تاريخ الدرس: 1994/11/04

في رحاب التفسير والتربية القرآنية

مدة الدرس: 01:26:28

سورة القيامة، مقدمة / الدرس 2

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل وأعطر التحيات والتسليم على سيدنا مُحمَّد سيد ولد آدم أجمعين، وعلى أبيه سيدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيدنا موسى وعيسى، وجميع إخوانه من النبيين والمرسلين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

القيامة والحياة الحقيقية الأبدية

فنحن الآن في تفسير سورة القيامة، والقيامةُ في الأصل هي ما عَبَّرَ الله عنه بقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ [المطففين: 6] يقومون من قبورهم بعد موتهم إلى محكمة الله وإلى حسابه، ولكلّ إنسان حسابه على ما قدَّم في حياته من خير وشرّ، ومن سوء وإحسان.

وتُسَمَّى القيامة باليوم الآخر، والحياة الأخرى، فنحن الآن في حياة اسمها الحياة الدّنيا، إمَّا من الدّنُوِّ، دنا فلان من فلان يعني اقترب منه، وهي الحياة القريبة من الإنسان، فهي أول ما يعرفها من حياته، والآخرة هي الحياة الأخرى الثّانية، فالأولى محدّدة العمر تنتهي بانتهاء الأجل، وأمّا الأخرى فهي الحياة الأبدية والخالدة، فالحياة الدّنيا يعتريها التّغيُّر من تعب إلى راحة، ومن سرور إلى كَدَر، ومن صحة إلى مرض، ومن ذُلٍّ إلى عِزٍّ، وبعكس ذلك.

أمّا القيامة والحياة الأخرى فهي عِزٌّ بلا ذُلٍّ، وسعادة بلا شقاء، وخلود بلا فناء، وأبدية بلا انتهاء، وشباب بلا شيخوخة، وصحّة بلا سَقَمٍ ولا هرم، وهذا لِمَن؟ ﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الحُسْنَى [الرعد: 18] الحياة الحسنى والعاقبة الحسنى للذين استجابوا لربّهم، وبمقدار الاستجابة تكون المكافأة الحسنى بلا حدود، ومن غير أن يُدرك العقل عظمة وكيفية تلك السّعادة، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: ((أعددت لعبادي الصّالحين)) يعني من السّعادة ((ما لا عين رأت)) مهما رأى الإنسان في الحياة من البناء العظيم والمناظر الجميلة والأنهار التي تعطي الحياة ((أعددت لعبادي الصالحين مالا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) 1 مهما تصوّرت النّعيم وعظمته واتساعه والسّعادة به فعقلك لا يُدرك الحقيقة، بل الحقيقة أعظم ممّا يتصوره العقل والفكر، كما أنّ هناك مسؤوليّة وقصاص وحساب وعقوبة على الكافر بأوامر الله وغير المستجيب لشريعته وقانونه، كذلك يقول الله تعالى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ [الفجر: 25] فلا يستطيع أحدٌ أن يُعذِّب مثل عذاب الله لفظاعته ﴿وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر: 26] فلَمَّا يوثقون ألواح كتفه ويُوثِقُونه بالسّلاسل الإلهيّة، وسلاسلُ الله ووثاقه وربطه لا يوجد ربطٌ يُشبهه في الكون.

﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم من الحرق ﴿بَدَّلْنَاهُم جُلُودَاً غَيْرَهَا [النساء: 56] مع أبدية العذاب.

دقة الموازين يوم القيامة

فهذا اسمه الآخرة، والإيمان بها ركن من أركان الإيمان، فعلى المؤمن أن يؤمن بالحساب والثّواب للمحسن والعقاب على المسيء، ولو أحسن المحسن بمثقال الذرَّة ﴿فَمَن يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً [الزلزلة: 7] مثقال الذرَّة! والذرَّة اسمها ذرّة [جزء صغير جداً ويُعرف هذا من اسمها] والمثقال: واحد من سبعين من الذرَّة، فإذا عملت من الخير بيدك أو بعينك أو بكلماتك أو برجلك أو مساعدتك للآخرين فسترى مكافأة عليه إن كان في الدّنيا وإن كان في الآخرة، وإن كان في الدّنيا والآخرة.

﴿وَمَن يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ [الزلزلة: 8] يرى عقوبته والقصاص عليه، إن كان في الدنيا أو في الآخرة أو في كليهما.

الشعور بالمسؤولية من ثمرات الإيمان باليوم الآخر

أتى رجلٌ إلى سيّدنا رسول الله ﷺ فقال: “يا رسول الله إنَّ لِي مملوكَين” عبدين “يَكْذِبُونني” يكذبون عليَّ “ويخونونني ويعصونني”، فهم كذابّون وسارقون وعصاة، فماذا يفعل بهم سيِّدُهم؟ قال: “وأنا أضربهم وأشتمهم، فكيف أنا منهم يوم القيامة؟” هذا هو الإسلام! الشّعور بالمسؤولية، وهذا الشعور في الدنيا دليل على العقل والنّضج، أمّا الذي لا يشعر بالمسؤوليّة في أعماله أو في أوقاته أو كلامه أو صحبته فقد عرض نفسه للأخطار، فبمقدار ما تُهمل سيّارتك بمقدار ما تُعَرِّض نفسك للأخطار، وبمقدار ما تُهمل قفل دُكَّانك بمقدار ما تُعرِّضها للسّارقين، فهل القضية مثل النّعامة إذا غَطَّت نفسها وراء نبات الشّيح حتى لا يراها الصيّاد؟ فعندما رأت الصّيّاد غطَّت رأسها حتى لا ترى الصيّاد، فهل الصيّاد أيضاً لم يَعُد يراها لأنّها لم تعد تراه؟ نسأل الله أن يرزقنا اليقظة بالقرآن وبالدّين الحقيقي.

قال: “وأنا أضربهم وأشتمهم، فكيف أنا منهم يوم القيامة؟” فهذا مؤمن باليوم الآخر، ومؤمن بالحياة بعد الموت، وإذا لم تكن مؤمناً هذا الإيمان فأنت كافر ولو صلّيت، فإذا صلّيت وأنت غير مؤمن بالقيامة فصلاتك غير صحيحة وغير مقبولة، فالغشَّاش أو الخائن أو الكاذب أو السّارق أو الظّالم أو المعتدي أو الذي ينظر إلى الحرام أو يسمع الحرام أو يجلس في مجلس الحرام أو يأكل الطّعام الحرام، فهذا ليس مؤمناً باليوم الآخر، وغير مؤمن بالقيامة، مع أنّ النبي ﷺ يقول: ((سورة إذا زلزلت تعدل نصف القرآن)) 2 ؛ لأنّ نصف القرآن كلّه يدور حول القيامة، ترى المسلم يقرأ المصحف من أوله إلى آخره ويأكل الحرام وينظر إلى الحرام وينطق حراماً ويسهر سهرة حرام ويصاحب صحبة حرام ويجلس مجلس حرام، أين الإيمان باليوم الآخر؟ مدرسة الإيمان أبلغ من مدرسة العلوم والثّقافات والأزهر والكليّات.. سمع أحدُهُم خمسين محاضرة عن الأفعى والثعبان فصار يصف طولها وعرضها وسُمَّها ولونها ونقشها، لكن لم يؤمن فيها، فحين رآها وضعها في حِجره، اسأله عن الأفعى أو الثّعبان فتراه يتكلّم عنها خمس ساعات، لكن أين وضعها؟ فهل ينفعه عِلْمُه؟ لم ينفعه علمه؛ لأنه فَقَد الإيمان بعِلْمِه.. فلا تكونوا من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تُؤمن قلوبهم.

اليوم الآخر يوم العدالة المطلقة

انظروا إلى هذا البدوي الذي له المملوكَين، كيف إيمانه بالقيامة! قال: “إنَّ لي مملوكَين يخونونني ويسرقونني ويعصونني، وأنا أضربهم وأشتمهم” فهذا شيء طبيعي بين المعلِّم والأجير والمالك والمملوك، “فكيف أنا وإياهم يوم القيامة؟” فقال النبيُّ ﷺ: ((يُحسب ما خانوك)) يأتون بخيانتهم ((وعصوك)) ويأتون بمعصيتهم فيما يجب أن يطيعوك به، ((وكذّبوك)) الذي كذبوه عليك، فتجمع أعمالهم وتوضع في كفَّة ((وعقابك إيّاهم)) بضربهم ولومهم وسبّهم فيأتون به ويضعونه في كِفَّة ((فإن كان عقابك إياهم بِقَدْرِ ذنوبهم)) بأن كان يلزمه خمس ضربات فضربته خمس ضربات، أو كان عشرة فعشرة، أو شَدَّ أُذُنِه فشَدّ أُذُنِه [تعبير على أن العقوبة خفيفة] أو ضربٌ على رقبته فكذلك، أو تنبيه فتنبه، ((فإن كان عقابك إياهم بقَدْر ذنوبهم كان أمرك كَفافاً لا لك ولا عليك)) 3 .

هل أنتم مؤمنون بالآخرة؟ فالإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فهل أنتم مؤمنون؟ وهل هو إيمان القول أم إيمان العمل؟ وهل أنت مؤمن في نَظَرِك وفي سمعك وفي بصرك وفي حُبِّك للخير وفي كراهيّتك للشّرّ وفي أمرك بالمعروف وفي نهيك عن المنكر؟ فالإيمان بالقيامة من أجل أن يدفعك إلى امتثال أمر الله والابتعاد عن محارمه، فإذا لم يكن للسّيّارة عجلات فما اسمها؟ فهل اسمها بغل؟ لا، اسمها سيّارة، ولكن بلا عجلات! وإذا لم يوجد محرك! وإذا لم يوجد بنزين! وإذا لم يوجد بطارية! [فيبقى اسمها سيارة، ولكن ليس لها حقيقة السيارة.]

أيضاً إذا كان الأمر بالكلام فتقول: “أنا مؤمن” فلسانك يُطاوعك، وتستطيع أن تقول: “أنا ملك، أنا رئيس، أنا وزير، أنا طبيب، أنا رئيس الجامعة” إذا كانت المسألة بالكلام فقط لم يعد حاجة للمدارس ولا للجامعات ولا للكليات ولا للدولة ولا لأيِّ شيء، هذا غُرور وطفولة في العقل والفكر وسيدفع ثمنها، فلمّا تعتقد بالأفعى خلاف حقيقتها ستقع في لدغها وتموت بجهلك.

قال: ((وإن كان عقابك إيّاهم دون ذنوبهم)) يلزمه خمس ضربات، فشددت له أذنه ((فكان لك الفضل عليهم)) يصير معك زيادة فيكرمك الله؛ لأنّك لم تأخذ كامل حقّك ولم تُعاقب كلّ العقوبة، بل تركت للصّفح والإحسان موضعاً.

((وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم)) يلزمه خمس ضربات فضربته عشرة، يلزمه شدّ أذنه فضربته بقدمك على بطنه، قال: ((اقتُصَّ لهم منك الفضل الذي بقي لهم عليك)).

يا الله يا الله! انظروا كيف صار العرب بعد أن كانوا يعيشون مع الوحوش ويأكلون الجيف، لماذا قال الله تعالى في القرآن: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3]؟ لو كانوا لا يأكلون الجيف فهل يقول الله تعالى لهم: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ؟ فهل يصح أن أقول لكم الآن لا تأكلوا الجيف؟ لا؛ لأنّكم لا تأكلونها، فالله لم يقل ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ إلّا لأنهم كانوا يأكلون الميتات، فكيف كان علمهم وعملهم قبل القرآن! وكيف صار علمهم وعملهم بعد القرآن! ليس في آخرتهم فقط، بل في الدّنيا قبل الآخرة!

العقاب الإلهي قد يكون في الدنيا قبل الآخرة

وكذلك فهناك قيامة في الدّنيا وهناك قيامة في الآخرة، يعني هناك حساب الله للإنسان في الدّنيا، وهذا الحساب الصغير السريع المؤقت، وهناك حساب في الآخرة في القيامة الكبرى، قال الله تعالى: ﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ [الحاقة: 9] من الكافرين ﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتُ أهل قرى قوم لوط التي قلبها الله عز وجل فجعل عاليها سافلها، أتوا بماذا؟ ﴿بِالْخَاطِئَةِ بأعمال الخطأ والمعاصي والكفر ﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِم عصوا أنبياءهم ﴿فَأَخَذَهُم أَخْذَةً رَّابِيَةً [الحاقة: 10] فالرِّبا: أن يدفع مقابل المئة مئة وعشرة أو مئة وعشرين، يعني أخذهم بضربة كبيرة عظيمة زائدة، فهؤلاء هل قامت قيامتهم وصار حسابهم في الدنيا أم في الآخرة؟ الحساب الصّغير أم الحساب الكبير؟

وقال تعالى: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ على قوم نوح ﴿حَمَلْنَاكُم يعني المؤمنين ﴿حَمَلْنَاكُمْ فِي الجَارِيَةِ [الحاقة: 11] فالكافرون قامت قيامتهم، بأن أغرقهم الله لأنّهم كفروا بنوح، وحمل المؤمنين في السّفينة ﴿حَمَلْنَاكُمْ فِي الجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا هذه التّذكرة وقصص الأنبياء وأقوامهم ﴿لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً تُوعُوا ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [الحاقة: 12] فهل اكتفى بقوم فرعون بالغرق وانتهى الحساب وانتهت العقوبة؟ لا، وقَلَب الله عز وجل بلاد قوم لوط وجعل عاليها سافلها، فهل انتهت المسألة بالعقوبة في الدنيا؟ وكذلك أغرق قوم نوح فهل انتهت عقوبتهم؟ أم هناك العقوبة الكبرى؟ قال الله تعالى: ﴿وَلَنَذِيقَنَّهُم مِّنَ العَذَابِ الأَدْنَى العذاب الخفيف في الدّنيا ﴿دُونَ العَذَابِ الأَكْبَرِ قبل العذاب الأكبر ﴿لَعَلَّهُم يَرْجِعُونَ [السجدة: 21] فهل كلّ واحد منكم مؤمن بالقيامة بمعناها الحقيقي؟

فالذي يؤمن بالثّعبان بمعناه الحقيقي يبتعد عنه، وهل يجعله ينام في فراشه؟ وهل يضعه في حضنه؟ وهل يمصُّ له شفته؟ لماذا؟ لأنّه مؤمن إيماناً حقيقياً، وإذا ألقى أحدهم خمسين محاضرة وأتى بالثعبان ووضعه تحت قميصه على بدنه، فهل ينفعه ما يلقيه من محاضرات عن أنواع الثّعابين والأفاعي في أفريقيا وفي الهند وفي أمريكا؟ نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الإيمان، فالإيمان يحتاج إلى مدرسة الإيمان، ويحتاج مُعلِّم الإيمان، ويحتاج عشق المعلِّم، ويحتاج الإخلاص والصدق مع المعلِّم، لذلك في مدرسة القيامة وفروع الإيمان الأخرى صار العرب أعظم أُمَمِ الأرض، وصارت دولتهم أعظم دول الأرض، وصار تاريخهم أعظم تاريخ الأرض؛ لأنهم تخرَّجوا من مدرسة السّماء، لكن بالمعلِّم الحقيقي الذي علَّمَهم الكتاب، وعلَّمَهم علوم القرآن، فإذا علَّمك معلم عن الثعبان وأراك الثعبان وأراك المسمومين الذين ماتوا بسببه، لا تستطيع بعد ذلك أن تتصوَّر الثعبان [أو تقترب منه] ولو في منامك.

أهمية ارتباط المؤمن بالمعلِّم والمُربِّي

فالذي ليس له مُعلِّم ولا يلتحم فيه مثل التحام الرّوح في الجسد لا يصل إلى حقائق الإيمان، لذلك كان النبيّ ﷺ هو المعلِّم فكانت الهجرة فريضة على المسلم والمسلمة، يعني أن يترك بلده إلى بلد المعلِّم، ويترك وطنه إلى وطن المعلِّم، ويترك تجارته لأجل المعلِّم، ويترك أهله لأجل المعلِّم، وكان الأعداء يعترضونه ويقتلونه في الطّريق ويُعَرِّضُ حياته للموت لأجل العِلْم والمعلِّم، بذلك صاروا مسلمين، قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤمِنُونَ حَقَّاً لَهُمْ دَرَجَاتٍ وليس كلّهم مثل بعضهم، بل كلّ واحد على حسب ما وعى، وعلى حسب ما عمل وعلى حسب ما صَدَقَ وأَخْلَص ﴿لَهُمْ دَرَجَاتٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ [الأنفال: 4] لذنوبهم لأنّهم تابوا منها، أمّا إذا بقُوا مُصِرِّين عليها فلا تنالهم مغفرة الله عز وجل ﴿لَهُم دَرَجَاتٌ أصحاب الدّرجات العالية، وهؤلاء هم السّابقون ﴿وَمَغْفِرَةٌ هم التّائبون ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ هم الطّائعون المتّقون.

الحذر من تضييع العمر واغتنام الوقت قبل فوات الأوان

فقدِّر نفسك أنك مِتَّ، فأخونا عدنان الخطيب عليه رحمة الله الذي كان يقرأ عُشْرَ القرآن يوم الجمعة، [يقرأ عُشْر قرآن أي: يقرأ جهراً بضع آيات من القرآن قبيل درس سماحة الشيخ يوم الجمعة صباحاً، وكان قد توفي قبل يوم أو يومين من هذا الدرس] تذكرونه كلّكم، تُوفي عليه رحمة الله، فالآن قامت قيامته والآن عرف الحقيقة، ويتمنَّى الرّجوع على الرّغم من صلاحه وتقواه، فمن طفولته قد تربَّى في المسجد، ومع ذلك يتمنَّى أن يرجع ليزداد في عمله الصّالح، ويستغفر الله من ذنب إذا لم يستغفر الله منه، فعلى ماذا نحن معتمدون؟

أعرف شخصاً مات من أبناء دمشق وكان عمره لا يتجاوز الخمسين وكان في مُنتهى الصحة، وكان يملك أكثر من أربعين مليون دولاراً، بنى بيتاً لنفسه مثل قصور الملوك، فلمّا انتهى بناء البيت، وأراد أن يدخل البيت سقط أمام باب البيت جسداً بلا روح، فأربعون مليون دولار كم مليون ليرة سورية تعادل؟ ملياران [على سعر الصرف وقت الدرس]، ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَه (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَه [الحاقة: 28-29] الجاه والملك والعزّ والسّلطان، أعرف أنّه كان يصلّي وأعرفه من بعيد وكان يعمل الخير، لكن هل كان يُخرِج تمام الزكاة أم لا؟ فأنا لا أعرف ذلك، فهذه يعلَمُها الله، أسأل الله له الرّحمة والمغفرة.

انتفاء الظلم يوم القيامة حيث الميزان الإلهي العادل

نعود لصاحب المملوكَين قال: ((وإذا كان عاقبتهم بأكثر من الاستحقاق سيأخذون منك ما اعتديت عليهم بغير حقّ)) فلأنه مؤمن باليوم الآخر فعندما سمع كلام النبيِّ عليه الصلاة والسلام صار يبكي بين يدي رسول الله، ويهتف بأعلى صوته: “يا ويلاه يا ويلاه”، يولول ويبكي ويصرخ، هذا هو المؤمن!

وإذا حدَّثتَ أحدهم بهذا الحديث وصار يضحك فهذا منافق، وهذا كافر غير مؤمن ولو صلَّى، وقد وصف الله تعالى المنافقين بأنّهم يُصلُّون، وهناك مُصَلِّون قد وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون: 4] يُصلُّون والويل لهم؛ لأنهم لا ينتهون عن الفحشاء والمنكر، ولا يأتمرون بأوامر الصلاة ولا يُحرِّمون مُحرَّمات الصلاة، فالله تعالى ليس طفلاً صغيراً بأن يعتبرك مصلياً إذا صلَّيت وركعت فقط، فيجب أن تُقيم الصّلاة، وتُنفِّذ أوامرها، وتبتعد عن محارمها، وتتخلَّق بأخلاقها، وتُهاجر إلى المعلِّم وإلى الْمُزكِّي وإلى مُعلِّم الحكمة؛ حتّى تصير الإنسان السّعيد النّاجح الرّابح في دنياك وفي آخرتك.

فصار يهتف ويبكي ويقول: “يا ويلاه”، قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام كالمستغرب: ((ماله؟ ألا يقرأ كتاب الله عز وجل ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ)) موازين ماذا؟ هل موازين السَّمن أو الحديد أو الخشب أو البطاطا أو البصل؟ لا، بل موازين أعمالك ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ القِسْطَ ميزان العدل ﴿وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47] وقال أيضاً: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ [النساء: 40] إن كان مؤمناً صادق الإيمان ﴿وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ وهذا فوق المضاعفة، فإن كان يستحق مئة ألف، يقول: أعطوه مليوناً، وبعد هذه الزّيادة ﴿وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجَرَاً عَظِيمَاً [النساء: 40] أيضاً زيادة فوق الزيادة.

فهذه حقيقة، ففي الدّنيا كلّ شيء ممكن أن يصير أو لا يصير، ومن الممكن أن تربح أو تخسر، ومن الممكن أن تنجح أو تفشل، ومن الممكن أن تنتصر أو تنهزم، لكن هذه الحقائق في الآخرة لا يوجد فيها احتمالان، بل حقيقة واحدة.

قال النبيُّ ﷺ: ((ألم يقرأ: ونضع الموازين)) ميزان الله، “الموازين” فكُلُّ واحد له ميزان يوم القيامة ﴿فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئَاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ حَبَّةٍ أَتَيْنَا بِهَا كُلُّه مُسجَّلٌ عليك ﴿وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ لا يحتاج كمبيوتراً، فالله لا يُضِيع مثقال ذَرَّة، قال تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ [ق: 18] لا تخرج منك كلمة ﴿إِلَّا لَدَيْهِ لدى المتكلّم ﴿رَقِيبٌ مَلَكٌ يُراقب ﴿عَتِيدٌ حاضر غير غائب.

فهل عندما تقرأ القرآن تفهمه؟ وإذا فهمته فهل تؤمن به؟ وإذا آمنت بلسانك فهل ينقلب فيك أعمالاً وأخلاقاً وسلوكاً وواقعاً؟ فإذا كنت كذلك فأنت مسلم، ومعنى مسلم: المستجيب لأمر الله، والفاهم لكلامه.. وإذا قرأت وكرَّرت وتمايل رأسك [طرباً بجمال الصوت] ولكن عند العمل لا يوجد شيء، فأنت منافق ولست بمؤمن ولا بمسلم، ولا تغترَّ، فالقيامة سواء الصّغرى أو الكبرى، والصّغرى مع الكبرى قد ذكرها الله تعالى في القرآن في مواطن كثيرة عند ذكر قوم نوح، وقوم لوط، وفرعون.

الأمثلة القرآنية على تعجيل العقوبة

في سورة “نون” عن قريش قال الله تعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُم يعني اختبرناهم ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ [القلم: 17] كان لبعض النّاس بستان ﴿إِذْ أَقْسَمُوا كان أبوهم صالحاً يُخرج زكاة مزرعته عند حصادها وقِطافها، فلمّا مات أبوهم عزموا على أنّهم لا يتصّدقون كما كان يفعل أبوهم ﴿إِذْ أَقْسَمُوا يعني حلفوا ﴿لَيَصْرِمُنَّهَا يعني يقطفونها ﴿مُصْبِحِينَ مُبكِّرين قبل أن يأتي الفقراء والمساكين ﴿وَلَا يَسْتَثْنُونَ [القلم: 18] بألا يتركوا حِصَّةً للفقراء ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [القلم: 19-20] أتاها صقيعٌ طاف عليها فأحرقها فجعلها سوداء مثل الفحم والليل الأسود ﴿فَتَنَادَوْا لَمَّا استيقظوا باكراً ﴿فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُم [القلم: 21-22] على بستانكم ﴿إِن كُنتُم صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا راكضين ﴿وَهُم يَتَخَافَتُونَ [القلم: 23] يتكلّمون بصوت منخفض ﴿أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا اليَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ لا تُدخِلُوا الفقراء مثل ما كان أبوكم المجنون وقليل العقل يُذهِبُ ماله في الصّدقات وغيرها.

﴿أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا اليَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ [القلم: 24-25] بَقُوا مُصَمِّمين على نية السُّوء ﴿فَلَمَّا رَأَوْهَا وصَلُوا إليها ورأوها قد أصابها الصّقيع، فالورق أسود والثّمر أسود، كلّ شيء صار مثل الفحم ﴿قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [القلم: 26-27] فالضّلال عن الحقيقة يُوصل إلى الحرمان من الخيرات ومن السّعادات ﴿قَالَ أَوْسَطُهُم أوسطهم يعني أتقاهم، وكان أحدهم تقيَّاً ﴿أَلَمْ أَقُل لَّكُم لَوْلَا تُسَبِّحُونَ [القلم: 28] فمخالفتكم لعادة أبيكم ومنعكم الفقراء من حقّهم هذا سوء ظن بالله تعالى؛ لأنّ الله عزّ وجلّ قال: ﴿مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام: 160] هكذا كان إيمان أبيكم بالله، وأنتم لو كان إيمانكم بالله هكذا لما عملتم هكذا ولما عاقبكم الله هذه العقوبة، لكن أسأتم الظنّ بالله فعاقبكم الله تعالى.

﴿أَلَمْ أَقُل لَّكُم لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ يَّتَلاوَمُونَ [القلم: 28-30] يقول بعضهم لبعض: أنت السّبب، فأنت الذي قلت لنا: لا تُعطُوا الفقراء، فيقول الآخر: لا بل أنت، كلّ منهم يجعل الآخر هو السّبب، لكن ما الفائدة بعد خراب البَصْرَة! [مثل يقال لعدم فائدة اللوم بعد حصول النتيجة].

﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا لكنّهم فهموا أنّهم أخطأوا وندموا على ما فعلوا ﴿إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَن يُّبْدِلَنَا خَيْرَاً مِّنْهَا [القلم: 31-32] فالذي يُذنب ويعرف ذنبه ويندم عليه ويعود للطريق الصحيح فهذه نعمة من نعم الله عز وجل، يقول النبيُّ ﷺ: ((التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له)) 4 .

﴿إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ثمّ قال الله تعالى بعد ذلك: ﴿كَذَلِكَ العَذَابُ هذا عذابي في الدّنيا وقيامة القيامة الصّغرى والمحاسبة الصّغرى في الحياة الدّنيا ﴿وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [القلم: 33].

رباط الحب بين المعلم والطالب جالب للإيمان الحقيقي

فالذي يوقعك في معصية الله جهلك، فأنت جاهل ولو قرأت القرآن؛ لأنّك لا تفهمه ولا تقصد فهمه، وإذا استعصى عليك الفهم لا تسأل يُفهِّمُك حقيقته، فإذا فهمت فبعد الفهم يلزمك إيمان وتلزمك مدرسة الإيمان وصحبة أهل الإيمان والهجرة إلى مجالس الإيمان، والإيمان مكانه في القلب، فيجب أن تُدخل قلبك في مدرسة الإيمان، وتَرى مُعلِّم القلوب وطبيب القلوب ويجب أن ترى مَن نَظْرَةٌ منه إلى قلبك تُصلحُك، ولو كان قلبك مثل الحديدة التي تخرج من كور الحداد [قطعة الحديد التي تخرج من الكور تكون مُحَمّاة لينة طريّة يُشَكِّلها الحداد كما يريد، والكور: مكان تشعل فيه النّار كالفرن لتحمية الحديد]، ووضعتها على السّنديان [قطعة حديد كبيرة تُوضع عليها القطع الصّغيرة وتُطرق لِتتشَكَّل بالشكل الذي يريده صاحبها] وضربتها ضربتين، فتصير الآلة التي تريدها، أمَّا إذا كان حديدُك بارداً [تعبير عن جمود القلب وقسوته والبعد عن طبيب القلوب] فمهما طُرِقتَ تبقى على ما أنت عليه، فإذا ما أتيت إلى الطبيب [الشيخ] وأنت مُحَمَّى بِكُورِ الحبِّ؛ بأن تحبّ الله ورسوله أكثر ممّا سواهما [تتغير لتكون المؤمن الناجح]، فالإيمان الحقيقي في المؤمن أن يُحبَّ الله والنبيَّ أكثر من كلّ شيء في الوجود، وبعد النبيِّ ﷺ يجب أن تحبّ نائب النبيِّ ووارث النبيِّ ﷺ.

فإذا لم يصر لك وارثٌ نبويٌّ تُحبّه هذا الحب الذي علَّمنا النبيُّ ﷺ كيف نُحِبُّه، وإِلَّا لو قرأت القرآن ولو حفظته عن ظهر غيب ولو أخذت شهادة من الأزهر، قد أخذت شهادة القيل والقال، ولم تأخذ شهادة الإيمان ولا التّقوى ولا القيامة ولا الحساب التي تُصحِّح النّفس وتُزكِّيها وتُطهِّرُها وتُجمِّلُها بالفضائل والكمالات، لذلك قالوا: “من لا شيخ له فشيخه الشّيطان”، أين الشّيخ في هذا الزّمان؟ أين الشّيخ الذي ينقلك من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن الحمق والطيش إلى الحكمة والرّزانة، ومن الأعمال الخاطئة إلى الأعمال الصّحيحة، ومن خسائر الحياة والعمر إلى مرابح الحياة والعمر، في دنياك وفي آخرتك؟

الإيمان والنبيُّ ﷺ هما المِنَّة الكبرى والنعمة العظمى

كان النبيُّ ﷺ هو الشّيخ الحقيقي وهو شيخ الأنبياء وشيخ العلماء وإمام المرسلين، فالذين ارتبطوا به برباط الحبّ الصّادق والإخلاص العميق بكلّ ما في العمق من معنى، قامت قيامتهم في الدّنيا وأُجرِيَ حسابهم في الدّنيا فماذا كان ثوابهم في الدّنيا؟ جمعهم النّبيُّ عليه الصّلاة والسّلام يوماً وخاطبهم قائلاً: ((ألم أجدكم فقراء عالةً فأغناكم الله بي))؟ هذا من حساب القيامة الصّغيرة ((ألم أجدكم ضُلَّالاً)) ضالّين جاهلين ((فهداكم الله بي؟ ألم أجدكم أعداء فألف بين قلوبكم))؟ لأنَّ النبيَّ عليه الصّلاة والسّلام أعطى الغنائم إلى الذين كان إيمانهم جديداً، ولم يعط الصّحابة القدماء، فصاروا يتكلّمون بين بعضهم البعض بغياب النبيِّ ﷺ: أنّنا الذين قاتلنا، ونحن الذين ضحينا والغنائم لغيرنا! فجمعهم النبيُّ ﷺ وصار يُذكِّرُهم أنَّ الذي أخذتموه أعظم من الذي أخذه هؤلاء، ((إذا تألفت النّاس بالشّاة والبعير، ألا ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعون إلى رحالكم برسول الله)) 5 فصاروا يبكون حتى أنَّ دموعهم صارت تنزل من لِحاهم رضي الله عنهم، فبعد ذلك ماذا كانت النتيجة؟ صاروا أعظم ملوك الأرض، وهزموا أعظم جيوش الأرض، وصاروا أعظم أمّة بأعظم حضارة، ونالوا الدّنيا قبل الآخرة وسعادة النّفس والقلب قبل سعادة الجسد والبدن، كانوا أذلَّة فصاروا الأعزَّة، وهذا قانون الله في كلّ زمان ومكان، وفي كلّ عصر وفي كلّ مصر، قال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَة [يونس: 26]، وقال أيضاً: ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا [يونس: 27] فلا يظنّ أحدكم يا إخواني نساء ورجالاً أن يبذر شعيراً فينبت له قمحاً، هل تُصدِّقون؟ تعمل السّيئات وتحصد الحسنات! فهذا لا يكون، وتمشي في طريق الجهل وتقطف ثمرات العلم! وهذا لا يكون، وتمشي في طريق الفسق والضّلال وتأخذ ثمرات أهل التّقوى والكمال! هذا أيضاً لا يكون، فإذا كان القمح لا ينبت بدلاً عن الشّعير، فكيف الذي يضع بذر الشّوك ويريد أن يقطف الفل والياسمين والزّنبق! فهل هذا فيه عقل؟ وهل هذا يكون بالقيامة الصغيرة أم الكبيرة؟ تكلموا؟ فهل أنتم آمنتم بالقيامة الصغيرة؟

الإيمان الحقيقي يجلب المخافة من الله تعالى

إنّ الله تعالى يُخوِّف ﴿وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْن [آل عمران: 175] فمن خوف النبيّ ﷺ من القيامة صعد منبره قبل موته وهو المعصوم المبرَّأ من كلّ ذنب وخطيئة، وقال: ((أيّها النّاس، إنّما أنا بشر، من كان له عندي مظلمة من مال)) إذا أخذت من ماله ((فهذا مالي يأخذ ما أخذت منه، وفي عِرضٍ)) فالعرض هنا بمعنى الشّتم أو السّبّ أو الانتقاص بالكلام عليه ((فليقتصَّ مني)) إذا شتمته فليشتمني ((في بدن)) قد ضربته ((فهذا بدني، لا يقل: مُحمَّد يغضب من الحقّ، فإنّي لا أغضب من الحقّ)) 6 ، هذا هو الإيمان! ومن أجل ذلك نقرأ القرآن، ومن أجل ذلك بُنيت المساجد، ومن أجل ذلك شُيِّدت مجالس العلم والدّين لِنبني الإيمان في القلوب وفي الحياة وفي الأعمال وفي الأسرة بين الزّوجين وفي العائلة والأولاد والأبوين، وفي الجيران والأغنياء والفقراء والحاكم والمحكوم.

فلمّا نشأ العرب الأُوَل على هذه الثّقافة وهذه العلوم بلا جامعات، وقد كانت جوامع بلا جامعات، لكن الجامع في مفهوم النّاس الآن لأمور الدّين، والجامعة لأمور الدّنيا، لكن الجامع الحقيقي هو الذي يجمع الدّنيا والآخرة، أمّا الجامع الذي في مفهوم النّاس للدّين وليس فيه دنيا فهذا مثل طير بجناح واحد، وكذلك جامع فيه دنيا بلا دين.. فإذا قلنا إن الجامع مصنع الشّوكولا، فلا يصح أن يكون الجامع مصنعاً، فالجامعُ يجب أن يكون جامعةً فيه الدّنيا والآخرة، في الجسد والروح، وفي العز والمجد، وفي الغنى والثروة، وقد امتنَّ الله تعالى على النبيِّ عليه الصلاة والسلام في قوله: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى [الضحى: 8] بماذا أغناه؟ بالإيمان والإسلام، وماذا قال للمسلمين؟ قال لهم: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ما معنى عَيْلَةً؟ الفقر، ألا يقولون: فلان صاحب عيال كثيرة؟ ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ [التوبة: 28]، إن الله عز وجل يشاءُ إذا استقمتم على تعاليم الله وعلى وصاياه.

قال الله تعالى عن اليهود: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَةُ وَالْمَسْكَنَةُ الذّل: هو تَسلُّطُ العدو، والمسكنة: الفقر، ﴿وَبَاؤُوا رجعوا من حياتهم ﴿بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ [البقرة: 61] لماذا؟ هل لأنّ اسمهم يهود؟ لا، فالاسم لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر، قال: ﴿ذَلِكَ ضربٌ بالذُّلِّ وتسلُّطِ العدو والفقر، وما أدراك ما الفقر؟ ومع غضب الله، كما يقال: “مثل فقراء اليهود لا دين ولا دنيا”، لِمَ؟ قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ لا يطبّقون آيات الله ولا يعملون بها، ولا ينفّذون أوامر الله، ويرتكبون محارمه، ولا يسألون عن وصاياه، وقد هجروا مجالس العلم، ومجالسهم مجالسُ السُّكْرِ والفِسْقِ والحرام واللّهو واللّغو والبطالة وتضييع الأوقات، وهذه ليست حياة الإنسان المسلم ولا حياة المسلمة ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ الحَقِّ فكانوا أعداء المصلحين وأعداء المعلمين وأعداء المرشدين من أنبياء وخلفاء الأنبياء، وفي آية أخرى يقول الله عز وجل: ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [آل عمران: 21] فإذا كان هناك خلفاء للأنبياء من علماء فكانوا يُعادونهم أيضاً ويُؤذونهم بالقول والعمل وأنواع الإيذاء ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا أوامر الله ﴿وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة: 61].

قضاء الله وحسابه مُنَزَّهٌ عن الظلم

فلا يوجد عقوبة من جانب الله بلا ذنب، فهل الله تعالى يعاقبك في الدنيا- قيامة الدّنيا- بلا موجب؟ فالله عز وجل مُنَزَّهٌ عن ذلك، قال تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46].

وضع سماحة الشيخ الصحي

أطلت في الدرس وتأخرت فيه، وأخالف رأي الأطباء الذين في أمريكا والذين هنا من أجلكم، [كان بعض الأطباء من تلامذة سماحته يعملون في أمريكا ويتابعون وضعه الصحي] لكن أرجو ألّا يضيع كلامي، فأعطيكم قلبي، وهذا مُخالف لِما أشعر ولرأي الأطباء، فلا تُضيِّعوا يا بُنيَّ ما أبذله لكم من حياتي ومُهْجَتي، وإن شاء الله يخرج كله في تربة قلوبكم نباتاً طَيِّباً. [يقول ذلك سماحة الشيخ ليس تفضلاً على الحاضرين، بل حثاً لإخوانه وتلامذته- وهم الحضور- على العمل والهمة العالية وتنفيذ ما يسمعون من كلام الله تعالى، فقد كان نموذجاً حيّاً ومثلاً عالياً في التضحية وعلو الهمة والمسارعة إلى الدعوة والاستجابة لنداء الله وتطبيق سنة رسول الله ﷺ.]

قصة رآها سيدنا موسى عن عدالة الله في الدنيا

يذكرون عن سيدنا موسى عليه السلام أنّه كان في سِياحةٍ فوصل إلى شاطئ نهرٍ فجلس يستريح، وأخرج زاده وأكل لقمتين، ثمّ صلَّى ركعتين في ظلّ شجرة، وبعد مُدَّة أتى فارس -خَيَّال- مسافر أيضاً، فنزل عن فرسه وأخرج طعامه وسقى فرسه وأنزل خُرْجَهُ [ما يوضع على ظهر الدّابة وفيه الأمتعة] وأغراضه عن فرسه حتى استراحت، وبعد أن انتهى ركب ومشى، ونَسِيَ خرج الذّهب الذي كان يحمله على فرسه.

رأى سيدنا موسى ذلك بعينه، وأراد أن يخبره، لكنّ الله تعالى نهاه عن ذلك، وأخبره بأنَّ هناك محاكمة، وهذه محكمة من محاكماته وقيامة من قياماته وحساب في الدّنيا قبل الآخرة، فسيّدنا موسى إذا قال له الله: اصمت، فهل يستطيع أن يتكلم؟ بعد قليل أتى راعٍ يسقي غنمه من النّهر، وبعد أن سقى غنمه رأى خرج الذّهب، ففتحه فوجد فيه ذهباً، ولَمَّا رأى ذلك حمله ووضعه فوق حماره وذهب، فأراد سيّدنا موسى أن يقول للراعي: إنَّ هذا ليس لك، بل للخيَّال الذي ذهب وسيعود بعد قليل، فنهاه الله تعالى أيضاً وقال له: أنا القاضي في هذه القضية وفي هذه المحكمة، وأنا لا أحكم بين الخلق إلّا بالقسط، وإذا كان الله هو القاضي فهل يمكن أن يظلم؟ وبعد قليل أتى حطَّاب عجوز، ظهره مَحنِيٌّ ولباسه مليء بالعرق، قد احتطب ثلاثة أو أربعة قناطير حطب من شجر الزيتون والمشمش، وكان مُتعباً ولم يصل إلى النّهر إلّا على آخر رمق، استراح حتّى جفَّ عرقه، وأخرج زاده وإذ بطعامه بصل وخبز وملح، كم هذا مسكين وفقير! كَسَر البصل مع الملح والخبز اليابس الذي أصابه العفن، وفي هذه الأثناء عاد الخيَّال صاحب الذّهب فلم يجد خُرجه، ووجد الحطاب العجوز الذي هو شبه عاجز وأصابه التّعب الشّديد في نفس المكان، فقال الخيّال له: أين خرج الذّهب؟ قال الحطاب: والله لم أرَ شيئاً، فقال الخيَّال: بل رأيته، قال الحطاب: لم أره، فقال الخيال: أنت أخذته وخبأته، وأخذ السّيف وقطع رأسه.

لم يعد يستطع سيدنا موسى عليه السلام أن يحتمل، هل أنتم تحتملون؟ إنّها محكمة الله، فالله تعالى هو الذي يحكم وهو القاضي، هل هذا في القيامة الصغيرة أم الكبيرة؟ وإذا كان القاضي الله تعالى، فهل الله يظلم؟ ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل: 118] قال له: يا رب، لم أعد أحتمل، خبرني بخبرهم يا إلهي! فأوحى الله له: إليك البيان يا موسى، أمَّا هذا الخيَّال صاحب خرج الذهب فقد سرق الذّهب منذ زمن من والد الراعي، ومن أخذ الذّهب الآن؟ ابن الرّاعي، فأرجعت المال إلى أصحابه، وهذا العجوز المسكين الفقير الحطّاب الذي يبدو عليه أنه ليس له ذنب، فقتل منذ زمن والد الخيَّال، فأتى الفارس فقتل قاتل أبيه، وأنا الحكم العَدْلُ! ﴿لَا ظُلْمَ اليَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ [غافر: 17] هذا في محكمة الدنيا، أمَّا إذا أجَّلك الله للآخرة ﴿كَذَلِكَ العَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [القلم: 33].

قصة دقة بدقة

قصة أخرى عن محاكمة الله سبحانه وتعالى.. كان أحد الصّالحين يبيع في سوق النّساء الأغراض النّسائية، فأتت إليه امرأة من النّساء تشتري بعض الأشياء، وعن غض النّظر قال تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور: 30] فصار ينظر نَظْرةَ مسارَقة غير بريئة، وأرادت أن تشتري أساور، وكانت الأساور ضيِّقة، فقال لها: إذا أحببت فأنا أعرف أن أُلبسَكِ إيَّاهُن، وصار يُلبسها الأساور ويكبس كفّيها، في الظّاهر يُلبسها، لكن في الباطن بِنيَّة غير بريئة، مع أنّه شرعاً لا يجوز هذا الفعل بِنيَّة بريئة أو بنية غير بريئة، فلا يجوز للأجنبي أن يلمس المرأة الأجنبية خاصة في هذا الوضع، أمّا كطبيب أو في حالات خاصّة فتلك لها أوضاعها الخاصّة.. عاد البائع إلى بيته، وكان قد وكَّل على بيته أحد النّاس بأن يأتي له بالماء والأغراض، وهو رجل واثق بدينه وإيمانه وأخلاقه.

وفي العادة عندما يأتي يطرق الباب ويستأذن ويقول: “يا الله” مستأذناً، ثمّ يدخل ويضع الأغراض ويعود، وفي ذلك اليوم أتى هذا الرّجل الموكَّل بشؤون بيته الخادم الصّالح وفتح الباب، ومن غير استئذان دخل مباشرة وأمسك يد زوجة صاحب البيت وصار يمسك يديها ويكبسهما من هنا وهنا، وتقول: “حرام عليك لا يجوز”، فاستغربت المرأة، لأنّ هذا ليس من أخلاق الرّجل، ولا من صفاته هذا التدنِّي والتجرؤ على محارم الله، قالت: لا بدّ أن زوجي قد فعل شيئاً، ولَمَّا أتى زوجها في المساء قالت له: تكلَّم، ماذا فعلت اليوم مع الله؟ قال لها: لم أفعل شيئاً، والحمد لله أديت صلاتي، وذهبت إلى المسجد وكان بيعنا وشراؤنا كما أمر، قالت له: لابد أنك قد فعلت مخالفة مع الله، وظلَّت تسأله وتُلِحُّ عليه حتى قال لها: اليوم فعلتُ غلطة مع الله وهي غلطة كبيرة وخائف منها، قالت له: “ماذا فعلت؟” قال لها: “أتت امرأة تشتري أساور فألبستُها، ورأيت يديها سمينتين وجميلتين فلامستهما” قالت له: “دَقَّةٌ بِدَقَّة ولو زدت لزاد السَّقا” ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40] وحكت له الذي صار مع الرجل الصالح الذي أوكله بأمر البيت؟ لذلك انتبهوا! لا تقولوا: صالحاً [وتغتروا بالصلاح]، فالصّلاح ما دُمتَ ملتزماً بأحكام الشّريعة، ومتى جاوزت فستقع مهما كنت.

المساجد التي فيها مدرسة الإيمان تُخرِّج الأتقياء والعظماء

نعود للقيامة، فهل آمنتم بالقيامة؟ هل القيامة الكبيرة أم الصّغيرة؟ والقيامة أي المكافأة؛ الحسنة بالحسنة والسّيّئة بالسّيّئة، وأكثر الناس تخاف من الشرطي، فسائق السّيّارة إذا كان يخالف في السّير لكنّه عند مُشاهَدة الشرطي لا يخالف؛ لأنّه مُشاهَدٌ من الشرطي، أليس كذلك؟ فلَمَّا تُخالف الله فهل تستشعر أنّك مُشاهَدٌ من قِبَلِ الله؟ وأنه يراك؟ وهو مُشاهِد لك؟ هل تستشعر أنه ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ؟ ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ [غافر: 19] إذا نظرت نظرة خيانة وتريد أن تجعلها بريئة ألا يعلم الله ما نيتك؟ وهل تُراقب الله؟ وهل أنت مؤمن بالله؟ وهل الله عندك مجرد أحرف “ألف ولام ولام وهاء”؟ أم أنّك تؤمن بصفاته وعلمه وقدرته وسمعه وبصره وثوابه وعقابه ولقائه والوقوف بين يديه، هذا هو الإيمان بالله! أين مدرسة الإيمان بالله؟ هذه الجوامع كانت مدارس الإيمان وكانت مدارس العلم ومدارس الحكمة ومدارس صنع الأبطال وصنع العظماء، فكانت الجوامع تصنع الذين كانوا يصنعون التاريخ المجيد.

صنعت المساجد خالد، ومن هو خالد؟ هزم الرّومان في معركة الستة أيام في اليرموك مع أن امبراطوريتهم كان عمرها ألف سنة، فمن صنع خالد؟ المسجد، ما المسجد؟ هل هو الجدران والسّقف؟! بل المسجد إمام المسجد، فهل في المساجد إمام يبني هؤلاء الأبطال ويبني هؤلاء العظماء؟ يجعل من عمر الدّلَّال [دلال جِمال] الذي لا وزن له عمر الامبراطور- رضي الله عنه، وأيُّ امبراطور؟ فكان فرعون امبراطوراً وكذلك النّمرود، لكن عمر أيُّ امبراطور كان؟! امبراطوراً في الأرض وامبراطوراً في السّماء، وأيُّ تاريخ له؟ وأيُّ أمجاد؟ وأيُّ فتوحات؟!

هزم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الفرس، وكانت امبراطورية عمرها ألف سنة في أربعة أيام في معركة القادسية، عشرة أيام من رُوَّاد المسجد الذي فيه الإمام الذي يبني القلوب فيملؤها إيماناً ويُزكِّي النّفوس من عيوبها ونقائصها، ويُجَمِّلُها بفضائلها وأخلاقها، ويبني العقول بالحكمة، فلا يفعل العقل خطأً ولا يفكر خطأً ولا يتخلَّق بالأخلاق الخاطئة.

هذا هو المسجد الحيُّ، أمّا المسجد الميت الذي لا مُعلِّم فيه يُعلِّم الكتاب والحكمة ويُزكِّي النّفوس ولو كانت جدرانه من الألماس، ولو كانت أعمدته من الذّهب، ولو كان فرشه من السّندس والاستبرق، فأسأل الله عز وجل أن يهيّئ للمسلمين المساجد المُعَمَّرة بالعلم والحكمة وتزكية النّفوس ﴿يُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة: 129] في أيّ مكان كان هذا العمل؟ في المسجد، فمسجدٌ يحوي هذه المعاني هو المسجد الحيُّ، ومسجدٌ لا يحوي هذه المعاني هو مسجد ميت، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدَاً ضِرَارَاً [التوبة: 107] بنى المنافقون مسجداً ليهدموا عمل مسجد النبيِّ ﷺ، فماذا سمَّاه الله تعالى؟ مسجد الضِّرار، وأمر الله النبيَّ ﷺ بهدمه وحرقه مع أنّه يُسَمَّى مسجداً.

وهناك مسجد- مثل بيتك- للصّلاة، ولا يصلح لأكثر من الصلاة، فبيتك يصلح للصلاة والدّكان تصلح للصلاة، [فهو مصلّى فقط، وهذا حال المساجد في زماننا]، ومع ذلك يجب أن نحافظ على صلاة الجماعة لأنّها من شعائر الإسلام.

فإذا كنتم أقوياء وكنتم مؤمنين حقّاً، فقد قال لله تعالى: ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [يونس: 87] اجعل بيتك مسجداً وادع جيرانك في الطّابق الذي فوقك والذين أسفل منك والذين بجانبك واجعل لهم جلْسَةً في الأسبوع أو في كلّ ليلة، مرَّة عندك ومرَّة عندهم، ذكِّرهم بالله وذكّرهم بالقيامة التي نذكرها الآن، أستطيع أن أتكلم كلّ الكلام بالفصحى، لكنّ نصفكم لن يفهم كلامي، لذلك أخلط لكم الفصحى بالعامية لتفهموا علي، فالمقصدُ أن تحصل الفائدة، ((لَأَن يهدي الله بكَ رجلاً واحداً)) وإذا كانت امرأة فلأن يهدي الله بكِ امرأة واحدة ((خير لك من الدنيا وما فيها)) 7 .

أولاً علِّمهم من هو الله؟ كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم [الحديد: 4] ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه: 7] إذا كنت تخفي أعمالك عن النّاس حتى لا يطَّلعوا على عيوبك ونقائصك؛ لأنّك مؤمن بوجود النّاس، فهل تحفظ أعمالك عن رؤية خالق النّاس وعن رؤية من ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى وعن الذي ﴿يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النحل: 19] وهل تحسب حسابه؟

الإيمان الحقيقي يولد الشعور بمراقبة الله

أمام طفل صغير لا تعمل عملاً ناقصاً، تقول: سيتكلّم علينا، وأخشى أن يفضحنا، أليس كذلك؟ لكن أمام الله فلا تحسب له حساباً! احسب حسابه كما تحسب حساب طفل! احسب حسابه كما تحسب حساب رجل عادي ماراً في الطريق، تقول لمن معك: هناك رجلٌ، خَبِّئ نفسك، خبِّئ نفسك، وإلا فسوف يراك ويتكلم عنك، اخجل من الله كما تخجل من هذا الرجل.. فكيف إذا كان الله يراك! قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ باللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنَّهَارِ [الأنعام: 60] فالأعضاء اسمها جوارح، جرحتم يعني ما تعمله أعضاؤكم، ماذا عملت يدك؟ وماذا رأت عينك؟ وماذا سمعت أذنك؟ وماذا تكّلم لسانك؟ فكلّه مكتوب، قال تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18].

ثمّ إذا مشيت على هذا المنهاج الإلهي فَكِّرْ هل تكون خاسراً؟ قولوا لي بكل صراحة؟ إذا كان لسانك لم يعد يكذب، ولم تنقض عهدك، وكنت أميناً في أعمالك وعلى كلام النّاس، ولا تتعدّى على النّاس ولا تغتابهم ولا تؤذيهم ولا تغشّهم ولا تُخادعهم، فهل تكون- بالله عليك- خاسراً أم رابحاً؟ وإذا عملت العكس فمهما أخفيت إلّا وأن تظهر حقيقتك للنّاس.

ومهما تكن عند امرئ من خَلِيقة

وإن خالها تخفى على الناس تُعلَمِ

قال ﷺ: ((من أسَرَّ سريرة ألبسه الله رداءها)) 8 هذا عند النّاس، أمّا عند ربّ النّاس فهل تستطيع أن تُخفي شيئاً؟ فهل أنت مؤمن بالقيامة؟ وهل أنت مؤمن بالله؟ مَن هو الله؟ هل مجرد أحرف “ألف ولام ولام وهاء”، أم هو السّميع الذي يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء؟ وعن الكلام الذي تتكلم به قال تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيْبٌ عَتِيْدٌ يقول الله لك يوم القيامة: ﴿إِقْرَأْ كِتَابَكَ [الإسراء: 14] هذا في القيامة الكبيرة، أما في القيامة الصغيرة فقال تعالى: ﴿كَذَلِكَ العَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ [القلم: 33]، وقال أيضاً: ﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالخَاطِئَةِ [الحاقة: 9] فهل تركهم الله في الدنيا وأخذهم في الآخرة أم عاقبهم في الدنيا قبل الآخرة؟ ﴿فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فأيّها المسلم ألا تعصي رسول ربّك؟ ألا تعصي كتاب ربك؟ تكلموا؟ [مخاطباً سماحة الشيخ إخوانه الحضور] فهل الله نائم؟ قال تعالى: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [البقرة: 255] وهل الله عز وجل لا يسمع؟ بل هو سميعٌ، وهل الله عز وجل لا يرى؟ بل هو بصيرٌ، قال تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ [الحديد: 4].

تزكية النفس لا بد لها من مُزكٍّ ومُرشد

لذلك يجب أن تُدخل قلبك في مستشفى القلوب وتُسلِّم قلبك لطبيب القلوب، فالذي عنده مرض في قلبه يذهب إلى المستشفى، ماذا يفعلون به؟ قبل كلّ شيء يُخدِّرونه فيسلبون كلّ إرادته وكلّ عقله وسمعه وبصره وكلّ حركاته، ثمّ يُدخلونه إلى العمليّة، وإذا أدخلوه من دون تخدير فهل يصير ذلك؟ إذا أراد الطّبيب شقَّ بطنه من دون تخدير فربما يضربه برجله فتعود السكين إلى بطن الجِرَّاح، [يقول الشيخ ذلك وهو يضحك].. فإذا وصلت إلى طبيب القلوب، فاعتبر نفسك كالمخدَّر، اسمع وأطع، ولو لم تفهم الآن فستفهمه غداً، وإذا لم تفهمه غداً فستفهمه بعد غدٍ.

رأيت أحد الشّباب في أمريكا جاء إلى دمشق وسافر- هَوَّنَ الله عليه، قال لي: “أنا من طلاب معهد الأنصار، [معهد الأنصار مدرسة إسلامية أنشأه سماحة الشيخ كفتارو في شبابه في دمشق، وقد تخرج منه مئات الدعاة] ثم قال: هناك كلمات سمعتها منك لم أفهمها إلّا بعد مضيِّ عشرين سنة”، هل تتذكر ذلك يا دكتور؟ -كان ذلك في حضور الدكتور: “أويس طرقجي”- قال لي: لم أفهمها إلّا بعد عشرين سنة، أي لم يستطع أن يهضمها، فليس كل الطّعام يُهضم في ساعة، فهناك طعام يحتاج إلى ساعة وطعام يحتاج إلى ساعتين.. إلخ، فإذا لم تبحث عن طبيب القلوب يُطبِّب لك قلبك، ويُخرج ظلماته إلى النّور، ويخرجه من الجهل إلى العلم، ومن الغرور، فإن كنت مغروراً في نفسك وشبابك وغناك ومالك وعزِّك وسلطانك، فهذا جهل.

الإصرار على المعاصي يُظلم القلب ويُعمي البصيرة

هناك حديثٌ نبويٌّ يقول عليه الصلاة والسلام: ((إذا أخطأ العبد خطيئة نكتت نكتة سوداء في قلبه)) إذا فعلت خطيئة أو ذنباً فقلبك مثل المرآة تأتي نقطة سوداء عليها، أو مثل الصّحيفة البيضاء تأتي نقطة سوداء على الصّحيفة البيضاء ((فإن هو نزع)) إذا نزع هذه النّقطة واقتلعها ((وتاب واستغفر)) والتّوبة ترك الذّنب وترك الخطيئة، والاستغفار أن يطلب من الله أن يسامحه عما فعل ((صُقِلَ قلبه)) النّقطة السّوداء من المرآة تُمحَى وتصبح المرآة صافية تُظهِر ما ينعكس أمامها ((وإن زاد)) وضع نقطة ثانية سوداء ونقطة ثالثة ونقطة رابعة ((وإن زاد زادت، حتّى يعلو قلبه)) تُغطَّى المرآة كلها ولم يعد يظهر فيها أيَّ معنى من المعاني الفاضلة، ((الرَّان)) 9 الذي قال الله تعالى عنه في سورة المطفّفين: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم ظلمات الذّنوب ﴿مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14] ما معنى ران؟ أي غطَّى على قلوبهم، فلم يعد يظهر في المرآة نور الشّمس، ولم يعد يظهر في قلوبهم نور الله الذي هو نور الإيمان، والذي هو كهرباء الأعمال الصّالحة، لذلك صاحب الرَّان يسمع ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [الأنفال: 21] كانوا يأتون إلى النبيِّ ﷺ لِيسمعوا منه ثمّ ينقلون كلامه إلى أعدائه على وجه الاستهزاء أو لمصلحة أعداء الإسلام، قال تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَّسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوْتُوا العِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفَاً [محمد: 16] ماذا تكلَّم؟ لم نفهم شيئاً فكُلُّه كلام بكلام، أمَّا الذين أوتوا العلم فهم أصحاب علم، وأمَّا أولئك ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الكَافِرِينَ [الأعراف: 101] فنسأل الله ألّا يطبع على قلوبنا بطبع الرَّان.

((إذا العبد أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتةٌ سوداء، فإن نزع وتاب)) لا يكفي أن تترك الذّنب، بل يجب أن تندم على الذّنب وتطلب من الله أن يغفر لك الذّنب، أولاً نَزَعَ أي تَرَك، ثمّ تاب أي نَدِم، ثمّ استغفر أي أن يطلب المغفرة عمَّا فعل، ثلاثة أعمال تجب حتّى تذهب النقطة عن قلبك، فيظهر نور الله فيه، كما تذهب النّقطة عن المرآة فيظهر نور الشّمس فيها، ((فإن نزع واستغفر وتاب صقل قلبه)) يعود قلبُه مصقولاً مثل المرآة النظيفة إذا طلعت الشّمس تظهر فيها وتعكس نورها على الآخرين.. وإن زاد بالذّنوب، زادت الظّلمات على القلب حتّى تعلو قلبه، وهو الرَّان الذي قال الله عنه: ﴿كَلَّا يعني ارتدعوا فكفاكم معاصٍ وكفاكم جرأة على الله وكفاكم عدم مبالاة بالله وكفاكم غفلة عنه، تظنّون إذا كنتم غير مُتذكِّرين الله ولستم ترونه بأنه لا يراكم ﴿كَلَّا هذا ردع، لماذا يستمرون؟ لأنّهم ﴿رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ والرَّان: هو الحجاب الحائل بين القلب وبين نور الله وعالم القُدُس باستيلاء الأهواء والأنانيات والشّهوات الحيوانيّة أو الشّيطانية والطباع الخبيثة النّفسية ورسوخ الظّلمات وشهوات النّفس، لذلك [لابد من تعاهد القلب بالتطهير].

محاسبة النفس في الدنيا مخففة للحساب في الآخرة

فالذي يحافظ على سيارته يأخذها كلّ شهر إلى الميكانيكي، والذي يرعى صحته يذهب كلّ شهر أو شهرين ويجري تحاليل ويقول للطّبيب: أجري لي فحصاً.. وكذلك المؤمن، فهو في كل لحظة يُحاسب نفسه، كان سيدنا عمر رضي الله عنه يقول: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنُوا أنفسكم قبل أن تُوزَنوا” 10 ، زِن نفسك كم تساوي، إذا كنت عرَّاطاً [نوع من الأعشاب] لا تقل: أنا أساوي ذهباً، إذا قلت: عرَّاط، فالعرَّاط له سوق تأخذ بدله مالاً، أمّا إذا أخذت العرَّاط إلى سوق الصَّاغة، وقلت لهم: هذا ذهب، فهل تستفيد شيئاً؟ يضحكون عليك ويقولون: “إنّك مجنون”.

“وزِنُوا أنفسكم” إذا عرفت نفسك أنك عرَّاطاً فيجب أن تَشُدَّ همّتك حتى تصير أكثر من العرَّاط بأن تصير خشباً وبعدها حديداً وبعدها نحاساً وبعدها ذهباً، أمّا عرَّاط وتجعل نفسك ألماساً فهل تربح؟

“وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنّه أخفُّ عليكم في الحساب غداً أن تُحاسِبوا أنفسكم اليوم” أيهما أسهل إذا حاسبت نفسك اليوم، أم إذا حاسبك الله غداً؟ أن يحاسبك في القيامة الصغيرة كما في القصة التي حدثت أمام سيدنا موسى عليه السلام التي ذكرناها أو قصة دَقَّةٌ بدقة، فمحكمة الله تعالى يجريها في كلّ مكان، فقد يجريها في البرية، أو في السوق، أو في الجبل، أو في الطائرة، يجريها وأنت وزير، فيُحاكمك وأنت وزير، هل هناك عند الله أمير؟ فعند الله كلّنا عبيد لا حول لنا ولا قوة.

“فإنه أخفُّ عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم” كان أحدهم إذا فعل الحسنة يضع حصاةً في جيبه اليمين، وإذا فعل سيئة يضع حصاةً في جيبه الشّمال، ويُسجِّلُهم، وفي المساء ينظر إن كان في جيبه اليمين عشر حصوات وفي الشّمال خمسة عشر فيجري عملية طرح ويُصَفِّي الحساب، هذا هو الحساب! هل تعلّمتم هذا الحساب في المدارس؟ هذا هو الحساب الحقيقي، وغيره كلّه مؤقت وبعدها ينتهي إلى لا شيء، أمَّا هذا فينتهي إلى أبد الآباد، سعادة الأبد- واللهِ- إنها سعادة الدّنيا قبل الآخرة يا بُنَيّ!

السعادة والفلاح في الاستقامة والتقوى

واللهِ! لا يوجد أحدٌ استقام وصَدَقَ مع الله في عهد رسول الله ﷺ أو مع الشيوخ الحقيقيين في أيِّ عصر إلا سعد في دنياه قبل آخرته، هل قال الله: إنّ الله بطيء الحساب؟ لا، بل إنّه سريع الحساب.

“فإنه أخفُّ عليكم في الحساب غداً أن تُحاسبوا أنفسكم اليوم، وتَزيَّنوا للعَرْضِ الأكبر”، فإذا عمل الوزير وليمة أو عمل رئيس الوزارة حفلة عشاء أو أقام رئيس الجمهورية حفلة غداء أو عشاء فهل تلبس ملابس العمل؟ وإذا كان لك لقاء مع الله غداً فماذا ستلبس؟ فالجوخ [نوع من القماش تصنع منه بدلات الرجال الرسمية] لا ينفعك، والبدلة الجميلة لا تنفعك، فالذي ينفعك لباس التقوى ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف: 26].

“وتزيَّنوا للعَرْضِ الأكبر” ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةً [الحاقة: 18].

“وتزيَّنوا للعَرْضِ الأكبر” هذا كلام مَن؟ كلام سيدنا عمر رضي الله عنه، ومن كان سيدنا عمر قبل النبيِّ ﷺ، وقبل المعلِّم الذي يُعلِّمُهم الكتاب والحكمة ويُزكِّيهم؟

انتقل النبيُّ ﷺ، وبعد النبيِّ فهل بحثت عن المعلِّم الذي يُعلِّمك الكتاب- القرآن- ويُعلِّمك الحكمة ويُزكِّي النفس؟ فالذي يُحصِّلُ عليه يا بُنَيَّ فهذا هو الكنز الأكبر؛ كنز الدنيا والآخرة، ويا حسرتي على الذي فاته هذا الكنز، وأعرض عنه وذهب إلى مرامي القمامة والقاذورات، ومن هناك يريد أن يأخذ كنوزه.

اللهُمَّ أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعلهما متشابهين علينا يا أرحم الراحمين.

وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.

Amiri Font

الحواشي

  1. متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، رقم: (3072)، (3/ 1185)، صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم: (2824)، (4/ 2174)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. واللفظ: ((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)).
  2. سنن الترمذي، عن أنس، كتاب فضائل القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في إذا زلزلت، رقم: (2894)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (11130) (3/15).
  3. سنن الترمذي، كتاب التفسير، باب ومن سورة الأنبياء عليهم السلام، رقم (3165)، (5/ 320)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (26444)، (6/ 280)، بلفظ: عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَجُلاً قَعَدَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يُكَذِّبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي، وَأَشْتُمُهُمْ وَأَضْرِبُهُمْ فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ: يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَّبُوكَ وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ كَانَ كَفَافًا، لاَ لَكَ وَلاَ عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ كَانَ فَضْلاً لَكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمْ اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الفَضْلُ. قَالَ: فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَهْتِفُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللهِ: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47]. فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَهُمْ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، أُشْهِدُكَ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُمْ.
  4. سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، رقم: (4250)، (2/ 1419)، المعجم الكبير للطبراني، (10281)، (10/150)، عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه.
  5. متفق عليه، صحيح البخاري، عن عبد الله بن زيد، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، بلفظ: كنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم... رقم: (4330)، صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام ...، رقم: (1061). ولفظ البخاري: عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال ((لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئاً، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم فقال: يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وكنتم عالة فأغناكم الله بي؟ كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمن، قال: ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو شئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا، أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)).
  6. أخرجه أبو يعلى، باب مسند عبد الله بن الزبير رحمه الله، (6/ 172)، وابن عساكر (4/ 92)، بلفظ: ((عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ ، وَعِنْدَ رَأْسِهِ عِصَابَةٌ حَمْرَاءُ، أَوْ قَالَ: صَفْرَاءُ، فَقَالَ: ابْنَ عَمِّي خُذْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ فَاشْدُدْ بِهَا رَأْسِي، فَشَدَّدْتُ بِهَا رَأْسَهُ، قَالَ: ثُمَّ تَوَكَّأَ عَلَيَّ حَتَّى دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَرُبَ مِنِّي خَفُوفٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، فَمَنْ كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ عِرْضِهِ، أَوْ مِنْ شَعْرِهِ، أَوْ مِنْ بَشَرِهِ، أَوْ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا، هَذَا عِرْضُ مُحَمَّدٍ وَشَعْرُهُ، وَبَشَرُهُ، وَمَالُهُ فَلْيَقُمْ فَلْيَقْتَصَّ، وَلا يَقُولَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَتَخَوَّفُ مِنْ مُحَمَّدٍ الْعَدَاوَةَ وَالشَّحْنَاءَ، أَلا وَإِنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ طَبِيعَتِي وَلَيْسَا مِنْ خُلُقِي، قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ.. الخ))
  7. متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن رضي الله عنه، رقم: (3498)، (3/ 1357)، وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه رقم: (2406)، (4/ 1872)، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بلفظ: ((فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ))، وفي المعجم الكبير للطبراني، رقم: (934)، (1/315)، والمستدرك للحاكم، رقم: (6537)، (3/ 690)، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، بلفظ: ((لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى يَدَيْكَ رَجُلا خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ)). الزهد والرقائق لابن المبارك (1/ 484) ورقم (1375). ونصه: عن ابن جعفر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذاً يعلم الدين قال له: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك من الدنيا وما فيها».
  8. المعجم الكبير للطبراني، رقم: (1702)، (2/171)، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ، بلفظ: «مَا أَسَرَّ عَبْدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَلْبَسَهُ اللهُ رِدَاءَها إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ».
  9. سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة ويل للمطففين رقم: (3334)، (5/ 434)، سنن النسائي الكبرى، رقم: (11658)، (6/ 509)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، بلفظ: ((إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه وهو الران الذي ذكر الله {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}))
  10. مُصنف ابن أبي شيبة، باب كلام عمر بنِ الخطّابِ رضي الله عنه. رقم: (35600)، (13/ 270)، بلفظ: " عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: حاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْل أَنْ تُوزَنُوا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، يَوْمَ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ"، وفي سنن الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق، رقم: (2459)، (4/638)، بلفظ: وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، قَالَ: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، وَإِنَّمَا يَخِفُّ الحِسَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا".
WhatsApp