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى:8] والمسلمون لَمَّا استجابوا لله وللرسول ماذا قال لهم النَّبيُّ ﷺ؟ قال: ((ألَمْ أجِدْكُمْ عَالَةً)) فقراء ((فأغْنَاكُمُ اللَّهُ بي؟)) ، إنّ الإسلام دِين الغِنى، ولكن كان المشايخ -رحمهم الله وغَفَرَ لنا ولهم- في الماضي يدعون للفقر ويُعلِّمونه ويتباهون به، فالله تعالى يدعو إلى القوَّة والعزَّة، وهم يتباهون بالعجز والضَّعف، فإذا كَتَبَ الشَّيخ رسالةً ماذا يكتب في توقيعه؟ الفقير، والثاني يكتب: الحقير، والثالث: العاجِز، والرابع قد يكتب: المفلوج أو مُقطوع الأيدي والأرجل، [هذه الجملة الأخيرة يقولها الشيخ على سبيل البيان وبأسلوب فكاهي]، ولكن اللهُ تعالى قال: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون:8].
والنبي ﷺ يقول: ((الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ)) ، ولكننا حرَّفْنا القرآن والإسلام عن مواضعه، فوصلْنا إلى ما نحن فيه، حتى إن شُذَّاذ الآفاقٍ تلَملَموا مِنْ مزابِل العالَم وهم يتحكَّمون في العالم العربي والإسلامي، لمَ؟
مُحمَّدُ هل لِهَذا جِئتَ تَسعَى؟
وَهَل أَتباعُكَ هَمَلٌ مَشَاعُ؟
أَإسلامٌ وَتَهزِمُهُم يَهودٌ؟
وَآسادٌ وَتَأكُلُهُم ضِباعُ؟
أَيُشغِلُهُم عَنِ الجُلَّى نِزاعٌ؟
وَهَذا نَزْعُ مَوتٍ لا نِزاعُ
شَرعتَ لهم سَبيلَ المجدِ لَكِنْ
أَضاعُوا شَرعَكَ السَّامِي فَضاعُوا
“شَرعتَ لهم سبيل المجد”: عَبَّدتَ لهم الطريق مثل “البَلُّوْر” [لوح الزجاج] فلا توجد فيه حصاة ولا حفرة بحجم حصاة، وشَرعتَ لهم طريق المجد والعزِّ والقوَّة والعَظَمة.. وأنتم عليكم أن تقوموا لأن معركتنا مع الاستعمار والصليبية والصهيونية معركةٌ دونَها بكثيرٍ الصليبيةُ التي خاضَها صلاح الدين، ولا نستطيع الانتصار إلا بما أخبرنا به نبيّنا عليه الصلاة والسلام: ((لا يَصلُحَ آخِرُ هَذهِ الأُمَّةِ إلَّا بما صَلَحَ عَلَيه أَوَّلُها)) ، بأيِّ شيءٍ صلَحوا؟ بعلوم القرآن والعمل به والتعليم له، لا لألفاظه، بل لأحكامه وواجباته، والتعليم يكون بالعِلم والنُّطق والتفهيم والعمل والسلوك.. ((وَلَأَنْ يَهْديَ اللَّهُ بِكَ رجلًا واحِدًا، خَيرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيا وَما فِيهَا)) .
محاسبة النفس
﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ [العاديات:7] فتَّش نفسَك هل أنت كنودٌ أم لا؟ ربما تجد في نفسك خمس مئة خطأ، فنظِّف نفسَك، وإذا لم تَنظُف في أول استحمامٍ فاسْتَحِمّ ثانية وثالثة، وإذا لم يتعافَ المريض مِنْ أول وصفةٍ يُكرِّر له الطبيب، وإذا لم يتعافَ أيضًا يُكرِّرها له، وإذا استمرَّ كذلك يقول له: طوال عمرك سيكون لديك أمراض، ويجب أن تستعمل الدواء طوال الحياة.. ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ﴾ للمرضى، وماذا عن الأصحَّاء؟ ﴿وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء:82]، وإذا أراد أحدٌ أن يقرأه للقراءة فقط فلا يزداد بقراءته إلا خسارةً وبُعْدًا عن الله عزَّ وجلَّ: ((رُبَّ تالٍ يَتلُو القُرآنَ وَالقرآنُ يَلعَنُه)) ، فهو يقرأ في القرآن: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود:18] وهو ظالِم، ﴿لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران:61] وهو كاذِب.
حب المال والمادة
﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ﴾ [العاديات:7-8] ما الذي سلَبَ عقله وإيمانه وإسلامَه وقرآنه؟ حبُّ المال وحب المادة، وحاله: لا إله إلا المال ولا إله إلا المرابح، وله تجارات بالبَرِّ والبحر، ويعمل في الليل والنهار.. إننا نشتغل للدنيا عشرين ساعة، وأين شُغلنا للإسلام؟ القرآن في زمن النَّبيِّ ﷺ كان مكتوبًا على الأحجار، فهذا الذي كَتَبَ خمس آياتٍ وهذا عشر آياتٍ، وهذا على ورق النخل، فقد كان القرآن بهذا الشكل، ولكن ببركة المعلِّم وتعليمه وتربيته ما خَلَقَ الله أمَّةً مِنْ آدم وإلى أن تقوم الساعة بمثل فضائلهم وشرَفِهم وعزَّتهم وكرامتهم، وقد وصَفَهُم الله تعالى بقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ يعني أفضل أمَّة ﴿أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ بمَ؟ قال: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [آل عمران:110]، فإذا رأيتَ تاركًا لواجبٍ عليك أن تُعلِّمهُ وتُذكِّرهُ بالحكمة والموعظة الحسنة، كالطبيب عندما يأتيه المريض ورجله مكسورة هل يقول له: أيها الأحمق لماذا خلق الله لك العيون؟ لماذا كسرتَ رجلك؟ يقول المريض: وقعت في الحفرة، هل يقول له: هل أنت أعمى؟ يجب أن نقلع لك عينيك لأنك لا تستفيد منهما.. وهل يعمل من نفسه قاضيًا عليه، ويضربه بالعصا فيكسر رجله الثانية؟ هل هذا طبيب وحتى لو كان معه خمسين دكتوراه؟ هل هكذا يكون التَّصرُّف الصحيح؟
والصحابة هل دخلوا الأزهر؟ هل أخذوا ليسانس ودكتوراه وماجيستير؟ كان حُبُّهم للنبي ﷺ الذي هو رابطة الحُب [هو سبب نجاحهم وعظمتهم]، فأحدهم يترك مالَه وأهلَه وبلده ووطنَه وتجارتَه وأعمالَه مُهاجرًا مِنْ مكَّة إلى المدينة، فهل توجد هذه الرابطة الآن بين المسلم وبين نائب رسول الله ﷺ ((العُلماءُ وَرَثَةُ الأَنبياءِ)) ؟ ومثل هذه الرابطة كرابطة “فَرَكونة” [مقطورة القطار]، فلو أنّ خمسين “فَرَكونة” محمَّلة بأفضل البضائع، ولم ترتبط بالمُحَرِّك الرئيس الذي يَجُرّها فتبقى في مكانها، حتى لو بقيتْ ألف سنة ومليون سنة.. فإذا لم تكن لك رابطة الحُب والامتثال للتعليم القرآني [فلا تستفيد من سماع القرآن].
أنتم اليوم تسمعون في الإذاعات عن اليهود، وكثير من الناس يقولون: بِيْرِيْزْ [أفضل من غيره.. وبيريز هو شمعون بيريز الذي كان رئيس إسرائيل]، وهل الحَنَش [الثعبان] أفضل أم الحَيَّة؟ [يأتي سماحة الشيخ بهذا الكلام ليُبَيِّن أن المسلم عندما يبتعد عن القرآن والعلماء يضل في أحلام عدوه وينشغل بأتفه الأمور، وهي في حقيقتها كاذبة خادعة، فبالنسبة للعربي المسلم هل يختلف الأمر معه إن كان رئيس إسرائيل بيريز أو غيره؟ أليسا سواء في العداوة وقتل المسلمين؟ وهذا الحديث كان ينشغل به كثير من دعاة القومية والعروبة، والذين ما كانوا حينها يهتمون بالإسلام والقرآن، بل يرون الدين رجعية وتخلفاً.. وبما أنهم كانوا يتجادلون في أيهما الأحسن قال الشيخ:] بل الأحسَن هو القرآن، ولكن لا قرآن القراءة والصوت الجميل، بل قرآن الفهم والعِلم ثم التعليم.. فيجب عليك أن تُعلِّم، وبذلك تكون الأجود: ((وَأَجوَدُهُم بَعدِي رَجُلٌ تَعَلَّمَ عِلمًا فَعَلَّمَه، يُحشَرُ يَومَ القِيامةِ أُمَّةً وَحدَهُ)) ، فالنَّبيُّ ﷺ يقول: الإسلام عنده طاقةٌ تجعل الإنسان الفرد لا بعشرةٍ وعشرين ومئة، بل عنده طاقة ليجعل الإنسان بقيمة أُمَّة ووزن أمَّةٍ في العطاء والقوَّة والعَظَمَة، وهناك أمَّةٌ لا تساوي شيئًا.
الأمة بالاستعداد وليست بالعدد
دخل رجلان مسجد رسول الله ﷺ وعلى مَشهدٍ منه، أحدهما سمينٌ وبدينٌ وكبيرٌ مِنْ كبار الأغنياء والآخر مِنَ الدراويش وبثياب بالية، فقال النَّبيُّ ﷺ لأصحابه: ((هل تَنظُرونَ إلى الأَوَّلِ؟)) قالوا: نعم، قال: ((وَالثَّاني؟)) قالوا: نعم، فقال: ((لَهَذا الفَقيرُ خَيرٌ مِنْ مِلءِ الأرضِ مِنْ مِثلِ ذَلكَ الغَنيِّ)) ، لم يقُل: خير مِنْ ضيعةٍ أو سكان مدينةٍ، بل مِنْ سكان أهل الأرض كلها، لأن مئة مليون صفرٍ على اليسار ماذا تفيد؟ وإذا جاء واحدٌ صار على يمينهم ماذا تصير؟ نسأل الله أن يرسل للمسلمين ذلك الواحد.. هم الآن مليار ونصف، والذباب كم عدده؟ كم مليار؟ هل الأمَّة بالعدد أم بالاستعداد؟
﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ [العاديات:7] ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء:14-15].
﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات:8] الله تعالى يقول لنا: هل يجب أن يكون حُبنا للمال شديدًا أم لله ورسوله ووارِثه؟ ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ﴾ [العاديات:9] هل تتذكَّر عندما: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾ [الانشقاق:1]، ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾ [الانفطار:1]، و﴿بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ﴾ [العاديات:9] وانشقت الأرض وخرجْتَ مِنْ قبرِك إلى مواقف القيامة والمحكمة الحقوقية أو الجنائية أو الجزائية أو العسكرية أو الربانية، ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ [طه:102]، ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران:106] الذي هو مِنْ قبرِه وجهه أسود وأزرق هل يحتاج إلى مُحاكمة؟ هذا فورًا إلى جهنم.
قصة بين مسلم ويهودي عن المحاكمة بعد الموت
يُقال: إن رجلين مسافران أحدهما مسلمٌ والآخر يهودي، وكلُّ واحدٍ كان يقول للآخر: دِيني أحسَن مِنْ دِينك، ودِينك لا ينفع، فقال أحدهما للآخر: كلُّ واحدٍ هكذا يدَّعي، فلنأخذ عهدًا بيننا أن الذي يموت قبل الثاني يأتي للثاني ويقول له ماذا حصل معه، لأن الحقيقة تظهر بعد الموت.. وفي الطريق رأوا شجرة تِيْنٍ فصعد اليهودي ليقطُفَ منها فجلس على غصن مُسَوِّسٍ، فوقع به وسقط على رأسه ومات، فدفَنه المسلم، وقال: إن شاء الله سيأتيني في المنام لأشفي غليلي منه، وفي تلك الليلة رأى اليهوديَّ في المنام، فقال له: أنت الآن ذهبتَ إلى دار الحق، قُل لي: ألا يوجد حساب وسؤال الملَكين؟ فقال له: لم أر شيئًا من هذا، فقال له: أيضًا في الآخرة تكذِب.. قال: أبدًا أنا لا أكذب، فقال له: كيف؟ فقال: والله مِنْ رأس التينة إلى الأرض إلى جهنم فورًا، فقال له: هل رأيتَ الصراط والحساب وأنكَر ونَكير؟ قال: لم أرَ شيئًا.. مِنَ التينة دُقَّت رقبتي إلى جهنم.
فيجب علينا أن نصير مسلمين بالعلم والعمل، وهل تكون طبيبًا بالادعاء، أو لأن جدك كان طبيبًا؟ وهل تكون حكيمًا بالادعاء، أو لأن جدك كان حكيمًا؟ إنّ اللقب لا يصنع منك حكيمًا.
﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات:8] هل الله تعالى يُرغِّبُنا بحب المال أم يُزهِّدُنا به؟ وليس معنى الزُّهد الترك، بل أن لا يكون المال معبودنا، ونستعمله حسب مخطط الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ [الفرقان:67]، ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ﴾ [الملك:15] نأخذ المال ونُحبُّه، لكن ليس أكثر مِنَ الله ورسوله واتباع أوامره.
مِن أحوال يوم القيامة
﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ﴾ [العاديات:9] فإذا متّ وقامت القيامة هل ينفعك المال؟ وإذا حشرجَت الروح في حلقك وصدرك وضاق بها الصدر هل ينفعك المال؟ وإذا وصلتَ إلى هذا الحال وكنتَ على طرف الآخرة وقيل لك: هيا امشِ.. ودفعوك دفعًا، ماذا ينفعك المال؟
﴿وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾ [العاديات:10] أيضًا كُشِفَ عن خبايا نفسِك، ماذا كنتَ تُضمِرُ مِنْ حقدٍ وغشٍّ ومكرٍ وأذى وكُفرٍ ونفاق وتستر عن الناس! غدًا كله سيُكشَفُ في مواقف القيامة أمام ربِّ العالمين، هذا المَخْفِي، فكيف بالمُعْلَن! تأتي ومعك سائقٌ يسوقك للمحكمة وشهيدٌ يشهدُ عليك، وفوق ذلك ﴿تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ﴾ [النور:24].. إننا اليوم نرى التصوير السينمائي.. فكيف إذا أحضروا لعبد الوهاب غدًا أفلامه عند الله وقال له: ماذا هذا؟ [عبد الوهاب مغنٍ مصري مشهور]، وإذا أحضروا فيلم الرَّقّاص الذي يرقص وفيلم الرَّقّاصَة؟ ﴿تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور:24]، وهل هذا فقط؟
﴿وَحُصِّلَ﴾ [العاديات:10] يكون في قلبك شيءٌ لا تُخرِجُهُ لأنه كله غش، فكله سيُكشَفُ وتُحاسَب عليه، ﴿إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ﴾ [العاديات:11] خبيرٌ بظاهِر أعمالك وخفايا نفسك، وستُحاسب على الكل، فهل آمنتَ بسورة ﴿وَالْعَادِيَاتِ﴾؟ هل نقَّيتَ قلبك مِنْ دخائله التي لو كشَفتَها لخجِلتَ مِنْ كَشْفها.. اللهم اجعل سرائرنا خيرًا مِنْ علانيتنا، واجعل علانيتنا صالحة.. ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران:38].
﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات:8] إذا كان الخير الذي يُحبُّه الله عزَّ وجلَّ فهذا شيءٌ حسن، أما إذا أحببتَ المال حبًّا يُوقِعُك في معصية الله، أحببته بخلًا واستعمالًا للمعاصي، فهذا شقاءٌ وعدَمه خيرٌ مِنْ وجوده.
المهم من القرآن تطبيقه
﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا﴾ [العاديات:1] الله تعالى يحلِفُ بالعاديات بأن الإنسان لربِّه لكَنود، فهل معنى الآيات أن تبقى كنودًا أم أن تُصبح شكورًا؟ هل معنى الآيات أن تبقى على ضلالك أم أن تسلُك طريق الهدى؟ هل معنى الآيات أن تسلُك طريق الجهل أم العِلم؟ هل معنى الآيات أن تبقى مع رِفاق وقُرناء السوء أم أن يكون جُلساؤك ورفاقك مِنَ الصالحين؟ ((الجَلِيسُ الصَّالِحُ كَحَامِلِ المِسْكِ، إِمَّا أَنْ يُعطِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ يَبِيعَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَشمَّ مِنْهُ رائِحةً طَيِّبَةً، وَالجَلِيسُ السُّوءِ كنَافِخِ الكِيرِ)) كُوْر الحداد ((إِمَّا أَنْ يُحْرِقَك بِنارِه، أو يُؤذِيكَ بِشَرارِه، أو تَشمَّ مِنه رائِحةً خَبِيثَةً)) .
فإذا حلَفَ الله بالكُدش وبالأحصنة والفرس، [الكُدش: جمع كديش، وهو يشبه الفرس، ونوع من أنواع الأحصنة العادية، ويستخدمه الفلاحون كثيراً في سوريا]، فهل قُدِّسَت لذاتها أم مِنْ أجل راكِبها؟ وهل كلُّ راكبٍ للعاديات يحلِفُ الله عزَّ وجلَّ بعادياته وخيلِه وفرَسِه؟ بل العاديات التي تركُض في سبيل الله.. وأجسامنا كذلك عادياتٌ تركَبها نفوسُنا وأرواحنا، ونرجو الله أن نستعمل أجسامنا وأوقاتنا وشبابنا ومالَنا وجاهَنا في إصلاح الإنسان الكَنود.
﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ [العاديات:7] فإذا “أَخْذْتَ وأعطيتَ معه” [مصطلح شعبي بمعنى ناقشتَه وجادلتَه] لا يستطيع أن يُنكِر، بل يقول: والله صحيح أنا مقصِّر، أليس كذلك؟ ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات:8]، ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ [الفجر:20]، أَحِبَّ المال، ولكن ليكن الله ورسوله وجهادٌ في سبيله أحبَّ إليك مما سواهم، فالله تعالى لم يقُل: لا تُحِبَّ المال.. ولكن لِيَكُن الله تعالى والنبي ﷺ وطاعة الله وما يُحبه الله أحبَّ إليك مِنْ كلِّ مَحبوب، وإذا لم تعمَل فغدًا بعد الموت ستعود إليك الحياة، وستُحاسَب على كلِّ أعمالك، حتى عن خفايا نفسِك وما يُكنُّهُ صدرك.
إذًا هذه السورة وحدها [تجعلك من الفائزين] إذا آمنت بها الإيمان كما تُؤمن بالسُّم، فعندما تُؤمن بالسُّم في كأسٍ هل تشربه؟ وعندما تُؤمن بالعسل في الشاي الأخضر “والأُكرُك” أَلَا تشربه؟ [الأُكْرُك أو الأُكْرُك عَجَم: عبارة منتشرة في سوريا عن الشاي، وتعني الشاي لذيذ المذاق والمطبوخ بحرفية] وإذا آمنتَ بالعاديات فإنك تُطبِّقُها بشكل كامل، وإذا لم تُطبِّقها فكما إذا كنتَ فقيرًا ويُقال لك: تفضل، هذه صُرَّةٌ فيها ألف ليرة ذهبية.. ولم تأخذها، فهل أنت مُؤمنٌ بهذا القول؟ وإذا آمنتَ ولم تأخذها فهل استفدتَ مِنْ هذا الإيمان؟ فهل لديكم استعدادٌ للإيمان الذي أراده الله عزَّ وجلَّ بأن نؤمن بهذه السورة؟ وإذا آمنَّا كيف سيكون الوضع؟ علينا أن نعدُو عَدْوًا ونركُض ركضًا، سواءً على الخيل رُكبانًا أو نكون مُشاةً، وإذا لم نجد ما نركب فلتكُن أرجُلنا هي العاديات، وإذا حدث لنا تعبٌ أو نَصَبٌ أو كذا: ﴿وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي﴾ [آل عمران:195].
القرآن هكذا يُقرَأ، وهكذا يُعلَّم القرآن: ((خَيرُكم مَنْ تَعلَّمَ القُرآنَ وَعلَّمَهُ)) .
انتهت معكم الآن سورة ﴿وَالْعَادِيَاتِ﴾، ونسأل الله أن يجعلنا مِنَ الذين يستمعون القول فيتِّبعون أحسنه، فهل تستطيعون أن تُعلِّموها هذه الليلة لأقاربكم وأهل بيتكم؟ وغدًا أيضًا لأصحابكم ومَنْ تلقَونه، ولا يُشتَرَط أن تشرحها مِنْ أوَّلها لآخرها، بل بحسب القابلية والإمكان والمناسبات.