فضلُ السُّوَر المسَبِّحات
نحن في تفسير سورة الحديد، وسورة الحديد تدخُلُ تحتَ عنوان السُّوَر المسبِّحات، وهي السُّوَر المبدوءة بالتسبيح، وهنَّ أربع سُوَر: سورة الحديد: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الحديد:1]، وسورةُ الحشر: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [الحشر:1]، وسورةُ الصف: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [الصف:1]، وسورة ُالجمعة: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [الجمعة:1]، وقد كان النَّبِيَّ ﷺ: ((يَقْرَأُ المُسَبِّحَاتِ)) يعني هذه السُّوَر الأربع ((قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ ويَنامَ)) فيَكون معَ الله، ويَتحدَّث الله إليه، ويُصغِي إلى ربِّه مصدرِ العلم والحكمة والكمال والجَمال: ((إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ)) ، ويقول: ((إِنَّ فِيهِنَّ)) أي في هذه السُّوَر ((آيَةً خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ)) ، ما هذا القلب العاشق لربِّه! الذي يُكرِّر دائمًا ويُصغي ويَستَمِعُ إلى المسجِّل الذي يُسجِّل كلمات الله تعالى في ذاكرته، ويَسمَعها نُطقًا على لِسانه وفي كلامه.
دلالات تسمية السوَر: وحوار الله لليهود في سورة البقرة
هذه السورة سُمَّيَتْ: “سورةَ الحديد”، وأسماء سُوَر القرآن لها دلالات، بدءًا مِن الفاتحة فاتحةِ الكتاب إلى البقرة بقرةِ بَنِي إسرائيل.. هذه السورة فيها حوار مع اليهود ما يُقارب نصفها، وقد قَسَمتهم إلى قِسمين: قسم مِنهم ممَّن رَضِي الله عنهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة:62]، وفي مواضِع كثيرة أثنى عليهم، كما قال: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾[الأعراف:159] وفي موضِعٍ آخَر قال: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران:113]، ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ [آل عمران:199]، وغير ذلك مما أَنزَل في آيات الكتاب عن اليهود والنصارى، وفي مواضع آخر ذمَّهم ونَقَدَهم، ولكن ذَكَر أعمالهم التي استوجبَتِ النقد والذمَّ مِن خيانةٍ عُظمى تجاهَ دولةِ الإسلام، أو مِن مُحَادَّةِ ومعاداةٍ للعقل ولِمَا جاء في التوراة والإنجيل مِن البشرى بمحمَّدٍ وأحمد، أو بمُمَالأةٍ مع أعداءِ الإسلام ودولتِه كما فعَلوا في معركة الأحزاب، فإنهم تواطؤوا مع أعداء الإسلام لِيُقوِّضُوا الإسلام ودولتَهُ.
وحين أَعدم النبيّ ﷺ بني قريظة في المدينة، لم يعدمهم لأنهم يهود، بل أعدَمَهم لأنّهم قامُوا بالخيانة العُظمى ضد الدولة الإسلامية القرآنية العربية.. فالقرآن ذَكَرَ مُسلِمًا ومسيحيًّا ويهوديًّا أُصَلاء، وذَكَرَ مقابِلَهُم مُسلِمًا ويَهوديًّا ونصرانيًّا مُزيَّفِين، فرفَعَ مِن شأن الأصلاء الذين آمنُوا بالله وكتبِه ورسلِه، وذَكَرَ المزيَّفين بأعمالهم وأخلاقهم وسلوكهم، فقال عن المسلمين المزيَّفين: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ فهؤلاء مسلمون، لكن الله قال عنهم: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون:1]، فأعْطَى الله تعالى للصَّادِق المخلِص الأصيل ما يَستَحِقُّ، وللكاذِب المنافِق المزيَّف ما يَستحِقُّ.. وحديث: ((مَنِ ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ فَاقْتُلُوهُ)) ، ولو تعمَّقْنا بالبحث في هذا الموضوع لوجدنا أنَّ سيدنا أبا بكر رضي الله عنه قاتَلَ أهل الرِّدَّة، وكان وراء المرتدِّين الدَّولتان الاستعماريتان: الفرس والروم، وقد قاتلوا المسلمين بواسطة أمرائهم وطابورهم الخامس، فهم الذين أحدثوا الرِّدَّة لِيُقَوِّضوا الإسلام ودولته، ولذلك قال النبي ﷺ: ((مَنِ ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ فَاقْتُلُوهُ))، لأنّه يُريدُ أن يُقوِّض الأُمَّة دولةً وسياسةً وعقيدةً وأخلاقًا وروحًا، ولذلك فإن المجتهدين مِن العلماء، قالوا: في المرتدِّ ثلاثة أحكام، الحكم الأول: هو أنه يُحاوَر ثلاثة أيام، فإنْ أصرَّ يُقتل، والاجتهاد الثاني: هو أنه يُحاوَرُ شهرًا، وإنْ أصرَّ على معاداة الإسلام والكفر به يُقتَل، والاجتهاد الثالث: أنه يحاور دهرًا ولا يُقتَل.. لذلك لا يصح لأي أحد إذا قرأ عبارةً لعالِم في أحكام القانون الإسلامي أن يقول: إن رأي ذلك العالِم هو الإسلام، لأن الإسلام يُقَدِّر الظروف والزمان والمكان والأسباب والدوافع.. إلخ.
دعاء النبي ﷺ قَبل أنْ يَنام
إن سورة الحديد مع أخواتها مِن المسبِّحات التي كان النبي ﷺ يَقرؤها قبل أن يَرقُدَ، ويقول: ((إنَّ فِيها آيةً خيرٌ من أَلفِ آيةٍ)) ، وكان عليه الصّلاة والسّلام يدعو عند نومه بهذا الدعاء: ((اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، ربنا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، مُنَزِّلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآنِ)) انظر إلى عالَميَّة الإسلام واحترامه وتقديسه وإيمانه بالتوراة والإنجيل مع القرآن! فالقرآن كلُّهُ لتغذية العقل ونمائِهِ والعمَلِ على التلاقِي والتحالُفِ معه، لأنَّ الذي خلَقَ العقل لا يُمكِنُ أن يُوحيَ ويُنزِّلَ مِن سمائِهِ ما يُضادُّ العقل، فلا يُمكِنُ للذي وضَعَ في العين قانون البصر الذي يُفرِّق بين الأبيض والأسود أنْ يُنزِلَ قانونًا مِن السماء يقول عن الأبيض أسوداً وعن الأسود أبيضاً، هذا مستحيل!
لذلك فإن على الوحي أن يَلتقيَ معَ العقلِ ويآزره ويُناصِرُه ويُغذِّيه ويُربِّيهِ حتى يجعلَهُ عقلَ الحُكَماء، لا عقل الأغبياء والأطفال أو السُّفهاء.. إن كلَّ روحٍ له عقل، فالذبابةُ لها عقْلٌ، والحمارُ له عقلٌ، والعقل الحِمَاري علامتُه أنه يقول: التبن أفضل مِن البَقْلاوة، فإذا أحضرتَ كلَّ حمير الدنيا، وقدَّمتَ لهم قِفَّة التبن وطبق بقلاوة، فأيهما أفضل وأعظم عندهم؟ وإذا قدَّمتَ للحمار البقلاوة فسيقول لك: أنتَ حقَّرتَنِي، لأنَّ هذا ليس مِن طعامي.. إنَّ العقل والوحي كلاهما مِن عند الله تعالى، وما كان مِن عند الله لا يمكِنُ أن يَختَلِف إلَّا لقاصر العقل أو قاصر النَّظَر.. ((مُنَزِّلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآنِ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، لا إلَهَ إلَّا أَنتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ)).
من آداب الدّعاء التخلّص من الفقر
كلُّ هذه المناجاة ليس مِن أجل الجنة، ولا مِن أجل النَّار، ولا مِن أجل الآخرة، بل كل هذا الدعاء مِن أجل الدنيا، هذا دعاء النبيّ ﷺ عند النَّوم، فما هي الدنيا التي يُريدها؟ قال: ((اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وَأَغْنِنَا مِنْ الْفَقْرِ)) يُعلِّمنا أن لا نرزح تحتَ الدُّيون، وأن نشتغلَ إذا كنَّا مَدينين حتى نتخلَّص من ذلك الحِمل الثقيل.. والدُّعاء ليس فقط تمنِّيات، والدعاء في الأصل تمنٍ، ولكنه في الوقت نفسه تعليمٌ ودرسٌ، ومعنى ((اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ)) يعني يجبُ أن تجتهِدَ لوفاء دَينكَ بالاقتصاد وبالعمل المضاعف وبالتفكير وكذا وكذا، ((وَأَغْنِنَا مِنْ الْفَقْرِ))، الفقر يأتي مِن الكسَلِ والقعود، ومِن عدَم التَّفكير الصَّحيح، ومِن عدم قَبول نصح النَّاصحين، ومِن عدم الثقافة والتعلُّمِ والهمَّةِ والجِدِّ، والكسول الذي لا يعمل مهما دعا هذا الدُّعاء هل يصيرَ غنيًّا؟ هذا الدعاء زيادة على كونه مناجاةً وتضرُّعًا وطلبًا مِن الله، هو في نفسِ الوقت درسٌ ثقافيٌّ تعليميٌّ لتعمَلَ بالأسباب التي تملِكُها مِن جِدٍّ وعَمَلٍ ويقظَةٍ، لئلا تقع في فخِّ الفقر.
مرةً رأى النبيُّ عليه الصلاة والسلام رجلًا يَمُدُّ يَدَه يَسأَل الناسَ، فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام.. الإسلام ضدُّ الفقر، ولكن ليس بالدعاء، بل بتعاليم الإسلام وبالإيمانِ بها وبتفهُّمِها والعملِ بمقتضاها تُنقَذ مِن الفقر.. فقال له النبيُّ ﷺ: ((لمِاذا تَتَسَوَّلُ؟)) قال له: ليس عندي شيء يا رسول الله، وأنا وعيالي جائعون، قال له: ((أَليسَ عِندَكَ في بَيتِكَ شَيءٌ مِن المتاعِ؟)) قال له: يُوجَد فِراش نَنام عليه -مَثَلاً- وإناء كبير وإناء صغير، فقال له النبي ﷺ: ((أَحضِرْ إحداها)) وأخذ النبيُّ ﷺ يقول في المسجد: ((مَن يَشتَري؟)) فجعل النبيُّ ﷺ مِن نفسه دَلَّالًا، فدفع شخص درهماً، فلم يبعه، وهكذا حتى وصَلَ المزادُ إلى درهمين، فكان ﷺ دلَّالًا ووكيلًا وبائعًا في المسجد، وانقلَبَ المسجدُ إلى سوق دِلالَة، وإنْ كان المسجدُ لا يُستعمَل لهذا، لكنَّ النبيّ ﷺ كان -خاصة في أوَّل الإسلام- مُشَرِّعاً ومعلِّماً يُعلِّمُ في المسجد وعلى الناقة وفي البرية وعلى الطعام وفي كل مكان.
فقال النبيّ ﷺ له: اذهب واشترِ فأسًا، فنجَّر النبي ﷺ له عصًا، ووضعها في الفأس، وقال له: ((اذهَبْ إلى الغابَةِ، واحتَطِبْ، ولا تَأتِ إلَّا بَعدَ أيَّامٍ)) ، فأتى بعد أيام، وقال له: لقد أغناني الله مِن فضلِهِ يا رسول الله” وقد زاد فوق المصروف خمسة عشر درهمًا.
ومرة صافَح النبيَّ ﷺ رجلٌ فوجَدَ خشونةً في كفِّ هذا الرجل، فقال له: ((لِماذا في يَدِكَ خُشُونَةٌ؟)) قال: مِن العمل يا رسول الله، فأخَذَ النبيُّ ﷺ كفَّهُ وقبَّلَها، يعني قَبَّل يد العامل، وقال: ((إنَّها يَدٌ يُحِبُّها اللهُ وَرَسُولُه)) ، وهذا رمزٌ لتقديس العمل الذي يُنقِذكَ مِن الفقر، وينقلُكَ إلى الغنى، وهو تعليمٌ عمليّ لنا، لنسلُك الطريق إلى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة:201].
قال النبي ﷺ: ((اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ))، كيف يُقضَى الدَّينُ؟ إذا كان المرء مديونًا، وكانت حاجته من اللحم نصفَ كيلو، فلمَّا صارت عندَهُ أموالُ الناس أصبح يُحضِر كِيلَيَين، ويقوم بالولائم، ويبذخ ويُبذِّر، فهل هذا الشخص سيَقضي الله عنه الدَّين؟ إن النبي ﷺ علَّمنا مكافحة الفقر بالقول أي بالدُّعاء وبالعمل، كما في قصَّة المتسوِّل، وبالتقديس كما في قصة تقبيلِ يد العامل، ولكن تجد الرجل اليوم كَسولًا بَطَّالًا، لا يفهم: “الوقت سيفٌ إن لم تقطعهُ قطعَكَ”.
سيِّدُنا عليٌّ رضي الله عنه هو صهر النبي ﷺ وابن عمه، وقد عمل أجيرًا عند يهوديٍّ، ليُخرِج له الماء مِن البئر بالدلو مقابِل تمرةٍ لكلِّ دلوٍ، حتى مَجَلَتْ [دملت] يدُهُ، فهل هذا عيبٌ؟
ما ترَكَ رسول الله ﷺ شيئًا إلَّا وضَع قواعدَه لِيَنقُلَنا مِن الشَّقاوة إلى السَّعادة، ومِن الضَّعفِ إلى القوَّة، ومِن الجهل إلى العلم، ومِن الحَمَقِ إلى الحكمة.. والأحمق هو الذي ينساق بعاطفته، وليس عندَهُ عقلٌ يُدرِكُ الأمورَ بوقائعها، فهو بحسب عقله أنه فهمان، ولكنه بحسب الواقع هو مخطئ ولا يستطيع أن يدرك الواقع ليُفرِّقَ بين الحقِّ والباطل.. الإسلام ليس أنْ تُجوِّد القرآن وتقلقل الحروف، وهذا شيءٌ حسَنٌ ومطلوب، ولكن الإسلام كلٌّ مثل السيارة، فالسيارة ليست “الموتور” [المحرِّك] فقط، وليست العجلات فقط، وليست البطارية فقط، بل إن السيارة هي مجموع كلّ هذه الأدواتِ وكل أجزائها، ويجب أن تكون مربوطةً ببعضها حتى تكون وحدة كاملة.
نظرات في دلالات أسماء سُوَر القرآن الكريم
إن أسماء سُور القرآن لها دلالات معينة، فمثلًا سورة البقرة لذكر بقرة بني إسرائيل -وأنا ذكرتُ لكم ذلك مرةً كاجتهاد مؤقَّت آنِيٍّ ومكانيٍّ- وأما السَّبر الحقيقي فنقول: سورة البقرة بقرة بني إسرائيل، وقد ذَكَر الله فيها حوارًا مع اليهود قريبًا مِن نصفها، فذكَرَهُم أوَّلًا بإيجابية، وهم اليهود الأُصَلاء الذين كانُوا مُصدِّقينَ ومستجيبين مع موسى عليه السّلام، وقد ذَكَرَ الله تعالى في سورة البقرة نفسها اليهود الذين نَقَضوا عَهْدَ الله تعالى، وخالَفُوا ونكثُوا وعصَوا وطلبُوا مِن موسى الطَّلبات المعجِّزة، وكفروا بالله وغير ذلك، وكان هذا قريبًا مِن نصفِ سورة البقرة.
والسورةُ التالية هي سورة آل عمران، وآل عمران هي عائلة سيِّدنا المسيح عليه السلام وفي هذه السورة قريب مِن نصفها حوار مع النصارى.
وتحدَّثت سورةُ النساء عن حقوق المرأة ومناصرتِها، وقد كانَتِ الخالة زوجة الأب يَرثُها أكبَرُ أولاد زوجها، ويأخذها زوجةً، وإذا كانَت كبيرةً تصير عبدةً [أَمَةً] عنده، وكانت لا تَرِثُ.. وكانت وكانت وكانت.. إلخ.
ثم سورة المائدة، وهي كأنها مائدة مستديرة للحوار مع أهل الكتاب ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ [المائدة:68].
وسورة الأنعام تعني الغنَم والبقر والماعز والجِمال، وقد كانَ الجاهليون لا يأكلونَ كثيرًا مِن أنواعها، ولا يَشربون لبنَها ولا يستعملونها، بل يحرمونها بعقولهم الخرافية، وكان عندهم كثيرٌ مِن خرافات المجتمع العربي، فأتَتْ سورةُ الأنعام لتقضي على خرافاتِ المجتمع التي لا تتَّسق مع العقل والواقع ومصلحة الإنسان.
وجاءت سورة الأعراف لذِكْر فئةٍ بينَ الجنة والنار، ثم ذكَرَ قريبًا مِن نصفِها عن الأنبياء وأكثرهم سيدنا موسى عليه السلام وبني إسرائيل.
وتحدثت سورة الأنفال عن الغنائم عندما يكونُ العربُ مُنتصرينَ، [يقصد سماحة الشيخ المسلمين هنا بقوله “العرب”، وهذا أسلوب كثيراً ما يستخدمه ليُبَيِّن للمسلمين العرب الذي تركوا دينهم أو كادوا ويفتخرون بالعروبة والقومية العربية أنه لولا الإسلام لما كان عرب ولا عروبة، خاصة وأن القضية الكبرى لهؤلاء العرب محاربة اليهود الذين انهزموا أمامهم عدة مرات في النصف الثاني من القرن العشرين، والسبب الحقيقي كما هو معلوم هو تركهم لدينهم وتبنِّيهم شعارات وأفكار لا علاقة لها بالإسلام] وسورة التوبة اسمُها سورة السَّيف وسورة القوة وسورة السلاح، وكانت بسبب ثلاثة جنود تأخَّروا عن الجيش، فأنَّبَهُم الله تعالى ووبَّخَهُم وعاقبَهُم بقانون العقوبات الذي لم يوجد له شبيه في كلِّ دول العالَم مِن خلق آدم عليه السَّلام إلى أن تقوم الساعة، إذ إنه لا يوجَد قانونٌ يُعاقِبُ الجندي الفارّ مِن الجيش بألطف وأعمَق مِن قانون القرآن، ففي قوانين الدول في أقل الدَّرجات يَحبِسونه ويَضربونه، وفي بعض الأوقات يعدمونه، ولكن القرآن حَكَم على الثلاثة الذين تخلَّفُوا أن يُقاطَعوا فلا كلامَ معَهُم ولا سلامَ، حتى مِن نسائِهم وأهل بيتِهِم، فأيُّ قانونٍ إنساني وأخلاقي وتربوي أكثر لطَفاً ورفقاً من القانون الإسلامي؟
ثم تأتي سورة يونس وهود ويوسف وإبراهيم عليهم السَّلام وهم الأنبياء، ثم سورة الأنبياء التي ذكرت الأنبياء مجتمعِين، وبعدما ذكَر الله تعالى الأنبياء في سورة الأنبياء، وختمَهُم بمريم الصَّديقة عليها السَّلام قال: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [الأنبياء:92] أمَّتُكم يعني مِلَّتكم ودِينكم، كما قال: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [الشورى:13]، وقال في سورة الأنبياء: ﴿وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 92]، لقد ذكَرَ الله تعالى إبراهيم وموسى والأنبياء عليهم السَّلام إشارةً لأنْ تتوحَّد الأديان في هدف تحقيق سعادة الإنسان كلِّ الإنسان.
عنوان سورة الحديد أي استخرجوا الحديد واصنعوه
وسورةُ الحديد الآن قال الله تعالى فيها: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾ [الحديد:25]، وقال قبلَها: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [الحديد:25]، بالشَّرائع الواضحة والأحكام العادلة والقوانين الإنسانية الفاضلة ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ فالقوانين السماوية مكتوبة في الصَّفحات الرُّوحيَّة على قَلْب رسول الله ﷺ، ﴿وَٱلۡمِيزَانَ﴾ [الحديد:25] أي القانون الذي يَزِنُ حقوق الناس، ويفرق بين الحقِّ والباطل والظالم والمظلوم، ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد:25] أي ليُعطَى كلُّ ذي حقٍّ حقَّه، ويُردَع الظالمُ عن ظلمه.. قال: ولكن هناك أناسٌ لا يرتدعون بالقانون فقال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ ويوجدُ أناسٌ يستحقُّون قطعَ الرأس ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [الحديد:25] ﴿وَأَنْزَلْنَا﴾، يَعني أوجدنا وخلقْنا.
فعنوانُ سورةِ الحديدِ معناه استخرجُوا الحديدِ، ومعنَى سورة الحديد “اصنعوا الحديد”، كما ذكر الله تعالى في سورة سبأ أن النبي داود عليه السَّلام كان يَشتغِل حدَّادًا في الصناعات الحربية، وسُلَيمان عليه السلام كان يعمل في الصناعات النحاسية المدنية.. ﴿فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ الصناعة الحربية ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ الصناعة المدنية.. فالذي يُعلِّم المسلمين القرآنَ عليه أن يُعلِّمَهم التصنيع، وأن يقول لهم: إنّ التصنيع فرضٌ ودِينٌ وإسلام.. ولكن المسلمين عبر القرون المتأخرة صاروا لا يَعرفون إلا القراءات والتجويد والروايات وقال فلان وقال فلان [من العلماء].. حتى صار قارئ التفسير لا يَعرِف القول المعتمَد، ولا يَفهَم القرآن، وقد كان قبل قراءته للتفاسير إذا قرأ القرآن قد يَفهَم بعضَه، ولكنه حين يَقرَأ التفاسير ويجد عشرين قولًا، ولا يرجح قول على قولٍ لا يفهَمَ شيئًا.
معنى التسبيح
نبدأ الآن في التفسير: بسم الله الرحمن الرحيم، قال تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الحديد:1] “سَبَّح”: التَّسبيحُ في الأصل أن تعتقِد في الشيء الكمالَ وأنه لا نقص فيه ولا عيب ولا ضعف ولا أيّ شيء يُنقصُهُ عن ذروة الكمال وقمة الكمال، وقال: ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ مِن ملائكة ومخلوقات لا نعلمُها، ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ أثبت وجود الملائكة ووجود مخلوقات غير الملائكة في عالَم السَّماء الذي هو عالَم الفضاء، وما فيهِ مِن عوالم، وما فيه من شموسٍ وأراضٍ أكثَرَ مِن عددِ ذرَّاتِ الرمال في الكرة الأرضية، ويُوضِّح القرآن في ذلك فيقول: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الشورى:29]، فالآياتُ تدُلُّ على وجود الصَّانع الخالِقِ الحكيم المنظِّم العليم، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا﴾، أي ما خَلَقَ فيهما ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ كل ما يَدُبُّ على الأرض اسمه دواب، ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ [هود:6]، وفي سورة النحل يقول القرآن: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ [النحل:49] العطف يَقتَضِي التغييرِ، فإذا قلتَ: أكلتُ سمكًا ولبنًا، فهذا يعني أن السمك غير اللبن، ﴿مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ يعني يُوجَد ملائكة، ويُوجَد أيضًا مخلوقات تدبُّ على كواكبِها لا نَعلَمُها، يَعلمُها الذي خلقَها وأبدَعَها وأوجدها، فهؤلاء المخلوقات في السَّماوات أو في الأرض عَرَفُوا الله تعالى بعظمتِه وبعلمِه وبقدرتِه وبحكمتِه وبألوهيَّتِه وبكمالاتِه، وأنه منزَّهٌ عن كل النقائص وكل ما لا يَليق بمقام الألوهية.. وهناك من يَعبُدُ سيِّدَنا عيسى عليه السَّلام كإله، لكن إذا كان الإله يُضرَبُ مِن سبعة أو ثمانية أشخاص، ويَبصَقُ في وجهِهِ، فهل هذا تنزيهٌ للألوهية أم حطٌّ مِن قَدْرِه وحطٌّ مِن شأن الألوهية؟ هل يصح أن تجتمع ألوهية وضَعْف، أو ألوهية وتحقير، أو ألوهية واستهزاءٌ؟ هم يقولون: “إنما فعل ذلك ليفديَ بدمه أصحاب الخطيئة”، نقول: الإله يملكُ أنْ يعفوَ عن أصحاب الخطيئة مِن غير توبيخ، أليس هذا أليق به وأحسَن؟ لكن لكلِّ أمّةٍ شأنُها.
معنى العزيز الحكيم
﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ القوي الذي لا يُغلَب ولا يُقهَر ولا يَضعُف، ﴿الْحَكِيمُ﴾ [الحديد:1] في شرائعِهِ وفي أوامِرِهِ وفيما حرَّم على مخلوقاته وفي كل ما خلَق في الكون.. الله تعالى خَلَق العشب، وأنا كنتُ في أول شبابي أقول: لماذا تنبت الحشائش على الجدران والسطوح؟ يعني لا يُوجَد فائدةٌ من ذلك، ولكن لَمَّا كبرنا وصِرنا نَفهم، وإذا بالعِلْم يقول: إنَّ كلَّ نباتٍ هو معملٌ للأوكسجين الذي لا تَكونُ حياةُ الإنسانِ والحيوان إلا بوجوده، وكلَّما كَثُر الأوكسجين تنمو الصحة وتقوى الحياة، فأنتَ تظنُّ أن القُرِّيص والشوك والحشيش لا فائدة منهم، وإخراجهم للأوكسجين هو أقلُّ الفوائد، مع أنه لو دُرِس فإنك لن تجِد شيئًا في عالَمِنا الأرضي إلا وهو مخلوقٌ لفائدة ومصلحة وحكمة، وإلَّا فسيَكونُ خلقُهُ عبثًا.. فبأقلُّ المستويات أنه معمل ومصنَع لإنتاج الأوكسجين، ولامتصاص غاز الفَحم الذي إذا كثُر يَقتل الحياة والأحياء.
﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الحديد:1] يقال حول هذا الموضوع: إنَّ شخصًا رأى خنفساء، فقال: لماذا خلقَها الله؟ فهي ليس لها شكل جميل، ولا رائحة طيبة، ولا تَبِيض ولا تُغنِّي، ورائحتها كريهة، فأصيب مرة بدمَّل عجز الأطباء عن معالجته، ومرة أحضروا له طبيبًا فقال له: علاجك بسيط، ودواؤك في الخنفساء، فضحك الحاضرون، فقال لهم: لا تضحكوا أنا الآن عرفت الحكمة منها، ثم قال له: أحضِر خنفساء واذبحْها حتى لا تُعذَّب، ثم أحرقها وخُذ صفوتها وضعها على الدُّمَّل، وكان في ذلك شفاؤه.. الشاهد: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ [آل عمران:191]، قرأتُ مرة في بعضِ المجلَّات أنهم في أمريكا ينشئون حقولًا لتكثير الخنافس وتوليدها مثل مداجن الدجاج، فصنعوا مداجن لبعضِ أنواعٍ مِن الخنافس، لأن مهمة هذه الخنافس أن تقتلَ بعض الحشرات التي تبيدُ الزروع، وهم يُصدِّرون الخنافس إلى استراليا وإلى كلِّ بقاع الأرض.. ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا﴾ [ص:27]، يعني ادرسوا كلَّ ما في السَّماء مِن هواء وغاز وأوزون وسحاب وغبار وحشرات ومعادن وكل شيء، لأنَّ الله تعالى خلقَها لِمَنفعتِكم وفائدتكم، أليس هذا مِن القرآن؟ ولكن رحِمَ الله المفسِّرين لم يكون مِن أهل هذا الميدان، بينَما المسلمون الأُوَل مِن عصر الصحابة والتابعين فإنهم بسبب فقهِهم بالقرآن أخذُوا كلَّ الكُتُب مِن مكتبات كلِّ الأمَم وترجمُوها إلى اللغة العربية، تطيبقًا لقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ [البقرة:201] حتى صارت الأُمَّة العربية بمدرسة الإسلام أرقى أُمَّة على وجه الأرض، وكانت كلُّ الأمم تتعلَّم في البلاد الإسلامية، ولقد قرأتُ مرة في كتاب أنَّ مَلِك إنكلترا أرس كتابًا إلى مَلِك الأندلس المسلم، يَتَرجَّاهُ لقَبول ابنتيهِ أو ولديه في إحدى الجامعات الأندلسية لِيَتعلَّما ويتثقَّفا بعلوم الحياة الدنيا، وهو يَطلب ذلك بكلِّ تواضُع، يقول له: هؤلاء عبيدُك، هؤلاء أبناؤك، هؤلاء كذا وكذا، وأرجوكم أن تعلِّمُوهُم وتثقِّفُوهم في جامعاتكم.
أهميّة العودة إلى كتاب الله وترك الضياع
ونحن اليوم ابتعدْنا عن القرآن فَهْمًا وعلمًا وحكمة وخُلُقًا وسلوكًا، ونقرأ القرآن لأجل النطق بحروفه وألفاظه، ولكن يوجد سُوْرٌ بيننا وبين فهم معانيه؛ باطنُهُ فيه الرحمة وظاهرُهُ مِن قِبَله العذاب.. اليوم صباحًا سمعتُ إذاعة إسرائيل تقرأُ القرآن، ولم أعرف أنها إذاعة إسرائيل، وكان القارئ مِن أرقَى ما يكون نغمةً وصوتًا شجيًّا، وحين انتهى بَثُّوا درس موعظة، وحين انتهى قالوا: “هنا إذاعة إسرائيل”، فقلتُ: والله لو أنهم يعرفون أننا نفهم القرآن لَمَا كانوا يَبثُّونه لنا عبر إذاعتهم.. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [البقرة:189] واللهِ لو أنهم يعرفون أنَّ قلوبنا تستجيب لتقوى الله لما نصحونا، لكنهم يَعرفون: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾ [النمل:80] إلا أفرادًا محدودين، ولكن العبرة ليست في القِلَّةِ، بل العبرة في الغالبِ والكثرة.. فيجبُ علينا أن نَرجِعَ إلى القرآن ليكون مدرستنا التَّربوية والعلمية والعقلية والفِكرية والخُلُقية.. وهل تَكونُ جامعةٌ بلا أساتذتها؟ وهل تَكونُ مزرعةٌ بلا مُزارِعها؟ وهل تكونُ طائرة بلا قائدِها؟ فكيف تصيرُ مسلمًا؟ ومَن الذي يَبنِي إسلامك عِلْمًا وفكرًا وروحًا وأخلاقًا وسلوكًا وحياةً وهمَّةً وعملًا؟ إذا لم يكن لكَ أستاذٌ في اللغة الفرنسيَّة فهل تتعلَّمُها مِن حلبون، أو من عدرا أو مِن القابون [هذه أماكن شعبية في ريف دمشق]؟ نحن في ضياعٍ، والدعاء وحده: “اللهُمَّ ردَّنا إلى الإسلام” لا يكفي، ومعنى الرد أن تعمَل الأعمال التي تَرُدُّكَ، فإنْ دعوتَ: “اللهُمَّ ارزقْنِي ولدًا” فهذا يعني أنه يَجِبُ عليك أن تخطُب لتتزوَّج، وإذا لا يُوجَد معك نقودٌ فعليكَ أن تعمل وتدخِّر، أمَّا الدعاء فقط بلا فَهْمٍ لِما وراءَ الدُّعاء -وهذا من آداب الدُّعاء- فإنك تكون بذلك مُعتَدِيًا في الدعاء، والقرآن ذكر أنه يجب ألَّا تكون معتديًا في الدعاء، قال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف:55]، وكلُّ شيءٍ إذا ذُكِر في القرآن يكون المقصود منه فيما يُناسِب سياقَه وما قَبله، والسِّياق في الآية في الدَّعاء، فهذا يعني الاعتداء في الدُّعاءِ، وقالوا: “الاعتداء في الدُّعاء هو أن تَطلُب شيئًا لا تَملِك أسبابَه” أي لا تُريد أن تَأتيَه مِن بابِه وأسبابه، كأن تقول: “اللهمَّ ارزقني ولدًا” وأنتَ تنوي أن لا تتزوَّج، فإن الله تعالى لن يُعامِلَكَ مثل مريم بنت عمران لتنجب ولدًا مِن غير أبٍ، أنتَ تريد ولدًا، فهل سيُحبِّلك الله وتصير في الشهر التاسع أو الثامن أو العاشر؟ هل تريد أن يفعلَ الله ذلك؟ هل يُخالِفُ اللهُ قانونَهُ في كلّ الكون لأجل شخص أحمق؟ تقول: “اللهمَّ أسعِدْني”، وتمشي في طريق الشَّقاء مع الأشقياء وتَصحب الأشقياء وتُعادي السُّعداء، فكيف سيُسعِدُكَ الله؟ إنّ الدعاء مُذكِّرٌ لكَ لِتَسلُك الطريق الذي يُوصِل إليك ما تَطلبُه مِن الله عزَّ وجلَّ وما تتمنَّاه.
والتسبيحُ على قِسمينَ: تَسبيحُ النُّطقِ والعقيدةِ والفكر، وهذا للإنسان، وهناك تسبيحٌ بالنَّظَرِ، كما إذا رأيتَ سيارة عظيمة “كاديلاك” مثلًا فإنك فوراً تَسبِّح [تُعَظِّم] مُصمِّمَها ومخترعَها، وتقول: ما أعظَمَ هذا المخترع! وما أعظَمَ أصحابِ الفكرة الذين صنعوا السيارة بهذا الشكل قوَّةً وجمالًا وراحَةً وسرعةً؟ فهناك تسبيحٌ بالواقع وبلسان الحال، حيث أن ذلك االمصنوع يَدُلُّ على صانعِه، لأنَّه في مرتبة الكمال وفي مرتبة العظمة والجمال والعلم والحكمة، وهناك تسبيحٌ بالقول، فقد يَقول شخص: “سبحان الله!” لكنه لا يفهم التَّسبيحَ بفكره، ولا يَفهَمُ التَّعظيمَ بقلبِهِ.. وهذا يَقول ما لا يَفهَم.
صفات الله المالك المتصرّف في السماوات والأرض
﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الحديد:2] مَن الله؟ مَن الإله؟ سيِّدُنا عيسى المسيح عليه السَّلام في الإنجيل يقول: “ائتوني بجحشٍ لِأَركَبَهُ”، فهل يمكن أن الله يحمله جحش؟ إنّ هذا ليس كلامه.. ومدلول الكلام أنه بحاجةٍ إلى جَحش.. وقالوا: له طبيعتان طبيعةٌ إلهية وطبيعةٌ بشرية، يعني هل الإنسان يَكونُ له طبيعتان: طبيعة إنسانية وطبيعة حمارية؟ يعني يصير مرَّةً حمارًا ومرَّةً إنسانًا، ومرَّةً يصير بغلًا ومرَّةً امرأةً ومرَّةً رجلًا.. الخ.
الله ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ هو الملِكُ وهو الْمُتصرِّفُ المطلَقُ، ويَتَصرَّفُ بحكمةٍ وقانونٍ، وله أهدافه السَّامية والعالية التي وراءها كلُّ الفوائدِ والمنافع والنظام، ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [الحديد: 2]، مَن وهب الحياةِ للإنسانِ وللشَّجرِ وللنباتِ وللحيوانِ؟ حتى الأحجار يقول علماء الطبيعة: “إنَّ الحياة موجودة في الأحجار” والأحجار تَنمُو وتَتزايدُ خلاياها، ثم تصير شابَّةً، فالجبال منها الجبل الشابُّ والجبل الكهل والجبل العجوز، ثم في نهاية الأمر تَصير تلالًا مِن التراب، وهذه تكون الجبال التي صارت هرمة وانتهت جَبَليَّتُها.. فالحياة والموت موجودان في كلّ شيء، ﴿وَهُوَ عَلَى كلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الحديد:2] وإذا كان سيَّدِنا عيسى عليه السَّلام على كل شيء قدير أَمَا كان يُمكنه أن يمنع اليهود مِن صَلْبه؟ وفي الإنجيل يقول: “يا أبتاه”، يتوسل إلى الله مِن أجل أنْ يُخلِّصه، وحين لم يُخلِّصه الله قال له: “بما أنك هكذا تُريد فأنا هكذا أُريدُ”.
صفات الله: الأوّل والآخر والظاهر والباطن والقادر
قال: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ﴾ فليس قبله شيء ﴿وَالْآخِرُ﴾ [الحديد:3] ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص:88]، ﴿وَالظَّاهِرُ﴾ [الحديد:3]، ليس في ذاتِهِ، بل الظاهِر في آثاره وصنعه ومخلوقاته.. فإذا رأينا سُبْحَةً ألا نحكُم بوجود مَن صنَع حبَّاتِها وخيطها ونَظَّمَها كما هي؟ وإذا رأينا الكأس مليئة أليس معنى ذلكَ أنَّنا رأينا طابخَها وصانعَها والذي قدَّمَها؟ سألوا أعرابيًا: ما الدليلُ على وجود الله تعالى؟ قال: “الْبَعْرَةُ تَدُلُّ عَلَى الْبَعِيرِ، وآثارُ الْأَقْدَامِ تَدُلُّ عَلَى الْمَسِيرِ، أَفَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ، وَأَرْضٌ ذَاتُ فِجَاجٍ أَلَا تَدلَّانِ عَلَى اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ؟” هذا عقلُ البدويِّ، والآن تجده أستاذ جامعة، لكن ذاك البدوي يَفهَم أكثَر منه، البدوي فَهِم مِن البعرة، وهذا لا يَفهم بالبعرة ولا بالنعرة ولا بالعقل! فلا يَستعمِل عقلَه، وعقلُه مُهمَلٌ، فهو ميِّتُ العقلِ.. وقد أيقظَ عقلَه في شهواته، واستعملَهُ لِيَستجيبَ إلى أعداء الإسلام، وإلى ما وضعُوا في عقله من فِكْر سقيم وعقائد باطلة نمَّاها وغذَّاها ولم يتقبَّلْ غيرَها، ولا يُوجَد طبيبٌ لِيُعالِجَه ويُنقِذَه مِن أمراضِه العقائديَّة والعقليَّة والفكريَّة.
قال: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد:3]، فكيف تخبِّئ أعمالك مِن الله، وتجعَل نفسَكَ مَنْفُوْخَاً [كبيراً] أمام الناس حتى لا يَحتقرك الناس، ولكن أَلَا يراكَ الله؟
((مَنْ أَرْضَى الله بِسَخَطِ النَّاسِ رضي الله عليه وأرضى عليه الناس، ومَنْ أَرْضَى النَّاسَ بسخط الله، سَخِطَ الله عليه وأسخط عليه النَّاسَ)) لأن الحقيقة هي التي ستثبت، وأمّا الباطل: ﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء:81] النقصُ لا بدَّ أن يَظهَرَ ولو بَعدَ حين، والغِشُّ والكذبُ والرياء كل ذلك سيَظهَرُ ولو بعدَ حِين، والصِّدقُ والإخلاص والاستقامة ستظهَر ولو بعد حين، ((وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ)) ، ألم يتحمَّل أصحابُ النبيِّ ﷺ -المسلمون الأُوَل- المشقَّات والعذابَ والشتائم والتحقير والسجون؟ ثم كيف كانَتِ النتيجة بعد ذلك؟ ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون:8] فالله تعالى ليس مالكًا للسَّماواتِ فقط، بل هو خالقُها ومبدِعُها ومُنشِئُها مِن عدم، ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أيَّام﴾ [الأعراف:54] ذُكِر في التوراة عن السِّتَّة أيام أن الله خَلَقَ الجبال يوم السبت، وخلق كذا يوم الأحد وكذا يوم الاثنين.. إلخ، وهذا الآن كذَّبَهُ العِلْم، لأن الله تعالى خلَقَ السَّماوات والأرض في ستة أيّامٍ، واليوم كنايةٌ على دوران الأرض حولَ نفسِها، فالوجه المقابلُ للشَّمسِ مِن الأرض نهارٌ والثاني ليلٌ ومجموعهما يوم، فهل الأيام وُجِدَتْ بعد الأرض أم قبل الأرض؟ لذلك فإن أوربا وعلماء الغرب كذَّبُوا بالتوراة، وكذَّبوا بالكنيسة، لأنها قالت: “الأيام هي السبت والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس”، أمَّا القرآن فقد قال: ﴿في ستة أيَّام﴾ لكنَّه شرَح اليوم وقال عنه: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ﴾ [الحج:47]، ومرة فسَّر اليوم بقوله تعالى: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج:4] هناك يوم هو يومٌ وليلة.. والقرآن ما حدَّدَ الأيام بالسَّبتِ والأحد والاثنين، بل قال: ﴿فِي سِتَّةِ أَيَّام﴾، يعني في ستة أدوار حسب ما يقولُه علماءُ الطبيعة.
﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الحديد:4] بعد الخلق استوى على العرش.. فالملِكُ بعد أن يفتح البلد هل يَتركها أم يُدبِّرُ شؤونَها ويُنظِّمُ أمورَها ويُؤمِّنُ ما يحتاجُ إليه شعبُها؟ “استوى” يعني دَبَّرَ وأشرَفَ.. إلخ.
علم الله للغيب في الأرض وعلمُهُ لأعمال الإنسان
﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ﴾ [الحديد:2]، ما هو مخبَّأٌ في الأرض.. فعندما يرمي الفلاحُ القمح أو الشعير أو السمسم، فكم حبَّة سمسم هي؟ ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام:59] وأنتَ أيها المخلوق الصغير هل نسيتَ أنَّ الله يَعلَم شؤونك وأعمالكَ ونواياك وأهدافك الخبيثة أو الماكرة أو الحقيرة أو التافهة أو الطيبة أو الصالحة؟ قال: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾، الجوارحِ هي الأعضاء، فاللسان جارحة والله يعلم ماذا يتكلَّم لسانك، ويدك جارحة وهو يعلم ماذا فعلت، ويَعلَمُ إلى أين مشَتْ رِجلُكَ ﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ﴾ يوقظكم بعد النوم، وهذا هو البعث ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام:60]، فكيف بك إذا عرض الله عليكَ سهرةً مِن سهراتكَ، أو جَلْسةً مِن جلساتكَ، فيها شرب الخمر أو الزنا أو الأذى أو المكر أو الإضرار بالخَلق أو التآمُر على الضعيف أو على المظلوم في باطل، أو لهدْمِ حقٍّ؟ أين إيمانُكَ؟ وما فائدة تلاوتك للقرآن؟ القرآن ليس لِتلاوة الألفاظ، بل لفهمِ المعاني، ولِتدبُّرِ الأهداف، ولتَقلِبَ الألفاظ والكلمات إلى أعمالٍ وأخلاقٍ وأذكارٍ وسلوكٍ.. الشجرةُ خشب، فهل تَصيرُ خزانة بنفسِها؟ الإسمنتُ كان تُرابًا في البريَّة، فهل صار بنفسِهِ إسمنتًا؟ كم مهندسًا وعاملًا وصانعًا يحتاج؟ فهل تحويلُ الشجرة إلى خزانة أهمُّ أم تحويل الإنسان -مِن لحْمٍ ودمٍّ لا يَعرِفُ إلَّا أن يملأ معدته، ويبول فضلاتِه، وينزو كما تنزو الحيوانات- إلى إنسان رباني مسلم؟ مَن الذي سيجعلُ فيه إنسانية الإنسان وأخلاقية الإنسان والإنسان الفاضل؟ هل هذا يوجد بنفسِهِ؟
المسلمون اليوم يقولون: إن المسلمَ يصير بنفسه مسلماً، كما لو سمَّينا الشجرةخِزانة وطاولة، وبذلك نصير في نظر الناس مجانين، وتُحقَّر عقولُنا وأفكارنا، وكما هو واقعُ المسلمين في عصرنا الحاضر، فمَن هم أحقَر الأمم والشعوب في نظَر العالَم الراقي؟ العالَم الذي يُسمُّونَهُ “الإسلامي” واللهِ هو ليس إسلاميًّا.. قال سيدنا عليٍّ رضي الله عنه: “يأتي زمانٌ لا يَبقَى مِن الإسلام إلا اسمُهُ، ولا مِنِ القرآن إلاّ رسمُه” ، أين القرآن الذي كان نوراً إلهيّاً وروحاً ربانيّاً يَنزِلُ في القلوب الطَّاهرة النقيَّة الذَّاكرَة المخبتة الخاشعة التي التصقَتْ روحُها بروح النبيِّ عليه الصّلاة والسَّلام، أو بروح ورثَةِ رسول الله ﷺ؟ إذا ما وجد عندك مِن الحبِّ بحيث تمتزج روحُكَ بروح رسول الله ﷺ وروحِ وارثٍ مِن ورثتِهِ لِتَصلَ بحقائق القرآن رُوحًا ونورًا وحِكْمةً وعلمًا وخُلقًا وسلوكًا، ثم نجاحًا وانتصارًا وتوفيقًا فأنتَ تَظلِمُ القرآن والإسلام بانتسابكَ إليه
طلَعَ الدِّينُ مُستَغِيثاً إلى اللـ
ـهِ وَقالَ: العِبَادُ قَد ظَلَمُوني
يَتَسَمُّونَ بي وحَقُّكَ لا أَعـ
ـرِفُ مِنهُم أَحدًا ولا يَعرِفُوني
علم الله بالعمل وحسابه عليه
﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ﴾ ماذا يوجد في الأرض، وماذا ينزَل في الأرض مِن مطر، وماذا وُضِعَ في الأرض مِن بذور وزروع يعلمه كله، ﴿وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾ مِن مياهٍ وأنهار وينابيع وزروع ونبات وأشجار ﴿وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء﴾ مِن أمطار وملائكة ووحيٍ ﴿وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ وكلُّ شيء يَصعَدُ إلى السَّماء مِن ملائكة وأبخرَةٍ وغازات وأعمال، قال عليه الصَّلاة والسّلام: ((يُرفَعُ كُلَّ يَومٍ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَمَلُ الإنسانِ في اللَّيلِ قَبلَ أنْ يَنقَضِيَ النَّهارُ، ويُرفَعُ عَمَلُهُ في النَّهارِ قَبلَ أنْ يَنقَضِيَ اللَّيلُ)) ماذا عمل اليوم؟ لَعِب بالقمار، أو سبَّ الدِّين عدة مرات، وتعدَّى على امرأتِهِ، أو تعدَّت المرأة على زوجها، أو العامِلُ على مُعلِّمِهِ، أو المعلِّمُ على عاملِهِ، أو الأبِ أو الابن أو الأخ أو الجار أو الضعيفِ أو القوي أو على دابَّة، فهذا كلُّهُ مُسجَّل، هذا هو القرآن! وأنتَ هل آمنتَ بهذه الجملة من القرآن؟ عندما تقول أنا مؤمنٌ بالقرآن تعالَ لنُحاسِبَكَ على آية واحدة، فغدًا -واللهِ- ستقف بين يدي الله عزَّ وجلَّ.. في الدنيا إذا كنتَ مخالفًا وأنتَ تقود السيارة وأوقفَكَ شرطي سير، ألا تنزعِج؟ خصوصًا إذا كنتَ مخالفًا، فإنك تترجاه وتدفع له مبلغاً من المال: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت:34]، [ذكر الشيخ الآية كناية عن الرشوة التي تُدفع للشرطي، وهذه الآية كثيراً ما يذكرها الناس في هذا الموقف، لأن ذاك الشرطي الممتلئ غضباً ينطفئ غضبه فوراً وتظهر الابتسامة على وجهه ويسامح المخالف بمجرد أخذه للمال] ولكن اللهَ تعالى -واللهِ- لا يقبلُ الرشوة، وواللهِ مَلَكَ الموت لا يأخذ الرشوة، وواللهِ أنكر ونكير لا يقبلان الرشوة، والرقيب والعتيد واللهِ لا يقبلان.. واللهِ يوجد معك –ليس شرطي سير- بل مَلَك، وهو شرطيٌّ مكلَّفٌ أن يُحصِي عليك كل أعمالكَ مِن نُطْقٍ ونظَر وسمعٍ، فهل أنتَ مؤمِن بالقرآن أم كافر به؟ أعمالُكَ تدلُّ على أنَّكَ كافرٌ، بينما لسانُكَ يقول: أنا مؤمن! وهذا ادِّعاء، مثل ادِّعاء المنافقين حين قالوا: ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ [المنافقون:1] قال الله لهم: أنتم كذَّابون، هل تُعلِّمونني وتشهدون أنه رسول الله؟ أنا أعلم إنه لرسول الله: ﴿قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ لكن الله قال لهم: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون:1] فسمَّى إيمانَهُم كذبًا، وسمَّاهُم المنافقين، لأنَّ إيمانَهُم إيمانُ القول والتَّمنِّي والادِّعاء، أمّا في العمل والواقع والقلب والشعور والعاطفة فلا يوجد عندهم إيمان.
الإيمان الحقيقيّ في القرآن الكريم هو الفعلي وليس القوليّ
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4] فهل أنتم مؤمنون بالقرآن؟ مَن يؤمن بالقرآن يرفع أصبعه! [الشيخ يخاطب الحضور مباسطًا:] أبو الحسن ألستَ مؤمنًا؟ والذي ليس مؤمنًا يرفع أصبعه أيضًا.. إذن هل عرفتم ما هو الإيمان بالقرآن؟ النبي ﷺ يقول: ((مَا آمَنَ بِالقُرْآنِ مَنْ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ)) هل المراد مِن الإيمان بالقرآن أن تقولَ: “آمنتُ”؟ هل المقصود مِن الزواج أن تقول: “تزوَّجتُ” وأنتَ لم تتزوَّج؟ وهل المقصود مِن الأكل أن تقول: “أكلتُ”، وأنت لم تأكل؟ وهل المقصود مِن الطبِّ أن تقول: أنا طبيبٌ، وأنتَ لا تَعرِفُ الإبرة، وإذا جاء المريض تُحضِر له “مسَلَّة” [إبرة كبيرة وغليظة]، وتقول: إنّ إبرة الطبيب صغيرة، أما هذه الإبرة فكبيرة وتغنيك عن عشر إبر.. ونسأل الله السِّتْر، فربَّما تُحضِرُ له مسماراً فولاذياً كبيراً ومطرقة وتَدُقُّ المريض بها.. يا بني هل سنعيش بإيمانٍ كاذبٍ؟ الآن ليس وقت الامتحان، فالطالب في أوَّلِ السَّنة يَكسَل ويَلعَب ويَلهو، لكنَّه في آخِر السَّنة عند الامتحان يبدأ بالبكاء، وتَصفَرُّ الوجوه، وعندما تَظهَرُ النتائج يبكي ويسيلُ أنفهُ على فمه، ويَسبُّه والده، وتطرده أمُّه، ويحتقره أصدقاؤه، وهذا في الدُّنيا أمر مؤقَّت، ولكن كيف غدًا عند الموت وسكرات الموت وفتنة القبر، وعند لقاء الله إذا سألك الله عن القرآن وقال لك: هل آمنتَ بجُزءٍ مِن آية وهي: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4]؟ ولو كان معَكَ رفيقُكَ أو أجيرُكَ لا تفعل الذي فعلتَه حياءً منهُ وخجَلًا، وتقول: ربما يتكلم عليَّ ويفضحني! مع أنه لا يَملِكُ أن يُعاقِبَك أو أن يُعذِّبَك، ولا أن تَكونَ شقيًّا.. فأين قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4]؟
طرفة: حفظ البدوي لسورة الفاتحة
أكثر إسلام المسلمين صار كإيمان ذلك البدوي وحِفظه للفاتحة.. يُقال: إنَّ شيخًا ذهبَ إلى عشيرةِ من البدو، وأراد أن يُحفِّظهم الفاتحة فوجد ذلك مستحيلًا، ثم فكَّرَ.. والمعلِّمُ إذا أراد أن يَنجَحَ في التَّعليم عليه أن يُعلِّم بالأسلوب الذي يُحِبُّه المتعلمون.. فجاء إليهم، وقال لهم: على كلِّ شخص منكم أن يُحضِرَ سبع غنمات لِأُعلِّمَكُم الفاتحة.. وكانوا إذا قال الشيخ يسمعون كلامه، أما الآن فتجد خمس مئة ألف ثرثار منتقِد يسألون: من أجل أي شيء؟ ولماذا يريد الشيخ هذه الغنمات؟ وهل يريد أن يأكلها.. لأنّهُ لا يُوجَد تربيةٌ ولا إيمان ولا أخلاق ولا عقل ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر:2].
قال لهم الشيخ: هذه الغنمة اسمُها ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة:1]، وهذه اسمُها: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وهذه: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، وهذه: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ سبع أغنام بسبع آيات، وقال لهم: أسمعوني الآن.. وكان كلُّ واحدٍ قد جاء بسبع غنمات، فسألهم: ما اسم هذه؟ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة:1] وهكذا.. وقال لهم: عليكم أن تُعَدِّدوا أسماء هذه الغنمات في صلاتكم، فهذه سورة الفاتحة.. ثم ذَهَبَ إلى الحجِّ، ورجَع بعد عدِّة شهور، وجاء إليهم، وقال: أسمعوني الفاتحة، فقال أحدهم: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6] قال له: أين ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة:2]؟ قال: يا شيخ أكلها الذئب.. وقال لآخر: وأنت أسمعنا، فقال: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة:1-2] ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:5] قال له: أين ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة:4] قال: والله يا شيخي داستها السيارة، وأين ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6] قال: أتانا ضيفٌ وذبحناها له، وهذه أهديناها لفلان.. فهل الإسلام هكذا؟ واللهِ هكذا صار الإسلام! وهذا مثالٌ حقيقي للإسلام في مجتمعنا الآن إلا مَنْ رَحِمَ الله، وقليلٌ ما هم.
استحضار مراقبة الله في كلّ الحالات يحجبُ العبد عن معصية الله
إذا آمنت بكلمة: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4] فهل تستطيعُ بعدها أن تعصي الله تعالى في لسانِكَ؟ هل تَستطيعُ أن تعصي الله في عينِكَ؟ أو تَعصِي الله في مُعامَلتِكَ أو في بيعِكَ أو في شرائِكَ أو مع خصمِكَ أو مع عدوِّكَ أو مع جارِكَ أو معَ صديقِكَ أو معَ ابنِكَ أو مع أبيكَ أو مع أختِكَ أو مع أخيكَ؟ مستحيلٌ، إذن أين الإيمان؟ لا أقول: الإيمان بكل القرآن، ولا بكل الآية، بل آمِنْ بجزء من هذه الآية: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4].
كان عبد الله بن عُمر رضي الله عنهما مسافرًا بين مكة والمدينة فرأى راعيًا، فقال له: هل عندكَ لبَن؟ فسقاهُ، وبقي مِن الحليبِ شيء فأعطاه ليشرب، فقال له: أنا صائم، قال له: أفي حرِّ هذا اليوم الشديد تصوم؛ حرِّ الحجار وصيفِهِ؟ قال له: أصومُ في حرِّ هذا اليوم اتقاءَ حرارة يوم القيامة -هذا الرَّاعِي ابن الصحراء!- فلمَّا سَمِعَ ابن عمر رضي الله عنهما هذا الكلام أراد أن يُجرِّبه وَيَفحصَه، لأنه يُوجَد أناسٌ يَصومونَ ويُصلُّون، لكنه عند المعاملة تجده كافرًا في صلاته وصيامه، قال له: هل يُمكِنُ أن تذبَحَ لنا غنمة؟ قال له: أنا عبدٌ لصاحب الغنم، ولا أملكها، لكنه أذِن لي أن أسقيَ ابن السبيل، أمَّا الذبح فلم يأذن لي به، قال له: أنا أُعطيكَ ثمنَها وقل لسيِّدكَ: أكلَها الذئب.. هذا العبد كان مؤمنًا بالآية: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4]، فما انتهى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كلمته حتى صاح الراعي صيحةً امتلأ الوادي فيها صدى، فأخذ يصيح بأعلى صوته: “فأَيْنَ اللَّهُ؟ فأَيْنَ اللَّهُ؟ فأَيْنَ اللَّهُ؟” ومِن صدقه في إخلاصه وإيمانه، تأثر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بهذا الحال، فصار يصيح معه “فأين الله؟ فأين الله؟” .
هذه ثقافةُ العبد الأجير العامل، فكيف ثقافة سيِّده؟ وكيف ثقافة قائد الجيش؟ وكيف ثقافة الإمبراطور عمر وأبي بكر وعثمان وعليٍّ رضي الله عنهم؟ هل تثقَّفُوا في الجامعات؟ كم أَلْف كتاب كان في مكتباتهم؟ لم يكن يُوجَد غير القرآن، وفي عهد النبيِّ ﷺ وأبي بكر وعمرَ رضي الله عنهما لم يكن يُوجَد مصحف، بل كان مكتوبًا على الأحجار وعلى أكتاف العِظام وعلى ورق النخيل، لكنَّ المعلِّم الأوَّل كتبه في قلوبهم نورًا، وفي عقولهم حكمةً، وفي نفوسهم تزكيةً، وفي هممهم أعمالًا عظيمةً جبَّارة صالحة.
خطورة ترك الإنسان معالجة أمراض قلبه
العبرة بالمعلِّمِ، فالنجار مِن غير مُعلِّمٍ إذا أعطوهُ خشبًا ليصنع بابًا فإنه يخرِّب الخشب، وهل تصير “خيَّاطًا” مِن غير مُعلِّم؟ تُمَزِّق قطعة القماش ويوبِّخونك، والسائقُ مِن غير معلِّمٍ تنقلب به السيارة فيَهلَكُ ويُهلِكُ.. فاللهمَّ هيِّئ للمسلمين معلِّماً يُوقِظُ المسلمين والمسلِمات في طلب المعلم والمعلمة.. وإذا أردتَ الدواء ولم تجدْهُ في دمشق تطلبُهُ مِن بيروت أو مِن الأردن أو تطلبُه مِن أوروبا، أليس كذلك؟ وعندما يصيبُك مرضٌ -مع أنك تجد الدواء في بلدك- تقول: لا، في أميركا الدواء أفضل.. مع أنَّه يوجَد ما يقوم بالحاجة، لكنك تُريدُ الأفضل، فتُنفِق مئات الألوف حتى تتخلَّص مِن مرض واحد.
فإذا كان في قلبِكَ خمسونَ مرضًا، وفي عقلك وفكرك خمسون مرضًا، وفي أخلاقك وأعمالك خمسون مرضًا، فهل تشعر بمرض الروح؟ إن الروح والنَّفس والعقل تشعُرُ إذا كان فيها حياة، أمَّا إذا كان فيها موت: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ﴾ [النمل:80] الأصم إذا ناديتَه ودعوتَه لا يسمع ولا يَستجيب ﴿إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ هو أصم وقد أدار ظهرَهُ وهرَبَ، حتى لو أنه كان جالسًا لا يَفهَمُ، فكيف إذا كان أصمّاً وهرب وابتعد؟ ﴿وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ﴾ [النمل:81] الضائع في الصحراء وهو أعمى، وتُناديه فلا يجيب، ولا يُريدُ أن يَهتدي، وهو مُعجَب بعقله وهو أعمى أيضاً، فهل هذا يَهتدِي إلى الطريق المستقيم؟ ﴿إِنْ تُسْمِعُ﴾ أي سماع القبول والهداية ﴿إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا﴾ [النمل:81] ينظر في الآية، ويَتَفهَّمُها ويَعقِلُها، ويَعرِفُ أنْ يقرأَها ويَسمَعَ تفسيرَها، ثم يُحوِّلها مِن قراءة وكتابةٍ إلى عملٍ وأخلاقٍ وواقع وسلوك، هذا هو المؤمن وهذه هي المؤمنة، والإنسان لا يستطيع أن يتكلَّم اللغة الإنكليزية مِن غير معلِّم اللغة الإنكليزية، فإذا ذهبتَ إلى مُعلِّمٍ كرديٍّ فهل تتعلَّم اللغة الإنكليزية؟ “أسأل الله أن يَضَعَ في رأسنا ولو قليلًا مِن العقل”. [سماحة الشيخ هنا يتكلم بالعامية، وأسلوب الدعاء هذا مستخدَم بالعامِّيّة كثيراً، وهو يعني بطريقة غير مباشرة أن هذا الأمر لا يحتاج إلى ذكاء وعقل ليتبيَّن الصواب فيه من الخطأ، فحتى قليل العقل يُدْرِكُه].
عندما يَصِلُ الحمار إلى جسرٍ فوق نهر، فإذا كان الجسر مِن خشب فإنه يضع قدمه عليه أولًا، فإذا ارتجَّ الجسر يشعرُ أنَّ هناك خطَرًا، فلا يتقدَّم، كأنه يقول: أنا لا أُخاطِرُ بنفسي، ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ)) هذا المشي فيه ريبٌ، لأنه يوجد ثقوب في هذا الجسر، وأنا أشكُّ بهذه الثقوب، وأشكُّ في الأذى والضَّرَر، أنا لا أستطيعُ أن أمشي على جسر إلا بعد أنْ أتيقَّن مِن ثباتِه وعدمِ الخطر فيه، وبعض الناس ليتهم يملكون عقل الحمير! هناك أناس يعرفون الهلاك، ولكنهم عميان لا يَرَون الضَّوء ولا يَعرِفونه.. مرةً كان النبيُّ ﷺ جالسًا في مجلسٍ، فدخلَتْ عليه امرأةٌ عريانة كما خلقها الله، فألقى عليها أحد الصحابة عباءته أو كذا، ثم تبيَّن أنَّ زوجَها قد تزوَّج عليها، وقد طار عقلُها.. والنبي ﷺ قال: ((إنَّ المرأةَ الغَيرَى لا تُفَرِّقُ بَينَ أَعلَى الوادِي وأَسفَلِهِ)) فإذا غارَتِ المرأة فلها حقٌّ في أن تَغارَ على زوجها، لكن هذا الذي يَفسُقُ ويَعصي الله تعالى، ويَقَعُ في الهلاك فما الموجب لذلك؟ الموجب هو موتُ القلبِ والجهل؛ جهل القلب.. وقد يَكون الإنسان قارئًا، ولكن القراءة لا تَجعلكَ عالِمًا، بل تجعَلكَ قارئًا، أما العِلْمِ فقد وصف الله تعالى العلماء فقال: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر:28] فيجب أنْ تقرأ وفي قلبكَ خشية الله، والخشيةُ أعظم مِن الخوف، فالخوفُ كأن تقول: خفتَ مِن الأفعى أو مِن السبع، أمّا الخشية فهي خوفٌ مقرونٌ بإجلالٍ واحترام وتكريم، كما تقول: أخشى أنْ ينزَعِج الشيخ، وليس “أخاف”، فالخشية خوف لكنَّه مقرونٌ بتعظيم وحُبّ وتكريمِ مَن أخاف منه وأخاف مِن غضبه، ولا تصير عالِمًا حتى يصيرَ عندكَ خوفٌ مِن الله عزَّ وجلَّ، ولذلك قال النبيُّ ﷺ: ((أَنا أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ)) لم يقل: أنا أخوفكم.
الله رقيبٌ محاسبٌ مُشاهِدٌ عليمٌ
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4] ما معنى “معكم”؟ يعني أنا رقيبٌ مُشاهِدٌ عليمٌ مُحاسِبٌ مكافِئٌ مُعاقِبٌ مُجازٍ مُحسِنٌ: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾ [النحل:30]، قال رسول الله ﷺ: ((إنَّ اللهَ أوكَلَ بِكُم مَلائِكةً في النَّهارِ يَعمَلُونَ عَمَلَ النَّهارِ، ومَلائِكةً في اللَّيلِ يَعمَلُونَ عَمَلَ اللَّيلِ يَجتَمِعُونَ في صَلَاةِ اَلْفَجْرِ)) ، ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء:78] تَشهَدُه ملائكةُ الليل وملائكةُ النَّهار.. هل أنت مؤمنٌ بكلام النبيّ ﷺ؟ وهل أنتَ مؤمن بالنبيِّ ﷺ؟ أنتم تذهبون لزيارة النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام، ومن يزور النبيَّ ﷺ هل يكون مُؤمنًا به أم كافراً؟ فكيف إذا ذهبت إليه وقلت له: أنا كافِرٌ بكلامِكَ، والدَّليل على كفري أني لا أَقبَل كلامَكَ، ولا أُنفِّذه، ولا أعمل ولا أهتمُّ به إلَّا على هوايَ.. إذن اذهب وزُرْ إسطبلًا لأنك حمار، أو زُرْ مزرعة أبقار لأنك ثور.
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4] قال النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام: ((يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ)) ، يصعدون بعمل الليل وعمل النهار.. فهل أنتَ مؤمنٌ بالنبيِّ عليه الصّلاة والسّلام وبكلامه؟ عندما تؤمِنُ أنَّ هذا ثعبان فإن مُقتضى إيمانك أنّكَ لا تمصُّ شفته ولا تعَضَّه مِن ذيله أو مِن رقبته أو تَقرصه أو تضَعه حول رقبتك كربطة العُنُق، وإذا فعلتَ هذا فإنك لا تَكونُ مؤمنًا به، بل أنتَ كافِرٌ بحقيقة الثعبان، لأن الإيمان به يَقتضِي التباعُدَ عنه والاجتنابَ له، وحين ترى ليرة ذَهَبٍ، وتُؤمِنُ أنَّها ليرة ذهب ماذا تفعل؟ هل تدوسُها وتمشِي؟ كذلك الإيمان، فهل آمنتَ بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ [الحديد:4]؟ وذلك في سهرتكَ وبيعكَ وشرائكَ وغضبكَ ورضاكَ وعند طمَعكَ ورغبتكَ وهواك وأهوائك، تقول: فلان سينزعج مني! والله تعالى ألا تفكر به؟ يقول: “بَلا الله بَلا بَلُّوْط” [“بَلا بلوط”: مصطلح عامّي، يقال للاستهزاء بقيمة الشيء، حيث تضع الكلمة التي تريد تصغيرها أولاً وتضيف بعدها “بلا بلوط”، وهي هنا بمعنى أنا لا أسأل ولا أهتم لا بالله ولا بالبلوط، فهما عندي سيان.. والبلوط شجر]، فهل أنتَ مُسلمٌ؟ وهل أنتِ مسلمة؟ المسلم يقول
فَلَيتَكَ تَحلو وَالحَياةُ مريرةٌ
وَلَيتَكَ تَرضى وَالأَنامُ غِضابُ
وَلَيتَ الَّذي بَيني وَبَينَكَ عامِرٌ
وَبَيني وَبَينَ العالَمينَ خَرابُ
إِذا صَحَّ مِنكَ الوَصلُ فَالكُلُّ هَيِّنٌ
وَكُلُّ الَّذي فَوقَ التُرابِ تُرابِ
“إذا صحَّ منك الوصل” والقُرب والرضا والحب، “فالكل هين”: حتى لو غضب مني كلُّ الناس وعادوني وخسرتُ كلَّ مالي.. “وكل الذي فوق التراب تراب”: نحن بعد عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة كلُّنا سنَصيرُ ترابًا.. أبو عبدو الحلبي رحِمَهُ الله عامل المصعَدِ تُوفي في هذا الأسبوع، فهل نحن مُستَثْنَون؟ في المقبرة كل الناس؛ شباب وكبار وصغار والذي عمره يومٌ، والذي عُمره شهرٌ، والذي عُمره سنة أو خمس عشرة أو عشرون أو ثلاثون أو أربعون.. إلخ، فكيف بكَ إذا خرجتَ مِنَ الدُّنيا وجُرِّدتَ مِن مالِكَ وجاهك ومطامعِكَ وأهوائكَ ورغباتك وآمالك، وما بقي معَكَ إلا حقائق القرآن! فإذا كانتْ أعمالُكَ تلتقي مع حقائق القرآن فيا هنيئًا لك بما يُسمَّى “موتُ الجسد”! لأنّ الجسد كان قَفصًا فكُسِرَ وطار الطائر وأَخَذ حرِّيتَهُ وعاش في أجوائه وأوطانه.
محاسبة الله للمخلوقات وردّه للحقوق
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4] في الحديث الصحيح: ((يُرفَعُ إلى الله عَمَلُ النَّهارِ قَبلَ أنْ يَنقَضِيَ اللَّيلُ)) فقبلَ أنْ يطلعَ الفجر تُقدَّم إضبارتك إلى الله عزَّ وجلَّ، إن بعتَ بيعةً وحلفتَ يمينًا كاذبًا، أو كنتَ ظالِمًا لامرأتك أو ظالمةً لزوجكِ، أو كنتَ خائنًا لمعلِّمكَ أو معلِّمُك ظالماً لك، والضرَّةٌ مع ضرَّتها، أو مع حمارك.. يقال: إن أحد الأولياء كان راكبًا على حمار، ومعه خشبة، فضربه على رأسِه.. والأولياء في بعض الأوقات يَسمِعُهُم الله تعالى كلام الحيوانات والطيور، كما كان يَسمع سليمان عليه السَّلام.. فقال الحمار لصاحبه: اضربْ كما شئتَ فسأَضرِبُكَ يوم القيامة بهذه الخشبة التي تَضرِب رأسِي بها، فنَزَلَ إلى حافرِه، وصار يقبِّله ويقولُ له: أرجوك أن تسامحني.
الله تعالى لا يُضِيعُ حتى حق الحمار، يقول عليه الصَّلاة والسَّلام: ((لَتَرُدُّنَّ الحُقُوقَ إلى أَهلِها وَسيُحاسِبُ اللهُ الشَّاةَ الجَلحاءَ مِنَ الشَّاءِ القَرناءِ فيمَ نَطَحَتْها)) يعني إذا تعدَّت ماعزٌ على ماعز أُخرى ونطحتْها بغير حقٍّ فإن الله تعالى سيُحاسِبَ التيوس والمعز، مع أن عقلها عقلُ حيوان، وأمَّا أنتَ أيها الإنسان فقد فضَّلَكَ الله تعالى على كلِّ المخلوقات، فهل سيترككَ دون حساب؟ حتى النبيَّ ﷺ كان يَخافُ مِن الحساب، وحين حضرَهُ الموت خرج من بيته وكان بعض الصحابة يسندونه مِن تحت إبطيهِ، وهو في مُنتهَى الضَّعف، ومنبره ثلاثة درجات، فصعد المنبر وقال: ((أيُّها النَّاسُ مَن كانَ لَه مَظلَمةٌ عِندِي مِن مالٍ فَهَذا مالِي)) يعني من أخذتُ مِن مالِهِ فليأتِ وليأخذه، ((ومِن بَدَنٍ فَهَذا بَدَنِي، وإذا شتمتُهُ فَليَقتَصَّ منِّي، ولا يَقُل: رَسُولُ الله يَغضَبُ، فإنَّ النَّبيَّ لا يَغضَبُ مِن الحَقِّ)) هذا الذي قال له الله تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح:2] ونحن على ماذا نعتمد؟ أليس الموت قادم؟ هل سنبقَى شبابًا؟ هل سنبقى أحياءً؟ هل سنبقَى موظَّفين وحاكمين؟ هذا هو الإسلامُ! وأصحابُ النبيِّ ﷺ الذين فتح الله لهم مشارقَ الأرض ومغاربَها كانَ القرآن مجسَّدًا فيهم؛ قرآن العمل والأخلاق.. لذلك يجب عليك أن تَقرَأَ القرآن، ولكن عِوَضًا عن أنْ تقرأَه بالورق، يجب أن تقرأه في أعمالِكَ، مثل قصة سيدنا عبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما والراعي، ولَمَّا رجَعَ ابن عمر رضي الله عنهما إلى المدينة سأل: مَنْ سيِّد هذا الرَّاعي؟ واشتراهُ منهُ وأعتقَهُ واشترى الغنمَ وأهداهُ له تشجيعًا على أخلاق الإيمان.
الحياء من الله الرقيب حتى في الخلوات
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4] مرة أتى رجلٌ إلى رسول الله ﷺ وقال له: “يا رسول الله زوِّدني” يعني أعطنِي زوَّادَةً لسفر الحياة أعيش بها، ولكيلا أبقى جائعًا مِن الحكمة والأخلاق والعملِ الصَّالح.. قال: “زوِّدْنِي حكمةً أعيش بها” فقال ﷺ: ((استَحِ اللهَ، كَما تَستَحِي رَجُلًا مِن صالِحِ عَشِيرَتِكَ)) مِن عائلتكَ وحيِّك، أو مِن رجل له هيبةٌ وله مكانة وله قدر، فإنك تستحِي أن تفعل أمامه أمرًا خسيسًا أو حقيرًا، فعامِلِ الله مثلَما تُعامِل هذا الإنسانَ، معَ أن هذا الإنسان ما خلقكَ، ولا أعطاك عيونًا، ولا أعطاكَ الصِّحَّة، ولا أعطاكَ أن تمشي على رجليكَ مستوياً، ولو أنه زاد إحداهما سينتمترًا واحدًا لأصبحت أعرجاً، ولو أنه أبعد عينك عن العين الأخرى لصرتَ أحولَاً، أو جعل فيها نُقطة ماء زرقاء أو سوداء فإنك لا ترى أمامك إلَّا الظلام.. أَلَا تَستحِي منه؟ ألا تخجَل منه ومِن عطائه وسخائه وهو يراك ليلًا نهارًا؟ ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ كلامُكَ يَصعَد إلى الله تعالى ﴿وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر:10] أمَّا العمل الخبيث فينقَلِب عليك نيرانًا وظلامًا وسوادَ وجه في الدُّنيا قبل الآخرة: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7-8].
وكان يقولُ عليه الصَّلاة والسَّلام: ((طَعِمَ طَعْمَ الإيمانِ)) يعني ذاق، فإذا وضَعَ شخص أصبعه في طبق الطعام ووضعها في فمِهِ فهل يعني أنه شبع؟ لا، لكنَّه ذاق الطعام، قال: ((ثَلاثٌ مَن فَعَلَهُنَّ فَقَدْ طَعِمَ طَعْمَ الإيمانِ)) أتُحِبُّون أن تتذوَّقوا؟ ((مَنْ عبَدَ اللهَ وَحدَهُ لا شَرِيكَ له))، أن تكون عبدًا لله كما العبد مع سيِّده، يقول له: “اذهب تعال أحضِرْ اترك احمل خذ” فيسجيب لكلِّ ذلك، أمَّا إذا كنتَ تعبد هواك، وتنسى ربَّكَ وخالقَكَ حين تغضَبُ وحين تَطمَعُ وعندما تكون لك مصلحة، وحين يطلب منك الشيطان شيئاً فلا تذكُر الله تعالى ولا رضاءه، وإنما تستجيب لهواك ولشياطين الإنس أو شياطين الجن، أين الإيمان؟ أين “لا إلهَ إلا الله”؟ قل: لا إله إلا أنا، لا إله إلا مصلحتي، إلا هوايَ، إلا لَغْوِي، إلا الآثام، هذا إلهُكَ، وهذا إلهُكِ.
قال: ((مَن عَبَدَ اللهَ وَحدَهُ، وأَعطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبةً بِها نَفْسُه)) لا يُعطِي عن حياءٍ، ولا بالإجبار والإكراه، أو لئلَّا يتكلم الناس فيه، ((ومَن زكَّى نفسَهُ، قالوا: ما تزكيةُ المرء نفسه؟ قال: يَعْلَمُ أنَّ اللهَ معَهُ حَيثُما كَانَ)) و((أَفضَلُ الإيمان أنْ تعلم أنَّ الله معك حيثما كنتُ)) .. كان الإمام أحمد بن حنبل يقول للناس
إِذا ما خَلَوتَ الدَّهرَ يَومًا فَلا تَقُلْ:
خَلَوتُ وَلَكِن قُلْ: عَلَيَّ رَقيبُ
وَلا تَحسَبَنَّ اللَهَ يَغفَلُ ساعَةً
وَلا أَنَّ ما يَخفَى عَلَيهِ يَغِيبُ
أَلَم تَرَ أنَّ اليَومَ أَسرَعُ ذاهِبٍ
وأنَّ غدًا لِلنَّاظِرِينَ قَرِيبُ
“عليَّ رقيب”: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4]، “فلا تقل خلوتُ”: كانُوا يستحيون أن يعصوا الله أمام الناس، وكانوا يستترون في المعصية، والآن يعصي الله ولا يستحي: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ [البقرة:206] يقول لك: “بلا الله بلا بلوط، اذهَب وانصح نفسكَ”، هذا موتُ القلب، وإذا مات القلبُ فلا يَقبَل النصيحة، ولا يخاف الله إذا خُوِّف، ولا يَخشَى الدَّار الآخرة، ولا يأتي الله تعالى إلى بِالِه ولا الآخرة ولا المآل ولا الحساب ولا الملائكة، هل هذا إسلام؟ “إذا ما خلوتَ الدهر يومًا”: إذا صرت في ساعة من ساعاتك في خلوة “فلا تَقُلْ خلوتُ، ولكن قلْ: عليَّ رقيب”، “ولا تحسبنّ الله يغفل لحظة ولا أن ما تُخفِيْه عنه يغيب” يقول: الله غفورٌ رحيمٌ، ما زلنا شبابًا، وغدًا نَتوبُ.. قال: “ألم تَرَ أن اليوم” والعمر “أسرع ذاهبٍ”: البارحة أما كنتَم تلعَبون بالكُرَات والأحجار؟ وكم صار عمرُكم الآن؟ عشرين أو ثلاثين أو أربعين أو خمسين أو ستين أو سبعين سنة.. “وأنَّ غدًا”: ﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [الحشر:18]، “وأنَّ غدًا للناظرين قريب” ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [الحشر:18] مَن مات قبلكم مِن آبائكم وإخوانكم وأقاربكم وجيرانكم، فكِّرُوا على ماذا يندمون؟ وعلى ماذا يتحسَّرون؟ ومِن أيِّ شيء يحزنون؟ يَودُّون لو يَرجعون إلى الدُّنيا ولو فَقدوا كلَّ أموالهم، ولا يفعلون ما عصوا الله به، ويؤدُّون كلَّ ما أهملوهُ مِن فرائض الله ومِن الأعمال الصالحة.
الله يرى ويسمع ويسجّل كلّ شيءٍ
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الحديد:4] يراكم، وبما تَنطِقون سميع، وما تَعمَلُونَ مُسجَّل في كتابٍ: ﴿لَا يُغَادِرُ﴾ لا يترك ﴿صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾[الكهف:49] وحين تُقادُ إلى محكمة الله ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف:49]، ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الحديد:4-5]، تخاف مِن الشرطي، ماذا يملِكُ الشُّرَطي؟ رئيسُ المحكمة ماذا يملِكُ؟ الوزير ماذا يملك؟ رئيس الجمهورية ماذا يملك؟ وحتى “بوش” [رئيس أمريكا] ماذا يملك؟ ومالكُ الكونِ ألا تخافُ مِن سطوتِهِ وعظمتِهِ وبطشِهِ؟ وهو لا يحتاج إلى مخابرات، [مُخابرات: رجال الأمن في الدولة] ولقد وضعَ لك مخابرات [من الملائكة]، ومع ذلك فإنه أيضاً يُراقِبُ المخابرات [المخابرات هنا بمعنى رجال الأمن العاملين في الدولة].. فيا رجل المخابرات يا مسكين هل تعلم أن وراءكَ مخابرات إلهية؟ وهل تكتب الحقَّ والصواب والصِّدق والإخلاص لأُمَّتِكَ ولدولتكَ ولشعبكَ؟ [من المعروف أنّ أجهزة الأمن قوية في سوريا، ومَن يعمل فيها يُسَمَّى بالعامية السورية “مخابرات أو عنصر مخابرات”، لأنه يُخْبِر عما يشاهد، وكانت عناصر المخابرات تحضر متخفية في كل اجتماع شعبي تقريباً، وكذلك كانوا يحضرون في المساجد، وربما يكتبون ملخَّصاً عما قاله المتحدثون فيها، ويقدمون في ذلك تقريراً، ويهتمون بشكل خاص بالكلام الذي يتعلق بأمن البلد وسلامته، وقد يحدث أن بعضهم يُغَيِّر بعض الحقائق فيما يكتب، لذلك كان يقول سماحة الشيخ في بعض المجالس: يا مخابرات اعلم أن عليك مخابرات، واكتب الصدق ولا تكتب الكذب].
الله تعالى هو المالك المتصرِّف في السماوات والأرض
﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ [الحديد:5] إذا أصدرَ الله حُكمًا فلا يُستَأْنَف ولا يُمَيَّزُ [الاستئناف والتمييز محكمتان تدقِّقان في حكم القاضي بعد صدور الحكم] بل حكمُهُ ينفذ مباشرة ﴿لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [الرعد:41].
﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾ [الحديد:6] يُدخِلُ الليل في النهار، فيَطول النهار ﴿وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ [الحديد:6] فيَطول الليل، هذا يحدث بسبب دوران الأرض، فمَن يُدوِّر الأرض؟ ومَن رفعها في الفضاء؟ فهي كطائرة فيها أكثر مِن خمس مليارات شخص مع أغراضهم وحقائبهم وحميرهم وسياراتهم، وبأيِّ طاقة تسير هذه الأرض التي نحن عليها؟ تَدورُ حول نفسِها، وتدورُ حول الشمس، ومدة دورتها حول الشمس سنةً كاملة، ومِن دورانها حول الشمس تتألَّف الفصول الأربعة، [الشيخ يسأل أحد الحضور:] هل هذا صحيح دكتور؟ ومِن دورانها حول نفسها يَتكوَّن الليل والنهار، فما الطاقة التي تحركها؟ وما البترول الذي يحرِّكها؟ ومَن يقودُها؟ ومَن يُنظِّم سَيْرَها؟ ومَن يَمنعها مِنَ الاصطدام مع الكواكب والشموس والأراضي في عالَمٍ لا متناهٍ؟ الذي ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4]، وهو الذي: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾ [الحديد:6]، ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾، وهو الذي ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾ [الحديد:4] ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الحديد:4].
﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الحديد:6] ماذا تُخفي في قلبِكَ مِن حقدٍ أو غِشٍّ أو خيانة؟ أنت تُظهِر الصَّداقةَ وأنت عدو، وتُظهِر النُّصحَ وأنتَ غشَّاشٌ، وتُظهِرُ الصِّدق وأنتَ كاذِبٌ، فاستحِ من الله.. سأل أحد الصحابة رضي الله عنهم النبيَّ ﷺ: “زوِّدني حكمةً أعيشُ بها”، قال: ((استَحِ اللهَ كَما تَستَحِي رَجُلًا مِن صالِحِ عَشِيرَتِكَ لا يُفارِقُكَ)) .. هل حفظتم؟ [الشيخ يقرأ الحديث ويكرره، ويطلب مِن الحضور أن يردِّدوا وراءه ليحفظوه].. اللهمَّ اجعل أحبابَنا مِن أتقياء الله، وباعِدْنا عن الأشقياء، وعن رفاق السوءِ، واهدنا واهدِهم إلى سواء السبيل.