كيف يجهز الداعي نفسه للدعوة؟
فنحن لا نزال في تفسير سورة المدثر، وقد علمتم سبب نزولها وهو عقب خروج سيِّدنا رسول الله ﷺ من غار حراء في أوائل النبوة والرسالة، فأمره الله عزَّ وجلَّ بعد نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 1-2] وأنزل بعدها: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 2] حتَّى يكون المنذر والداعي إلى الله عزَّ وجلَّ أهلًا للدعوة فيجب أنْ يقوم الليل إلَّا قليلًا، وقبل أنْ يقوم الليل يجب أنْ تكون له مدرسة حراء يخلو فيه مع الله عزَّ وجلَّ حتى تتربى روحه وقلبه في الحضرة الإلهية، فتتلقح النّفس والقلب والرّوح بروح الله ونوره وعلمه وحكمته وتتطهر النفس، وعندما يخرج فعليه أن يقوم كما قال تعالى: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 2] وبعد قيام الليل ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، عليه أن ينذر، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 1-2].
يجب على طالب العلم أن يرث مدرسة حراء
وحتَّى يصير طالب العلم عالِـمًا، يعني وارثًا للنَّبيِّ ﷺ عليه أن يسأل نفسه هذه الأسئلة، هل ورث مدرسة حراء؟ وهل ورث العمل بقوله تعالى: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 2]؟ وهل ورث العمل بقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾ [المزمل: 8]؟ وهل تنظّفت مرآة قلبه حتى تنعكس فيها أنوار الله وحكمته ومعرفته فيتكلم بروح الله وبنوره وبحكمته ما تحيا بكلماته القلوب الميتة، وتحيا بذكر الله عزَّ وجلَّ القلوب الغافلة بالنظر إليه؟ كما قال النَّبيُّ الكريم عليه الصَّلاة والسَّلام لـمَّا سئل عن خيار هذه الأمة، فقال: ((الذين إذا رُؤوا ذُكِر الله)) ، فرؤيتهم عبادة، ورؤيتهم برؤية الحبّ حياة في الروح والنفس والقلب.
وبعدما تخرّج النَّبيُّ ﷺ من مدرسة حراء، حيث كان يترك زوجته وعمله وأصدقاءه وخلّانه خمس سنوات، ويخلو في رأس جبل في غار لا يتسع لأكثر من رجلين، فصارت روحه من الصّفاء والكمال والرّوحانيّة ما تستطيع أنْ ترى الملائكة، وبعد أن أنزل الله تعالى عليه: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1] ظهر له روح القدس سيِّدنا جبريل عليه السَّلام يخاطبه وهو جالس على كرسي في السَّماء: ((يا مُحمَّد أنت رسول الله وأنا جبريل روح القدس)) ، ثمَّ قام بعد ذلك فأنذر، ثمَّ أنزل الله عزَّ وجلَّ عليه: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214].
قام أمام دعوته الجهلاء والزعماء والمغرضون والمعاندون، وصاروا يسبّونه ويشتمونه ويؤذونه ويصفونه بالألقاب المزرية الكاذبة، فيقول بعضهم: “كاذب” وبعضهم قال: “إنّه ساحر” وبعضهم كان يقول: “مجنون”، وبعضهم يقول عن القرآن: “أساطير وخرافات الأولين” من قصص نوح وصالح وإلى آخره، وهو كالسّفينة في البحر تناطح الأمواج بلا كَلل ولا مَلل.
وصف الكفرة للقرآن الكريم
وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ في سورة المدثر أحد زعماء قريش وأغناهم، وهو الوليد بن المغيرة، وقد استمع يومًا إلى قراءة النَّبيِّ ﷺ في الصَّلاة في المسجد الحرام، فدُهِش من كلام الله عزَّ وجلَّ حتَّى كاد أنْ يؤمن، ورجع إلى قريش -أهل مكة- فقال: “لقد سمعت كلامًا من مُحمَّد لا تستطيع الجنّ والإنس على أنْ يأتوا بمثله، إنَّ أسفله لـمُغْدِق” يعني مثل الشّجرة التي كلّ جذرها في الماء، “وإنَّ أعلاه لمثمر، وإنَّ له لحلاوة” للنفوس والعقول “وإنَّ عليه لطلاوة” فكله جمال “وإنَّه يعلو ولا يُعلى عليه”. فقال عنه الجاهليون: “صبأ الوليد بن المغيرة”، فقد كان زعيماً وغنياً، وسيصير من أصحاب مُحمَّد! “وستصبأ قريش”، وهذه كارثة، فقال أبو جهل: “أنا أكفيكم الأمر” فشيطان الإنس ليس إبليس، فإبليس لم يتدخل في الأمر وقال: لي سفير وممثل، لأنَّ إبليس كما قال تعالى: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف: 27] لكنْ له جنود من بني آدم ﴿شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ [الأنعام: 112] فالشّيطان: هو الذي يضل عن الهدى ويوقع في المعاصي ويزيّن للإنسان مخالفة أمر الله عزَّ وجلَّ، فإذا أتى هذا الشّيطان بصورة صاحبك أو رفيقك أو صديقك أو قريبك أو ابنك أو أخيك فهو شيطان، فأبو جهل كبير الشياطين قال لهم: “أنا أكفيكم الأمر”.
فأتى إلى الوليد وكأنَّه حزين فقال له: “ما بك حزينًا؟” فقال له: “سمعت أنَّك تذهب إلى مُحمَّد وإلى أبي بكر لتأكل من طعامهما!” يعني أنك شره وطمّاع، وتوقع بين الناس مرة مع قريش ومرة مع محمد، والخلاصة: بقي يأخذه بالكلام حتَّى طمس قلبه وعقله وغيّر فكره.. انظروا: فجلسة سماع ترفع الإنسان إلى أعلى الدّرجات، وأخرى تهبط به إلى أسفل الدركات، فجلسة مع إنسان تُسعد وأخرى تُشقي، ولذلك قال تعالى: ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ﴾ مع شياطين الإنس ﴿حتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ [النساء: 140] ومن جالس فقد جانس.
فبقي يوسوس له حتَّى مسح من عقله آثار ما سمع من النَّبيِّ ﷺ من كلام الله عزَّ وجلَّ، وبعدها قال: ماذا تقول بمُحمَّد؟ فكّر فكّر، ثم قيل له: شاعر، قال: ليس بشاعر، قيل له: كاذب، قال: ليس بكاذب، وقالوا له عدة أوصاف وهو ينفيها ثم قال: إنّه ساحر تعلّم السحر من أهل بابل في العراق.. وكانوا مشهورين بالسحر، ﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ [المدثر: 24] قال عن القرآن إنه سحر، فهو ليس كلام الله عزَّ وجلَّ بل كلام مُحمَّد ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ [المدثر: 25].
فجلسة توصلك إلى الجنة وأخرى توصلك إلى النَّار، وجليس يسعدك وآخر يشقيك، “قل لي: من تجالس ومن تصاحب، أقلْ لك من أنت”.
تضع في قِدرٍ من الحليب الساخن ملعقة لبن فماذا سيحدث للحليب؟ سيصير لبنًا، فملعقةٌ غلبت قدرًا. وجلدة صغيرة من طُعم من شجرة مشمش بلدي تضعها على كلابي [نوع من أنواع المشمش] فتقلب الشجرة كلها من كلابي إلى بلدي، وهذا ما يسمى بالتلقيح [تطعيم أو تلقيح الشجر].
وجرثومة صغيرة تدخل في الجسم الذي يكون مثل الجمل فتسقطه على الأرض، وتجعل فيه من الحمّى ما يجعله وكأنَّه يحترق بالنَّار.. لذلك الإنسان يعرف كيف ينتقي نَعْلَه وخبزه وفِجْلَه وإبريقه فلماذا لا يعرف كيف ينتقي جليسه وسميره وصديقه؟
نزول الآيات في الوليد بن المغيرة
﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ [المدثر: 24-25] هذه الردّة بعد الإقبال، والضّلال بعد الهداية، قال تعالى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ يعني بعد أنْ رأى العباءة بيضاء فيقول لك: سوداء، فبماذا ستكلمه؟ عناد وشقاء وخذلان ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ﴾ [المدثر: 26-28] ﴿سَقَرُ﴾ اسم جهنم، فلا تبقي لحمًا ولا تترك جلدًا ولا عظمًا إلَّا أذابته، ثمَّ يعود الإنسان خلقًا جديدًا.. هذا كلام الله عزَّ وجلَّ! فهل نفكر عندما نقرأ القرآن في معاني كلماته، ولماذا يقول الله عزَّ وجلَّ: جهنم وسقر؟ حتى نتّقيه فلا نعصيه، ونطيعه فلا نخالف أوامره، ونحبّ أحبابه ونبغض أعداءه، وإذا أحببت أحبابه وأبغضت أعداءه فمن المستفيد أنت أم الله؟ أنت المستفيد، وإذا أحببت أحبابه أحببت أعمالهم وأخلاقهم واستفدت من علمهم وحكمتهم وشرفهم، وأمَّا إذا أحببت أعداءه فلن يربح من أحب إبليس سواء إبليس الجن أو إبليس الإنس، فأسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يرزقنا التوفيق وأن يحمينا من الشقاء والخذلان.
سبب نزول قول الله تعالى: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾
﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ [المدثر: 30] سأل اليهود الصحابة رضي الله عنهم عمَّن يشعل سقر ويحميها والموكل بها؟ وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يعرفون، فسألوا النَّبيَّ ﷺ، فنزل الوحي عليه فأخبره بأنَّ خزنة جهنم ﴿تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ فلمَّا تلا النَّبيُّ ﷺ الآيات قال لهم أبو جهل: “لا تهتموا، أنا أكيفكم عشرة، وأنت عليك سبعة، وقال آخر: وأنا أتكفل بالاثنين”، فانتهى أمر الخزنة ويصيرون مقيدين ومربطين! فاستقبلوا الإسلام بالهزء والاستخفاف والسخرية، فقال الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّار﴾ ذكرنا العدد ﴿إِلَّا مَلَائِكَةً﴾ [المدثر: 31] فهؤلاء ليسوا بني آدم مثلكم، نزل ملك من الملائكة على النَّبيِّ ﷺ وقال له: “إنْ شئتَ أن أطبق جبلي مكة على أهل مكة فيهلكهم الله عزَّ وجلَّ”، فقوة الملك ليست مثل قوة بني آدم، ولكن العقول الجاهلة والسخيفة لا تعرف قدر مخلوقات الله عزَّ وجلَّ إلَّا بما تراه العينان وكما يرى الأشياء العادية، فهذا شأن الجاهل المغرور المخذول الذي يجعل كلام الله عزَّ وجلَّ والوحي موضعًا للاستهزاء والسخف، أمَّا رؤية عالَم الملائكة التي تدبّر الكون بإذن الله فهذا شأن آخر.
خزنة النار
وفي النهاية قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّار﴾ ذكرنا عددهم ﴿إِلَّا مَلَائِكَةً﴾ ليسوا بني آدم، فقال أحد المشركين: “لا تهتموا فسأرمي بكتفي اليمين عشرة وباليسرى سبعة، ولتتكفلوا أنتم بالاثنين المتبقيين في جهنم” فنسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يحمينا من الشقاء أو أنْ تكون قلوبنا ميتةً لا تفهم كلام الله عزَّ وجلَّ ولا تسعد بأنبياء الله وأوليائه.
قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [المدثر: 31] عندما يسمع المؤمن القرآن فيصبح حاله كما قال تعالى: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [البقرة: 285] ولكنَّ الكافر يجعله موضعًا للاستهزاء والسخرية، لكنْ ماذا كانت النتيجة فيما بعد ذلك؟ وماذا صار بأبي جهل؟ أُتِي برأسه في معركة بدر فأُلقي بين يدي رسول الله ﷺ مقطوعًا مثل الحجر المتدحرج من رأس الجبل، فلمَّا رأى النَّبيُّ ﷺ رأسه مقطوعًا سجد شكرًا لله عزَّ وجلَّ وقال: ((الحمد لله الذي قتل فرعون هذه الأمة)) ، لأنَّ ((الله يمهل ولا يهمل، وإذا أخذ الظالم لا يفلته)) نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحمينا من مكره وإملائه ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ [الطارق: 15-16] الإملاء: هو الإمهال، فيمهلك الله عزَّ وجلَّ ويستدرجك وتظن أنَّك على حقّ، وأيضًا يعطيك المدة لتقوم حجة الله عليك في الدنيا والآخرة.
قال: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّار إِلَّا مَلَائِكَةً﴾ فهذا الحيوان [في قدره وفكره] يظن أنَّ المَلَك إنسان، ولا يعرف أن الملك يدير الأرض كلها بما فيها حَملًا وإدارةً لها.. إلى آخره.
﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فازدادوا بالعدد كفرًا وضلالًا، وبدل أنْ يخشوا الله ويتقوا جهنم وسقر، بكفرهم وضلالهم صاروا يهزؤون ويؤذون ويعارضون ويفسدون، وهناك من النَّاس من يأتي إلى مجلس العلم والحكمة والرّحمة فلا يزداد إلَّا ضلالًا وشقاءً وتعاسةً، مثل ماء المطر ينزل على التّين والعنب فيزيدهما حلاوةً، وينزل على الحنظل فيزيده مرارةً ﴿يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ﴾ [الرعد: 4].
أتى النَّبيَّ ﷺ فصار أبو بكر الصديق رضي الله عنه أفضل أهل زمانه وأفضل هذه الأمة بعد نبيها، وصار أبو جهل فرعون هذه الأمة، ولولا مجيء النَّبيِّ ﷺ لما صار أبو بكر صِدِّيقًا ولا أبو جهل زنديقًا ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: 26] فمهما أضأنا للأعمى من أنوار وإضاءة وثريات فلنْ يفيده ذلك في أنْ يرى شيئًا، وصاحب البصر والبصيرة لا يحتاج إلى كهرباء [مصباح]، فالشَّمس وضوء النهار يكفيانه ويزيدان، فأسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يرزقنا توفيقه وعنايته ورعايته ومعرفة قدر نعم الله بأنْ نقدّرها حقّ قدرها ونشكرها كما يجب علينا أنْ نشكرها.
عدة الملائكة فتنة للذين كفروا
قال: ﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فهل المقصود من ﴿سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ﴾ [المدثر: 27-28] أن نشتغل بالعدد أم أن نخاف عقاب الله وقصاصه ونخاف حسابه ونستجيب لرسالة الله عزَّ وجلَّ ونستجيب لرسول الله ﷺ؟ فبدلًا من أنْ يستجيبوا للقرآن انشغلوا بالعدد “عددهم تسعة عشر” فقال أحدهم: “لا تهتموا، فبكتفي أرمي عشرةً وبالآخر سبعة، ونضرب الجنة بأقدامنا وندخلها، سواء رضي مُحمَّد أم لم يرضَ!” فكان القرآن سببًا في زيادة ضلالهم وخذلانهم.
رأى بعضُ التّابعين المقدادَ بن الأسود رضي الله عنه بعد وفاة النَّبيِّ ﷺ، فقال له: “هنيئًا لعينيك اللتيْن رأتا رسول الله ﷺ، ليتني رأيته لقدمت ثمناً لذلك حياتي، وقدمت كل ما أملك حتى أرى بعيني رسول الله ﷺ”، فغضب سيِّدنا المقداد رضي الله عنه وقال له: “وما حاجتك إلى هذا الطلب؟ لقد رآه كثر بعيونهم فما زادتهم الرؤية إلَّا ضلالًا وشقاءً”.
فأنتم أيها الحاضرون ما رأيتم النَّبيَّ ﷺ، بل أتاكم الإيمان من طفولتكم ولم تتعرضوا للمحن ولا للفتن ولا للمضللين، فاشكروا الله عزَّ وجلَّ على أنَّكم لم تكونوا في زمن النَّبيِّ ﷺ؛ لأنَّ زمنه لم ينفع أبا جهل ولا عَمَّ النَّبيِّ ﷺ أبا لهب، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا التوفيق والعقل الموفَّق، فالكثير من النَّاس يملكون الذكاء والدهاء ومع ذلك يكون عقلهم وذكاؤهم سببًا في زيادة ضلالهم وشقائهم، وترى بسيطًا ساذجًا وقد وفّقه الله عزَّ وجلَّ في دنياه ودينه وفي آخرته، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا فضله في كل شيء عقلًا وقلبًا وفكرًا وكل شيء.﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً﴾ فليس المهم العدد، بل المهم وجود جهنّم وأنّ لها مدراء ومنظّمين ومشرفين، لكنَّ الشّقاء والتعاسة والخذلان هكذا يكون، وهكذا في كل زمان! قد يلتقي شخص ببعض أحباب الله وأوليائه، فبدلًا من أنْ يستفيد من علمه وحكمته وقربه من الله يقول: “لماذا جبّته حمراء، أو يلبس طاقيةً؟ فيعمل بالفضول وبعقل دون عقل الأطفال، فإذا رأيت الألماسة ماذا يُشغلك برؤيتها؟ هل أن تملكها وتنتفع بثمنها أم أن تقول لماذا تجرح اليد فتلقيها وتنبذها؟ وهذا هو الشقاء.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوفقنا، وهناك من يؤتى المال الكثير فيكون سبب هلاكهم وشقائهم في الدنيا والآخرة، وهناك من يؤتى العلم الغزير ويكون سبب شقائهم وتعاستهم ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ [الأعراف: 175-176] مصلحته وأنانيته، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحمينا.
﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فلما سأل اليهود الصحابة رضي الله عنهم، وسأل الصحابة رضي الله عنهم النَّبيَّ ﷺ وذكر العدد، وقال كفار قريش ما قالوا، وردّ الصحابة على اليهود بأنَّ العدد تسعة عشر كما هو مكتوب أيضًا في توراتهم، فبهذه المناسبة نزلت الآية: ﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ كفار قريش فما صار العدد لهم إلَّا زيادةً في ضلالهم وخذلانهم، وقال اليهود: صدق مُحمَّد، هكذا مكتوب في التوراة بأنَّ عدد خزنة جهنم تسعة عشر ﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ من أُوتِي الكتاب؟ اليهود ﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا﴾ فالصحابة مؤمنون بالنَّبيِّ ﷺ، ولـمَّا أخبر النَّبيُّ ﷺ بأنَّ عدد الخزنة تسعة عشر، وصدّق اليهود العدد بشهادة التّوراة، وهذا ما جعل المؤمنين يزدادون إيمانًا بنبوة سيِّدنا رسول الله ﷺ، فزادوا إيمانًا على إيمان.
القرآن حجة على اليهود والنصارى
﴿وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ فصار أيضًا حجةً على اليهود الذين أوتوا الكتاب، والنَّبيُّ ﷺ أمي ما قرأ ولا كتب وليس له معلم ولا أستاذ، فإذًا من أين أتت هذه العلوم والحكم؟ وكيف صنع أمةً من قبائل عاشت مع الوحوش في الصحراء حتَّى جعلهم فلاسفةً ((حكماء، علماء، فقهاء، كادوا من فقههم أنْ يكونوا أنبياء)) ؟ فكيف أوجد هذا الإنسان الأمي أعظم دولة وُجِدت على وجه الأرض؟ فلم يوحد أمة العرب فقط، بل وحّد عشرات الأمم من حدود الصين إلى حدود فرنسا، صاروا هيئة أمم بأمة واحدة ودولة واحدة، فابن الإمبراطور وابن العبد في الحق والعدالة والمساواة سواء ((لا فضل لعربي على أعجمي)) ، وعمّم العلم لنصف سكان العالَم، فالعلم فريضة إجبارية، ألا يقولون: مكافحة الأمية؟ أمية الكتابة والقراءة أمر بسيط، فصار الجماد يقرأ ويكتب الآن، ألا تكتب الآلة الكاتبة والفاكس؟ وألا يقرأ الشريط؟ ولكنَّ القراءة أنْ تقرأ بقلبك عن الله عزَّ وجلَّ، قراءةً يحيا بها القلب بنور الله، ويحيا العقل بحكمة الله، وتتزكى فيها النفس وتتخلق بأخلاق ملائكة الله، فهذه القراءة لا يعلِّمها إلَّا الله عزَّ وجلَّ لأحبابه، ويعلِّمها أنبياؤه للمخلصين والمؤمنين من أممهم.
قال: ﴿وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ فصار حجةً على اليهود، وانتفاءًا للريب والشك في صدق نبوة مُحمَّد ﷺ ورسالته ﴿وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ إذا كان إيمان شخص ضعيفًا فها قد شهد اليهود وأهل الكتاب بأنَّ هذا موجود في كتبهم السَّماوية، حيث لم يقرأ النَّبيُّ ﷺ ولم يكتب ولا أستاذ له ولا معلّم، ومع كلّ هذا ﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ من في قلوبهم الشّك والأهواء والأغراض ﴿وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ تسعة عشر أو خمسة عشر وغير ذلك، وصاروا يتخذون آيات الله هزءًا واستخفافًا، فيقول أحدهم: “أرمي بكتفي عشرةً وبكتفي الثاني سبعةً وعليكم بالاثنين”.
لكل عصر خيره وشره وأهل هداية وأهل ضلال
﴿كَذَلِكَ﴾ فكما ضل هؤلاء بالقرآن وبالنَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام الهادي والنور.. وماذا يُفيد العميانَ كثرةُ الأنوار أو سطوع الشَّمس ووجود النّهار؟ وماذا يُفيد الصّمّ إذا غنى المغنون وأنشد المطربون؟ وإذا لم يطرب الأصم بصوت أم كلثوم فهل العيب بصوتها؟ وإنْ لم يشاهد الأعمى جمال ملكات الجمال لأنَّه لم يرَ شيئًا فهل لعدم وجود هذا الجمال أم لأنَّه شقي ومخذول وغير موفق؟
قال: ﴿كَذَلِكَ﴾ مثل ما ضل أبو جهل والوليد بن المغيرة المخزومي، ومن هو الوليد؟ أبو سيِّدنا خالد رضي الله عنه ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [يونس: 31] فابن نوح كافر، وممَّن خرج؟ من سيِّدنا نوح أبي الأنبياء عليهم السَّلام ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ فكذلك مثل ما ضلّ أبو جهل والوليد بن المغيرة وأشياعهما وجلساؤهما ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ فاحذر أنْ تكون مثل الوليد، فلا تكنْ وليد زمانك مع وارث النَّبيِّ ﷺ في زمانك
كلُّ عصرٍ فرعونُ فيهِ وموسى وأبو الجهلِ في الورى ومُحمَّد
في كلّ زمان ومكان هناك من ينوب عن النَّبيِّ ﷺ في الدّعوة إلى الله عزَّ وجلَّ وهداية الخلق، وبالمقابل هناك ضالّون ومضلّون ومخربون ومعمّرون، والزّمان لا يُمدح ولا يُذم وإنَّما يُذَم ويُمدح أهل الزمان
نعيبُ زمانَنا والعيبُ فينا وما لزمانِنا عيبٌ سوانا
وقد نهجو الزمانَ بغيرِ ذنبٍ ولو نطقَ الزمانُ بنا هجانا
وليسُ الذئبُ يأكلُ لحمَ ذئبٍ ويأكلُ بعضُنا بعضًا عيانا
قال: ﴿كَذَلِكَ﴾ كما ضلّ الوليد وكما أضله أبو جهل، وأشياعهما وزملاؤهما وجلساؤهما، وكذلك في كلّ زمان ﴿يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ فمن يشئ الله عزَّ وجلَّ إضلاله؟ قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: 51] وقال: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 124] فمن يضل الله عزَّ وجلَّ؟ الذي يعادي أحباب الله ويهجر ويبعد عن صحبتهم ومجالستهم إلى مجالسة الفسقة، ويؤثر مجالس الجهل على مجالس العلم، ومجالس الفسق على مجالس التقوى، ومجالس الجهل على مجالس الهدى، فهل سيهدي الله عزَّ وجلَّ هذا، أم تحتم عليه قانون الله عزَّ وجلَّ أنْ يقع في الضلال؟ مثلما ضلّ الوليد وأبو جهل بعنادهما وطاعتهما لأهوائهما ومجالستهما للضّالين من أهل زمانهما وبلدهما، كذلك من يسلك مسلكهما ويصاحب مثل أصحابهما ويستعمل عقله كما استعملا عقولهما في طريق الغي والضلالة لا في طريق العلم والرّشاد والهداية؛ فسيضله الله عزَّ وجلَّ، فإن زرعت شعيرًا هل سيخرج الله لك قمحًا؟ هذا مستحيل.
قصة لا يمكن أن يحصد من الشعير قمحاً
يقال بأنَّ عبدًا صالحاً كان له سيِّد فاسق، وكان ينصح سيِّده: يا سيِّدي تب إلى الله فصلِّ وصُم وداوم على مجالس العلم واترك الخمر وقرناء السوء، فيقول له: “الله غفور رحيم”، كما هو عليه أكثر النَّاس: لا يصلي ولا يصوم ولا يؤدي فرائض الله ويرتكب محارم الله عزَّ وجلَّ، ومجالسه مجالس الإثم واللغو وأصحابه ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ [البقرة: 206] وإذا قيل له: “اتق الله” يقول مثلما قال اليهود: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّار إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: 80] أربعين يومًا وبعدها سيعفو الله عنَّا، من أين أتوا بهذا الأمر؟ وهناك أناس صاروا ألعن من اليهود، فقد قال اليهود: إن الله سيدخلهم جنهم أربعين يوماً يعاقبهم فيها ثم يخرجهم منها، أما بعض المسلمين فيدعي بأنه لن يدخل جهنم مطلقاً؛ لا أربعين يوماً ولا عشرة أيام ولا ثلاثة ولا ساعة واحدة! بل يدّعون أنّهم مباشرة سيضربون باب الجنة بحوافرهم ويخلعون الباب ويدخلونها! ويظنُّون أنَّها كالخان، فأيّهما أشدّ شقاءً وأعمق جهلًا وأكثر بعدًا عن الله عزَّ وجلَّ؟ أولئك اليهود الذين قالوا: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّار إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ أم بعض المسلمين الذين يقول لك أحدهم: بأن الله لن يعذبهم يوماً ولا عشرةً ولا أربعين، بل مباشرةً إلى الجنة، رضي الله أم لم يرضَ، وإنْ كان عليها تسعة عشر، فيرمي بكتفه عشرةً ويرمي سبعةً بالكتف الثاني، ويخلع بقدمه باب الجنة! وليعمل الله ما يريد! [ليعمل فلان ما يريد: مصطلح عامي، يقصد منه التحدي وأن فلان لا يستطيع أن يعمل للقائل شيئاً] فالذي يفعله هذا الجاهل أشبه ما يكون بالكفر والردة.
معنى التوبة
يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ﴾ والتوبة: أنْ تترك الذنب فلا تعود إليه حتَّى يعود اللبن والحليب إلى ضرعه، فهل الحليب إن حُلِب يعود إلى الضرع؟ فالتّائب الصّادق الحقيقي إذا ترك الذنب وصحبة الفساق فلنْ يعود لأعماله ولا لخلّان السّوء إلَّا إذا عاد الحليب لثدي من حلبته منها، فهذا معنى ﴿لِمَنْ تَابَ﴾.
فهل يتوجب علينا فقط أن نترك المعاصي وصحبة الفساق؟ قال: لا، ﴿وَآمَنَ﴾ يجب أنْ تدخل مدرسة الإيمان بصحبة أهل الإيمان، بالتّقوى والعبادات وكثرة ذكر الله عزَّ وجلَّ، وهل هذا فقط؟ قال: ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [طه: 82] فلو تركت الذنوب وحصل الإيمان، فإذا لم يثمر العمل الصالح فهذا إيمان ميّت وإيمان باللسان، ولا تكونوا كالذين ﴿قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة: 41]، وقال تعالى عنهم: ﴿وَمِنَ النَّاس مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ فهم يقولون، ولكن ماذا قال الله عزَّ وجلَّ عن مقالتهم؟ قال: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 8].
الإيمان والتربية يحتاجان إلى معلم
فهل سيصح كلامك أم كلام الله عزَّ وجلَّ؟ فإذا قلت عن نفسك بأنَّك مؤمن، ولا يوجد عمل ولا توبة ولا مجالس علم ولا تربية ولا حكمة ولا تزكية ((ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكنَّ الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل)) ، فهل يمكن لأحدكم أنْ يصير نجارًا من غير معلّم ومدرّب ومربٍّ؟ وهل يمكن لأحدكم أنْ يصبح حدادًا بلا معلّم ومربٍّ؟ وهل لأحدكم أن يتعلم اللغة الإنجليزية بلا معلّمها؟ فلربما يصير مضحكة للنّاس حينها، مثل القصة التي حصلت مع شيخنا الوالد قدس الله روحه: حيث دخل عليه أحد النَّاس ومعه دفتر كبير، فسأله شيخنا: ما هذا الدفتر؟ قال له: والله يا شيخي هذا الدفتر تعلمت فيه اللغة الكردية في نصف ساعة! قال له: “كيف في نصف ساعة؟” فرد عليه: “والله يا شيخي ليس في نصف ساعة بل في خمس دقائق أيضًا”، قال له: يا بني إنّ اللغة الكردية مثل بقية اللغات، لها نحوها وصرفها وقواعدها وغير ذلك.. قال له: “لا”، يظن نفسه أنّه يعرف أكثر من الشَّيخ. قال له: كيف؟ قال: “علمني رجلٌ قاعدةً أنَّ كل كلمة بالعربية أقرؤها بالمقلوب تصير كردية!” فالآن في نظر الكثير من النَّاس أنّك إذا عملت عكس الإسلام تصير مسلمًا ويصير عملك إسلاميًّا! والله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ فالإيمان والإسلام ليس بالأماني ﴿مَنْ يَعْمَلْ﴾ [النساء: 123] إذا لم ينعكس الإيمان إلى أعمال وسلوك وأخلاق في السراء والضراء، وفي السر والعلن، وفي المصلحة وفي غير المصلحة، وفي اليسر والعسر، وفي التعب والراحة؛ فهذا إيمان الأماني وهو لا يفيدك لا في الدنيا ولا في الآخرة.
رأيت مؤخرًا تعدادًا عن المسلمين بأنَّهم بلغوا مليارًا وربع المليار، وعدد الذباب أكثر، فإذا كانت المسألة بالأعداد فالذباب كم مليونًا أو مليارًا أو تريليونًا؟ فالمسألة ليست بالعدد، ولـمَّا قال النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام: ((تداعى عليكم الأمم)) يعني تتآمر عليكم، ففي التّاريخ ما تداعت ولا اجتمعت أمم الأرض، فهل صار في التاريخ هيئة أمم وعصبة أمم؟ لم يصر إلَّا في عصرنا وجيلنا، وهذا من معجزات النَّبيِّ ﷺ، الأمم: يعني كل الأمم ((كما تداعى)) كما تتنادى ((الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أعن قلة نكون يا رسول الله؟)) تتآمر علينا الأمم ونحن قليلون أم كثيرون؟ ((قال: عن كثرة ولكنَّكم غثاء)) رغوة ((كغثاء السيل)) فهذا المليار وربع المليار غثاء ((يصيبكم الوهن، قالوا: وما هو الوهن؟ قال: حبّ الدنيا)) الأنانية والمصلحة ولو خالف أمر الله ورسوله، والهوى والفائدة والمصلحة، فنرمي جانباً بقول: “آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر”، ونضع الأنا والمصلحة والفائدة الشخصية في الكفة الأخرى، وهذا هو ((حبّ الدنيا، وكراهية الموت)) .
وكان المؤمن يبذل كّل شيء حتَّى روحه ودمه ومهجته ووجوده في سبيل إعلاء كلمة الله، وبقيادة رسول الله ﷺ، قيادة العلم والحكمة وتزكية النفوس.. إلى آخره.
الآيات لا تنحصر في أشخاص وإنما هي للعظة والتعليم
﴿كَذَلِكَ﴾ فالله عزَّ وجلَّ يقول: لا تحصروا الآيات بأبي جهل والوليد بن المغيرة، فهذان ضلا بالقرآن، والذين يضلون بالقرآن وبغير القرآن موجودون ما دامت الدنيا وما دامت الحياة موجودة: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [المدثر: 31] فمن الذي يشاء الله إضلاله؟ قال: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الصف: 5] فعندما تترك الصراط المستقيم إلى الطريق الملتوي الأعوج فهل سيهديك الله عزَّ وجلَّ؟ وإذا تركت الإسفلت [الطريق المعَبَّد] ومشيت في الصحراء والوَعْر فهل تصل إلى البلد الذي تريد، أم ستهلك بالعطش والحرارة والجوع؟ و”كذلك” مثلما ضل هؤلاء، فكأنَّ القرآن يقول: احذروا أنْ تكونوا مثلهم، فمن سار مسيرهم ونهج منهجهم وعمل أعمالهم فقد تحق عليه كلمة الضلال ﴿حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [الزمر: 71].
﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [المدثر: 31] وقال تعالى: ﴿وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد: 27-28] يوجد: “يهدي إلى الصراط المستقيم”، ويوجد: “يهدي إليه”، فهداية القلب إلى الله ومعرفة القلب بالله عزَّ وجلَّ فعند ذلك تتفجر أنوار العلوم الإلهية في القلب وأنوار الحكم في الرأس والعقل، فيصير كما كان أصحاب رسول الله ﷺ ورضي الله عنهم: ((حكماء، علماء، كادوا من فقههم أنْ يكونوا أنبياء)) من النَّبيُّ؟ هو الذي يختصه الله عزَّ وجلَّ بعلمه وحكمته ما يستطيع أنْ يُنْشِئ به أمة العلم والحكمة ومكارم الأخلاق.
عدد الملائكة كبير جدًا
قال تعالى: ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ [المدثر: 31] فالملائكة ليسوا فقط تسعة عشر، فيقول النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام بالنسبة لعدد الملائكة: ((أَطَّت السَّماء)) كيف إذا كان سقف وصار عليه ثقل أو “سدّة” صار عليها ثقل وهي من خشب؟ [السدّة: الطابق الذي يُبنى داخل حرم المسجد للمصلين] ستنحني وتصدر صوتاً، فما اسم هذا؟ اسمه الأطيط قال: ((أطت السَّماء)) وطقطقت من ثقل وأعداد الملائكة التي لا يحصيها عدد ((وحقّ لها أنْ تَئِط)) من كثرة الملائكة ((ما فيها موضع أربع أصابع إلَّا وملك واضع جبهته ساجدًا لله تعالى)) ، ففُتِن المخذولون وضلّوا بالعدد، وفي الوقت نفسه لا يعلم عدد الملائكة إلَّا الله عزَّ وجلَّ.
ذكر مصير الكفرة
ثمَّ رجع القرآن إلى ذكر جهنم مصير الكافر فقال: ﴿وَمَا هِيَ﴾ يعني جهنم ﴿إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾ [المدثر: 31] ليتنبه الإنسان إلى أنَّه إنْ لم يسلك صراط الله المستقيم ويفتش عن الهادي الذي يدلّه على الصراط المستقيم حتى يوصله إلى وطنه بكلّ راحة وأمان؛ فالجنّة وجهنّم تذكير للإنسان بوجوب استقامته وطاعته لله عزَّ وجلَّ ولرسوله ﷺ، وإذا فقدنا شخص رسول الله ﷺ فقد قال النَّبيُّ ﷺ: ((العلماء ورثة الأنبياء)) ، فهناك علماء بالله عزَّ وجلَّ، وهناك علماء بشريعة الله، وهناك أيضاً علماء بالله عزَّ وجلَّ وبشريعته، فإذا جمعك الله عزَّ وجلَّ بالعالم الحقيقي الوارث المُحمَّدي، فهذه نعمة لا يوجد أجلّ منها في هذه الحياة، فأسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا من الشاكرين على نعم الله عزَّ وجلَّ حتى يزيدنا نعمةً ونزداد شكرًا.
﴿وَمَا هِيَ﴾ يعني سقر وجهنم ﴿إِلَّا ذِكْرَى﴾ [المدثر: 31] لتتذكر ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ في القرآن ﴿لَذِكْرَى﴾ [ق: 37] تذكيرًا وإيقاظًا وتنبيهًا لتعرف طريق الحق فتسلكه، وطريق السّعادة فتمشي فيه، ولتعرف طريق الضلال وطريق الهلاك فتتجنّبه ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق: 37] حتى تنتفع بالقرآن يقول الله عزَّ وجلَّ: يجب أنْ يصير لك قلب، القلب الذاكر الحاضر مع الله عزَّ وجلَّ، والحي بنوره.. فمن أين تشترى سكة الحراثة؟ هل من سوق الحميدية أم من طريق الصالحية [أسواق في دمشق لبيع الألبسة] أم من بائعة الثياب النسائية؟ سكة الحراثة تُشترى من سوق الحدادين، فكذلك إذا أردت أنْ يصير لك قلب حيّ فهل تبحث عنه بصحبة ومحبّة أصحاب القلوب القاسية المحجوبة والغافلة عن الله عزَّ وجلَّ؟ يقول الشاعر
“أخي كنْ لأرباب القلوب ملازمًا” بالصحبة وبالهجرة.
وجوب الهجرة زمن النَّبيّ ﷺ
كان واجب على المسلم في زمن النَّبيِّ ﷺ وفرض عليه كفريضة الصَّلاة أنْ يهاجر من مكة التي فيها الكعبة وهي أشرف بلد على وجه الأرض، وهذا إذا كانت الكعبة ومكة لا يوجد فيها الداعي إلى الله عزَّ وجلَّ الذي يُعلِّم الكتاب والحكمة ويزكي النفوس، فالأرض والجبل والحجر لا تعلم الكتاب والحكمة ولا تزكي
ألا كنْ لأربابِ القلوبِ ملازماً وفي قربِهمْ حصِّلْ لك القلبَ سالـمَاً
وإنْ رُمتَ مِن خِلٍّ قديمٍ جمالَهُ فقلبك مرآةٌ فقابلْه دائمَاً
نظِّفْ المرآة من الأوساخ ومن الصّدأ، ووجّهها إلى الشَّمس، فإذا توجهت المرآة بعد نظافتها إلى الشَّمس فماذا يظهر في صفحتها؟
وكذلك عندما توجه القلب كما قال تعالى: ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [الأنعام: 79] تنعكس عند ذلك في القلب أنوار الله ومعرفته وحكمته، فالنَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام بلا معلّم ولا كِتاب ولا مكتبة، فمن أين أوتي النّبوة؟ وكذلك أولياء الله عزَّ وجلَّ والعارفون به، كان الشَّيخ أمين الزملكاني رضي الله عنه أميًّا من حيث العلم، لكنْ من جهة المعرفة بالله عزَّ وجلَّ فكان أكبر العلماء يتتلمذون عليه
وإنْ رُمْت من خل قديم جماله فقلبك مرآةٌ فقابلْه دائمَاً
ويقول الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي: ((أنا جليس من ذكرني)) ، فكثرة ذكر الله حسب أمر الله عزَّ وجلَّ: ﴿ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 41] وفي الأحوال التي ذكرها الله تعالى: ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 191] فافتح أبواب المدرسة الموجودة في قلبك فتأتيك منها خيراتها وعلومها وحكمتها وبركاتها.
انتقاء الغذاء للقلب
﴿وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا﴾ [المدثر: 31-32] يقال لكلّا: حرف ردع وزجر، لأمثال الوليد وأمثال أبي جهل، يعني: اخسؤوا أيها الكفرة، وهذا في زمن النَّبيِّ ﷺ، ألا يوجد الآن أمثالهم؟ كان في زمن النبي ﷺ أبو جهل واحد، واليوم كم أبو جهل موجود؟ وكان في زمن النَّبيِّ ﷺ أبو لهب واحد، والآن في زماننا كم أبو لهب؟ وكان ابن أبي بن سلول رأس المنافقين يدعي الإسلام وهو من أعداء الإسلام، والآن كم ابن أبي بن سلول؛ في بيتك وسوقك، ومن جلسائك وسُمَرائك؟
فحين تشتري النعل لقدمك تنتقيه، وكذلك حزمة فجل، وكذلك عندما تشتري ما يقضي به ابنك حاجته عليه، فعندما تذهب إلى العصرونية [سوق في دمشق يباع فيها لوازم البيوت] يعطيك صاحب الدكان واحدة، فلا ترضى حتى يعطيك مجموعة لتنتقي واحدة.. فكيف لا تنتقي لقلبك غذاءه ولا لعقلك جلساءه؟ فعليك أن تجالس الحكماء والعلماء وتحب الأولياء.. أين تجد الجرذ؟ هل تجده طوال النهار، وفي ركضه وصباحه ومسائه وظُهْرِه في الحدائق بين الزهور والياسمين والفل؟ تعرفون أين تجدونه، وإذا مر النّحل على الجيف والمستنقعات والمجاري وأماكن النجاسات هل يتوقف أو يجلس عليها ولو لحظةً واحدةً؟ لا يقف ولا يضيع من وقته دقيقةً أو ثانيةً واحدةً، فأسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلكم نحلًا لا تُرون إلَّا على الزهور والورود، ولا يجعلنا ذبابًا لا يَرى سروره إلَّا على الغائط وأماكن النجاسات والخبائث، “وقل لي من تجالس أقل لك من أنت”.
ردع الكفرة والمنافقين
﴿كَلَّا﴾ يعني فليخسؤوا، فأبو جهل والوليد وأمثالهما موجودون في كل زمان ومكان وفي كل عصر، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعل جلساءنا أحباب الله وأولياءه من العلماء بالله والحكماء.
﴿كَلَّا وَالْقَمَرِ﴾ [المدثر: 32] يعني أقسم بالقمر ﴿وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ﴾ [المدثر: 33] ولماذا يقسم الله عزَّ وجلَّ بالقمر؟ لتنظر فيه، وقد أُثبِت الآن أنَّ القمر كوكب أرضي مثل أرضنا، وهذا النّور المنبعث منه لأنَّه مثل المرآة، فتأتي إليه أشعة الشَّمس فيعكس أشعة الشَّمس إلى الأرض، فالقمر على أيّ شيء محمول وهو أرض؟ أمحمول ومرفوع بالحبال أم تحته أعمدة؟ فمن الذي رفعه؟ ﴿رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾ [النازعات: 28-29] فحين يحلف الله تعالى بالقمر يعني: فكِّرْ في خالق القمر، وفي عظَمته وحكمته وقدرته وفي النظام الذي يمشي به ﴿لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ [يونس: 5] لتنتقلوا من القمر وعظمته وحكمته وقوانينه إلى صانعه وخالقه ومدبّر نظامه.
﴿وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ﴾ وبسبب دوران الأرض يصير اللّيل والنّهار، فعجلة السيارة تدور بطاقة الوقود، والمروحة تدور بالطاقة الكهربائية، فبأي طاقة تدور الأرض؟ تدور بطاقة وقدرة العزيز القادر الذي فطر السماوات والأرض.
﴿وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ﴾ فكّر بالليل ونظامه وفي واضع نظامه ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا﴾ جهنّم وهذه الآيات التي ذكرها القرآن ﴿لَإِحْدَى الْكُبَرِ﴾ [المدثر: 34-35] إحدى الهِدَايات العظيمة إذا كان الضّمير يعود للآيات، وإنْ كان إلى جهنّم فإنَّها لإحدى البلايا والدواهي والمصائب التي لا حدود لها لمن يجعله الله عزَّ وجلَّ من أهلها ممَّن يؤثر الجهل على العلم، والضّلال على الهدى، وصحبة الشّياطين والأشقياء على صحبة الملائكة والأنبياء والأولياء.
﴿إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ﴾ [المدثر: 35] إحدى الدّواهي والتي لا أدهى ولا أعظم بلاءً منها إذا صار الإنسان من سكانها ومن مواطنيها.
ينبغي القرب من أهل العلم والابتعاد عن الجهلة
فما رأيكم ماذا تختارون؟ هل تختارون إحدى الكبر وسقر؟ وما الذي يختاره أكثر النَّاس؟ يختارون سقر ويختارون الداهية الكبرى والمصيبة التي لا مصيبة فوقها، فلماذا؟ هذا من الجهل والبعد عن العلم ومجالسه، ومن فقد العلماء، وفي الحديث الشريف: ((إنَّ الله لا يقبض هذا العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الرجال، ولكنْ يقبض العلم بقبض العلماء، حتَّى إذا لم يبقِ عالـمًا اتخذ النَّاس رؤساءَ جهالًا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) .
﴿إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ﴾ [المدثر: 35-36] إذا أنذرك شخص وقال لك: هذه أفعى وثعبان ولدغته تُهلك، فهل هذا إنذار أم لا؟ ومن الذي أنذرك؟ أبوك أو أمك، فإذا كان الذي أنذرك هو أباك أو أمك فهل يمكن أنْ يجبرك ويقهرك على أنْ تضع إصبعك في فم الأفعى والثعبان؟ فهل أبوك وأمك أرحم أم الله عزَّ وجلَّ بك أرحم؟
رحمة الله واسعة
يقول النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام: ((إنَّ الله خلق مئة رحمة، أودع منها في هذه الأرض رحمةً واحدةً)) بهذه الرّحمة تهجر الأم نومها طوال ليلها سهرًا على ابنها، فتتحمل أوساخه وأقذاره وضجيجه، و((بهذه الرحمة ترفع الفرس حافرها عن مهرها)) لئلا تطأه، فهذه رحمة واحدة أودعها الله عزَّ وجلَّ في الإنسان والحيوان والأمهات، ((وادخر تسعةً وتسعين رحمةً ليرحم بها عباده في يوم القيامة)) ويضيف إليهم رحمة الدنيا فتصير مائة رحمة يرحم الله بها عباده، فمن رحمته أنَّه يعطي من اتقاه ((ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) ، كما أنَّ عطاءه عظيم فكذلك عذابه عظيم وشديد.
﴿نَذِيرًا لِلْبَشَرِ﴾ [المدثر: 36] فالأب أنذر، والنَّبيُّ ﷺ أنذر وبشر، والله عزَّ وجلَّ بشَّر وأنذر، فإذا آثرت الهوى على التّقوى، وطاعة الشّيطان على طاعة الرّحمن، فقد أنذرك الله عزَّ وجلَّ وقامت الحجّة عليك، قال تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165] ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15] فحصل الإنذار والتبشير والبشارة، فالخيار لك: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾ [المدثر: 37].
الإنسان مخيّر
أتى رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: “يا رسول الله، إنَّ الله كتب عليَّ الشِّقوة”، يريد الله عز وجل أن يشقيني!.. فلو كان الله عزَّ وجلَّ يريد أن يشقينا لَمَا بعث لنا الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام، ولما بعث لنا جبريل عظيم الملائكة من السَّماء، ولما أنزل رسالاته ورسله إلينا، فهذه ليست علامات على أنَّه يريد أن يشقينا، ولكنْ من إكرامه لنا جعل لنا حرية الاختيار، فهل لشجرة المشمش خَيار أن تحمل المشمش أو تحمل البرتقال؟ وهل لهذا العمود خيار بأن يقف أو يمشي؟ وكذلك الجدار؛ أمَّا الإنسان فقد أعطاه الله عزَّ وجلَّ الإرادة والاختيار.
فأتى راقص مغنٍّ إلى النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام فقال: “يا رسول الله، إنَّ الله كتب علي الشقوة” يريد الله أن أصير شقياً.. وهذا فهم مغلوط في أفهام النَّاس، فيفهم أنَّ الله عزَّ وجلَّ كتب عليه وقدّر أي أنه قد أجبره، وهذا خطأ، فالإجبار هو فقد الإرادة، فهذه الطاولة لا تأتي إلى هنا باختيارها، والمصحف لا يُفتَح باختياره وإرادته، فقد أفقده الله عزَّ وجلَّ الإرادة فيُفتَح بإرادة قارئه، وأمّا أنت ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾.. فأتى رجل إلى النَّبيِّ ﷺ وقال: “يا رسول الله، إنَّ الله كتب عليَّ الشقوة” مثلما يقول الجَهلة: “كاسات معدودة بأماكن محدودة”، يعني أجبرنا الله عزَّ وجلَّ عليها، وهذا فرض علينا، وهذا خطأ، معنى: “كتب” يعني علم في الكتاب المحفوظ بأنَّك ستفعل كذا وكذا بمحض إرادتك واختيارك.. “فأذن لي في الغناء في غير فاحشة” يعني غناء من غير فاحشة، يعني لغو وتضييع وقت، فأجابه النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام: ((لا آذن لك ولا كرامة!)).
من صفات المسلم والمسلمة الابتعاد عن اللغو
لأنَّ من صفات المؤمنين: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: 3] فالمسلم والمسلمة لا يكون إلَّا في قول نافع أو كلام مفيد أو جلسة فيها صلاح وإصلاح، أمَّا أنْ يضيع من وقته بكلام أو بعمل أو بسهرة أو بجلسة أو ذهاب أو إياب في لغو أو إثم فهذه ليست من صفات المسلم والمسلمة، ووصفهم الله عزَّ وجلَّ فقال: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا﴾ [مريم: 62] اللّغو: ما لا نفع منه ولا ضرر، مثل: أكلنا وشربنا وذهبنا وأتينا، فهذا ليس فيه معصية ولا طاعة، أمَّا مجلس الغيبة والحسد والنّميمة والكلام في إيذاء النَّاس بقول أو عمل فهذا مجلس الإثم والتأثيم، فوصف الله عزَّ وجلَّ المؤمنين بقوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: 3] فإذا كنتَ معرضًا عن لغو الكلام والأعمال أليس من باب أولى أنْ تكون معرضًا عن إثم الكلام والأعمال؟ فهل أنت مسلم؟ وهل أنت مؤمن؟ وهل أنتِ مؤمنة؟ فهذا ميزان الإيمان، إن قيل له: “كم وزنك؟” وأجاب “سبعون كيلوغرامًا”، وهو سمين، سيقال له: “تعال وقف على الميزان”، فهل الميزان أصدق أم لسانه؟ نضعه على الميزان فيظهر مئة وعشرون كيلوغرامًا وهو يقول: سبعون، كما قال الشاعر
وإذا المقالُ مع الفعالِ وزنتَهُ صدقَ الفعالُ وخفَّ كلُّ مقالِ
فنسأل الله ألَّا يرى منَّا إلَّا الأعمال والأخلاق والمجالس التي يحبها، والأصحاب والجلساء الذين يحبهم.
هل الإنسان مجبور على فعل المعصية؟
قال له: ((لا آذن لك ولا كرامة! فإنَّ الله خلق لك رزقًا حلالًا طيبًا مباركًا فاخترت)) بإرادتك وبكامل حريتك ((ما حرّم الله عليك من الرّزق)) بدل ما أحل الله لك ((ولئن عدت إلى مقالتك مرةً أخرى لأجعلنك نكالًا للناس)) ، لأربِّينَّ النَّاس بك.. فكم من المسلمين الآن يفعلون ذلك! إن قلت لتارك صلاة: “لماذا لا تصلي؟” يجيبك: “حتَّى يريد الله!” فماذا يقول الله عزَّ وجلَّ؟ ألا يقول: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاة﴾ [هود: 114]؟ فهل الله عزَّ وجلَّ يكذب، يقول لك: صلِّ ولا يريدك أنْ تصلي؟ وإن قيل لمانع الزكاة: “ألا تزكي؟” يجيبك: “حتَّى يريد الله!” ألا يقول الله: آتِ الزكاة، فهل هو يكذب؟ يأمرك بالزكاة ثم يقول لك سرًّا بينه وبينك: لا تزكِّ؟ فهذا من جهل القلوب وموتها ومرضها، ونكاد أنْ نفقد أطباء القلوب وأطباء العقول الحكماء.
﴿نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾ [المدثر: 36-37] فالذي يذهب إلى السّينما هل يدخله الشرطي إليها بالإجبار أو إلى المسرح أو الملعب أو الخمارة أو سوق الحميدية؟ أينما تذهب فقدماك طوع إرادتك، ويداك وسمعك وبصرك طوع إرادتك، وكذلك إن أردت أن تذهب إلى مكة والكعبة، أو أردت أن تعاشر الأولياء أو تعاشر الشياطين، قال تعالى: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾ [المدثر: 37] فإذا شئت أنْ تُقدِم على الشرّ وتبعد عن الخير، فإن الله يقول: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر: 38] يعني أنك يوم القيامة محبوس بأعمالك.
كلٌّ واجد ثمن ما عمل
والقيامة قيامتان: القيامة الكبرى والقيامة الصغرى، قال بعض الصحابة رضي الله عنهم: “من مات فقد قامت قيامته”.
ويذكرون عن جحا رحمة الله عليه أنّهم سألوه عن القيامة، فقال لهم: “أيتهما تريدون الكبيرة أم الصغيرة؟” قالوا: “أهناك كبيرة وصغيرة؟” قال: “نعم”. قالوا: “أيتهما الكبيرة وأيتها الصغيرة؟” قال: “عندما يموت كل النَّاس فهذه القيامة الصغيرة، فأنا ماذا يهمني إذا مات كل النَّاس وكنت حيًّا؟ وعندما يموت جحا وَحْدَهُ فهذه القيامة الكبيرة!” هذا مثَل جحا [وطرفة جحا]، لكنَّ الحقيقة وكما ورد: “من مات فقد قامت قيامته”، انتهى، سُدَّت عليك أبواب العمل والتوبة والإنابة ومحو السيئات واكتساب الحسنات، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا من الذين يربحون هذه الحياة ولا يخسرونها.
﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ فأنت يوم القيامة محبوس بأعمالك، لا يفكك من رهانك ولا يخرجك من سجنك إلا إيمانك وعملك الصالح، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ﴾ هؤلاء فكّوا رهانهم ﴿كَانَتۡ لَهُمۡ جَنَّٰتُ ٱلۡفِرۡدَوۡسِ نُزُلًا﴾ [الكهف: 107].
﴿كَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلۡفُجَّارِ لَفِي سِجِّين﴾ [المطففين: 7]، سِجِّين مبالغة للسِّجْن، ﴿وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا سِجِّين﴾ [المطففين: 8].
﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ ففي يوم القيامة محبوس في جهنم بأعمالك حتَّى تستوفي قصاصك أو عفو الله عزَّ وجلَّ.. إلى آخره.
قال: ﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ﴾ فأصحاب اليمين فكوا الرهن ودفعوا الثمن وأعتقوا نفوسهم من سجن أهوائها ومن سلطان شيطانها ﴿فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [المدثر: 39-41] فهنا في التّلفاز تستطيع رؤية أمريكا، وألا يوجد عند أهل الجنّة تلفاز يرون أهل جهنم؟ فأنت هنا تتكلم مع أهل أمريكا، فهل أهل الجنة لا يوجد لديهم قوة يتكلمون بها مع أهل جهنم؟ فالله أعلم بتلفازه وهاتفه و”تِلِكْسه” فما نحن أمام الله عزَّ وجلَّ؟ ذرة في هذا الكون.. إلى آخره.
سؤال السعداء للأشقياء
﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾ [المدثر: 42] سؤالٌ وأيُّ سؤال! سؤال السعداء للأشقياء، وسؤال الموفقين للمنحوسين: ألم ننصحكم؟ ألم نهدِكم؟ ألم يأتِ الأنبياء؟ بعد الأنبياء ألم يأتِ العلماء؟ ألم توجد مجالس العلم؟ فآثرتم مجالس الجهل على مجالس العلم، ومجالس الإثم على مجالس الطاعة، فما الذي أوصلكم إلى جهنم أيها التعساء؟ هذا كلام من؟ أهل اليمين لأهل سقر، فهل تريدون أنتم أن تكونوا من السائلين أم المسؤولين؟ إن أردتم أن تكون من السائلين فيجب أن تكون أعمالكم أعمال أهل اليمين، وإذا لم تكنْ أعمال أهل اليمين فستكونون من المسؤولين، من أهل سقر، فهل تفكر عندما تقرأ هذه الآية أن تكون سائلًا أو مسؤولًا؟ كان الصّحابة رضي الله عنهم يقرؤون القرآن ليفقهوه ولتهضمه نفوسهم وإيمانهم، حتَّى ينقلب طاقة إيمان وعمل صالح، ظاهرًا وباطنًا، فهذه قراءة وحفظ القرآن.
﴿عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾ لا نؤدي الزكاة ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾ [المدثر: 41-45] يخوضون بمجالسهم في الباطل وفي اللغو والآثام والغيبة والنميمة، وفي زمن النَّبيِّ ﷺ بمحاربته والطعن فيه، يقولون عنه: ساحر وكذاب وشاعر ومجنون، وأليس هناك مجرمون الآن وسيُسلَكون في سقر؟ وسيسألهم أهل اليمين: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ [المدثر: 43] يا ترى المصلون والصَّلاة التي ذُكِرت في القرآن ما هي؟ هل هي التي يصليها النَّاس بأجسامهم، ولا يعون ولا يفهمون حديث الله عزَّ وجلَّ ومناجاته في صلاتهم؟ فهذه ليست الصَّلاة التي أمر الله عزَّ وجلَّ بها وأوجبها، فالصَّلاة التي أمر الله عزَّ وجلَّ بها وأوجبها هي التي ﴿تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45] فكما قال ﷺ: ((من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلَّا بعدًا)) .
من أعمال الكفرة البخل والافتراء
﴿وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾ [المدثر: 44] فعند نزول هذه السورة لم يكن هناك زكاة محددة (2.5 %) اثنان ونصف في المئة وما يتبع ذلك، لكن كان مطلوب من كل إنسان أنْ يتصدّق بحسب ما يملك وما يمكن، ولو تمرةً لمن يحتاج إلى تمرة، أو كسرة خبز أو شربة ماء لمن هو في حاجة إليها.
فالصَّلاة هي حسن الصلة فيما بينك وبين الله عزَّ وجلَّ لتصير الإنسان الناجح السعيد الموفق الغني العالِم الحكيم، فالصَّلاة من أجل هذه الصلة مع الله عزَّ وجلَّ وفي مدرسة الله لينقلك من الظلمات إلى النور ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ ونقلة من الضلال إلى الهدى ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى: 7-8] ونقلة أيضًا من الفقر إلى الغنى، بماذا تكون هذه النقلة؟ تكون بالعمل والجد وعدم تضييع الوقت، هناك أناس يمضون شبابهم كلّه بلا عمل، وكذلك ليلهم ونهارهم ((إنَّ الله يكره العبد البطّال)) .
توصية بالذكر
فأكثروا من ذكر الله، وافنَوا في ذكر الله، وقوّوا رابطتكم مع أحباب الله عزَّ وجلَّ، فهذه بعض الثمرات، والعطاء الإلهي ليس له حدود، هذا في الدنيا فضلًا عن الدار الآخرة ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ [النحل: 30] وأبشروا كما أراكم وترونني: أرى في قلبي أنه في السنوات العشر الآتية سيبزغ إن شاء الله فجر الإسلام ولو كره الكافرون والمجرمون والمشركون.