تاريخ الدرس: 1994/11/25
في رحاب التفسير والتربية القرآنية
مدة الدرس: 01:29:47
سورة القيامة، الآيات: 20-40 / الدرس 5
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصَّلاة وأتمّ التسليم على سيِّدنا مُحمَّد خاتم النبيين والمرسلين، وعلى أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيِّدنا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين، وآل كلٍّ وصحب كلٍّ أجمعين، وبعد:
مراحل حياة الإنسان
فنحن الآن في تفسير سورة القيامة، وحياة الإنسان مراحل، تبدأ حياته عندما يكون حيوانًا منويًّا من الرجل فيلقح البويضة من المرأة فيمتزجان، ويتكون منهما الإنسان؛ لكنَّه إنسان في مرحلة الحيوان المنوي، فيعلق بجدار الرحم ليتغذى بالدم، فينمو مرحلةً فمرحلة حتَّى يتم خلقه، فتتركب عظامه وعضلاته وتمدد شرايينه وأوردته وأعصابه.
حتَّى إذا استُكمِل خلقُه أُذن له بالخروج، ولو كان له عقل وإدراك وفهم ووعي وقيل له: إنَّ عالَـمًا اسمه الدّنيا فيه الشّموس والأقمار والمشرق والمغرب والبحار والسّهول والجنان والبساتين، فما رأيك أنْ نخرجك من أحشاء أمك إلى ذلك العالَم؟ فلعله يقول: لا، أرجوكم أريد أنْ أبقى في وطني، لأنَّ حبّ الوطن من الإيمان، ولن يصدق بأنْ يكون هناك عالَم أكبر من عالمه الذي يعيش فيه، فلم يترك الله عزَّ وجلَّ للإنسان الخيار، ولو ترك له الخيار لبقي مدفونًا في قبر رحم أمه لا نور ولا شمس ولا قمر ولا حدائق ولا أنهار ولا بساتين.
والآن وهو في عالَم الدنيا كحالته وهو في أحشاء أمه، فلو أوتي العقل وهو في بطن أمه فلن يدرك بأنَّ له حياةً بعد تلك الحياة، كما أنَّ الإنسان على وجه هذا الكوكب لا يعلم أنَّ هناك حياة بعد هذه الحياة، ونسبتها إلى هذه الحياة كنسبة الدّنيا إلى حياة الجنين في بطن أمه، لذلك يقول سيِّدنا مُحمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام وعلى جميع إخوانه من النبيين: ((ما شبهت خروج المؤمن من الدنيا إلى سعة رحمة الله)) يعني إلى عالَم السماء ((إلَّا كما يخرج الجنين من بطن أمه إلى سعة الدنيا)) 1 ، ويقول في حديث آخر: ((أرأيتم لو أنَّ أحدكم وضع إبرةً في بحر، فماذا تحمل من ماء البحر؟)) إنْ غُمِسَت الإبرة في البحر فماذا ستحمل؟ قال: ((فحياتكم على هذا الكوكب في الدنيا كمثل الماء الذي علق برأس الإبرة، وحياتكم في الآخرة كمثل ما تبقى في البحر المحيط)) 2 . [يذكر سماحة الشيخ الحديث بالمعنى، والنص مذكور في الحاشية]
أكرم الله عزَّ وجلَّ الإنسان بوحي السماء ليعلمه ما قصر عنه عقله
إنّ الإنسان جاهل، والله عزَّ وجلَّ أكرمه بوحي السماء الذي يعلمه ما قصرت عنه أفكاره وتفكيره وعقله ومداركه، فعين الإنسان لا تستطيع أنْ ترى جسم الهواء ولا أنْ ترى الصور التلفزيونية بلا جهاز تلفاز، ولا تستطيع الأذن أنْ تسمع الإذاعات بلا جهاز راديو، وكذلك عالَم الروح بعد حياة الجسد، فلا يمكن إدراكها إلَّا بوحي السّماء أو بانطلاق الرّوح من تعلّقها بجسدها ومن سجنها الجسدي إذا تعلّقت بمحبة الله عزَّ وجلَّ وانغمست في بحار ذكر الله سبحانه وتعالى، فيصير لها من الانطلاق ما تستطيع أنْ ترى عالَم الغيب وعالم السّماء، كما كانت رؤية الأنبياء ورؤية الأولياء.
مرّ حارثة رضي الله عنه بِالنَّبي ﷺ فَقَالَ لَهُ: ((كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟)) قَالَ: “أَصْبَحْتُ مُؤْمِناً حَقّاً”. هناك مؤمن حقيقي وهناك مؤمن ادعائي أو انتسابي.
قَالَ: ((انْظُرْ مَا تَقُولُ: فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟)) قَالَ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ عَرْشَ رَبِّي بَارِزاً”، يعني كأنِّي أنظر إلى عظمة الله عزَّ وجلَّ في عظمة عرشه.
“وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا”، قَالَ: ((يَا حَارِثَةُ، عَرَفْتَ فَالْزَمْ)) 3 وهذا ما يسمّى بمقام الإحسان ((أنْ تعبد الله كأنَّك تراه، فإنْ لم تكن تراه)) وإذا لم تصل إلى مقام أن ترى الله في نفسك وفي كل تحركاتك، فعليك بالدّرجة الدّنيا وهي: ((فإنَّ الله يراك)) 4 ، فالمؤمن بين أنْ يرى الله عزَّ وجلَّ وعظمته ونوره الذي يملأ قلبه ويملأ مرآة روحه أو يرى أنَّ الله عزَّ وجلَّ يراه، فلا تراه مقصرًا في طاعته وتقواه وفي امتثال أمره والوقوف عند حدوده.
القيامة هي يوم يقوم النَّاس لرب العالمين
فالقيامة كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاس لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين: 6] ويوم تكون الرّحلة بكل جنس الإنسان من هذا الكوكب بعد انفجاره واحتراق بحاره وتطاير جباله حتَّى تصير بتفتتها كما قال تعالى: ﴿كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾ [القارعة: 5] يعني كالقطن المنتوف، فتصير هباءً منثورًا وكما قال الله في القرآن: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾ [إبراهيم: 48] وقد تنفجر مجرتنا أيضًا وتندثر وننتقل إلى مجّرة؛ الله بها عليم.
يُسأل الإنسان يوم القيامة عما فعله بجوارحه
وهناك ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاس لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين: 6] في محكمته وبين يديه ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ [الطارق: 9] فكلّ أسرارك وخفايا نفسك وما كنت تحجبه عن النَّاس يصير ظاهرًا مكشوفًا أمام الله عزَّ وجلَّ، ويؤتى بكتاب أعمالك وما فعلته في حياتك على هذه الأرض في كتاب ﴿لَا يُغَادِرُ﴾ يعني لا يترك ﴿صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ [الكهف: 49]، فكل أعمالك محصاة عليك، فنظرتك إنْ نظرت نظرةً يرضى بها الله عزَّ وجلَّ أو نظرةً يغضب بها الله فهي مسجلة بشريط الفيديو الإلهي، ليس الإنساني، فشريط الفيديو الإنساني أمره بسيط، أمَّا الفيديو الرباني كما قال تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ﴾ [الإسراء: 36] نواياك وسرائرك إذا كانت خبيثةً من حقد أو حسد أو مكر أو خيانة أو نية سوء بغير حق، فكلّها ستُكشف أمام الله عزَّ وجلَّ ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ [الطارق: 9] ستهتك وتكشف أمام الله عزَّ وجلَّ، فأيّ قوة تستطيع أنْ تحامي وتدافع عنك؟ وأي صديق يستطيع أنْ يناصرك؟ قال تعالى: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ﴾ [الطارق: 9-10].
القرآن يقول: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ ما يدور في أفكارك من خير وشر، ومن نفع وضرّ، ممَّا يرضي الله عزَّ وجلَّ أو يسخطه ﴿وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق: 16] قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: 119] وقال تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [النحل: 19]، فالمؤمن ليس الذي لا يعمل الشرّ، بل هو الذي لا يفكر فيه ولا يخطر على باله، ليس الذي لا يظلم، بل الذي لا يفكر بالظلم، ولا الذي لا يخون، بل الذي لا يفكر في الخيانة، يقول الله تعالى: ﴿وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق: 16] وما معنى نعلم؟ يعني نعلم وسنحاسبك وسنجازيك على السوء سوءًا وعلى الخير خيرًا، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7-8].
الجهل المركب
يبين الله عزَّ وجلَّ في سورة القيامة للإنسان الخام، [الذي يحب الدنيا العاجلة ويذر الآخرة الباقية]، فالحديد الخام في الجبال والتراب لا قيمة له، والنحاس والمعادن والبترول في باطن الأرض لا قيمة لها؛ ولكنْ عندما تُستخرج وتُصفى وتُصنع فهنالك تكون لها القيم العالية، فكذلك هناك الإنسان الخام مثل الحديد في الجبال لا أحد ينتفع منه، وهناك الإنسان المصنَّع الذي تعلَّم كتاب الله ودخل في مدرسة الله عزَّ وجلَّ، وصار له المعلّم الرّبّاني والرّوحاني والعقلاني الذي يعلمه كتاب الله، يعلّمه كما يُعَلِّم الإنسانُ الإنسانَ الآخرَ عن الأفعى، فإنْ عَلِمَها العلمَ الحقيقي كيف يَتَحَرَّز منها ويتحفظ! ولـمَّا يُعَلِّمُه الذهب فكيف يحرص عليه ولا يضيعه! فالعلم الحقيقي هو الذي يدفع صاحبه إلى مقتضى العلم والمعرفة، أمَّا إذا تعلّم ولم يعمل بمقتضى العلم فهذا الجاهلُ المضاعَف والجاهل المركَّب؛ عالِم ولا يعمل بعلمه، يعلم بأنَّ الكذب حرام ويكذب، ويعلم بأنَّ الغيبة حرام ويغتاب، ويعلم بأنَّ أكل الحرام حرام ويأكل الحرام، فهذا عذابه مضاعف؛ وعذابه على ارتكاب المعصية وعلى عدم عمله بعلمه، لذلك يقول بعضهم
قال حمار العليم يومًا لو أنصف الدهر ُكنت أركب لأنَّني جاهل بسيط وصاحبي جاهل مُرَكَّب
فأنا لا أعلم الحلال من الحرام، وأمَّا صاحبي فيعلم الواجب ويتركه ويعلم الحرام ويرتكبه، ففي سورة القيامة يريد الله عز وجل للإنسان الخام أن يكون الإنسان الرباني والإنساني الذي يحبّ كل النَّاس ولو كانوا على غير دينه، ويقول النَّبيُّ مُحمَّد ﷺ: ((الإنسان أخُ الإنسان أحب أم كره)) 5 ، ولو اختلف دينه أو لونه أو وطنه، فهذا لا يكون مستساغًا لأنْ تظلمه أو تهضم حقه، فلهم ما لنا وعليهم ما علينا.
أنزل الله تعالى القرآن لسعادتك
فلماذا لا يمشي الإنسان على هدي القرآن بعد أنْ نَزَل وعَلِمَه الإنسان، ولماذا لا يمشي على صراط الله المستقيم ليسعد في الدنيا والآخرة؟ فالله عزَّ وجلَّ أنزل القرآن ليس من أجل سعادتك في السّماء فقط؛ بل لتسعد في الأرض قبل أنْ تسعد في السماء، قال الله تعالى عن سيِّدنا إبراهيم عليه السَّلام: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [العنكبوت: 27] لماذا هذه الآية؟ المعنى أيّها المؤمن كنْ كإبراهيم عليه السَّلام، وكن كالذين آتيناهم في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، كنْ في زمرة الصالحين، وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾ فَهْمَ رسالة الله عزَّ وجلَّ وكانوا نجباء في مدرسة الله ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾ عِلْمًا بأن تعلموا، وعملاً بأن عملوا الصالحات، وقلبًا وفكرًا ونيةً وهمةً وعزيمةً ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾ الحياة الحسنة والصحة الحسنة والكرامة الحسنة ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ فحسنتها خير من حسنة الدنيا ﴿وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾ [النحل: 30].
فهذا القرآن كتاب واحد وأستاذ سماوي رباني واحد؛ أتى إلى أمّة تعيش في الصّحارى والأشواك، وأشدّ ما تكون فقرًا وجهلاً وأمِّيةً، فلمَّا تثقفت بهذه المدرسة وبكتاب واحد وواحد فقط، صارت: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110] خير أمة في ضميرها وأخلاقها وعقلها وحكمتها، وفي دنياها وحياتها، وما مضت مئة سنة حتَّى استطاعوا أنْ يوحّدوا نصف العالَم القديم من بكين إلى حدود فرنسا، فكانوا أمّةً واحدةً فيها العدالة وحق الحياة والكرامة للجميع مع اختلاف الأديان والألوان والقوميّات، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].
حالة المسلمين اليوم لا تسر الصديق وتفرح العدو
فلماذا المسلمون الآن في حالة لا يُحمدون عليها، فلا تسر الصّديق بل تفرح العدو؛ لأنَّهم بَعدوا عن كتاب الله وبعدوا عن هدي السماء، فما لم نعد إلى كتاب الله ومدرسته معلمين ومتعلمين في كل أعمالنا وأفكارنا وتقلباتنا؛ وإلَّا فسيتخلَّى الله عزَّ وجلَّ عنَّا، وعلى الرّغم من تقدم الأمم الأخرى ماديًّا فهي في عذاب أيضاً، فكم أذهبت الحربان العالميتان من جيوشهم وشعوبهم! وكم دمرت من أوطانهم ومساكنهم ومصانعهم! وهم الآن على أعتاب حرب نووية قد تُقيم معها القيامة وتفنى الحياة على كوكبنا إن لم نرجع إلى قانون الله عزَّ وجلَّ، وما الذي يمنعنا؟ يمنعنا كما قال تعالى: ﴿تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾ [القيامة: 20] نحب الحياة العاجلة الحالية وحياة الجسد، مع أنَّ كلّ واحد منَّا يرى أنَّ حياة الجسد مهما طالت فلا تتجاوز الستين أو السبعين أو الثمانين سنة، والمرحلة الأخيرة من الحياة مرحلة العجز والأمراض والعاهات والأرق في النوم وعدم الراحة، وقد يكون عدم الحياة خيراً من الحياة في آخرها إذا لم يكن صاحبها مشغولاً بالتزود للدار الآخرة.
فما الذي يمنعنا من الاستعداد للحياة الأبدية الخالدة التي يكون فيها شباب لا يعقبه هرم وصحة لا يخالطها مرض ولا سقم وحياة ليس معها موت؟ وما الذي يمنعنا ويحجبنا عن العمل للاستعداد لهذه الحياة؟ ومن أخبرنا بها؟ هل الشرطي؟ فالشرطي قد يَصدُق وقد يكذب، وكذلك الطبيب والمهندس قد يخطئ وقد يصيب؛ أمَّا وحي السماء فقال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3-4]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ [النساء: 87]، وقال أيضاً: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ [النساء: 122]، فالقول قول الله والحديث حديث الله: شباب بلا هرم وصحة بلا مرض وسقم وعزٌّ بلا ذل ولا هوان ونعيم لا يخالطه شقاء.
رسالات الأنبياء لا تناقض بعضها البعض
فهذا خبر السماء بواسطة أشرف الملائكة جبريل عليه السَّلام، وبوساطة أشرف المخلوقات سيِّدنا مُحمَّد ﷺ الذي أتى بنبوة ما أوتيها نبي قبله، فأتى مصدقًا بتوراة موسى عليه السلام وداعيًا إلى العمل بها مع تمحيصها ممَّا داخلَها من شروح وترجمات، دخل من خلالها الأخطاء؛ مثل اتهام نبي الله لوط عليه السلام بأنَّه كان سِكِّيرًا وأنَّه زنى بابنتيه وحملتا منه، فنبي يسكر ويزني بابنتيه! وما يُنسب إلى داود عليه السَّلام بأنَّه عشق زوجة أحد جنوده فأرسله إلى الحرب ليُقْتَل ليرث زوجتَه! فالقرآن ينزّه داود ويغار على داود النَّبيّ الإسرائيلي أكثر ممَّا تغار عليه اليهود وبنو إسرائيل، فيقبل من التّوراة ما يليق بقدسيّة الأنبياء وما يتلاقى مع العقل الكامل وما يقبله الطبع السليم.
كذلك دعا إلى الإيمان برسالة سيِّدنا المسيح، لأنَّ رسالات الأنبياء لا يناقض بعضها البعض، وإنَّما يأتي ثانيها مكملاً لأولها، وثالثها مؤكداً لثانيها، كما يقول النَّبيُّ الكريم ﷺ: ((مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل قوم بنوا دارًا فأكملوه إلَّا موضع لبنة)) ثمَّ يقول عن نفسه: لست أنا مَن بنى تلك الدار، ولست أنا مَن بنى ذاك المنزل، إنَّما كان يُشَكِّل اللبنة الأخيرة ((فأنا كنت تلك اللبنة)) 6 ، إذن، فمجموع الدين هو بالإيمان بكلّ الأنبياء وبكلّ رسالاتهم.. وقد دخل على الأديان دخائل خارجية شَوَّهَت الدّين، حتَّى صار العلمانيون يرفضون الدين لدخول الدخائل عليه التي شوهت جماله.
ولذلك نفى العلماء المختصّون في علم الحديث مئات الألوف من الأحاديث التي نسبت لرسول الله ﷺ وهي مزورة عنه، ولو وُجِدَ في الأديان الأخرى من يَنقُد ما ينسب إلى أنبيائها ممَّا لا يليق بمقام النبوة لاجتمعت الأديان كلها تحت قبة واحدة، وكلّ نبي وضع في ذلك البناء لبنةً، وكان مُحمَّد اللبنة الأخيرة، وكما يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ يعني شريعتكم شريعة واحدة، قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ﴾ والقرآن يقول للمسلمين ﴿مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا﴾ الذي أنتم عليه هو ما أوصى الله به نوحًا ﴿وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13]، فتفرق اليهود عن النّصارى والنصارى عن المسلمين والمسلمون عن الآخرين، والقرآن يقول: الدين واحد وكلّ نبي أتى بلبنة حتَّى كمل البناء.
بينما نجد المسيحيين مئات الطوائف، والمسلمين مئات المذاهب، واليهود مئات العقائد، وكل هذا خلاف منطوق وحي السماء، لذلك تحتاج الأديان إلى ثورة وإلى تجديد يلتقي فيه وحي السماء أو “عقل السماء” مع العقل الجزئي الذي وضعه الله عزَّ وجلَّ في دماغ الإنسان؛ لأنَّ العقل في دماغ الإنسان هو جزء من العقل السماوي، ولا يمكن للجزء أنْ يتباين ويختلف عن العقل الكلي الذي هو أصله ومنبعه. [يستخدم الشيخ كلمة “عقل السماء” لشرح الفكرة وإيضاحها، وقد بَيَّن في بداية حديثه أنه يقصد “وحي السماء”، والمعنى واضح بأن العقل البشري من خلق الله تعالى، وهو لا يناقض المنهج الرباني والحكمة الإلهية، فالعقل لا يناقض الدين الصحيح، والمخلوق لا يناقض الخالق].
وضح القرآن الحقائق الخالدة في عالَم السماء
فلماذا وضّح القرآن الحقائق الخالدة في عالَم السماء وفي الحياة الأخيرة السرمدية؟ لماذا؟ والقرآن كله يدعو بطريقة العقل والمنطق والإقناع والحكمة، قال: لأنَّ النَّاس غلبت عواطفهم وشهواتهم على عقولهم وتفكيرهم، فانظر إلى الطفل تراه بشهوته يأخذ الحلوى الملوثة، ولا يمتلك العقل الذي يدرك به أنَّها ملوثة وقد تضرّه وتمرضه، وكذلك هناك رجال تتغلب عواطفهم على عقولهم وشهواتهم على تفكيرهم، وأنانيّتهم على دستور ربّهم، وفي نهاية الأمر: فلو نجحوا في بداية المرحلة، لكنَّهم سينهزمون ويخسرون في آخر المرحلة أو في وسطها أو في أي جزءه منها.
فلماذا يُعرِض الإنسانُ عن ثقافة السماء وعن وصايا الله عزَّ وجلَّ وعن رسالات الأنبياء؟ وهذا مع وضوحها دراسةً وفكرًا وعقلاً وتاريخًا وواقعيًّا.. ادرس الإسلام! فلماذا جعل الله عزَّ وجلَّ الحج في مكة في وادٍ غير ذي زرع وفي صحراء وشمس محرقة؟ ليعلم المسلم عندما يذهب إلى هناك أنّه من هذا الوادي الخالي من الماء والزرع والحياة يخرج النبع [أي الإسلام] الذي يحيي العقول ويحيي القلوب ويحيي الأجساد ويحيي الإنسانية ويحيي العدالة ويحيي الأخلاق، فيقول: إن هذه معجزة لا يستطيع أن يصنعها إلَّا خالق هذا الكون، فلا إله إلا الله محمد رسول الله.
يقتضي الإيمان بالقرآن ألّا تحب العاجلة على حساب الباقية
فكيف حالكم؟ والله يندّد ويوبّخ ويحقّر من يكون همه العاجلة، فهل أصغيتم إلى نصيحة الله عزَّ وجلَّ لتفضلوا الآخرة على العاجلة والباقية على الفانية؟ وهكذا يقتضي الإيمان بالقرآن، فإنْ قال الله عزَّ وجلَّ لا تحبّ العاجلة فالزوجة من العاجلة والمال من العاجلة، فهل المقصود أن نعيش بلا زوجة وبلا مال وهذا غير ممكن؟ فقال: لا، قال تعالى: ﴿وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ﴾ [القيامة: 21] فالمذموم: هو أنْ تحب الدنيا وتترك الآخرة، وأمَّا أنْ تحبّ الدنيا وتحب الآخرة وتجمع بينهما فتكون كطائر بجناحين فهذا غير مذموم، أمَّا إن كان بجناح واحد فسيسقط الطائر ويكون مأكلةً للقطط والكلاب.
ولـمَّا أحب المسلمون العاجلة وتركوا الآخرة، وتركوا أحد الجناحين فسقطوا، وصارت تأكلهم الأمم، كما هو مشاهد في عصرنا الحاضر.
أنواع الجهاد في سبيل الله
فإذا قرأنا في القرآن: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾ ما العاجلة؟ الحياة العاجلة بأن نستمسك بها ونحرص عليها، فإنْ دعينا للجهاد لا نجاهد.. والنَّاس لا يفهمون الجهاد بأبعاده الصحيحة، فالجهاد على ثلاثة أنواع: جهاد كبير وجهاد أكبر وجهاد أصغر، فما الجهاد الأصغر؟ وما الجهاد الأكبر؟ عرّف النَّبيُّ ﷺ بقوله لـمَّا كان عائداً من محاربةِ الوثنيين عبدة الأصنام الذين كانوا أشبه ما يكونون بالحيوانات والوحوش ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ﴾ [التوبة: 32] فكان إذا عاد من معركته معهم يقول: ((رجعنا من الجهاد الأصغر)) جهاد العدو ((إلى الجهاد الأكبر)) 7 ، جهاد النّفس والهوى وجهاد أنانيتك وشهواتك المحرمة عليك، فلم يحرم الله عليك كلّ الشهوات؛ فتشتهي الإجاص والبقلاوة والعسل، أفهذه شهوات محرمة؟ لا، بل حرّم عليك الشهوات الضّارة، فالرجل يشتهي المرأة وتشتهيه، فهل حرم الله التقاء الجنسين ببعضهما؟ لا، لم يُحَرِّم، بل دعاهما إلى الالتقاء، لكنْ ضمن القانون والنظام، لا في ظل الفوضى والإيدز وأمراض السفلس وما إلى ذلك من شقاء عجز عن معالجته كلّ ما وصل إليه الإنسان من تكنولوجيا وتقدّم في العلوم، فالجهاد الأكبر جهاد النّفس بأنْ تحوّلها من الجهل إلى العلم ومن الرّذائل إلى الفضائل ومن الكسل إلى الهمّة ومن الكذب إلى الصّدق.
أمَّا الجهاد الكبير فقد ذكره القرآن العظيم بقوله: ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 52] “به” إلى أي شيء يعود الضمير [حرف الهاء]؟ يعود الضمير إلى القرآن، يعني بلّغ رسالة الله عزَّ وجلَّ إلى الناس ولو تحمّلت من الجهد والتّعب والعناء ما تتحمل! فهذا جهاد كبير؛ فجاهد بالقرآن لتحوّل النَّاس من الظّلمات إلى النّور ومن الشّقاء إلى السّعادة ومن الجهل إلى العلم ومن الأنانية إلى “إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي”.
ذم من كان همّه الشهوات العاجلة
قال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾ فهذا ذم لمن لا يكون همّه في هذه الدنيا إلَّا الشّهوات العاجلة كالمال والولد والجاه والاستعلاء على النَّاس بغير حق، فهذا إنسان أمي ولو كان رئيسًا لأكبر جامعات العالَم.
﴿وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ﴾ فالمذموم من حب العاجلة أنْ تترك الآخرة، أمَّا إذا أحببت الدنيا والآخرة فهذا ما أراده الله عزَّ وجلَّ، ولذلك يقول في آية أخرى: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص: 77] ويقول سيِّدنا مُحمَّد ﷺ: ((ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته)) فمن يترك شؤون الدنيا من أجل الآخرة باسم الزهد والتقوى فقد قال عنه النَّبيُّ ﷺ بأنَّه ليس بأفضلكم، ((ولا من ترك آخرته لدنياه)) ولا أنْ نترك الآخرة ونترك أوامر الله عزَّ وجلَّ وتقواه وتعاليمه لأمور الجسد من أكل وشرب ونساء ومال، وهذا ليس بأفضل النَّاس أيضًا: ((ولكنَّ المؤمن يصيب منهما جميعًا)) 8 فيصيب حظّه من الدنيا ومن الآخرة.
المؤمن يسير كما أمره الله عزَّ وجلَّ
فالآن يخاطبكم الله عزَّ وجلَّ، فماذا سيكون جوابكم على كلام الله؟ فالله عز وجل يخاطبنا ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ﴾ [القيامة: 20-21] فيقول المؤمن: لا يا رب، فإذا كنت لا تحبّ هذه الأوصاف فسأحبّ الآخرة مع عملي في الدّنيا حسب وصيّتك؛ لأنَّك أمرتني أنْ أقول: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ [البقرة: 201]، لكنْ لو وقفت هنا لكان حالك مثل الشّيطان لـمَّا قيل له: هل تقرأ القرآن؟ قال: وكيف لا أقرأه وهو كتاب ربي! فقالوا: أسمعنا شيئًا ممَّا تحفظ. فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاة﴾ قالوا له: أكمل قوله: ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء: 43] قال: أنا لست مجبورًا أنْ أحفظ كلّ القرآن، وقد قال الله تعالى: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾ [المزمل: 20] فأضَلُّ الضّالين الذين يُضَلُّون بالقرآن، فيؤمن ببعضه ويكفر بالبعض الآخر، قال تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [البقرة: 85] فالآن المسلم يصلي ولا يزكي، يصوم ولا يحج مثلاً، يصلي ويكذب ويأكل الحرام ويغتاب ويحسد ويحقد ويتعدّى ولا يحفظ سمعه ولا بصره ولا لسانه ولا وقته، فالإسلام كلٌّ، كما السيارة كلٌّ، فإذا فقدت إحدى عجلاتها يكون وجودها مثل عدمها.
فلذلك احرصوا على أنْ نؤمن بكل كلمة من القرآن؛ فإذا سألكم الله يوم القيامة عن هاتين الآيتين إن كنتم تحبون العاجلة وتذرون الآخرة، أهكذا أوصيتكم؟ وهل هكذا علمتكم رسالتي إلى مُحمَّد؟ فماذا سيكون جوابكم؟ قَدِّروا أنفسكم أنَّكم متم ووقفتم بين يدي الله عزَّ وجلَّ وسألكم هذا السؤال! فستتمنون في ذلك الموقف أنْ ترجعوا إلى الدنيا لتصححوا أخطاءكم.. ولكنَّ هذا الأمل غير ممكن.
الانتباه لتصحيح الأخطاء في الدنيا قبل فوات الأوان
فصححوا الآن أخطاءكم وأحبوا الآخرة أكثر من الدنيا وآثروا رضاء الله عزَّ وجلَّ على أهوائكم وأنانياتكم ومصالحكم الشخصية، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 4] فالتقوى وثقافة القرآن تحتاجان لمعلم، قال تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [البقرة: 129] فالحكمة هي العقل الذي لا يخطئ في تصوراته وتفكيره وإنجازاته؛ لأنَّه يدرس الأسباب والمسبَّبات ولا يقدم على عمل إلَّا وينظر في العواقب سواءً عاقبة الدّنيا أو الآخرة، فماذا سيكون جوابكم؟ هل تحبّون العاجلة وتذرون الآخرة؟ هل يستطيع أحد منكم ممن يتصف بهذه الصفة أن يرفع يده الآن؟ يخجل أحدكم أن يرفع يده ويقول أنا أحب العاجلة وأذر الآخرة، وإن رفعها ماذا نفعل معه؟ لن نفعل معه شيئاً، أما غداً إن قال له الله عز وجل عندما يقف بين يديه: كنت تحب العاجلة وتذر الآخرة، وهذا مصيرك إلى جهنم وبئس المصير، وإن شككت بهذا بالمليار واحد فأنت كافر غير مؤمن، فإلى متى سنبقى في هذه الغفلات؟ وإلى متى ونحن نهجر القرآن؟ والقرآن ينعينا ويقول: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: 30].
في القيامة وجوه المؤمنين الأتقياء منيرة
﴿وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ﴾ [القيامة: 22] ففي ذلك الموقف في القيامة وجوه المؤمنين الذين قرؤوا كتاب الله فآمنوا به من أعماق قلوبهم ومن ذرّات وجودهم، وحولوه إلى أعمال في حياتهم وسلوكهم ومعاملاتهم، سيقومون يوم القيامة أمام الله عزَّ وجلَّ ووجوههم كلّها أنوار ومُنَوَّرة ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ [عبس: 38-39] وقال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ﴾ [القيامة: 22] وقال تعالى: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ [المطففين: 24] إذا كان أحدهم في صباح عرسه وكانت عروسه على أحسن ما كان يأمل ويرغب فكيف ترى وجهه في الصباح؟ وجوه يومئذ ناضرة إلى عروسه ناظرة؛ وكذلك المتقين الذين اتقوا الله عزَّ وجلَّ وآثروا أوامره على أهوائهم وشهواتهم.
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22-23]، فإذا أحب الزوج عروسه وحقق كل آمالها ومرادها، فمن أي الوجوه يكون وجهها صباح العرس؟ وجوه يومئذ ناضرة إلى عريسها ناظرة، أفهذه أعظم أم ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22-23] فمن نظرها إلى ربّها يدخل على قلبها من الفرح والسّرور والرضى ما لا يُكَيَّفُ ولا يُوصَف، قال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26] الحسنى: دخول الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الله الكريم، ولـمَّا ينظرون إلى وجهه يحتقرون كل ما رأوه من نعيم الجنان تجاه تلذذهم بالنظر إلى وجه الرحيم الرحمن.
إن كنت مسلمًا حقًا فيجب أن يكون لك معلم
﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ﴾ [القيامة: 24] وجوه المجرمين والظالمين والكافرين، قد تكون أنت كافرًا وتجعل نفسك مسلمًا، لأنك لا تعرف من الإسلام إلَّا بأنْ تقول: أنا مسلم؛ فهل لك معلم علمك الإسلام؟ وهل لك مربٍّ ربى فيك أخلاق الإسلام؟ وهل لك مزكٍّ زكى نفسك من رذائلها وأوساخها ومحتقراتها وألبسها لباس التّقوى حتى تصير مسلمًا حقًّا؟ فإذا فاجأك الموت.. وقد يفاجئك بعد لحظة.
وفاة أبي غنيم وما رآه في غار حراء
حضر درس الجمعة أبو غنيم -أخ من إخوانكم وأكثركم يعرفه- كان عمره ما يقارب التسعين سنة، وكان من الصالحين الكبار ورغم أميّته، يقول ولده: حضر درس الجمعة، ورجع بسيارة ولده، ووقف عند بائع موالح، [الموالح تُحَمَّص بالملح، وتُؤكَل عادة للتسلية، مثل الفستق وبذر الشمس وبذر اليقطين وما شابه] وقال لابنه: “اشترِ لي شيئًا من المملحات”. فقال لي: “رجعت إلى السيارة وإذا بوالدي قد فارق الحياة”.
ومرةً كان في الحج فلـمَّا رجع هو ورفاقه قال لي بعض رفاقه: “إنَّهم صعدوا إلى جبل النور ليتمتعوا برؤية غار حراء الذي كان يتعبّد فيه النَّبيُّ ﷺ، ولـمَّا أرادوا النزول أبى إلَّا أنْ ينام برأس الجبل، والمشي إلى أسفل الجبل يستغرق ساعة، حاولوا أن يقنعوه، لكنه لم يغير رأيه، فلمَّا عادوا قال لي الشيخ بشير الباني: نريد أنْ نشتكي على أبي غنيم لتسأله لماذا أصرّ أنْ ينام في الغار وحده برأس الجبل ويتركنا؟ سألته فأجباني بدموع عينيه، وبعد أنْ مسح دموعه قال لي: “لولا أنَّك شيخي لم أقل لك ما رأيت، لأنَّك أمرتنا ألَّا نقول للناس ما نراه من عالَم الروح ومن عالَم الغيب، ثم قال لي: “لـمَّا وصلت للغار ما رأيت لا غارًا ولا جبلاً ولا وديانًا، لم أرَ إلَّا نور الله يعمّ الكون كله؛ نورُ الله وتجلي الله يَعُمُّ الكون كله”. قال لي: “كنت في هذا المشهد وكل ذرة من وجودي مملوءة لذةً وطربًا، فكيف أترك هذا المشهد؟” هذا من حقائق الإيمان، “مؤمناً حقاً!”، رحمه الله وغفر الله لنا وله.
وجوه المجرمين
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ﴾ إذا كان مجرماً قاتلاً وأتوا به مُغَلْغَلاً ومسلسلاً إلى المحكمة، فكيف يكون وجهه؟ ﴿بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ﴾ يعني تتيقن ﴿أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ [القيامة: 22-25] فماذا يظن ويعتقد القاتل المتعمد المجرم في محكمة الجنايات؟ هل يوجد غير حكم الإعدام؟ فأنت أيها الإنسان أيّ الحالتين تختار؟ هل أنْ تكون من فئة ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ أم من فئة ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ﴾ [القيامة: 24]؟ فهل يدخل المجرم للمحكمة مبتسمًا وضاحكًا ومستبشرًا؟ وهل وجهه من الوجوه المسفرة الناضرة؟ فالآن لك الخيار أنْ تختار هذا أو ذاك، لكنْ إنْ متّ وقامت قيامتك فلن يعد لك خيار إلَّا على حسب أعمالك وسلوكك في حياتك.. اللَّهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، واجعلنا للمتقين إمامًا؛ نُعَلِّم النَّاس التقوى بتقوانا والصّلاح بصلاحنا.
قال تعالى: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ﴾ أتحبون أنْ تكون وجوهكم عند لقاء الله عزَّ وجلَّ باسرة؟ تستطيع الآن أن تجعلها باسرة أو ناضرة، فهناك لا يوجد مَلِك ولا رئيس ولا رئيس وزارة ولا رئيس أركان حرب ولا ملياردير ولا مليونير؛ فستجرد من كلّ هذه الأمور ولا يبقى معك إلَّا عملك الصالح أو عملك المخزِي الأسود.. اللَّهم بيّض وجوهنا يوم تبيض الوجوه، ولا تسودها يوم تسود الوجوه.
زجر المتبعين لآبائهم وأهوائهم
﴿كَلَّا﴾ ماذا يعني كلا؟ يعني يكفي إلى هنا وارتدعوا عن هذه الصفات وعن هذه الأعمال، وآثروا الآخرة على الدنيا وأوامر الله عزَّ وجلَّ على أهوائكم وشهواتكم، وآثروا الحق على الباطل والحقيقة على الخرافة، ولا تقولوا: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ يعني على شريعة ودين ﴿وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 22] قال الله عز وجل: ﴿أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [الزخرف: 24] فهذه الأنانية والإصرار على الرأي من غير أن نتبع الهدى إذا عُرِض علينا.
﴿كَلَّا﴾ ارتدعوا عن حبّ العاجلة وترك الآخرة وكونوا من أصحاب الوجوه النّاضرة إلى ربّها ناظرة، ولا تكونوا من أصحاب الوجوه الباسرة التي ﴿تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ [القيامة: 25] وتتيقن أنَّ داهيةً عظمى ومصيبةً كبرى ستنزل بها، كما إذا نزلت في الإنسان داهية كسرت فقرات ظهره وأفقدته الحياة وحرمته لذتها.
لحظات الموت
﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ﴾ [القيامة: 26] ذكر كلا مرة ثانية، يعني ارتدعوا، فالقرآن يُقرأ ويُسْمَع لأجل أن نَفْهَم ولأجل أن نَعْلَم ولأجل أن نَعْمَل ولأجل أن نُعَلِّم، أمَّا إذا قرأت القرآن لا لتتعلم ولا لتعمل ولا لتعلِّم “ربَّ تال يتلو القرآن والقرآن يلعنه” 9 ، ورب مستمع للقرآن والقرآن يلعنه.. فليس القرآن للمغنى، بل للتقوى وللمعنى وللعلم وللعمل.. ولم يصل المسلمون إلى ما وصلوا إليه إلَّا لهجرهم علوم القرآن والعمل بها والتعليم لها.
﴿كَلَّا﴾ ارتدعوا، كم مرةً ذكرها الله ولم نرتدع؟ إذا كان شخص سيأكل السم وقال له الناصحون: لا تأكل، لا تأكل، لا تأكل.. ثمَّ أكل، ففي النهاية من سيَضُرّ؟ هل النّاصح أم المنصوح الذي رفض النصيحة؟
﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ﴾ بماذا أنت مغرور؟ فإذا وصلت روحك للترقوة، وما الترقوة؟ أعلى عظمة الصدر عند الحلقوم، يعني موضع عقد ربطة العنق، فإذا وصلت روحك للغرغرة ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ﴾ [الواقعة: 83-85] إلى أنْ قال: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ﴾ [الواقعة: 88-89] “فَرَوْحٌ”: راحة.. هذا إذا كان في الدّرجات العليا الممتازة، فعند الله عز وجل طبقات [درجات]، ألا يوجد في المدرسة درجات؟ ألا يوجد في العلوم درجات؟ فهل يصح أنْ يتساوى النَّاسُ بعضُهم مثْل بعض؟ لا يصح.
تفاوت منازل النَّاس وحالهم عند الموت والبعث
﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾ إذا لم يكنْ من الصديقين في الأعلى ﴿فَسَلَامٌ لَكَ﴾ هنيئًا لك ﴿مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ﴾ [الواقعة: 90-92] كذّب القرآن، وعلامة التكذيب عدم العمل به، وعدم الاستجابة لأوامره والتّهجّم على محارمه في الأقوال والأعمال والأفكار والأصحاب وفي كلّ التّصرفات، فالإسلام هو الاستجابة لأوامر الله عزَّ وجلَّ صغيرها وكبيرها وعظيمها وقريبها وبعيدها.
حصد الثمار والزرع
فإذا بلغت روحك الترقوة “التراقي” والحلقوم، ورجا أهلك طبيبًا أو راقٍ ليقرأ لك ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ﴾ [القيامة: 26-27] فأين الراقي والطبيب والمنقِذ؟ ومن الذي سيرقى بروحه؟ فهل سترقى بروحه ملائكة الرحمة فتبشره بالرحمة والرضوان أم تستقبله ملائكة العذاب بالسياط وتَخْرُج روحُه كما يُخَلَّص الصّوفُ من الشّوك؟ نسأل الله عز وجل أن يحسن الخاتمة، وحسن الخاتمة تكون على حُسْنِ المقدِّمة، فإذا أُحْسِنَت المقدمة حَسُنَت الخاتمة، وإذا ساءت المقدمة ساءت الخاتمة، فإذا كانت مقدمة زراعتك شوكًا فماذا تكون خاتمة الحصاد؟ شوكًا، وإذا كانت مقدمة زراعتك زهور وياسمين وزنبق؟
سيحصد عبدُ الله ما كان زارعًا فطوبى لعبدٍ كان لله يَزْرَعُ
وعند الله لا يوجد دكتوراه ورئيس أركان وملياردير، فلا يوجد سوى ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7-8] ولا يوجد عند الله أنا ابن فلان، فقد قال النَّبيُّ ﷺ: ((يا فاطمة بنت مُحمَّد اشتر نفسك من الله أنا لا أغني عنك من الله شيئًا، يا عباس عم رسول الله اشتر نفسك من الله أنا لا أغني عنك من الله شيئًا)) 10 .
﴿إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ﴾ من التي تبلغ؟ الروح، فهل حسبنا حساب هذا الأمر؟ فيجب أنْ نكون مستعدين للحظة لقاء الله، فهل أنت مستعدّ؟ فقد لا أخرج أنا من الجامع، وقد لا يصل أحدكم إلى أهله، فيجب أن نكون في كل لحظة مستعدين إذا دعينا أنْ نستجيب، ليس لمحكمة الجنايات ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ﴾ بل إلى محكمة العطاء ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ﴾ فأنتم من أي حزب؟ [يجيب بعض الحضور: ناضرة، فيقول الشيخ:] إن “ناضرة” لها ثمن يا بني! فالسينما وهي لهو ولعب لا تدخلها من غير أجرة، ودخول الاستاد الرياضي من غير ثمن لا تدخل، وأكل صحن “فول مدمس” دون ثمن أو أجرة لا تأكل، وتريد جنةً عرضها السماوات والأرض بالأماني والأباطيل ومعصية الله عزَّ وجلَّ والجهل والجاهلية! والله يقول: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [النساء: 123].
فإذا بلغت الروح التراقي ﴿وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ﴾ [القيامة: 27] أهناك راقٍ يُخَلِّصُك أو طبيب ينجيك؟ وإذا صعدتْ بروحك ملائكة العذاب فهل هناك محامٍ يدافع عنك؟
﴿وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ﴾ عرف أنَّه فارق المال والأهل والأولاد والزوجة والحكم والسلطان والسرايا والسَّلامْلِكْ [مكان في البيوت مخصص لاستقبال الضيوف من الرجال] إلى آخره.
إلى ربك المساق
﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ﴾ يلتقي يوم الدنيا بيوم الآخرة، ويوم الأرض بيوم السماء، وتدرك في ذلك الوقت بأنَّك خسرت كلّ دنياك، فذهب مالك وجاهك وملكك وكل شيء، ويبقى الملك الحقيقي وهو ما قدمته لآخرتك وتزودته للقاء الله عزَّ وجلَّ، ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾ [القيامة: 30] فهنا لا يوجد حَسَب ولا نسب ولا محامٍ ولا جاه ولا تقول: أنا وزير ولا أنا أمير.
لـمَّا مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه من أصحاب النَّبيِّ ﷺ فقال أحدهم: “هنيئًا له الجنة” فغضب النَّبيُّ ﷺ وقال للقائل: ((وما يدريك بأنَّه من أهل الجنة؟ قال: يا رسول الله إنَّه صاحبك وجاهد معك وكذا)) فقال النَّبيُّ ﷺ: ((أمَّا أنا فلا أدري ما يفعل الله بي! قولوا: أرجو له الجنة)) 11 ، فلا تحكم وتجعل نفسك حاكمًا وتقول: إنَّ له الجنة، بل قل: أرجو له الجنة.
﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾ داخل محكمة الله عزَّ وجلَّ يقال: أين الإضبارة؟ افتحوا الأوراق، ففيها: ﴿فَلَا صَدَّقَ﴾ لم يصدق بالقرآن وكان يسمع كلام الله عزَّ وجلَّ ولا يبالي، ويقرأه لا ليفهم ولا ليعمل ولا ليتعلم.
﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى﴾ [القيامة: 31] لم يصلّ الصَّلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فالصَّلاة ليست أن تسجد وتركع مسرعاً وتهز جسدك وتُتَمتِم بلسانك، بل المراد الصَّلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاة لِذِكْرِي﴾ [طه: 14]، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون: 2] هذه هي الصَّلاة التي فرضها الله علينا، أمَّا صلاة لا نعي ما نقول فيها ولا نطبق ما نُؤْمَر فيها من أوامر الله فهذه صلاة قال الله عنها: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ﴾ يُظْهِرون أنفسَهم للنَّاس على أنَّهم صالحين ﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ [الماعون: 4-7] يمنعون الخير عمَّن يطلبه وهم في استطاعة لأنْ يُنْفِذوه ويساعدوه.
مصير المتكبر الضال
﴿وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى﴾ [القيامة: 32-33] يتمطى: يتبختر ويمشي متعاليًا على هذا ويتكبر على هذا ويحتقر هذا ويغتاب هذا ويذكر عيوب هذا ولا يذكر عيوب نفسه، كما قيل: انظر إلى ما فيك يكفيك.
﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى﴾ [القيامة: 34] فيقول الله عزَّ وجلَّ: الويل ثمَّ كلّ الويل لمن يحمل هذه الصّفات ﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى﴾ الويل لك والخزي عليك؛ ولو كان ملك الملوك ولو كان “كلينتون” وأمثاله، [كلينتون: رئيس أمريكا حينها] لا يوجد عند الله عز وجل فرق بين ملك وغيره، فلمَّا تخرج الروح من الجسد نصير كلنا جيفًا وندفن في التراب لئلا نؤذي النَّاس بنتننا وروائحنا، فهل نحسب حساب هذا المصير الحتمي الذي لا شك فيه، والذي لا يوجد فيه شكٌّ ولو واحد بالمليار؟ ننسى كل هذا، ونقول: من الممكن أن نموت! بل هذا غير ممكن، ونعمل عمل من يرى نفسه أنه لا يموت.. أسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجيرنا من موت قلوبنا وموت إيماننا.
أصل خلق الإنسان وماهيته
﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة: 36] لـمَّا كنت نطفةً لم يتركك الله عزَّ وجلَّ، وما زال الله يسويك حتى جعلك إنسانًا سويًّا، أفبعد أنْ فعلت ما فعلت من خير وشر أيتركك ولا يكافئك على الخير ولا يعاقبك ويحاسبك على الشرّ، أهكذا تظن؟ ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى﴾ [القيامة: 37] بصق النَّبيُّ ﷺ مرةً في كفّه، ثمَّ قال: ((يقول الله تعالى: يا ابن آدم أنَّى تُعْجِزُني)) تظنّ نفسك أنْ تهرب منّي وتنجو من حسابي ومن الوقوف بين يديَّ ((وقد خلقتك من مثل هذه، حتَّى إذا سَوَّيْتُك وعَدَلْتُك)) استويت على رجليك ووقفت على قامتك وصار لك أكتاف وعضلات ((وسويتك وعدلتك وللأرض منك وئيد)) تمشي مشية العسكر ((جمعت ومنعت)) وصار همّك المال تجمعه وتمنع حقوق الله منه ((حتَّى إذا بلغت التراقي)) لـمَّا يأتي الموت وتصل روحك إلى التراقي ((قلتَ: أتصدق))، تؤمن بوجوب تنفيذ أوامر الله عزَّ وجلَّ في مالك، ((وأنّى أوان الصدقة؟)) 12 ، قد فاتك الوقت، فستحاسب عليه كله، وسيأخذه الورثة منك برضاك أو بغير رضاك.
﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى﴾ لو تُرك سدىً لبقي نطفةً وذهب بالمجاري ﴿ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ﴾ فانتقل من النّطفة إلى العلقة ثم إلى الخلق المستوي الكامل ﴿فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ﴾ الصّانع والخالق والمهندس والمُدبِّر لهذا الخلق ﴿بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 37-40] إذاً لأيّ شيء يحيي الموتى؟ حتَّى ﴿يَقُومُ النَّاس لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين: 6] وللحساب، نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لأنْ نحاسِب أنفسنا قبل أنْ نُحاسَب: ((حاسبوا أنفسكم قبل أنْ تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أنْ توزنوا)) 13 .
الترحيب بسفير البوسنة والهرسك
يزورنا الآن سفير إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك، فنرحب به أجمل الترحيب، وفي الحقيقة فإن مصيبة إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك ليست مصيبة المسلمين فقط؛ بل مصيبة الإنسانية والأخلاق، ومصيبة دجل هيئة الأمم ومجلس الأمن، تُطَبّق قرارات مجلس الأمن في الكويت بكلّ أساطيلهم، لماذا اجتمع ثلاثون أسطولاً؟ لعدوان العراق على الكويت، فهل اجتمعوا إخلاصاً للكويت وحباً في الكويت أو حبًّا للعدالة ونصرةً للقانون أم لمصلحة أمريكا وحلفاء أمريكا؟ فهيئة الأمم وقرارات مجلس الأمن ستارة لتحقيق مصالحهم الاستعمارية، ومن ورائها يستعملون الدجل والكذب والاستغلال والضحك على عقول الضعفاء.
صدر من مجلس الأمن خمسون قرارًا [بمعنى قرارات عديدة] بشأن إسرائيل وعدوانها في فلسطين خلال خمسين سنةً ولم ينفذوا قرارًا واحدًا، والذين ينتسبون لهيئة الأمم من الشعوب المساكين مثل الحشّاشين مُخَدَّرين، يعني أين هي هيئة الأمم؟ وأين العدالة؟
اختصم عند النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام يهودي ومسلم، وكان المذنب هو المسلم وكان سارقًا، ولكنّ تهمة السرقة وُجهت لليهودي والمسلم، وأقارب المسلم شهدوا ببراءته مع أنه كان المجرم السارق، واتهموا اليهودي وهو البريء غير المذنب، وكاد النَّبيُّ ﷺ أنْ يحكم بحسب الشهود والبيِّنات، فنزل وحي السماء على النَّبيِّ ﷺ يُصَحِّح القضية ويدين المسلم ويبرئ اليهودي، وهذه آيات في سورة النساء خاطب الله عزَّ وجلَّ بها النَّبيَّ ﷺ لـمَّا همَّ أنْ يُبرئ المسلم ويدين اليهودي: ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ من هم؟ السارق وأنصاره من المسلمين ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاس وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾ [النساء: 106-108] فتآمروا كلهم في تلك الليلة على تبرئة صاحبهم المسلم ونسبة السرقة لليهودي، فمن الذي انتصر لليهودي؟ إنه الله.. وعلى من؟ على المسلم، فهل هيئة الأمم أو مجلس الأمن هكذا؟ لماذا الفيتو؟ يعني يحكمون على النَّاس ولا يحكمون على أنفسهم، وهذا الفيتو هو أبلغ قرار جائر في تاريخ الإنسان والإنسانية، فقرارات التقسيم هل نفّذتها هيئة الأمم ومجلس الأمن لتقسيم فلسطين؟ قرارات متعددة تصدر، فما كانت في حق الضعفاء الذين لا مصلحة لها فيهم فلا تنفذ والتي لهم فيها مصلحة تنفذ.
قد منعوا عن العراق الغذاء والدواء والبترول إلى الآن، وليبيا محاصرة وقد دعتهم لمحاكمة المتَّهَمين في محكمة محايدة، ولكنَّهم لا يريدون الحقيقة؛ لأنّ لهم أهدافاً استعمارية معينة لينفذوها باسم قرارات مجلس الأمن والذي يجب إلغاؤه، فهو لا يخدم إلَّا الأقوياء وأصحاب الفيتو، وهو عون على الضعفاء وعون للأقوياء للظلم والاستبداد والاستغلال والاستعمار.
عما حدث في البوسنة والهرسك صدر عن مجلس الأمن قرارات عديدة، وماذا نرى؟ جريمة عالمية وإنسانية وصليبية وجريمة أوروبية أمريكية، فالسلاح ممنوع عنهم، وقرارات مجلس الأمن تُخترق وتُنتهك وتُداس بالأقدام ومماطلات كثيرة لظنّهم أنهم يستطيعون أن ينهوا الشّعب المسلم ظلمًا وعدوانًا.
ولـمَّا حكم الإسلام نصف العالَم أبقى على كنائسهم، وكان حق النصراني مساوٍ لحق المسلم، فله ما له وعليه ما عليه، والمسلمون اليوم نيام؛ لأنَّهم مسلمون بالادعاء فقط، فأنا أستطيع أنْ أدعي وأقول بأنِّي رئيس جمهورية وأستطيع أنْ أقول أنا ملك إنكلترا وأنا رئيس أمريكا، فاللسان يطاوعني في كل ما أريد، لكنْ هل هذا يُشَرِّف أو يُفِيد؟ وكذلك لا يصير المسلم مسلمًا إلَّا إذا تَعَلَّم العلمَ من العلماء والحكمة من الحكماء وتزكّى من المزكِّين.
فهل تُخَرِّج مدارسنا الشرعية مِن الأزهر وغيرها مِن كليات مَن يُعلم الكتاب والحكمة ويزكي النفوس؟ دراسات نظرية.. فإذا لا يوجد مربٍّ للقلوب والنّفوس والأخلاق والعقل والفكر والعلم المُسعِد المنتِج المثمِر، وإلا فإنّ عملَنا كله يكون ضياعاً في ضياع، وهل نحن في أزمة شهادات وكليات وجامعات؟ بل في أزمة تربية ومربِّين وتزكية ومزكِّين، وفي أزمة ثقافة للقرآن؛ ثقافة الفكر والقلب والعقل والروح والتربية.
فأسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يهيئ الأسباب، فإذا دعونا وأمّنتم فليفكر كلّ واحد منكم ألّا يكتفي بالدعاء، بل يذهب لمنزله ليعلّم ما تعلّمه لأهل بيته وصديقه وجاره، فليدعه في المساء وليقل له: سمعت كذا وكذا، أو من غير أنْ يقول له: سمعت، بل يذكره بالشكل الذي يتقبله والذي ينفتح له قلبه وصدره ((ولأنْ يهدي بك الله رجلاً واحدًا خير لك من الدنيا وما فيها)) 14 ، فإذا لم يرجع المسلمون إلى دينهم رجوع العلم والعمل والحكمة والتّزكية وإلَّا فما مصير وعاقبة حال الخروف مع الذئاب؟ هكذا حال المسلمين في هذا العصر؛ حال الضعيف مع القوي، كان الإنسان يخاف من هذه الوحوش فصارت هذه الوحوش الآن تخاف من الإنسان، وأمَّا الإنسان في هذا الزّمن فلا يخاف إلَّا من الإنسان نفسه، نسأل الله العافية.
ولا نجاة ولا ترويض لهذا الإنسان إلَّا بدين الله؛ الدين الحقيقي العقلي الرّباني الروحاني الأخلاقي التربوي، فكلّ ما أرجو الله تعالى أنْ يَصْدُقَ اللهَ رؤساءُ وملوكُ وحكامُ المسلمين، لأنَّ الله عزَّ وجلَّ سيسألهم غدًا عن البوسنة والهرسك وعن الإسلام، فيقول: لقد أعطيتكم المال والحكم والسلطان، فهل أنعشتم الإسلام بعلومه وحِكَمه وتزكيته وقرآنه؟ يطبعون المصاحف ويوزعوها وهذا شيء حسن، ولكنْ هل يصنع الورقُ الإنسانَ؟ أكان في زمن النَّبيِّ ﷺ ورق ومصاحف؟ كانوا يكتبون القرآن على الأحجار؛ ولكنْ قبل أنْ يكتبوه على الأحجار كتبوه في قلوبهم إيمانًا وفي عقولهم فكرًا وحكمةً، وفي حياتهم عملاً وسلوكًا وأخلاقًا وتطبيقًا ببركة المعلم المربّي والحكيم المزكِّي، فمالم تحقق المعاهد الدينية هذا الهدف فإنه لنْ يبقَ من أَلْفِنا “1000” نصفُ رجل.. نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يتوب علينا جميعًا.
كما أنَّ الإسلاميين أيضًا يخطئون بهذا العنف، فالعنف ضد السياسة الإسلامية، لأنَّ الإسلام لا يأمر بالعنف، قال تعالى: ﴿وَقِيلِهِۦ يَٰرَبِّ إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمٌ لَّا يُؤۡمِنُونَ﴾ [الزخرف: 88] “وقيله” وهناك قراءة “وقال الرسولُ” فقال الله: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف: 89] وصارت المدينة والدولة في يد النَّبيِّ ﷺ وقال الله عزَّ وجلَّ له: ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾ [الأحزاب: 48] أي لا تحاربهم، وقال تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ﴾ [الجاثية: 14] فهناك سياسة إسلامية في القرآن، ولكنْنا نقرأ القرآن لا لنفهمه، ونسمعه لا لننفذ أوامره ولا لنعمل بوصاياه ولا لنتفهمه، لمَ؟ لأنَّنا نقرأه بلا قلب ولا فكر، والقرآن يقول: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37].
فمالم تَتَبَّنَ الحكومات الإسلامية ولو حكومةً واحدةً أو دولةً واحدةً الإسلام كما يجب أنْ يُتبنى بأن تُفتش عن حكماء العلماء، العلماء الأتقياء والمخلصين الصّادقين، فهم من يضعون الخريطة لصناعة المسلم الحقيقي والمسلم الإنساني العقلاني الرباني الملائكي، ومسلم العلم والحياة والقوة والعدل، فإن تبنت دولة واحدة واختارت بعض الحكماء لوضع المنهاج فواللهِ لنْ ننقذ المسلمين وحسب، بل نُنْقِذ العالَم كلَّه، ونجعل منه كلّه أمةً واحدةً وعائلةً واحدةً كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].

مُلْحَق

دعاء وتهليلة وتبرع للمسجد
نشارك في التهليلة أم حسن، فلها علينا حق، رحمها الله وغفر لنا ولها..
أحد الإخوان تبرع بمبلغ لمصلحة الجامع، ونريد أنْ نوسع الجامع بالطوابق التي تُكَمَّل، وأنا لي “مَحْضَر” [قطعة أرض] يقدر ثمنه بأكثر من خمسة وعشرين مليونًا وهبته للجامع ليضاف ونُعَمره لله، فانظروا من لديه الإمكانات من أهل الخير وما أكثرهم بفضل الله عزَّ وجلَّ، علَّنا نسارع في العمل وننجزه، لعل الله عزَّ وجلَّ أنْ يتقبل منَّا ويغفر لنا ونصنع شيئًا ولو كان سهمًا بسيطًا في خدمة دين الله.
ترحيب برئيس كلية الدعوة الإسلامية في ليبيا
وفي هذا المجلس أخونا الأستاذ المختار ديرة، وهو من المختارِين، وهذا ما أعتقده شخصياً؛ فيما بيني وبين الله، وهو رئيس كلية الدعوة الإسلامية في ليبيا الإسلامية، فأهلاً وسهلاً به وبإخوانه ومن معه، وقد كان هنا في الكلية عدة سنوات، ورأينا منه هنا وهناك كلّ الدّعم والمساعدة والتّقوى والاستقامة، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يتقبل منَّا ومنه صالح العمل هو وإخوانه، وأن يحفظ ليبيا وعلى رأسها العقيد أخونا معمر القذافي، ويهيئ له جنودًا من عنده لتتخلص ليبيا من الظلم والاضطهاد والجور.
وعلى كل منكم عندما تعودون إلى بيوتكم أن تبلغوا ما سمعتم وتُعلِّموا ما عُلّمتم ((ولأنْ يهدي الله بك رجلاً واحدًا))، فأسأل الله لي ولكم التوفيق.
كما أرحب بضيفنا من إخواننا العاملين على حمل رسالة سيِّدنا المسيح من هولندا، فأهلاً وسهلاً، اسمه أيوب على اسم سيِّدنا أيوب.. أهلاً سهلاً ومرحبًا.
شكر لمتبرعين
هذا مبلغ مئة ألف لمشروع الجامع، مقدم عن روح المرحوم مُحمَّد شرف أبو صالح ابن المرحوم أبو عمر شرف، فرحمة الله عليه وعلى والده، فقد كانا من خلص الإخوان والمحبين، لا نريد مئة ألف فقط، بل ملايين لنسارع في العمل، واسعوا يا بني، ومن لا يستطيع فالسّاعي في الخير كفاعله وفاعله في الجنة، أريد أنْ تسير الأمور بسرعة ولا نضيع الوقت، فالحمد لله وبفضله وبكرمه وكلية الدعوة هذه من حسنات رئيسنا والأخ معمر القذافي جزاهما الله عنَّا خير الجزاء، وجزى الله كل الصادقين من رؤساء المسلمين وحكامهم، ونسأل الله أن يتولاهم بعنايته ويوفقنا وإياهم إلى صراط الله المستقيم.
لذلك سنشارك أيضًا المتبرع عن روحه في التهليلة والدعاء.
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- نوادر الأصول في أحاديث الرسول، للحكيم الترمذي، (1/ 276)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، بلفظ: ((ما شَبَّهتُ خُروجَ المؤمنِ مِن الدُّنيا إلّا مِثلَ خُروجِ الصَّبيِّ من بَطنِ اُمِّهِ ، مِن ذلكَ الغَمِّ والظُّلمَةِ إلى رَوحِ الدُّنيا)).
- صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، رقم: (2858)، (4/2193)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (18038)، (4/ 229)، عَنْ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ رضي الله عنه، بلفظ: «وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ - وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ - فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟))
- المعجم الكبير للطبراني، رقم: (3367)، (3/266)، شعب الإيمان، رقم: (10107)، (13/157)، بلفظ: أَنَّ حارثة رضي الله عنه مَرَّ بِالنَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: ((كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟)) قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِناً حَقّاً. قَالَ: ((انْظُرْ مَا تَقُولُ: فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟)) قَالَ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ عَرْشَ رَبِّي بَارِزاً، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا. قَالَ: ((يَا حَارِثَةُ، عَرَفْتَ فَالْزَمْ)) وفي رواية يعذبون وفي أخرى يتعاوون.
- متفق عليه، صحيح البخاري، عن أبي هريرة، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عن الإيمان والإسلام رقم: (50)، بلفظ: ((الإحسانُ أن تعبدَ اللهَ كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يَراك)). صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإسلام والإيمان والإحسان رقم: (8).
- هذا اللفظ له ما يؤيده من أحاديث مختلفة، منها الحديث المشهور الذي رواه الشيخان بلفظ: «المسلم أخو المسلم» صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب: باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، رقم: (2442)، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب: باب تحريم ظلم المسلم..، رقم: (2564). هذه أخوة الإسلام والايمان أما الأخوة الإنسانية فقد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: "يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن اباكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ...". أخرجه أحمد في مسنده (23489) والبيهقي قي الشعب (5137)، عن جابر.
- متفق عليه عن أبي هريرة، صحيح البخاري، كتاب المناقب: باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، رقم: (3534)، (3535)، صحيح مسلم، كتاب الفضائل: باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، رقم: (2287)، واللفظ: ((إنَّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)).
- الزهد الكبير للبيهقي، رقم: (373)، (165)، بلفظ: ((قَدِمْتُمْ خَيْرَ مَقْدَمٍ مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ. قَالُوا: وَمَا الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ؟ قَالَ: مُجَاهَدَةُ الْعَبْدِ هَوَاهُ))، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
- تاريخ دمشق لابن عساكر عن يزيد بن زياد القرشي البصري، رقم: (8276)، (65/ 197). بلفظ: ((ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه، ولكن يصيب منهما جميعاً)). وابن أبي الدنيا في إصلاح المال (50).
- إحياء علوم الدين للغزالي، من قول أنس رضي الله عنه. (1/274).
- متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب الوصايا، باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب، رقم: (2602)، (3/ 1012)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى {وأنذر عشيرتك الأقربين} رقم: (206)، (1/ 192)، بلفظ: ((قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] قَالَ: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا))، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
- صحيح البخاري، عن خارجة بن زيد بن ثابت، كتاب مناقب الأنصار، باب مقدم النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه، رقم: (3929)، والحديث بتمامه: رُوِيَ أَنَّ أُمَّ العَلاَءِ وهي امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ رضي الله عنها بَايَعَتِ النَّبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّم وَأَخْبَرَتْهُ: "أَنَّهُ اقْتُسِمَ المُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ، دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّم، فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ: لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّم: ((وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟)) فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ: ((أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي، وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ، مَا يُفْعَلُ بِي)) قَالَتْ: فَوَ اللَّهِ لاَ أُزَكِّي أَحَداً بَعْدَهُ أَبَداً".
- مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (17876)، (4/210)، شعب الإيمان للبيهقي، فصل في الاختيار في صدقة التطوع، رقم: (3473)، (3/ 256)، عَنْ بُسْرِ بْنِ جَحَّاشٍ الْقُرَشِيِّ رضي الله عنه.
- سنن الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق، رقم: (2459)، (4/638)، بلفظ: وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، قَالَ: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، وَإِنَّمَا يَخِفُّ الحِسَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا". الزهد لأحمد بن حنبل، (633). مُصنف ابن أبي شيبة، باب كلام عمر بنِ الخطّابِ رضي الله عنه. رقم: (35600)، (13/ 270)، بلفظ: " عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: حاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْل أَنْ تُوزَنُوا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، يَوْمَ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ".
- متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، رقم: (3498)، (3/ 1357)، وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه رقم: (2406)، (4/ 1872)، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بلفظ: ((فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ))، وفي المعجم الكبير للطبراني، رقم: (934)، (1/315)، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، بلفظ: ((خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ)). وفي رواية: الزهد والرقائق لابن المبارك (1/ 484) ورقم (1375). عن ابن جعفر: «خير لك من الدنيا وما فيها».