على كلّ مسلم ومسلمة أن يكون له طُوره وحِراءه
ما زلنا في تفسير سورة الطّور، والطّور في اللغة العربية هو الجبل ذو الأحراش والمكْسوّ بالأشجار، فإنْ كان الجبل فيه أحراشٌ وأشجارٌ فهو طُور، وإن كان لا أشجار فيه فهو جبل.. هذه السورة سميت بالطُّور إشارةً إلى اعتكاف سيدنا موسى عليه السلام، وعُكوفِه مع الله عزَّ وجل َّروحًا وقلبًا وعقلًا وشوقًا وعِشقًا، وبمرآة ذلك القلب العاشق والذّاكر والمتوجِّه بكليته إلى الله عزَّ وجلَّ تَنَزَّل روحُ القدس.. ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾ [الشعراء:193-194].
ولشرف موسى عليه السلام وقدسيَّته وعشقِه لربه، ولِمَا أَنَزلَ الله عليه من وحْيه من هدىً ونورٍ وسعادةٍ لقومه، قُدِّسَ ذلك الطُّور -وهو الجبلُ ذو الأحراش- وصار يمينًا يُقسِم الله به، وسُمِّيت السّورة باسم الطّور، وليس المقصود الجبل ولا أحراشه، إنَّما المقصود ذلك الحادث العظيم الذي حَدَث فيه، وهو اتصال السماء بالأرض، واتصال رُوح الإنسان بخالقها، وتَنَزُّلُ الرّوحِ الإلهية على قلْب موسى عليه السّلام، لتَسْرِي هذه الروح الإلهية في كل قلب يتصل بموسى عليه السلام حبّاً وارتباطاً وصُحبةً وإخلاصاً، ولتسْريَ إلى قلْب كلِّ مَن صَحِب موسى عليه السلام صُحبةَ الحبّ والصّدق والإخلاص.
ثمّ ليتذكر كلّ قارئٍ وقارئةٍ أنْ يجعل من كلّ مكان يكون فيه مكاناً كطُور موسى عندما نَزَل فيه [موسى عليه السلام] ليتصل بربه.. وهذا الاتصال يكون بالمُجاهدة والذّكر والصّدق والإخلاص والإقبال على الله، وتَرْكِ كلّ ما سِواه وراء الظَهْر: ((إن تقرَّب عبدي إلي شبرًا تقرَّبتُ منه ذراعًا، وإن تقرَّب مني ذراعًا تقرَّبتُ منه باعًا، وإن أقبل إليَّ يمشي أقبلتُ إليه هرولةً)) .
فهذا طور موسى عليه السلام، فأين هو طور سيدنا محمد ﷺ؟
كذلك سيدنا محمد ﷺ ذهب إلى جبلٍ، ولم يكن ذلك الجبل طوراً، جبلٍ في مِنى لا شَجَر فيه، ولكنْ لقدسيَّة رُوح سيدنا محمد ﷺ وعَظَمَته، وصدقِ عشقِه وإقبالِه على ربِّه لم يصبح جبل مِنَى طورًا وأشجارًا، بل جعل من العالَم كلّه جِنان المعرفة، وجعل منه أشجار الحكمة، وجعل من نصف العالَم عائلةً واحدةً وأمَّةً واحدةً.. وأرجو من الله عزَّ وجلَّ أنْ نرى العالَم كلّه أمّةً واحدةً، لأن اللهَ أرسله رحمةً لا للعرب ولا لقريش، ولكنْ: ﴿رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107].
فهذا حِراءُ سيدنا محمّد ﷺ، وهذا طور سيدنا موسى عليه السَّلام، فأين طورك أيّها المسلم؟ وأينَ حِراؤكِ أيّتها المؤمنة؟ ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾ [يونس:87].. كان كثيرٌ من السّلف الصَّالح وأصحاب رسول الله ﷺ، يجعلون في بيوتهم غُرفةً خاصَّةً يَخْلُون فيها بربِّهم، ويُقبِلون فيها على مصدر الرّوح والحياة والجَمال والنُّور الإلهي، حتى صارت قلوبُهم “طورَهم” وصارت قلوبُهم “حِراءَهم”.
فكما نزلت الحكمة والنّور والهدى في “الطّور” وفي “حراء”، فكذلك يصير قلبُ كلِّ مَن أقبل على الله عزَّ وجلَّ طُوراً وحِراءً ونوراً.
ولقد صارت هذه القدسية للطور بالإنسان المعتكف في الطور، وهو سيدنا موسى عليه السلام، الذي به صار الطور مُقَدَّساً.. فالمُقَدِّس هو الإنسان، حيث تَسْري بنور الله عز وجل إلى المكان قُدسيَّةُ السُكّان وقُدسيَّةُ الإنسان.. والإنسانُ العظيم هو الذي يُقدِّسُ المكانَ ولا يُقَدِّسه المكانُ.
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا من أهل “الطور” ومن أهل “حراء” ومن أهل “الكهف”: ﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً﴾ [الكهف:10] فما هي هذه الرحمة؟ إنَّها قبل كلّ شيءٍ تَشمل رحمةَ القلوب؛ الرّحمةَ بالقلوب الجافِية عن الله والميِّتة بِحُبِ ما سِوَاه والمظلِمة بظُلماتٍ بعضها فوق بعض، وذلك لانشغالها بخدمة الجسد الترابي.
وَجَلُ سيِّدِنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه من سورةُ الطور
كان سيدنا عمر رضي الله عنه ذات مرةٍ يمشي في الليل راكبًا حمارَه، فسمع في بيتٍ يقرأ صاحبُه: ﴿وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ﴾ [الطور:1-2] وهذه الآيات كلّها أَيمَان: أُقْسِم بالطٌّور وأقسم بالكتاب المسطور؛ سواءٌ كان الّلوح المحفوظ أو الكتُب السماوية التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه.. فاستمعَ إليها بأُذُنِ القلب، وبأُذُن: ((اعبد الله كأنك تراه)) ، واستمعَ إليها بقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق:37].. إنّ هذه القراءة هي القراءة النافعة، وهناك القراءات الأربعة عشرة، لكننا نحتاج إلى قراءة واحدة، وهي قراءة سيدنا عمر رضي الله عنه.
فنَزَل عن حماره وأسندَ ظهرَه إلى حائط، حتى وصل القارئ إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾ [الطور:7].. أُقْسِم بالطور وأُقْسم بالكتاب المسطور، وأَحْلِفُ وأَحْلِف وأَحْلِف: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾، فتَسِيل عينا سيدنا عمر رضي الله عنه بالدموع، ثمَّ يقول: “إنه لقَسَمٌ واللهِ لعَظِيْم”، وبقي شهراً مريضًا من تَأَثُّره ومن أثر هذه القراءة التي سمعها من سورة الطُّور .. فما أحوجنا إلى مِثْل هذه القراءة! وإلى مِثْل هذه الأُذُن المستمعة!
ولكن إن صار لك قلْب، وأخذتَ هذا القلْب من أهل القلوب، وأخذتَه بإخلاصك وبصدقك فسوف تنال عزَّ الدنيا والآخرة ومجدهما.. إنّه بهذا الكتاب الواحد الذي كانوا: ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ﴾ [البقرة:121]، ويستمعون إليه حقّ الاستماع نالوا سعادة الدنيا والآخرة، حيث إنهم نَقَلُوه كما يُنْقُل المهندس بالقراءة المخطَّطَ المرسوم في الخريطة الورقية، ويحوِّله إلى عِمارةٍ من عشرين طابقًا.. فالعِمارة هي تطبيقٌ للخريطة، والقرآن هو خريطة الله لبناء الجنّة وبناء سعادة الدنيا والآخرة.
وإذا أخذت ورقة الخريطة ونظرت إليها وقرأتها ولم تُحوِّلْها إلى بناءٍ حسب المخطط، فلن تُفيدك مئة مليون خريطة، ولن تستفيد منها لا قراءةً ولا نظرًا ولا “بُرْوَازاً”.. إلخ، [البُرْواز: في اللهجة السورية هو الإطار الذي تُوضَع به الصور والشهادات والأوراق الهامّة لتُعَلَّق على الجدار]، فالقرآن يُقرأ ويُسمَع للعمل وللتخلُّق به.. سُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خُلُقِ رسول الله ﷺ فقالت: ((كان خُلُقُهُ القرآن)) .
ثمَّ حين مَرِضَ سيدنا عُمر رضي الله عنه، لم يدْرِ النّاسُ ما سبب مرضِه.. فكثير من النّاس يمرضون من أجل الدّنيا؛ إمّا بسبب خسارة بضاعته أو كسادها، أو عدم حصوله على ترخيصٍ لعمل ما، أو فاته شيءٌ من المال، أو وَقَع في مصيبةٍ في البدن أو في الأهل..
لقد كان تفكيرهم واتجاههم كلّه للدّار الآخرة، ولمّا صدَقُوا في طلب رضى الله تعالى والدَّارِ الآخرة
ركضاً إلى الله بغير زادِ
إلَّا التُّقى وعَمَل المعادِ
ولمّا أقبلوا على الله عزَّ وجلَّ لحِقَتْهم الدُّنيا وصارت خلف ظهورهم.. وحينما أقْبل النَّاس على الدنيا وجعلوا كتابَ الله وذِكْرَه خَلْف ظُهورِهم سبقتهم الدنيا، فلم يَصِلوا إليها.. ولو أخذوا ذهبها وفضَّتها فإنَّ قلوبهم تبقى مملوءَة همومًا وأحزانًا.. أمَّا أولئك فقد طَلبوا اللهَ فطلبَتْهم الدنيا، وأقْبلوا على الله فصارتْ الدنيا خادِمةً لهم، والله تعالى يقول مخاطباً الدنيا: ((يا دنيا مَن خدمني فاخدميه، ومَن خدمَكِ فاستخدميه)) .
فيقول سيدنا عُمر: إنه “لَقَسَمٌ” يعني يمينٌ “عظيمٌ” يَحْلِف الله به.. يا ترى لو حَلَف لك شخص ألا تصدِّقه؟ وإذا كان صادقاً فإنِّك تقول له: لماذا تحْلِف فأنت صادقٌ مُصَدَّق، ولا حاجة إلى اليمين.. فهل هناك أحدٌ أصدق من الله قِيلًا؟ والله تعالى أقسم للمشركين ولِعَبَدَةِ الأصنام، فصدَّقوه في كلامه وفي يمينه، فصار منهم أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وخالداً وسعداً رضي الله عنهم.. وصار من هذا الحِوار الإلهي مع الإنسان، ومن هذه المدرسة الإلهية السماوية للإنسان، صار معركة اليرموك والقادسية وفَتْح القسطنطينية، والقسطنطينية كانت في ذلك الزمان كواشنطن الآن، وكان عمر القائد الذي فتحها خمساً وعشرين سنة، وهو السلطان “محمد الفاتح”.
وعندما كنتُ في الصِّين في هذه السنة، سألتُ المسلمين هناك عن تاريخ وصول الإسلام إليهم، فقالوا: وصَل إلينا الإسلام في عهد خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، يعني بعد وفاة النَّبي ﷺ بخمسٍ وعشرين سنةً وَصَل المسلمون إلى الصين! ووصلت جنود عثمان رضي الله عنه إلى الأندلس؛ إلى شاطئ إسبانيا، وذلك مِن غير أنْ يكون عندهم مَصاحف مُذهَّبة ولا مُجلَّدة ومُنمَّقة ومُحلَّاة، بل كانوا هُمُ المصاحف بأعمالهم وبأخلاقهم وبقلوبهم وبنورانيتهم، وبإقبالهم على الله، فقد كانت قلوبُهم طُورَهم وكانت قلوبُهم حِراءَهم.. وإن اعتكف موسى عليه السلام في الطُّور، وسيدنا رسول الله ﷺ في حِراء، فَإنّهُم قد عكفوا على الله في طُورِ القلب، كما قال ابن الفارض
وَسِرُّكم في ضميري
والقلبُ طُوْرُ التَّجَلِّي
وصرتُ موسى زماني
مُذْ صار بعضِيَ كُلِّي
إننا نحتاج أن نقرأ القرآن لا للمُدود والإدْغام والقلْقلَة -فهذا شيءٌ لفظيٌّ ولابدَّ منه- بل نقرأه للهدف الذي أُنْزِلَ من أجله: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد:24]، ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص:29] ليتفكَّروا ويتمعَّنوا ويتعمَّقوا في فهم معانيه وبقلوبٍ طاهرةٍ ذاكرةٍ.. ومن أين تُؤخَذ هذه القُلوب؟.. من أين يُؤخَذ “المِعْلَاق” وهو القلْب والرئتان؟ من عند اللّحّامين [الجزَّارين]، أليس كذلك؟ ومن أين تؤخَذ الأحذية؟ من عند “الكُنْدَرْجِيّ” [صانِع الأحذية أو بائعها]، والأقمشة تُؤخَذ من بائعيها، ومن أين تُؤخَذ القلوب [الطاهرة الذاكرة]؟.. اذهب وابحث عمَّن يصْنَع هذه القُلوب، ويصْنَع إيمان القُلوب، ولا تكن: ﴿مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة:41].
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ
﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾ [الطور:7-8] فسيأتي يومٌ تُخرَج فيه مِنْ منزلكَ ومِنْ بلدِكَ ومِن أملاكِكَ ومِن حُكمِكَ ومن سلطانكَ، ومن شبابكَ ومن عزِّكَ ومجدِكَ، وأنتِ من جَمالِكِ ومن قصركِ وزينتكِ وبيتِك المُرَفَّه، إلى قبرٍ وحفرةٍ ومحاسَبةٍ على الأعمال مدى الحياة: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾ [الكهف:49] فيوم القيامة سيعُرَضُ عليك فيلمٌ فيه كلّ أعمالك -والإيمان بالحساب من بديهيات الإيمان والقرآن- فماذا سيكون موقفك وأنت بين يدَي الله عزَّ وجلَّ إذا كان هذا الفيلم مخزياً وممَّا نَهَى الله عنه وحرَّمه وكَرِهَه؟ وأين مالك ووظيفتك، وأين ما كنتَ تُظهِره للنَّاس، وقد ظَهَر الآن ما كنتَ تُبْطِنه! وهل فكَّرت بهذا الأمر وكيف سيكون حالك؟ وهل أنتَ مُؤمنٌ بالقيامة؟ وهل أنتَ مؤمنٌ بـ: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾؟
وهل صدَّقتَ اللهَ في أيمانه؟ وكم من يمين قد حَلَفَ؟ فأقْسَم بالطور: ﴿والطور﴾ [الطور:1]، وأقْسَم بكتاب مسطور: ﴿وكتاب مسطور﴾ [الطور:2]، وأقْسَم بالبيت المعمور: ﴿وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ﴾ [الطور:3] سواءٌ كان ذلك البيتُ الكعبةَ أو البيت المعمور في السموات، أو بيتك المعمور بذكر الله.. فاجعل لبيتك حظًا من العِمَارة بذكر الله: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ [التوبة:18]، ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾ [يونس:87] فالبيت الذي يَتَهَجَّد فيه أصحابُهُ يتراءى لأهل السماء من أنواره كما يُرى الكوكب الدُّرِّيُ لسكان أهل الأرض.
﴿وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ﴾ [الطور5،4] وهو السماء، ﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾ [الطور:6] الممتلئ أو الذي سينقلب إلى نار، والتي هي موجودةٌ تحت القشرة الأرضية: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾.. فالوثنيون صدَّقوا اللهَ في أيمانه وعملوا بما علَّمهم: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾ [الطور:7-8]، [فصاروا أعظم الأمم وأرقاها].
نور الدين الزنكي وحزنه على حصار دِمياط
نور الدين الزّنكي -وهو أُستاذ صلاح الدين الأيوبي- بَقِي على ظهْر جواده خمساً وعشرين سنةً لم يَنزِل عنه يوماً واحداً، أمضاها جهاداً في سبيل الله لمحاربة الغرب، وقد حرَّر خمسين مدينةً من أيدي الصليبيين، كم مدينة حرّر؟ خمسين مدينة.. وما هي قومية نور الدين؟ تركيٌّ من تركستان بالقرب من الصين، فما الذي جاء به من تلك القومية من المشرق الأقصى ليكون مجنَّداً مناضلاً ليحرِّر بلاد العرب؟
وما الذي جعله يرفع الفوارق القومية، ويطوي المسافات الشَّاسعة، وجعل قلبه يُحِسّ بآلام المسلمين في هذه البلاد؟ هذا هو الإسلام! وهكذا يصير قلبُك وعقلك إذا دخل في مَصْنع الإسلام، فإذا وُجِدَ المُصَنِّعُ الحقيقيّ يحوِّل خريطتك الورقية إلى ناطحة سحاب، أما إن بَقي إسلامك على الخريطة ولم يتحول إلى بناء أو فندق أو مسجد، فما الفائدة من الورق! وهل تستطيع النوم في غرفة نَوم مرسومةٍ على الخريطة؟ لقد أصبح إسلام كثير من المسلمين وَرَقيّاً وخرائطيّاً، لا عَملياً ولا تنفيذياً.
ولقد كان نور الدين على قدر عال من الوَرَع والإسلام الصادق.. يُقال عنه: إنّه لمَّا حُوصِرت دِمْياط من قِبَل الإفْرَنْج -ودِمْياط في الخريطة العسكرية تُعْتَبَر الباب لفتْح مِصر، فلو استولى عليها الإفْرَنْج فإن مِصر تصير بلا أسوار- فكان نور الدين وهو في دمشق لا ينام الليل من شدة اهتمامه وحُزْنه وخوفه على المسلمين في مِصر، حتى ظهرت عليه آثار المرض من الهمّ والحَزَن.. وكان من عادته أن يصلي صلاة الجماعة في قصره خَلْف الإمام.
ومن شِدة ما رأى الإمام من هموم نور الدين وأحزانه وخوفه على المسلمين في مِصر، أراد أنْ يُسَرِّيَ عنه ويسلِّيَه كي يُخفِّف عنه حَزَنه، فقال له: يا حضرة السلطان، لقد رأيت حديثاً مُسَلْسَلاً.. والحديث المُسَلْسَل هو الذي يَرويه الرّاوي على الشكل الذي نَطق به النَّبي ﷺ، فإذا نَطق النَّبي ﷺ وهو يشرب من كأسٍ، فإن الرّاوي الثاني يرويه ومعه كأس، وكذلك الرّاوي الثالث أيضاً عندما يأخذ الحديث، أو إنْ كان بيده شيء.. إلخ، فهذا السند يسمُّى بالمُسَلْسَل.
قال له: لقد رأيت حديثاً مسلسلاً، وأحب أن أرويه لك حتى تصير أحد رواته، فقال له: وعلى أي هيئةٍ كان النَّبي ﷺ حتى أتمثَّل بها لأكون من رواة الحديث؟ قال له: نطق به النَّبي ﷺ وهو مُبتسم.. هل يوجد في ذلك أيّ خطأ؟ قال له: فابتسم لأرويَ لك الحديث، وأنا أبتسم لترويه عني، فغضب نور الدين.. هذا وطني، أليس كذلك؟ وقومي، أليس كذلك؟ [يخاطب سماحة الشيخ بهذا السؤال وبطريقة غير مباشرة الذين كانوا يرفعون شعار الوطنية والقومية في سوريا، ويعادون به الإسلام، فيُبَيِّن لهم أن الإسلام يرعى الوطنية والقومية والعروبة ولا يحاربها كما تَدَّعُون] وقال: كيف أبتسم والمسلمون مُحاصَرُون في دمْياط من قبل الصليبيين؟ .
فأرجو من اللهَ عزّ وجلّ أن يجعلنا مسلمين حقّاً.. فإن أردت أن تصير حداداً بحق، عليك أن تلازم المعلّم في سوق الحَدَّادين، وإن أردت أن تصير نجّاراً فيَلْزَمُك المعلّم، وأيضاً إن أردت أن تصير راقصاً.. وإذا أتيت إلى الجامع هل تصير راقصاً؟ نعم، ولكن تصير راقصاً من نوع آخر، فيرقص قلبك من محبة الله إذا جمعك الله بمن يرقصون عشقاً وسُكْراً في مشاهدة جلال الله ونوره في مَرَائِي قلوبهم.
فلم يرضَ نور الدين أن يستمع للحديث لشدة اهتمامه بالمسلمين في مِصر.. وفي تلك الليلة رأى الإمام النَّبي عليه الصلاة والسلام في منامه وقال له: بَشِّرْ نور الدين بأن الله عزَّ وجلَّ فَرَّجَ عن المسلمين في دمْياط، وانسحب الصليبيون ورُفِعَ الحصار عنهم، فقال له الإمام: يا رسول الله وإن لم يصدِّقني؟ فربما يقول: إنّ هذا الإمام يريد التخفيف عني.. فهلا أعطيتني علامة حتى يصدِّقني؟ قال له: إنْ طلب منك علامة فقل له: إنّه لمَّا كان في معركة حَارِم، وكاد جيشه أن ينْهَزم أمام زحف الرُّوْم وكثافة جيشهم، دخل خيمته وصلَّى ركعتين، وفي سجوده صار يبكي ويقول: “اللهم انصر دينَك، ومَنْ هو محمود الكلب”.
وأين حارم؟ بالقرب من حلب.. [حارم مدينة في سوريا قريبة من حلب ومن إدلب، ومعركة حارم حصلت في: 22 رمضان 559 هـ، الموافق: 12 أغسطس 1164 م، بين جيش نور الدين زنكي وتحالف ضَمّ كُلّاً من كونتية طرابلس وإمارة أنطاكية والإمبراطورية البيزنطية والأرمن، وحقق فيها نور الدين زنكي نصراً ساحقاً، وتَمّ أسر معظم قادة التحالف الصليبي].
ونور الدين هذا لقب، أما اسمه فهو محمود الزنكي الملقَّب بنور الدين.. فإذا كان اسم أحدٍ نور الدين فيجب أن يكون نوراً يُضِيء بالدِّين للمسلمين، وإذا كان اسمه صلاح الدين فيجب أن يكون مصلحاً، وإذا كان اسمه سيف الدين فيجب أن يكون مدافعاً ومناضلاً.. إلخ.
بشرى النبي عليه الصلاة والسلام لنور الدين
فإذا قلتَ له ذلك فإنَّه سيُصدِّقكَ.. فلمَّا استيقظ الإمام وذهب إلى القصر لصلاة الفجر، وبعد انتهاء الصلاة قال له: يا مولانا السلطان سأبشرك ببُشْرى -وكان السلطان في حُزن وكآبة على المسلمين في دِمْياط- قال له: خيراً إن شاء الله؟ قال: لقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، وقال لي: بَشِّرْ نور الدين بأن الحصار انْفَك عن دِمْيَاط ورُفِعَ الحرج والخطر عن المسلمين.. ونور الدين يعرف أنَّ الإمامَ صادقٌ، لكنه سكت قليلاً وفَكّر، فقال له الإمام: لعلك وقع في قلبك الشّكّ، وقد سألت النَّبي عليه الصلاة والسلام عمّا أفعلُ إنْ لم تُصدِّق، فقال لي أنْ أخبرك عن العَلَامَة التي ستجعلك تُصدِّق، فقال له: وهل يوجد عَلَامَة؟ قال: نعم، قال: وما هي؟ قال: يقول النبي ﷺ إن عَلَامَة صِدْقي هي لَمّا وقعت معركة حَارِم، وكدتَ أن تَنهْزِمَ، دخلتَ خيمتك وصليتَ ركعتين، وفي سجودك قلتَ: “اللهم انصر دينك”، لكنَّ الإمام لم يكمل قوله “ومن هو محمود الكلب”.. يعني: يا ربي، من أنا؟ فأنا كلب من كلابك.. هكذا كانوا يقولون، وهذا على عظَمَتِهم وعلى تقواهم، وقد كانوا رُهبانًا في الليل، وملائكةً بأرواحهم، وقرآناً في أعمالهم.. وكيف كان ينظر لنفسه؟ قال: “ومن هو محمود الكلب”.
فقال له الإمام: العَلَامَة أنَّك قُلت: “اللهمّ انصر دينك ومن هو محمود..” فلما سمع نور الدين ذلك اقشعر بدنه، فقال للإمام: هذه لها تتمَّة فأكملها، قال له: لا أستطيع إكمالها حياءً منك يا مولانا السلطان، قال له: أكْمِلها ولا تخجل، فقال: لقد قلتَ “ومن هو محمود الكلب”.. فنفرت عينا السلطان نور الدِّين بالدَّمع وقال: صدق رسول الله ﷺ.. ولْنَنْتَظر البريد .
وكان حينها يأتي البريد عن طريق الحمَام الزاجِل، حيث كانوا يربطون “المَكْتُوب” [الرسالة] بقوائمه ثمَّ يطيِّرونه، فيَصِل إلى المكان الذي يريدونه.. فوصلت الرسالة في ذلك اليوم، وفتحوا الكتاب فإذا هو كما أخبر الإمام برؤياه عن رسول الله ﷺ ورضي الله عنهم.
نصيحة الإمام للقائد نور الدين زنكي
فهذا نور الدين مع تقواه وورَعِه وجهاده، دعا يوماً من الأيام أحد العلماء الصَّالحين المسمَّى بأبي عثمان المنتخَب الواسطي، وقال له: عِظْني، انصحني، أي أريد منك موعظةً.. ونور الدين يعدل خمس مئة ألف شيخ، رضي الله عنهم.. لقد كان شيخاً [عالماً] وكان السلطان، وقد تخلَّى عن مظاهر السلطان وظهر بهذا المظهر، فهذا هو الشيخ الحقيقي يا بني.. وسيدنا رسول الله ﷺ صار مَلِكاً، لكنه مع الملْك قال عن نفسه: ((عبداً نبيّاً)) .. فقال له ذلك العالِم
مَثِّلْ وقوفَكَ أيها المغرورُ
يومَ القيامةِ والسماءُ تمورُ
“مَثِّلْ وقوفَكَ” أي تصوَّر ومثِّل وقْفَتَك بين يديْ الله يوم القيامة، “أيها المغرور” فبالرغم من عظمته وتقواه وصلاحه وجهاده ونضاله في ليله ونهاره، قال له: “أيها المغرورُ”.. فهل تستطيع أن تقول هذه الكلمة الآن حتى ولو “لزَبَّال”؟ [الزَبّال: عامل النظافة، ويضرب به المثل في سوريا تعبيراً عن أدنى طبقات المجتمع]، لماذا؟ لأنه لم تُزَكَّ نفسُه وليس فيه إسلام، وهل يَقْبل منك إن أخبرتَه عن عَيْبه؟ فلو ظهرت عورته، وقلت له: إنَّ عورتك ظاهرة، يقول لك: لا، أنت عورتك ظاهرة.. ويُنكِر عليك ولا يقبل الحقّ ولا يشعر به، وهذا حال أكثر النَّاس.. والسبب أنَّه فُقْد مَنْ يصْنع الإسلام، وإنَّ مَصَانع الإسلام مُعطَّلةٌ ومُخرَّبةٌ: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [التوبة:18] فالمسجد هو شيخُه، ومسجد النَّبي عليه الصلاة والسلام هو النَّبي، وهذا المسجد المتواضع الذي كانوا يسجدون فيه على التراب والطِّين، هو الذي وصل بهم إلى الصين وإندونيسيا ومشارق الأرض ومغاربها.
[وأسأل الله] ألَّا ينتهي هذا القرن إلَّا والإسلام قد سادَ العالَم، فكما قضى الله على الشُيُوعية -وكنت قد أخبرتكم عن ذلك [عن سقوط الشيوعية] منذ سنة (1980م)- أقول: انْتَظروا عشر سنين أُخر، وإن شاء الله تعالى سترون ما تَقرُّ به عَيْن كل مؤمن.. فمن كان يظنُّ أن يحدث للصين الشيوعية ما حدث؟ ولكنْ: ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس:82].
مَثِّلْ وقوفَكَ أيها المغرورُ
يومَ القيامةِ والسماءُ تمورُ
يوم القيامةِ تضطرب النُّجوم: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ﴾ [الانفطار:2،1].
إن قيل نورُ الدِّيْنِ رِحْتَ مُسَلَّماً
فاحذر بأن تُدْعى ومالَك نورُ
“إن قيل نورُ الدِّيْنِ”: إن قيل يوم القيامة يا نور الدين “رِحْتَ مُسَلَّماً، فاحذر بأن تبقى وتُحْشَر ومالَك نورُ”: تُدعى بنورُ الدِّيْنِ ولكنْ تُحشَر يوم القيامة وليس في وجهك نور! ﴿يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ [الحديد:12].
أَنَهَيْتَ عن شُرْبِ الخمورِ وأنت في
كأسِ المَظالِمِ طائشٌ مخمورُ
لقد نهى عن الظُّلم وجعل محاكمَ للمظالم.. إلخ، لكنَّه قال له: ونفسك هذه ألست ظالماً لها؟ ألا يجب عليك أنْ تنُقِذَها من ظلمها وتُحرِّرَها من شهواتها؟
عَطَّلْتَ كاساتِ المُدامِ تعفُّفاً
وعليكَ كاسات الحَرَام تدورُ
“عَطَّلْتَ كاساتِ المُدامِ تعفُّفاً: أغْلقتَ الخمَّارات.. “وعليكَ كاسات الحَرَام تدورُ”: الظلم.. في كل وقت وزمان يوجد الظالم والمظلوم، والملك العادل أو السلطان العادل يعمل جهده [لرفع هذا الظلم]، لكنْ يجب عليه أن يَسْتقْصي، كما كان يقول سيدنا عُمَر رضي الله عنه: “واللهِ لو عثَرَتْ شاةٌ على شاطئ الفرات لَخِفْتُ أن يسألَني اللهُ عن ذلك” .
هذه هي الثقافة، وهذه هي الدكتوراه، وهذا هو الماجستير.. ونسأل الله أنْ يثقّفنا بثقافة القرآن، وبثقافة الإسلام الحقيقي.. وعلى كل واحدٍ منَّا أن يُحاسب نفسه وألَّا يُحاسب غيره.
سُئِل أحد الحكماء: أي شيءٍ أهونُ على الإنسان، وأي شيءٍ أصعب؟ قال: أمَّا أهون شيءٍ على الإنسان أنْ يُنصِّب نفسَه قاضياً على النَّاس، فيقول: فلانٌ ظالمٌ، وفلانٌ كذا، وفلان كذا، فيبرِّئ نفسه ويُدِين الآخرين، وأصعب الأشياء على الإنسان أنْ يعْرف نفسَه ويَحْكُم لها أو عليها بما تستحق.
فطِنٌ في دُنياك، فهل تفطنُ لآخرتك
ماذا تقول إذا نُقِلْتَ إلى البِلا
فردًا، وجاءَك منكرٌ ونكيرُ
“ماذا تقول إذا نُقِلْتَ إلى البِلا: عندما يفنى جسدك ويصير عظاماً، وتكون روحك في عالَم الروح، وتكون “فرداً وجاءَك منكرٌ ونكيرُ” فهل يوجد محامٍ عنك حينها أو “وَاسِطَة” أو شفيع؟ [وَاسِطة: كلمة عامية مستخدمة كثيراً في سوريا، وتعني شخصاً يتوسط عند أحد المسؤولين في الحكومة لتحصيل أمر ما، حيث اعتاد الناس أن لا يَحْصَلوا على ما يريدون إلا عن طريق شخص يتوسط بينهم وبين ذلك المسؤول لا عن طريق النظام والقانون]، فهل حَسبنا حساب هذا الأمر؟ بل إنَّنا نحسب حساب الصيف والشتاء، والكِسوة والسَّمْن والزَّيت وبضائعنا وتجارتنا -وهذا أمرٌ لابدَّ منه- ولكنْ هل نعمل لِما بعد هذه الحياة والتي مدتها خمسون أو ستون سنة؟ أمَّا حياة عالَم الرَّوح فهي إلى أنْ تقوم الساعة، وبعد القيامة هناك عالَمٌ لا نهاية لآخره، فهل نحسب له حساباً؟ إننا من أجل خمسين أو ستين سنة نَصْرِف كلَّ جهودِنا، أمَّا عالَم الروح وعالَم القيامة فهو ممحوٌ من صحائف الأذهان محواً كليًّا، ومن يفعل ذلك يَفْقِد الإيمان ولو قال آمنت، ويكون: ﴿مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوْا ْآمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة:41]، [والإيمان] هو إيمان القلب.
فلو أردت أنْ تَعْمَل “كُنْدَرْجِي” [صانع أحذية]، عليك أنْ تكون أجيراً عند الكُنْدَرْجِي، ولو أردت أن تعمل نَحَّاساً فعليك أن تكون تلميذاً عند النحَّاس، فمن أين يَأخذ المسلم إسلامه وشهادة إسلامه؟ ومن أين تأخذ المرأة شهادة إسلامها؟ هل تأخذها من المطبخ أم من أدوات الزينة أم من الخِرَق البالية [الثياب] التي تُضَيِّع عمرها كلَّه فيها؟ [ومن أين يأخذ الرجل شهادة إسلامه؟ هل من السَّهرات ومجالس اللهو؟] ﴿لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء:114] فسهراتك واجتماعاتك والنَّجوى والأحاديث المتبادلة مع رفاقك وأقاربك وأصحابك، في المقاهي وفي النوادي وفي البيوت، هل هي في جَوِّ المعروف والإصلاح بين الناس؟ فإذا ما كانت هذه الآية من القرآن في أعمالك، فأنت لست مؤمناً بالقرآن ولو قرأته: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾ قرأتَه لفظًا ولم تحملْه عملًا: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5].
ماذا تقول إذا وقفتَ بموقفٍ
فردًا ذليلًا والحسابُ عسيرُ
“ماذا تقول إذا وقفتَ بموقفٍ فردًا”: عندما تقف في محكمة الله وحدك، بلا محامٍ ولا واسطةٍ ولا شفيعٍ ولا فداءٍ.
وتعلَّقَتْ فيك الخصوم وأنتَ في
يوم الحسابِ مسلسَلٌ مجرورُ
وتفرَّقَتْ عنك الجنود وأنتَ في
ضِيْقِ القبور مُوَسَّدٌ مقبورُ
وَوَدِدْتَ أنكَ ما وَلِيْتَ ولايةً
يوماً، ولا قال الأنام: أميرُ
فحين يُدعى إلى الحساب، هل تُفيْده “نَيَاشِيْنه” [أُوْسِمَته] أو رُتَبُه أو وزارته أو إمارته، أو غناه أو ثروته أو جاهه أو مشيخته؟ علينا أن لا نغتر بأنفسنا، وأخاطب نفسي أولاً.. وأسأل الله عز وجل أنْ يحقق فينا إسلام العمل، وإسلام القلب، وإسلام الأخلاق، وإسلام المعاملة.
وبقِيْتَ بعد العِزِّ رَهْنَ حُفَيْرَةٍ
في عالَم المَوتى وأنتَ حقيرُ
فالآن أين هو جمال عبد الناصر رحمه الله بعد كل هذا المجد؟ وأين السلطان عبد الحميد رحمه الله؟ صاروا تراباً، وأين هو سيدنا عُمَر رضي الله عنه؟ كجسدٍ وكدنيا.. أمَّا الرَّوح فإنّها تعيش في ظلال أعمالها.
وحُشِرْتَ عُرْيَانًا حزينًا باكيًا
قَلِقًا، ومالَك في الأنام مُجِيْرُ
“وحُشِرْتَ عُرْيَانًا”: النَّبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً)) ، ((فمن كسا للهَ كساهُ اللهُ)) .
أرَضِيْتَ أن تحيا وقلبُكَ ميِّتُ
عَافِيْ الْخَرَابِ وَجِسْمُكَ الْمَعْمُورُ
أَرَضِيْتَ أن يحظى سواكَ بقُرْبِهِ
أبدًا وأنتَ معذَّبٌ مَهْجُورُ
مَهِّدْ بِنَفْسِكَ حُجَّةً تنجو بها
يومَ المَعادِ، ويومَ تبدو العُوْرُ
يوم تظهر العورات.. فبكى نور الدين بكاءً شديداً، وأمر بإزالة كل المنكرات وما شابهها .
وأسأل الله أنْ يرحم أولئك المشايخ ويرحمنا جميعاً.. والشَّاهد أنْ هذا كلّه من مدرسة القرآن والتي من جملة أصولها سورة الطور.
هل هناك من داعٍ ليحلف لك اللهُ خمسيناً يميناً حتى تُصدِّقَه؟ أليس اللهُ صادقاً في نظرك؟ ومع ذلك فقد حَلَفَ، وحَلَفَ للمشركين، [ثم استجابوا وآمنوا وصاروا خير أمة أخرجت للناس].. ونحن مقصرون يا بُني، وَوَاللهِ أنا خَجِلٌ من نفسي، ولا أعلم كيف ألقى ربي إذا أراد أنْ يحاسبني.. مع أنّنِي واللهِ لا آلو جهداً، وكثيراً ما أبكي في فراشي على المسلمين وحالهم، وأبذل ما أملك من جهدي الضعيف والمتواضع، ولكنِّي دائماً ما أشعر بالتقصير، ونسأل الله أن يجعلنا مسلمين في نظره.
ثواب المتَّقين
ما سبق كله مقدمة، أمَّا درسكم اليوم فهو: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾ [الطور:17]، والجنَّة في اللغة العربية بمصطلح الدنيا، هي البستان الذي تكاثفت أشجارُه وأوراقه، حتى إذا دخل الداخل فيها تستره فلا يراه غيره، فسمِّيت جَنَّة لأنَّها تستر بأشجارها المُلتفَّة مَنْ يدخل فيها، والله عز وجل إذا ذكر شيئاً عن الآخرة، [فإن التشابه بالأسماء فقط]، كما قال سيدنا ابن عباس رضي الله عنه: “ليس في الدنيا مما ذُكِرَ في الآخرة إلا الأسماء” فالبستان أيضًا هو جنّة إذا كان يحمل هذه المعاني، ولكنْ الفرق بين قاموس الآخرة وقاموس الدنيا كالفرق بين الذرَّة والمَجَرَّة.
﴿إن المتَّقين في جنَّاتٍ﴾ ليس جنَّةً واحدةً فحسب بل جِنان، يقول النَّبي عليه الصلاة والسلام: ((الجنان مئة درجة، منها جنَّةٌ بناؤها من الذهب، وجدرانها من الذهب، وحجارتها من الذهب، وحصباؤها من اللؤلؤ والأحجار الكريمة، ملاطها)) طينُها ((المسك والزعفران)) جنتان من فضة: بناؤهما وما فيهما، وهناك تتمَّة المئة: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة:17] ((فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)) .
خمسون أو ستون سنة تجعلها كلَّ حياتك وأمامك مليارات السنين، فما هو رأس المال والتأمين الذي هيَّأتَه لذلك المستقبل الأبدي الخالد؟ لا يوجد أي شيء، صفراً، لماذا؟ لأنَّه ليس لك معلِّم.
كيف يمكن أن تصبحَ طيَّاراً وأنت لم ترَ مطاراً ولا تدربتَ في مدْرسة الطيران؟ فهل تريد أن تصير طيَّاراً تطير مثل الدَّبُّور؟ [الدَّبُّور: يُسمّى زُنْبور، وهو حشرة طائرة ذو لسعة مؤلمة]، ونحن: ﴿فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ﴾ [الذاريات:11] وسُكارى بأمور الجسد، أمَّا فيما يتعلق بالروح والآخرة، وبعلوم الإسلام وأخلاقه وتربيته وحكمته ومجده وعزِّه وانتصاراته، فليس لنا صلةٌ به لا مِن قريبٍ ولا مِن بعيدٍ إلَّا مَنْ رَحِمَ الله؛ كُلّاً أو جزءاً.
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾ [الطور:17] حياةٌ كلُّها نعيمٌ لا بؤسٌ فيها ولا شقاء، حياةٌ بلا موت وصحَّةٌ بلا سقم وسرورٌ بلا حَزَن وشبابٌ بلا هَرَم، وأبد الآباد.. ألا يوجد فرق بين الخاتم الذي حَجَره مِن زجاج والخاتم الذي حَجَره مِن ألماس؟ وهل هما متساويان في الثمن؟ وأنت ماذا تبذل لتشتري الدنيا؟ كلَّ عمرك وشبابك وعقلك وتفكيرك، تبذل كل ذلك من أجل أن تشتري خاتماً من زجاج، أمَّا خاتم الألماس بكم تشتريه؟ تقول: سآخذه بلا ثمن.. هذا إنْ آمنت بهذا الخاتم، أمَّا إنْ قلت لا يوجد خاتم ألماس: ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج:2].
فنسأل الله ألَّا يجعلنا من الغافلين، وألَّا يجعلنا في دِيْننا من الجاهلين، وألَّا يجعل قلوبَنا كالذين قست قلوبهم، فلا تَلِين لذِكر الله وما نَزَل من الحقّ.
التقوى طاعة الله بلا معْصِية
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾ سُئل النَّبي عليه الصلاة والسلام عن التقوى فقال: ((حق التقوى أن يُطاع اللهُ فلا يُعصى)) وذلك بأنْ تمْتَثِل كلَّ أوامر الله، وأنْ تجْتنِب كلّ محارم الله، فتؤدِّي يدك كل ما أمر الله أن تفعله من خير، وتستعمل عينك في مرضاة الله، وكذلك أذنك ومالك وجاهك وشبابك وقوتك وسهرتك مع رفاقك.. فهذه هي التقوى: ((أن يُطاع اللهُ فلا يُعصى))، لا تعصِه بيدٍ ولا بلسانٍ، ولا بفكرٍ، فلا تُفكِّر فِكْرَ السُّوء، ولا بقلبٍ، فلا تضَعُ في قلبك شيئاً سَيِّئاً، كالخيانة والغِّش والحقد والمكْر والرِّياء والسُّمعة.. فكيف تصير مسلماً بلا مُعلِّمٍ ولا مدرِّبٍ ولا مربٍّ ولا مزكٍّ ولا حكيم.
والحكمةُ ثُلُثُ الإسلام، أمَّا الثُلُثُ الأول: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ [البقرة:129] فعليك أنْ تَتَعَلَّم القرآن، لا أن تَتَعَلَّم قراءته فقط، بل عليك أنْ تتعلم حقائقه، لتقْلِبَهَا من حبْرٍ يُكتَب ومن ألفاظٍ تُقرَأ إلى أعمالٍ تُشاهَد وتُنظَر وتُطَبَّق، فعند ذلك تُصبح مسلماً وتصبحين مسلمة.. هذا العِلْم والفهم والتدريب [من أجل العمل]، كما إذا نزلتَ البحر بعد أنْ تَعَلَّمتَ السِّباحة من المدَرِّب فإنَّك تطفو، أمَّا من غير مدرِّب ومن غير معلِّم فهل تطفو إذا رُمِيتَ بالبحر؟ إنك بالأماني فقط تدَّعي بأن: ﴿اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة:98] وكأنك أنت الله، فأنت تغفر لنفسك، وهل من حاجة ليغفر الله لك؟ ولو سألته: لماذا تفعل ذلك؟ يقول لك: أنا غفور رحيم، وقد غفرت لنفسي، ولكن الله تعالى يقول: هذا كَذَّاب.
والله تعالى يقول: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ﴾ [طه:82] فما هي التَّوبة؟ التَّوبة أنْ تُقلِع عن الذنوب فلا تعودَ إليها، فإن تابت عينك التي تنظر فيها إلى الحَرَام، إذاً فلن تنظر إلى حرامٍ بعد ذلك، ولنْ ينْطق لسانك بحَرام.. والنَّبي ﷺ يقول: ((وهل يُكِبُّ النَّاسَ على وجوهِهِمْ ومَناخِرِهِمْ إلَّا حصائدُ ألسنَتِهِمْ؟)) فترى لسانه لا يخوض إلَّا في الكذب والغيبة والنميمة والإفساد والتَّخريب، أمَّا ذِكْرُ اللهِ وذِكْر الدَّار الآخرة فكل هذا ميِّتٌ في قلبه، فهل هذا يُعْتَبر مسلماً؟
عبدٌ نَوَّر اللهُ قلبَه بالإيمان
﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ﴾ [طه:82] وحقيقة الإيمان هي كما قال النَّبي ﷺ لسيدنا حارثة رضي الله عنه: ((كيفَ أصبحتَ؟)) قال: “مؤمنٌ حقًّا”.. إذاً هناك من هو مؤمنٌ كاذب وهناك من هو مؤمنٌ حقّ.. قال له: ((وما حقيقة إيمانك؟)) قال له: “أصبحتُ كأنَّي أنظر إلى ربي في عرشه”، فهل يستطيع من ينظر إلى الله في عرشه أن يعصيه؟ وهل يستطيع أن يُخالف أمره؟ وهل يستطيع أن يفعل ما يُغضِبُهُ؟
فهل تستطيع أن تخالف قوانين المرور إذا كان أمامك شرطي المرور؟ وهل تستطيع أنْ تقولَ كلمةً تُخالف القانون إذا رأيتَ رجلَ أمن؟.. هذا حالك مع عبدٍ مثلك، فكيف يكون حالك مع رب العالمين، وهو الذي يعْلم السِّرَ وأخفى، وكلَّف ملائكةً منهم رقيبٌ ليراقب عملك ونظرك وسمعك وكلامك ومشيك وفعلك، وفي الحال يقوم الفيديو الإلهي والمُسَجِّل الذي لا تراه العيون بالتسجيل.. فنسأل الله أن يجعلنا مسلمين [حقاً].
قال له: “كأني أنظر إلى ربي في عرشه، وكأني أنظر إلى أهل النار في عذابهم وإلى أهل الجنة في نعيمهم” فقال النَّبي ﷺ: ((عبدٌ نوَّرَ اللهُ قلبَه بالإيمان)) هذا هو الإيمان الحقّ.. هل تريد الحصول على خمس مئة ليرة حقيقيةٍ أمْ مزيِّفة؟ وهل تريد شهادة دكتوراه حقيقية أمْ مزيِّفة؟ وهل تريد إيمانًا حقيقياً أم مزيَّفاً؟ وإن أردت الحصول على “لِيْسَانس” [شهادة جامعية] في اللغة الإنكليزية عليك أن تلتحق بالمدرسة الإنكليزية، وكذلك اللغة العربية، وكذلك إن كنا نريد الإيمان الحقّ.. ولكننا نسينا الآخرة ونسينا الإيمان ونسينا الإسلام، وإذا ذُكِر لنا الإسلام نسْتَنْكِر، ونُنَصِّبَ أنفسنا علماءَ أكثر من علمائه، وفقهاءَ أكثر من فقهائه، ونرفض الحقيقة والحقَّ، ونرضى بالباطلِ والزَّيغ والغِشِّ الذي نغشُّ به أنفسنا من طريق: ﴿زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ [فاطر:8].. والنَّبي ﷺ قال له: ((عرفتَ فالزمْ، عبدٌ نوَّرَ اللهُ قلبَه بالإيمان)).
أم حارثة رضي الله عنها تسأل عن مصير ولدها
ولما استُشْهِد حارثة رضي الله عنه في غزوة بدر، أتت أمُّه إلى النَّبي عليه الصلاة والسلام وقالت: “يا رسول الله: أخبرني عن مصير ولدي حارثة؟” تسأل عن مصيره وأين نهايته بعد الموت.. أمَّا نحن فإذا مات الإنسان فما هو أكثر ما يهمنا؟ شَكْل “الشَّاهِدَة”، [الشَّاهِدَة: اللوحة المرتفعة فوق القبر، وما يُكتَب عليها]، وأن يكون القبر من الرخام، أليس كذلك؟ ونصنع له تابوتًا، ونحضر له أكاليل الورد.. ولو جمعوا ثمن أكاليل الورد وتصدَّقوا بها، وعملوا بها خيراً، لكان أفضل من أن تُلقى في وِعاء القمامة.
قالت: “أخبرني عن ولدي؟ فإن كان في النار فسأبكي عليه ما عشت” فلم يكن همّها فراقه وموته، بل كان همّها مستقبله ومصيره.. فهذه هي المرأة الفقيهة والمُثَقَّفة.. فأنت مثقف باللغة الإنكليزية ولكنَّك أمِّيٌّ باللغة الفرنسية، ومثقَّفٌ بالطِّب ولكنَّك أمِّيٌّ بالهندسة، ومثقَّفٌ في الدُّنيا ولكنَّك أمِّيٌّ بإسلامك ودينك، فتشوّه الإسلام من خلال انتسابك إلى الإسلام زُوْرَاً، فيظنُّ النّاسُ أنَّ أعمالَك هي الإسلامُ، فتسيء إلى نفسك وإلى الإسلام وأنت لا تفهم ما تعمل.
قالت: “فإن كان في النَّار فسأبكي عليه ما حييتُ، وإن كان في الجنَّة: فبخٍ بخٍ لك يا حارثة!”، فأجابها النَّبي عليه الصلاة والسلام قائلاً: ((ويحكِ يا أم حارثة! أَوَهَبُلتِ؟)) أليس لديك عقل؟ ((أَتحسبينها جنة واحدة؟ وإنها لَجِنَان، وإن ابنكِ حارثة لفي الفردوس الأعلى)) .
أليست هذه أحسن من رئاسةِ جمهورية كجمهورية مصر، ومنصب الرئيس كالرئيس “غورباتشوف” [رئيس الاتحاد السوفيتي سابقاً]؟ وغورباتشوف الآن يحتاج إلى تعزية، أليس كذلك؟ وهل نقول له: عظَّم الله أجركم؟ ليس له أجرٌ ولا أي شيء آخر.. فدعُونا نجتهد، وهذا لا يعني أن نترك دنيانا، فالطير لا يطير بجناحٍ واحد، بل يلْزمه جناحان: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة:201]، ((ليس بخيركم مَنْ تَركَ دُنْياهُ لآخِرَتِه، ولا مَنْ ترك آخِرَتَهُ لِدنياه؛ ولكنْ يُصِيبُ مِنْهُمَا جَمِيْعًا)) .
حقيقة الإيمان
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ فهل أنت أخذتَ شهادة التقوى؟ فإذا أردت أن تأخذ شهادة الطب من أين تأخذها، هل من “سوق الهَالِ أم من سوق الحَمِيْدِيَّة”؟ [سوق الهال: هو السوق الرئيس في المدينة لبيع الخضار والفواكه، وسوق الحَمِيْدِيَّة: أكبر وأشهر سوق في دمشق، ونهايته عند الجامع الأموي]، بل تأخذها من كلِّية الطِّب، وهل يعني أنَّك ستنال الشهادة بمجرد دخولك كلِّية الطِّبِّ؟ إنك لو أمضيتَ سنةً كاملةً من غير حضورٍ للمحاضرات، ومن غير الحفظ والسَّهر ليلًا والدِّراسة نهارًا، هل يمكن بذلك أن تُحصِّل النجاح؟ ولكنّنا نريد الإسلام بالأماني، ونريد الجنَّة بالأماني وبالجهل وبالجاهلية، وأعظم الكوارث والمصائب هي فَقْدُ المعلِّم المربِّي الحكيم المزكِّي.
والمسجد الذي نبْنِيه هو مُجَرَّد جدرانٍ وسجادٍ وثُريات، أمَّا مسجد النَّبي عليه الصلاة والسلام فهو كما قال تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة:129] والمستشفى لا يعْظُم بِبُنْيانه بل يعْظُم بأطبائه، والمصنع لا يعظُم بِبُنْيانه وآلاته بل يعْظُم بعُمَّاله وإنتاجه.. فأين عمَّال المساجد وأين إنتاجهم؟ ولو كنَّا مسلمين بالمعنى الحقيقي [لتحقق فيها قوله تعالى]: ﴿وَلَنْ يَجْعَل اللَّه لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء:141]، ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47].
فكلنا مقصرون وأنا أَوَّلُكم، ولكنْ يشهد الله بأنَّنِي لا أُضَيِّعُ من وقتي دقيقةً واحدةً إلَّا في خدمة الإسلام والمسلمين، واللهُ أعلم بما أتحمَّله في هذا السَّبيل، وإذا كانت نتيجتي عند الامتحان [الحساب يوم القيامة] لا لي ولا عليَّ فأكون من الرابحين.. وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يغفر لنا تقصيرنا وإسرافنا في أمرنا وأخطاءنا وخطيئاتنا.. ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [النجم:32].
لَمَّا مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه قالت زوجته: “هنيئًا له الجنة”، فسمعها النَّبي ﷺ فغضب، وقال لها: ((وما يدريكِ؟)) قالت: صاحَبَكَ، وجاهَد َمعك، وفعل.. وفعل.. وفعل.. فقال لها: ((أما أنا فلا أدري ما يفعل اللهُ بي، قولي: أرجو له الجنة)) .. فهذا حال أصحاب رسول الله رضي الله عنهم، والذين قال عنهم ﷺ: ((لو أنفق أحدكم مثل أحدٍ ذهبًا ما بلغَ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)) فماذا نقول نحن عن أنفسنا؟ ونحن نرى أنفسنا أكبر وأعظم منهم وأعظم من كلّ العظماء، وهذا شأن البُلَهاء والمجانين.. وأسأل الله ألَّا يجعلنا من مجانين الآخرة، فهناك من هو عاقل الدنيا ولكنَّه مجنون الآخرة والدِّيْن، وهناك عاقل الدِّيْن مجنون الدنيا، أمَّا الإسلام الحقيقيّ فهو من كان عاقل الدِّيْن والدنيا.
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ [الذاريات:15] سأل سيدُنا عُمَرُ أُبَيَّ بن كعب رضي الله عنهما عن التقوى “ما هي التقوى” -من السائل؟ سيدُنا عمر، ومن المسؤول؟ سيدنا أُبيّ بن كعب، وكلاهما من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام- فقال أُبيٌّ لعُمَر: “أمَا سلكتَ طريقًا ذا شوك؟” ألم تمشِ يوماً بغابات وبأرض كلُّها أشواك؟ -فغابات الحجاز أكثر شجرها فيه شوك- قال: “بلى”، قال: “فما كنتَ تعمل؟” -وأنت تمشي بين أشجار الشَّوك- قال: “كنتُ أُشمِّر وأجتهد حتى لا يُخَرِّق ثيابي شوكُها، ولا يجرح بدني شوكُها”، قال: “كذلك التَّقوى” ، فعليك أن تُشمِّر وتخاف من الذنوب حتى لا تجرح إيمانك أو أخلاقك أو يقينك.. فكيف يصير الرجل “حَشَّاشاً”؟ [الحَشَّاش: المدمن على الحَشِيْش، وهو نوع من المخدرات]، والحَشَّاش من أين أخذ الدكتوراه في ذلك؟ أخذها من صحبة الحَشَّاشين، فلا يصبح الشخص حشَّاشاً بلا صحبة وبلا سهرات وبلا مجالسات، وبلا خَدَمَات وبلا بِرٍّ [بلا معاملة طيبة من أصحابه]، فتجد أحدهم يقول للآخر: “وحياة رأس أبيك لن تدفع ثمن الحشيش بل أنا سأدفعه”، [“وحياة رأس أبيك”: يمينٌ غالباً ما يحلف به هؤلاء المدمنون]، والذي شرب السيجارة، أين تعلَّم شربها؟ أليس من مجالَسة المدخنين؟ ومن أين تعلَّم شارب الخمْر شرب الخمْر؟ وكذلك الذَّاكر، وكذلك القانت، وكذلك التَّقي، وكذلك الصالح.
فصاحِبْ تقيًّا عالِماً تنتفعْ به
فصحبةُ أهلِ الخير تُرجَى وتُطلَبُ
وإياكَ والفُسَّاقَ لا تصحبنَّهم
فَقُرْبُهمُ يُعْدِيْ وهذا مُجَرَّبُ
كما قيل طِيْنٌ لاصِقٌ أو مُؤَثِّرٌ
كذا دودُ مَرْجٍ خُضْرَةً منه يَكْسِبُ
“وإياكَ والفُسَّاقَ”: ولو كان أباك أو أمك أو أخاك أو ابنك.. “لا تصحبنَّهم”.. “كما قيل طِيْنٌ لاصِقٌ أو مُؤَثِّرٌ”: إذا مَشيْت بأرض طِينِية فإمَّا أن تتلوَّث أو يلتصق الطِّين بنعْلِك، “كذا دُوْدُ مَرْجٍ خُضْرَةً منه يَكْسِبُ”: والدودة التي بالمَرْج كيف يصبح لونها؟ من لون محيطها.. ونسأل الله أن يرزقنا صُحبة أحباب الله ومحبَّتهم، ويبعدنا عن صُحبة الأشرار والفُسَّاق والظالمين لأنفسهم.
التُّقى هو ترْك الذنوب
أخذ ابن المعتز من هذه القصة معنىً وسجَّلها في ثلاثة أبيات، يقول
خلِّ الذنوب صغيرَها
وكبيرَها ذاك التقى
“خلِّ الذنوب”: تخلَّ عنها، “ذاك التقى”: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [القلم:34] فإذا أردت أن تصبح تقيّاً فعليك أن تترك الذنوب صغيرها وكبيرها، بكل جوارحك وبكل تفكيرك وبكل مجالسك وبكل أصحابك وبكل سهراتك، وفي ذهابك وفي مجيئك.
واصنعْ كَمَاشٍ فوق أر
ضِ الشوكِ يحذر ما يرى
لا تحقِرَنَّ صغيرةً
إنَّ الجبالَ من الحصى
“لا تحقِرَنَّ صغيرةً”: لا تسْتصْغر الذنْب مهما كان صغيراً، فالإيدز هو فَيْرُوس لا يُرى بالمجهر من صغره مهما كُبِّر، فالأبصار وأدوات التكبير تعجز عن رؤيته، ولكنَّه يَهِدّ الملوك ويَهِدّ عَظَمَة الإنسان وجبروته، وهو من حقارته لا تراه العيون ولا بأكبر المُكبِّرات.
“إنَّ الجبالَ من الحصى”: وكذلك نهر النيل من أين؟ من قطرات المطر، واللحية من أي شيءٍ أصلها؟ من شعرةٍ واحدة.
قصة شيخ مع طفل حكيم
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ فمتى ستحْصل على التَّقوى؟ [وأنت تقول عن نفسك] ما زلت صغيراً، أليس كذلك؟ -رحم الله المسلمين الأوّلين- فقد قالوا: بأنَّ أحد الشيوخ رأى أولاداً يلعبون في يوم عيد، ورأى طفلاً يعتزلهم وهو يبكي، فظنَّ ذلك الرجل الصَّالح أنَّ هذا الولد ليس معه شيء يشتري به ألعاباً، قال له: تعال يا بني حتى أشتري لك ألعاباً لتلهو بها مع رفاقك، قال: فنظر إليَّ نظرة شذرٍ واحتقارٍ وقال لي: ويحك أيها الشيخ! أَوَلِلَّعِبِ خُلِقْنا؟ ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون:115] فَعَظُمَ في نفسي ذلك الطفل الصَّغير، على حَداثَةِ سنِّه وهو يتكَلَّم بالحِكَم، فقال له: يا ولدي إنَّما أنتَ طفلٌ صغيرٌ ولم يجرِ عليكَ قلمُ التكليف، وأنت غير محُاسَب وهذا اللعب مباح، فقال له: “يا عم، لقد رأيتُ أمِّي عندما تُوقِد الحطب الذي في “الكَانُوْن” تُشْعِل الحطب الكبير بالحطب الصغير، [الكانُوْن: أحد أنواع المواقد، يكون عادة في الأرض، ويُصنَع من الحجر أو الطين، ويُستَعْمَل من أجل التدفئة والطهي]، فأخاف أنْ تُشْعَل بي وبأمثالي الصغار نار جهنَّم للكبار، قال: فلما سمعتُ كلامه وحكمته علمتُ أنه أوتيَ الحكمةَ صبيّاً.. هؤلاء هم أطفالهم! فكيف كان شبابهم وكيف كان كهولهم؟
أنت يمكنك أن تكون مسجداً
ولذلك لما فَتح الله لهم مشارق الأرض ومغاربها، وسجَّل لهم التَّاريخُ أوسع الصَّفحات الخالدة والتي لا تَبْلَى في الأرض ولا في السَّماء، كان ذلك كلُّه من المسجد، ولكنْ في وقتنا لا يوجد مسجد، بل يوجد إسمنت وأحجار، أمَّا المسجد الذي يَصنع علوم القرآن، ويصنع الحكمة ويجعلك حكيمًا: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة:269] ويزكيك ويعطيك النَّفس المزكّاة: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ [الشمس:9] فهذا المسجد غير موجود، ولو وُجِد من مئة مسجدٍ مسجدٌ واحد أو نصف مسجدٍ أو ربع مسجدٍ لكان حسناً.. وهل علينا أن نبقى هكذا؟ فالواجب على كل واحد منكم أن يكون مسجداً.. فإذا كان المسجد هو رَجُلُهُ، وكان المسجد هو الإيمان والإسلام؛ إسلام العِلْم والحكمة والتزكية، فهذه المعاني إن وُجِدَتْ في أي شخصٍ، وكان هذا الشخص في أي مكان، فذاك المكان هو مسجد.
والنَّبي ﷺ لَمَّا كان في مكَّة كان المسجد موجودًا، ولما ترك مكَّة بقيت بلا مسجد، مع أنَّ فيها أفضل المساجد، ولكنَّه كان محشوَّاً بالأصنام والتماثيل، وحين جاء النبي ﷺ إلى المدينة كان مسجد النبي مقْبرَة للمشركين، ولَمَّا وُجِدَ النَّبي عليه الصلاة والسلام فيه صار يسمى بالمسجد النبوي، وأصبحت الصلاة فيه بألف صلاة، ولَمَّا رجع إلى مكَّة فاتحاً صارت الصلاة بالمسجد الحرام بمئة ألف صلاة.. وصلاة الجماعة ثوابها بسبعٍ وعشرين، لأنَّه قد يوجَد في المُصلِّين مَن هو ذو قلب فيَمُدُّ كلَّ المصلِّين في الجماعة من نور إيمانه، وهذا سرٌّ من أسرار صلاة الجماعة.
أهمية المسْجدِ لبناء المُسلم الحقّ
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ هل لديكم النِّية لأن تصيروا من المتقين؟ يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لا بَأْسَ بِهِ حَذَراً مِمَّا بِهِ بَأسٌ)) يعني إذا شكَكْتَ بكأس ماء أن فيه سُمّاً، وكان مجرد شَكّ، كأن تَمُر أفعى بجانبه، فهل تشربه؟ إنك تقول: ربما شربت الأفعى منه.. ولو كان هناك شخصٌ أصابه الجَرَبُ وكُنتَ ترتدي في يديك كُفُوفاً [قَفَّازات]، فإنَّك لا تصافحه، وتقول: أخشى أن يَعلْقَ شيءٌ منه في الكفّ ثم أضع الكفّ على وجهي.. وكذلك التَّقوى.. والنَّبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((لا يبلغُ العبدُ أنْ يكونَ منَ المتَّقين حتَّى يَدَعَ ما لا بأس به حَذَراً مِمَّا به بأس))، فهل تُريد حقيقة التَّقوى أم تُريد التَّقوى المزوَّرة؟ أم التَّقوى بالاسم؟
من الأمور الحسنة أن تأتي إلى الجامع وتؤدي الصلاة، ولكنْ هل هذا فقط هو المقصود من المسجد؟ وهل كانت الهِجرة من مكَّة إلى المدينة لأجْلِ مسجد النَّبي أمْ لأجْلِ النَّبي ﷺ؟ ((فمن كانت هجرته)) إلى مسجد النَّبي عليه الصلاة والسلام أمْ ((إلى الله ورسوله))؟ وهل يَقْعُد الله تعالى في الجامع؟ لكنَّهم كانوا يجدونَ اللهَ عز وجل بصُحبةِ رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكانوا يجدون خشيته ونوره وحكمته وتزكية نفوسهم بصحبة رسول الله عليه الصلاة والسلام.. ((أولياء أمتي مَن إذا رُؤُوا ذُكِرَ اللهُ)) .. فأسأل الله أنْ يَجعلنا ممن يَنْتَفعُ بمُجَالسة المؤمنين، وأنْ يَنْتَفعَ المؤمنون بمُجَالسة بعضهم مع بعض.
في الجنة لا تعب ولا مرض ولا نصب
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ﴾ جنات وليست جنَّةً واحدةً، ﴿وَنَعِيمٍ﴾ [الطور:17] فقد يكون الواحد في بستانٍ وفي أعظم القُصور ولكنَّه معذَّبٌ؛ نفسيًّا أو صِحيّاً أو به همٌّ أو غمّ، قال: جناتٍ وهنَّ أيضاً نعيم، ﴿فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ يعني أنَّهم متلذِّذون ومسرورون وسعداء ﴿بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ﴾ من الوقاية، ﴿وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا﴾ هناك من يأكل طعاماً فتألمه معدته بسببه، ولا تستطيع أن تَهْضِمه، ويحتاج إلى شراب لتسهيل عملية الهضْم، أو قد يصير معه كوليسترول، أو أسيد أوريك أو ..إلخ، أمَّا في الجنَّة فلا، فنعيمها ليس وراءه أي أذىً أو ضرر؛ لا في أكلها ولا شربها ولا نسائها ولا أنهارها ولا جنانها وبساتينها: ﴿فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا﴾ [الطور:18-19]، كلوا هنيئاً واشربوا مريئاً، والهنيء المريء هو الذي لا يعقب الأكْل والشْرب منه أيّ غائِلة أو ضرر أو مرض أو إزعاج.. فلا يشعر بتلبُّك بالمعدة، ولا يُصاب بإسهال ولا إمساك ولا أملاح ولا روماتيزم من أكل البروتين.. ﴿هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [المرسلات:44] فإذا أحسنتَ في إسلامك، وأحسنتَ في تَعلُّم قرآنك، وأحسنت في تَعلُّم الحِكْمة، وأحسنتَ في البحث عن المُعلِّم، والبحث عن المدْرسة التي تتلقى منها الإسلامَ علماً وعقلاً وحكمةً وأخلاقاً وسلوكاً وتزْكيةً، فحينها تكون محُسناً وتنال الجنّة، فالجنّة لمن؟ للمحسنين.
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ الذين اتقَوا بأداء ما فَرَضَ الله عليهم، وباجتناب ما حرَّم الله عليهم، وبصحبة مَن يقرِّبهم إلى الله واجتناب مَن يباعِدهم عن الله.. اتَّقَوا: قصدوا مجالس العلم والحكمة والتقوى، وابتعَدوا عن مجالس الفِسْق والفُسُوق والعصيان.. وفي بعض الأوقات تُعطيك صُحبتُك ولو بِسَهْرَةٍ واحدةٍ أو جَلْسَةٍ واحدةٍ شقَاء الأبد، وفي بعض الأوقات تعطيك بجَلْسَةٍ واحدةٍ وبساعةٍ واحدة سعادة الأبد.
شيخنا – قدس الله روحه- لما اجتمع بشيخه، قال لي: بالمصافحة، وفي دقائق أو ثوانٍ بهذه الصحبة والمصافحة، كشف الله له عن عالَم الملكوت، وما نحن به الآن هو من بركة تلك الدقيقة التي اجتمع بها شيخنا مع شيخه الشيخ عيسى الكردي رضي الله عنهما وأرضاهما.
وكذلك صحبة الشقيِّ والتعيس والمنحوس والبعيد عن الله، قد تعطيك شقاوة الأبد من الدنيا إلى الآخرة، كما قال النَّبي عليه الصلاة والسلام: ((الجليسُ الصَّالح كحامِلِ المسك، إمَّا أَنْ يُعطيكَ وإمَّا أنْ يَبيعَك وإِمَّا أن تشمَّ مِنْهُ رائحةً طيِّبَةً، والجليسُ السُّوء كنافِخِ الكِيرِ، إمِّا أَنْ يَحرِقَكَ بنارِه أو يؤذيكَ بشرارِهِ أو تَشُمَّ مِنْهُ رائحةً خَبيثةً)) .
ميزان الله بمثقال ذرة
﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الطور:19] فالجنة تحتاج إلى العمل، وبدون العمل لا يكون ذلك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾.. اجتمع اليهود مع المسلمين في زمن رسول الله ﷺ، وكلَّ طائفة منهم تقول: نحن أَوْلى بالجنَّة منكم، فأنزل الله تعالى في شأنهما قوله: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ فالجنَّةُ ليست بالأماني: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء:123]
وحبست امرأةٌ هرةً حتى ماتت، لا أطعمتها ولا تركتها تُفَتِّش عن رزقها، فأدخلها اللهُ نار جهنم ، وامرأةٌ بغيٌّ سقتْ كلباً يلحس الطين من العطش، فغفر الله لها .. ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7-8].
قصة أُفّ في الميزان يوم القيامة
يقال: بأنّ أحد الصالحين رأى في منامه كأنَّ القيامة قامت، والنَّاس حالهم: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾ [عبس:34] يقول لأخيه: أرجوك يا أخي! واللهِ تنقصني حسنتان، أرجو أعطني! لكنه لا يرد عليه ولا يقف له، أو ربما تنقصه بضع حسنات، فيطلب من أبيه أو من أخيه أو زوجته أو زوجها أو ابنتها فلا يُعطِي أيٌّ منهم حسنةً للآخر: ﴿وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس:35-37].. فهل تفكر أنت كيف سيكون حالك وأنت بهذا الموقف؟
قال هذا الرجل الصالح: “رأيتُ كأنَّ القيامة قد قامت، والموازين قد نُصِبَت، ووقفتُ أُشاهد مَوَازينَ الخلْق ومَوَازين أعمالهم، فأُتِيَ بأعمال أحدِهم فوُضِعَتْ في كفَّةٍ فَرَجَحَتْ كفَّةُ السَّيئات على كفَّة الحسنات، فأُمِرَ به إلى النَّار، وقبل أنْ يأخذوه رأى صُرَّةً سقطَت من السَّماءِ في كفَّةِ حسناتِه فَرَجَحَتْ، فقالوا له: إلى الجنَّة، فقال لهم: ما هذه الصَّرة التي رجَّحت حسناته على سيئاته؟ فلما فتحوها وجدوها حَفْنة من تراب، قيل: قد حضر جنازة مؤمن، فعند مواراته بالتراب صاروا يتعاونون، فما وجد أداةً كمِجْرفة ليهِيَل التراب بها، فأخذ كَفَّةً من تراب ووضعها في قبره تعاونًا على قدرِ إمكانه، فسجَّلها اللهُ له.. وكما يقال في المثل: “وَزْنَة الخمسِ قناطير “تَطْبُشْ” [تَرْجَح] بخمسة دراهم”. [“وَزْنَة”: كلمة في اللهجة العامية تعني وَزْن].
لذلك: ((لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا ولو أن تفرغ من دلوك في دلو أخيك، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ)) ، بأن تبتسم له لوجه الله تعالى.. وأُتِيَ بشخصٍ آخر لوزنِ أعماله، فكذلك طاشت كفَّة الحسنات ورجَحَت كفَّة السيئات، فأُمِر به إلى النّار، وقبل أن يكملوا ما أُمروا به، فإذا بهم يَرون شيئاً كالضباب ينْزل منَ السماء في كفَّة حسناته فرجَحَت، قالوا له: إلى الجنة، فقال لهم: أرجوكم أن تخبروني ما هو هذا الغَمَام؟ قالوا له: هذه الكلمة من الخير، والتي كنتَ تسمعُها من العُلماء و الدعاة إلى الله، فتنقلُها للنَّاس وتعلِّمها غيرَك، فسجَّلها الله لك فرجَحَت بها حسناتُك.
وأُتِيَ بشخصٍ ثالث، ووُضِعَتْ الحسنات في كفّتها ووضعت السيئات في كفّتها، لكن هذه المرة ثَقُلتْ كفَّة الحسنات، فقالوا له: إلى الجنَّة، وحين همُّوا بأخذه إلى الجنَّة، فإذا بهم يرَوْا ورقةً نازلةً من السماء على كفَّة السيئات فثَقُلت ورجَحَت، فقال لهم: أرجوكم أن تخبروني وتُرُوني ماذا يوجد فيها، فلمَّا فتحوها إذا مكتوب فيها “أُفٍّ” قالها لأحدِ والدَيه.. “أّفّ يا أبي إن رائحتك ظاهرة، ورِجْليك فيهما العَرَق”.. فلو أحضرت بعض الماء الساخن وغَسَلْت به قدميه وعطَّرتهما، خير من أنْ تقول له أفٍ.. “أُفّ ألا تزال تتكلم كثيراً!” ((لو علم اللهُ أن في العقوق أدنى من كلمة “أف” لقالَها)) .
فلما قالوا له: إلى جهنم.. صار يرجُوهم ويتوسَّل إليهم بألَّا يأخذوه إلى النَّار، وبأنَّ كفَّة حسناته قد رجحت.. أَلَا يُقال في المثل: “الوزْنَة الكبيرة ترجُح بخمسةِ دراهم”؟ وفي طريقه إلى جهنَّم رأى أباه أيضاً مأخوذاً إليها، فسأله: إلى جهنم؟ فأجابه: نعم؛ كما ترى فنحن معاً.
وعندما أرادت الملائكة أن يذهبوا بهما إلى جهنم، قال لهم: أرجوكم لدي كلام أريد أن أقوله لله عز وجل، فأخبروه بأن أمرَ الله قد صدَر ولا رجعة فيه، فقال لهم: فقط أخبروا الله بذلك، ولأن الله عز وجل [يعلم كل شيء] ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4] أمر الملائكة بأنْ يُرْجِعوا الابن، فقال له الله عز وجل: لمَ رجعت؟ فالقانون الإلهي سيُنَفَّذ فيك، وسيئاتك قد رجحت.. قال: نعم أعلم ذلك وأعلم أنِّي ذاهب إلى جهنم.. [تأثر الشيخ رحمه الله هنا ودعا قائلاً] أسأل الله ألا يجعلنا من أهل جهنم.. فقال الله عز وجل: إذاً لمَ عُدْت؟ قال: يا رب قد عقَقْتُ أبي في الدنيا، وأنا الآن أراه مأخوذاً إلى جهنم مِثْلي، فلو سمحت أنْ تلقي بعذاب أبِي عليَّ من أجل أنْ يذهب إلى الجنَّة، وأنا أتعذَّب عن ذنوبي وعن ذنوب أبِي.. فيضحك الله عز وجل ويقول له: لقد عقَقْتَهُ في الدنيا وبرَرْتَه في الآخرة، ارجع إلى أبيك وخُذ بيده، واذهب أنت وإياه إلى الجنَّة، لأنك بَرَرْتَه في الآخرة.. [الشيخ يقول ممازحاً الحضور:] لا تقوموا أنتم بذلك، على أمل أنْ تصلحوا أخطاءكم في الآخرة، فإن حصلت مرة فمن غير المضمون أن تحصل مرة أخرى.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الأبرار، وأن يجعلنا من الصالحين الأخيار، ويوفقنا لنمحوَ سيئاتنا بالحسنات، ونذكر الموت في كل لحظة وفي كل نَفَس، واجعلنا اللهم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنَه.