تنبيه الله تعالى لعبادة المؤمنين
نحن الآن في تفسير بعض آياتٍ من سورة الحديد، يقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ [الحديد:16]، أمَا آن الأوان للمسلمين المؤمنين بوحدانية الله، وبنبوة رسول الله ﷺ، وبالقرآن كتاب الله تعالى، أمَا آن لهم الأوان أنْ ينتقلوا ويتَّجهوا إلى إسلام القلوب والروح، وأن لا يكتفوا بإسلام الجسد وطقوسه، وأن لا يكتفوا بصلاة الجسد بقيامه وركوعه وسجوده وتحريك لسانه في آيات الله وتسبيحه؟ أمَا آن لهم أنْ تصل روح الذِّكر إلى قلوبهم وأرواحهم حتى تتَّصل بخالقها، فتسري في نفوسهم روح الله عزَّ وجلَّ وحكمته، ويفيضُ عليهم مِن علومه اللَّدُنِّية التي لا تُؤخَذ مِن طريق اللسان إلى الآذان، ولكن مِن طريق القلوب الطاهرة المعمَّرة بذكر الله، المتَّجِهة إلى قِبلة القلوب والأرواح؛ إلى حضرة الله عزَّ وجلَّ؟ أمَا آن لهم أنْ ينتقلوا من إسلام الجسد إلى إسلام الروح، فيجمعوا الإسلام بجناحيه جسدًا وروحًا، عقلًا وفِكرًا، أخلاقًا وسلوكًا؟ هذا الإيمان بهذا المعنى هو الذي عناه الله عزَّ وجلَّ بقوله: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47] الذين يجمعون الإيمان مِن كلِّ أطرافه، ويعيشونه بكلِّ أبعاده، ويحققونه في أنفسهم عملًا قلبيًّا وحكمةً عقلانيةً، ومعاملةً سلوكيّةً، ونفوسًا مزكَّاةً وأخلاقيةً، هذا هو الإيمان الذي ذَكَره الله عزَّ وجلَّ في آياته مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنفال:2] تمتلئ جلالًا وهيبةً وخشوعًا ولذَّةً وطَرَبًا وعِلمًا إلهيًّا ونورًا ربانيًّا يجلو الظلمات عن القلوب، فيظهر فيها العِلم الحقيقيُّ الذي قال عنه الإمام الشافعي رضي الله عنه
شَكَوتُ إلى وَكِيعٍ سُوءَ حِفظِي فَأَرشَدَنِي إلى تَرْكِ المعاصِي
وأَخبَرَنِي بِأنَّ العِلْمَ نُورٌ ونُورُ اللهِ لا يُهدَى لِعاصِي
فأين هذا العلم في جامعاتنا الدِّينيَّة؟ أين هذا العلم مِن دراساتنا الإسلامية؟ فدراساتنا وجامعاتنا فيها عِلم التلاوة وعِلم القراءة، وهذا لا يكفي، فالعلم لابد أن يكون بكلِّ أطرافه وصفاته حتى يُمازج القلبَ والعقل والفكر، ويُحارب الهوى والأهواء، ويَظهر في الجوارح وفي كلِّ أعمال الإنسان؛ في غناه وفي غضبه، في حبه وعدواته، في رغباته وطمعه.. أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا هذا الإيمان.
ارتباط الدعاء بالعمل
ولا يصح الدعاء بلا مباشرة الأسباب التي تُوصِل إلى ما يطلبه الإنسان مِن ربِّه، فإذا طلبتَ مِن الله الولد ولم تباشر أسباب الزواج فهذا الدعاء أُمْنِيَّة وأماني، ((لَيْسَ الإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي ولا بِالتَّمَنِّي، ولكنَّ الإِيمَانَ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ)) ، وعاتب الله عزّ وجلّ المؤمنين بعد ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن بقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحديد:16] يعني أمَا آن الأوان؟ لماذا هذا التقاعس وهذا التخلُّف عند الذين آمنوا؟ هم آمنوا، ولكن الإيمان درجات، كما قال الله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة:11].
مرة أَتَى أحد أصحاب رسول الله ﷺ، وقد لزمته كفارةُ يمينٍ بعتق رقبة مؤمنة ((فأَتَى بجاريةٍ يعرض إيمانها على رسول الله ﷺ فسألها النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام: أمؤمنة أنت؟ قالت: نعم، فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ اللَّهُ؟)) وهي حَبَشيَّة أَعْجَمِيَّة ((فَأَشَارَتْ بِأُصْبُعِهَا إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)) ، فهل هذا الإيمان مثل إيمان أبي بكر رضي الله عنه الذي قال عنه رسول الله ﷺ: ((لَوْ وُزِنَ إِيمَانُ أَبِي بَكْرٍ بِإِيمَانِ أَهْلِ الْأَرْضِ لَرَجَح)) ؟ هل يستوي إيمان أبي بكر رضي الله عنه وإيمان هذه الجارية؟
وهنا في سورة الحديد يَسْتَفِزُّ الله عزَّ وجلَّ المؤمنين ليَرفعوا مِن هِممهم إلى القمة وإلى الذروة، فكما أنَّ الإنسان يحب أن يكون في القمة في أمور دنياه، ففي ملبسه يحبُّ أن يلبس أفخر الثياب، وفي مأكله يختار أطيب الطعام، وهذا في كلِّ شيءٍ من أمور جسده، وصحبة الجسد للإنسان “للروح” صحبة مؤقتة زائلة، أليس الأَولى والأوجب أن يختار الأفضلَ لحقيقته التي هي روحه ونَفْسُه؟ والتي عِزُّها وسعادتُها وقُربها مِن الله يكون بإيمان القلب وإيمان الروح، وكما ورد ((لَيْسَ الإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي ولا بِالتَّحَلِّي، ولكنَّ الإِيمَانَ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ)) فعندما يؤمن الإنسان بالأفعى بأنَّ عضَّتها ولدغتها قاتلةٌ، ويستقرُّ هذا الإيمان في قلبه، كيف يكون عمله نتيجة هذا الإيمان القلبي؟ هل يسمح له إيمانه أن يجعل الأفعى في حِجره أو تحت قميصه أو يجعل أصبعه في فمها؟ اللهمَّ ارزقنا إيمانًا يدفعنا إلى مراضيك ومحبوباتك من الأعمال والأخلاق والفضائل، ويحجبنا عن معاصيك وعن محرماتك، حتى يكون فينا طبيعة وخُلُقًا وسجيَّةً.. هذا هو الإيمان الذي قال عنه الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ [مريم:96]، وهذا إضافة إلى عشرات البشائر التي بشَّر الله عزَّ وجلَّ المؤمنَ بها.
قال رسول الله ﷺ: ((الْمُؤْمِنَ يَأْلَفُ وَيُؤْلَف، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ)) مع أنّ المسلم اليوم يقول: “لا إله إلا الله”، ويصلّي ويصوم، ولكنه ما وصل إلى إيمان حُسن الخُلق الذي هو شعبة من شعب الإيمان تزيد على بضعٍ وسبعين شعبة.. وحسنُ الخلق قال عنه رسول الله ﷺ: ((ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)) .
نرجع إلى الآية، يقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ﴾ [الحديد:16]، إذا قالوا لك: ألم يأن لك أن تصل إلى المدينة؟ فماذا عليك أن تفعل؟ عليك أن تضغط على مكبس البنزين [الوقود]، وتزيد مِن سرعة السيارة، وتبذل الطاقة بسخاء.. “ألم يأن؟” هذا الخطاب ليس لأصحاب رسول الله ﷺ فقط، بل لكلِّ مؤمنٍ ومؤمنة إلى يوم القيامة.
قصة توبة عبد الله بن المبارك
لا ترضى بالدنيّةِ في دينك وإيمانك كما أنَّك لا ترضى بالدنيَّة في دنياك ومصالحك، والدنيا غثاء والآخرة هي الحياة الحقيقية الخالدة الأبدية لو كانوا يعلمون.. يُذكَر عن عبد الله بن المبارك -وقد كان مِن كبار العلماء التابعين- أنه كان في أوَّل أمره كبقية الشباب، قال: كنتُ يومًا في بستان وأنا شابٌّ، وكان معي أصحابي، قال: أكلنا وشربنا وكنتُ مولعًا في ضرب العود، قال: فأخذتُ العود ليلةً لأضرب به، فسمعتُ مِن العود صوتًا، يقول: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ [الحديد:16].. هؤلاء السِّكِّيرون في السلف الصالح الذين أدركوا أصحاب رسول الله ﷺ، وببركة رؤيتهم للصالحين مِن الذين تخرَّجوا من مدرسة رسول الله ﷺ صار سكيرهم يسمع العِظات مِن آلات المعاصي، والآن يقرأ المسلم القرآن ولا يتَّعظ به، ويسمع العظات ولا ينتفع منها، وما ذلك إلا لموت القلب، فإذا مات القلب لا تنفعه نصيحةُ ناصحٍ ولا عظةُ واعظٍ: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا﴾ [النمل:81] الإيمان لا يكون بالسماع بهذه الأذن، بل بالسماع بأذن القلب: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق:37]، وما هو القلب؟ قال
قُلُوبٌ إذا مِنهُ خَلَتْ فَنُفُوسُ لِأَحرُفِ وَسواسِ اللَّعِينِ طُرُوسُ
“قلوب إذا منه خلت فنفوس”: القلوب إذا خَلَتْ من ذكر الله ومن خشية الله، ومن جلال وعظمة وجمال نور الله فهي نفوسٌ بالسوء أمَّارة، “طروس”: الطروس هي الدفاتر، يعني تصير قلوبهم دفاتر وكتبًا يؤلِّف فيها الشيطان أغراضه وأهدافه مِن الإنسان؛ من إضلالٍ وهوى وزيغٍ وفسوق.. إلخ.
وإنْ مُلِئَتْ مِنه ومِن نُورِ ذِكرِه فَتِلكَ بُدُورٌ أَشرَقَتْ وشُمُوسُ
“وإن مُلِئَت منه”: إذا مُلِئت القلوب من جلال الله ومن عظمة الله ومن محبة الله.
ولماذا صار إيمان أبي بكر رضي الله عنه يرجح على إيمان الناس؟ لِقوة حبِّه للمعلم، ولقوة حبِّه للمرشد المزكِّي خاتم النبيين وإمام المرسلين ﷺ.. وبعد النبي ﷺ علينا أنْ نفتِّش عن وارثٍ محمَّديٍّ نَلْزَمُه صحبةً وقلبًا وحبًّا وصدقًا وإخلاصًا ((والْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِه، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)) .. فنسأل الله أنْ يجعل أَخِلَّاءَنا أحبابَه: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:67]، وهذا في الدنيا -واللهِ يا بني- قبل الدار الآخرة.
قال: فلمَّا سمعتُ مِن العود: “ألم يأن”.. لقد كان عُودُهم واعظًا وداعيًا إلى الله وإلى التوبة والإنابة ومرشدًا، هذا عُودُهم، فكيف كان علماؤهم وأتقياؤهم والصالحون فيهم؟ قال: فلمَّا سمعتُ ذلك أخذتُ العود وضربتُ به الأرض وكسرتُه وتركتُ ما أنا فيه، حتى صار مِن كبار العلماء ومِن كبار الأولياء ومِن كبار العظماء في عصره رضي الله عنه.
قصة توبة مالك بن دينار
ويروى عن مالك بن دينار -وهو بمنزلة عبد الله بن المبارك، فقد كان مِن كبار التابعين- أنه قال: كنتُ شرطيًّا، وكنتُ منهمِكًا على شرب الخمر، قال: واشتريتُ يومًا جاريةً شابَّةً جميلةً استولت على قلبي، وأخذتْ بمجامع نفسي، وولدتْ لي بنتًا فشُغِفتُ بها، أي بالبنت، قال: ولَمَّا دبَّتْ على الأرض وصار عمرها سنتين ازداد قلبي لها حبًّا، وأَلِفتني وأَلِفتها، وكنتُ إذا وضعتُ الخمر جاءتْ إليَّ وجاذبتني زجاجة الخمر وأراقته على ثوبي.. هذه البنت عمرها سنتان، فهل هي أعقل أم الأب؟ نسأل الله أنْ يرزقنا كِبَر العقل لا كِبَر الجسم، وأن يجعلنا كبارًا لا في الأعمار، بل في العقول والفهم والتقوى والإيمان.. قال: ثم ماتتْ وعمرها سنتان، فأكمدني الحزن عليها، ولَمَّا كانت ليلة النصف مِن شعبان وكانت ليلة جمعة بتُّ ثَمِلًا مِن الخمر، قال: ولم أُصلِّ صلاة العشاء في تلك الليلة.
رحم الله سكارى ذلك الزمان! كانوا يشربون الخمر، ولكنهم لا يتركون الصلاة، والآن قد يكون حاملًا لشهادةٍ دينية ولا يصلي ولا يحرص على صلاة الجماعة، ولا يحرص على صحبة المقرَّبِين من أحباب الله.. ولقد قال علماء الأخلاق بالإجماع: لا تُنال مكارم الأخلاق بالقراءة، إنَّما تُنال بالصحبة ومجالسة أصحاب الأخلاق العالية.. وكذلك الإيمان بمعناه الحقيقي وإيمان اليقين لا يُنال إلا بالصحبة، لا صحبة الجسد، ولكن صحبة يمتزج فيها القلب بالقلب والروح بالروح والنفس بالنفس، حتى يصير يحب ما يحب، ويُبغِض ما يبغض، ويصير أحبَّ إليه مِن كلِّ محبوب لديه بعد الله ورسوله ﷺ، وكما قال عليه الصلاة والسلام: ((لا إِيمانَ لِمِنْ لا مَحَبَّةَ لَهُ)) ويكررها ثلاث مرات، فهل هناك أحدٌ شرب الخمر إلا لحبه لشارب الخمر؟ وهل هناك إنسان فَسَق إلا وكانت مقدِّمة فِسْقه أنه صاحَبَ وأحبَّ فاسقًا؟ ولذلك كان مِن دعاء رسول الله ﷺ ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ)) .
قال مالك بن دينار: وبتُّ ثملًا، ما معنى الثمل؟ يعني شرب كثيرًا فنام بسبب الخمر، ولم أصلِّ صلاة العشاء، قال: فرأيتُ في منامي كأنَّ أهل القبور قد خرجوا وحُشر الخلائق يوم القيامة وأنا معهم، فسمعتُ حِسَّاً مِن ورائي فالتفتُّ وإذا بتِنِّينٍ عظيم، ما هو التنين؟ ثعبان يكون أثخن من بني آدم وطوله كالنخلة السحوق، أعظم ما يكون، أسود أزرق، قد فتح فاه مسرعًا نحوي، قال: فمررتُ بين يديه هاربًا فزعًا مرعوبًا، فمررتُ في طريقي بشيخٍ عجوزٍ ضعيف نقي الثياب طيب الرائحة، وسلمتُ عليه فردَّ عليَّ السلام، فقلت له: أجرني وأغثني أجارك الله، فقال: أَلَا تنظر إليَّ وإلى ضعفي؟ أنا إنسان ضعيف وهذا التِّنِّيْن أقوى مني، ولا أقدر عليه، ولكن مُرَّ وأسرع لعل الله يَخلق لك ما يُنجيك ويخلِّصك منه، قال: فتابعتُ راكضًا هائمًا على وجهي وصعدتُ على شُرَف مِن شُرَف القيامة، يعني على تَلٍّ يُشرف على المخلوقات، قال: فرأيتُ طبقاتٍ مِن نيران جهنم، وألسنة نارها السوداء ترتفع في الفضاء.. يقولون عن ألسنة النار الخارجة من الشمس أنها ترتفع في الفضاء وتمتد إلى عشرة آلاف كيلو متر، وحرارتها في باطنها عشرون مليون درجة حرارية.. ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم:6]، والشمس مكونة مِن معادن مثل المعادن التي في الأرض؛ مِن حديدٍ وذهبٍ وفضةٍ وتراب وغيرها، ولكن لشدة الحريق انقلبت كلها نارًا، فلو بردت لأصبحت أرضًا بكلِّ ما في الأرض مِن معادن، وقد جعل الله تعالى ما بيننا وبينها مئة وخمسين مليون كيلو متر، فلو كانت أبعد مِن ذلك لتجمَّد من البرودة كلُّ ما في الأرض مِن ماءٍ وإنسان وحيوان ونبات، ولو اقتربتْ لاحترق كلُّ شيء، وهي تجري، وكذلك الأرض تجري وتسبح في عالَم الفضاء بسرعاتٍ خيالية، ولا تزال محافظةً على المسافة لا تزيد ولا تنقص، فمَن الذي أشرف ودبَّر وخطَّط وحافظ على سَيْر هذه الكواكب؟ ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ﴾ يعني في طريق وسِكَّة ﴿يَسْبَحُونَ﴾ [الأنبياء:33]، ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس:40].
قال مالك بن دينار: فأشرفتُ مِن شُرَف يوم القيامة على طبقات النيران، ونظرتُ إلى أهلها، وكدت أهوي فيها مِن فزعي مِن التنين وهو في طلبي.. ما التنين؟ الثعبان العظيم الذي قد يكون قطره أكثر من متر، وطوله ربَّما مئة متر أو مئتا متر، ألا يكون هذا مرعباً؟ وهذا شارب خمر ويصلي! ولكنه في تلك الليلة لم يصلِّ العشاء، فكيف بشخصٍ طوال عمره سكِّير وتارك صلاة وفاسق وزانٍ؟ كيف سيكون تنِّينه؟ هل سيكون أصغر أم أكبر؟ ربما إذا وقعتْ على رأسك حَيَّة طولها شبر ونصف تصرخ وتخاف، ويُصيبك داء السكري أو مرض السكتة [القلبية]، وهذا كله واقع، والنبي ﷺ أخبرنا به، والأحاديث الصحيحة وردت بهذا، فماذا ننتظر؟ الجنائز أمامنا ذاهبة رائحة، والقبور تُكدسُ الأموات بعضها فوق بعض، والقرآن ينذر ويحذِّر، فأين الإيمان الحي الذي يَسمَع الإنذار والتحذير؟ نقول: “اللهم توفَّنا على الإيمان”، أيُّ إيمان؟ هل هو إيمان النفاق والإيمان اللفظي وإيمان اللسان؟
قال مالك: فصاح بي صائح عندما كِدتُ أن أقع في جهنم: ارجع فلستَ مِن أهلها.. نسأل الله أن يرزقنا العناية.. فاطمأننتُ إلى قوله، ورجعتُ ورجع التنين في طلبي، فأتيتُ الشيخ وقلتُ له: سألتُك بالله أن تُجيرني من هذا التنين فلم تفعل، فبكى الشيخ وقال: أنا ضعيفٌ عاجزٌ لا أستطيع أن أنجيك منه، ولكن سِرْ نحو هذا الجبل، فإن فيه ودائع المسلمين، فإنْ كانت لك فيه وديعة فستنصُرك.. ما هذه الودائع؟ قال: ونظرتُ إلى الجبل، وقد رأيتُ ستائر، فرُفِعتِ الستائر، وأشرف مَن وراءها، فرأيت أولادًا صغارًا، واتجهتُ إلى الجبل، والتنين ورائي، حتى إذا اقتربتُ منه صاح بعض الملائكة، فقال: لعل لهذا البائس فيكم وديعة تجيره مِن عدوه؟ قال: فأشرف عليَّ أطفالٌ بوجوه كالأقمار، واقترب التنين مني.
هذه القصة ليتهم يُصوِّرونها في فيلم! وإذا عمِلُوها فيلماً هل يكون منه ضرر أم نفع؟.. الخمر في علم الطب أصبح يسمَّى السموم البيضاء مِثل المخدرات، وعلميًّا قالوا: إن الخمور أكثر ضررًا من المخدرات إذا ما تساوى بعضها مع الآخر، ولقد حَرَّمتْ أمريكا الخمور في عام (1920م) إلى (1933م)، ثم عجزتْ فأباحتْه، أمَّا الإسلام فنجح في تحريم الخمر بسبب الإيمان الذي غَرَسه النبيُّ ﷺ في قلوبهم، فلمَّا نزلتْ: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة:90] كَسَروا خوابي الخمور مباشرة، حتى صارت أزقَّة المدينة كأنها السواقي تسيل فيها الخمور مِن الجرار والخوابي.. وهناك مَن يقول: إن الله يقول: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة:90] ولم يقل: “لا تشربوه”.. وفي الحقيقة فإن كلمة “اجتنبوه” أبلغ، لأنه أيهما أبلغ أن يقول لك: لا تقربه، أو أن يقول: لا تشربه؟ أيهما أبلغ أن يُقال: لا تطأ بقدمك فوق اللغم الأرضي، أو أن يقال: لا تقترب من اللغم؟ أيهما أبلغ أن يقال لك: لا تزني، أو أن يقال لك كما قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ [الإسراء:32]؟ لكننا نُفسِّر القرآن بأهوائنا وبتعليم الشيطان لنا، ونُحَرِّف الكلم عن مواضعه كما حرَّفت الأمم قبلنا وحي السماء وشرائع الله في كُتُبها المقدَّسة عن مواضعها، فَضَلَّتِ السبيل.
قال مالك بن دينار: وصاح بعض الأطفال وَيْحكم أسرعوا كلكم، فقد اقترب هذا الرجل! ورأيتُ بنتًا منهم كأنها ركبتْ برقًا مِن نور، وأتت بسرعة -وكانت في سرعتها مثل الرصاصة إذا خرجت من البندقية، أو السهم إذا خرج من القوس- حتى صارت أمامي، ومدَّتْ يدها الشمال إلى يدي اليمنى، فتعلقتُ بها، ومدَّتْ يدها اليمنى نحو التنين فولَّى هاربًا، ثم أجلستني وقعدتْ في حِجْري -يعني في حضني- وضربتْ بيدها اليمنى إلى لحيتي.. في ذلك الزمن لم يكن حَلْق اللحى منتشِرًا، وعادة حَلْق اللحى جاءتنا مِن الاستعمار، وعَوَّضْنا عنه بإطالة شعر الرأس، أو بخصال في الرأس.. يقولون: “أقرع ولحيته طويلة، شيء يغطي شيء” [مَثَل عامّي]، لكن لا تحلق رأسك بالموس، وإلا صار مثل اليقطينة. [ويكون رأسك كله حينها من دون شعر مثل اليقطين، لأنك حلقت الشاربين واللحية والرأس بالموس.. يستطرد سماحة الشيخ عن القصة بهذا الكلام ممازحاً وهو يضحك]
قال: وضربتْ بيدها اليمنى إلى لحيتي -وهنا الشاهد- وقالت: يا أبتِ! ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الحديد:16].. إذا كان القلب ميتًا كيف سيخشع؟ والقلب إذا كان نجسًا.. والجسم إذا كان جُنُبًا أو بلا وضوء هل يستطيع أن يسجد ويركع؟ وكذلك القلب إذا لم يُصَلِّ في محراب الله، وما صارت قِبلتُه حضرةَ الله عزَّ وجلَّ وما توجَّه صاحبُه بجسمه إلى القِبلة الجسدية المادية، وتوجَّه بروحه إلى قِبلة الأرواح وهي الحضرة الإلهيّة [فما توجّه إلى الله وإلى قبلة الروح، ولَمَا تَطَهَّر القلب]: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة:150]، ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [الأنعام:79]، فقِبلةٌ للجسد وقِبلةٌ للروح، وهل “وجَّهت وجهِيَ” للقِبلة؟ الوجهة تعني وجهة القلب ووجهة الروح والإحساس والفكر.. قال: فقالت: يا أبتِ ألم يأن؟ أمَا آن الآوان، أَلَا يكفيك جهلًا وجنونًا؟ ((المجنون مَن يعصي الله)).. مَرَّ مجنون بمجلس النبي ﷺ فقالوا: مجنون، فقال ﷺ: ((لا تَقُولُوا: مَجْنُونٌ، قُولُوا: مَرِيضٌ، المجنُونُ مَنْ يَعصِي اللهَ)) سواءٌ بلسانه أو بعينه أو بأذنه أو بفكره أو بقلبه أو بيده أو برجله أو بسهرته أو بصحبته، يُصاحِب الفسَّاق ويصاحب المنافقين ويصاحب أعداء الله، ومَن يصاحب النار ستسري به صفاتها مِن الدفء، ومَن يصاحب الثلج ستسري به صفاته مِن البرودة، وهكذا يستمدُّ الجليس مِن جليسه، والصاحب مِن صاحبه، ولذلك قال النبي ﷺ: ((الْجَلِيسُ الصَّالِح كَحَامِلِ الْمِسْكِ، والجَلِيسُ السُّوءِ كَنَافِخِ الْكِيرِ، إمَّا أنْ يُحرِقَكَ، أو أنْ تَشُمَّ مِنهُ رائِحةً خَبِيثةً)) .
قالت: يا أبتِ ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الحديد:16]، قال: فبكيتُ وقلتُ: يا بنية، وأنتم تعرفون القرآن؟ قالت: يا أبتي نحن أعرف به منكم، قال: فأخبريني عن التنين، [قالت: هذه ذنوبك] تشكَّلتْ بهذا التنين العظيم، وقد أراد أنْ يُغرقك في نار جهنم، فقلتُ: فأخبريني عن الشيخ الذي مررتُ به في طريقي، قالت: يا أبتِ هذا عملك الصالح، أضعفته، وذاك عمل السوء قوَّيْتَه حتى لم يكن لعملك الصالح طاقة لمواجهة عملك السوء، قلتُ: يا بُنيَّة ماذا تصنعون في هذا الجبل؟ قالت: نحن أطفال المسلمين قد أُسكِنّا فيه إلى أنْ تقومَ الساعة، ننتظر قدومكم علينا لنشفع لكم، فنحن ودائعكم عند الله عزَّ وجلَّ لمِثل هذا الموقف.. لذلك إذا مات لك ابن فلا تحزن، وإذا ماتت لك بنت فلا تحزن، فهؤلاء ودائع وشفعاء، وكما ورد في الحديث القدسي، يقول الله: ((إِذَا وَجَّهْتُ لِعَبدِي مُصِيبَةً فِي مَالِهِ أو بَدْنِهِ أَوْ وَلَدِهِ، فاسْتَقْبَلَ ذَلِكَ بِصَبِرٍ جَمِيلٍ اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ أَنْصبَ لَهُ مِيزَانًا، أَوْ أَنْشُرَ لَهُ دِيوَانًا)) .. نسأل الله تعالى أنْ يجعلنا مِن المؤمنين الشاكرين عند النعم، الصابرين عند المِحَن.. والإيمانُ نصفان: نصفه شكر -قولًا وعملًا- ونصفه صبر.
قال: فاستيقظتُ فَزِعًا، ولَمَّا أصبحـتُ.. ماذا سيفعل بزجاجات الخمر؟ سيكسرها كلها حتى ولو كانت برميلًا معتَّقًا؟ قال: ولَمَّا أصبحتُ كسرتُ كلَّ أواني الخمر، وتبتُ إلى الله عزَّ وجلَّ، وهذا سبب توبتي.
القلوب المؤمنة هي التي تتأثر بالموعظة
هذا الرجل سمعها مرةً واحدةً في المنام مِن ابنته الصغيرة، فكيف بنا ونحن نسمعها في اليقظة مِن الله تعالى في كتابه عن طريق جبريل عليه السَّلام، ونبيِّه ﷺ، وعن طريق أحباب الله والمقرَّبِين إليه؟ فلماذا لا نتوب ولا نتأثَّر؟ لأنَّ قلوبنا مريضة، وأرواحنا ضعيفة، وإذا مات القلب فإنه لا يتأثَّر بالمواعظ، ولا تفيد فيه النصائح، بل بالعكس فكلَّما سمع أكثر ازداد فسقًا وفجورًا وعِنادًا: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة:6-7].
﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الحديد:16] الذِّكْر مُختَصٌّ بالقلب، وعليك أنْ تحيي قلبك بذِكر الله تعالى، وأن تنتسبَ إلى جامعة ذِكرٍ أو كُليّة ذِكرٍ أو مدرسة ذِكرٍ لتتعلَّم، فهناك عِلمٌ يُنال بالأقوال، يقولون: هذا شاي أو زُهُورات، [زُهُورات: زهور وأعشاب طبية تُشرَب مثل الشاي] فتأخذ العلم بأنَّه كما قالوا، وهناك عِلم لا يُعرف إلَّا بالممرِّن وبرؤية العمل مِثل السباحة، فعليك أن ترى سبَّاحًا ويَكون في صحبتك سبَّاح يمرِّنك على السباحة، ومِثل ذلك النجارة والحدادة، فإنك لا تتعلَّمها مِن المحاضرات، لكن تتعلَّمها بالصحبة والمشاهدات، وكلّما كنتَ أحبَّ إلى معلمك أكثر تتعلَّم بصورةٍ أسرع وأعمق.. فنسأل الله تعالى أنْ يرزقنا صحبة أحباب الله، ومحبتَهم المحبة الصادقة لا محبة الأماني والأقوال.
هذا الخشوع: ﴿تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾، ثم هناك خشوع ثانٍ: ﴿وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ [الحديد:16]، فالقلوب يجب أن تخشع لِما نزل مِن السماء مِن الحق؛ مِن القرآن الذي نزل مِن الله عزَّ وجلَّ.. والخشوع له يكون بالخضوع لأحكامه بأداء فرائضه مِن عبادات أو معاملات أو أخلاقٍ، ويكون بالخضوع لأوامره في الحُكْم أو الغنى أو الفقر، أو عند المصائب، أو عند فَقْدِ الأحباب، فنخشع ونخضع لأحكام الله سبحانه، فاللسان لا يكذب ولا يغتاب ولا ينمُّ، وهذا معنى خشوعه لِما نزل مِن الحق.. وخشوع العين: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِم﴾ [النور:30] ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾ [النور:31]، وخشوع النَّفْس عند الغضب وعند الحسد وعند الحقد وعند الشهوات بأنْ تخضع لأوامر الله تعالى.
إن أصحاب رسول الله ﷺ لَمَّا خشعتْ قلوبهم لذكر الله وجوارحهم لطاعة الله، كانوا عبيدًا فصاروا ملوكًا، وكانوا فقراء فصاروا أغنياء، وكانوا أذلَّاء فصاروا أعزَّاء، وكانوا متفرِّقين فوحَّدهم هذا الخشوع، وكانوا مُتعادِين فصاروا كالجسد الواحد: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:10]، ولكن ما الشيء المفقود لنَصِلَ إلى هذه الحقائق؟ المفقود هو العالِم العامل المخلِص والمخلَص ((النَّاسُ هَلكَى إلَّا العَالِمِينَ، والعَالِمُونَ هَلكَى إلَّا العامِلِينَ، والعامِلُونَ هَلكَى إلَّا المخلِصِينَ، والمخلِصُونَ عَلى خَطَرٍ عَظِيمٍ)) ، والمخلِص يستمر حتى يصير مخلَصًا: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه:39]، ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾ [مريم:51]، وإذا صَنَعه على عينه وبإشرافه ورعايته وعنايته فقد صار في أمان الله عزَّ وجلَّ، ومع ذلك: ﴿وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:175] و﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر:28].
قسوة القلب بسبب البعد عن دين الله تعالى
﴿وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الحديد:16] النَّصارى نزل عليهم الإنجيل مِن السماء، واليهود نزلت عليهم التوراة، وكذلك الأمم في مشارق الأرض ومغاربها: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر:24]، لكنْ بَعُدت المسافة الزمنية بينهم وبين أنبيائهم: ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ﴾ والزمن، ﴿فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحديد:16].. قال الصحابة رضي الله عنهم للنبيِّ ﷺ: يا رسول الله إذا كنَّا معك رقَّتْ قلوبنا حتى كأننا نرى الدار الآخرة، فإذا فارقناك وعَافَسْنَا وخالطنا الأهل والولد أنكرنا قلوبنا، فقال: ((لَو بَقِيتُمِ عَلَى ما أَنتُمْ عَلَيهِ عِندِي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ رَأيَ عَينٍ، وَلَكِنْ سَاعَةً وَسَاعَةً)) .
وقالوا: ((مَا نَفَضْنَا أيدينا مِن تراب قبر رسول الله ﷺ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا)) ، والآن النبي ﷺ غير موجود، فأقلُّ الواجب: ابحث عن وارثٍ نبويّ، وابحث عن صاحب قلبٍ تصحبه وتحبه، ويكون قلبه قريبًا إلى قلبك، لعلَّ الله عزَّ وجلَّ يرزقك إيمان اليقين، الإيمان الذي يدعو إليه الله في هذه الآية: ﴿أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ [الحديد:16]، فتخشع قلوبُهُم لذكرِ الله وجوارِحُهم لما نزل من الحق.. نسأل الله تعالى أن لا نكون مِن الصنف الثالث: ﴿وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ﴾ بالصحبة والمجالسة والمحبة والمخالطة ﴿فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحديد:16]، ما تأثَّروا بموعظةٍ ولا بقرآنٍ ولا بحديثٍ ولا بعظاتٍ ولا بالوقائع ولا بالضربات الإلهية، مثل الذباب.. وقد ورد أنّالمنافق إذا قاصصه الله عزَّ وجلَّ، ونزَّل عليه شيءٌ مِن القصاص الإلهيِّ يكون له كذبابة وقعت على وجهه، فقال بيده هكذا.. فلا يشعر، وأما المؤمن إذا آخذه الله بشيءٍ، أو وقع في معصيةٍ فكصخرةٍ وقعت على صدره ، ويشعر كأنه يُشرِف على الموت ويُحاول الخلاص منها.. هل يخاف الميت مِن الثعبان؟ وإذا قرصه أو لدغه هل يصرخ ويقول: آخ؟ [آخ: حرف صوتي في العامية يقوله من يتألم فجأة] وهل هذا صبر وشجاعة وصمود ورجولة أم موت؟
مَن يَهُنْ يَسهُلُ الهَوانُ عَلَيهِ مَا لِجُرحٍ بِمَيِّتٍ إيلَامُ
فإذا قطعتَ قطعةً مِن فخذ الميت بخنجر أو سكين هل يشعر بالألم؟ وكذلك أموات القلوب تنزل عليهم الضربات الإلهيَّة ولا يشعرون، ويُسلِّط عليهم العدو وصولته، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إِذَا أَبْغَضَ الْمُسْلِمُونَ عُلَمَاءَهُمْ)) الآن هل يحبُّ المسلمون علماءهم أكثر أم أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ؟ [مغنِّيْن مصريين مشهورين] مَن تلاميذه أكثر؟ وهل يا ترى محبة أولئك أكثر أم محبة المسلمين لمشايخهم أكثر؟ كم شخص قدَّم سيارات لأم كلثوم؟ هناك من قدم لها أحدث سيارة مرسيدس، لأنه مريد صادق، وهكذا للفاسقات وللفاجرات وللمغنيات.. إلخ، أمَّا الصالحون فهذا يتكلم عليهم، وهذا يطعن بهم، وهذا يؤذيهم.. يفعلون كل ذلك ليس ردّاً عليهم، بل لشيء لا يخصهم ولا يتعلق بهم، لأنه لا يوجد الإيمان الذي يدفعهم إلى محبة الله ومحبة أحبابه.. ((إِذَا أَبْغَضَ الْمُسْلِمُونَ عُلَمَاءَهُمْ، وَأَظْهَرُوا عِمَارَةَ أَسْوَاقِهِمْ، وتَأَلَّبُوا عَلَى جَمْعِ الدَّرَاهِمِ))، هَمُّه النقود ليلًا ونهارًا وفي المنام وفي اليقظة وأينما ذهب، قال: ((ابتَلاهُمُ اللهُ بِخِصَالٍ: الْقَحْطِ مِنَ الزَّمَانِ))، كانت سورية تُصدِّر المواد الغذائية مِن حبوب وزيوت وسمن ولحوم، والآن هل نستورد أم نُصدِّر؟ قمحنا مِن أوروبا، ولحومنا مِن الخارج، في السابق كان كل شيء من إنتاجنا ويزيد علينا.. ((ابتَلاهُمُ اللهُ بِخِصالٍ: الْقَحْطِ مِنَ الزَّمَانِ، وَالصَّوْلَةِ مِنَ الْعَدُوِّ)) ، الآن طائرات إسرائيل دائمًا في سماء لبنان ذاهبةً جائيةً، ومدافعها وقنابلها على العرب والمسلمين في لبنان وفي أذربيجان وفي أفغانستان وفي الصومال وفي يوغوسلافيا، والله تعالى يقول: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء:141]، المؤمنين الذين استكملوا الإيمان قلبًا وروحًا وذكرًا وحكمةً وعلومًا قرآنية.. والقرآن مدرسة، وهو مَدْرَسَةُ علوم، وليس تلاوة مِن شَرِيطِ مُسجِّلٍ ميت لا يفقه ما يقول، [شريط مُسجِّل: معروف باسم كاسيت، يُحفَظ به الصوت ويتم سماعه في أي وقت، والمُسَجِّل أو المسَجِّلة كان جهازاً واسع الانتشار عالمياً قبل أن يحل محله الكمبيوتر] وعندما يقرأ المسلم القرآن يقرؤه كشريط ميت، فهو لا يفهم، وكذلك المستمع لا يفهم.
هذا الرجل سمع في المنام “ألم يأن” فتاب إلى الله، ونحن نسمعها مليون مرة، ولكن إذا تكلمت مع الميت مليون مرة هل يتحرك وهل يفهم؟ نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُحيي قلوبنا وأن ينيرها مِن ظلماتها ويلينها مِن قسوتها.
﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحديد:16] ومِن قسوة قلوبهم صار كثير منهم فاسقون: ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد:16] الفسوق كما إذا خرجت العجلةُ عن سكة القطار فهذا اسمه لغةً الفسوق، وإذا خرجتَ عن صراط الله إلى معصية الله فهذا اسمه فسوق، وإذا خرجتَ من الصلاة إلى تركها، ومن ترك الخمر إلى شربها، ومن غضّ النظر عن الحرام إلى النظر إلى الحرام فهذا كله اسمه فسوق.. ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد:16] هؤلاء مِن أهل الكتاب.. والآن ما حال المسلمين؟ ألم يصيروا مثل أهل الكتاب؟ لقد قستْ قلوبنا وصار كثير منا فاسقون.. ثم قال: ولكن لا تيأسوا، فها أنا قد كتبتُ لكم الوصفة للعلاج، ودللتُكم على الصيدلية في القرآن: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء:82]، فقد حَلَّلَ [فحص] لك الدم والكُرَيَّات والإشعاع المغناطيسي، وبيّن لك كلَّ شيء، وهيأ لك الدواء، فكيف بك إذا رفضتَ بعد ذلك؟
كان عندي البارحة وفد أمريكي من عشرين شخصًا أو أكثر، وكلُّهم مِن شرائح شتى مِن المجتمع الأمريكي، سألني أحدهم: أليس الله رحيمًا بمخلوقاته؟ قلت: بلى، قال: لماذا يُمرض الناس ويتركهم يتعذبون في آلامهم وفي مصائبهم وفي أذاهم؟ المحبة والرحمة تقتضي أن يصفح عنهم، قلتُ له: أليس الله عزَّ وجلَّ هو الذي يخلق الولد ويُعطي الأبناء؟ قال: بلى، قلتُ: فإذا طلبنا الولد بالدعاء والكلام والأماني هل يعطينا الله ولدًا؟ لا يعطي إلا بعد أن يهيئ الرجلُ الأسبابَ لِما طلبه مِن الله بالدعاء، فإذا تزوَّج وعمل كلَّ الأسباب، ثم طلب، أو حتى لو أنه لم يطلب بالدعاء، بل طلب بالأعمال.. والطلب بالأعمال أبلغ من الطلب بالأقوال.. فإذا طلبتَ مِن الله تفاحًا، لكن مِن غير أنْ تزرع شجرة تفاح، ومن غير أن تذهب إلى بائع التفاح، فهل سيضع الله لك التفاحة في فمك؟ يكفي أنَّ الله خَلَق لك كلَّ الأسباب، وأعطاك كلَّ الطاقات لتصل إلى ما تريد.. قال لي: الآن اقتنعتُ.
كل شيء بأسبابه
﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الحديد:17]، الأرض تكون ميتة قبل نزول المطر، وتكون كلها غبار وأشواك ورمال وكذا، وعندما تنزل الأمطار تخرج الأعشاب وتخرج الأزهار وتصير الأرض جنةً فيحاء، لكن بماذا؟ بعد نزول المطر.. وكذلك إذا كان عند شخص نهر، وعنده سقاية مقنَّنة، ولكنه ما وجَّه الماء إلى الأرض [ولم يسقِها]، فهل ستحيا الأرض بلا ماء؟ وهذه الأرض في ملكه وتحت قدرته.. كذلك الله تعالى يُبَيِّن لنا أنه كما أن الله يُحيي الأرض بالمطر كذلك يُحيي القلوب بطاعته وذكره، [فإذا سقيتَ قلبَك بطاعة الله وذكْرِه فسيُحْيِيْه الله لك]، وإذا أردت الدواء أين تذهب؟ إلى الصيدلي، وإذا أردتَ السُّكَّر فهل تقول: اللهم ارزقني سُكَّرًا؟ هل يأتيك الله يحمل كيسًا على أكتافه كالإنسان ويقدِّمه لك؟ لكن اذهب إلى البُزُوْرِيَّة فتأخذ كيس السّكّر، [البُزُوْرِيَّة: سوق شعبي قديم وسط دمشق] وإذا أردتَ الدواء فهل تقول: اللهم إني أسألك دواءً أم تذهب إلى الصيدلي؟ ونحن المسلمون اكتفينا بالدعاء، وبقينا بالأماني، مثلما قال
رَضُوا بِالأَماني وابتُلُوا بحُظُوظِهم
وخاضُوا بِحارَ الحُبِّ دَعوَى فَما ابتَلُّوا
نُريد النصر بالأهواء وبالتمنيات، ونُريد الإيمان بالجهالة وبعكس الإيمان وبالغرور وبالجهل، ولكنك لا تصير نجَّارًا بلا معلِّم، فكيف ستصير مسلمًا كعمر وأبي بكر رضي الله عنهما؟ لقد صارا أباطرة بعد أن كانوا مِن الناس، ولولا الإسلام لَمَا كان أحد يعرف أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وبالإسلام خلَّدهما التاريخ؛ تاريخ الأرض وتاريخ السماء، ولكن لَمَّا كان إسلامهما قائمًا على المعلِّمِ النبيِّ ﷺ، وقائمًا على العلم والعمل في قلوبهما وقوالبهما وظاهرهما وباطنهما.
قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ
يقول الله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الحديد:17]، وكذلك إذا كانت قلوبكم قاسية فإن الله أنزل لكم الفيض وهو القرآن، وأرسل لكم العلماء بعد النبي ﷺ: ((الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)) فابحث عن العالِم العامِل المخلِص، وإذا رزقك الله المخلَص -وهذا لا يعرفه إلا الله- فتكون قد حظيتَ بكنزِ سعادةِ الدنيا والآخرة.
﴿اعْلَمُوا﴾ [الحديد:17] يعني لا تيأسوا.. مالك بن دينار ماذا كان؟ كان سكيرًا، ولكن الله عزَّ وجلَّ هداه بمنام، وهل الهداية في المنام أبلغ أم الهداية في اليقظة بأن ييسِّر الله لك عارفًا بالله مرشدًا مربِّيًا؟ وإذا لم تتأثر فإن قلبك ميت، وإذا كان ميتًا فـ ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الحديد:17]، فإذا استعملت الماء و”السَّمَاد” [غذاء النبات] والحراثة فإن الأرض تعود إلى حياتها ونباتها وعطائها، [كذلك تعود الحياة لقبلك إذا اعتنيت برعايته]، وإذا أهملتها: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر:19].
﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ هل يوجد بيان أوضح مِن هذا؟ ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الحديد:17]، كلُّ إنسان يوجد فيه عقل، ولكن [العقل درجات] فهناك عقل النجارين، وهناك عقل الطعام إذا جاع، وعقل الشراب إذا عطش، وهذا موجود في الحيوان، وهناك عقل التناسل والذرية وهو موجود في الجرذان أيضًا، أما ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الحديد:17]، عن الله أمرَه، وتعقلون من القرآن آيته، تعقلون وتدركون حقيقتها وتعملون على مقتضاها، فهذا هو العقل القرآني والعقل الرباني والعقل الإسلامي.. وهناك أناس عندهم العقل البهيمي، فلا يتجاوز عقله جسده، وهناك عقل شيطاني، وهو مسخَّرٌ للشر وللإيذاء وللإفساد وللإضرار بالناس، أمَّا العقل الإيماني فهو الذي يُستَمَدُّ مِن القرآن حتى يصير ذلك الإنسان قرآنًا، فيُقرَأ القرآنُ في أعماله وأخلاقه ونطقه وصدقه ويقينه.. نسأل الله أن يرزقنا عقل القرآن.
﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ ولكن هل كل إنسان يتبيَّنُها ويفهمها؟ قال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الحديد:17]، إذا عقلتم فستتبينونها وتعرفونها، أما إذا ما عقلتم فستبقون مجانين، وهل المجانين أكثر الآن أم العقلاء؟ واللهِ المجانين أكثر، لأن: ((المجنُون مَن يَعصِي اللهَ)) .. نسأل الله أن لا يجعلنا مجانين، لا مجانين الإيمان ولا مجانين الحياة.
الحث على الصدقة والإنفاق
﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ﴾ [الحديد:18]، لقد حثَّت سورة الحديد أول ما حثَّت على الإيمان وعلى بذل المال في سبيل الله وفي بناء الإسلام وفي الجهاد وفي وحدة الأمة العربية وفي تحرير الشعوب المستضعفة من الاستعمار، وهذا لا يكون بالإيمان، ولا يكون بالصلاة والصوم فقط، بل يحتاج أيضًا إلى المال، وقد جعل الله عزَّ وجلَّ المال أحدَ أركان الإسلام الخمسة وهو الزكاة، فالفقير هادمٌ لهذا الركن، وكم أركان إسلامه؟ ثلاثة، لأنه لا يستطيع أنْ يقيم ركن الزكاة، ولا يستطيع أن يُقيم ركن الحج أيضًا، لذلك أليس واجبًا علينا أنْ نُقيم الأركان الخمسة، فإذا كان واجبًا علينا فهذا يعني أنّ الغنى مِن أركان الإسلام، وهل الزكاة أن تُعطي الزكاة عندما تكون غنيًّا أو تأخذ الزكاة عندما تكون فقيرًا؟ فإذا قال الله لنا: ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة:43] فهذا يعني صيروا أغنياء، وهل يصير الغنى بالكسل والبطالة وباللهو والسهرات والمجون والكلام البطَّال؟ الذين صاروا أغنياء كانوا لا ينامون حتى منتصف الليل، وكانوا في كل وقتهم مِن الشرق إلى الغرب، وهم دائمًا في عمل دائمٍ ومستمرٍّ، والكسلان البطَّال.. ((إنَّ اللهَ يَكرَهُ العَبدَ البَطَّالَ)) ، وقال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ [آل عمران:97] حج البيت يعني صيروا أغنياء، وصيروا أقوياء لتؤدُّوا هذه الفريضة، ولتقيموا هذا الركن الذي هو مِن أركان الإسلام، والفقير بيته ثلاثة جدران، وقُبَّة البيت لا تقف على ثلاثة جدران، فإذا صار غنيًّا ومعه بقية الأركان يكون قد صار مسلمًا حقًّا، مثل السيارة التي لها أربع عجلات، هل تمشي بعجلتين أو بثلاثة؟ نسأل الله أنْ يُكَمِّل لكم الأركان الخمسة ظاهرًا وباطنًا قولًا وعملًا.
إن في المال حقًا سوى الزكاة
﴿وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [الحديد:18]، أداء الزكاة كأنه دَين عليك لحضرة الله عزَّ وجلَّ، وكلمة “أقرضوا” للصدقات الزائدة على الزكاة، كما قال النبي ﷺ: ((إِنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ)) ، والمسلم الآن لا يُخرِج الزكاة، والزكاة مِثل مَن يأكل الخبز فقط، ولكن ﴿وَأَقْرَضُوا﴾ [الحديد:18]، صار مع الخبز دجاج، فأيهما أطيب الخبز وحده أو مع الدجاج؟ هذا ﴿وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [الحديد:18] والصدقة تكون بالإخلاص وبعدم المنِّ والأذى، وبعيدًا عن الرياء والسُّمعة.. ﴿يُضَاعَفُ لَهُمْ﴾ [الحديد:18] واللهِ تضاعَف المكافَأَةُ لهم في الدنيا والآخرة يا بني.. نسأل الله أن يرزقنا اليقين.
﴿وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ [الحديد:18] مِن الكريم، وقد قال: “لهم أجرٌ” وهو كريمٌ سبحانه، ولا يكون أجر الكريم إلَّا كريمًا، فكيف إذا قال الكريم لك: “سأُعطيك أجرًا كريمًا”! والذي يتكلَّم معك ليس صاحب دكان، وليس حَدَّادًا، ولا وزيرًا، بل الذي يتكلَّم معك مَن بيده مُلك السموات والأرض، ومن بيده خزائن السموات والأرض.. نسأل الله أنْ يرزقنا اليقين والإيمان الحقيقي.
ثم قال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ﴾ [الحديد:19]، يعني آمنوا بالآيات كلِّها الإيمانَ الحق وإيمانَ العمل، الذي استقرَّ في القلب، وهل المقصود أنْ تضع بذرة المشمش في الأرض فقط ولا تسقيها ولا تعتني بها؟ وهل بهذا تتحوَّل إلى شجرة؟ وإذا بدأتَ بالإيمان ووضعتَ البذرة فعليك أن تُواصل العمل حتى تصل إلى الثمر، وإذا وصلت إلى الثمر وتركت السقاية والعناية فإن الشجرة تَيْبَس وتُحرَم من استمرار العطاء، وخير الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّتْ .
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ﴾ [الحديد:19]، بصفات الله وبأسماء الله الحسنى: فهو الواحد الأحد العليم الحكيم، ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه:7]، ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأعراف:158]، ﴿يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [النحل:19]، هذا معنى الإيمان بالله، أمَّا أنْ تقول آمنتُ بالله ولا تفهم منه إلا “ألف ولام ولام وهاء” [الله]، وليس لك صلة بصفات الله وأفعال الله وشريعة الله فأنتَ لستَ مؤمنًا، والشيطان يضحك عليك ويرضى بإيمانك هذا، ويقول لك: حافظ عليه.. لأنه إيمان بالاسم وبلا مُسمًّى، وهذا كما فعلت إسرائيل، فقد كانت ترسل للعرب بوسائلها أسلحةً فاسدةً من طريق الدول الأوربية، وقد اشترت مصر مرة أسلحة في زمن الملك فاروق، وبواسطة اليهود في أوروبا أفسدوا الأسلحة، فأخذوا أموالنا، ولما صارت الحرب أيضاً هُزمنا، لأننا كنا مغرورين بأنها صالحة فكانت فاسدة، وكذلك الشيطان يرضى بإيمانك الفاسد، ويرضى بِصَلاتك التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر، ويرضى بإسلامك الذي لا معلِّم له ولا مربيَ ولا مرشد ولا صلة، مع أنك لو أحببتَ المرشد الكامل أكثر مِن أمك وأبيك وروحك ومالِك وحياتك فأنتَ لستَ مُبالِغًا، بل هذا الفرض لتأخذ الثمر المنتظَر من غراس هذا الشجر؛ شجرة الإيمان الحق.
أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ هذا الإيمان، ﴿بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ والإيمان بالرسل أن تتعلَّم، وأن تحب، وأن تطيع، وأن تصاحب، وأن تهاجر.. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾ يعني الصادقون في الإيمان الصدقَ البليغ ﴿وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [الحديد:19]، إذا سُئلوا أرواحَهم في سبيل إقامة هذا الدِّين لَمَا ضَنُّوا ولَمَا بخلوا بها، وكان أحدُهم إذا دُعي إلى جهاد العدو وجهاد الجهل وجهاد الاستعمار يصلُّي ركعتين ويدعو: “اللهم لا تردَّني إلى أهلي خائبًا”، ويعني بالخيبة أن لا يُرزَق الشهادة، فأين تربيتنا وأين التربية العربية المحمدية الإسلامية مِن واقع المسلمين الآن في العالَم؟ كونوا -يا بُني- بالعلم دعاة ووُعَاة وعاملين ومعلمين وآمرين بالمعروف وناهين عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، ((ولَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بك رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ)) .. اللهم اجعلنا هادين مهديين.. قم بهداية رفيقكَ أو جارك أو رفيقتكِ أو جارتكِ أو صاحبكَ في المدرسة أو في السوق أو في الحافلة.. مرة كان شيخنا -قدس الله روحه- في نزهة في “الهَامَة” [ضاحية من ضواحي دمشق يقصدها أهل دمشق للتَّنَزُّه]، فذهب أحد الإخوان لقضاء حاجته، ولكنه ذهب ولم يرجع، وانتظروه ربع ساعة ثم نصف ساعة ثم ثلاثة أرباع الساعة، وكان الفصل ربيعًا وقد فاض نهر بردى، فقال الإخوان: ربما سقط في النهر وأخذه النهر، [نهر بردى كان يفيض في فصل الربيع وكان يجري بسرعة كبيرة، فإذا نزل فيه من لا يعرف السباحة جيداً ربما سحبه النهر ومات] فقاموا يبحثون عنه، فرأوه جالسًا مع فلاح يحرث أرضه، وقد أوقفه عن عمله بلطفه وحكمته وأخذ يعطيه الطريق [يعني طريق الذكر] ويعلِّمه الذكر، هذا الأخ كان ذاهبًا إلى قضاء الحاجة، وكان ذاك يشتغل بالحراثة، ومع ذلك ما أضاع الفرصة، ولا أضاع الصيد.. هناك صياد يصيد الطير وهو طائر، وبمجرَّد أن يرتفع يوجِّه البندقية إليه، ويطلق على الطير فيصيده.. أسأل الله أنْ يجعلكم صيَّادين لله، ولا تكونوا صيادين لإبليس، وأسأله أن يجعلنا عمَّالاً وأُجَرَاء عند الله، ولا يجعلنا عمَّالًا وأُجَرَاء عند شياطين الإنس أو شياطين الجن.. وإن شيطان الإنس أكثر ضررًا من شياطين الجن، لأنه قد يأتيك بصورة أبيكَ وأخيك وصاحبك وصديقك ورفيقتكِ وجارتكِ، ويكون الشيطان يجري منه مجرى الدم في الجسم.
مصير الكافرين
قال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ بالإيمان الحق يصير هذا صِدِّيقًا، وهذا شهيدًا، والآخر معلمًا ومرشِدًا، هذا هو الإيمان الحقيقي! ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [الحديد:19].
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الحديد:19] ما انقادوا ولا أطاعوا ولا انتسبوا أو ادَّعوا الإيمان بالقول، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة:8]، هكذا قالوا، ماذا أجابهم الله؟ قال: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:8]، ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ﴾ فقال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ [المنافقون:1]، الله لا يحتاج إلى شهادتهم، ثم قال: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون:1]، ويحلفون الأيمان: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ سِتارة ليُخفوا كفرَهم بنفاقهم، ﴿فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [المنافقون:2].
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هناك كافرٌ وحده، وهناك كافر يكفِّر غيره ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [الحديد:19] يعني هو مواطن جهنماني، ألا يوجد مواطن سوري وأردني ومصري؟ فهذا مواطن جهنماني، وهو مالِكٌ وليس مستأجِر، وصاحب البيت هو مالك البيت، وهل مستأجر البيت يسمى صاحب البيت؟ فهل تحبون أن تكونوا من أصحاب النعيم أم من أصحاب الجحيم؟ وهل هذا بالتمني أم بالعمل؟ وهل هذا بالصدق أم بالأهواء؟ وهل هذا مع المعلم المرشِد أم بصحبة الجاهلين والفاسقين وسهرات اللغو والبطالة وتضييع الوقت وتضييع العمر؟
حقيقة الحياة الدنيا
﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [الحديد:20] “الدنيا” إمَّا مِن الدُّنُو، يعني الحياة القريبة لك، والتي هي على هذا الكوكب، أو من الدناءة يعني الحياة الدنيئة، صحيح أنك تعيش بسرور، ولكنك تمشي وتحمل كنيفًا في بطنك، أليس كل واحد منكم يحمل كنيفاً في بطنه؟ هل يستطيع أحد أن يقول: لا؟ وبعد خمس ساعات يأتيك مرض الجوع فتداويه بدواء الطعام، ويأتيك مرض النعاس فتداويه بدواء النوم، وتأتيك الهموم والأحزان، قال: “خذ من الدنيا ما شئت وخذ بِقَدَرِها همًّا “، لذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ كَفَافًا)) إلَّا إذا طلب الإنسان سَعة في الدنيا ليبني بها الدِّين كما فعل أصحاب رسول الله ﷺ.
﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [الحديد:20] حياة دنيئة فيها أمراضها وهمومها وأحزانها وأعداؤها، أمَّا أصحاب الجنة فيُنادي عليهم المنادي عند دخولهم: ((إنَّ لكم أنْ تصحُّوا فلا تمرضوا، وأن تشبُّوا فلا تهرموا، وأن تخلدوا فلا تموتوا، وأن تنعموا فلا تبأسوا)) ، وهل يوجد أحد مِن أعظم الملوك إلى أدنى الناس خالٍ مِن الهموم والأحزان والأوجاع ومشاكل الدنيا؟ ولكن في الجنة ﴿لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ مِن مستقبلٍ سيءٍ ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة:38] على أنْ تفوتهم نعمةٌ وعطيةٌ مِن عطاء الله عزَّ وجلَّ، أمَّا في الدنيا فدائمًا يُفاجئك شيء يُحزنك أو يفوتك، أو تخسر شيئًا تحبُّه مِن مالٍ وولدٍ ونحو ذلك.
﴿اعْلَمُوا﴾ [الحديد:20]، هل عَلِمنا؟ هل عَلِمتُم؟ لو عَلِمنا لآثرنا الآخرة على الدنيا، فما دمنا نؤثر الدنيا على الآخرة فهذا دليل أننا جهلاء، ﴿أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ﴾ [الحديد:20] عندما يكون الإنسان في الطفولة ماذا يعرف مِن الحياة الدنيا؟ يعرف اللعب بالكرة، ولعب الأولاد مع بعضهم، ثم ما النتيجة؟ هل يوجد شيء؟ ﴿وَلَهْوٌ﴾، يذهب إلى الملاهي التي تَحرِمُه مِن التزوُّد للدار الآخرة، وتَحْرِمُه من العلم من مجالس العلم، ومن الإيمان من مجالس الإيمان، ﴿وَزِينَةٌ﴾ وذلك عندما يصير الإنسان شابًّا فإنه يُسرِّح شعره، ويحلق لحيته، ويكوي بنطاله، ويلبس ربطة العنق.. والنساء أيضًا كذلك، وهل النساء أفضل؟ أم أنهن أسبق في الزينة؟ ﴿وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ﴾ [الحديد:20] يتباهى الإنسان ويقول: أنا درجتي أعلى، أنا ثروتي أكثر، أنا قُوَّتي أعظم، أنا أنصاري أكثر.. ﴿وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ [الحديد:20]، ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ [التكاثر:1]، عن ماذا؟ عن الدار الآخرة وعن القرآن وعن علوم الإسلام، أين أنتَ؟ مشغول، أين أنتَ؟ لست متفرغًا، هذا: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ [التكاثر:1]، القرآن ليس للقراءة فقط، بل هو للعلم ولينعكس فيك عملًا وخُلُقًا حتى تصير القرآنَ المجسَّمَ وقرآن العمل، هذا هو الإسلام في الرجال والنساء.
وهل تعرفون ما مثال حياتكم ومربحكم في آخر المِشْوَار؟ [المشوار: كلمة عامية تعني رحلة قصيرة] قال: إنّ مَثَل حياتكم ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ﴾ أي مطرٍ ﴿أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ [الحديد:20]، مَن الكفار؟ الكفار هم الزُّرَّاع، لأن الكَفْر في اللغة العربية هو السَّتْر، والمزارع عندما يستر الحبَّ في التراب يصير اسمه كافرًا، و”الفلاحون” بالجمع “كُفَّار”، ولذلك يقولون: “كفر سوسة وكفر بطنا” [أسماء مناطق معروفة في دمشق] ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ عندما يخرج الزرع الأخضر في سنابله وزهوره ووروده، ﴿ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا﴾، ثم يصير يابسًا ويصفرُّ ﴿ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا﴾ يُفتَّت تحت أرجل الدَّوابِّ والناس.. وكذلك حياتك أيُّها الإنسان، ففي شبابك ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ [الحديد:20]، الشباب منهم من يُفَتِّل شاربيه، ومنهم من يُسَرِّح شعره، ومنهم من يذهب إلى الحلَّاق وينتف بعض شعره، ويذهب إلى الخيَّاط ويقول له: أريد أحدث مُوْضَة، والنساء أيضًا كذلك، [المُوْضَة: كلمة عامية بمعنى الطراز الجديد والشكل المنتشر بين الناس، وعادة ما تهتم النساء كثيراً والشباب بالموضة الحديثة].. ﴿أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ [الحديد:20]، ولا مانع في أدوات الزينة، وأنْ تتزيَّن المرأة لزوجها، وهو واجب عليها، وواجب على الرجل أيضًا.. كان سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: “إني لأتزيَّن لزوجتي كما تتزيَّن زوجتي لي، لقوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾ [البقرة:228] “، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول في هذا المعنى: ((قَلِّمُوا أَظَافِرَكُم، وقُصُّوا شُعُوْرَكُمْ، واغْسِلُوا بَرَاجِمَكُم)) عُقَد الأصابع ((وسَوِّكُوا أَسنانَكُم، فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيْلَ لَمْ يَكُوْنُوا يَفعلُوْنَ ذَلِكَ فَزَنَتْ نِسَاؤُهُم)) فعلى الرجل أن لا يأتي إلى زوجته وسخاً وبرائحة كريهة، مثل القطة إذا نزلت في سلة القمامة وكان فيها بقايا سمك، فتكون رائحتها قاتلة.. ولَمَّا كنا صغارًا كانت القطط أحيانًا تأتي وتنام معنا في الفراش، فتأتي القطة أحيانًا ورائحتها “زَنخَة” [الرائحة الزنخة أي النتنة، وهذه عادة تأتي من السمك أو اللحم الفاسد]، فكنا عندما نراها نخرجها خارجًا.. فيوجد نساء قذرات، ويوجد رجال قذرون، والنبي ﷺ يعلِّمنا الحياة؛ علَّمنا قصَّ الأظافر، وتنظيف الأسنان، وكيف ندخل إلى الخلاء، وكيفية الحياة الزوجية لكِلا الزوجين مع الآخر مِن الطاعة والاستقامة والإخلاص.. إلخ.
نهاية مُتَع الدنيا
قال: ﴿ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا﴾ [الحديد:20]، وأيضًا حياتك طفولة ولعب ولهو وشباب وزينة وتفاخر، فتقول: أنا أعلم، أنا أغنى، أنا عقيد وأنت أقل مرتبة مني.. ﴿وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ [الحديد:20]، وإن حياتكم هذه ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ﴾ [الحديد:20]، ما معنى يهيج؟ يصير يابسًا ويتحوَّل مِن الخضرة إلى الصفرة، ﴿ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا﴾ [الحديد:20]، وأنت أيضًا تصير حُطامًا بالموت، أين خدودك الحمراء؟ وأين عيونك الخضراء والزرقاء؟ وأين ذكاؤك؟ وأين نياشينك؟ [النَّياشين: الأوسمة] أين وزارتك؟ وأين حكمك؟ وأين ثروتك؟ وأين أملاكك؟ كلُّه صار حُطامًا.. والزرع معروفة نهايته، فمنه ما يكون للحمير، حيث يصير “زِبْل” [الزِّبْل: روث الحيوان، يضعونه غذاءً للنبات]، ومنه ما يكون لبني آدم، ويذهب إلى المجاري، أما أنت فما آخرتك؟ قال: آخرتك هي: ﴿وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ [الحديد:20]، ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ﴾ [الزمر:26]، ﴿وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَخۡزَىٰ﴾ [فصلت:16]، يقول النبي ﷺ: ((يُؤتَى بِأَسعَدِ وأَنعَمِ وأَرفَهِ إنسانٍ عَلَى وَجهِ الأَرضِ، فَيُغمَسُ غَمسةً في نَارِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُسأَلُ: هَل رَأيتَ في حَياتِكَ نَعِيمًا قَطُّ؟ فَيَقُولُ: مَا رَأيتُ نَعِيمًا أَبَدًا، وَيَنسَى كُلَّ مَا رَآهُ في الدُّنيا، وَيُؤتَى بِأَبأَسِ وأفقر وأتعس مُؤمِنٍ في الدُّنيا، وَيُغمَسُ غَمسةً في الجَنَّةِ، ثُمَّ يُسأَلُ: هَل رَأَيتَ شَقاءً قَطُّ؟ فَيَقُولُ: مَا رَأيتُ)) ينسى كل شيء.. نسأل الله أنْ يجعلنا مِن أهل الجنة، وأن يجعلنا ممن يقول الله تعالى عنهم: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيرٌ﴾ [النحل:30]، ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [النحل:122]، فالمسلم عليه أن يكون ذا الجناحين، [جناح الدنيا وجناح الآخرة] ((كَادَ الفَقرُ أنْ يَكُونَ كُفرًا)) ، وهناك من فَهِم الزهد أنه الفقر حتى وصلوا إلى العجز والضعف، فاستولى علينا العدو واستولى علينا الاستعمار؛ سواء في الاقتصاد أو الصحة أو العلوم أو السلاح.. إلخ.
متاع الغرور
﴿وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ [الحديد:20] لمن؟ ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [الحديد:19].. ﴿وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَان﴾ [الحديد:20] المغفرة لمن؟ للتائبين وللمنيبين وللذين يبدلون بسيئاتهم في جاهليتهم الحسنات، وبأصحابهم الفاسقين الأصحاب الأتقياء، وبأصحابهم الضالين المضلين الأصحاب الهادين والمهديين، ﴿وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ﴾ [الحديد:20] الرضوان للذين جنَّبهم الله عزَّ وجلَّ السيئات، وكانت أعمالهم كلها أعمالًا صالحة، ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ حياتك في هذا الجسد الذي يعيش بالخبز والماء ﴿إِلَّا مَتَاعُ﴾ تتمتَّع في مُتع الدنيا مِن أكل وشرب وزواج وكذا.. ﴿إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [الحديد:20] تغترُّ بها حتى تُنسيك الدار الآخرة.
يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أو غيره: “ما كنت أعرف ما هو متاع الغرور، فكنتُ في قبيلة مِن قبائل العرب، فسمعت أعرابية تنادي ابنتها يا ابنتي: هات متاع الغرور، قال: فسألتها: ما متاع الغرور؟ قالت: خرقة الحيض” ، فإذا كانت هذه هي متاع الغرور فمَن يضعها وِساماً؟ أم أنه يضعها في جيبه ليمسح بها حذاءه؟ وإذا كان الله يصفها لنا هكذا فنحن في أيِّ بحر غرور واقعون؟!
المؤمن القوي خيرٌ من المؤمن الضعيف
ليس مقصود القرآن أنْ تترك دنياك أو زراعتك أو صناعتك أو سياستك، لا، فالنبي ﷺ قال: ((لَيْسَ بخَيركُمْ من ترك دُنْيَاهُ لآخرته، وَلَا آخرته لدنياه، ولكن يُصِيب مِنْهُمَا جَمِيعًا)) و((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ)) .
نسأل الله تعالى أنْ يجعلكم مِن المؤمنين الأقوياء، ومن المؤمنات القويات في العلم والصحة والجسم والمال والخُلُق والإيمان، وهذا هو الإسلام وهذا هو الإيمان في مدرسة القرآن.
اللَّهمَّ اجعلنا مِن الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.