الإيمان بالقضاء والقدر حلٌّ لأيِّ مشكلةٍ
نحن لا نزال في تفسير بعض آياتٍ مِن سورة الحديد، وقد تقدَّم معكم تفسير قول الله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾ [الحديد:22] أي إلَّا في عِلم الله الأزلي الذي هو مسطَّر عند الله، كما تسطِّرون علومكم في كُتبكم وأوراقكم، ﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾ يعني عِلم الله في كلِّ ما سيحدث أزلًا في الماضي، وأبدًا في المستقبل ﴿عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد:22].
ولقد أخبرناكم بذلك وأعلمناكم لتؤمنوا به، ومِن أجل أن يكون إيمانكم بالقضاء والقدر عزاءً لكم ومعونةً لكم على تحمُّل الصدمات في هذه الحياة الدنيا، حين تصيبكم المصائب وتنزل بكم المآسي والكوارث.
ويُضاف إلى هذه الآية ومعناها أنه يجب على كل مسلمٍ ومسلمة أن يؤمن بالقضاء والقدر كما يؤمن بالله ووحدانيته، فالإيمان بالقضاء والقدر ركنٌ مِن أركان الإيمان، وإذا صحَّ هذا الإيمان في نفس الإنسان فإنه يصبح الإنسان الفولاذي والجبل الراسي، فلا تؤثِّر فيه زلازل الحياة ولا كوارثها، مِن مرضٍ أو خسارةٍ أو آفةٍ أو أيِّ مصيبةٍ مِن المصائب، التي كثيرًا ما تفعل بضُعفاء الإيمان الأمراض والعاهات التي قد تعكِّر عليهم حياتهم طيلة أعمارهم، هذا إذا لم تأتِ على حياتهم ووجودهم.
فلو استقبل الإنسان مصائبه في الحياة بدرع هذا الإيمان، فهو كالمحارب المدرَّع الذي لا تؤثِّر فيه سِهام العدو.. وإضافة إلى وجوب هذا الإيمان أَخبرنا النبي ﷺ عن ثمرات هذا الإيمان في هذه الحياة فقال: ((الْإِيمَانُ بالقَضَاءِ وَالْقَدَرِ)) كأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يُبرِّرُ وجوب الإيمان، يعني لماذا أوجب الله علينا الإيمان بالقضاء والقدر؟ قال: ((الْإِيمَانَ بالقضاءِ والْقَدَرِ يُذْهِبُ الْهَمَّ وَالْحَزَنَ)) ، فالله تعالى لا يريد ولا يحب حزنك أيها المؤمن، بل يسُّره أن تكون دائمًا مسرورًا ناجحًا، والحياة ليلٌ ونهارٌ، صيفٌ وشتاءٌ، إقبالٌ وإدبارٌ، نعمةٌ ومِحنةٌ.. ولقد الله تعالى جعل مُقابِلَ النِّعم الشكر فقال: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم:7] ومُقابِلَ المحن والرزايا الصمود والصبر، وهذا شأن الرجال.. وهناك رجالٌ بصورة الأطفال، لهم شعرٌ في وجوههم مِن لحيةٍ وشاربَين، وقد يكون لهم زوجاتٌ وأولاد، ولكنْ لا تزال نفسيَّتهم وعقليَّتهم عقليَّة الأطفال.
إنَّ الإسلام بمعناه الحقيقي والقرآن بقراءته الحقَّة، لا يصيران إلا إذا كنت قَبل قراءته مؤمنًا حقَّ الإيمان، لأنَّ القرآن لا ينفع بلا إيمان، والإيمان في الإنسان المسلم كمَثَل التربة الخصبة المحروثة، ومَثَل القرآن كمَثَل البِذار الجيد المنتقى، فإذا أُلقِيَتْ بذور القرآن الجيدة في قلب المؤمن الإيمان الجيد تُنبت هذه البذور من كل زوجٍ بهيج، ومن كل زهورٍ جميلة، ومن كل ثمارٍ طيبةٍ يانعة.
ولذلك كان أصحاب رسول الله ﷺ يقولون: “نحن قومٌ أُوتينا الإيمان قبل القرآن” ، والمقصود بالإيمان ليس إيمانًا باللسان كما هو شأن أكثر الناس: ﴿قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة:41].
قلب المؤمن مرآة إيمانه
أمَّا الإيمان فهو في القلب، فإذا دخل الإيمان في القلب دخل النور في القلب فانشرح وانفسح كما قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾ [الزمر:22] انشراح الصدر ليس خاصًّا بالنبي ﷺ في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح:1] لا، هذه صفة كل مؤمنٍ؛ مؤمنِ القلب.
والقلب لا يُؤمِن حتى تتزكَّى النفس ويَتطهَّر القلب مِن الغفلات ومِن الظُّلُمات ومِن محبة الناس على شكلٍ ((يَكُونُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ)) يُحب الغير ((لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ)) ليس المقصود الكفر الكلي، لأنه يدخل في الكفرِ الكفرُ الجزئي، كما قال النبي ﷺ: ((مَن تَرَكَ الصَّلاةَ فَقَدْ كَفَرَ)) كفرَ بإيمانه بالصلاة، ((وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)) .. هذه الخصال الثلاث ليستْ لِمَن كَمُل إيمانه، بل هي لِمَن ذاق طعم الإيمان برأس أصبعه، أمَّا إذا امتلئ قلبه بالإيمان، وارتوت روحه بنور الله، فإنه بمجرَّد أنْ يسمع آيةً أو يقرأها يكون مِثل المرآة، فبمُجرَّد أنْ يُقابلَ المرآةَ شيءٌ تنطبع صورته في صحيفة تلك المرآة.
والقلب مرآةٌ، ومرآة المؤمن مُصفَّاة، فإذا قرأ القرآن أو جالَسَ الصالحين فإنه بمُجرَّد هذه التلاوة أو هذه الصحبة تنتقل صفات ذلك الصالح إلى مرآة قلبه، ولكن بشرط أنْ تكون المرآة صافيةً منظفةً بفرشاة الحب الصادق الصحيح، وبأنْ يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ثم نائبُ رسول الله ﷺ، ما معنى: ((الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)) ؟ يعني لهم ما للأنبياء مِن الحقوق على المسلمين، وعليهم مِن الواجبات؛ مِن التبليغ والتربية والتعليم والتزكية ما على الأنبياء، فإذا لم يُؤدُّوا ما عليهم لا يجب على الآخرين ما لهم.. نسأل الله تعالى أن يجعلنا مِن ورَّاث رسول الله ﷺ، وأن يجعلنا مِن المؤمنين حقًّا في كل فروع الإيمان التي مِن جملتها الإيمان بالقضاء والقدر.
القضاء والقدر ليس جبرًا
وسبق معكم حول هذا الموضوع بأنَّ القضاء هو علم الله الأزلي، حيث عَلِم قَبل أن يخلقك وقَبل أن يخلق الدنيا أنه سيقع معك كذا وكذا، وإلى آخر نَفَسٍ مِن أنفاسك.. والكثير مِن الناس ظنُّوا أن القضاء مِثل ضابط أو قائد الجيش الذي يفرض أوامره على جنوده، وهذا خطأ في فَهْم القضاء والقدر.
فإذا كان بهذا المعنى فهذا يعني أنك مجبور من طرف الله عزَّ وجلَّ، وأنه أوجب عليك وفرض عليك أن تشرب الخمر، فلا بد إلا وأن تشربه.. والمجبور لا يكون مأمورًا بخلاف ما أُجبِر عليه، لأنه مسلوب الإرادة كما ورد في الحديث: ((رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ)) لأنَّ الخاطئ لا يُريد الخطأ ((وَالنِّسْيَانُ)) كذلك لا يُريد النسيان، ((وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)) فالمكره فاقد الإرادة وفاقد الاختيار.
وعلم الله الأزلي بأنك ستفعل كذا وكذا ويكون كذا وكذا هو بمحض إرادتك واختيارك وتفكيرك وتدبيرك، لا بمعنى أنَّ الله يسلب منك الإرادة.
والقدر هو عِلم الله لا الأزلي، بل علم الله بما وقع معك عند وقوعه، وذلك مثل أستاذ يتفرَّس في طالب بالمدرسة ويرى كَسَله وعدم اهتمامه بدروسه ومَدرَسته، فيقول: هذا سيرسب في آخر السنة.. وعندما يرسب ويتحقق قول الأستاذ وعِلْمُه، فإن عِلمه بتحقُّق عِلمه السابق، ماذا يسمُّون هذا العلم؟ القدر، يعني نُفِّذ ما قُدِّر، ونُفِّذ علم الله الأزلي في عَمَل [العبد] الذي أتى به بكلِّ إرادته واختياره.
وقد ذكرتُ لكم حديث المغني الرقَّاص الذي أتى إلى النبي ﷺ يستأذنه بترخيص ليسمح له بالغناء والرقص قائلًا له: “إنَّ الله كتب عليَّ الشقوة، فأنا مدركٌ ذلك لا مَحالة”.. فهذا كأنه كان فَهماً في الجاهلية قَبل الإسلام، ولذلك فإن أكثر الأمم تفهم القضاء والقدر هكذا، وهذا فهمٌ جاهلي.. فطلب الرخصة واعتذر بأنَّ هذا الشيء هو مجبور عليه، فأجابه النبي ﷺ بقوله: ((كَذَبْتَ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، إنَّ اللهَ خَلَقَ لَكَ رِزقًا طَيِّبًا مُبَارَكًا)) انتبهوا إلى الحديث كلمةً كلمةً: ((إنَّ اللهَ خَلَقَ لَكَ رِزقًا طَيِّبًا مُبَارَكًا، فَاخْتَرْتَ)) هنا كلمة مهمة ((فَاخْتَرْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيكَ بَدَلَ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ)).. فشارب الخمر بإرادته صاحَبَ السِّكِّيرين، والفاسق بإرادته واختياره جالَس الفاسقين فصار فاسقًا: ((وَمَن حَامَ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ)) .
لقد حضَّت الآيات القرآنية والأحاديث وسيرة النبي عليه الصلاة والسلام على الجليس الصالح، ونفَّرت مِن الجليس السوء، وإذا أتى الإنسان بهذه المقدمات السَّيِّئة فإنه سيأخذ نتائجها السيئة، قال: ((إنَّ اللهَ خَلَقَ لَكَ رِزقًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فَاخْتَرْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيكَ)).
ولم يكتفِ النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: ((يا عدو الله!))، بل قال: ((وَلَئِنْ عُدتَ إلَى مَقَالَتِكَ مَرَّةً أُخرَى لَأَجعَلَنَّكَ نَكالًا لِلنَّاسِ)) أي إذا عُدتَ لقولك هذا بما يُفهِمُ أنك فاقد الإرادة والاختيار لَأعاقبنَّك عقوبةً تكون عبرةً للناس.
هذه العقيدة في واقعنا الآن يا إخواني هي عقيدة من هو بالاسم مسلم أو مؤمن، وعندما يراه الإنسان العلماني أو الملحد يقول: الإسلام دِين التَّخلُّف ودِين الرجعية.. إنّ كلّ شيء له وقت، فرمضان له وقت، والحج له وقت، والصلاة لها وقت، والإيمان بالقضاء والقدر كذلك له وقت، ووقته بعد وقوع الكارثة، وبعد أن تبذل كل الوسائل والأسباب فيما ينفعك وتجتنب ما يضرُّك، فإذا حصل لأمرٍ ما خِلافُ ما ترغب، فهنا وقت الإيمان بالقضاء والقدر.
ووقته أيضاً عندما تدعى إلى واجب، ويكون الطريق لأداء هذا الواجب محفوفاً بالمخاطر، كالجهاد واالاستشهاد، ويجب عليك أن تُقْدِم على أداء هذا الواجب مع ما فيه من أخطار، فيأتي الإيمان بالقضاء والقدر ويُعِينُك على أداء هذا الواجب، ((والْإِيمَان أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ والْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)) ، هل هذا مفهوم؟
التكبُّر وعقوبة المتكبِّر
الآن درسكم بعدما ختم الله الآية ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد:23] المختال هو المتكبِّر، وسُئِل النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام عن الكِبرِ: ما هو؟ فقال: ((غَمْطُ النَّاسِ)) فتنظر إلى الناس بعين الاحتقار، إما لأنك غنيٌ وهو فقير، أو أنت ذو سلطان وذاك لا سلطان له، وإمَّا لنَسَبِك وحَسَبك، فهذه الأمور لا ترفع الإنسان عند الله عز وجل، وقد قال النبي ﷺ: ((لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِأَحسَابِهِم وَأَنسَابِهِم أَو لَيَجعَلَنَّهُمُ اللهُ أَهْوَنَ وَأَحقَرَ مِنَ الجُعَلِ)) يعني الخنافس ((يَتَدَهْدَه الخِرَاءَة بِأَنْفِهِ)) ، يأتي إلى فضلات الدواب ويجعلها مثل الكرة ويدفعها بأنفه.. فالله عزَّ وجلَّ يُهدِّدُ المتكبِّر أنه سيُذلُّه ويحقِّره كحقارة الخنافس في محلَّات النَّجاسات.
والفخور: هو المتباهي بنفسه، سواءٌ الرجل أو المرأة، فالمرأة تتباهى بجمالها على ضرتها مثلًا، أو تتباهى بأنها سيدة البيت وهذه صَانِعَة [صَانِعَة: كلمة عامية، وهي تعني في هذا الموضع: المرأة التي تخدم في البيوت]، فالله قادر بسبب كبريائكِ وتعاليكِ على الضعيفة أنْ يجعلكِ صانعة أو يجعل ابنتكِ صانعة.
لا تُهِين الفَقِيرَ عَلَّكَ أنَّ
تَرْكَعَ يَومًا وَالدَّهرُ قَد رَفَعَه
فالمختال الفخور يفتخر بذكائه، ولكن مَن أعطاكَ الذكاء؟ أو بماله فمَن أعطاكَ المال؟ ﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف:39] شاء الله أنْ يكون لك بستان ومزرعة، فأعطاك بمشيئته، ولو شاء ذلك لغيرك لَأعطاه إياه، فيجب عليك أن تتواضع لله.
التواضع عند النعمة من الشكر
ولَمَّا كان الصحابة مهاجرين في الحبشة استدعاهم النجاشي -إمبراطور الحبشة- إليه، ولَمَّا دَخلوا عليه وكان قد أسلم، رأوه قد خلع الزيَّ الرسمي الإمبراطوري ولبس ثوبًا مِن شعرٍ مثل الرعاة، وجلس على كوم مِن الرماد، فتعجَّب الصحابة رضي الله عنهم من هذا، لأنَّ الإمبراطور دائمًا يَستقبل الناس بالمذهَّبات والماس والمجوهرات.
قالوا له: ما هذا؟ قال: أخبرتْني عُيوني -يعني جواسيسه- أنَّ معركةً حصلتْ بين النبي ﷺ والمشركين -وهي معركة بدر- وقد نصر الله النبي ﷺ على المشركين، وأوجب الله على كلِّ مؤمنٍ إذا أَحدثَ عنده نعمة أنْ يُحدِثَ لها شُكرًا.. فإذا أنعم الله على الإنسان فيجب عليه أن يقوم بنعمة مقابل النعمة، ويجب عليه أن يشكر قولًا وعملًا: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾ [سبأ:13].
قال لهم: فانتصار النبي عليه الصلاة والسلام هذه نعمة على كل مؤمن، فأحببتُ أنْ أُحدِث عندها شكرًا، وما رأيتُ أكثر شكرًا مِن تواضعي في سَلطَنَتي بأن ألبس هذا اللباس، وأجلس على هذا الرماد شكرًا لله على نصره لنبيه ﷺ .
ولَمَّا دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة فاتحًا كان راكبًا على جملٍ، وعلى الجمل رَحْلٌ رَثٌّ، وهو شيء مثل الجِلال الذي يضعونه على ظُهور الدواب، لكنه قديم وعتيق، ويَكاد جبينه يصل إلى عصا رحله مِن شدة انحنائه تواضعًا وخشوعًا لله، ولم يدخل رافعًا رأسه مُتعاليًا على الناس مُتكبِّرًا ظالِمًا مدمِّرًا ومخرِّبًا .
فالإسلام لا أنْ تقول: أنا مسلم.. فإذا كانت المسألة بالقول فإنك تستطيع أنْ تقول عن نفسك مليونير، أو تقول عن نفسك صاحب الجلالة الملك أو صاحب الفخامة، ولكن المسألة ليستْ بالتمنيات ولا بالأقوال والألقاب ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [البقرة:277] “آمنوا وعملوا” وإلَّا فإنك تكون أنتَ صاحب الأماني، والأماني هي كما قال الله تعالى: ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ﴾ [النور:39].
كفران النعم وعدم الشكر على المعروف كِبرٌ مذموم محرَّم
الآن درسكم قوله تعالى: ﴿لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور﴾ [الحديد:23] فلا تتكبَّر على الضعيف، سواءٌ زوجتكَ إذا كانت ضعيفة، أو زوجكِ إذا كان ضعيفًا، لا تتكبَّر على شريكك أو على أجيرك أو على مَن أنت رئيسه وهو مرؤوس لك.
الله عز وجل يُخوفنا فيقول: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم:7] وفي الحديث: ((إنَّ النِّعَمَ التي لا تُشكَرُ)) نعمة المال أو نعمة الجاه أو نعمة النسب أو نعمة العلم أو نعمة الغنى أو نعمة العِزِّ، ((إنَّ النِّعَمَ التي لا تُشكَرُ لَهِيَ الحَتفُ القاضِي)) “الحَتف”: يعني الموت والهلاك والانتقام الإلهي الذي يَقضي على المتكبِّرين.
وقال النبي ﷺ: ((إنَّ اللهَ يَحشُرُ المتكَبِّرِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِحَجمِ الذَّرِّ)) بحجم النمل الأحمر الصغير ((صُورَتُهُم صُورةُ الإنسانِ، وحَجمُهُم حَجم النَّملِ)) فهل يدوسون على الناس أم الناس تدوس على رؤوسهم؟ فكما تكبَّروا في الدنيا يُذلُّهم الله في الدار الآخرة.
قال: ((الكِبْرُ غَمْطُ النَّاسِ وَبَطَرُ الحَقِّ)) يكون الحقُّ عليك وأنتَ المحقوق، ويُقال لك: الحقُّ كذا، ويجب أنْ تفعل كذا، وأن تَنقاد إلى الحق، وأنْ تستجيب للحق، ولكنك لا تستجيب ولا تنقاد، سواءٌ أكان حق الله تعالى؛ كأن يستهزء بالصلاة، فهذا ما اسمه؟ هذا بطر الحق الإلهي، أم كان حق الإنسان، كأن يكون له دَين عليك، خصوصًا إذا صنع معك معروفًا، فهذا يجب عليك أن تشكره وترد الحق له، فإنْ لم تشكر ولم تؤدِّ الحق فهذا اسمه كبر، ((وَلَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ)) ، الآن صُنْعُ المعروف فُقِدَ بالنسبة لِمَا كان عليه قَبل خمسين سنة، والسبب ضَعف الإيمان، لأنَّ الشكر شعبةٌ مِن شُعَبِ الإيمان، ((مَنْ أَسدَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا)) ولو كلمةً طيبة، ((مَن أَسدَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإنْ لَم تَستَطِيعُوا فاذكُرُوهُ)) .
أنا نشأت في الحياة، وأدَّيتُ واجبي في كلُّ الشؤون فيما أستطيع أنْ أخدم به الناس، ومتى ما انقضتْ حاجة الشخص لا أعد أراه في أي مناسَبة، وأنا لا أصنع المعروف لأجل هذا، لكن هو واجبٌ عليه: ((مَن أَسدَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ)) وخصوصًا تعليم العلم والتربية قال الله تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ [لقمان:14] هذا والد الجسد، والله قرن شكر الله بشُكر الوالدين، أمَّا شكر المعلم، فهل النبي ﷺ أعظم عند أبي بكر أم أبوه أبو قحافة؟ حق النبوة أعظم مِن حق الوالدَين، كذلك حق المعلِّم وحق الشيخ المربي أبلغ مِن حق الوالدَين، وهذا شيء عليه الاتِّفاق والإجماع، فإذا صَنَع أَحدٌ معك معروفًا فيجب عليك أنْ تُكافئَه بالمثل أو بأزيد مِن المثل: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ أولًا بدأ بالأحسن ﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء:86] يعني بالمِثل، فهل يقوم الولد بالمِثل أو بالأحسن الآن؟ لعلَّه يُسيء إلى والدَيه، ويؤذي الولد والدَيه، ويَحسُدُ مَن صُنِعَ إليه المعروف مَن صَنَعَ إليه ذلك المعروف، وهذا سببه غِياب الإيمان والتربية الإيمانية، فلم يعد هناك مربٍّ.. نحن نفرح بتعمير المساجد، وهو شيء حسنٌ ومطلوب، لكن هل بحثنا عمَّن يُعمِّر الإيمان في القلوب، والأخلاق في النفوس، والحكمة في العقول، والقوة في الحياة؟ ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ)) قوي في العقل والعلم والاقتصاد والزراعة وفي كل شيء.
الاعتداء في الدعاء
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإيمان.. فعندما ندعو يجب أن لا نُفكِّر بالدعاء وحسب، كما إذا كنتَ عطشانًا وقلتَ: “يا ربي أنا عطشان فاسقني”، والماء أمامك، لأن هذا اسمه “الاعتداء في الدعاء” وقد ذَكَره الله تعالى بقوله: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف:55] المعتدون يعني في الدعاء.
والاعتداء في الدعاء هو أنْ تدعو الله بشيء وتملك أسباب ذلك الشيء فلا تستعملها، كأن تقول: اللهم ارزقني ولدًا، وأنتَ لا تنوي أن تتزوج، فهذا اسمه اعتداء في الدعاء، أو تقول: اللهم إني عطشان فاسقني، وصنبور الماء بجانبك، فهل تريد أن يصير الله عندك خادماً، ويقوم هو فيملئ لك الإبريق ويسكب لك الكأس، ويقول لك: تفضل يا عبدي؟ هكذا صار واقع المسلمين، يقولون: اللهم انصرنا ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:250] ولكن هل النصر بالدعاء فقط؟ والكافرون اليوم ينتصرون بالعلوم وبالتكنولوجيا وبالتصنيع وبالتخطيط وبالنظام.. ونقول: اللهم أعز الإسلام والمسلمين.. ولكن هل العز بالتمني والأماني؟
المسجد بلا مربٍّ كالمرأة العاقر
كل ذلك بسبب فَقْدِ المعلم أو فَقْدِ المسجد المنجِد المنتِج، جوامعنا صارت كالمرأة العاقر، تتزوَّج عشرين أو ثلاثين سنة ولا تأتي بولد، فما النتيجة من هذه المرأة؟ أمَّا إن تزوجت هذه المرأة ورَضِيتْ وصَبَرتْ فإنَّ الله يأجُرُها، ومُرادي من الاستشهاد بذلك من ناحية واحدة، وهي أنه ليس هناك إنتاج، والجامع ليس فيه تعليمٌ ولا إرشادٌ ولا تزكيةٌ للنفوس ولا علم، لا في ليل ولا في نهار، وهذا المسجد ميت ولو كان أعظم مسجدٍ في الدنيا، وهو مسجد خَرِبٌ، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ هل قال: البنَّاؤون والمهندسون؟ لا، بل قال: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ﴾ [التوبة:18] والخشية صفة خاصة بالعلماء: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر:28]، فالمسجد إذا لم يكن مُعمَّرًا بعالِمه ومعلِّمه وبالمزكِّي والمربِّي فهذا مسجدٌ خراب: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا﴾ يحبون أن يتطهروا لأنه يوجد فيه مطهِّرون، ويحبون أن يتزكَّوا لأن فيه مزكَّون، ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة:108].. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا مِن بُناة بيوت الله تعالى بالعلم والحكمة والتزكية.
﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد:23].. نحن أَطَلنا بالاستطراد في الدرس الماضي.
أهل الطغيان يكرهون الخير وأهله ويَحثُّون على تَرْكه
﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ [الحديد:24] هو متكبرٌ ومعجَبٌ بنفسه، وهذا المعجب بنفسه بلاءٌ، فهو شخص رأى عقله حَسَنًا ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ [فاطر:8]، يتباهى بجهله، ويتباهى بفسقه، ويتباهى بعقوقه، ويتباهى بإلحاده، والله لا يحب هذا النوع مِن الناس، وهذا مبغوضٌ لله محبوبٌ للشيطان، وفوق ذلك يبخلون، وليس يبخلون فحسب، بل ﴿وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبُخْلِ﴾ [الحديد:24] أيضاً إذا رأى أحدًا يريد أن يعمل الخير يُلقي له شبهات كاذبة وهمية خيالية، لأنه لا يحب أن يَفعل الخير، ولا أن يَفعل أحدٌ غيره الخير، ولا يُحب الهدى ولا يُحب المهتدين.
السكِّير لا يرضى أنْ يذهب صديقُه إلى الجامع، فيَبخل عليه بالهداية، فهو ضالٌّ ويحب أن يكون الناس كلُّهم ضلَّالًا، والبخيل أيضًا إذا رأى أحدًا يفعل خيرًا كأنْ يُعمِّر جامعًا، أو أي وجه مِن وجوه الخير يُبغِّضه في الأمر، ويَضع له العراقيل، ويُلقي أمامه خمسين شُبهة لِيقطعه عن فعل الخير، وما أكثر قطَّاع الطريق عن الخير في زماننا! فصار كثيرٌ من الناس شياطين، وبعضهم حيوانات، والإنسان قليل، كما قال ذلك الفيلسوف اليوناني “ديوجينوس”، وقد رأوه يحمل الفانوس في النهار ويمشي في الشوارع؛ من شارع إلى آخر، والضوء عادة يُستعمل في الليل، فقالوا له: يا أيها الحكيم لِمَ تحمل هذا المشعل والشمسُ تملأ الأرض نورًا وضياءً؟ بماذا أجابهم؟ قال: أفتش عن الإنسان.. حيث أنه لم يره في الليل فقال: سأفتِّش عنه أيضًا في النهار، وقال: ربما عيناه لا ترى جيدًا فليستعن بالفانوس.. أين الإنسان يا بني؟ أين المسلم؟ الإنسان الحقيقي هو المسلم الحقيقي، أمَّا مسلم الاسم ومسلم الادِّعاء ومسلم الأماني فإن هذا المسلم بهذا المعنى ﴿زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ [فاطر:8].
قال
سَتَعلَمُ حِينَ يَنكَشِفُ الغُبارُ
أَبَغلٌ كَانَ تَحتَكَ أَمْ حِمارُ
﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ لا يَبخل قط، بل ﴿وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ﴾ [الحديد:24] يريد أن يُعمِّر جامعًا أو يساعد في عملٍ خيري في مدرسة فتأتي امرأته أو ابنه أو بنته لتمنعه من فعل الخير، وهذا كالقصة الآتية
قصة من أراد الصدقة لِيَفُكّ حَنَكَ سبعين شيطاناً
يقال: إن شخصًا جلس في مجلس بعض الشيوخ، وسمع آيات الصدقات وفعل الخير، فرجع إلى بيته، ولم يكن عنده مالٌ ليتصدق به، فأخذ شيئًا مِن مدَّخرات الأغذية مثل الأرز والسكر وغيرها، ووضعها في كيس وخرج، فرأتْه زوجته فقالت له: ما هذا؟ قال: لقد كنتُ في الدرس عند الشيخ، وذَكَر لنا ثواب الصدقة وثواب مساعدة الفقراء وكذا وكذا، وليس عندنا مِن المال لنقدِّمه، فدخلتُ إلى بيت المؤنة وأخذتُ شيئاً من الأرز والسكر والبرغل لأتصدق بها، فقالت له: أبهذه السرعة لعب الشيخ بعقلك؟ هل أنتَ ولد صغير؟ ارجع وأرجع هذه الأشياء، قال لها: لن أرجعها، ويبدو أنه كان ضعيف البنية على عكسها فقد كانت قوية، فتعاركا، وألقتْه أرضًا، ووقع ما كان يحمله أرضًا وأُهدر دون أن يستفيد منه أَحَدٌ، وفي اليوم التالي أتى إلى الشيخ وعليه آثار الهم والحزن، فقال له: ما لك؟ فقال: القصة كذا وكذا، وكان الشيخ قد ذَكَر أنَّ المسلم إذا تصدَّق بصدقة يفكُّ حنك سبعين شيطانًا، فلمَّا رآه الشيخ على حالة الحزن هذه سأله فقال له: هل فككتَ حنك سبعين شيطانًا؟ قال: فككتُ حنك سبعين شيطانًا، لكنَّ أمَّ الشياطين كادت أن تفكَّ حنكي. [الشيخ يضحك ويضحك الحضور]
وهناك أيضًا أبو الشياطين.. إذا رأى من يريد عمل الخير لا يتركه، بل يُعيقه عن عمل الخير، ويقول له: أنت أحق به، وأولادك أحق، وهذا المشروع كذا وكذا، [متكلماً بسلبية عن ذاك المشروع من أعمال الخير].. فيجعله يسيء الظنَّ بأهل الخير وعمل الخير، وما أكثر ذلك! هؤلاء شياطين.. وما مهمة الشيطان؟ مهمته أنْ يُفسد الخير ويَجعله شرًّا، وأنْ يفسد الخيِّر فيجعله شريرًا، وأنْ يَحُول بين الإنسان وعملِ الخير، ويسوقه إلى عمل الشر: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ [الأنعام:112] ذَكَر شياطين الإنس، وقدَّم ذِكرهم في الأوَّل، لأنَّ ضررهم أكثر.. فذلك الرجل في القصة غَلَب شيطانَ الجن، لكن شيطان الإنس [زوجته] غلبته.. فنسأل الله أنْ يحمينا من البخل.
أتى النبيَّ ﷺ بعضُ الوفود، فقال لهم: ((مَنْ سَيِّدُكُمْ؟)) فقالوا: “الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وإِنَّا لَنُبَخِّلُهُ” لكنه بخيل، معروف عندنا بالبخل، فَقَالَ ﷺ: ((وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنَ الْبُخْلِ؟)) المصيبة أنَّ البخيل كالأجْرَب يُعدي الآخرين، فهو لا يعمل الخير، بل و﴿مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾ [القلم:12].. نسأل الله تعالى أن يحمينا، فهذا شيطان.. ولَمَّا سألوا ذلك الفيلسوف اليوناني: لمَ تحمل المشعل والفانوس في النهار؟ قال: “أُفتِّش عن الإنسان”، فما أحوجنا الآن أنْ نحمل عشرين فانوسًا لنفتش عن المسلم الحقيقي والمسلمة الحقيقية، الذين تَعلَّموا القرآن لا تلاوةً ولا نغمًا ولا إجادةً بنطق الكلمات والأحرف، بل تجويد الفهم والعلم بالقرآن، وتجويد العمل والتطبيق للقرآن، وتجويد التعليم ودعوة الناس إلى القرآن علمًا وعملًا وأخلاقًا وسلوكًا، هذا هو التجويد بمراحله الكاملة.
إن الله تعالى لا يحب المتكبِّر، ولا يحب الفخور المتفاخر على الآخرين، ولا يحب البخلاء، وأشد منهم الذين يأمرون الناس بالبخل.
مصير المعرضين الاستبدال
﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ﴾ [الحديد:24] إذا لم يُنفق في سبيل الله وأعرض ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [لقمان:12] وعند الله عبيد كثيرون ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد:38] كنتُ أسمع مِن شيخنا قدَّس الله روحه مِن جملة كلمات شيخه له: “يا بني إذا ترك شخص مجلسك فلا تشغل فكرك به، فإن يذهب الزاهد يبعث الله لك مئة عاشق”.
الياسمين والفل إذا أعرض عنها الزنابير فإن الله يبعث لها النحل، ويبعث لها العرائس وملكات الجمال ليَضَعنَها على رؤوسهنَّ يتزيَّنَّ بها، وعلى أنوفهنَّ يستنشقنَ بها الحياة والهواء المُطَيَّب، ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد:38].
﴿وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ﴾ [الحديد:24] يُعرض عن الله وعن طاعة الله وعن مرضاة الله وعن دِين الله، مِثل أهل مكة لَمَّا أعرضوا عن النبي عليه الصلاة والسلام قَيَّض الله له أهل المدينة، فمَن كان الخاسر؟ هل النبي ﷺ أم هُم؟ ومن يعرض عن الله، هل يتضرَّر الله مِن إعراضه أم المنحوس المعرِض هو المتضرِّر؟ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [الحديد:24] محمود في ذاته وصفاته وأعماله.
هذه الآيات يجب أن يقرأها المسلم لئلا يكون متكبِّرًا، فيحذر من الكبر في أقواله وفي أعماله، ويتحاشى الفخر والخيلاء، فلا يقول: “أنا فلان، أنا دكتور”.. فعند الموت سيجردونك مِن كل شيءٍ، فإن كان اسمك دكتور أو وزيراً أو ملكاً، ماذا يصير اسمك عندما تذهب روحك؟ ميت، وعندما يضعونك على النعش يُعطونك شهادة أعلى من ميت، فقد كانوا يقولون: أتى الملك وذهب الملك، أتى الوزير وذهب الوزير، فالآن يقولون: أتت الجنازة وذهبت الجنازة، وبعد ساعة تنتقل إلى الدكتوراه ويصير اسمك قبراً، وهذا كلُّه غير مهم، إنما النهاية هي المخيفة والمرعبة: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هود:105] فإذا صار اسمه شقياً عند الله فيا ويله! واللهِ لو أنه مَلَكَ جِبال الدنيا ذهبًا وفضة لهو أخسر الخاسرين، فالدنيا مِثل المنام، وكيفما كانت ستمضي؛ غنيًّا كنتَ أو فقيرًا، عزيزًا أو ذليلًا، مريضًا أو صحيحًا، معذَّبًا أو مُرتاحًا، فكلُّه سيمضي، أمَّا أمور الآخرة “فالآخِرَة يا فَاخِرَة” [مثل عامِّيّ يُقال للتعبير عن أن العاقبة والنهاية هي الأهم].. نسأل الله أن يثبِّتنا بقوله الثابت، وأن يزيد في إيماننا وتقوانا وعقولنا وأخلاقنا وتعشُّقنا للحقيقة وتباعدنا عن الزيغ والباطل.
المنهج الرباني كان ولا زال المنهج العزيز
ثم قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [الحديد:25] قال: أيها الناس، يا عبادي، لقد أرسلتُ إليكم رسالات ورسائل ووصايا وتعاليم مِن طرق الرسل الذين كانوا موظفي البريد، فكان رسول السماء جبريل الوحي روح القدس عليه الصلاة والسلام، وفي الأرض كانوا الأنبياء والرسل.
قال: أرسلناهم بتعاليم كلها واضحة للعقل، واضحة للسعادة والإسعاد، واضحة في توجيه الإنسان إلى الخير، ليكون الإنسان الخيِّر والإنسان الصالح والناجح والسعيد والقوي والغني والعزيز والمنتصر، ولا يوجد فيها شيءٌ يُصادر العقل ولا شيء يَعجز عن فهمه الفهم.
وكدليل تجريبي واقعي فإن الصحابة أسلموا الإسلام العملي، وتخلَّقوا بأخلاق القرآن، وآمنوا الإيمان الفعلي.. يقولون اليوم: إنّ العلم الحديث هو العلم التجريبي، فلنسمِّها التجريبي، مع أنهم لم يجرِّبوا؟ ولكن لنقل: إنهم جَرَّبوا، فماذا كانت النتيجة؟ هل ذَلُّوا أم عزُّوا؟ هل انتصروا أم انهزموا؟ هل تفرَّقوا أم توحَّدوا؟ هل صاروا أغنياء أم فقراء؟ بل بالعكس كانوا فقراء فجعلهم الإسلام أغنياء، وكانوا أذلَّةً بين الاستعمار الشرقي الفارسي والاستعمار الغربي الروماني فطَرَدوا الاستعمارَين الشرقي والغربي، وكانوا قبائل متقاتلِين فوحَّدوا نصف العالم تحت راية القرآن؛ قرآن العلم والعمل والأخلاق، قرآن المعلِّم الحكيم المزكِّي المربِّي، أمَّا القرآن بلا معلِّم وبلا حكيم وبلا مزكٍّ، فإن الورق والحبر لا يجعل منك رجلًا، ولا يجعل منك ذا حكمة، ولا يجعل منك مزكًّى.. لماذا كانت الهجرة فرضًا؟ لأنه لا بد مِن الصحبة، ولا بد مِن الصلة القلبية، وإذا لم تحصل على الصلة القلبية أو الرابط الروحي مع الذي يعلِّمك الكتاب والحكمة ويزكي نفسك كارتباط وامتزاج الروح بالجسد فلن تنتفع.
عندما يلقِّحون الشجرة تكون الشجرة رديئة الجنس رخيصة الثمن، فيلقِّحونها بالنوع الأفضل، فيحضرون قشرةً صغيرةً مِن النوع الأفضل، ويربطونها بالنوع الأدنى، ويُلصقونها لصقًا بحيث لا يتخلَّلها الهواء ويربطونها بالرباط الكامل، فإذا استمرَّ هذا الاتصال والرباط أسبوعين أو ثلاثة أو أربعة وبقيت اللصقة خضراء، فيقطعون الأصل ويخرج البرعم، فبعد أن كانت خسيسة النوع تصبح جيدة النوع، وكذلك الأرواح تتلاقح.
وكانت الهجرة صحبةً ومحبةً وإقبالًا، وماذا فعلت بهم هذه الصحبة والهجرة؟ صاروا: ((عُلَمَاءَ حُكَمَاءَ فُقَهاءَ، كَادُوا مِنْ فِقْهِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ)) .
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [الحديد:25] بالشيء الواضح، فلا يوجد فيه لغز وليس مُعَمًّى ولا يرفضه العقل ولا يقدِّم لك إنساناً ويقول لك: هو الله.. والله هو خالق السماوات والأرض، والله غنيٌّ عن العالَمين، والله قويٌ عزيز.. ثم يقولون لك: إنَّ هذا الإله صَلَبوه وبصقوا في وجهه، وكان يحتاج إلى الخبز، كما قال تعالى: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾ [المائدة:75] يعني يحتاج إلى الرغيف، فهل هذا هو الله؟ لا، فالله هو الذي يخلق الرغيف.
الكتاب السماوي قوة إلهية غيبية
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالشرائع الواضحة للعقول وللفهم، ﴿وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ [الحديد:25] فمع رِسالتهم صاحبناهم بكتابنا السماوي.
كم كتابًا يوجد اليوم؟ جبال من الكتب، ولكن كتاب السماء واحد، وكان مكتوبًا على الحجارة وعلى العظام وعلى ورق النخل، ولكن الفعل ليس لصفحات الكتابة إنما للمعلِّم، ومَن كان المعلم؟ خاتم النبيين ﷺ، وهل تعلَّم مِن ورقٍ أو عظمٍ؟ بل صار قلبه ورقًا كَتَب الله عزَّ وجلَّ فيه بخطِّ نورانيَّته، وكشف له الحقائق مِن الأزل إلى الأبد، بحسب استعداد النبوة والبشرية، فكان يُخبِر عمَّا سيقع بعد ألف سنة، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: ((أَسْرَعُ الْأَرْضِ خَرَابًا يُسْرَاهَا)) أي عالَم اليسار الشيوعي، وقد خَرِبَ، ((ثُمَّ يُمْنَاهَا)) مَن اليمين؟ الدول الغربية أو قانونها ونظامها.
ولقد سمعتُ مِن يومين أن تركيا ستشيد سدَّ أتاتورك، ويدَّعون أنهم يُريدون منع ماء الفرات عن البلاد العربية، والنبي ﷺ يقول عن ذلك، وهذا مِن معجزاته إذا تحقَّق الأمر وسيتحقق، يقول: ((سَيَأتِي يَومٌ يَحْسِرَ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ)) يعني يجف ((حَتَّى إذَا أَتَى إلَيهِ العَطشَانُ لا يَجِدُ فِيهِ كَأسًا مِنْ مَاءٍ)) .
أليس محمدٌ رسولَ الله؟ وقال أيضًا ﷺ: ((سَتُفتَحُ لَكُمُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ))، القسطنطينية كانت في ذلك الوقت مِثل واشنطن الآن، فهل مِن المعقول أنَّ أهل “كَفَرْ بَطْنَا” [قرية قرب دمشق] يفتحون واشنطن؟ هل مِن المعقول أنَّ قطر أو البحرين تفتح واشنطن؟
قصة محمد الفاتح وحكمة الشيخ وأدب المريد
قال ﷺ: ((لَتُفْتَحُنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَلَنِعْمَ الأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ)) ، وقد فَتَحها المسلمون بقيادة السلطان محمد الفاتح، لكن كان الفتح والنصر لأنَّ محمد الفاتح كان له شيخٌ عالِمٌ معلِّمٌ حكيمٌ مزكٍّ، وهو الشيخ “آقْ سَنْقَرْ” وقد أخبره شيخه قَبل سنةٍ وقال له: ستُفتَح لك القسطنطينة بعد سنةٍ في الشهر الفلاني في اليوم الفلاني في الساعة الفلانية، وقد قال رسول الله ﷺ: ((اتَّقُوا فَرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ)) .
وصار الحصار والجهاد وجاء اليوم الموعود، وصار الوقت بعد العصر وما فُتحتْ القسطنطينية، فبعث محمد الفاتح إليه الصدرَ الأعظمَ وكان بمثابة رئيس الوزراء يُطالبه بالدفع، فيجب على الشيخ أن يدفع السند، وما الدفع؟ فتح القسطنطينية الذي عَجَز عنه الأمويون والعباسيون وكل المسلمين.. ((خَيرُ أُمَّتِي أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا)) ، فأَراد رئيس الوزراء الدخول على خيمة الشيخ -وكان رئيس الوزراء هو الذي يأتي إلى الشيخ وليس العكس- فمَنعه الخادم.. هكذا كان الإسلام عزيزًا! وإنْ شاء الله سيعود أعزَّ مما كان أو مثلما كان بفضل الله وكرمه، ولا يزال الخير في هذه الأمة، فلا تيأسوا، فاليأس مِن الكبائر، فكما أنَّ قتل النفس والزنا مِن الكبائر، كذلك اليأس والقنوط مِن الكبائر.. قال له الخادم: الآن الشيخ يصلي، وقال لي: أن لا أُدخِل عليه أحدًا حتى ينتهي، فلمَّا انتهى الشيخ أعطاهم الخبر، فدخل وقال له: السلطان يسلِّم عليك، وقد وعدتَه وحان الوقت واستحقَّ الوفاء، فقال له الشيخ: لقد فُتِحت القسطنطينية، قال الصدر الأعظم: قد أتيتُكَ مِن غرفة العمليات -وهو يَقف منذ نصف ساعة والشيخ يصلي- فقال له: فُتحت القسطنطينية، قال له: يا سيدي ما فُتحت، قال: اصعد إلى هذا التل، وانظر إلى أسوارها، وأخبرني بما ترى.
وكان الشيخ يأمر الصدر الأعظم.. فلما كانوا هكذا يُعِزُّون علماءهم أعزَّهم الله عزَّ وجلَّ، ولَمَّا كان الوزراء والكبراء والأغنياء يعزُّون الشيوخ أكثر مِن أنْ يعزُّوا آباءهم وأبناءهم [نصرهم الله]، فقد أعزَّوا دِين الله بإعزاز أهله فأعزَّهم الله عزَّ وجلَّ.
قال: فصعد الصدر الأعظم على تلة مرتفعة تجعله يُشاهد القسطنطينية وأسوارها، وإذا به يرى البيارق والأعلام الإسلامية على أعلى أسوار القسطنطينية، وجنود المسلمين ينزلون بالرومان ذبحًا وطعنًا، فلما نزل قال له الشيخ: ماذا رأيت؟ قال: لقد فُتحتْ، قال: أما قلتُ لك: إنها فُتحتْ؟ وبعد الفتح أتى السلطان محمد الفاتح لزيارة شيخه في خيمته، وكانوا كما قيل: “نِعمَ الأُمراءُ عَلَى أَبوَابِ العُلَماءِ، وَبِئسَ الأمراءُ على أبوابهم العلماءُ” ، فإذا أحوجوا الشيخ أن يأتي إليهم فبئس الأمراء، ويجب أن يأتوا هم إلى الشيخ.. هكذا كان العرب وهكذا كان المسلمون.
وكان عادة الشيخ إذا أتاه محمد الفاتح يقوم له احترامًا، وبعد الفتح لم يقم له، وكان المفروض أن يُكرمه أكثر، لكنه تصرَّف بالعكس، وكانت حدود مملكة السلطان محمد الفاتح شاسعة، والدولة العثمانية كانت أوسع مِن الولايات المتحدة الأمريكية، ومع ذلك لم يتجرَّأ أو يغضب، بل سأل خادم الشيخ وقال له: لعلّي أذنبتُ ذنبًا، فلذلك لم يحتفل بي الشيخ الاحتفال المطلوب، فاسأله: ما ذنبي؟.. فهو لم يغضب من الشيخ، فالشيخ مربٍّ يا بني!.. فإذا ربَّاك [يكون له فضل كبير عليك]، وأنا والله لا أستطيع أنْ أُربِّيكم، ليس كلُّكم، فأنا أُداريكم وأعاملكم أنكم أنتم المشايخ وأنا المريد، ولا أقسو ولو قليلاً.. وهل يُذلُّ الشيخ المريدَ الصادق؟ وهل يعامله كضيفٍ غريبٍ؟ إنه لا يُعامله كولد، بل إن المريد الصادق أَبلغ مِن الولد الجسدي بألف درجة.. نسأل الله أنْ يجعلنا مريدِين صادقِين مع شيوخنا.
أرجو أن لا أكون ممن يزكِّي نفسه، بل مِن باب التَّحدُّث بنعمة الله، لقد كنتُ صادقًا مع شيخي، وواللهِ لقد رأيتُ مِن هذا الصدق والإخلاص في الخدمة خيرَ الدنيا، وإن شاء الله سيعطينا الله خير الآخرة، ولا نزكي أنفسنا على الله عزَّ وجلَّ.
قال: فسألوا الشيخ: شيخي هل أنتَ غاضب من محمد؟ إذ إنك لم تَقُمْ له حسب العادة تكريمًا، قال: “خفتُ عليه مِن العُجب بفَتْحه القسطنطينية، فأحببتُ أنْ أُصغِّر إليه نفسه”، رضي الله عن المعلِّم وعن التلميذ، رضي الله عن الشيخ وعن المريد.
وهذا لولا المسبحة هل ستكون فيه هذه الأخلاق مِن التواضع والعلم والإيمان والتزكية والتقوى؟ فإذا لم توجد المسبحة ولا يوجد الذكر الكثير، ولا توجد الرابطة بالمربي الحكيم المزكي كارتباط الروح بالجسد والجسد بالروح، فستكون أمورك سطحية.. ﴿فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ [التوبة:58]، فإن لم يُدَلِـّلْـهُ الشيخ ويكرمه ويعطه سَخِط، فهل أنت طالب دنيا أم طالب قلب وطالب إيمان وطالب صدق وطالب تزكية؟.. نسأل الله أن يجعلنا مِن الموفَّقِين في صُحبة أحباب الله.
رسالة واضحة فيها منهاج حياة وسعادة الدارين
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [الحديد:25] لا بالأشياء المبهمة غير المفهومة التي يرفضها العقل وترفضها مصلحة الإنسان وسعادته، بل كلها واضحة: ((أَتَيتُكُم بِها بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ)) ، لقد زاغ المسلمون عن الإسلام، أين الإسلام في كل طبقات الناس؟ ولذلك ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5]، ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد:17]، والنبي ﷺ قال فيما يرويه عن ربه: ((مَنْ تَقَرَّبَ إليَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِرَاعًا)) . هل تستطيع أن تخلق ابنك وتجعل له عيونًا ورأسًا؟ أنتَ عليك أن تتزوَّج، وعليك أن تضع بذرة للشجرة، وهل تستطيع أن تُخرج منها شجرة؟ فلا بدَّ مِن المقدَّمة أن تكون منك، والبقية على فضل الله وكرمه.
﴿وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ [الحديد:25] أعطاهم الرسالة مصحوبةً بالكتاب، يعني الدستور والتشريع الإلهي ليمشوا على هديه وتعاليمه، لماذا؟ لينقلهم مِن الظلمات إلى النور، ومِن الفقر إلى الغنى، ومِن الجهل إلى العلم، ومِن الحَمَق إلى الحكمة، ومِن الفرقة والعداوة إلى الوحدة والجماعة والمحبة، قال: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد:25] إذا مشَوا على ميزان القرآن؛ ميزان كتاب السماء، فسيُعطَى لكل ذي حقٍّ حقَّه، فلا تجد ظالِمًا ولا مظلومًا، ولا جائعًا ولا مُتخَمًا، ولا قويًّا متسلِّطًا، ولا ضعيفًا مضطهَدًا.
﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد:25] أي بالعدل، والعدل للعموم، فلا يَصحُّ أن تعدل مع المسلم وتحيف على غير المسلم؟ لا، ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ﴾ ليس “الذين آمنوا”، بل ﴿النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾.
وتذكرون قصة النبي ﷺ لَمَّا مَنَع الصدقة عن الوثني كيف عاتبه الله عزَّ وجلَّ في سورة البقرة حتى طلبه النبي ﷺ ليعطيه المعونة كما يعطي للمسلمين .
وتذكرون في سورة النساء لَمَّا اتُّهم يهودي بالسرقة مِن قِبَل المسلمين، وكان السارق مسلمًا، وكاد النبي ﷺ يُعاقب اليهودي البريء، فانتصر القرآن للبريء مع أنه يهوديٍّ على المسلم، لأنه هو السارق المجرم .
البأس الشديد بالحديد مع المجرمين
﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد:25] والقيام بالقسط يكون إما بالإيمان أو بالقضاء، ولكنه في بعض الأوقات لا ينفع الإيمان، وذلك لفقده، ولا ينفع القضاء بسبب قوة الظالم، فقال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ قال: وإنْ لم يأتِ [المجرم] بالتوجيه والإرشاد والدِّين، فبالسيف اقطع رأسه أو اقطع يده أو يده ورجله من خِلافٍ، وهذا لقطَّاع الطريق الذين يقتلون أو يجرحون أو يأخذون المال.
قال: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ بأسٌ شديدٌ لِمَن؟ للذين إجرامهم شديد، وعدوانهم شديد، وتعدِّيهم على الأمم أو الشعوب أو الأفراد شديد، لأنهم ما استجابوا للعظات ولا لميزان الشريعة، فماذا يحتاج هؤلاء؟ قالوا: “من لم يستجب بشراب الرمان يقتضي أنْ يُدعى بقضبانه، ومَن لم يُصْلُح بشراب الليمون يحتاج إلى الإصلاح بقضبانه” وهل قضبان الرمان والليمون تكون ملساء أم شائكة؟.. نسأل الله أن يُوفِّقنا بالشراب لا بالأشواك وقضبانها.
الحديد في التوجيه القرآني
قال: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [الحديد:25] البأس الشديد هو الصناعة الحربية للأسلحة، سواءٌ للمجرمين في الداخل أو أهل البغي والاعتداء، أو للمجرمين في الخارج لِمَا يُسمَّى بالاستعمار.. إلخ، ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [الحديد:25] قال: استعملوا الحديد لِما فيه مِن بأسٍ وقوةٍ تجاه أعدائكم أو أعداء الأخلاق، واستعملوه لصناعاتكم.
في العالَم يوجد مليار مسلم، هل هم مؤمنون بالقرآن؟ نعم مؤمنون، فهل يا ترى آمنوا بسورة الحديد؟ وهل يمكن أن تُؤمِن بشيءٍ لا تعرفه أو بشيءٍ تجهله؟ والإيمان الحقيقي الصادق هو الذي يوجب العمل به، فإذا آمنتَ أنَّ هذا شرابٌ بالعسل، وكنت بحاجة إليه، فإنّ الإيمان يقتضي استعماله، وإذا آمنتَ أنَّ هذا عقرب، فهل يقتضي الإيمان بعقربيته وسمومه ولدغته أن تضعه على صدرك؟ وهل يقتضي الإيمان بالحية أن تجعلها “كرافة” [ربطة عنق] على رقبتك؟ إن الإيمان يقتضي الابتعاد.
فأيننا نحن مِن جزءٍ مِن آية مِن سورة الحديد؟ والسورة كلُّها عُنوِنتْ باسم الحديد، أي استعملوا الحديد ليكون بيدكم البأس الشديد والمنافع، وهذه المنافع ليست للمؤمنين فحسب، بل لكل الناس، ولتستهلكوه وتصدِّروه؛ فالاستهلاك للمؤمنين، والتصدير للناس أو غير المؤمنين.
الشيخ اليوم يقرأ القرآن: ﴿وَأَنْزَلْنَا﴾ ماذا يفهم منها؟ يفهم: النون ساكنة وبعدها زاي فالحكم إخفاء، و﴿بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ التنوين بعده الشين أيضًا إخفاء، والدال قلقلة كبرى.
هذه جزءٌ مِن الآية، هل آمنا بها إيمانًا عمليًّا؟ إننا ننطق بها نطقًا حرفيًّا، ولا نُدِير أفكارنا إليها للفهم العلمي والعملي والتطبيقي، ((وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ)) ، تسمع كلام الله، ولا تنفذه، فهل أنتَ مِن أولياء الله أم مِن أعدائه؟ ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون:8] فهل آمنتَ حتى تكون لك العزة؟ ليس بكل السورة، بل بجزء مِن آية مِن السورة، أين مصانع الفولاذ؟ وأين مصانع البواخر والبوارج والقطارات والسيارات والآلات المدنية؟
هذا كفر بالإسلام وكفر بالقرآن.. أتاني أحدكم مِن خريجي الكلية وهو موجود بينكم، [يسأل الشيخ:] هل علاء هنا؟ بعد أن تخرَّج بتفوُّق قال لي: أُريد أن أقرأ الشاطبية على القراءات الأربعة عشر، وهذا شيء لا بأس به، وشيء مهم، قلت له: هل فهمتَ القرآن على قراءة حفص؟ وهل طبَّقته؟ وهل نحن الآن بحاجة أنْ نقرأ القرآن على الأربعة عشر، وإذا قرأنا على الأربعة عشر هل سنفهم أكثر؟ وهل سنعمل أكثر؟ بالعكس لا نهتم بالفهم، ويصير همُّنا وتفكيرنا كيف نقرأ: ﴿وَالضُّحَى﴾ [الضحى:1] بالألف أو بالإمالة، لكن ما هو مفهوم القرآن؟ ما الهدف وما العمل به؟ قلتُ له: تعلَّم علوم كذا وكذا أفضل لك مِن تعلُّم القراءات.. فيجب أنْ نُقدِّم الأولويَّات. [جرت هذه القصة مع الشيخ الدكتور علاء الدين الحموي رحمه الله تعالى، بعد أن تخرج من كلية الدعوة وحصل على إجازة القرآن بقراءة حفص، حيث كان الدكتور علاء من المدرسين في مجمع أبي النور، ومن البارزين بين تلامذة سماحة الشيخ، وكان كثيراً ما يذكر هذه الحادثة لإخوانه وطلابه.. وكان العلم الذي أرشده سماحة الشيخ لتعلُّمه هو اللغة الأجنبية، حيث كان مما قال له: إن تَعَلُّم لغة أجنبية عالمية في أيامنا يفيد الدعوة أكثر من علم القراءات القرآنية]
﴿أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [الحديد:25] لماذا؟ لتفهموا هذه الرسالة؛ رسالة الله، ولتنصروا الله بنصركم لدِينه ولرسله وأنبيائه، فهل حقَّقنا ما دعانا الله عزَّ وجلَّ إليه مَن أنْ نتفهَّم القرآن ونعمل به ونعلِّمه للناس بأقوالنا وأعمالنا وأخلاقنا وسلوكنا وخُلقنا؟ هذا هو القرآن.. لا تفرح بأنك قرأتَ ختمة قرآن أو مئة ختمة، بل افرح إذا فهمتَ آيةً وصارت فيك عِلمًا وعملًا وخُلقًا وسُلوكًا وتعليمًا للآخرين، وهذا لا يكون إلا بالإيمان، كما قال أصحاب رسول الله ﷺ: “نحن أوتينا الإيمان قبل القرآن”، وقالوا للتابعين: “وأنتم أوتيتم القرآن قبل الإيمان” ، هذا الجيل الثاني بعد الصحابة، وبعد خمسين جيلًا ما الذي حصل بنا؟
هل تريد أن تصير نجَّارًا مِن غير معلِّم؟ وهل تصير طيَّارًا مِن غير معلِّم؟ وهل تصير سائقًا مِن غير معلِّم ومِن غير صحبة ومِن غير ارتباط؟ فهل لك شيخ؟ هل لك معلم؟ مَن ليس له معلم هل يصبح عالِمًا أم جاهلًا؟ والذي ليس له هادٍ هل يصبح مُهتديًّا أم ضالَّا؟ بل يصير شيطانًا مُضِلًّا، وإذا نظرتَ إلى الناس فإنك ترى منهم الشيطان ومنهم إبليس.
صراع أبي غنيم مع الشيطان
مرة حكى لي أبو غُنيْم [أبو غنيم من تلامذة سماحة الشيخ القديمين، وممن أكرمه الله بعلم القلب وبالحب، وكان سماحة الشيخ كثيراً ما يضرب به المثل، لأنه كان أمياً ثم صار داعية ناجحاً ومؤثراً في النفوس] أنه وهو آتٍ يوم الجمعة إلى الدرس مِن كفر بطنا [بلدة قرب دمشق] قال: بينما أنا أمشي بين البساتين كان هناك شلال من الماء ينزل من أعلى إلى أسفل ينساب في باطن الأرض، قال لي: وإذا به من قلب الشلال يخرج شيطان يراه بعينه.. [الشيخ يسأله:] أنت أخبرتني بهذا، صحيح؟ [قال أبو غنيم: نعم، فيقول الشيخ:] احكِ لنا كيف كانت القصة.. [يطلب الشيخ من مسؤول الصوت ويقول له:] أعطه المذياع.. [أبو غنيم يروي القصة -وكان التسجيل الصوتي غير واضح- ولكن الخلاصة كانت أنه كان يذهب لشيخ جاهل لا يعرف الدين، ثم تركه ولحق بشيخه المربي الشيخ أحمد كفتارو، وبينما هو ذاهب ذات مرة إلى الدرس ظهر له الشيطان، وقال له: إن ذاك الشيخ أحسن من شيخك، فقال له: أنت تطعن بشيخي.. ويختم أبو غنيم القصة بقوله: فهجمت عليه وضربته فضربني وضربته، ثم غاص في الأرض.. ويعقب سماحة الشيخ فيقول وهو يضحك:] فغاص في الأرض.. لقد تعب.. ((إنَّ الشَّيْطَانَ ليَفِرُّ مِنْكَ يَا عُمَرُ)) .
كان في ذاك الوقت شيخ أميّ جاهل، وكان يخربط في الشرع والدين والعقائد، وكان أبو غنيم يذهب إليه، ثم رجع إلى الشيخ الحقيقي، وفي طريق العودة ظهر له الشيطان عياناً، وأخذ يطعن في الشيخ الحقيقي، ولكن الله وفَّقه، فهجم عليه وقال له: أنتَ تتكلم على شيخي، وسأضربك.. ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء:76]، [الشيخ يسأل أبا غنيم:] هل كان ذلك في المنام أم في اليقظة؟ كان في اليقظة.
الإيمان بالمغيَّبات
﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ﴾[الحديد:25] يعني أرسلنا رسلنا، وأنزلنا الحديد لينصروا دِين الله ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ﴾ من ينصره: يعني ينصر دِينه، وبالغيب: من غير أن يُبْصِرَه، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة:3] سواءٌ بوجود الله أو بالجنة أو بالنار، فهذه مغيَّبةٌ عنا، لكن لَمَّا رأينا مِن صدق النبي ﷺ ومعجزاته وكل الصفات التي تنزِّهه عن الافتراء آمنا به، وصدَّق اللهُ كلَّ ما دعَى إليه، كما قال ﷺ: ((سَتُفتَحُ لَكُمُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ)) وفُتِحَتْ، وقال تعالى: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [القمر:45] هذه الآية نزلتْ قَبل بدرٍ بسبع سنوات تقريبًا.. إلخ.
﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحديد:25] إذا كنتُم مع الله وهو قائدكم فهو القوي القادر، فلا تُهزَمون، وهو العزيز الذي لا يحتاج إلى غيره ليناصره، ولكن ابتلانا لِيُعظم لنا الأجور، ولِيَرفع لنا الدرجات، ولِيُعلِمنا أننا في دارٍ قائمةٍ قوانين الله فيها على الأسباب والمسبَّبات حسب قرآن الله المفسَّر بأعمال النبي وحياته وسنته صلى الله عليه وآله وسلم.
النبوة في ذرية نوح وإبراهيم عليهما السلام
﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا﴾ [الحديد:25] رُسُلنا الأُوَل بالنسبة لكلِّ العالم، ثُمَّ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ﴾ أمَّا هنا فبالنسبة للجزيرة العربية نوحًا وإبراهيم عليهما السَّلام ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ كتاب: الشرائع، والنبوة: النبوة هي التي تكشف الحقائق المغَيَّبَة، ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا﴾ [الحديد:26] لم تخرج النبوة عن ذريتهما، وهذا مِن تكريم الله لإبراهيم عليه السَّلام لأنه صَدَق الله عزَّ وجلَّ حيث هُدِّد بالنار، وأُلقي بالمنجنيق فلم يتزعزع له إيمان، وهو في هَوْيَة المنجنيق ظهر له جبريل عليه السَّلام، وقال له: هل لك مِن حاجة؟ قال: أَمَّا إليك فلا، قال له: سل ربك، قال: “حسبي مِن سؤالي عِلمه بحالي” .
ما هذا اليقين! ما خاف ولا هاب.. جبريل عليه السَّلام يسأله ماذا تريد، قال له: ألا يرى الله تعالى؟ فهو يعلم ما أنا محتاج إليه، ﴿قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء:69] وكذلك أمره الله تعالى بذبح ولده الوحيد، وكان عُمرُ سيدنا إبراهيم عليه السَّلام في ذلك الوقت تقريبًا مئة وعشرين سنة وعُمرُ الولد اثنتي عشرة سنة.. والله يقول للناس: اذبح تيسًا أو خاروفًا أو كبشًا، ولكنهم لا يذبحون، فكيف سيعامل الله عزَّ وجلَّ مَن يذبح له ولده، وكيف سيعامل مَن بَخِل بالقليل أو الكثير مِن واجباته؟ لذلك أكرم الله تعالى سيدنا إبراهيم عليه السَّلام، وجعل في ذريته النبوة والكتاب.. والنبوة هي انكشاف المغيبات، والكتاب هو التشريع السماوي.
النسب الجسدي منقطع ما لم يتصل بالروح
وماذا صنعت ذريته؟ وهل كُلُّ ذريته ورثوا النبوة والكتاب؟ قال: لا ﴿فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد:26] منهم: يعني بعضهم، فالقليل اهتدى، وأمَّا الكثير فهم فاسقون.. سبحان الله ما أعظم كتاب الله وكلام الله وتشريع الله!.. قال: ما نفعهم أنهم مِن ذرية إبراهيم عليه السلام إذا كانوا على غير طريقته، بل إن أبا إبراهيم آزر أمره الله تعالى أنْ يتبرَّأ منه، ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ [التوبة:114]، وابن نوح عليه السَّلام لَمَّا لم يمشِ على طريق أبيه قال الله تعالى له: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ فقَطَعه عن النسب ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ [هود:46] فهو ابن الشيطان وليس ابن نوح عليه السَّلام، ولا آزر أبو إبراهيم عليه السَّلام، فالجسد ونسب الجسد تراب وإلى التراب يعود.. فنسأل الله تعالى أن يرزقنا النسب الرباني الروحاني الإيماني، كما قال بعضهم
نَسَبٌ هُو أَقرَبُ فِي شَرْعِ الهَوَى بَينَنَا مِنْ نَسَبٍ مِنْ أَبَوَين
فالذي يصير ابن الشيخ الحقيقي نسبه أبلغ مِن نسب الابن للأب، وابن الجسد إذا لم يمشِ على طريق صلاح والده وتقواه فنسبه انقطع، وهو منقطِع بصريح القرآن، سواءٌ مع الأب أو مع الابن أو مع الأخ أو مع العم، قال تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد:1] لم يقل: “تبت يدا أبي جهل”، لئلَّا يَغترَّ الناس بالأنساب والأحساب إذا كان الفرع يمشي مخالِفًا لطريق أصوله وآبائه.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن لا يُزيغَ قلوبنا بعد إذ هدانا.
تتالي الرسل والدعاة إلى الله
﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ﴾ بعد نوح وإبراهيم عليهما السَّلام، ﴿بِرُسُلِنَا﴾[الحديد:27] بَعثْنا رَسولًا وراء رسولٍ، ما أَعظم حنان الله عزَّ وجلَّ! هذه وزارة التعليم العالي الإلهية تبعث أستاذًا واحدًا.. فسيدنا محمد ﷺ أستاذٌ واحدٌ لكلِّ العالَم، وتبعث كتابًا واحدًا لكل العالَم، والذين مشَوا عليه صاروا أسعد شعوب العالم.. اللهم رُدَّنا إلى دِينك ردًّا جميلًا، وليس دعاءً ثم تتوقَّفون، بل بعد الدعاء عليكم أن تستمرُّوا، “رُدَّنا” ربما أنت ردَّك الله، فإذا رأيتَ ضالًّا فرُدَّهُ إلى الطريق المستقيم، وبذلك تكون صادقًا في الدعاء، وإلَّا فتكون كاذبًا ومُعتَدٍ في الدعاء، تقول: “أنا لستُ عالِمًا”، ولكن ليس شرطًا حتى يُعلِّم الإنسان ما تعلَّمه أنْ يكون عالِمًا كُلِّيًّا، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: ((بَلِّغُوا عَنِّي ولو آية)) وَلَوْ حَدِيثًا وَاحِدًا.. يعني بَلِّغْ ما سمعتَه، وليس شرطًا أنْ تسمع كلَّ شيء حتى تبلِّغ كلَّ شيء، ويجب عليك أنْ تُعلِّم بالأقوال وبالأعمال وبالقلب وبالأخلاق وبالسيرة، ولكن هل النجار يتعلَّم النجارة بالمحاضرات مِن معلِّمه؟ إذن كيف يعلِّمه المعلم؟ يعلمه بالعمل، لا يُعلمه بالأُذن بل يعلمه بالعين، والجزار كيف يُعلِّم الذبح والسلخ والتقطيع وكذا؟ هل يعلم بالمحاضرات؟ وهل السباحة بالمحاضرات؟ وهل أكل البقلاوة بالمحاضرات فتقول له: البقلاوة لذيذة بمذاقها وبرائحتها؟ [البَقْلاوَة: حلوى فاخرة مشهورة بالبلاد العربية وتركيا] أحضر له بقلاوة فيشم الرائحة فيعرفها، وأما إذا أتيته بِقِشْرِ البقلاوة على الورق فلن يعرف أيَّ شيء عن البقلاوة.. هذا إذا كان ممن يكتفي بعِلم الورق، كما قال الشاعر
لَو أَلفَ رَطْلٍ كِلْتَ خَمرًا لَم تَصِرْ سَكْرَانَ حَتَّى تَشرَبَ الخَمرَ
لن تَذوقَ طَعْم الإيمان إلَّا بعدما تهترئ أصابعك من المسبحة بذكر الله، وقد أمر الله مرات كثيرة بالإكثار من الذكر، كما قال تعالى: ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:41] ومع ذلك فإن طالب العلم لا يذكر الله، وحتى في صلاته هو مِن الغافلين، وفي ركوعه مِن الغافلين، ومع الله مِن الغافلين، بينما قال تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ ثم قال: ﴿وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُون﴾ [الجمعة:10] [هذا الذكر بعد الصلاة]، وفي الصلاة قال: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه:14]، ونحن طلاب العلم ماذا فَعَلْنا بهذه الآية وهذه الدروس الإلهية؟ هل نفَّذناها وهل طبَّقناها؟
وَعَالِمٌ بِعِلمِهِ لَم يَعمَلَنْ
مُعَذَّبٌ مِن قَبلِ عُبَّادِ الوَثَنْ
وَكُلُّ مَنْ بِغَيرِ عِلمٍ يَعمَلُ
أَعمَالُهُ مَردُودَةٌ لَا تُقبَلُ
نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا مِن العاملين والمخلِصين والمخلَصين.
صفات أصحاب المسيح عليه السَّلام
﴿وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ﴾ [الحديد:27] الإنجيل معناه البِشارة، وكلُّ نبيٍّ يكون مبشِّرًا للمتقين بالسعادة، ونذيرًا للفاسقين والكافرين بالقصاص الإلهي.. إلخ.
﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾ [الحديد:27] حتى كانوا كما أَمَرهم: “أَحِبُّوا أعداءكم”، هل يُعقَل أنْ تحبُّ عدوَّك؟ “وباركوا لاعنيكم” ادعُ بالبركة للذي يلعنك، “وصَلُّوا مِن أجل الذين يُبغضونكم”، إنْ فعلت خيرًا مع مَن صنع لك خيرًا فما عملتَ شيئًا، لأنَّ كل الناس يفعلون ذلك، لكن افعل الخير مع مَن فعل معك شرًّا، وهكذا وصف الله عزَّ وجلَّ المؤمنين والمسلمين في القرآن، فقال: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح:29]، وقال: ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ [الرعد:22]، ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ [المؤمنون:96]، ويوجد: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى:40] هذه أدنى الدرجات، وإذا أردت أنْ تُعاقِب فـ ﴿بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل:126]، والأفضل أن تعفوَ وتصفح بلا قصاص ولا عقاب، والأعلى أنْ تُقابِل السيئة بالحسنة، فإذا سبَّك تقول له: “جزاك الله خيرًا، رضي الله عنك وغفر لك”، هل لكم طاقة على أنْ تفعلوها؟ هل قرأتموها في القرآن؟ وهل قرأتموها للعمل أم لترك العمل؟ فإذا قال الله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [البقرة: 43] هل تقرؤوها لتقيموا الصلاة أم لتتركوا الصلاة؟ وإذا قرأتم: ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة:43] هل تقرؤوها لتؤتوا الزكاة أم لتمنعوا الزكاة؟ وهذا بلا شيخ لا يُمكن، فأبو بكر رضي الله عنه هل صار بنفسه؟ وعمر رضي الله عنه هل صار بنفسه؟ وأبو جهل لَمَّا عادى وجافى المعلِّم المربِّي الحكيم خاتم النبيين ﷺ صار مِن الملاعين والتُّعساء في الدنيا قَبل الدار الآخرة، وقوم فرعون وقوم عاد وقوم ثمود هل عذَّبهم الله عزَّ وجلَّ بالدنيا أم بالآخرة؟ بالدنيا قبل الآخرة.
الإسلام هو العلم والعمل والإخلاص “الناس هلكى إلا العالمين” والعلم مِن أين يؤخذ؟ هل مِن السهرات ومن الكلام الفارغ واللغو “قالوا وقلنا وقيل”؟ ((إنَّ اللهَ يَكرَهُ قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ)) .
﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً﴾ قال: وهي أشدُّ الرحمة، فصاحب الرأفة عنده من الرِّقة أنه يُحِسّ بألم المتألم وجوع الجائع ومرض المريض، بأقصى وأعلى الدرجات.
﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا﴾ لَمَّا شُدِّد عليهم مِن أجل إيمانهم وصار الملوك يقتلونهم، لجؤوا إلى البراري والجبال، وتركوا الدنيا فرارًا بدينهم، قال: ﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ [الحديد:27] لأنَّ ((الْمُؤْمِن الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤْمِن الَّذِي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ)) .
﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ ولكن فعلوها ابتغاء مرضات الله ﴿فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ﴾ بقوا على الاستقامة والتقوى مع هذه الرهبانية، ثم قال: ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ مع أنهم رهبان وترهبنوا ﴿فَاسِقُونَ﴾ [الحديد:27] فالأقل صادقون، وأما الأكثر ففاسقون.
واجب العمل بعد العلم والبلاغ
فالمهم الآن أنّ حُجَّة الله قامت عليكم، وشُرحت لكم الآيات، فيجب أنْ تُحوِّلوها مِن السماع إلى العمل وإلى التبليغ للآخرين وإلى التعليم، فتعلِّموا الناس بأعمالكم وسلوككم وأخلاقكم، وعند ذلك يَكتب الله لكم بكل حرفٍ مِن القرآن سمعتموه أو قرأتموه عشر حسنات.
وإذا لم تفعلوا ذلك فستكونون قد قرأتم القرآن على القراءة الخامسة عشر، [الشيخ يسأل الحضور:] كم عدد القراءات؟ أربعة عشر، وهناك القراءة الخامسة عشر، وهي مذكورة في القرآن: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5]، إذا حمَّلنا الحمار كلّ كُتب العلوم وكُتب الحديث فهل يستفيد؟ نسأل الله تعالى أن لا يجعلنا حَمَلة عِلم وحَسْب، بل يجعلنا عاملين بالعلم، مخلصين في العمل.