تاريخ الدرس: 1993/12/17
في رحاب التفسير والتربية القرآنية
مدة الدرس: 01:20:25
سورة الملك، الآيات: 12-15 / الدرس 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصّلوات وأكرم التّحيات على سيّدنا محمّد خاتم النّبيين والمرسلين، وعلى أبيه سيّدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيّدنا موسى وعيسى، وجميع إخوانه من النّبيّين والمرسلين وآلهم وصحبهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين، وبعد:
جزاء الَّذين يخشون الله عز وجل:
فنحن لا نزال في تفسير سورة الملك- سورة تبارك- يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الملك: 12] فيشترط الله عزّ وجلّ لغفران الذنوب مخافة المذنب من ربّه عزّ وجلّ، وخشيته من حسابه ووقوفه بين يديه؛ لأنّ القرآن الكريم يقول: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7]– أي يرى حسابه وجزاءَه عليه- ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 8] أي يرى حسابه وجزاءه على ما أساء، سواء فيما بينه وبين الله عزَّ وجلَّ، أو فيما بينه وبين خلقه.
يقول النّبيّ ﷺ: ((دخلت امرأة النار في هرة)) بسبب قطة ((ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)) 1 فلم تتركها تصطاد لنفسها حتّى ماتت، فأَدخلها الله نارَ جهنَّم بظلمها لهذا الحيوان.
كما يقول ﷺ ((بينما كلب يطيف بركية كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها، فسقته فغُفر لها به)) 2 والموق: الحذاء.
وفي حديث آخر: ((بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرًا فشرب منها، ثمّ خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، [والثرى هو التراب] فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه، ثمّ أمسكه بفيه، ثمّ رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله وإنّ لنا في البهائم أجرًا؟)) إذا أكرم الإنسان الحيوان أو عطف عليه أو أشفق عليه؟ ((قال: في كل كبد رطبة أجر)) 3 فلك في كلّ ذي روح إذا رحمته أو أحسنت إليه أو رفعت عنه ما يؤذيه الأجر والمثوبة.
حقيقة التفقه في الدين:
يظنّ النّاس أنّه بمجرّد أن يقول: “يا ربِّ اغفر لي”، غُفِرَ له، فإذا قال: “يا ربِّ أعطني ثوبًا”، فهل بمجرّد أن يقول: “أعطني” ينزل الثّوب من السّماء؟ وإذا قال: “يا ربِّ أعطني زرعًا” ومن غير بذار ولا حراثة ولا سقاية، فهل ينبت الزّرع؟ وإذا قال: “اللّهمّ أعطني ولدًا”، بلا زواج وبلا حياة زوجيّة، فهل يعطيه الله ولدًا؟ وإذا قلنا: “وانصرنا على القوم الكافرين”، فهل ينصرنا الله عزَّ وجلَّ؟
يدعو كلّ المسلمين، وكذلك الخطباء والمشايخ يوم الجمعة على المنابر: “وانصرنا على القوم الكافرين”، فلا يوجد نصر، لماذا؟ لأنّنا لم نتفقه في الدّين حقيقةً، وقد قال النّبيّ ﷺ : ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقْههُ في الدِّيْنِ)) 4 فالفقه في الدّين- مع عميق الأسف- حُصِرَ في الوضوء، وفي العبادات، وفي المعاملات، وهذا ليس خطأً فقط؛ بل أكبر من الخطأ؛ لـأنّه تصغير ما كبّره الله، وتغيير حقيقة إلهيّة في القرآن، فيقول الله عزّ وجلّ: ﴿لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ﴾ [الحشر: 13] فاليهود في زمن النبي ﷺ يخافون من المسلمين أكثر ممّا يخافون من الله عزَّ وجلَّ، لماذا؟ قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [الحشر: 13]، هل يعني أنهم لم يكونوا يعرفون أحكام الوضوء والاستنجاء؟ لا.. الفقه في القرآن كما جاء في الحديث: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقْههُ في الدِّيْنِ)) فهل عندك فقه في مخافة الله؟ وهل تخاف من الله ومن حسابه ومن لقائه ومن إنذارات الله؟ فعندما يخاطبك الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ يعني يوجد مَلَكٌ يراقبك كما يراقب رجل الأمن كلّ تصرفات المشبوه، في ذهابه وعودته.. فرجل الأمن يمكن رؤيته، أمّا الملائكة المكلّفين بكتابة أعمال العباد فلا يمكن رؤيتهم، فأينما ذهبت يكونون معك، قال تعالى: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْل إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 17-18] إذا قلت قولًا أو عملت عملًا.. فهل أنتَ أيّها المسلم وأنتِ أيّتها المسلمة مؤمنون بالقرآن؟ وهل تؤمنون بهذه الآية؟ فإذا آمنتَ بأنّ هذا سمّ، فهل إيمانك بالسمّ يجرِّؤك على ابتلاعه؟ وإذا آمنت بأنّ هذه مَسبَحَة من ألماس أو جواهر نفيسة وقد وهبك أحدهم إياها؟ فهل مقتضى إيمانك أن تقبل أو ترفض؟ وإذا أمسك أحدهم أفعى وأنت مؤمن أنّها أفعى، فهل يدفعك إيمانك لتمسكها بيدك؟
فعندما تؤمن إيماناً حقيقياً أنّ هذه نار فلن تجعلها في ثوبك أو في جيبك.. فهل أنت مؤمن بالقرآن؟ قد تشتري مصحفاً بألف ليرة أو بألفين وهو مُذَهَّبٌ، فبالحقيقة أنت تشتري نحاسًا وورقًا لا تأخذ قرآناً؛ لأنّ القرآن يؤخذ إلى القلوب الطَّاهرة والذَّاكرة والحيَّة بالله والمملوءة بمعرفة الله.
فهل أنت مؤمن بقوله تعالى لك: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد: 4]؟ فعندما تحاول أن تكذب فهل تشعر أنّ الله معك وأنّه مطّلع على سريرتك، وعلى خفايا نفسك، وعلى قصدك السَّيء؟ فإن كذبت فأنت في هذا الحال كأنَّك لست مؤمنًا بالله.. كما ورد في بعض الأحاديث: ((لا يَزْني الزَّاني حينَ يَزْنيْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) 5 .
فلو آمن بوجود الله، وبأنّ الله سميعٌ يسمع كلامه، وبأنّ الله بصيرٌ يبصر عمله، وبأنّ الله عليمٌ بذات الصدور: في مقصده وفي ذهابه وفي اتجاهه فهل يستطيع أنْ يذهب إلى معصية الله عزّ وجلّ؟ فخشيةُ الله والمخافة من الله والإيمان بالله، وبأنّه معك، وأنّه يسمعك، وأنّه يرى مشي النّملة السّوداء على الصَّخرة الصَّماء في الليلة الظَّلماء، فهذه الأمور تمنعك من المعصية.. ومع ذلك تجهر بالمعصية سواء بلسانك أو بعينك أو بأذنك، وأنت تقرأ القرآن مئات المرّات، تقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَاد كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36] فالفؤاد: نواياك.. فهل تنوي نية سوء لفلان أو للبائع أو للمشتري، أو للخصم أو للجار أو للقريب أو للبعيد؟
فهل أنت مؤمن بقول الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ﴾ [النور: 24] وهل فكّرت أن تقف بين يدي الله عز وجل حيث يصوّر القرآن ذلك الموقف فيقول: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس: 65] وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [فصلت: 21]
فهل أنت مؤمن بالقرآن؟ وهذه آية من الآيات، فهل أنت مؤمن بها؟ فإذا آمنت بأنّ الكأس جرعة سمّ فهل يقتضي إيمانك أن تشربه أم لا؟ وإذا آمنت بأنّ محفظتك وقعت على الأرض فماذا يقتضي إيمانك؟ هل ترفعها من الأرض أو تمشي ولا تبالي؟
حقيقة الإيمان:
فالإيمان ((ليس بالتحلّيّ ولا بالتمنيّ)) 6 فعندما تقول: “نحن مؤمنون” إن كان بالقول فقط، فهذه أمنيات، أو كنت تلبس لباس الإيمان بأن تتزيّن بجبَّة ولفَّة ولحية ومسبَحة، وتأتي إلى المسجد وإلى الدّرس، وتقرأ القرآن ومع ذلك لا تفقه منه شيئًا ولا يستقرُّ في قلبك.. فالطَّعام إذا لم يستقر في المعدة في وقت محدّد، ولم تهضمه عصارات المعدة وتحوّله إلى الأمعاء فلن تستفيد منه، أمّا إن دخل الطعام من الفم إلى المعدة مباشرةً ثمّ إلى الأمعاء، وخرج البرغل برغلًا كما دخل، فهل يستفيد الجسد من هذا الطعام شيئًا؟
كذلك القرآن، وكذلك الصّلاة، وكذلك كلّ أعمال الدّين إذا لم تدخلْ إلى القلب وكان القلب عامرًا حيًّا بروح الله وحيًّا بذكره وحيًّا بشُعب الإيمان، قال النّبي ﷺ: ((الإيمانُ بضعٌ وسبعون شُعْبَةً)) 7 -فالبضع من ثلاثة إلى تسعة- فعدد شعب الإيمان من ثلاث وسبعين إلى تسع وسبعين، وخشية الله ومخافته شعبة من شُعَبِ الِإيمانِ.. فهل تخاف اللهَ عزَّ وجلَّ في نظرك وفي سمعِك وفي بيعك وفي شرائِك وعند غضبك وعند مطامعك وفي شهواتكَ ورغائبك وفي عداواتك وخصوماتك؟
فكلّ شخص يستطيع ادّعاء الإيمان.. فكلّ إنسان يدّعي أنّه فهيم، وأنّه ذكي وإن قال النّاس عنه: “بأنّه لا يفهم”، فإن سألت الناس كلهم: “ما رأيكم بفلان؟” لأجابوك: “لا يفهم”.. فإذا قلت: “أنا مؤمن” وقال اللهُ لك: “لستَ مؤمنًا”، فقد قال الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ﴾ [البقرة: 8] هم يقولون، لكن ماذا قال الله تعالى عنهم؟ قال: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 8] وفي آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ [النساء: 123] أن تتوهّم أنّك مؤمن وتدّعي الإيمان ﴿وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [النساء: 123] فإذا قال اليهودي: “أنا مؤمن” وإذا قال النّصراني: “أنا مؤمن” فكلّ شيء تستطيع أن تدعيه بلسانك، فقد جعل الله عزَّ وجلَّ لسانك طوع إرادتك؛ ولكن هل كلّ ما تقوله يصير حقيقة واقعة؟ قال تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء: 123] بلا استثناء كائنًا من كان ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا﴾ [النساء: 123] يواليك ويدافع عنك ﴿وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾ [النساء: 124، 123] في الأخلاق وفي الأعمال وفي الرّضا وفي الغضب وفي كلّ تقلبات الحياة، مع الضّعيف ومع القويّ، سواء أكان خاليًا بنفسه لا يراه أحد أو كان مع النّاس.. وإذا كان ذكيًّا وذاك غبيًّا فيستغلَّه، فيستغل ذكاءه على غباوة الزّبون، فهذا ليس إيمانًا.
جزاء الإيمان والعمل الصَّالح:
﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ [النساء: 124] لا يوجد فرق عند الله بين الذكر والأنثى، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13] وقال أيضاً: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النساء: 124] النّقير: هو الحفرة الصغيرة التي في ظهر نواة التمر.
الفرق بين الخشية والخوف:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ﴾ [الملك: 12] فالخشية ليست مخافة أن يعذّبك الله أو يحاسبك، فهذه اسمها مخافة؛ أمَّا الخشية فمعناها أعظم من المخافة، فإن كنت تخاف من الثّعبان فهذا اسمه خوف، وإن كنت تخاف من عذاب النّار فهذا اسمه خوف؛ أمّا “الخشية”: فهي خوفٌ مقرونٌ بالتّعظيم والتّبجيل والتّقديس، فمثلًا عندما تخشى شيخك أن يغضبَ منك، فشيخك لن يضربك، لكن من حبّك له ومكانته في قلبك تخاف من استيائه وغضبه خوف الحبّ وخوف الإجلال، أمّا مِن عدوّك فهذا اسمه خوف، وأمّا مِن حبيبك فهذا اسمه خشية.
فالمغفرة لمن؟ قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾ [الملك: 12] ولو أن الشّيخ لن يعاقبه، فإذا استاء الشيخ من أحدهم فهل سيضربه أو يشدّ أذنه أو يسبّه؟ لا؟ ولكن ما الخشية؟ هي أن تخاف أن يغضب منك أو يستاء منك أو يبعدك أو يهجرك أو يتغيّر قلبه عليك.
فالمغفرة من الله للمذنب، كما يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ﴾ [الملك: 12] ينبغي أن تكون مخافة الحبّ، ومخافة التّكريم والتّعظيم والتّقديس ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ [الملك: 12] على ذنوبهم.
والخشية تدفع هذا الإنسان إلى بذل كلّ جهد في التّقرّب واكتساب محبَّة محبوبِه، فيبذل الغالي والرَّخيص، والصّعب واليسير وكلّ ما يأمره به؛ ليكتسبَ رضاءه وقربه وحبَّه.
كان من كلام بعضهم
لو أنَّ رُوحي في يدي ووهَبتُها
لمبشري بقدومِكم لمْ أُنْصِفِ
ولو قالوا له: جاء حبيبك إليك، فبماذا يكافئ من بشرّه؟ فيقول: “لو كانت روحه بيده لأعطاها للبشير المبشّر”، فماذا سيعطي حبيبه؟ إذا كان ما يقدّمه للمبشّر هكذا؛ لأنّه طريق البشارة بمجيء الحبيب، فماذا يعمل للحبيب؟
ما لي سوى روحي وباذلُ روحهِ
في حبِّ من يهواهُ ليس بمسرفِ
فلئن قبلتَ بها فقد أسعفْتَني يا خيبةَ الْمَسْعَى إذا لمَ تُسْعِفِ
فكان المؤمنون والمسلمون في زمن رسول الله ﷺ يؤمنون بهذه الآية، فكانت من صفاتهم وظلال وجودهم خشية الله تعالى، وكانوا عند أوامر الله يسارعون بلا توقّف ولا تردُّد، وعند محارم الله يودّون أن يُلقوا في النّار بدل أن يقعوا في معصية الله عزَّ وجلَّ.
قصة المسكي ونتيجة تقوى الله تعالى:
كان شاب جميل يتصف بخشية الله عزَّ وجلَّ، عشقته امرأة جاهليّة، واستعملت كلّ الأساليب لإغوائه وفشلت، وكان يبيع القماش في الأحياء وينادي عليها، فأمرت جاريتها فنادته لتشتري منه، وقالت له: “إنَّ صاحبة البيت لا تخرج أمام الباب فهل من الممكن أن تدخل إلى البيت حتى ترى البضائع” فلمّا دخل أُغلِق الباب، وصار حاله كما قال تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ [يوسف: 23] وأنا تهيأت لك وكان شابًا فقال: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ﴾ [يوسف: 23] فسورة يوسف لتربية الشّباب المؤمن، وكيف يكون الشّاب في مقتبل شبابه، وكلّ المغريات أمامه: زوجة الوزير، وهو العبد الفقير الذي اشتُريَ من الأسواق، وكان في منتهى الفقر والذل والضّعف، وهي في منتهي القوّة في المال والجمال والنُّفوذ والسّلطان.. فسورة يوسف لتربية الشّباب ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ﴾ [يوسف: 23] فكيف يعيذ الدّرعُ الإنسان من السّهام والرّماح، كذلك أنا ألتجي إلى الله يعني إلى أوامر الله وإلى مرضياته ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ [يوسف: 23] فمعنى ربّي: سيّدي، فزوجك أحسن إليّ ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ [الرحمن: 60] فالنَّاس يقرؤون القرآن وهم جنبٌ بقلوبهم لا بأجسامهم، ولذلك لا يتمثّل القرآن فيهم خُلُقًا ولا فهمًا ولا عملًا ولا نصرًا ولا سعادةً ولا عزَّةً ولا مجدًا.
ربّ تالٍ يتلو القرآن بفيه وهو يفضي به إلى الخذلان
تساءل: كيف يعاملني الوزير مثل ولده وأنا أخونه في أهله؟ ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [يوسف: 23] فوضع الشّيء في غير موضعه ظلم، وأنتِ لستي بزوجتي.. ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ [يوسف: 24] فقدت توازنها فأرادت أن تهجم عليه ﴿وَهَمَّ بِهَا﴾ [يوسف: 24] أن يبطش بها ﴿لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [يوسف: 24] كان الإلهام الإلهيّ أن يتجنَّبها؛ لأنّه لو بطش بها فلعلّها تصرخ وتتهمه، فلم يرَ أفضل من الهرب.. هذه هي خشية الله.. وخشية الله فرع من فروع الإيمان.
نعود إلى قصة الشاب، فهذا الشّاب أيضًا صار معه كما قال تعالى: ﴿وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ [يوسف: 23]، فرأى ألَّا مهرب له، وسلاح الضّعيف تجاه القويّ الحكمة والحيلة.. فإذا أراد الثوّر أن يناطحك فهل من الرّجولة أن تناطحه؟ فالذَّكاء أن ترى منفذًا ومخرجاً ومهرباً، فقال لها: “اصنعي لي معروفًا، أريد أن أذهب إلى بيت الخلاء لقضاء الحاجة”، فدلته، ودخل بيت الخلاء.. وكان في ذلك الوقت بيت الخلاء على الطِّراز القديم، فدهن نفسَه بكمية كبيرة من الغائط من رأسه إلى قدميه، ثمّ دخل ووقف على السّجاد بهذا الغائط وبهذه الرّوائح! واقترب منها، فعندما رأت هذا المنظر صاحت وصرخت: “أخرج! أخرج! أنت مجنون!”.
فالإنسان إذا دهن نفسه بالغائط ثمَّ ذهب إلى الحمّام ونظَّف جسمه من القاذورات تذهب منه كل تلك القاذورات ولا يبقى منها أي أثر؛ أمّا لو الْتَبَسَ بالحرام فلعل هذا الحرام يحرقه في الدّنيا قبل الآخرة.. فببركة تقواه بعد هذا العمل كان يُشَمُّ منه رائحة المسك أينما وُجِد، ولذلك لُقِّبَ بِالْمِسْكيّ.. ويوجد جامع المسكي في منطقة “أبو جرش” [حي من أحياء دمشق في منطقة الصالحية] هذا المسجد ربما سُمِّيَ باسمه.. هذه خشية الله.. وإذا صدَق الإنسانُ اللهَ فهل يكذِبُه الله؟ وإذا أخلص مع الله فهل يتغافل الله عن مكافأته؟
قصة الشاب الدمشقي العفيف صاحب الحزام:
سمعت قصة ثانية عن شابّ دمشقي- هذه قصة واقعية رواها صاحب القصّة لأحد إخواننا وهو رواها لي- كان يتيمًا رُبّي خادمًا في بيوت بعض التّجار، فأرادوا الحجّ فأخذوه معهم خادمًا، وعندما كانوا بطريق سفر بقي مستأجره في مصر وأوصى بقية التجار به، فكان هذا الشاب تقيًا صالحًا مستقيمًا، ونال ثقتهم ومحبَّتَهم، وبينما هو في بعض أزقة مكة، عثر على حزام توضع فيه النقود، ففتحه فوجد فيه خمسة آلاف دينار ذهبيًّا، وصارت نفسه تراوده، والشّيطان يقول له: “صرت غنيًا وجاءتك السّعادة، فخذ هذا المال” أمّا الدّاعي الإلهيّ في قلبه فيقول له: “هذا حرام” وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾” [النساء: 58]، وقد قال رسول الله ﷺ: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) 8 فمؤمن وخائن: لا يمكن، ومؤمن وغادر: لا يمكن، ومؤمن وكاذب: لا يمكن، ومؤمن يعد ويخلف: لا يمكن!
فهل نريد إيمان النّبيّ ﷺ أم إيمان وساوسنا الشّيطانيّة؟ فنفسك تقول لك: “اعمل ما شئت وأنت مؤمن”، فهل كلام نفسك وشيطانك أصح أم كلام الله وكلام النّبيّ ﷺ أصح؟
وبينما الشّاب في تردده رجَّح الله عزَّ وجلَّ إيمانَه في قلبه، فقال: “لا!” وإذا به أثناء حواره مع نفسه يسمع المنادي ينادي: “مَنْ رأى “كمراً” حزامًا صفته كذا في كذا سينال مكافأة ماليَّة ومقدارها: مئتا ليرة ذهبيَّة” فقال في نفسه: “مئتا ليرة ذهبيَّة حلال أفضل من خمسة آلاف بالحرام”، فذهب مع المنادي لصاحب الحزام، فإذا به رجل شيخ ذو هيبة، فاستضافه في بيته، وأكرمه، وقد له كوباً من الشاي، وقال له: “أتريد أن تأخذ منّي بخمس دقائق مئتي ليرة ذهبيَّة! ولم تتعب بها، وأنا قضيت عمري من الشّرق إلى الغرب ومن البرّ إلى البحر، هذا كثير، فما رأيك أن نخفف المبلغ؟”، فقال له: “حاضر” قال: “مئة يكفي”، قال: “نعم كما تريد” فما زال يساومه حتى قال له الشّاب: “أنا أرجعتهم لله، فلو أردت لأخذت الحزام كله” فأمسكه الشّيخ وأخذ بيده إلى الكعبة، فصلّيا ركعتين ودعا الشّيخ له، وقال له: “دعوت لك بدعوات أفضل لك من هذا الحزام ومن كلّ ما فيه، وغدًا تثبت لك الأيام”، فخرج الشاب من عنده وربما كان غاضباً أو منزعجاً.
فعندما رجع إلى مصر وخدم عند تجار مصر، ونال ثقتهم بصدقه وتقواه واستقامته، فجمع له أحدهم مئتي ليرة ذهبيَّة، وقال له: “نريد أن نزوّجك” وقالوا له: “توجد بنت يتيمة، وكان أبوها صالحًا وقد توفي”، فتزوجها، وفي يوم من الأيام دخل المطبخ فشاهد شقًّا في الحائط، ورأى شيئًا من الجلد خارجًا من الشِّقّ، فسحبه وإذا به بالحزام نفسه الذي وجده سابقًا، كما تركه بشكله وثقله وامتلائه، ففتحه وعدّ النُّقود، فإذا هي خمسة آلاف ليرة ذهبية! فنادى لأم زوجته، وقال لها: “أنا تزوَّجت ابنتك باعتباركم فقراء” قالت: “نحن والله فقراء”، قال: “وهذا الحزام لمن؟” فبكت أم زوجته، فقال لها: “هل سألتك من أجل أن تبكين أم من أجل أن تخبريني؟” فقالت: “هذا حزام والد زوجتك رحمه الله”، فقال لها: “لماذا تبكين؟” قالت: “واللهِ كان والد زوجتك من أولياء الله كما أعرفه، وكان مجاب الدّعوة، وهذا الحزام وقع منه بمكة” وروت له القصّة بتمامها، وقالت: “أبكي لأنّ كلّ دعوة دعاها استجابها الله له إلّا هذه الدّعوة” فقال لها: “بماذا دعا؟” قالت له: “دعا عندما أخذه إلى الكعبة: “يا رب إذا كان لي منزلة عندك أن تجعل هذا الولد صهري”، فأنا أبكي لأنّ الله لم يستجب له دعوته” فصار يبكي أيضًا، وقالت له: “أنا أبكي لذلك، فلماذا بكيت أنت؟” قال: “أنا والله ذلك الشّاب، واسألي التّجار”.. صدق الله فصدَقَهُ الله.. فهذه خشية الله يا بني.
فضل العلماء الذين يخشون الله عز وجل:
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾ [الملك: 12] ما معنى الغيب؟ فنحن لم نرَ جهنّم، ولم نرَ يوم القيامة، ولم نرَ محاسبة الله على أعمالنا، وعلى وقوفنا؛ لكنَّنا آمنّا إيمانًا غيبيًا.. يوجد أناس من أهل اليقين والإحسان فيريهم الله عزّ وجلّ أحوال القيامة في مرآة قلوبهم، فيرونها كما يرى الإنسان الأشياء في التّلفاز، فيرى النّار وعذابها وأهلها والجنّة ونعيمها.. فهذا اسمه “علم اليقين”، فهذا يُنال للذاكرين الله كثيرًا والذّاكرات، مع تقوى الله، ومع الاستقامة على شريعة الله عزّ وجلّ.. فبهذه الخشية مع الإيمان بما غيّبه الله عنّا ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ [الملك: 12] لذنوبهم الماضية، فإذا كانت الذنوب من حقوق النّاس وتستطيع أن تؤدّي لهم حقوقهم بأن أخذت مالاً فعليك أن تردّ المال، أمّا إن كان إيذاءً بغيبة ونحوها، فعليك أن تقول له: “سامحني”؛ أمّا إذا كنت تعرف أنَّك إن قلت له: سامحني، سيغضب، فلا تطلب منه العفو، ولكن ادعُ له واستغفر له.
﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ [الملك: 12] فللمغفرة شروط: فإذا كانت حقوقًا عينية عليك أن تردّ الحقوق، وإذا كانت حقوق إلهيّة مثل الصّلاة والزكاة فيجب أن تقضيها، وليست الأمور بتوبة لسانيّة ظاهرة.
﴿وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الملك: 12] على أعماله الجديدة الصّالحة.. فالمغفرة والأجر الكبير لأصحاب الخشية، وأصحاب الخشية سمّاهم الله العلماء، فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]، فمن لا يخشى الله ولا يحبّه من كلّ قلبه، ولا يخاف عذابه وحسابه، فهذا ليس بعالِم؛ لكنَّه قارئ، فاليهوديّ يقرأ العلوم الإسلامية وكذلك النّصرانيّ والمستشرق والشيوعيّ، فموسكو تعطي شهادات في التّفسير وفي الحديث وفي الأصول وفي كلّ العلوم الإسلاميّة، فيعطون شهادات دكتوراه وغيرها من الشهادات، وكذلك الأمر بفرنسا وأميركا وتل أبيب.. فهل تجعل القراءة الإنسان عالمًاً؟ فمن صفات العلم خشية الله عزّ وجلّ.. فالذي يقول: “الأفعى تحمل السمّ وسمّها قاتل”، ولكن يمسكها حتى يضعها على شفتيه، فهل هذا عالم أم ماذا؟ فإذا كان عالِمًا فهذا من العلم الذي تعوّذ النّبيّ ﷺ منه، فقال: ((اللّهمّ إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)) 9 .
فأعوذ بالله من الشيطان، وكذلك أعوذ بالله من علم لا ينفع.. “وأعوذ بالله من أذن لا تسمع”، يعني سماع الحق وسماع القبول وسماع الرّضا وسماع العمل، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُون﴾ [الأنفال: 21] سمعوا بآذانهم ولم يسمعوا بقلوبهم.
فحتى تصير مسلمًا عليك أن تتّصف بصفات الإسلام، فمن صفاته خشية الله، سواء مع أبيك أو مع أمّك أو أجيرك أو معلّمك، وكذلك المرأة مع ضرّتها ومع حماتها ومع الضّعيف ومع الحيوان ومع العدوّ، قال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ [المائدة: 8] فالشّنآن هو البغض، قال تعالى: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ﴾ [الكوثر: 3] يعني أنّ عدّوك ﴿هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ [الكوثر: 3]، فلا يجوز أن تظلم عدوك أو تخونه أو تغدر فيه.. هذا الإيمان، وهؤلاء لهم المغفرة.. فخشية الله ليست هيَ كلّ الإيمان، هي خُلُق من أخلاق الإيمان التي هي بضع وسبعين شعبة.. فإذا صار عندك خشية الله فهل ستكون في دنياك رابحًا أم خسرانًا؟
وإذا كنت تخشى الله عزَّ وجلَّ وأنت أجيرًا مثل هذا الشابّ، فقد نال ثقة التّجار فأعطوه مئتي ليرة ذهبيَّة، وفتحوا له محلًا، وبعد ذلك ساقته الأقدار الإلهيّة التي تراقبه في الدّقيق والكبير، فكما قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ [إبراهيم: 42] وكذلك ليس غافلًا عما يعمل المتّقون والمحسنون.. فالمسجّل الإلهي الربّاني- الكمبيوتر- يسجّل للمحسن كما يسجّل للمسيء، سواء أكان في الظّلام أو في النّور، أو في الخلوة أو مع النّاس أو في البرّية، قال تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد: 4]
من أين سنحصِّل الإيمان؟:
فالخشية صفة من صفات الإيمان، والجنة للمؤمنين، فمن أين سنحصِّل الإيمان؟ هل من الثانوية العامّة، أو من كلية الحقوق، أو من كلية الهندسة، أو من كلية الطبّ أو من الوزارة؟
كان المسجد مصنع الإيمان، فمن ثمرات الإيمان بمعناه الحيّ المستكمل لكلّ الصّفات: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ﴾ [المنافقون: 8] فينقلك من الذّلّ إلى العزّ، وينقلك من الفقر إلى الغنى.
جمع النّبيّ ﷺ الأنصار وقال لهم: ((أَلَمْ أَجِدْكُمْ فُقَرَاءَ عَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي؟)) 10 أي بالإيمان الذي صنعه النّبيّ ﷺ في قلوبهم: خشيةً لله ومحبةً لله واستقامة على طريق الله، وحكمةً في عقولهم فلا يدخلون في قضية إلّا ويشبعونها بالدراسة المحيطيَّة من كلّ الجهات، أسبابًا ومسبَّباتٍ.. فباسم التّصوف، صار أهل التّصوّف يهملون الأسباب، أو يتركون الأسباب، أو يحاربون الأسباب، هذا غلط. كان النّبيّ ﷺ إذا نزل الحرب فيلبس بدلًا من الدِّرع درعَينِ، وقال سيّدنا يعقوب عن سيدنا يوسف: ﴿وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ﴾ [يوسف: 13] فبعض أهل التصوف يقولون: “خاف الذّئب ولم يخف الله!” هذا غلط، أنبيّ ولا يخاف الله؟
فالإيمان بمعناه الحيّ إيمان القرآن، الذي كان يصنعه النّبيّ ﷺ بأقواله وأعماله وحِكَمِهِ في قلوبهم وعقولهم، فنقلهم من الجهل إلى العلم، ومن الحَمَق إلى الحكمة، ومن الفشل إلى النّجاح، ومن الهزائم إلى الانتصارات، ومن العداوات إلى ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ [الأنفال: 63] قال تعالى: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ [الأنفال: 63].
((ألم أجدكم عالة)) فمعنى عالة: فقراء ((فأغناكم الله بي، وضُلَّالًا فهداكم الله بي، وأعداء فألّف بين قلوبكم)) هذه هي ثمرات الإيمان الحقيقيّ.. فإذا بذرت قمحًا فهل سينبت شعيرًا؟ وإذا زرعت شوكًا هل سينبت زنبقًا؟
سيحصد عبد الله ما كان زارعًا فطوبى لعبد كان لله يزرع
بألّا يزرع للشّيطان أو للهوى أو لكلام النّاس أو لأهوائه الصّبيانية والطّفولية، فكلّه مسجّل عليه.. مُسَجَّل بالمسجِّل الإلهيّ والفيديو الرّبّانيّ… والوقوف بين يدي عظمة الله ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ﴾ [النور: 24] فعليك أن تخشى الله من كلّ مَحْرَمٍ من محارم الله سواء في الظاهر: في أعمال الجسد، أو في الباطن: في النَّوايا وفي الأفكار بألّا يكون في قلبك حقدٌ أو حسدٌ أو غشٌّ أو مكرٌ أو سوء الظنّ بشيء ليس لك حقّ أن تسيء الظنّ به.
قصة أم العلاء مع النبي ﷺ:
عندما توفي عثمان بن مظعون رضي الله عنه، وكان من عظماء الصّحابة، فقالت أمّ العلاء رضي الله عنها: “هنيئًا له الجنّة”، فسمعها النّبيّ ﷺ وغضب فقال: ((وما يدريكِ؟ أمّا أنا فلا أدري ما يفعل الله بي)) 11 فقالت يا رسول الله: لقد صاحبك وهاجر معك وجاهد وكذا، وكذا، قال لها النَّبيُّ: قولي: أرجو الله له المغفرة.. فإذا كان النّبيّ ﷺ يقول: ((أما أنا فلا أدري ما يفعل الله بي)) فنحن ماذا نقول؟ ونحن لا نفكر بالله ولا بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [سورة الحديد: 4] ولا بالرقيب ولا بالعتيد، ولا نفكر بقوله تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ﴾ [الإسراء: 13] كتاب أعماله ﴿فِي عُنُقِهِ﴾ برقبته يوم القيامة: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ [الإسراء: 13] أمام الله، يقال له: “تفضّل اقرأ ملف فلان” ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ﴾ [الإسراء: 14].
إذا كانت شهادتك الدراسية ابتدائية، فهل تستطيع أن تصير بها أستاذ جامعة؟ وإذا كنت أُمِّيّاً وطلبت أن تكون رئيس المهندسين، فهل يمكن؟ ربما لا يقبلونك حتى لو طلبت أن تكون عامل نظافة.. فهل المسألة بالأمانيّ؟ فليس الإيمان بالتّمنيّ، فإذا لم يظهر في العمل وفي الأخلاق، وفي القلب خشيةً ومحبّةً ووقوفًا عند حدود الله تعالى يكون كما قال الله تعالى: ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ﴾ [لقمان: 33] مغروراً إما بالشباب أو بالمال أو بأمور الدّنيا ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [لقمان: 33] الغَرور: الْمُغَرِّر، فمن الغرور؟ الشيطان ويقول لك: “الله غفور رحيم”، كأنّه هو الله وهو الذي يقرر، فهل هو صادق فيما يوحيه إليك؟ ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾ [الأنعام: 121].
ثمّ قال تعالى: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ﴾ [الملك: 13] سواء جهرت بأعمالك أمام النّاس أو أخفيتها عنهم، وعن أعينهم وعن أسماعهم.. فليس المهم أن يسمع النّاس بك أو يرونك في الأعمال الصالحة ولا في الأعمال السيئة؛ بل المهم أن تؤمن بأنّ الله يراك، ويسمع قولك ويعرف نيَّتك وضميرك.
قال تعالى: ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ﴾ [الرعد: 10] عند الله كلّه مكشوف، فهل تخفي عملك السيء عن النّاس حتى ما يرون نقائصك، ولست مؤمنًا بأنَّ الله يراك؟ مع أنّ اطلاع الله على نقائصك أضرّ عليك من اطلاع النّاس عليها وعلى نواياك السيّئة. فالله يقول: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ﴾ [الملك: 13] فهو مكشوف ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الملك: 13] سواء أكان ملِكًا أو رئيس وزارة أو رئيس جمهورية أو شيخًا أو تاجرًا.. كلّ ذلك يُسجّل في المسجِّل الإلهيّ، إن كنت ناويًا أن تفعل نية سوء، أو أن ترتكب الحرام أو أن تؤذي، أو أيّ نية أخرى، فهذا السّر.. فالله عزَّ وجلَّ مطّلع عليه، فتخفيه عن الناس حياءً من الناس؛ لإيمانك بوجودهم؛ فأنت إذًا لست مؤمنًا بوجود الله! فلو آمنت بوجود الله وبعلمه لما استطعت أن تسرَّ السوء أو الشّرّ أو الخبائث، فتخفيها عن النّاس وتظهرها لله.. فهل يضرّ الناس وينفعون أكثر أم الله؟ تستحي من النّاس ولا تستحي من الله، وتخاف أن يعرف الناس أعمالك والله ناظرٌ لأعمالك ولا تخشى الله، فهل أنت مؤمن بالله؟ أنت مؤمن بألف ولام ولام وهاء [ا ل ل ه]، أمّا هل تؤمن بالله العليم بذات الصّدور، وسريع العقاب وسريع الحساب؟ قال تعالى: ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ [الرعد: 11، 10] فملائكة الله تمشي أمامك ووراءك، والمسجّل يسجّل، فهل آمنا بهذا القرآن؟ فعندما نشتري [نستوهب] المصحف، فهل نأخذه حتى نقرأه ونعلمه ونؤمن به ونطبّقه أم حتى نرى تجليده وتذهيبه؟ ونقول: “استوهبناه بخمس مئة ليرة”، وإذا كان له علبة صفراء، فأنت تشتري نحاس وورق وكرتون، ولا تشتري كلام الله، فكلام الله لا يُشترى، فليس همّك الموجود في القرآن، بل همّك ورقه وتجليده، وعندما تموت ماذا يكون الوضع؟ فهل ستموت؟ نعم، وهل يوجد لقاء الله؟ نعم، وهل يوجد حساب؟ نعم.. إذا كنت تعرف أنَّ الشرطي سيحاسبك على شهادة القيادة إذا انتهت مدّتها، أو كانت غير مستكملة لشروطها أو لم تعمل الفحص الدوري للسيارة، ألا تخاف أن يوقفك الشّرطي ويقول لك: “أعطني الأوراق”، فمن خوفك من حساب الشّرطي ماذا تعمل؟ ستخاف من عقوبته وتقوم بالإجراءات الرسمية وتقول: “ستنتهي المدّة، وإذا أوقفونا يكتبون لنا ضبطًا [مخالفة]“.. تخاف من الشّرطي ومن جبّار السّماوات والأرض لا تخاف! فالخوف إحدى شعب الإيمان، أمّا الخشية فهي أعظم من الخوف، والقرآن يقول ﴿يَخْشَوْنَ﴾ [الملك: 12]، وبعد ذلك يقول: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ﴾ [الملك: 13] فيعلم ما تفعلون حتى مع البهائم؛ ضربتها أو أوجعتها.
قصة أحد الأولياء مع حماره:
كان أحد الأولياء راكبًا على حمار، فأبطأ الحمار بسبب الجوع أو الضعف أو لسبب آخر، فصار يضربه بالعصا على رأسه، فالحمار يتكلم لغة خاصة لكن ليس الجميع يفهم لغته.. ففي بعض الأوقات يُسمع الله تعالى أولياءه كلام الحيوان والنبات والجماد.. ذات مرة أمسك النّبيّ ﷺ حصيات فسبَّحْن بكفه، فسمع تسبيحَهن أصحابُه في مجلسه، قال تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: 44]
فسمع الوليّ الحمارَ يقول: “اضربني كما شئت فسأضربك يوم القيامة كما ضربتَني”، فنزل عنه وصار يقبِّل حافره ويقول له: “أرجوك سامحني”.
رابطة الحبّ:
وإذا كان الشّخص لا يعرف لغة القرآن! ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: 195] فلأنّ الله ختم على قلبه، قال تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: 7] ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق: 37] فلا بدّ أن يصبح لك قلب حيّ بذكر الله، وعليك أن تأخذ القلب من أهل القلوب، وأن يرتبط قلبك بقلبهم برباط الحبّ في الله، ويصبح حبّ طبيب القلوب، وحبّ صانع القلوب أحبّ إليك حتى من نفسك، وأحبّ إليك من كلّ محبوب.. فأين الفاني من الباقي؟ وأين من يصنع الإيمان ممن يصنع الزّيوان؟ [الزيوان: من الأعشاب الضارة التي تنبت مع القمح]
فلا بدّ أن يصير عندك هذا الارتباط الحبّي الإيمانيّ النبويّ، “الحبّ في الله والبغض في الله”، كان رسول الله ﷺ أحبّ إليهم من آبائهم وأبنائهم وأرواحهم: ((العلماء ورثة الأنبياء)) 12 العالِم بالله والعالِم بشريعته، والعالم بكتابه.
فلا بدّ أن يصير لك معه هذا الارتباط الربَّاني القرآني النبوي حسب القرآن والسُّنَّة، فلا تعبد الشّيخ، فالشّيخ عبد والأنبياء عبيد وكلّنا عبيد، فمهمّة النبي ﷺ إخراج النّاس من الظّلمات إلى النّور.
قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [إبراهيم: 1] فهل الكتاب يُخرج؟ لا؛ بل النّبيّ ﷺ هو الذي يُخرج، قال تعالى: ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ﴾ [إبراهيم: 1].
إذًا فالخروج من الظّلمات إلى النّور بحاجة إلى الكتاب والْمُخْرِج، فإذا فُقد النّبيّ ﷺ فهل انقطع الرّابط؟ لا، فالنّبيّ ﷺ قال: ((العلماء ورثة الأنبياء)) فالعالِم ليس القارئ؛ بل هو الذي عنده قوّة إيمان، وقوة روحانية وربانية، فبقوّة ارتباط الحبّ الإيماني به- فقاطرات القطار تمشي بسرعة القاطرة إذا كان الارتباط بينهما فولاذيًّا، وهناك رباط غير مادي فالخروف يتبع أمّه من غير حبل، أليس كذلك؟- فالرباط الإيمانيّ أيضًا رباط معنويّ: حبٌّ في الله، فإذا صار لك صحبة أحباب الله، بالحبّ الحقيقيّ الصادق المخلص كما ينبغي، فلعلك تنال معاني القرآن، فتتحول فيك من قراءة كلمات على الأوراق إلى أنوارٍ وروح في القلوب والأرواح والأعمال والأخلاق والصّفات، ولذلك كانت الهجرة من مكة إلى المدينة فرضٌ على كلّ مسلم ومسلمة، ذكرًا كان أو أنثى.
﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ﴾ [الملك: 13] فإذا كنت تخفي أعمالك عن النّاس ولا تخفيها عن الله فهل أنت مؤمن بالله؟ وكذلك إن كنت تخاف من عتب النّاس ولا تخاف من تهديد الله، وكذلك إن كنت تصغي إلى كلام النّاس: كلام الطبيب أو الشرطيّ أو مستخدم المحكمة، ولا تصغي إلى كلام الله، فهل أنت مسلم؟ ولو صليت ولو صمت! قال رسول الله ﷺ: ((كم من مصلٍّ ليس له من صلاته إلا السهر)) 13 ، وقال أيضًا: ((وليس كلّ مصلٍّ يصلي)) 14 .
قال تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾ [الملك: 14]؟ وقد قال تعالى: ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: 7] فكيف يعلم السرّ وأخفى؟ فالذي اخترع المرسيدس ألا يعرف ماذا يوجد في داخلها؟ فهو الذي صنعها من الداخل والخارج.. فالذي صنعك بكلّ خلايا مخّك وبكلّ أعصابك وبروحانيتك، ألا يعلم ماذا يجري في داخلك وروحك، وبماذا تفكّر؟ فهل أنت تفكّر بما يذكّرك الله به؟ فهل تتعلّم اللّغة الإنكليزيّة وأنت بكردستان أو بباكستان؟ وهل تتعلم اللغة الفرنسية من غير أستاذ اللغة الفرنسيّة؟ وهل تتعلّم الطّبّ من غير طبيب؟ وهل تتعلّم الطيران من غير أستاذ الطيران؟ فالإيمان من أين ستأخذه؟ فقد صار الإيمان اسم قبيلة، يقال: إنّه من عشيرة “إسلام”، مع أنّه لا يفهم الإسلام فكرًا ولا عقلًا ولا إيمانًا ولا قلبًا ولا أخلاقًا ولا قرآنًا ولا سلوكًا، ولذلك المسلمون أكثر من مليار مضروب عليهم الذلّة والمسكنة؟ لأنّهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾ [الملك: 14] الذي خلق قلبك وروحك وفكرك ونفسك في الدّاخل والخارج ألا يعلم ما بداخله؟
﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ﴾ [الملك: 14] بقدر دِقَّة الشّيء وخفَّته، فهو ألطف من كلّ لطيف، وهو يدرك كلّ شيء خفي ولطيف، وهو ﴿الْخَبِير﴾ الذي لا تخفى عليه خافية.. فإذا سرت على هذا المنهاج، فإذا كنت حاكماً فهل تفشل؟ فهل فشل عمر أو أبو بكر؟ وإذا كنت قائدًا فهل فشل سعد وخالد؟ وإذا كنت غنيًا فتكون زينة الأغنياء، وإذا كنت عالمًاً فتصنع أمّةً على أساس القرآن.
“طلب العلم فريضة”، فأيُّ علم؟:
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا﴾ [الملك: 15] ليس فقط لطيف وخبير وعليم بذات الصدور، فأيضًا منعمٌ ومعطاءٌ ومحسنٌ، لأنَّه هو الملك: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ [الملك: 1] فماذا أعطانا من ملكه؟ أعطانا هذه الأرض- هذا الكوكب- وجعل لنا فيها الأنهار والبحار والأشجار والزُّروع والمعالم، وذلَّلها لنا كيفما نريد أن نستخرج منها- بحسب القوانين والأسباب والمسبّبات- فالأجانب عن طريق “استعمال العقل والعلم” اكتشفوا البترول تحت ثلاثة آلاف متر وأكثر من بلاد العرب والمسلمين.
وقد قال رسول الله ﷺ: ((طلب العلم فريضة)) فهل قال النّبيّ: علم الآخرة فريضة، أو قال: علم الدّنيا؟ فإذا أَطلق العلم يشمل كلّ علم نافع، قال تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة: 201].
فبضائعُ الغرب نحن أسواقٌ لاستهلاكها.. في الشّرع يوجد فرض عين مثل الصّلاة فهي معيّنة على كلّ إنسان أن يصلي، أمّا المصانع فليست فرضًا على كلّ إنسان أن يعمل مصنعًا، لكن مجموع الأمّة بما فيها الدولة يجب أن تعمل المصانع، فإذا قام بها بعض النَّاس سقط الإثم عن الباقين.. وهذه الصّناعة تحتاج إلى علم وعلماء، ((طلب العلم فريضة على كلّ مسلم)) 15 فهل مشايخنا هكذا درَّسونا العلم؟ لم يدرِّسونا هكذا.
وقد قال رسول الله ﷺ: ((اطلبوا العلم ولو في الصّين)) 16 فهل نطلب في الصين علم الصّلاة أو الزكاة؟ فهذه العلوم يكون تعلّمها بمكة، والصّين في عصر النّبوة كانت من أرقى دول العالم، فمَن أول من اخترع الورق؟ الصّين، ومَن أول من تعلّمه منهم؟ المسلمون، والأوروبيون تعلّموا صناعته من المسلمين، ((اطلبوا العلم ولو في الصّين)).
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا﴾ [الملك: 15] ذلَّل لك البحار لتُخرج الماء محلّىً من الأملاح بخارًا يرتفع في الفضاء، ويبعث الرّياح والهواء فتسوقه من فوق البحار إلى اليابسة، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفرقان: 50] المطر ﴿لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ [الفرقان: 50] يوجد أناس كلّما أنعم عليهم أكثر عصوا الله في نعمه أكثر.. فما معنى هذا؟ أنَّ عقوبة الله سيكبِّرُها له أكثر وأكثر، لكن ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ [يونس: 49].
﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ [الملك: 15] هذا حثّ من القرآن لكيلا يكون الإنسان كسولًا، كانوا يذكرون للشّيخ أمين الزّملكاني قدّس الله روحه هذا البيت من الشّعر
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهنّ أمان
مع أنّه كان أمّيًّا بحسب مصطلح العلماء، ولم يكن اسمه “عالِـمًا” لكنّه في الحقيقة كان من العلماء الرّبّانيين، كان يقول هذا الشّاعر مخطئ، فيُقال له: “وكيف مخطئ؟” فيقول: “كان يجب أن يقول: وإذا العناية لاحظتك عيونها قُمْ وليس نَم”، فإذا جاءت الفرص يجب أن نعرف كيف نستفيد منها.
﴿جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا﴾ [الملك: 15] فإذا أردت أن تستخرج البترول فهل تمتنع الأرض من إعطائك البترول؟ وإذا أردت أن تستخرج معادنها فهل تمتنع؟ وإذا أردت أن تستخرج زراعتها فهل تمتنع؟ وإن أردت أن تزرعها بالزراعات المختلفة فهل تمتنع الأرض عن ذلك؟ وإن أردت أن تشقّ شوارعها، فهل تمتنع؟ فقد جعلها الله مطيعة لك، وقد أمرك الله تعالى فقال: ﴿فَامْشُوا﴾ [الملك: 15] امشِ يعني قُمْ للعمل، أيّ عمل؟ ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ [الملك: 15] عمل الدّنيا: تجارة وصناعة وتكنولوجيا وعلوم واقتصاد وكلّ شيء، فالإسلام يقول: ﴿فَامْشُوا﴾ [الملك: 15] والمسلمون لم يطبّقوا: ﴿فَامْشُوا﴾ [الملك: 15] بل جعلوا قرآنهم: فاقعدوا، وليس: فقوموا، وبعد ذلك فانعسوا ثم ناموا ثم اشخروا.. فتعلّم اليهود وهم شذّاذ الآفاق، فمشَوا على نهج الآية: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ [الملك: 15] وعن “الأرض ذلولًا” فاستعملوها، وهم يسيِّرون هيئة الأمم، والعرب كانوا أضعف من اليهود في عصر النبيّ، فلمّا مشوا على منهاج القرآن فقهًا وفهمًا صاروا خير أمّة أخرجت للنّاس!
لذلك على كلّ واحد منكم من صغير أو كبير، من ذكر أو أنثى، أن نقرأ القرآن ليس بلساننا، أوّلًا علينا أن نعمر قلوبنا، ونتوب إلى الله توبةً نصوحًا، من كلّ أعضائنا ومن كلّ جوارحنا ومن أعماق نفوسنا، فنتوب إلى الله ولا نعصي الله بعين ولا بأُذُن ولا بلسان ولا بفكر ولا بقلب ولا بنفاق، ونتوب إلى الله بكلّ ما يطَّلع الله علينا ويكرهه فينا، ثمّ نكثر من ذكر الله ثمّ نهاجر، فالهجرة كانت لمن؟ ((فمن كانت هجرته إلى الله رسوله)) 17 وبعد النّبيّ أيضًا يجب أن تهاجر إلى العلم، قال رسول الله ﷺ ((اطلبوا العلم ولو في الصّين)) إلى مجالس العلم التي هِيَ روضة من رياض الجنّة، ومجالس الذّكر من رياض الجنّة، ثم نتهيّأ للموت، فمن يضمن نفسه بعد ساعة أو بعد دقيقة أو بعد يوم؟ ألا يموت الشّباب قبل الشّيوخ، والأطفال قبل الشّباب؟ فإذا متّ فهل ينفعك مالك أو شهاداتك أو تجاراتك؟ قد قال تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص: 77] ولكن لا تضيِّع دينك وآخرتك ولا تظنّ أن تصبح مسلمًا دون معلّم، أو أن تصبح طيّارًا دون معلّم طيران، ولا طبيبًا من غير أساتذة الطّبّ، وليس المهم أن تدخل الكلية وتخرج، بل تتعلم فأنت بحاجة إلى: ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد﴾ [سورة ق:37] ﴿فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾ [الأعراف: 204] ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير﴾ [سورة البقرة:285]، فمع “سمعنا وأطعنا”، يأتي: “غفرانك ربنا وإليك المصير.
﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ [الملك: 15] فإذا مشينا في مناكبها، وقد ذلّل الله عزَّ وجلَّ لنا كلّ الأشياء التي توصلنا إلى مرادنا، تصير ﴿وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ [الملك: 15] لكن هل نحصل على: ﴿وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ [الملك: 15] من غير ﴿فَامْشُوا﴾ [الملك: 15]؟ وهل نتمكَّن من الحصاد بلا بذار؟ وهل يمكن قطاف الثمر بلا غراس الشجر؟ نفعل ذلك باسم التوكل، وهذا جهل وجاهليّة في الإسلام.
﴿وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15] وبعد ذلك ستُخرجون من قبوركم وتُنشرون في مواقف القيامة، وتُحاسبون على أعمالكم: على المشي في المناكب والأكل من الرّزق، هل أكلت من حلال أو حرام؟ وهل مشيت في طريق حلال أو حرام؟ وهل تعلّمت ما فرضه الله عليك؟ وهل أحببت أحباب الله، وهل عاديت أعداء الله، وهل دعوت النّاس إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؟
واجب المؤمن على المؤمن:
فالقرآن الكريم من أجل ماذا نزل؟ أن تقرأ أوامر الله لتنفذها.. فواجب عليك أن تعلّم النّاس في سوقك وجيرانك: ((ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم، ولا يفقهونهم ولا يفطنونهم ولا يأمرونهم بالمعروف ولا ينهونهم عن المنكر)) 18 فالتّاجر بجانب التّاجر، والصّانع بجانب الصّانع، والعامل بجانب العامل، والمرأة مع المرأة، ومع جارتها، ومع رفيقتها، ومع بنت عمّها، فإذا لم نفعل ذلك فنحن لسنا مؤمنين. وقد قال الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 71] أولاً: هم كتلة واحدة، فهل يكره مؤمن أو مؤمنة مؤمنًا، أو لا يحبّ مؤمنًا، أو لا يشعر بأنّهم كجسد واحد؟ فهذا عمل بخلاف القرآن يعني ليس إيمانًا، وقال بعد ذلك: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [التوبة: 71] فإذا رأيت أحدًا ترك واجبًا من الواجبات الدّينية، فعلينا أن نأمره بالحكمة والموعظة الحسنة، وهذا ليس على هوانا، فهذا مأمورون فيه مثل صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، فإذا لم نفعل ذلك فنحن آثمون مثل تاركي الصّلاة ومانعي الزكاة وشاربي الخمور والزُّناة والفجرة والفسقة!
أتعاهدونني على فعل ذلك، وألا تضِّيعوا تعبي؟ فأنا أعطيكم من قلبي، فالأطباء منعوني من الكلام والمجيئ للدرس، فلا تضيعوا تعبي! أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا وإياكم من المؤمنين الصّادقين، وأخواتنا من المؤمنات الصّادقات، الذين يُقرأ القرآن في أعمالهم وأخلاقهم وسرائر نفوسهم، ونواة صدورهم.
﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ [الملك: 15] لا نكون جامدين سواء المرأة أو الرّجل فعلينا أن نعمل.
تعليم النبي ﷺ لأصحابه العمل:
رأى النّبيّ ﷺ متسوّلًا، فسأله: لماذا؟ فقال: لا أملك شيئًا، فقال له: “أحضِر لي شيئًا من متاع البيت”، فأحضر له ماعوناً، فقال النّبيّ ﷺ بالجامع: من يشتري؟ قال أحدهم: “بدرهم” وقال آخر: “بدرهمين”، فباعه، وقال له: “خذ درهمًا واشترِ فأسًا، ودرهمًا اشترِ طعامًا لعيالك”، فأحضر الفأس، فنجّر النّبيّ ﷺ له العصا بيده، وقال: “اذهب فاحتطب ولا تأتني إلا بعد كذا يوم، فذهب وجاءه فسأله عن وضعه؟ قال: “لقد أغناني الله من فضله يا رسول الله فعلَّمه النّبيّ ﷺ العمل 19 ، وعلَّمه الحياة وعلَّمه العزّة، وأنقذه من الذلّ، هذا من العلم، وهذا من الإسلام، أمّا أن يكون المسلم أو المسلمة جامدين. وقد قال تعالى: ﴿وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ [الملك: 15] على ماذا يأكل؟ ولا يوجد عنده حركة، والله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿فامشوا﴾ أم فاقعدوا؟ ﴿وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15] فاحسب حساب الآخرة، فمع المشي ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص: 77] ولا تنس نصيبك من الآخرة.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم، رقم: (3140)، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان الذي لا يؤذى، رقم: (2619)، وكتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، رقم: (2619)، سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، رقم: (4256).
- متفق عليه: صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، حديث الغار، رقم: (3280)، (3467)، صحيح مسلم، كتاب الآداب، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، رقم: (2245).
- متفق عليه: صحيح البخاري، عن أبي هريرة، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم: (5663)، صحيح مسلم، كتاب الآداب، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، رقم: (2244).
- متفق عليه: صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، رقم: (71)، صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، رقم: (1037).
- متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب النهبى بغير إذن صاحبه، رقم: (2475)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقص الإيمان بالمعاصي..، رقم: (57).
- هذا قول للحسن رحمه الله تعالى: ((ليس الإيمان بالتَّحلِّي ولا بالتَّمنِّي، ولكنَّ الإيمان ما وَقَر في القلب وصدَّقه العمل))، شعب الإيمان، البيهقي، رقم: (65)، (1/158).
- متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب الإيمان: باب أمور الإيمان، رقم: (9). صحيح مسلم، كتاب الإيمان: باب شعب الإيمان، رقم: (35).
- متفق عليه: صحيح البخاري، كتاب الإيمان: باب علامة المنافق، رقم: (33)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان: باب بيان خصال المنافق رقم: (59).
- صحيح مسلم، كتاب الذكر والتوبة والدعاء والاستغفار: باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، رقم: (2722)، ولفظه: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها».
- متفق عليه: صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الطائف (4330)، صحيح مسلم (1061).
- صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في كفنه، رقم: (1186).
- البخاري معلقاً بدون إسناد، سنن أبي داود، أول كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، رقم: (3641)، سنن الترمذي، كتاب العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682)، سنن ابن ماجه، كتاب المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (223).
- سنن ابن ماجه، عن أبي هريرة، كتاب الصيام، باب ما جاء في الغيبة والرفث للصائم، رقم: (1690)، سنن النسائي، كتاب الصيام، باب ما ينهى عنه الصائم من قول الزور والغيبة، رقم: (3236).
- مسند الفردوس للديلمي، عن حارثة بن وهب، (3/179) (4485) مطولاً، إلى قوله: ((كل ذلك لي)).
- سنن ابن ماجه، عن أنس بن مالك، كتاب المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (224).
- حديث: "اطْلُبُوا الْعِلْمَ وَلَوْ بِالصِّينِ "أخرجه البيهقي في المدخل والشعب من حديث أنس، وقال البيهقي: متنه مشهور وأسانيده ضعيفة"،، شعب الإيمان، البيهقي، رقم: (1663)، (3/194).
- متفق عليه: صحيح البخاري، عن عمر بن الخطاب، كتاب الإيمان، باب ما جاء إنما الأعمال بالنية، رقم: (54)، صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنية، رقم: (1907).
- خطب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الناس قائما، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر طوائف من المسلمين، فأثنى عليهم خيرا ثم قال: «ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم، ولا يفقّهونهم ولا يعطونهم، ولا يأمرونهم ولا ينهونهم؟ وما بال أقوام لا يتعلّمون من جيرانهم ولا يتفقهون، ولا يفطنون؟ والّذي نفسي بيده لتعلّمنّ جيرانكم، ولتفقّهنهم ولتعطينهم ولتأمرنّهم ولتنهنهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم وليتفقهن، وليتفطنن أو لأعاجلنهم بالعقوبة في دار الدنيا».
ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيته، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم: من يعني بهذا الكلام؟ قالوا: ما نعلم يعني بهذا الكلام الأشعريين، فدخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أذكرت طوائف من المسلمين بخير، وذكرتنا بشرّ، فما بالنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتعلّمن جيرانكم ولتفقهنّهم ولتعظنهم، ولتأمرنّهم، ولتنهينهم، أو لأعاجلنّكم بالعقوبة في دار الدنيا» فقالوا: يا رسول الله أمّا إذاً فامْهِلنا سنة، ففي سنة ما نعلّمهم ويتعلمون، فأمهلهم سنة. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ}.
رواه الطبراني في الكبير عن علقمة، مجمع الزوائد للهيثمي (1/164)، (748). - أصل هذه القصة في سنن أبي داود، كتاب الزكاة: باب ما تجوز فيه المسألة، رقم: (1641)، سنن ابن ماجة، كتاب التجارات: باب بيع المزايدة، رقم: (2198)، واللفظ عندهما عن أنس بن مالك: أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال: «أما في بيتك شيء؟» قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء، قال: «ائتني بهما»، قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: «من يشتري هذين؟» قال رجل: أنا، آخذهما بدرهم، قال: «من يزيد على درهم مرتين، أو ثلاثا»، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال: «اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما فأتني به،»، فأتاه به، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده، ثم قال له: «اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما»، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا، وببعضها طعاما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع».