الله تعالى هو الإله الحق
فنحن الآن في تفسيرِ الآيات الأخيرةِ مِن سورة الحشرِ، يقول الله تعالى في تعريف ذاتِهِ بذاتِهِ وتعريفِ ذاتِهِ لعبادِهِ، مَن هو الله؟ ومَن هو الإله الذي يَنبغِي أن يُطاعَ فلا يُعصى، وأن يُذكَر فلا يُنسَى، وأن يُشكَرَ فلا يُكفَر؟ مَن هذا الإله الذي يَنبغِي أن تسجد الوجوهُ والجباهُ والقلوبُ والعقولُ له؟ أهو إنسانٌ أم هو نجمٌ أم هو شمسٌ أم هو قَمْرٌ؟ مَن الذي يَنبغِي أن تُخضِعَ له كلَّ قِواكَ العلمية والعقلية والفكرية، وأن تمتثِّلَ الامتثال الكامل مئة على مئة لكلّ ما أمرَكَ، وليس تسعة وتسعين على مئة، لأنَّهُ ما أمَرَك ولا يأمرُكَ إلا بِما فيهِ سعادتُكَ وإسعادُكَ وعزَّتكَ ورِفعتُكَ، ولِينقُلَكَ مِن الجهل إلى العِلْم، ومِن الضَّعف إلى القوَّة، ومِن الشقاء إلى السعادة، ومِن الحزن إلى الفرح والسُّرور؟
إنّ هذا الإله لا تُدرِكُهُ الأبصارُ، لأنَّ البصْرَ يُدرِكُ المقيَّد المحدَّدَ بطولٍ وعرضٍ وانخفاضٍ وارتفاع، والله فوقَ إدراكِ الأبصار: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام:103]، ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد:4].
الله تعالى في آخر هذه السُّورة يعرِّف عن ذاته، كما في مُعظَمِ القرآن، وكما قال: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة:255]، الذي قام بِهِ الوجود الأرضي والسماوي والإنسان والحيوان والنبات والنجوم والشموس والأقمار، ﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ [الأنعام:95] كيف يفلق النوى الصغيرة ويُخْرِج منها النَّخلَة العظيمة المثمِرة؟ وكيفَ يُخرِجُ الحيَّ من الميت؟ عيسى عليه السَّلام لا يَستطيع ذلك، وسيِّدُنا المسيح الذي قالوا بألوهيته أو أنه أحد الأقانيم الثلاثة هل يَستطيعُ أن يَخلُقَ شمسًا أو قمرًا؟
﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة:255]، إذا نام وكان هناكَ غريقٌ يدعوه ويقول له: يا إلهي.. فلا أحد يردّ، لأنّ الإله نائمٌ، [هذا الإله المزعوم].
يَذكرون عن فرعونَ أنه أتى شخص إلى وزيره هامان يقولُ له: إنَّ بغلَهُ مات، ويُريدُ مِن فرعون المتألِّهِ أن يُحيِيَ له بغلَهُ، وهامان يَعلَمُ بأنَّ فرعونَ عاجزٌ عن أمور نفسِهِ، فإذا حصَرَهُ البول هل يستطيع أن يُؤخِّرَهُ يومين أو ثلاثة مع كلِّ ما يَدَّعي؟ فهو لا يَملِكُ أمْرَ بولِهِ أو أمْرَ غائطِهِ، ولا يَستطيعُ أن يَدفَعُ نومَهُ أو جوعَهُ أو عطشَهُ، فهامان يَعلَمُ، لكن ماذا سيقول لهذا الشاب الذي هو غارقٌ في هذه الأوهام، قال له: الإله -يعني الكذَّاب- هذا اليوم مشغولٌ بخَلْقِ الحميرِ، وعندما يأتي دور البغال سيُحيِي لك بغلَكَ، ودور البِغال ربَّما يكون بعد شهرين أو ثلاثة، ولذلك أنا سأَحلُّ لك المشكلةَ، وسأُعطيكَ بغلًا ولا حاجة للتأخير.. فعل هذا ليخلِّصَ فرعونَ مِن الإحراج، ويَبقَى الجهلُ غارقًا فيه كلُّ الناس.
فمَن هو الله؟ ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [الحشر:22] وحيدٌ، وهذا ما دعَتْ إليهِ التوراة بشكلِ واضح صريح، وهو أيضاً صريحٌ في الإنجيلِ بشكلٍ واضح وصريح، يقول في بعض مقاطعه، وهذا كلامُ سيِّدِنا عيسى عليه السَّلام نفسه: “وإنَّ الحياة الحقيقية أن يَعرِفُوكَ أنَّكَ أنتَ الإلهُ الحقيقيُّ وحدَك”.. “أنتَ الإلهُ”: يعني لا غيرُكَ، و”الحقيقي”: فإذا نُسِبَت الألوهية إلى شيء آخر فهو باطل، و”وحدَكَ”: لا شريك لك، “ويَسوع المسيح الذي أرسلتَهُ” .. فحتى الطفل الصغير يدرك أنه لا إله إلا الله وعيسى رسول الله، ويوجد مقطع آخر يقول: “إليكَ وحدَكَ نَسجُدُ، وإياك وحدَكَ نعبد” .
من أسماء الله تعالى الرحمن والرحيم
وهنا يقول الله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ﴾ [الحشر:22]، إذا أردتَ أن تعرِفَ مَن هو الله؟ فإنه: ﴿هُوَ اللَّهُ﴾، وما الأوصافُ المبيِّنَة الْمُعرِّفَة أكثَر؟ قال: ﴿الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، وأوَّلُ ما ذَكَرَ مِن الصَّفات: ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [الحشر:22].. أتى أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ عليه الصّلاة والسَّلَامُ، وأمام المجتمع [الناس] رَفَعَ عن ثيابِهِ وبال في المسجد، فقام الصَّحابةُ رضي الله عنهم لِيَضربُوهُ، فقال عليه الصلاة والسَّلَامُ: ((لا تَزرِمُوا عليهِ بولَهُ)) ، فلم يهتمَّ النبيُّ ﷺ بتلويث المسجد وتنجيسه، بل خاف على صِحَّةِ الجاهل الأعرابي، انظُروا إلى الداعي كم يجبُ عليه أن يكونَ فهيمًا! فالمسجد ولو تلوَّث فبدلوٍ مِن ماء يُنظَّف، ولكن ذاك الأعرابي ربما يصاب بحَصْرِ بول، فهل مصلحةُ الأرض أهمُّ أم مصلحةُ صِحَّةِ الإنسان؟ وهذا في مسجد النَّبيِّ ﷺ، وبحضور النَّبيِّ ﷺ، وبحضور أبي بكرٍ وعمرَ رضي الله عنهما!
فكم من الذين يتعرَّضُونَ للدَّعوة إلى الله ما عرفُوا آدابَ الدَّعوة ولا حِكمتها ولا أخلاقيَّتها؟ لأنهم ما أخذُوا الدَّعوة مِنَ الدُّعاة، ولا عاشُوا في جوِّ الدَّعوة ولا تذوَّقُوا طعمَها ولا حكمتَها.. فلمَّا انتهى الأعرابي ورأى الصَّحابةَ رضي الله عنهم الذين منهم من أخَذَ عصاه ومنهم من أخَذَ نعله ليضربوه، ورأى كيف أنقَذَ النبيُّ ﷺ الموقِفَ وأنقذه، فركِبَ بعيره وقال: ((اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا)) .
فقال النبي عليه الصلاة والسَّلَامُ للصحابة: ((أترونَ هَذَا الأعرابيَّ أَضَلُّ وَأَجهلُ أَمْ بَعِيرَهُ؟)) يعني هل هو أجهل أم جمَلُه؟ ثم قال: ((إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ مِئَةَ رَحْمَةٍ، أَودَعَ مِنها في الدُّنيا رحمةً واحدةً، بهذِهِ الرَّحمةِ يَرحَمُ الإنسانُ والوحوشُ والحيواناتُ والطيورُ أولادَها وأفراخَها، وادَّخَرَ تسعةً وتسعينَ رَحمةً لِعِبادِهِ لِيَرحَمَهُم بها يومَ القيامةِ)) ، ويُضيفُ إليهم رَحمةَ الدُّنيا.. إذا رأيتَ عطفَ الأم على رضيعِها، والطائر على فرخِهِ فهذا مِن ظلال ظلال ظلال رحمةِ الله، فكم رحمتُهُ واسعةٌ! هذا هو الله، فهل يستطيع عيسى أن يعطِّفَ الحيوانات والذئاب والسباع والنُّمُور على أولادها، والطيور على أفراخِها؟ الله تعالى هو الذي جَعَلَ الفرس لا تطأ بحافرها على فُلُوِّها ومُهرِها.
الْمُلْك الحقيقي لله تعالى وحده
﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ﴾ [الحشر:23]، الناسُ يُحبُّون أن يتقرَّبوا من الملوك والعظماء والأغنياء والعُلَماء، لأنَّهم يملِكُون الشيءَ الثمين مِن طاقة أو سُلطَة أو نُفوذٍ، قال: فالملِكُ الحقيقي هو الله، فإذا كنتَ تتقرَّبَ للإنسان العبد فأولى وأحرى أن تَتقرَّبَ إلى مَلِكِ الملوك الذي يَملِكُ كلَّ شيءٍ، ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ من؟ ﴿أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ يُخرِجُ الفرخَ مِن البَيضة، ﴿وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾، البيضةُ ميِّتَة، لأنَّ المقصودَ مِن الميِّتِ الذي لا يَنمُو ولا يتزاوج، والبيضةُ لو تُركِتَ وشأنها تَبقَى على ما هي عليه، ﴿وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ مَنِ الذي دبَّرَ لكَ الأسنان ووَضَعَ لك هذه “البَدْلة”؟ [بَدْلَة أسنان: هي مجموع الأسنان لكامل الفم، وتُستَخدَم في العامية السورية لمجموعة الأسنان الصناعية التي يُرَكِّبها الطبيب، وقد كانت في زمن هذا الدرس تتكون من قطعة واحدة، حيث يضعها الإنسان على لثته وينزعها متى ما أراد، وينظفها خارج فمه.. ويستخدم سماحة الشيخ هذه الكلمة ليقارن الإنسان بين الأسنان الطبيعية التي خلقها الله تعالى والأسنان التي من صنع الأطباء]، فعندما يَعطَلُ سنٌّ واحدٌ يأخذُكَ طبيبُ الأسنان أسابيع، وتذهب إليه عدة جلسات، ويبدأ بك بالمثقب وبالمسمار حفرًا ونقرًا ووجعًا وآلامًا، وإذا رَكَّبَ لك بَدْلَة أسنان فإنك إذا سعَلتَ تَخْرُجُ مع السعال، وإذا عضَضْتَ تفاحة بدَلَ أن تَكونَ التُّفاحة بالفم، تخرج أسنانُكَ مع التفاحة.
﴿وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ عندما يَمتلِئُ “مصرانُك الأخير” [أمعاؤك الغليظة] بالوسَخ يُعطيك “تلفون” [هاتفًا] وجرسًا لا يَسمَعُهُ أحدٌ غيرُكَ.. “طِنْ” [صوت الطنين] هل أحد ممن بجانبك يسمعه؟ هل يوجد جرسٌ تسمَعُهُ أنت فقط ومِن غير أن تضعَهُ على أذنك؟ وعندما تَمتلِئ المثانة بالبولِ يعطيك تلفون لك وحدَكَ، ويُعطيكَ تنبيهًا أوَّلَ مرَّة، ثم مرة ثانية وثالثة ورابعة.. مَن جعَلَ غُدَدَ اللعاب في الفم تَفرِزُ اللُّعابَ بِقَدرٍ؟ فلو زادَ لَسالَ على صدرِك ولحيتك، ولو نَقَصَ لتعسَّر عليك الكلام والطَّعام، ﴿وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾، هؤلاء هم المشركونَ الوثنيِّون.. لأنهم كانوا يُؤمنون بالله لكن مع شركائِهِ، ﴿فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾؟ [يونس:31].
ما أحلى أسلوبَ الدَّعوَةِ الإلهية! فهو يُخاطِبُ العقلَ والمنطقَ، لا يَقولُ له: “أنتَ كافرٌ” بل يخاطِبُ الكفَّار: قل: مَنْ؟ ومَنْ؟ ومَنْ؟ وبعدما يُقيم عدَّةَ حُجَجٍ لا يقول لهم: “اتقوا” بالأمر، بل يقول لهم: ﴿أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ [يونس:32] كيف عقولُكُم تَنصَرِفُ عن التفكير في فَهْمِ الحقيقة؟ استعمِلُوا عقولَكُم وتفكيرَكُم.. إلى آخر الآيات.
الله القدوس منزه عن كل نقص
﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ﴾ [الحشر:23] الذي يحمِلُ كلَّ صفاتِ الكمال المقدَّسة الكاملة، فعِلمُهُ كاملٌ، ولا يَعزُبُ ولا يَغيبُ عن علمِهِ شيءٌ في الأرض ولا في السماء، “يَسمَعُ وَيَرى دَبيبَ النَّملَةِ السَّوداءِ في اللَّيلةِ الظَّلماءِ عَلى الصَّخرةِ الملساءِ” .
﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ﴾ [الحشر:23] عالمٌ لا يَجهَلُ ولا يَغيبُ عنهُ شيءٌ، سميعٌ يَسمَعُ دبيبَ ومشَي النَّمَلة.. يقال: إنه لَمَّا أرسل الله عزَّ وجلَّ سيُّدَنا موسى عليه السّلام إلى فرعونَ ليَقومَ بدعوتِهِ إلى الله قال: يا رب كيف أعمَلُ في شؤونِ عائلتي ورزقهم وطعامهم إذا انشغلت بالدعوة ولا يُوجَد لهم معيلٌ غيري؟ وكان أمامَ موسى عليه السَّلام حجرٌ، فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليه: يا موسى أن اضربْ هذا الحجَرَ، فضرَبَهُ فانفلَقَ وخرَجَ منهُ حجَرٌ آخَرُ، قال له: اضرِب الحجر الآخر، فضرَبَهُ وخرَجَ منه حَجرٌ ثالثٌ، قال له: اضرِبْهُ، فضرَبَهُ فخرجَت منه دودة وفي فمِها شيء تأكلُهُ وتمضغُهُ -وهي على الغداء أو الفطور- وهي تقول: “سبحانَ مَن يراني ويَعلَمُ مكانِي، ويَسمَعُ كلامِي ويَذكرني ولا ينساني”، فربُّ العالمين هو أيضًا رب هذه الدودة التي في داخلِ الحَجَر، قال له: إذا كانت هذه ضمنَ ثلاثة أحجارٍ ما نسيتُها أفأنسَى عيالك؟ .
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقَنا حقيقةَ الإيمان وشُعَبَ الإيمان بكاملِها، والتي مِن جُملتِها الثقة بالله، والتوكُّل على الله.. التوكُّل على الله بأن تمشي على هدي الله وتعاليمِ الله، والتوكُّل كما أمَرَ النَّبيُّ ﷺ -وهو المعلِّمُ الأول- لَمَّا قيل له: أأتركُ الناقة أو الجمل وأتوكَّل؟ فقال: ((اعْقِلْهَا)) أي ناقتك ((وَتَوَكَّلْ)) ، ما أحلى الإسلام! أسبابٌ ومسبَّبَاتٌ، وثِقَةٌ بالله في أعمَقِ الأعماق.. والْمُؤْمِنُ يجب أن يكون بهذا الشكل، وهل ترك سيُّدنا موسى عليه السَّلام أهلَهُ وهو مشوَّش الخاطر أم مطمئِنّاً؟ وهل تخلَّى الله عن الكفالة الإلهية [التي تَكَفَّلَها لموسى عليه السلام] وانسحَبَ مِنها؟ وحاشا لِفضل الله ولكرم الله أن يتخلى عمَّن صدَقَ اللهَ في إيمانِهِ [من المؤمنين العلماء]، وصدق في علمِهِ برسالة الله، والتي هي قرآنُه.
﴿الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ﴾ [الحشر:23] الكاملُ في علمِهِ وفي حكمتِهِ وفي تشريعِهِ، فإذا شرَعَ القصاص أو الرَّجم أو القطعَ فكلُّه قدوسٌ كلُّهُ كاملٌ.
هل يوجد حدود في الإسلام؟
مرة سألَنِي روجيه غارودي وقال لي: أنا عندي محاضرة سأُلقيها في السودان عن الحدود، فما رأيُكَ في الحدود؟ فهذا كإنسان أوروبي وفيلسوف وكاتب يَقرَأُ كتبَهُ مئةُ مليون أوربي، فيَجِبُ أن تُكلِّمَهُ باللغة التي يَفهمُها، فقلتُ له: لا حدودَ في الإسلام.. نعم هناكَ حدودٌ لكن.. وكلامي هذا كما قال سيِّدِنا إبراهيم عليه السّلام: ﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي﴾، هل هو يَعتَقِدُ هكذا؟ لا، ولكنَّ هذه المناظَرَة على الأسلوب الإلهي والأسلوب القرآني، وقلتُ له: “لا يوجَدُ حدود” كما قال سيدنا إبراهيم عليه السَّلام عن القمر: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام:76]، أو عن الشمسِ: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام:77] أو عن النَّجمِ ﴿هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام:78]، ﴿فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام:78].
قال لي: كيف لا يُوجَدُ حدود؟ والقرآن يقول: ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة:38]، ﴿ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور:4]، قلتُ له: أنا حفظتُ القرآن وأنا في الطفولة، قال لي: كيف إذاً؟ قلتُ له: قال الله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [هود:44]، والنبيُّ ﷺ هو الذي يُفسِّرُ ويَشرَحُ القرآن، فالله تعالى قال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [النساء:77] هل قال: صلُّوا الظهرَ والعصرَ والمغرب والعشاء والفجر؟ وهل قال: الظهر أربع رَكعات والمغرب ثلاثة والفجرُ اثنتان؟ من الذي بيَّنها؟ النبي ﷺ، قلت له: وكذلك الحدود وتطبيقها يُبيِّنُها رسول الله ﷺ، كيف بيَّنَها؟ قال: ((ادْرَؤوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ)) أيُّها القضاةُ، أيُّها الحكَّام، ادرؤُوا، ما معنى “ادرؤُوا”؟ يَعنِي “لا تُقيمُوها” هذا قولًا، [وعملاً] لَمَّا أتى ماعز وقال: “زنيتُ فطهِّرنِي”، قال له: ((هَل تَعرِفُ الزِّنا؟)) قال له: أعرِف، كما يَنال الرُّجلُ مِن زوجتِهِ، وكما يَنزِلُ الحبلُ في البئر والميل في المكحلة، فقال النبيُّ ﷺ: قال: ((هَل به جُنونٌ، استَنْكِهُوهُ)) ، لَعلَّه يَكُونُ سَكرَانًا.. حتى لو قال أحَدٌ وكذَبَ: بِهِ جنونٌ، معَ أنَّ النبيّ ﷺ يَعرِفُ المجنونَ مِن العاقل، ولكن كلّ هذا لِيمنَعَ إقامةَ الحد.. فصلَّى الله عليكَ يا سيدي يا رسول الله! ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [هود:44].
درءُ الحدود بالشُّبهات
وكان أبو بكرٍ رضي الله عنه يُؤتَى إليه بالسَّارق فيقول له: أسرقتَ؟ قل: لا ، وأحدُهُم أقام حدًّا على سارق، وبعد ساعة أُتِيَ إليه بسارقٍ آخَرَ، وعلى أساس: ((ادْرَؤوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ))، قال له القاضي: لم اغتصبْتَ مالَ أو متاعَ فلان؟ لم يقل له: لم سرقتَ؟ بل قال: لِمَ اغتصبتَ، والغَصْبُ يَكونُ جهرًا ومِن غير إنكار، أمَّا السَّرقَة فهي أن تأخُذَ المالَ مِن حِرزِ مثلِهِ وبِشكلٍ خفيٍّ، أمَّا لو نهبَهُ نهبًا، أو سلبهُ أمامَ الناس سلبًا، والبيَّنَةُ قائمةٌ فهذا لا يعَدُّ سرقةً؟ قالوا له: السارق الأول أقمتَ الحدَّ عليه، وهذا لمَ تُقِمْ؟ قال لهم: أفنكُونُ جزَّارينَ؟ هل نحن لحَّامون؟ [الجَزَّار أو اللحام: من يُقَطِّع اللحم ويبيعه].
فقلتُ له: النبيُّ ﷺ بيَّنَ لنا كيف يُقام الحد بقوله: ((ادْرَؤوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ))، وقد أُتِي النَّبيُّ ﷺ بسارقٍ سرَقَ سنابل القمح مِن بُستانِ إنسانٍ، فسألَهُ النبي ﷺ: ((ما حَملَكَ على ما فَعلتَ؟)) قال: كثرةُ العيالِ، وجوعُ الأطفالِ.. فلمَّا علِمَ النَّبيُّ ﷺ صِدْقَهُ التفَتَ إلى صاحب البستانِ معنِّفًا وموبِّخًا، وقائلًا له: ((مَا عَلَّمْتَ إِذْ كَانَ جَاهِلًا، وَلَا أَطْعَمْتَ إِذْ كَانَ جَائِعًا)) ، وأمَرَ له بحِمْل طعامٍ، فدرَأَ الحدَّ عنهُ بالجوعِ، كما يوجد أحاديث.. إلخ.
تنزيه شرع الله تعالى عن الظلم
فالله تعالى قدوسٌ، كامِلٌ في تشريعِهِ، كاملٌ في جهنَّمِهِ، لماذا يوجد جهنم؟ الله تعالى “قدوس”، ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ [آل عمران:191].
يَذكرون عن سيِّدِنا موسى عليه السَّلام أنه رأى شخصًا مَجْذُوبًا، يعني عقلُهُ الدنيوي مأخوذٌ، وهو يُبعثرُ الرَّمْلَ ويُفرِّقُها، ويقول: “يا ربِّي، مَا لازْمة ما لازمة” [مَا لازْمةْ: كلمة عامية بمعنى: لا تَلْزَم ولا حاجة لها] فكان يَسألُهُ، ولكنه لا يُجيبُهُ، فلَمَّا رجَعَ في المساء رآه يُكوِّمُ الرمل [يُرْجِعه كما كان] ويقول: “يا ربي، لازمة لازمة”، فسألَ المجنون ولم يَرُدَّ عليه، فسأل الله عزَّ وجلَّ، فقال الله له: اطلَّعَ هذا الإنسانُ بقوّةِ روحانيَّتِهِ على جهنم، ورأى المعذَّبينَ فيها، والصَّريخَ والولولة والاستغاثة والصَّديد.. إلخ، فأخذَتْهُ الرحمة، فقال عن جهنم: “يا ربِّ ما لازمة”، أي لماذا تُعذِّبُ عبادَكَ؟ لأنَّهُ لم يرَ الأمور بمقدِّماتها وبموجباتها بل بمراحلِها الأخيرة، ولا يصحُّ أن تَحْكُمَ على الأمور إلا بأن تَدرسها مِن أوَّلِها إلى آخرها.. فسلَّطَ الله عليهِ رجلًا جهنَّمانيًّا، وهو يقولُ: “ما لازمة، ما لازمة”، وضربَهُ بالسوط، وقال له: قم كفاك دجلًا، وشغَّله بتكسيرِ الأحجار مِن الصباحِ إلى المساء بلا طعام ولا شراب ولا استراحة مع السباب والشتائم والضَّرَب بالسياط، فلمَّا رَجَعَ قال: “يا ربِّ لازمة لازمة لازمة”.
فلو أنَّ الدولة لم تشرع القوانين الجزائية والجنائية وما بَنَت سجونًا ولا رجال الأمن هل تستطيعون أن تَصِلُوا إلى الجامع؟ ربما أحدكم تُخطَفُ قبعته والآخر سيارته والآخر يَخلعون عنه ثيابَهُ، فإذا كانَت الدُّنيا التي بهذه الشكل تحتاجُ إلى كلَّ هذهِ العقوباتِ والقضاةِ والسجون ومختلفِ القصاص، فالكون كلُّه هل يمكن أن يستقيم؟ فالله قدوسٌ كامِلٌ في تشريعِهِ وفي صفاتِهِ وفي أفعالِهِ وفي غنى الغني وفَقْرِ الفقير، فإذا أفقَرَ فلحكمةٍ، فقد يخلق رجلًا ذكيًّا بمنتهى الذكاء، وفي قمتِهِ، ويخلق عشرين أو ثلاثين رجلًا أغبياء.
يقال أنّ سيدنا موسى عليه السَّلام مرةً قال: يا ربِّ لماذا خلقتَ بعض عبادِكَ فقراء وبعضَهُم أغنياء؟ لو أغنيتَهُم كلَّهُم.. ويقال: إنه أصبَحَ يومًا من الأيام وقد صار الناسُ كلُّهم في غنًى، فنزلَتِ أمطارٌ فهدَمَت الكثيرَ مِن البيوت، وصارت السقوفُ ترشَحُ بالماء على ساكنيها، فذهَبَ سيِّدُنا موسى عليه السَّلام إلى “الطَّيَّان” [الطَّيَّان: باللهجة الدمشقية، وهو من يبني بالطين، وأيضاً صارت تُستَخدَم لمن يَستَخدِم الاسمنت في البناء]، وقال له: لو سمحتَ بيتي خرِبَ بابُهُ وسقَطَ جدارُهُ والماء ينزِلُ عليَّ، فهل يمكن أن تأتي لِتُصلِّحَه لي؟ فقال له: والله يا نبيَّ الله لقد أغناني الله وبعتُ أدوات العمل، لأنني لستُ بحاجة أن أصير طَيَّانًا.. فذهب إلى النجار فقال له: الله أغناني وبعتُ أدوات العمل، ولستُ بحاجة، وذهب إلى المعماري فقال له: تعالَ أصلح لنا الجدار، فقال له: لقد أغناني الله وبعتُ أدوات العمل، قال له: يا ربِّ أَرْجِعْهم مثلَ ما كانوا، أنتَ ﴿الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ﴾ [الحشر:23].
العدل والأمن يتحققان بالإسلام
﴿الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ﴾ [الحشر:23]، الله لا يَخرُجُ منه إلا الخير، بيده الخير والسَّلَام والعطاء والرحمة، ومِن رحمته أن يكون هناك ردعٌ للظالم وللجائر وللمعتدِي، فإذا كانت الدولة عندها قوانين الثوابِ والعطاء، ولكنها ما أقامَت قوانينَ القِصاص والجزاء فهل تكونُ دولةً ناجحةً؟ فلا بدَّ مِن مكافأة المحسِنِ على إحسانه والمسيءِ على إساءته.. ويُشْرِفُ على القصاص: ((ادْرَؤوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ))، فكأنَّه ليس هناك حدود.
فانظروا إلى النبي عليه الصّلاة والسَّلَام والإسلامِ كيف ربَّى المجتمعَ بلا شُرطَة وبلا سجونٍ مع هذه الحدود! فكان النّبي ﷺ يقول والمسلمون مستضعَفون تحتَ العذاب، وتحت التحريق والضرب والسجون والتجويع: ((لَئِنْ طالَتْ بكُم حَياةٌ لَتَجِدُنَّ الظَّعِينةَ)) يعني المرأةَ المسافرة ((تأتِي مِن الحِيرةِ إلى مَكَّةَ لا تخافُ في طَريقِها أَحدًا إلَّا اللهَ)) ، وهذا بلا جيش ولا خزينة، فقد كانت جيوبُ الشعبِ كلُّها خزينة الدولة، والشعبُ كلُّهُ نساءً وأطفالًا ورجالًا كلُّهُ جيش الدولة، كما يقولون: “الجيش الشعبي”.
والآن في القوانين أنَّ ابن الخامسة عشرة لا يُجاهِدُ، أمَّا في الإسلام فالذين حضَرُوا وقعةَ أُحُد كان منهُم الأطفال الذين لم يتجاوز عمرُهُم الثالثة عشرة سنة، وليس سَوْقًا قسريًّا، بل رغبةً وشوقًا وتسابقًا إلى الشهادة، فالطفل قد بلَغَ مِن ثقافتِهِ التي يُسمُّونها وطنية أو دفاعية أو جهادية [إلى أن يجاهد ويعمل عمل الرجال]، والمرأة كذلك طلبَتْ أن تُجاهِدَ، ولكن الإسلامَ والنبي عليه الصلاة والسَّلَام ما سمَحَ لها رحمةً بها وتكريمًا ولأنَّ عليها أعباء عائليةً وأُسَريةً، وقال لها: بأنَّ هذا يُعادِلُ الجهادَ، فخُذِي معاشًا، وعملك يَتناسَبُ معَ فطرتِكِ والطاقة التي أودَعَها الله عزَّ وجلَّ فيكِ.
الله لا يصدر عنه إلا الأمن والأمان
﴿الْقُدُّوسُ السَّلَامُ﴾ [الحشر:23] الله عزَّ وجل لا يَصدُرُ منهُ إلا كلُّ سلامٍ، وكلُّ أمانٍ وعطاء، وهو سالمٌ وسليم مِن كلِّ النقائص، عالِمٌ لا يَجهَلُ، وقوي لا يعجَز، وسميعٌ بصير لا يغيب عنه شيء: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ [يونس:61]، ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾ [الرعد:10].
﴿الْمُؤْمِنُ﴾ [الحشر:23] الذي أمَّنَ عبادَهُ في تشريعِهِ الذي لا نقصَ فيه، وتشريعهُ وقانونهُ يُوصِلُهُم إلى قِمَّة السعادة، ويَحميهِم مِن كلِّ الأسواء، أمَّنَهُم في قانونه من أن يَنالَ أحدَهُم ظلمٌ أو جورٌ أو اعتداءٌ، فهو الْمُؤْمِنُ بصفاته وبأفعاله وبقانونه، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [النساء:40]، ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش:4].
اسم الله تعالى المهيمن
﴿السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ﴾ [الحشر:23] المحيط بكلِّ شيء في هذا الوجود تدبيرًا، فهو يُدبِّرُ كلَّ هذا الكون، فمَن الذي يُهيمِنُ على تركيب الهواء؟ إنّ الهواء مركَّبٌ مِن الأوكسجين والآزوت وغازات أُخرى، وكل ذلك بنسَبٍ محدَّدَة، ولو اختلَّ أحدُها فزاد أو نقَصَ لَمَا وُجِدَت حياة ولا أحياء على هذا الكوكب.
﴿الْمُهَيْمِنُ﴾ [الحشر:23] على سير المجرَّات والسُّدُم والكواكب والنجوم بسرعات هائلةِ، فالأرض تمشي حولَ الشمسِ بسُرعة مئة وثمانية آلاف كيلومتر في الساعة، ومليارات المليارات من السيارات والطائرات في هذا الفضاء بهذه السُّرعات الهائلة، فمَن المهيمن والرقيب والمشرف والمدبِّر على سلامة هذا السير وعلى نظامِهِ؟ وسُرعاته لا تنقُصُ ولا تزيد، ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ﴾ يعني في طريق وفي سِكَّة، ﴿يَسْبَحُونَ﴾ [الأنبياء:33].
﴿الْمُهَيْمِنُ﴾ [الحشر:23] على الأمطار، يُنزِلُها بمقدار، فلو نزلَت حبَّةُ المطر بمقدار البرتقالة، أو نزلَتْ كنهرِ النيل على مصر مِن الأعلى، أو بمقدار الفرات أو دجلة على بغداد، نزلت كنهرٍ مِن السماء لَخربت الدُّنيا، فالأمطارُ تنزل بمواقيتها، والصيف بمواقيته، والشتاءُ بمواقيتِه، والمعدَةُ لها وظيفةٌ حيث تهضمُ البروتينات، واللعابُ بِقَدَرٍ.
واكتشفُوا مؤخَّرًا مجرَّتين، والمجرَّة هي عبارةٌ عن مجموعة من الكواكب والنجوم والأراضي، وهي تَبعُدُ عن الأرض سبعة عشر مليار سنة ضوئية.. وما يُرى في العين المجرَّدة من النجوم والكواكب التي نراها في السماء هو ستة آلاف، وهذا مِن كل أقطارِ الأرض، أمَّا مجموع ما في مجرَّتِنا مِن نجوم فقد قالوا: في مجرَّتِنا يُوجَدُ ثلاثين مليار شمسٍ كشمسنا، [لا يخفى أن هذا الرقم هو ما كان يقوله علماء الفلك في تاريخ هذا الدرس 1992م، وقد زادوه كثيراً فيما بعد]، والمليار ألفُ مليون، وكلُّ شمس لها توابع، فشمسنا يَدورُ حولها الأرض وأخواتُها، والتي هي أكثَرُ مِن عشر كواكب، والكواكبُ لها أقمارها.. وهذه شمسٌ واحدة، فكيف إذا كان يوجَد ثلاثين مليار شمس مع كواكبها وأقمارها وتوابعها! وهذه مجرَّةٌ واحدة، واكتشَفَ العِلم بأنَّ المجرَّات كذلك بالمليارات.
إنّ القطار له مَن يهيمن على سَيْرِه، فعند المنعطفات يُخفِّفُ السير، وكذلك في النزول والصعود، فمَن المهيمن على سير هذا الكون؟
﴿السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ﴾ [الحشر:23] خلَقَ في الدماغ أربعة عشر مليار خلية، وكلُّ خلية لها عمَلٌ لا يَعمَلُهُ غيرُها، وتعمَلُ كلُّها بانسجام واحد ولهدفٍ واحدٍ، وهو الحفاظ على هذا الجسد، مَن المهيمن الرقيب المدبّرُ والمدير والمشرِف؟ فالله تعالى مصمِّمٌ وحافظٌ ومراقِبٌ وبالشكل الأتمِّ، مِن الذَّرَّة إلى المجرَّة.. مَن المهيمن؟ مَن الرقيب؟ مَن المشرف؟ مَن المدير؟ الله، وهو هذا الإله، أما سيِّدُنا المسيح عليه السّلام فهل يستطيع أن يُهيمِنَ على المجرَّات؟ هل يستطيع أن يُهيمِنَ على الكواكب؟ هل يَستطيع أن يُهيمِنَ على نومه فلا ينام؟ إنه يَعْجَز، وهل يَستطيع أن يُهيمِنَ على معدته فلا يجوع؟ هل يستطيع أن يهيمِنَ على بوله وغائطِهِ فيَمنعه مِن الخروج؟ وبعد هذا يقولون: هو إله! إنّ هذا.. نسأل الله عزّ وجلّ أن يعفو عنا.
[قوله “نسأل الله أن يعفو عنا” هي في العامية السورية: “الله يعفو عنا”، والشيخ يقولها بالعامية، وقد يبدو للقارئ أن هذه الدعوة لا صلة لها بما قبلها، وسبب ذلك أنها استخدام في اللهجة العامية.. وهذا أسلوب أو عادة في اللهجة السورية، فعندما تقول شيئاً غريباً لا يُعقَل ولا يمكن تصديقه وفيه جنون، مثلما ورد هنا، بأن يكون عيسى عليه السلام إله مهيمناً على هذا الكون وهو إنسان بهذه المواصفات البشرية من العجز، فهذا غير منطقي أبداً ولا يُصدَّق، تقول بعدها: “الله يعفو عنا”.. وكأن المعنى: نسأل الله أن يعفو عنا من هذا القول، وأن يعافينا من الجنون فلا نقول هذا القول.. ولا ريب أن هذه المقولة العامية لطيفة ومؤدبة، وهي تغني عن قولك: هذا لا يُصدَّق وهذا جنون].
لذلك قال الله تعالى: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنعام:32]، يعني استعمِلُوا عقولَكُم، ﴿أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأنعام:50] يعني فكِّروا، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [النور:44] اعتبِرُوا بالوقائعِ، ولا تقعوا في الأخطاءالتي وَقَعَ فيها غيرُكم أو مثلِها.
اسم الله تعالى العزيز
﴿السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ﴾ [الحشر:23] الذي لا مثيلَ له ولا نِدَّ، وهو واحدٌ أحَدٌ قويٌّ لا يَضعُف، عزيزٌ لا يُغلَب، ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام:103]، ﴿لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:11]، يُعطي ولا يأخُذُ، يُطعِمُ ولا يُطعَم، يُجير ولا يُجار عليه، ﴿فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [يوسف:101] هل يُوجَدُ إلهٌ آخر فاطرُ السماوات أو مُنشِئُها ومُبدعها؟ سيِّدُنا المسيح هل خلَقَ شيئًا؟ لم يخلق حمارًا ولا فرسًا ولا فيلًا، كان يجوعُ إذا فرغَت معدتُهُ، وينام إذا غلَبَ عليه نعاسُهُ، وبعد ذلك يقولون: إنَّ اليهود بمؤامرتهم صلبوه، وصار يَظهَر بمظهَر العجزِ والبكاء والاستغاثة، فهم يُبغِضُون اليهود لأنَّهم صلَبُوهُ، ويُعلِّلُون الصَّلبَ بأنّه صَلَبَ نفسَهُ ليفتدي بصَلبِهِ خطايا البشر.. إذا كان فعَلَ هكذا فيجبُ أن نُقدِّسَ اليهود، لأنّهم كانوا سببًا لغُفرانِ خطايا البشر.
أما القرآن ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:9] لم يُترجَم ولم يُحرَّف، كتاب ﴿عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل:103] ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت:42].
اسم الله تعالى الجبار
﴿الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ﴾ [الحشر:23] الجبار: الذي لا يَقِفُ أمام جبروتِهِ شيءٌ، لا ملوك ولا عظماء ولا أقوياء، أين هتلر وجبروتُهُ؟ قصمَهُ الجبار، أين موسوليني الذي كان يُلقِي بالمسلمين في ليبيا من الطائرات، ويقول لهم: دع محمَّدًا يُخلِّصك؟ هذا الجبار مَن قصَمَه؟ قصَمَه الله الجبار الذي لا تقِفُ أمام قوَّته قوَّة، ولا أمام عظمتِهِ عظيم، أين الملوكُ؟ وأين الفراعنة؟ وأين القياصرَة؟ وأين المستبِدُّون؟ وأين الْجَبَّارُون؟ فهو جبارٌ على المتجبِّرينَ، وجبَّارٌ على الْمُتَكَبِّرُين.
الجبَّار: هو الذي يَنتقِمُ ولا يُبالي ولا يخافُ عاقبةَ بطشِهِ وعاقبة انتقامه، لأنَّهُ يَرى أن لا قوَّة فوقَ قوَّتِه، ولا يَستطيع أحدٌ أن يَثأر أو يأخُذَ الثأرَ منه أو يُقاصِصه.. اسمه “الْجَبَّارُ”، ولكنه جبَّارٌ على مَن؟ هل على المؤْمِنُين؟ لا، ﴿وَكَانَ بالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب:43]، هل جبَّارٌ على المساكين؟ ((مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ)) ، ((ارْحَمُوا مَنْ في الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)) ، هو جبَّارٌ على الفراعنة؛ أغرَقَ فرعون ولم يُبالِ، وقتَلَ النمرود ببعوضةٍ دخلَتْ في أذنِهِ إلى دماغه، وأهلَكَ التتار وأهلَكَ الظَّالمين والمستبدِّين.. ودائمًا إذا تجاوزتَ الخطَّ الإلهيَّ مِن العدل إلى الظُّلمِ بقوَّتِكَ مع الضُّعفاءِ فاذكرْ اسمَ الله الجبَّار، فإنه يَسلبُكَ قوَّتَكَ في لحظة واحدة، وقد يَسلبُك سمعك وبصرَكَ وعِزَّك وجاهَك وغناك وثروتك.
يذكرون عن خالد البرمكي -أبي البرامكة- أنَّه لَمَّا سلَبَهُمُ الرَّشيدُ منازلَهُم ووظائفهم وأملاكَهُم دخَلَ عليه في سجنِهِ أحَدُ الدَّاخلينَ فقال له: أبعدَ ذلك العِزِّ والمجدِ والعظمة وكذا وكذا -وكان هو بحسَبِ الحقيقة الخليفة العملي، وهارون الرشيد الخليفة الشكلي- يَكون مصيرك هذا المصير؟! وإلى هذه الغاية تكون حالتك؟! فقال
رُبَّ قومٍ قد غَدَوا في نِعمةٍ
زَمَنًا وَالدَّهرُ رَيَّانُ غَدَقْ
سَكَتَ الدَّهرُ زَمانًا عَنهمُ
ثم أبكاهُمْ دَمًا حِينَ نَطَقْ
ثم قال: “يا بُنيَّ، لعلَّها دعوةُ مظلومٍ سرَت بليلٍ نمنا عنها واللهُ لم يَنم عنها”.
يقول بعضهم: إنه رأى أحد المتَكَبِّرُين في طوافه والخدمُ أمامَهُ يَدفعونَ النَّاس ليُفرِّغُوا أمامَه الطريق وبشكلٍ من الاستكبار والتعالي على الناس والحُجَّاج، قال: وبعد مدة مشيتُ على جسر فوق دجلة في بغداد، فرأيتُهُ جالسًا على الأرض يَمُدُّ يدَهُ يَتسوَّل مِن الناس، فقال له: ما هذا؟ أين كنتَ؟ وأين صرتَ؟ قال: تكبَّرتُ في موضعٍ يجب أن يَتواضَع الإنسان فيه، فأذلَّنِي الله في موضِعٍ ينبغي للإنسان أن تظهَرَ نعمةُ الله عليه.
لذلك فإن من الإيمان أن تؤمن باسمه الجبار، ولا تغترَّ بشبابك، فَبِجَبورته يَقصِمُ الشبابُ، ولا بغناك، فالله يَسلِبُ المال، ولا بِسمعِكَ ولا ببصرك ولا بحكمِكَ ولا بوظيفتك ولا بسلطانك، فإذا كنت قويًّا وخصمُكَ ضعيفاً، فالله أقوى مِنك.
يروى أن أبا مسعود الأنصاري رضي الله عنه ضرب عبده، فقال له عليه الصلاة والسَّلَامُ: ((اتقِ اللهَ فِيهِ، فإنَّ اللهَ أَقوَى مِنكَ مِن قُوَّتِكَ عَليه)) ، فإذا كنتَ قويًّا تستطيع أن تتصرَّفَ فيه، فإنّ قوة الله تستطيعُ أن تَتَصرَّفَ فيك بأكثر مما تستطيعُ أن تتصرَّفَ بهذا العبد الذي جعلَهُ الله لك مملوكًا، [فقال: يا رسول الله هو حرٌّ لوجه الله].. وقال النبي عليه الصلاة والسَّلَامُ: ((أَدخَلَ اللهُ امرأةً نَارَ جَهَنَّمَ في هِرَّةٍ حَبَسَتْها حتَّى ماتَتْ، لا هِي أَطعَمَتْها، وَلا هِي تَرَكَتها تَأكُلُ مِن خِشاشِ الأَرضِ)) ، فالله عزَّ وجلَّ يَنتقِمُ لهرَّة، ويَنتقِمُ لإنسانٍ ضعيفٍ لا يَخطُرُ على البال، يَسلُبُ نعمةَ الملوك مِن أجلِ إنسان ضعيفٍ أشعثَ أغبَرَ لا يُؤبَهُ له، لكنه لو أَقسم على الله لأبرَّه.. ووَرَدَ في بعض الأحاديث بأنَّ دَعوةَ المظلُومِ إذَا دَعَا عَلَى ظالِمِه، ((يَقُولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ))، بعد أن يرفَعَها فوق الغمام .. فعليك أن تعرف أنَّ الله ليس فقط “الرحمن والرحيم والرزاق”، بل عليكَ أيضًا أن تَعرِفَهُ أنه ﴿ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات:58] وعليكَ أن تعرِفَهُ أنه “الْجَبَّارُ” على المتجبِّرينَ، والمذِلُّ للمتكبِّرينَ والراحِم بالرحماء. 50:25
اسم الله تعالى المتكبِّر والرحيم والملِك
﴿الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ﴾ [الحشر:23]، والتَّكبُّر صفةٌ مِن صفاتِ الله، يعني أنّ الله أكبَرُ مِن كلِّ شيء، فهو أكبَر عِلمًا، فلا تَنغرَّ بِعلمِكَ وتَتَعالى بِهِ على الجاهلين، ولا تتكبَّر بسُلطانِكَ، فسُلطان الله أكبَرُ، ولا تَتَعالَ على الناس بمكانتِكَ وبنفوذِكَ وبذكائِكَ، بل تواضَع دائمًا وقل: ﴿لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ الله﴾ [الأعراف:188]، ﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف:39]، فهي ليست بِعَرَقِ جبينِكَ، صحيحٌ أنَّكَ اشتغلتَ، ولكن هناك أيضًا أُناسٌ عرِقُوا أكثَرَ منكَ، واشتغَلُوا ليلًا ونهارًا أكثَرَ منكَ، وما رُزِقُوا كما رُزِقتَ، فقل: هذا بفضلِ الله وبرحمتِه، ودائمًا انظر لنفسِكَ أنَّكَ فقيرٌ لا تَملِك، وذليل بين يدي الله تعالى، ولا تعتزَّ على غيرِكَ مِن مخلوقات الله عزَّ وجلَّ، ولا تتعالَ ولا تتكبَّر ولا تظلِم ولا تجُرْ، فالله تعالى مِن أجل هرة أدخل إنسانًا في نار جهنم، ومِن أجلِ كلبٍ غَفَر لبغيٍّ رأَتِ الكلبَ عطشان، فنزلَتْ في البئر فشربَتْ، ولَمَّا خرجَت ملأَتْ فمَها وخُفَّها ماءً فسقَتِ الكلبَ، فغفَرَ الله لها ، قالوا: يا رسول الله أَوَلَنا في البهائم أجرٌ؟ قال: ((لَكُمْ في كُلِّ كَبِدٍ حَرَّاءَ رَطْبةٍ أَجْرٍ)) ، ((إنَّما يَرحَمُ اللهُ مِن عِبادِهِ الرُّحماءَ)) .
﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [الحشر:23] النبي ﷺ يقول: ((لَيسَ عَلى أَهْلِ لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحشةٌ في قُبورِهِم، وَلا وَحشةٌ في نُشورِهِم كأنِّي بِهم وَقَدِ انشَقَّتِ الأرضُ عَنهم يَومَ القِيامةِ يَخرجُونَ مِن قُبُورِهم قائِلِين: الحَمدُ للهِ الذي أَذهَبَ عَنَّا الحُزنَ)) .
الذي آمَنَ بالله وأنَّهُ الإله الوحيد، وآمَنَ بذاتِهِ وبصفاتِهِ، وآمَنَ باسمِهِ “الرحيم” فإنه يَرحَمُ الناس حتى يَرحَمَه الله عزَّ وجلَّ، والذي آمن باسمِهِ “الملك” فإنه يعظِّم الله ويعظِّم أمْرَ الله، فيعظِّمهُ الله لتعظيمِه أمرَ الله، و((إنَّه لا يَذِلُّ مَن واليتَ، ولا يَعِزُّ مَن عاديتَ)) ، ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47]، عليك أن تؤمن بهذه الآياتِ، أليس الإيمان أن نُؤمِنَ بالله وملائكتِهِ وكُتُبِهِ؟ لا أسألك عن الكتبِ الآن ولكن هاتِ القرآن، ومِن القرآن هات هذه الآيات، هل آمنتَ بها؟ هل آمنتَ بالْمَلِك؟
كلُّ إنسانٍ يَحِب أن يتقرَّبَ مِن الملِك ومِن رئيس الجمهورية ومن رئيس الوزراء، وقد لا يَنال مِن هذا القُربِ شيئًا، وقد يُقدِّم له الهدايا ولا يأخُذُ مقابلها، أما الله عزَّ وجلَّ فإنك إذا قدَّمتَ له هدية: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام:160] لا يضيع شيئًا، ولا يُكافِئُ المثل بالمثل، وأقلُّ المكافئة ألفٌ على مئة، وأنت هل آمنتَ بهذا الإله؟ هل آمنتَ بكلامِهِ وصدَّقتَ قرآنه في أعمالك وقلبِكَ وكلّ مشاعرِكَ ووجدانِكَ؟ إذن أنتَ مسلمٌ، ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47].
الكِبر صفة مذمومة في الخَلْق
﴿الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ﴾ [الحشر:23]، الله عزَّ وجلَّ أكبَرُ مِن كلِّ كبير، أمَّا أنتَ إن أردت أن تتصِف بصفاتِ الله فهل تتكبَّر على مخلوقات الله عزَّ وجلَّ؟ النَّبيُّ ﷺ يقول: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ))، سبحان الله! ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ))، قالوا: “يا رسول الله، أمِن الكبر لبسُ الثيابِ الحسَنَة”، وأن تَكونَ ثيابُ المرءِ حسنةً وفرسُهُ حسنَةً، وسيفُهُ حسنًا؟ ما أعظَمَ الإسلام! ما أعظَمَ مدرسةِ الإسلام! ما أعظَمَ ثقافة الإسلامُ! فقال ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)) سبحان الله! ((إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، وَلَكنَّ الكِبْرَ بَطَرُ الْحَقِّ)) بأن لا تَنقاد للحقِّ، ولا تمتثِل للحقِّ، وتتعالى على الحقِّ، وترفُضُ الحقَّ، ((ولكنَّ الكِبْرَ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ)) ، بأن تَنظُر للناس نظرةَ الاحتقار، وتقول: “أنا أعلَمُ، أنا نَسَبي أشرَف، أنا مالي أكثر، أنا الوزير، وأنت مُوظَّف”، وعند الله عزَّ وجلَّ: ((رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذُي طِمْرَيْنِ)) الأطمَار الثياب البالية ((لَا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ)) ، و((إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)) .
جمال الإسلام وتشويه المسلمين لصورته
كان الفقر منتشراً بين المسلمين في زمَنِ النَّبيِّ ﷺ، فكانُوا في صلاة الجمعة تُشَمُّ في المسجد روائحُ كريهة من الحرارة والعرَق الزكام، وكانت المياه قليلة فتخرُجُ الروائحُ الكريهة، فتأذَّى الأغنياء والمترفون مِن ذلك، وطلبُوا مِن النبي ﷺ أن يَكونَ لهم مجلسٌ خاصٌّ، وكاد النبيُّ ﷺ أن يُقيم مُجلِسين حِرصًا على الدعوة ومراعاةً لضعافِ الإيمان، فأنزَلَ الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف:28] يعني لا تُفرِّق المجلس، واصبِر مع الفقراء.
فالقرآن هكذا أمَرَ، ولكنَّ النبيّ ﷺ يَتَصرَّفُ بِعقلِ النبوة حِفاظًا على الدعوة مع الحِفاظ على أمْرِ الله في وحدةِ المجلس، فأمَرَ النَّاسَ أن يَغتَسِلوا غُسْلَ الجمعة، وأن يَلبَسُوا يومَ الجُمعَة البياضَ مِن ثيابِهِم، وأن يَتَعطَّرُوا ويَتَطيَّبُوا، ولا يأتِ أحدُهُم وقد أكَلَ الثوم والبصل، ثم يَدخُل إلى المسجد والناس بهذه الروائح الكريهة.. إنَّ النبي ﷺ شَمَّ مَن أحدِهِم رائحةَ ثومٍ أو بصل فأخرَجَهُ مِن المسجد إلى مسافة ميلٍ، يَعنِي كيلومتر ونصف، وقال: ((مَنْ أَكَلَ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا)) ، ﴿يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف:31].
وانظرْ إلى المسلمين اليوم الذين يأتُون إلى صلاة الجماعة، وأحدُهُم بثيابِ المِهْنة، والآخر لم يغتَسِل مِن عشرينَ يومًا، وبثيابِه المبتَذَلَة، مِن امرأةٍ أو رَجُلٍ، والله تعالى يقول: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾ [الأعراف:31] البس أحسن ثيابك عندما تأتي إلى المسجد ومَشِّط شعرَك، ونظِّفْ نعلَك، ولا تأكلْ ثومًا أو بصلًا أو ما شابَهَ ذلك، أليس هذا من الإسلام؟ أليس هذا من الدِّين؟ انظر إلى الطوائفِ الأخرى عندما يَذهبُون إلى الكنيسة، يذهبون بأجملِ ثيابِهِم وبأجمل هيئاتهم، نحن نَظلِمُ الإسلام بانتسابنا إليه، أما كان من الأفضل أن لا نقولُ عن أنفسنا: “مسلمين”! فإنّ الأممَ الراقية ربما تكون قد درسَت الإسلام واعتنقَتْه، لكن لَمَّا تَرَى المسلمين في تخلُّفٍ وضعفٍ وجهلٍ وقذارة وأمراض يَظنُّون أن الإسلام هو ما عليه المسلمون.
ذَكَرَ لي أحدُهُم أنَّ رجلًا فرنسيًّا في فرنسا خطَبَ امرأةً مسلمةً، فقالت له: لا أتزوَّجُكَ حتى تُسلِمَ، لأنَّ الإسلامَ يمنَعُ المسلِمة من أن تتزوَّج غير المسلم، وبعد مدَّة أسلَمَ، وبعدَما أسلَمَ لم يَخطِبها، ولم يعُدْ يَتَعرَّض لطلبِها كزوجة، ومضَت سنتان، وهي استغربَت، ففاتحَتْهُ وبادَرَتْهُ وقالت له: مِن قبل كنتَ حريصًا على الزواج بي، وبعد أن أسلمتَ أراكَ عزَفْتَ عن الزواج بي، فقال لها: لأني أسلمتُ بعد أن درستُ الإسلامَ، وبعدَ الدراسة طبَّقْتُهُ في كل شؤون حياتي، فنظرتُ إليكِ فلم أجدْكِ تُطبِّقينَ الإسلامَ في شؤون حياتِكَ، فإذا أسلمتِ حسَبَ ثقافةِ الإسلام، ورأيتُ الإسلام في أعمالِكِ وأخلاقِكِ وسلوكِكِ عند ذلك أتزوَّجُكِ كمسلمة، ولكن بما أنتِ عليه الآن فأنتِ لستِ مُسلِمَة، وأنا لا أرغَبُ إلا بأن أتزوَّج امرأة مُسلِمة.
وحدَثَت قصةٌ عملية ثانية بالعكس، حيث إنَّ امرأة فرنسية طلبَتْ مِن المسلِمِ أن يتزوَّجَها، فقال لها: أنا لا أَرغَبُ بالزَّواجِ مِن غير المسلِمَة.. كما كان عُمْرُ رضي الله عنه يُكرِّهُ الزَّواجَ مِن غيرِ المسلمة، وكذلك كان ابنُ عمرَ رضي الله عنهما، فسألُوا ابنَ عُمَر رضي الله عنهما فقال: “لئلَّا يُزهَدَ في الزَّواجِ بالمسلمات” ، ويصير الكساد في المسلمات.. إلخ، مع أنَّ الشرع أباحَه، وليس عليه كلام أبدًا، فلمَّا درَسَ الطرفُ الثاني الإسلامَ واقتنَعَ به، ومَن الطرف الثاني هنا؟ المرأة الفرنسية، فأسلمَتْ، ولَمَّا أسلمتْ فرِحَ وقال لها: الحمد لله، هيا نتزوج، قالت له: أنا لا أتزوَّجُكَ، قال لها: لماذا؟ قالت له: لأنك غيرُ مُسلِم، فالإسلام يُحرِّمُ الخمرَ وأنتَ تَشربُه، والإسلامُ يأمُرُ بالصَّلاة وأنتَ لا تُصلِّي، والإسلام يُحرِّمُ الزِّنا وأنت تزني، فإذا اعتنقتَ الإسلام فأنا أتزوَّجكَ، وأما بما أنتَ عليه الآن فأنت لستَ مسلمًا.
إسلام الانتماء نفاق
يا بني، هذا هو واقع المسلمين.. فبادِّعائك الإسلام والانتماء إليه والتَّسمِّي بِهِ مِن غير أن يكونَ سلوكُكَ السَّلوكَ الإسلامي، فتكون مؤدِّيًا لفرائضه ومجتنِبًا لمحارمِه، لا تحوزُ لقَبَ مسلمٍ، بل تُلقَّبُ بالمنافق.. ففي الأخلاق وحدَها قال النبيُّ ﷺ: ((عَلامَةُ الْمُنَافِقِ مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ))، فبكذبةٍ واحدةٍ في كلامك تَخرُجُ مِن الإسلامِ إلى النِّفاقِ، ((وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)) .
يقال: إن أحد الصحابة رضي الله عنه -لا أَذكُرُ اسمَه- عندما حضَرَه الموت قال: ائتوني بشاهدين، فأتوا بهما، قال: اشهدوا عليَّ بأني قد زوَّجتُ ابنتِي فلانة لفلانٍ الفلاني، قالوا: أنتَ تموتُ، وهل الآن وقتَ الزواج والتزويج؟ فقال لهم: “وَعَدتُه أن أزوِّجَه ابنتي، وخِفتُ أن ألقى الله عزَّ وجلَّ ولا أَفِي بوعدي، فألقى الله مخلِفًا للوعد، وإخلافُ الوعدِ ثلثُ النفاق” .
هذا هو الإسلام، والإسلامُ هو هذا، والعلم بأن تَسمَعَ لتعملَ، لا أنَّ تسمعَ لِتسمعَ، فإن قيل لك: هذا سُمٌّ قاتل، تقول: جزاكم الله خيرًا، فقد علَّمتمُونِي وصِرتُ به عالِمًا، [ولكنك سمعتَ لتسمع لا تعمل]، ثم تأخُذُ كأسَ السُّمِّ فتشربُها، هل هذا هو العِلْم؟ ((اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن عِلمٍ لا يَنفعُ)) ، ((أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ)) ، والمسلمون كلُّهم علماء بأنَّ الخمر حرام، هل هناك أحدٌ يجهَلُ تحريم الخمر في الإسلام؟ وهل هناك أحدٌ يَجهَلُ وجوب أداء الصلوات؟ وهل هناك أحدٌ يَجهَلُ وجوبَ الزكاة؟ وهل هناك أحد يَجهَلُ تحريمَ الزنا؟ ومع هذا العِلمِ فهم يَنحرِفون، فهؤلاء ليسوا منافقين، [بل أسوأ].. لا نُريدُ أن نتكلَّم بشيء [من أوصافهم وحقائقهم] لا حاجةَ لنا بذكرِهِ الآن. [يقول ذلك سماحة الشيخ بحرقة وأسىً على أوضاع المسلمين اليوم وحالهم مع الإسلام ومحاربتهم له].
يجب علينا كلّنا أن نتوبَ إلى الله عزَّ وجلَّ، ونتوبَ مِن إسلام الادِّعاء والتَّمنِّي إلى إسلام العِلْمِ والعملِ والأخلاق. قال: “اشهدوا عليَّ أني قد زوجتُه ابنتِي، لئلا ألقَى الله بثلثُ النفاق”، ((ثَلاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ خِصَالِ النِّفَاقِ: مَن إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا وَعَدَ أَخلَفَ، وإذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)) .
أتَت بعضُ النساء مِن أقرباء النبي ﷺ إلى النبي ﷺ، وكان عندَهُ لبنٌ، فقدَّمَهُ لهنَّ وقال: تَفَضَّلْنَ اشرَبْنَ اللبن.. فقُلْن: يا رسولَ الله نحن لسنا جائعاتٍ، والواقع أنهنَّ كنَّ جائعاتٍ، فابتسم النبي عليه الصّلاة والسَّلَامُ وقال: ((أَتَجْمَعْنَ جُوعًا وَكَذِبًا؟)) ، ورأى مرَّةً إحدى نسائه تُفلِّي رأس أخيها، يعني تقتُلُ القملَ الذي في رأسه، لكنها تحاولُ القتلَ بسُرعَة، فسألها عليه الصلاة والسَّلَامُ إن كانت تقتل كل هذا القمل، قالت: لا يا رسول الله، لكن أُوهِمُه بوجود قمل.. لكن في الحقيقة لا يُوجَد قملٌ، فقال عليه الصلاة والسَّلَامُ: ((أَلَا تَعلَمِينَ أنَّ اللهَ حَرَّمَ كَذِبَ الأَنامِلِ؟!)) ، لأنها حين تفعَلُ ذلك وتوهمه أنها قتلَت قملًا هي كاذبة، فلا يُوجَد قملٌ وما قتلَت، فهي لا تكذب بلسانها، بل تَكذبُ بأناملها.
هذا هو الإسلام، فأين هذا الإسلام؟ إن كان في الورق، ونسمَعُهُ بالأذُنِ، ولا يَستقِرُّ في القلب، ولا يَستقِرُّ في العقل، ولا يَظهَرُ في العمل والسلوك، فهذا اسمه نفاق، فهل المسلمون أكثَر أم المنافقون؟ يقولون: يوجد مليار مسلم، فإذا أردنا أن “نُغَرْبِلَهم”، فالمنافقون كم مئة مليون وكم عدد “الذين يبقون”؟ والذين يبقون هم المسلمون الحقيقيُّون؛ مُسلِمو العِلمِ والعملِ والأخلاق ومراقبة الله في السر والعلَنِ، وهذه كلُّها مِن صفات الإسلام. [نُغَرْبِلهم: أي نضعهم في الغربال، فيتَمَحَّص بذلك المسلم من غير المسلم، حيث عند تمحيص الحبوب بالغربال تبقى فيه الحبوب النافعة التي تريدها، ويسقط منه الحصى والتراب والأوساخ، وهذا هو قوله: “والذين يبقون هم المسلمون الحقيقيون”].
الله أكبر من كل شيء
نسأل الله أن يَتوبَ علينا وأن يُعرِّفنا بـ “الله”، ﴿الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ﴾ [الحشر:23] فهو المتكبِّر وله الكبرياء، وهو كبيرٌ، وهو أكبر مِن كلِّ كبيرٍ، وهذا الذي هو أكبرُ من كلِّ شيء في الوجود تجدُهُ في الوقت ذاته مع الْمُؤْمِنُين رؤوفًا رحيمًا.. في زمَنِ النبي ﷺ لَمَّا كان في مكة، وحصَلَ جفافٌ وانقطاع الأمطار، وطلَبُوا مِن النَّبيّ ﷺ أن يَستسقِي لهم، دعا الله واستسقاهُ، فنزلَتْ الأمطارُ، فقال له عمُّهُ أبو طالبٍ: يا ابن أخِي ما أسرَعَ طاعة ربك لك.. فبمجرَّد أن طلبتَ منه امتثَلَ وأطاع واستجاب فورًا، فقال له النبي ﷺ له: ((يا عَمِّ، لَو تُطيعُ اللهَ كَما أُطيعُه لَأَطاعَكَ كَما أَطاعَنِي)) .
﴿الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ﴾ [الحشر:23] مع المؤمن ليس متكبِّرًا، بل هو المحسِنُ المعطِي الْمُعِزُّ الرَّحمن الرحيم.. يَذكرون عن سيدنا موسى عليه الصلاة والسَّلَامُ أنه مَرَّ في طريقه إلى مناجاة ربِّهِ على إنسان كُشِفَ عن قلبِهِ الحجُب، فرأى مِن تجليات الله ما رأى، وهو مأخوذٌ عن نفسه، فسلَّمَ عليه موسى عليه السَّلام، فلم يَرُدَّ على موسى عليه السَّلَام سلامَهُ، فتعجَّبَ سيِّدُنا موسى عليه السَّلَام كيف لم يردَّ السَّلَام على نبيٍّ وهو كليمُ الله! فلمَّا ناجى ربَّه قال: يا ربِّ مررتُ بطريقي على عبدِكَ الصالح فلان، فسلَّمتُ عليه، فلم يَرُدَّ عليَّ السَّلَام، فأوحى الله إليه: “يا موسى إنَّ عبدي فلانًا هذا لم يُكلِّمني منذ ستة أيام”، فهو ليس فقط لا يَرُدُّ عليكَ السَّلَام، بل أنا لا يُكلِّمُني، قال له: وكيف ذلكَ يا ربِّ؟ قال: طلَبَ منّي أن لا أعذِّبَ أحدًا من العصاة ولا من الفساق ولا مِن الكافرين، وأن أُدخلَهُمُ الجنَّة أجمعين.. وهذا مخالفٌ للحِكمة، وكيف يدخل كل الناس الجنَّة وفيهم السارق والقاتل والغاصب والظالم والجائر!.. ولذلك لم يُكَلِّم اللهَ تعالى، وهنا لم يعامله الله باسمه المتكبر، بل عاملَهُ باسمه الرؤوف الرحيم، وكما قال النبي عليه الصلاة والسَّلَامُ: ((أُمِرنا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ)) .
ولَمَّا فرَضَ الله عزَّ وجلَّ الفرائضَ كان يَستطيع أن يَفرِضَها دفعةً واحدةً، ولكنه فرضَها بالتدرُّج؛ فالصلاة بالتدرُّج، والصومُ بالتدرُّج، والجهادُ بالتدرُّج، وتحريمُ الخمر بالتدرُّج، وتحريمُ الربا بالتدرُّج، وهذا مِن تجلي اسمه الحكيم الذي نحن مأمورونَ به [مأمورون بالتخلق به] لِنكونَ مُسلِمينَ بالمعنَى الحقيقي العِلمي الصحيح الذي يُسعِدُنا في الدُّنيا ويُنجِينا في الدار الآخرة.
﴿الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الحشر:23] يَجعلُونَ لله ولدًا، أو يجعلون الملائكة بناتِ الله، والله مُنزَّهٌ عن هذا الشِّركِ.
الله الخالق الذي يقدر الأشياء
﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ﴾ [الحشر:24] قال: الخالق: بمعنى المقدِّر، يعني قبل أن يُوجِد الأشياء يُوجدُها بمقاديرَ محدَّدَة وبمواصفات معيَّنَة: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الجاثية:2] يَخلُقُ لك الرِّجلينِ مُتساويتَين، فلو كانت إحداهما أطولَ مِن الأخرى بسينتمتر واحد أو اثنين فتَصيرون كلُّكم عُرجان، والأسنان أيضًا قدَّرَها بقَدَرٍ حتى تنطبِقَ بعضُها على بعضٍ، فتُمسِكُ الخيطَ الرَّفيعَ بأسنانِكَ المقدَّمَة.. فمعنى الخالق هو المقدِّر.
البارئ: هو الموجِدُ، فبعد أن يُقدِّرها على أحسَنِ تقدير وعلى أحسَنِ نظامٍ يُبْرِزها ويُوجِدها على حسَبِ المخطَّط والخريطة الإلهية.
والمصور كذلك: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [آل عمران:6] أبيض وأسود، وذكيٌّ وغبيٌّ.. إلخ، فمَن وَهَبَ هذه الصِّفاتِ للإنسان؟ ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الحشر:24]، وكلُّ أسماءِ الله حسنى، يَعني كلّ صفاتِهِ حُسنَى، فليس مِن صفاتِ الله إلا العطاءَ والحِكمة والسَّعادة، فإذا حرَّمَ أو عاقَبَ أو قاصَصَ أو أقام الحدودَ فكلّها باسمِهِ الرحمن الرحيم، فلو لم يكن هناك قصاصٌ لَمَا كان هناك سلامٌ ولا اطمئنان.
وجوب الاهتمام بأمور المسلمين
هذا الإسلام الباقي اسمُهُ والغائبةُ حقيقتُهُ.. وما يحتاجُ مِن المسلمينَ بمختلِفِ مستوياتِهِم مِن علماء ومِن حكَّام ومِن عامَّةٍ أن يبذل كلُّ واحدٍ منهُم جُهدَهُ لِنُعيدَ ونُجدِّدَ بناءَ الإسلام الذي أرادَهُ الله عزَّ وجلَّ في وحيهِ وقرآنه، والذي علَّمَهُ سيِّدُنا رسولِ الله ﷺ لأصحابه رضي الله عنهم، والذي به [بهذا الإسلام] نُقِلُوا مِن الذُّلِّ إلى العِزِّ، ومِن القِلَّة إلى الكثرة، ومِن العداوة إلى المحبة، ومِن الفرقة إلى الوحدة، حتى صاروا كأنَّهم جسدٌ واحدٌ وبُنيانٌ مرصوصٌ.
والآن نَسمَعُ أن المسلمينَ في البوسنة والهرسك يُذبَّحُون ويُدمَّرون، وتُحرَّقُ ممتلكاتُهُم ونساؤهم وأطفالُهم وشِيبُهم وشبابُهم، وأين العالَم الإسلامي؟ أين هو؟ لَمَّا اعتُدِيَ على حلفاء النبي ﷺ مِن بني خُزاعة قبلَ فتحِ مكة، وقَتَلوا منهم ثلاثة عشر شخصًا، وأتَوا إليه يُبلِّغُونه حالهم، بكى النّبيُّ عليه الصّلاة والسَّلَامُ، وقال: ((لا نُصِرتُ إنْ لم أَنصُرْكُم بِكِلِّ ما أَملِكُ مِن طاقَةٍ)) ، وجهَّزَ جيشَ الفتح، وفتَحَ مكة انتصارًا لبضعة عشر مسلمًا.. واليوم المسلمون يُقتَلون بالمئاتِ والألوف نساءً ورجالًا، وأين العالَم الإسلامي؟! أين المؤتمرُ الإسلامي في جدة؟ سمعتُ في الإذاعة أنهم في الشهر القادم سيَجتَمِعُون كي يَبحثُوا قضية البوسنة والهرسك.. لماذا هذه العَجَلة؟ يعني هم مُستعجِلون، فليتركوها للسنة التالية أو للصيف الآتي، حتى لا يَبقَى مِن المسلمين ذكرٌ ولا أنثى.. ما شاء الله! ما شاء الله! كلهم حماسٌ وغَيرَة. [يقول سماحة الشيخ ذلك بأسلوب ساخر من قادة العرب والمسلمين المتخاذلين، لكنه يتكلم بحرقة وحزن عميق وأسىً على أوضاع المسلمين في البوسنة]
أين القنوت في المساجد؟ كان النبيُّ ﷺ إذا أُسِرَ مسلمٌ واحدٌ أو مسلمان يَقنتُ في الصلاة بالدعاء لهما بأن يَفُكَّ الله أسرَهُما، ويَرفَعَ العذاب والعنَتَ عنهُما، ويَذكرهما باسمهما، أين الخطباء؟! أين الأئمة؟! أين القنوت؟! ((المسلِمونَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كالجسَدِ الواحِدِ)) ، أين المعونات؟! أين مجلِس الأمن؟! هذا المجلس هو المجلس الاستعماري، هذا المجلسُ الذي يقودُهُ أصحاب الفيتو، أصحابُ الفيتو يَحكُمُون على العالَم، ولا يَحكُمُ عليهِم القانون، بل يَدوسون القانون بأقدامِهِم، والأمم مُتقبِّلَةٌ لهذا القانون الجائر المستخِفِّ بالإنسان أفرادًا وشعوبًا وأممًا وجماعاتٍ.. ولَمَّا اعتَدَى العراقُ على الكويت قامت قيامتُهُم، فهل يا ترى هذا مِن أجل الكويت والكويتيين أم مِن أجل البترول ومِن أجل مصالحهم الاقتصادية والاستعماريّة؟! والمسلمون في غياب ونوم.
طلَعَ الدِّينُ مستغيثًا إلى الله
وقالَ: العِبادُ قد ظلَمُونِي
يَتسمّونَ بي وَحَقُّكَ لا أَعرفُ
مِنهُم أَحدًا ولا يَعرِفُونِي
ولا تَيأسوا مِن رَوح الله، فالإسلامُ آتٍ لا ريبَ فيه، والسنون القادمة في مخاض وسيولد الإسلام، ولكن أخشى ما أخشاه أن يَظهَرَ الإسلام ويُولَد على طريقِ قولِ الله تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد:38]، وواقعُ المسلمين أنَّنا لسنا مُهيَّئين لأن يُولَدَ الإسلام فينا مِن جديد، أمَّا الأمم الراقية فهي المهيَّأة.. نسأل الله أن لا يَحرِمنا مِن العودة إلى إسلام القرآن وإسلام السُّنَّة وإسلام العقل والفِكْرِ والحياة والتقدُّمِ والوحدة.. وهذه كلُّها مِن ظلال الإسلام.
خَلْق الله كله بنظام وتقدير
﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ﴾ [الحشر:24] ما الخالقُ؟ الذي لا يخلُقُ شيئًا إلا بنظام وبقانون وبتقادير وبأبعادٍ وبمقاييس.. انظر إلى المواليد، فإذا كان هناك مليون رجلٍ، تجد مقابلهم مليون ومئة ألف امرأة، وهؤلاء المئة ألف زيادة هنّ “استبنة” احتياط، فهناك المرأة العاقر، وهناك المرأة المُزْمِنَة، وبهذا يَكون عند الرِّجالِ احتياط، فيأخذُوا الزوجة الثانية، ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [الرعد:8]، ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [آل عمران:2].
يُقال: إنَّ أحدَهُم رأى خنفساء، فقال: يا ربِّ ما فائدة هذه الخنفساء؟ لماذا خلقتَها؟ وهل مِن شأنِكَ أن تخلُق الخنافِس؟ اخلُقْ غزلانًا، فهذا معقول، أو اخلُق خيلًا، وهذا معقول أيضاً، أو اخلُق نخلًا.. فخرَجَ بجسَدِهِ دُمَّل وعجَزَ نخبة الأطباء عن معالجته، وإذ بمنادٍ يُنادِي في الشارع: “طبيب طبيب”، وكان الأطباء في زمانهم مثل “بائعي الخِيَار” ينادون بالشارع، [الخِيار: هو النبات المعروف، حيث يبيعه بعض البائعين المتجوِّلين مع الخضار.. ويقول سماحة الشيخ ذلك بشكل فكاهي، ويشير بهذا إلى بساطة ذاك الطبيب، لكن هذا كان موجوداً عند البدو، فكان الأطباء من البدو ممن لهم معرفة بالطب -وخاصة في معالجة الأسنان- يمشي أحدهم في شوارع القرى، ويقول منادياً: طبيب طبيب.. ولا ريب أن هؤلاء كانوا أطباء شعبِيِّين ولم يكونوا بمستوى الأطباء الدارسين] فقال: أحضِرُوا هذا الطبيب، قال له أهله: إنّ الأطباء العظماء المختصِّين ما نجَحُوا، قال لهم: أحضِرُوه.. فأحضَرُوهُ، فلما نظَرَ إلى الدمَّلة قال: إنّ أمرها بسيط، ودواؤُكَ خُنفَساء، تحضِرُ خنفساء وتَقتلها وتُحرِقُها، ثم تأخذ رمادَها وتضعه على الدمَّل، فتُشفَى.. فلما فعل ذلك شُفيَ، فقال: يا ربِّ كما قلتَ في كتابِكَ الكريم: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا﴾ [ص:27].
وقرأتُ في بعض المجلات أنَّهم اكتَشَفُوا في أمريكا بعضَ الخنافس، واكتشفوا عمَلَها الذي خُلِقَت له، فهي تأكُلُ بعض الحشرات المتلِفة للزروع، فأحضَروا هذه الخنافس وجعلَوا لها حقلًا لتكثيرِها، وصارت أمريكا تُصدِّرُها إلى بلدان العالم.
من فوائد ورق الدُّرّاق
وروى لي من مُدَّة أحدُ الأصدقاء وكنتُ عنده، قال لي: زارَني طبيبٌ ياباني، وحدثني عن فائدة ورق الدُّرَّاق، هل تعرفون الدُّرَّاق؟ الفاكهة الكبيرة التي لها نَمَشٌ ووَبَر، قال: يُخفِّفُ وزن الإنسان إذا كان زائداً، ويُقلِّلُ قابلية الطعام، هذه واحدة، والثانية أنه يَقضِي على الحساسية، والثالثة أنه ينزِلُ “الأسيد أوريك” الذي هو حامض البول.. وأنا اليوم وأنا في طريقي إليكم كان معي في السَّيارة أحَدُ إخوانِكُم الأطبَّاء الجرَّاحين الأستاذ بسَّام الشاعر، وأنا أُكلِّمُهُ قال لي: واللهِ أنا جرَّبتُهُ في البيت، وواللهِ يا شيخي مِن أول يومٍ ظهرت النتيجة.. يبدو أن زوجته تحتاج إلى تخفيف وزن، قال لي: صار أكلُها قليلًا، وكان معها إمساك فزال الإمساكُ، قلتُ له: كيف تستعملُهُ؟ قال لي: ورقةٌ واحدة في إبريق الشاي.. فوَرَق الدُّرَّاق لِماذا خلقَهُ الله؟ ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ﴾ [آل عمران:191] ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [ص:27]، والآن صار حالُ المسلمين كحالِ الذين كفروا، يقولون: لماذا خلَقَ الله ورَقَ الدُّرَّاق؟ ولماذا خلَقَ ورقَ المشمش؟
دعوة المسلمين إلى التفكر في خلق الله
أمَّا العلماءُ فإنهم يَدرسون الدِّيدان في قِيعان البحار والجراثيم والفيروساتِ والميكروباتِ، وهذا هو الإسلام، فيجبُ عليك أن تَدرُسَ كلَّ شيء في هذا الوجود، ونحن مع الأسفِ: ((مَن يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا يُفقِّهُهُ في الدِّين)) ، وهذا مِن الدِّينِ، ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [يونس:101]، انظُروا ماذا في الأرض؟ يُوجَد بترولٌ ومعادن ومياه وغيرها، وكذلك في السَّماواتِ.. ومَن الذي يُطبِّقُ هذه الآية؟ أمريكا وروسيا وأوربا واليابان.. وأين الشافعية والأحناف والسلفية والصوفية؟! هم مشغولون، أحدهم يقول لك: الدِّين تطويلُ اللحية، والآخر يقول: لا، نصف لحية، والآخر يقول: لا، ربع لحية، والآخر يقول: في الصلاة يجب أن تُباعِد المسافة بين قدميكَ، ويديك يجب أن تجعلهُما هكذا، لماذا [تباعِد بين القدمين؟] قال: حتى لا يَدخل الشيطان بين المصلين.. نعم هناك حديثٌ ورَدَ في ذلك.. حسنًا إذا فتَحَ المصلِّي رجليه ربَّما دخَلَ الشيطان بين رجليه. [سماحة الشيخ يضحك ويضحك الحضور معه].
نحن نمتثل كلامَ النَّبيِّ ﷺ، وكلامُه على الرأس، وأن تقصِّر ثيابَكَ مِن السُّنَّة، لكن لا يجوز أن نجعل هذا الأمر هو الإسلام، وأن نهتمَّ ونصرِفَ كلَّ طاقاتنا في الأمور البسيطة، ونترُكَ الأمور العظيمة الجليلة التي يَتوقَّف عليها بقاءُ الإسلام وزحف الإسلام، فانتصارُنا بالإسلام مِن القرآن العملي؛ الذي هو فقه القرآن وفِقه السُّنَّة الحقيقية، والتي هي قولًا وعملًا.. إنّ مِن سُنَّة القرآن التَّدرُّج في هداية الخلق، كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تقول: “لو أنَّ الله حرَّم الخمر في أوَّل الإسلام لَمَا دخَلَ في الإسلام أحدٌ” ، ﴿يس وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ﴾ [يس:1-2]، فأين الدعاة إلى الله من الحكمة؟! كثيرٌ مِن الإسلاميين يُحارِبون، ولو أننا طبَّقنا الشرعَ بحقيقته العميقة لوجدنا أنَّ هذا القتال حرام، واليومَ سمعتُ في الإذاعة عن مقتل بعض السائحين في مصر، وهذا حرام، هذا الرجل اسمُهُ “مُعاهَد” لأنَّه دخل بأمنٍ وأمانٍ، وهذا يُعامَل كالذِّمِّيِّ المواطِن، فلهم ما لنا وعليهم ما علينا، واليهود في أوروبا وأمريكا يَستغلُّون هذا الحادث ويقولون: انظروا إلى المسلمين، وهذا هو الإسلام؛ الهمجية والوحشية وكذا وكذا.
طلَعَ الدِّينُ مستغيًثا إلى الله
وقالَ: العِبادُ قد ظلَمُونِي
يَتسمّونَ بي وَحَقُّكَ لا أَعرفُ
مِنهُم أَحدًا ولا يَعرِفُونِي
﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ﴾ ما الخالق؟ المقدِّر، يُقدِّر النطفة في أحشاء الأمِّ كم شهرًا؟ يُقدِّرها تسعة أشهر، وقد يكون ستة أشهر.. ويقدِّر بلوغ الإنسان بكذا، والصيف في وقت كذا، والشتاء.. إلخ، ويُقدِّر تركيب الهواء بكذا، وبعدما يُركِّب هذا التركيب يُنفِّذ، ثمَّ بعد ذلك يُصوِّر، ﴿الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ﴾ يُصوّر كلَّ شيء بحسب ما يَليقُ به، ﴿لَهُ الْأَسْمَاءُ﴾ والصِّفات ﴿الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، لا يُوجَد شيء في هذا الوجود إلَّا ويُنزِّهُ اللهَ عن كلِّ نقص، ويَصفُهُ بكلِّ كمال، سواءٌ كان بلسان المقال -وكلُّ شيء بحسب نُطقِهِ ولسانه- أو بلسان الإشارة والبحث والتفكُّر، ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وهو الْعَزِيزُ﴾ الذي لا يُقهَر ولا يُغلَب ولا مثيلَ له ولا نِدّ، ﴿الْحَكِيمُ﴾ [الحشر:24] الذي لا يَعمَلُ شيئًا إلا بمنتهى الحكمة والدِّقَّة والكمال.
القرآن رحمة وشفاء للمؤمنين
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلَنا مِن الذين قال فيهم: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ فهل القرآن الذي نقرؤُهُ بالمصحف أو نسمعُه في الراديو يكون شفاءً من أمراضنا الاجتماعية، أو من أمراضنا العقلية، أو مِن تخلُّفِنا، أو من ضَعفنا، أو مِن فُرقتنا، أو من عداواتنا؟ لا، لأننا لسنا مؤمنين بالمعنى الذي أرادَهُ القرآن، وإذا لم ننتفع بالقرآن، وما شفانا القرآن مِن أمراضنا، ولم يَرحمنا بإنقاذه لنا مِن وهدتنا فنحنُ مِن الظالمين للقرآن، ﴿ولَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء:82]، وكلَّما نقرأ القرآن نرجع إلى الوراء، وضعفُنا يَزداد، وفُرقتنا تزداد، وأحقادنا تزداد، وتخلُّفنا يزداد.
يقال: مات ميَّتٌ، ومن عادةِ الناس عندما يموت الميت أنهم يضعونَ عند قبرِهِ خيمة، ويُحضِرون قارئ قرآن يقرَأ على الميت، فجاء الميت بالمنام إلى بعض أهله وقال له: أرجوكم، أُقبِّلُ أرجلَكم، هذا الشيخ أبعِدُوهُ ولا تتركوهُ يَقرأ على قبري، فاستيقظ متعجِّباً، وقال في نفسه: هذا قرآن ورحمة.. ولم يلتفت كثيرًا للمنام، ثم في الليلة الثانية والثالثة رأى المنام نفسه، فقال له: لِمَ نمنعُ قراءة القرآن على قبرك؟ قال: لأن الشيخ يقرأ: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 18]، وأنكر ونكير يكونان قاعدَين والسياط في أيديهما، فيقولان: يا ملعون ألم تكُنْ مِن الظالمين؟! لقد ذكَّرنا الشيخ بذلك، [يضحك الشيخ والحضور]، قال: فيكسران مُخِّي ورأسي، ثمَّ يَرجِع رأسي كما كان، وعندما يتعبان يرتاحان، ثم يقرأ الشيخ: ﴿لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران:61]، ويقرأ: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾ [المطفّفين:1-2]، يعني أنه عندما يَذْكُرُ الناسَ يَذْكُرُهُم بالنقائص والعيوب، ويُحاسِبُ الناس، ولكنه لا يُحاسبُ نفسَه
لَه حَقٌّ وَلَيسَ عَلَيهِ حَقٌّ
وَقَولُ الحَقِّ بُهتَانٌ وَزُورُ
يقولون له: يا ملعون، أنت أما كنتَ مِن المطفّفين؟ كنتَ ترى الشعرَةَ بعين غيرِكَ خشبة، والخشبة بعينِكَ تراها شعرة، قال له: فيضربونني، أرجوكم لا تتركوا أحدًا يقرأ قرآنًا، لا عبد الباسط عبد الصمد ولا الشيخ الفلاني، إلى آخره.
رُبَّ تالٍ يَتْلُو القُرَانَ بِفِيهِ
وَهْوَ يُفضِي بِهِ إلى الخُذلانِ
فنسأل الله أن يجعلَنا مِن الذين يَستمعون القول فيَتّبِعون أحسنه، واجعلنا اللهم هادينَ مَهْدِيِّيْنَ، ولا تجعلنا ضالِّينَ ولا مُضِلِّينَ.