تاريخ الدرس: 1994/01/07

في رحاب التفسير والتربية القرآنية

مدة الدرس: 01:02:28

سورة الملك، الآيات: 22-30 / الدرس 7

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصّلوات وأتمّ التَّسليم على سيّدنا محمّدٍ المبعوث رحمةً وكافّةً للعالمين، وعلى أبيه سيّدنا إبراهيم وعلى أخويه سيّدنا موسى وعيسى، وجميع إخوانِه من النّبيين والمرسلين، ومن تَبعهم بإحسان إلى يوم الدّين، وبعد:

هل يستوي الأعمى والبصير؟:

يقول الله عزّ وجلّ في صدد بناء الإنسان الفاضل والكامل: الكامل في جسده، وفي صحّته، وفي عقله، وفي روحانيته وفي كلّ دروب حياته، إلى أن يدخلَ باب الخلود بما يسمّى “الموت”.. فيعلّمنا الله عزّ وجل ّكيف يكون ذلك الإنسان المُسَعد المنُعَم النّاجح العزيز في هذا الكوكب وفي عالم السّماء، ويقارن بين الإنسان الشقيّ التّعيس الجهول المُخفِق المخذول الخاسر على طريق المثال فيقول: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ [الملك:22] كما الأعمى يتعثّر في مشيته، فتاره يتعثّر في صخرةٍ فيسقط على وجهه، وتارة يسقط في بئرٍ أو حفرةٍ أو في وادٍ، ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ [الملك:22] لا يرى أمامه ما يشقيه ليحذره ويبتعد عنه، ولا يرى ما يسعده ليتجّه إليه ويُقبل عليه.

﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ [الملك:22] مقلوب على وجهه ﴿أَهْدَى [الملك:22] وأعرف بالطّريق الموصل إلى ما يريد ﴿أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك:22] يسألنا الله تعالى أيّهما الأهدى المكبّ أم السائر على صراط المستقيم؟ فهذا توجيه وإرشاد بطريق السؤال والاستفهام: ألَّا تسيروا عميانًا في هذه الحياة: عميان القلوب.. فاسلكوا الصّراط والطَّريق الموصل إلى مدرسة الله.. فخلق الله عزَّ وجلَّ هذا الكون، فخلق نجومه وشموسه، وأقماره وأرضه وسماءه، وشموسه وأقماره، وخلق كلّ شيء فأحسن خلقه.. فالله يريد أن يعلّمكم في مدرسته، ويكون أستاذكم على هذه الأرض.. فأيّهما أهدى؟ من يمشي أعمى: يسقط على وجهه في هَلَكَتِه أمّن يمشي مبصرًا يرى الطّريق السّوي فيسلكه، والطّريق المهلك فيجتنبه؟ فأيُّهما أهدى إلى الخير وإلى السّعادة؟ فالمعنى اسلكوا طريق الخير، وطريق السّعادة وطريق العلم وطريق الفكر وطريق صحبة الفضلاء الحكماء، لأنّ ((المرء على دين خليله)) وصاحبه وصديقه ((فلينظر أحدكم من يخالل)) 1 .

عداوة الكفار للنَّبيِّ ﷺ:

﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ [الملك:22]، فإذا رأيت أحدهم ماشيًا مكبًا على وجهه، ويقع في غضب الله وفي معاصيه، فهل يسمح لك العقل أن ترافقه أو تصادقه أو تسامره أو تجالسه؟ هذا فضلًا عن وجوب واجبٍ آخر عليك وهو أن تأمره بالمعروف وتعلّمه ما يجهل، وتردعه عمّا يُهلك ويُلهي، وترشده إلى ما ينفع ويهدي.. هذا هو الإنسان المسلم، ومعنى المسلم: الذي استجاب لأوامر الله عزَّ وجلَّ فنفَّذَها، ووقف عند محارم الله فلم يتجاوزها، وأصغى إلى نصائح ووصايا الله عزّ وجلّ وحوَّلها من سماعٍ إلى أعمالٍ وأخلاقٍ وفهمٍ واستقامة.

إذا قرئ القرآن على الأموات فماذا يستفيد منه الأموات وقد أعرضوا عنه وهم أحياء؟ فهذا كتاب الأحياء لا كتاب الأموات، وهذا كتاب من ألقى السّمع وهو شهيد، لا كتاب الصمّ الذين لا يسمعون الحقّ ولا يريدون سماعه، ولا يرون الحقّ ولا يريدون رؤيته، ولا يتكلَّمون بالحقِّ ولا يريدون النّطق به، هل هذا مثل ذاك؟

فإذا كانا ليسا مستويين؛ أحدهما خير والآخر شرّ، فيقول الله لنا: أيهما تختارون، وأيّ الطريقين تسلكون، وبأيّ الشّخصين تقتدون؟ يجب أن نجاوب الله بالعمل، ونستجيب إلى الله عزّ وجلّ بالفعل، يفعل هذا من كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.. والقلب لا يكون إلَّا بوجود المعلِّم المربِّي، كما أنَّ النَّجار لا يكون نجارًا إلّا إذا ارتبط بنَجَّار يصحبه من شروق الشّمس إلى غروبها؛ بخدمته وملازمته وبسمعه وببصره وبقلبه، وإذا لم يعطه كلّ جوارحه وكلّ أحاسيسه فلا يصير نجارًا، فهل بحثتَ عن صاحب قلبٍ تصاحبه كما يصاحب اللبنُ الحليبَ الحار.. فبصحبة ساعةً أو ساعتين ينقلب وعاء الحليب الحارّ إلى لبن رائب؟ وهذا بفضل الصّحبة، كما قال الشّاعر

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكلّ قرينٍ بالمقارَنِ يَقتدي

قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ [الملك:22] مكبًّا في الضّلالة وفي المعاصي وفي الغفلات وفي الجهالات، أيّهما أهدى؟ ﴿أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم صراط الله ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]

﴿سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك:22] فمن الذي يخاطبكم؟ الذي يخاطبكم ويعلّمكم، ويقدِّم لكم نصائِحَه ووصاياه لتسعدوا. ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ [سورة المؤمنون:78]، أنشأكم وخلقكم بعد العدم، وأوجدكم بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا.. كان الإنسان نطفة، والنّطفة كانت دمًا، والدَم كان طعامًا من بطاطا وزر وغيرها، فصار بالمعدة، فهضمته المعدة حتى جعلته مائعًا، فانتقل إلى الأمعاء امتصَّته الأمعاء والجهاز الهضميّ، فتحوَّل دمًا، فذهب إلى الخصيتين، وهناك نشأ الإنسان وهناك مصنعه وهناك وُلِد، فمن الذي حوَّل الطعام “البطاطا” إلى إنسان وإلى بيك أو محاميّ أو طبيب أو وزير؟ يا بطاطا ويا سلطة! بعد ذلك صرت تريد أن تتحَدَّى الله وتُعرِض عن كلامه، وتفرّ من مدرسته وتعقّ أساتذته، وتنسى لقاءه وتهجر قرآنه وكتابه.. وإذا قرأته تقرؤه لا للعلم والفهم.. إذا أرسل لك موظفك الصّغير أو المستخدم ورقة فتقرؤها للفهم وللعلم، وإذا أرسل رئيس الجمهورية لك كتابًا: كيف تقرؤه؟ هل تقرؤه للقراءة أم للفهم والعلم؟

فإذا كنت لا تفقه كتاب ربّ العالمين خالق الكون بلا حدود ولا تفقه رسالته وتتعمَّد مخالفة أوامره وبكلّ قصد وتصميم ترتكب محارمه، وبكلّ قلّة حياء تحارب أولياءه وأحبابَه، وقد رأيتَ مِنَ التجارب مَنْ استجاب إلى الله تعالى كيف أعزّه الله، وأغناه الله، ورفعه الله.. ولما أعرض المسلمون عن فهم كتاب الله وعن امتثال أوامره وعن التهجم على محارمه أذلَّهم الله.

توفي النّبيّ ﷺ عن مئة ألف مسلم، والمسلمون الآن أكثر من مليار، فأيّ الفئتين أعزّ، وأيُّهما أقوى، وأيّهما أرفع؟ فكانوا هم الدّنيا وكانوا همُ العالَم.. كانوا هم هيئة الأمم ومجلس الأمن، وطهّروا العالَم من الاستعمار والجهل والخرافة والعداء، حتّى جعلوا من نصف العالَم أمّة واحدة، كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى وتنادى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى.

توبيخ الكافرين على عبادة الأصنام:

﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ [الملك:22] هذا خطاب لكَ ولي ولكِ، فعليكِ أن تعرفي أين أنتِ؟ هل مكبَّةٌ على وجهِك؟ قد تم جرك من قدميك، وعيونك ومناخرك على الحجارة، والدمّ ينزف منك ثم تلقين في مكان مهين، أم تمشين على صراط الله، صراط الذين أنعم الله عليهم من النّبيين والصّديقين والشّهداء والصّالحين.. فعلى الإنسان ألَّا يغترّ بوجوده، فمن مدّة كنّا أطفالًا لا يملأ عقولنا إلَّا الكرة ولعب الأطفال، وبعد ذلك كبرنا وأصبحنا نحبّ الزّينة واللّباس الجميل، وبعد ذلك صار آباؤنا في القبور، كجسد من التّراب وإلى التراب يعود، أمّا النّفس فهيَ الباقية.. فالموت هو الباب إلى الخلود، وإلى البقاء بلا فناء، وإلى الحساب: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة:7] لا تحتقر مثقال الذرّة من الخير، ولا تقل ليس لها قيمة ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:8].

ففيروس الإيدز لا تراه العيون، أصغر من مثقال الذرّة، فالذرّة [بالتعبير اللغوي لا الكيميائي] سبعين مثقالاً، ولعله يوجد في الذرة الواحدة الأعداد الكبيرة من فيروس الايدز، فالذي يزني ألا يلقى جزاءه في الدّنيا قبل الآخرة؟ ﴿يَرَهُ [الزلزلة:8] يشهد، فهل أنت مؤمن بالقرآن؟ وهل أنت مؤمن بهاتين الآيتين فقط؟ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة:7] في الدّنيا يراه ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ [النحل:30] يراها ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ [النحل:30] فهل أنت مؤمن بكتاب الله؟ وهل أنت مؤمن بالقرآن؟ فإن آمنت بالسمّ هل تشربه وتتجرَّعه؟ وإن آمنت بالذهب والجوهر هل ترفضه وتردُّه لمن وهبه لك؟

قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي [الملك:23] الذي يخاطبكم ويعلّمكم وأستاذكم: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ [الملك:23]: خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا، كما قال تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1] أجيبوا الله؟ فمن الذي أنشأكم؟ ﴿هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ [الملك:23] هل فقط أنشأكم؟ فلو خلقكم صخرة أو حيوانًا ﴿هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ [الملك:23] بل قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4] وقال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70] وقال أيضًا: ﴿سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [لقمان:20] جعلك أفضل مخلوق على هذا الكوكب.

قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ [الملك:23] فأعصاب السّمع حتى تتصل بمركز السّمع في الدّماغ مركّبة من ملايين الأعصاب، فمن ركَّبها، ومن المهندس المشرف على عدم الخلل؟ فالمعمل هل يعمل من دون مشرفين أو مراقبين؟

﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ [الملك:23] كذلك البصر كي يتّصل بمركزه في الدّماغ مركّب من أكثر من ثلاثين مليون عصب، فمن ركّب الأعصاب؟ أيّ كهربائيّ أو أيّ مهندس كيمائيّ؟ ومن دخل في هذه الشوارع والطّرقات؟ وفي أيّ مكان ركّبت؟ ومن أين جُلبت المواد الأوليّة وصُنعت؟ وفي أيّ كلية أخذ المهندس شهادة هندسة تركيب أعصاب السّمع والأبصار؟ ﴿وَهُوَ [الحديد:4] فهو: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] بفراشك هو معك، وفي عملك هو معك، وعند غضبك هو معك، وعند سمعك هو معك، وفي خلواتك هو معك.

إذا ما خلوتَ الدّهرَ يَومًا فَلا تقل
خَلَوْتُ وَلكِنْ قُلْ عَلَيَّ رقيبُ
ولا تحسبَنَّ اللهَ يَغْفَلُ لحَظَةً ولا أَنَّ مَا تُخْفِيْهِ عَنْهُ يَغِيْبُ
ألم ترَ أن اليوم أسرعُ ذاهبٍ وأنّ غدًا للنّاظرين قريبُ

ومتى الحساب؟ “ألم ترَ أن اليوم أسرعُ ذاهبٍ” فاليوم ذهب، والطفولة ذهبت، والشباب ذهب، والشَّيبُ ظهر، ﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18] القيامة.

فهل نفهم كلام الله؟ وهل نقرأ أم نحن أمّيون؟ فإذا كنت تقرأ كلّ شي ولكنَّك لا تقرأ القرآن قراءة الفهم فأنت أمّي، وإذا كنت تقرأ وتكتب وكنت طبيبًا، ولكنك في الهندسة أمّيًا، وإذا كنت مهندسًا فأنت في الصيدلة أميًّا.. وإذا كنت تعرف علوم الدّنيا ولكن إسلامك الذي يسعدك في الدّنيا والآخرة لا تعرفه، ولا تعرف طريقه، ولم تدخل مدرسته، ولم تعرف أستاذًا يعلّمك ويربّيك! فهذه أشنع أنواع الأميّة.. فوصف الله عزّ وجلّ الصحابة بأنّهم أمّيون في الكتابة والقراءة، أمّا في الإيمان وفي الحكمة وفي العلم المسعِد والحياة، فقد قال عنهم رسول الله ﷺ: ((حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء)) 2 فالنّبيّ هو الذي يصنع أمّة؛ الأمّةَ الفاضلة، أمّةَ العلم والحكمة.

نِعَمُ الله تعالى على الإنسان:

﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ [الملك:23] كم أنت حريص على نشأتك ووجودك؟ أقلّ مرض أو انفلونزا تستغيث بالدكتور وتقول: يا دكتور، أو يا صيدلي، وتبحث عن علاج عند ثاني وثالث ورابع فإن لم تجد تذهب إلى بيروت فإن لم تجد تذهب إلى السّعودية فإن لم تجد تذهب إلى ألمانيا، حرصًا على وجودك، فمن الذي أعطاك الوجود، فهل شكرته، وهل أطعته، وهل قبلت نصائحه؟ وهو أحبّ إليك من كلّ مُحبّ، وأحبّ إليك من محبّتك لنفسك، وأنت أحبّ عنده من محبّتك في قلب أمِّكَ وأبيك، فلمَ تعصِه، ولمَ ترفض وصاياه، ولمَ تتجاهل دراسته وثقافته؟

﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ [الملك:23] هل تحفظها؟ فأنت الحريص على وجودك ونشأتك أتتذكر نعمة المنشئ الموجد الخالق الصانع المهندس؟ فلو جعل عينيك تحت إبطك، أو وراء ظهرك، ولو جعلهما دون جفون، وأنت نائم ينزل التراب، وعند الغبار كيف ستتقي الغبار عن عينيك؟ مع ذلك إذا أردت أن تغمض عينيك وتمشي بالغبار تسقط بحفرة، جعل لك الأجفان مثل مشبّك يمنع الغبار ولا يمنع النّظر، ما أعظم هذا المهندس، وما أعظم هذا الخالق المبدع الكريم المحسن!

﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ [الملك:23] العقل، سواء عقل الدّماغ أو عقل القلب والروح، فكم من رؤوسٍ لها عقولٌ تدرك أمر الدّنيا، ولكن ليس لها قلوب تدرك أمر الآخرة! لها رؤوسٌ تدرك الأمور الزائلة الفانية، وهي في عمىً عن الأمور الخالدة الباقية.

﴿قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [الملك:23] إذا أعطاك أحدهم هذه الورود الصغيرة، ماذا تقول له؟ شكرًا، وإذا قدّم لك نظَّارات وأنت بحاجة لها، تقول له: عشرين شكرًا، أليس كذلك؟ وإذا أعطاك حوالي مئة ألف ليرة، تعطيه مئة ألف “شكرًا”، إذا لم يكن لك عيون ولا يوجد في كلّ الدّنيا عيون بني آدم، ولكن يوجد عيون جرذ، وقالوا لك: عيون الجرذ بمليون ليرة، ستقول: “رجاءً أعطوني فقط لأرى أمامي، ولو عيون جرذ أو عيون خنزير!”.. فأعطاك الله عيونًا!

هجر الكفار للقرآن الكريم:

﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ [الملك:23] جعل لكم السّمع، ولمَ قدّم الله السّمع على البصر؟ لأنّ الجنين في بطن أمّه يسمع قبل أن يبصر، ودائماً إذا ذكر القرآن السمع والبصر قدّم السّمع على البصر، ممّا يفيد اليقين بأنّه تنزيل من حكيم حليم.. فهل نستحق هذا؟ إذا أرسل لك وزير رسالة، ستقول: “من أنا حتى يرسل لي رسالة؟” وإذا كان المرسل رئيس الوزراء يدعوك إلى بيته، ستقول: “من أنا؟” وإذا كان المرسل رئيس الجمهوريّة، وإذا كان المرسل ربّ العالمين عن طريق أشرف الملائكة جبريل، وأشرف الأنبياء سيّدنا محمّد ﷺ، وأشرف الكتب القرآن.. وكأنّك ليس لديك خبر ثمَّ ترميه وراء ظهرك!: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30].

فالآن اتخذ المسلمون القرآن مهجورًا؛ هجروا وصاياه وهجروا فرائضه وهجموا على محارمه، ولم يرفعوا رأسًا بهديه ولا بإرشاده، ويأتيهم الجواب من الله عزّ وجلّ ((وإنه لا يذلّ من واليت)) فالذي يواليك ويقبل عليك لا يُذَل ((ولا يعزّ من عاديت)) 3 !

فالمسلمون في أيّ حال؟ في البوسنة والهرسك مسلمون، والمسلمون مليار! ما الفائدة إذا وجدت مليار ذبابة؟ فهل يشرّف الذُّباب كثرة العدد؟ أو مليار جرذ، فماذا يشرفهم أن يكونوا مليارًا؟ كلّما كان العدد أكبر تكون النّكبة بهم أكثر.. وما الفائدة إذا كان لديك مئة حصان ميّت؟ فحمار حيّ أفضل من ألف حصان ميت.. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحيي قلوبنا بذكره، وعقولنا بقرآنه وهديه، ويبعث لنا المعلّم، ويبعث لنا الطّبيب الذي يعالج العقول حتى نحسن الفهم فنرى الحقّ حقًّا ونتجه إلى اتِّباعه، والباطل باطلًا فنبتعد عنه ونجتنبه.

فإذا جعل لكم السّمع، فهل شكرت الله عزّ وجلّ على هذه النّعم؟ والشّكر بثلاثة أشياء، كما قال الشاعر

أفادتكم النعماءُ مني ثلاثةً يدي ولساني والضمير المحجَّبا

النعماء: التي قدمتها مني إليكم، فماذا أعطيتكم مقابلها؟ “يدي” كلّها بالعطاء للمنعِم، “ولساني” فكلّ لساني بالشّكر والثّناء على المحسن، “والضّمير المحجّبا” قلبي المحجوب رؤيته عن النّاس مملوء بالحبّ والشّكر والامتنان.

فهل شكرنا الله بأعمالنا وبأقوالنا وبقلوبنا؟ فإذا قرأت سورة تبارك وفهمت، وبعد الفهم عملت بما فهمت، بأن قال لك: “هذه جوهرة فخذها، وهذه أفعى فاجتبها”، فإذا أخذت الأفعى وتركت الجوهرة، فهل تكون قد آمنت بكلام النّاصح؟ وهل تكون فهمت كلام النّاصح؟ فإذا قلت: “أنا مسلم” وتركت أوامر الله وفعلت محارمه فهل أنت قارئ؟ وهل أنت مسلم مستجيب لأوامر الله؟ فجدّد توبتك من إسلامك الميّت وانتقل إلى الإسلام الحيّ، إسلام العلم والمعلّم، وإسلام الحكمة والحكيم؛ لأنّك لا تصبح نجارًا من غير معلّم نجارة، ولا حدّادًا من غير معلِّم حِدادة، ولا متسولًا من غير أن تتعلّم من المتسوّلين.

طرفة جحا وابنة المتسوّل:

يروى أنّ جحا قد رأى فتاةً جميلةً في الطَّريق، فأحبَّها، فسأل عن أبيها، فإذا به شحاذ [مستوّل]– يوجد أناس يتزوجون من الطَّريق!- فخطبها، فقال له: “لا أزوجك إيّاها”، وعرض عليه أن يعطيه ما يريد فلم يرضَ، فقال له جحا: “لماذا” فقال الأب: “لأنَّني متسوّل، وغدًا إن غضبت منها ستعيّرها وتقول لها: “يا بنت المتسوّل”، فإذا تسوّلت أربعين يومًا أزوّجك إيّاها، حتّى إذا أردتَ أن تعيّرها بأبيها، تقول لك: “أنت متسوّل” فذهب جحا وتسوّل أربعين يومًا، وبعد أربعين يوم قال للرجل: “أنا أكمّلت الشّرط” فقال له: “أريد أن أمتحنك؟” وكان الامتحان بالحمّام، ذهب جحا مع الرّجل إلى الحمّام، وفي الحمّام قال جحا للرّجل: “أنا نسيت الصّابون بالبيت فهل يمكن أن تشحدني [تعطيني] صابونة؟”، فقال له: “الآن نجحت في الاختبار وأخذت عشرة من عشرة [علامة كاملة]“.

نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا إسلام المعلّم وإسلام المربّي، فالتّسوّل بحاجةٍ إلى معلّم، وجهنّم بحاجةٍ إلى معلّم، والشّقاء بحاجةٍ إلى معلّم، والسّيجارة بحاجةٍ إلى معلّم.. فكيف تعلَّم المدخن التَّدخين، ومن أستاذه؟ رافق شخصًا يدخِّن، ورافق حَشَّاشاً [متعاطي مخدرات] تصير مدمنًا.. فالصَّديق أستاذٌ ومعلّم.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعل أصحابنا الأتقياء العلماء الحكماء أحباب الله ومحبوبيه.

ندم الإنسان عند الموت:

قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ [الملك:23] فينبغي أن تكون النتيجة كثيرًا ما تشكرون، وإذ بالنتيجة، كما قال الله تعالى: ﴿قليلا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ [الملك:23، 24] لست وحدك؛ بل كلّ الجنس البشريّ، فهو الذي ذرأه وخلقه وأوجده على الأرض، ثمَّ إنَّكم لستم بمتروكين، قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [المؤمنون: 115، 116] فما خُلِقنا عبثًا، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص: 27] فما خلق الله شيئًا في هذا الوجود إلّا لغاية وحكمة، فهل تعرفون لماذا خلق الله القرّيص؟ [القريص نبتة معروفة يسبب لمسها حكة وألم في البشرة] فنبات القرّيص إذا غُلِيَ وشربه من يشكو من التّحسس فإنَّه يشفى من الحساسية، وإذا كان يشكو من الأرق فإنَّه يشفى من الأرق، فهل خلقه الله باطلًا؟ والعلماء يبحثون عن الحيوانات في قاع البحار؛ ليستخرجوا منها المنافع والحكم.
قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ [المؤمنون: 79] ليس هملًا: ﴿وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المؤمنون: 79] فأمامنا الحساب، وأعمالنا مسجّلة في كتاب لا يغادر ولا يترك صغيرة من الأعمال ومن الأقوال ومن النّظرات ومن السّماع، ولو كلمة صغيرة ينبغي ألا نسمعها فهي مسجّلة في ﴿الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ [الكهف: 49] لا يترك ﴿صَغِيرَةً [الكهف: 49] من الأقوال، حتى من الخطرات، خطرات نفسك وهواجسها ونواياك.. فما معنى “يعلم ما تسرون”؟ يعني نظّفوا سرائركم، وما معنى “عليم بذات الصدور”؟ يعني لا يكن في قلبك حقد ولا غلّ ولا حسد ولا خيانة ولا مكر؛ بل ليكن الحبّ والإخلاص والصّدق والمعونة والخير لكلّ الخلق.
((أتى رجل إلى النبي ﷺ بعرفة فَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ أَوْ بِخِطَامِهَا، فقال: نَبِّئْنِي بِعَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى الْجَنَّةِ وَيُبْعِدُنِي مِنْ النَّارِ؟ فقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ أَوْجَزْتَ فِي الْخُطْبَةِ [السؤال] لَقَدْ أَعْظَمْتَ أَوْ أَطْوَلْتَ)) 4 ، كلماتك قصيرة، لكن السّؤال ضخم، فما معنى يقرّبني من الجنة؟ يعني سعادة الأبد، ومعنى يباعدني من النّار: يعني النّجاة من شقاء الأبد، فهل هذا أمر قليل ويُقضى بكلمتين؟
قال: ((تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ)) وأعظم ما يشرك الإنسان بالله: أن يعبد الأنا والهوى “أنا، مصلحتي، فائدتي، جاهي”، فأبغض إله عبد في الأرض الهوى 5 يعني: الأنانيّة، وحبّ الذّات، والمنفعة الشّخصيّة ولو على حساب دينك، أو حساب قرآنك، أو حساب إسلامك، فأنت لا تعبد الله حقيقة، فلو عبدته لأطعته ولكن تعبد هواك، ولذلك أطعتَ نفسك وهواك.
((نَبِّئْنِي بِعَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى الْجَنَّةِ وَيُبْعِدُنِي مِنْ النَّارِ قَالَ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ كُنْتَ أَوْجَزْتَ فِي الْخُطْبَةِ لَقَدْ أَعْظَمْتَ أَوْ أَطْوَلْتَ)) فإذا كانت خطبتك قصيرة، لكنّك قد أعظمت المسألة.. أن تعبد الله فتكون له عبدًا، وإذا كان العبد بحضرة سيّده، فمن سيّده؟ “ملك الملوك”، فهل يجرؤ عبدُ الملك أن يخالفه وهو بين يديه؟ فهو يملك سمعه وحياته ووجوده وعدمه.
قال: ((وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ)) الصّلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، الصّلاة التي قال الله عزَّ وجلَّ عمن يقيمها: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون: 2، 3] فلغو الكلام: “ذهبنا وقَدِمْنا”، “أكلْنا وشَرِبْنا”، أمّا الإثم: أن تقول: “فلان هكذا وفلان ليس هكذا”، وكذلك إن ذكرت معايب النّاس ونقائصهم، وحسدهم وغيبتهم ونميمتهم، فهذا ليس لغوًا، هذا حرامٌ، والمسلم الآن لا يفرّق بين الحلال والحرام! ولا يفهم معنى اللّغوّ، مع أنّه يقول: “إنّه قرأ القرآن برمضان خمس ختم أو عشر ختم” ولكنه لم يفهم كلمة واحدة، كمثل الذي قيل له: “ماذا عرفت من العشق والغرام؟” فأجاب: “أوحشتنا” فهل أصبح محبًّا!
((وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَأْتِي إِلَى النَّاسِ مَا تُحِبُّ أَنْ يُؤْتُوهُ إِلَيْكَ)) فعليك أن تعامل النّاس: جارك أو خصمك ومن تعرف ومن لا تعرف كما تحبّ أن يعاملوك، فإن طلب أن تساعده فساعده، ولا تؤذه بقول أو عمل، فهل تحب أن يؤذيك أحد بقول أو عمل؟ فهذا الذي يقرّب من الجنّة ويباعد من النّار.. فهل تحبّون أن تتقرّبوا من النّار، وتتباعدوا عن الجنّة أم أن تتقرّبوا من الجنّة وتتباعدوا من النَّار؟ فمن الدّليل الذي يدلّنا على الطّريق الأقرب؟ النبيّ ﷺ، فهل تحبّون أن تقبلوا توجيه النّبيّ ﷺ أم توجيه إبليس؟ فإبليس الذي يدلُّكم على الطَّريق الذي يباعدكم عن الجنّة، ويقرّبكم من النّار.

بيان قدرة الله في الخلق والحشر:

وأبلس الأباليس قد يكون أخاك أو ابن عمّك أو صديقك أو ابنك أو أباك أو جارك أو أستاذك، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

((وَتَأْتِي إِلَى النَّاسِ مَا تُحِبُّ أَنْ يُؤْتُوهُ إِلَيْكَ، وَمَا كَرِهْتَ لِنَفْسِكَ فَدَعْ النَّاسَ مِنْهُ)) فالذي لا تحبّه لنفسك ينبغي ألَّا تحبّه للناس، ولا تعمله للناس، فهذا يقرّبك من الجنّة ويباعدك من النّار.

ورغم كلّ هذا الكلام كان كفّار قريش كما قال تعالى: ﴿أم عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24]، وقال تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة: 18] كلّ هذا الكلام كانوا يقولون: ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ [الملك:25] فأنت تقول لنا: “يوجد قيامة وآخرة، وجنّة وحساب، فمتى سيقع ذلك؟” ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الملك:25] يا محمّد! أنت وأصحابك، فقال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ [الملك:26] فلا أعلم متى يوم القيامة، ومهمّتي: ﴿وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الملك:26] أبيّن لكم الحقيقة، حتى لا يبقى لكم عند الله عذر فتقولوا: “يا ربّ لمَ لمْ ترسل لنا من يرشدنا ومن ينذرنا ومن يدلّنا؟” ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً [الملك:27] فالوعد سيأتي، سواء في الدّنيا، فقد نصر الله عزّ وجلّ النّبيّ ﷺ والمؤمنين معه، أو في الآخرة: بلقاء الله، وسعادة المؤمنين وشقاء الأبد للكافرين.

﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ [الملك:27] الوعد منجز ﴿سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الملك:27] فالمحكوم بالإعدام عندما يرسلونه إلى حبل المشنقة كيف يكون وجهه من الخزي والكآبة والحَزن والمقت وسواد الوجه؟ فهكذا عندما يرون صدق الوعد وتنجيزه: ﴿سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ [الملك:27] فالملائكة تقول لهم: ﴿هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ [الملك:27] عندما كنتم تقولون: “أين النّصر؟” فهل صدقتم؟ فيوجد نوع من البشر لا يصدِّق حتَّى يرى.. وأمّا العاقل فبمجرّد أن يشمّ رائحة اللّحم، يعرف أنّه يوجد من يشوي! أليس كذلك؟ وإذا شممنا رائحة البخور، فنقول: يوجد مبخرة.. نسأل الله عزَّ وجلَّ ألا يجعلنا مزكومين عن شمّ الروائح وتمييز الخبيث منها من الطّيب.

﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ [الملك:27] تصديق الوعد في الدّنيا من نصر الله عزَّ وجلَّ للنّبيّ ﷺ وهزيمة الكفار، وعزّة النّبيّ ﷺ وخزي الكفار، ﴿سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الملك:27] في الدّنيا وفي الآخرة ﴿وَقِيلَ [الملك:27] القائل هم الملائكة والمؤمنون، يقولون: ﴿هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ [الملك:27] فما تطلبونه قد تمّ.


النَّجاة في الآخرة بيد الله تعالى:

﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ [الملك:28] لأنَّهم كانوا يقولون: “انتظروا سنة أو سنتين أو ثلاثة أو أربعة فيموت ونرتاح منه” ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ [الملك:28] أماتني الله ﴿وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا [الملك:28] فنصرنا عليكم وهزمكم وأعزّنا وأذلّكم ﴿فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ هل تظنّون أنّكم تهربون من العقاب؟ ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] ملَك مراقب وعتيد حاضر لا يغيب ولا يفارقك إلّا في بيت الخلاء وعند الجماع فقط، وأمّا في غير هذين الوقتين فهو دائمًا معك، فبالعمل معك وبالسّوق معك، وكذلك بكلّ حركة، وأكثر من ذلك ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] ألا تستحي من الله؟ فأين الله؟ فهل أنت مؤمن بأنّ الله معك، وهل أنت مؤمن بالقرآن؟ فما الفائدة إذا كنت تقرأ القرآن وأنت كافر به؟ فأعمالك كافرة به، ولسانك يقرؤه وأعمالك تكفر به، فهنا يكون العقاب مضاعفًا.. فنسأل الله أن يجعلنا من أصحاب القلوب المؤمنة، حتّى يصل القرآن إلى معدة القلوب، فتهضمه أعمالًا وأخلاقًا وتقوىً وتزكيةً للنّفس وحكمةً، ليعزّنا الله في الدّنيا قبل الدّار الآخرة.

﴿فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الملك:28] سواء في الدنيا أو الآخرة، فقد نصر الله عزَّ وجلَّ نبيّه عليهم وهزمهم، فهل استطاع أحد أن يجيرهم أو ينصرهم أو يساعدهم؟ فكيف هزم أبو بكر وعمر وعثمان وسيّدنا عليّ رضي الله عنهم أعظم دول العالم؟ هذا في الدنيا، أمّا في الآخرة فأعظم.. أيّ شيء أعظم وأعزّ من طريق تكسب به سعادة الدّنيا! فقد وصلوا إلى أعلى سعادتها، وصاروا ملوك الدّنيا عزًّا ومجدًا، وأعلم علماء الأمم، وأوحد كلّ الأمم.. فالآن المسلمون كما قال سيّدنا عليّ كرّم الله وجهه: “لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلّا رسمه” فنشتري الكرتون والورق، أمّا القرآن الحقيقي فلا نشتريه ولا نقبله ونرفضه ونهرب من مجالسه: من الموضع الذي يُطبَخ ليصير طعامًا مهضومًا في عقولنا وقلوبنا.

قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ [الملك:29]، وآمنا بكلامه، وحوَّلنا الإيمان إلى عمل، والعمل سيتحوّل- إن شاء الله- إلى نصر وإلى عزّ، وإلى مجد، وإلى سعادة في الدّنيا والآخرة.

﴿فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الملك:29] في الدّنيا قبل الدّار الآخرة.. ففي نهاية الأمر هل عَلِم كفار قريش أنَّهم على ضلال أم على هدى؟ فالذي أصرّ كأبي جهل أُتيَ برأسه إلى النّبيّ ﷺ ككرة اللعب، فلمّا أُتي به إلى النّبيّ ﷺ سجد لله شكرًا، وقال: ((الحمد لله الذي قتل فرعون هذه الأمّة)) 6 ، ففرعون موسى معروف فقد أغرقه الله عزَّ وجلَّ في البحر، وفرعون الذي في زمن النّبيّ ﷺ أُتيَ برأسه إلى النّبيّ ﷺ مثل كرة.. وفي كلّ زمان وكلّ مكان وكلّ قرية وكلّ حارة وكلّ عائلة وكلّ جلسة وكلّ سهرة قد تجد فيها فرعون أو فرعونين أو ثلاثة، ولكن نحتاج كذلك إلى موسى

كلّ عصر فرعون فيه وموسى وأبو الجهل في الورى ومحمّد

﴿قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ [الملك:29] أيّ إيمان؟ إيمان الحبّ، وإيمان الطاعة، وإيمان الاستجابة، وإيمان العمل الصّالح ﴿وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [الملك:29] على شريعته وعلى أوامره، بأننا إذا مشينا عليها.. إنْ وعدَنا بالنّصر ونصرنا دينه فسننتصر، وإنْ وَعَدَنا بالعزّ إن استقمنا على دينه فنُعَزّ، وقد أعزّنا الله عزّ وجلّ.

﴿فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الملك:29] لكن ما الفائدة إذا علم الإنسان في وقت لا ينفعُه العلم؟ ففرعون عندما غرق ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ [يونس:90]: عَلِمَ، ﴿قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90] فعلِم، لكن هل أفاده العلم؟ ما أفاده العلم، لأنّه أتى بغير وقته.. وإذا قال شخص: إنّ الأفعى لدغتها قاتلة، ولم يصدّق حتّى لدغته وتورّم جسده، فعندئذٍ قال: “القائل علمه صحيح وأنا الآن آمنت”، فهل ينفعه العلم؟

اللّهمّ إنَّا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن دعاء لا يُسمَع.

إن غارت مياهكم فمن يأتيكم بالماء المعين؟:

قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا [الملك:30] حياتكم ومؤونتكم وطعامكم من عند الله، فإذا لم ينزل المطر فهل ينبت العدس والفول والحمُّص والباذنجان والتفاح، وتحيا الخرفان؟ فإذا أمسك الله عزَّ وجلَّ الماء من السّماء، ولم يخزِّنها في مخازنها في الأرض ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك:30] ترى ماء يجري عيونًا وأنهارًا فمن أين؟ إذا كان مالكها كلّها هو الله عزَّ وجلَّ- سورة الملك، هو الملِك ونحن العبيد.

وإذا كنت عبدًا عند اسكافي [مصلح أحذية] وخالفته فأمرك سهل، لكن إن كنت عبد الملك، وهو ملك الملوك وخالفته في كلّ ساعة وعلى مشهد منه وفي حضرته، فما عاقبتك ومصيرك؟

فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرّزقنا التّوبة النّصوح، والتوبة النّصوح: أن تترك الذّنب فلا تعود إليه حتّى يعود اللّبن إلى الضّرع، التّوبة النّصوح هي أن تترك الذّنوب فلا تعود إليها حتّى يعود الحليب إلى ثدي الأمّ، فالبقرة بعد أن تُحْلَب فهل يرجع حليبها إلى الضّرع؟ كذلك التّائب الصّادق النّصوح ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8] فالله عزَّ وجلَّ ينادينا، ونحن ألا نناديه ونقول: “يا الله اسقِنا المطر!” إذًا: فالله عزَّ وجلَّ ينادينا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال:24] حتّى يستجيب الله لنا.. فهل تستجيبون لله إذا ناداكم؟ فتوبوا إلى الله، فهل أنتم مستعدون؟ أتعاهدونني؟

مُلْحَق

في الختام

يأتي إلى الجامع بعض اللصوص لسرقة أحذية النّاس، انتبهوا منهم، وأيضًا على اللّصوص أن يتوبوا- وإلا فليذهبوا ويسرقوا من السينما أو من أماكن الفسوق والملاهي- [يقول ذلك الشيخ ممازحاً] فجزاء السّرقة في المسجد أشد وزرًا؛ لأنّهم يصدّون عن سبيل الله، ويكونون سببًا لقطع الخير عن بعض ضعاف الإيمان.

فلنتعاهد وأنا معكم بأن نتوب بأعيننا ولا ننظر إلى الحرام، وبألسنتنا أن لا نتكلّم بإثم حتّى ولو كان لغوًا، قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]

ما أحلى الإسلام! فالإسلام يجعل لسانك يُستعمل بأحد ثلاثة أمور: إمّا أمر بصدقة، وإمَّا أمر بمعروف لشخص ترك واجبًا فتدعوه بالحكمة والموعظة الحسنة، وإمّا إصلاحٌ بين النّاس.

جاءتني رسالة من الطبيب يقول: “انتهى وقت الدرس، ويرجى الحفاظ على صحتكم” وفي الحقيقة أتيت اليوم وأنا أشعر بعدم الرَّاحة، لكنَّني أؤثركم على قلبي وعلى صحتي، وأسأل الله عزَّ وجلَّ ألّا يضيّع تعبي فيكم، فأبذل لكم ما أبذل، وبعد ذلك تكون الأرض سبخة! لكن إن شاء الله أرضكم كلّها خصبة، إن شاء الله الْمُدُّ يعطي خمسمئة مُدٍّ، أو خمسة آلاف مدٍّ.

اللّهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.

وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.

انتهت سورة الملك وبعدها إذا أحيانا الله نبدأ بسورة ﴿ن ۝ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم:1]

وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.

Amiri Font

الحواشي

  1. سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس، رقم: (4833) مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (8398)، (2/334).
  2. السيرة النبوية لابن كثير، (4/181)، ولفظ الحديث: ((حُكَمَاءُ عُلَمَاءُ كَادُوا مِنْ فِقْهِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ)). وحلية الأولياء، أبو نعيم الأصبهاني، (9/279).
  3. سنن أبي داود، أبواب قراءة القرآن وتحزيبه وترتيله، باب القنوت في الوتر، رقم: (1425)، سنن الترمذي، رقم: (464)، سنن النسائي، رقم: (1745)، سنن ابن ماجه، رقم: (1178).
  4. مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (16751)، (4/76).
  5. معجم الطبراني الكبير، رقم: (7502)، بلفظ: ((ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع)).
  6. مسند أحمد، رقم: (4246)، (7/278)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (209/4)، المعجم الكبير للطبراني، رقم: (8469)، (9/82)، بلفظ «الحمد لله الذي أخزاك، هذا فرعون هذه الأمة» عن عبد الله بن مسعود.
WhatsApp