تاريخ الدرس: 1993/12/10
في رحاب التفسير والتربية القرآنية
مدة الدرس: 01:23:53
سورة الملك، الآيات: 5-12 / الدرس 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل التَّحيات والصَّلوات والتّسليمات العطرات المباركات على سيِّدنا محمَّد خاتم النَّبيّين والمرسلين، وعلى أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيِّدنا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه من النَّبيّين والمرسلين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين. وبعدُ:
قدرة الله عزَّ وجلَّ وعلمه:
فنحن في سورة الملك- سورة تبارك- قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ [الملك: 1] تعالى وتعاظم عن أن تحيط بحقيقة ذاته العقول والأفكار ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الملك: 1]، مالك الكون ومبدعه ومنظِّمه وواضع قوانينه والعالِم به من مجرَّاته إلى ذرَّاته.. مَلِكٌ قادرٌ تحيط قدرته بهذا الكون، الذي يَعْجُزُ العقل عن إدراكه أو معرفة نظمه.. ورغم كلِّ ما تقدَّم فيه الإنسان من علوم لا يزال يجهل مواضع كثيرة في دماغه، فلا يعرف من كثير من خلايا الدِّماغ مهمَّتها ولا وظيفتها، قال تعالى: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 21]، وقال أيضاً: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الأنعام: 59]، فالملك يعلم كلَّ ما في مملكته من عظيم أو حقير، ومن قريب أو بعيد، قال تعالى: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ﴾ [الأنعام: 59]، حين يبذرها المزارع ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ﴾ [الأنعام: 59]، فالملك هكذا يجب أن يكون علمه محيطاً بمملكته وما فيها ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: 59].
أمّا بالنسبة لعلمه بك أيُّها الإنسان فقد قال: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾ [الأنعام: 60]، ففي كلّ ليلة تموت، وتفقد كلَّ علومك وقدراتك وسمعك وبصرك ولا يبقى إلّا الأعصاب اللّا إرادية التي تحرِّك القلب، وتشغِّل الرّئتين، وما إلى ذلك.
﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام: 60]، فأعضاؤكم التي اسمها جوارح، يعلم بمَ تستعملونها؟ ويعلم بمَ تراه عينك، ويعلم نظراتك وما سمعت بأذنيك من كلام، وماذا نطقت بلسانك من ألفاظ، وماذا تفكَّرت من أفكار صالحة أو أفكار سيِّئة.
﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ﴾ [الأنعام: 60]، يعني ما عملت جوارحكم، فاليد جارحة والعين جارحة.
﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾ [الأنعام: 60]، بعد أن يتوفاكم في الليل يصير البعث، والبعث متى يكون؟ فهناك بعثان: البعث اليوميُّ كلَّ أربعٍ وعشرين ساعة، حيث يكون موتٌ وبعثٌ، وهناك البعث العامّ: وهو موت الجميع ثمَّ حياة الجميع ولمحاسبة الجميع.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى﴾ [الأنعام: 60]، حتى ينتهي الأجل وقال: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ [الأنعام: 60]، وهو الملك، وهذه طاقته العلميَّة وقال أيضاً: ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: 119]، وكذلك قال: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [التغابن: 4]، وقال أيضاً: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18]، وقال: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ [فاطر: 13]، يقصِّر النَّهار ويُدخِل جزءًا منه في اللّيل فيطيل اللّيل.
وقال أيضاً: ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [فاطر: 13]، فمن الذي يسيِّر الأرض حول الشّمس؟ ففي الثّانية الواحدة تسير الأرض حول الشمس بسرعة مئة وثمانية آلاف كيلو متراً، فيا ترى بأيِّ طاقةٍ هل بالبترول أم بالكهرباء أم بالخيل؟ وهذا بالثانية.. وجعل بين الشمس والأرض مسافة مئة وخمسين مليون كيلو متراً، فلو كانت أقرب من ذلك لأحرقت الأرض ومن فيها، ولو كانت أبعد لتجمَّد كلُّ شيء في الأرض.. فهل هذا مَلِك أم ليس ملكاً بقدرته وخلقه بهذا الكون وبنظامه؟
فالسيَّارات بالرّغم من قوانين السّير ووجود الشّرطة فالاصطدامات والدهس موجودة.. أمَّا هذه الكواكب التي هي أكثر من عدد الرِّمال في الصَّحراء الكبرى في أفريقيا بسير لا يزيد ولا ينقص، وفي طريقٍ لا يتعدَّى يميناً ولا يساراً، فهل هذا ملك أم ليس ملكاً علماً وقدرةً وإبداعاً؟
الحياة الدنيا للاختبار والابتلاء:
وبالنسبة لك أيُّها الإنسان فقد قال تعالى: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ﴾ [الملك: 2]، ليختبركم ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2]، لا ليختبر عملكم الصَّالح.. فيجب ألّا تختاروا العمل الصَّالح، بل أن تختاروا العمل الأصلح، وألّا تختاروا الكلام الحسن، بل تختاروا الكلام الأحسن، قال تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ﴾ [الملك: 2]، فتسابقوا إلى الأحسن وإلى الأفضل.
فمن الذي يخاطبكم؟ ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ [آل عمران: 26]، مالك الكون ومالك الحياة والموت، وقال تعالى: ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [إبراهيم:10]، هذا الملك.. فبعض الأوقات لا يتنازل مدير المخفر ليكلِّمك ويقول: “ليكلِّمك الشرطيُّ”، وإذا كان مدير الشّرطة أيضاً لا يتنازل ليكلِّمك لأنّه مشغول.. فمالك الملك ربُّ العالمين يُخاطِب الإنسان ويعرِّفه “بتبارك”: تعالى وتقدَّس وعَظُم عطاؤه الظّاهر، والبركة: هي العطاء الخفيُّ.. فهناك أناس يجعل الله من قليلهم كثيراً، ومن عملهم المحدود عملاً غير محدود، فهذا العطاء الخفيُّ اسمه البركة، فنسأل الله أن يعطينا البركة من الخير.
الأمر بالزينة:
إلى أن قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ [الملك: 5]، المعنى المراد من الزينة: أي أنّ الله عزَّ وجلَّ يحبُّ لك الزّينة، قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: 31]، وقال أيضاً: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: 22]، وقال: ﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: 58]، الياقوت أحمر الشّفاه والمرجان البودرة.. يعلِّم الله عزَّ وجلَّ المرأةَ في الدُّنيا أن تتشبّه بنساء أهل الجنَّة، فمعناه هكذا كوني أيّتها المسلمة.. قال تعالى: ﴿عُرُبًا أَتْرَابًا﴾ [الوقعة:37]، فالعَروب هي المتحببة إلى زوجها بكلِّ ما يقربها إلى قلبه.
﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا﴾ [الملك: 5]، فالكواكب التي تُرى من على كوكبنا الأرضيِّ، ولا يُرى من مجرتنا في كوكبنا إلّا ستة آلاف نجم، أمَّا عدد نجوم مجرَّتنا فهو فوق المليارات، وملايين المليارات، وهي مجرّة واحدة.. أمّا عدد المجرَّات فآخر ما وصل إليه العلم الحديث أنّه اكتشفت مجرَّتان في أمريكا تبعدان عن الأرض ثمانية عشر مليون سنة ضوئيَّة، والسّنة الضّوئيَّة: هي أن يسير الضوء بسرعة ثلاثمئة كيلو متر في الثانية، فإذا كانت المجرَّتان تبعدان عن الأرض ثماني عشر مليون سنة ضوئيَّة وهذا الذي وصل إليه علم الإنسان، والذي قال عنه تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85]، فمن أنت أيُّها الإنسان مع خالق الأكوان؟ فلو أتتك رسالة من مخفر شرطةٍ لتحضر السّاعة الفلانية من أجل الأمر الفلانيِّ لا تتخلف.. ولو جاءتك ورقةٌ من البلدية أن تفعل كذا فلا تخالف.. فكيف خالق الكون وقد أرسل إليك رسالةً مع رسل، فمن ملائكته أشرفهم ومن البشر أفضلهم، من أجل سعادتك ومصلحتك! وقد ورد الحديث القدسيِّ: ((يا ابن آدم كلّ الخلق يريدونك لأنفسهم، أمّا أنا فأريدك لك)) 1 ، ولم يقل: “أريدك لنفسي” إذا وجَّهت لك شيئاً وأردت منك أن تفعل هذا الشيء فهو لمصلحتك، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، وقال أيضاً: ﴿يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف: 157].
تكريم الله عزَّ وجلَّ لبني آدم:
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ [الملك: 5]، كم نحن مدللون عند الله تعالى؟ زيّن لكم ولحياتكم بهذه الأنوار، والآن إن حدث عيد من الأعياد ألا تقوم الحكومة بالزّينة والأنوار الكهربائيّة والألعاب النّاريّة وغيرها.. وجعل الله عزَّ وجلَّ لكم الزينة، فكم كرَّم الله الإنسان! قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70]، هذه تدل على حقوق الإنسان، ولم يقل: كرّمَنا المؤمنين، بل قال: ﴿كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70].
قال تعالى: ﴿زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا﴾ [الملك: 5] السّماء التي ترى في كوكب الأرض ﴿بِمَصَابِيحَ﴾ [الملك: 5]، هذه النّجوم كلُّ واحدة منها أكبر من الأرض بملايين المرَّات.
﴿وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾ [الملك: 5]، فالوحي كان ينزل من السَّماء، وكانت الشّياطين تسترق منه السَّمع بما تسمعه من بعض الملائكة ويلقونه على الكهنة، فمنع الله عزَّ وجلَّ الشّياطين من استراق السّمع حتّى لا يختلط وحي السَّماء بدجل السّحرة والكهنة.. ولذلك قال تعالى: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: 195]، وقال أيضاً: ﴿يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ [يس:2]، فنزل القرآن وهو كتابٌ واحدٌ إلى أمَّة كانت أجهل الأمم وأشدَّهم تفرُّقاً وتمزّقاً، وعِداءً وحقداً، وفقراً وإملاقاً وقسوةً لدرجة أن الأب كان يدفن ابنته في التّراب وهو ينظر إليها حيَّة.. والحيوان لا يفعل ما كان يفعله الإنسان العربيُّ، قال تعالى: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ [التكوير:9].
وبهذا الكتاب الواحد ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110]، فنقلها من الحضيض إلى قمَّة القمم؛ علماً وعقلاً وأخلاقاً ودولةً وحرباً وسياسةً وعالميةً.
قصة ابن عمرو بن العاص مع القبطي:
وبالنسبة لحقوق الإنسان فإنه لمّا اعتُدي على القبطيِّ من قبل ابن عمرو بن العاص فهل كانت هناك لجنة حقوق الإنسان؟ ضربه ابن عمرو لأنَّه سبقه في سباق الخيل، فلو أنّ ابن كلينتون الآن سبقه شخص أسود وابن كلينتون ضرب الأسود فهل في أمريكا يعطون القضيب للأسود حتّى يضرب ابن كلينتون على رأسه؟ ألا يقولون حقوق الإنسان؟ وهذا الأسود أليس إنساناً؟ فهم يدّعون ذلك دجلاً.. وحقوق الإنسان عندهم تعني إنسانهم، وحقوق الإنسان لمصالحهم الاستعماريَّة.. مع الأسف.. بينما فيهم أشخاص أحرار يعتقدون الحقّ.. لكنّ الشّيء المنفَّذ في الميدان السّياسيِّ هي الأغراض الاستعماريَّة مع الأسف.
أمَّا حقوق الإنسان في الإسلام فسيّدنا عمر رضي الله عنه أعطى القضيب للقبطيِّ النّصرانيِّ وقال له: “اضرب ابن الأكرمين”؛ لأنَّه حين ضربه قال له: “أنا ابن الأكرمين”، فكان يعتزُّ بأمّه وأبيه.. وفي الإسلام ((لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى)) 2 .
فضربه وأصحاب النَّبيِّ ﷺ هم مجلس الوزراء ومجلس الكونغرس والشّيوخ والنّوَّاب، قالوا: “ونحن نحبُّ أن يضربه”، لا يوجد أحد استنكر الحقَّ والعدل والمساواة.. قالوا: “حتى اشتفى ونحن نحبُّ أن يتوقف”، يعني أخذ ما يستحقُّ، وقال له: “اضرب بالسَّوط على صلعة أبيه” فهل يفعلون هذا في أمريكا أو إنكلترا أو فرنسا؟ وهل الديمقراطية تفعلها؟
قال تعالى: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110]، حكماً وعلماً وحكمةً وإنسانيةً، وعمر رضي الله عنه إذا قال له: “اضربه” سيضربه ولا يقدر أن يردّه أحد، فقال له عمرو: “ما ذنبي يا أمير المؤمنين؟” قال له: “إنَّ ابنك ضرب القبطيَّ بسلطانك” بنفوذك، ولكنّ القبطيَّ كان منصفاً فقال له: “يا أمير المؤمنين، أنا ضربت من ضربني وأخذت حقِّي” 3 .
فزيَّن الدُّنيا بمصابيح تراها العيون، وزينَّها بمصابيح الوحي والقرآن، ومن حمل نور الوحي من الصّحابة وخلفاء الأنبياء؛ فبعد رسول الله ﷺ خلفاؤه الذين أناروا الطّريق للبشرية وللعالم وبوسائلهم القديمة، حتّى عمَّموا العلم من أسوار الصّين إلى حدود فرنسا، جعلوها أمَّة واحدة وحقوقاً متساوية، وقال ﷺ: ((من آذى ذمّيّاً)) أيّ من الرّعيّة إذا كان غير مسلمٍ ((فأنا خصمه يوم القيامة، ومن كنت خصمه فقد خصمته)) 4 فعليه أن يدفع الحقَّ لليهودي أو للنّصراني أو للمجوسي.. هذه حقوق الإنسان، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70].
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ [الملك: 5]، فهذه تراها العيون، وهناك زينةٌ أعظم لمصلحة الإنسان، فزينة الدنيا أن كلّ ما في الأمر يتمتَّع فيها النّظر بجمال النّور في ظلمات اللّيل، أمَّا المصابيح التي تنير دروب السَّعادة للإنسان فهم ورثة الأنبياء، قال رسول الله ﷺ: ((العلماء ورثة الأنبياء)) 5 .
ومن هم العلماء؟ ففي تعريف القرآن حيث يقول: ﴿يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: 129]، فالكتاب هو القرآن، فالذي يعلِّم علوم القرآن حتّى يحوِّلها من كلماتٍ مكتوبة وألفاظٍ مسموعة إلى أعمالٍ فاضلة منظورة ومشهودة، هذا هو عالم القرآن، وهذا هو الوارث المحمديُّ.. وما هي علوم القرآن؟ علوم القرآن تشتمل على بناء العقل وتحويله من نواةٍ إلى نخلة.. فيا ترى عمر رضي الله عنه قبل الإسلام ماذا كان عقله؟ وأبو بكر رضي الله عنه ماذا كان عقله؟ وخالد بن الوليد رضي الله عنه ماذا كان عقله؟ فسيدنا عمر كان يصنع صنماً من عجوة، وفي يوم من الأيام أصبح وليس عنده طعام فأخذه وأكله وبعد ساعات أخرجه- بعد هضمه- إلى ما هو معلوم.. فهل عمر بعقله هذا هو الذي يقول: اضرب ابن الأكرمين؟
زحفت كنوز كسرى وقيصر على قدميه، وفي عام المجاعة بقي ثمانية أشهر لا يأكل اللّحم، قال: حتّى يأكلها أفقر واحد في الأمَّة.. ومن الذي جعل نفسه بهذا الارتقاء وعقله بهذه الحكمة، وسياسته بهذا النَّجاح، وحروبه بتلك الانتصارات الرّائعة؟.. إلى المستوى العالميِّ أمَّةً عالمية ودولة عالميَّة؟ والثقافة لكلِّ شعوب العالم، والمساواة بين الأبيض والأسود.
قصة أبي ذر مع بلال رضي الله عنهما:
ومرَّة شتم أبو ذرٍّ بلالاً الحبشيَّ قائلاً له ومعيِّراً: ((يا ابن السّوداء! فشكاه إلى رسول الله ﷺ فاستدعى أبا ذرَّ، وقال له- موبّخاً ومؤدّباً-: إنّك امرؤ فيك جاهلية، أمّا علمت في الإسلام أنه لا فضل لابن البيضاء على ابن السَّوداء إلّا بالتّقوى)) 6 .
فأيُّ قانونٍ في الدُّنيا يفعل هكذا؟ وهل هكذا تُطبَّق الدّيمقراطية؟ والاشتراكيَّة هل هكذا طُبَّقت؟ والشيوعية هل هكذا طُبَّقت؟ وفرنسا هل هكذا طُبَّقت؟
هذا الإسلام المجهول الذي أكثر من يجهله هم المسلمون.. وكثيرٌ من الأمم الراقية تدرس لكن لا تصل إلى روح العلم بل تصل إلى ألفاظ العلم، والعلم إذا ورد في القرآن أو في الإسلام فليس المراد من العلم قراءة الكتب وقراءة النَّظريات؛ بل العلم في القرآن هو ما يُوجِب استسلام النَّفس لمعلومات القرآن، وتحويل الكلمات إلى أعمالٍ وأخلاقٍ وسلوكٍ وصفات وهذا لا يكون إلّا عندما يخشع القلب ويخضع لنور عظمة الله المنعكس في قلب المؤمن، فيمتلئ نوراً وحضوراً ويعبد الله كأنّه يراه.
وعندما أخبر النَّبيُّ عليه الصّلاة والسَّلام بأنَّه في فترة من فترات هذه الأمَّة يُرفَع العِلمُ ويوضع الجهل، فقال زياد بن لبيب: ((أيرفع العلم يا رسول الله وفينا كتاب الله؟ وقد علَّمناه أبناءنا ونساءنا)). كيف سيرتفع؟ والآن قد طُبِع وكان في عصر النبي ﷺ على الأحجار وأوراق النَّخيل، فقال النَّبيُّ الكريم ﷺ لزياد: ((إن كنت لأظنك يا زياد من أفقه أهل المدينة، ثمَّ ذكر النَّبيُّ الكريم ﷺ ضلالة أهل الكتاب)) وكيف ضلُّوا وعندهم التّوراة والإنجيل ((ثمّ قال النَّبيُّ ﷺ لراوي الحديث وهو عوف الأشجعيُّ: هل تدري يا عوف ما رفع العلم؟)) قال: لا يا رسول الله، قال: ((ذهاب أوعيته)). فظرف السّمن إذا فُقِد فلا يكون هناك سمنٌ، ووعاء البنزين إذا فُقِد لا يكون هناك بنزين ((قال: هل تدري ما رفع العلم؟ قال: لا يا رسول الله، قال: ذهاب أوعيته، هل تدري أيُّ العلم أوَّل ما يرفع؟)) فالعلم أنواع، فهل تعرف أعظمها وأولها رفعاً؟ ((قال: لا أدري يا رسول الله، قال: أوَّل ما يرفع من العلم خشوع القلب حتى لا تكاد ترى خاشعاً)) 7 .
حين يقول المؤذن: “حيَّ على الفلاح” والقرآن يقول عن الفلاح: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون:2]، لأنّه حين تتجلَّى عظمة الله في مرآة قلوبهم، فإن كنت تلعب ورأيت رئيس الجمهورية، هل تبقى بلعبك؟ لا، ستتأدَّب، فكيف مع ملك الملوك!
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: 3]، مفلحون: الفلاح أي لا تعمل عملاً ولا تسمع بأذنك قولاً ولا تنظر نظراً ولا تخطو خطوةً إلّا ما فيه النّفع بلا ضرر؛ لأنَّ اللّغو كلُّ قولٍ أو عملٍ لا نفع منه ولا ضرر، وهذا لغوٌ.. فتجلس مع إنسان ساعةً فما النَّفع لك وله؟ إذا كان فيها نفعٌ فليس بلغوٍ، وإذا كان فيها ضرر فهذه جلسة إثمٍ، وإذا لم يكن فيها نفع ولا ضرر فهذا لغوٌ، والله وصف المؤمنين فقال: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: 3].
فحين ندَّعي أننا مؤمنون وعلى الله أن ينصرنا ونقرأ ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47]، ولا نسمع هذه الآية التي تذكر من صفات المؤمنين ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: 3]، ولذلك نعيش بالأمانيِّ الباطلة، وما ثمرات الأماني ونتائجها؟ لا شيء.
﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ [الملك: 5]، فالمصابيح للزينة، وأعظم المصابيح التي تنير العقول بالحكمة، والنّفوس بمكارم الأخلاق، والمجتمع بالعلم.. والعلم كلُّ ما ينفعك بحياتك الجسديَّة أو الرّوحيَّة أو الأخلاقيَّة.
وإذا استمعنا إلى قول النَّبيِّ ﷺ: ((طلب العلم فريضة)) 8 . فالتّعليم إجباريٌّ في الإسلام والأمِّيَّة يجب القضاء عليها؛ لا أمِّيَّة القراءة والكتابة، فقد تجد أحدهم يحمل أعلى الشّهادات ولكنّه أمِّيٌّ في الأخلاق وأمِّيٌّ في الأمانة فلا أمانة له، وأمِّيٌّ في طيِّب الكلام وفي حسن السّلوك.. والثّقافة بمعناها الحي والحقيقي هي ما جمعت أخلاقاً وعلماً، فإذا حصل على الشّهادات وقرأ الكتب وليس فيه أخلاق فهذا لا يسمَّى بحسب القواعد العلميَّة مثقفاً.. فإذا زيّن الله عزَّ وجلَّ للنَّظر حياتنا الدُّنيا بنور النُّجوم.. وفائدتها للزينة، أمّا الأعظم من هذه النُّجوم ما قاله أحدهم
أَمُرْتَقِب النّجوم من السّماءِ نجوم الأرض أبهر في الضياء
فتلك تبين وقتاً ثم تخفى وهذه لا يكدِّرها الخفاء
وهذه -النُّجوم في الأرض- لا يكدرها الخفاء
مهمَّة تلك في ظلم الليالي ومهمة هذه كشف الغطاء
﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق: 22]، فتكشف عنك غطاء الجهل والجاهليَّة والحسد والحقد ورذائل الأخلاق، كان عليه الصَّلاة والسَّلام يقول: ((مثل العلماء في الأرض كمثل النّجوم في السّماء، فإذا انطمست النجوم- إذا غابت- يوشك الهداة أن تضل)) 9 . فما أحوج ليس المجتمع الإسلاميَّ فقط بل ما أحوج العالم إلى النّجوم التي تنير العقول بمعرفة الحقائق التي تُسعِد الإنسان! وما أحوج القلوب والنُّفوس إلى الحقائق التي تعطي السَّعادة للقلوب والأرواح! وهذا هو الإسلام بجناحيه الذي عبَّر الله عنهما في القرآن بقوله: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة: 201]، في الدنيا الحياة الحسنة والاقتصاد الحسن والصحَّة الحسنة والسياسة الحسنة والزراعة الحسنة والعائلة الحسنة والثياب الحسنة.
خطورة الكِبِر وتحذير النبي ﷺ منه:
وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: ((إنّ الله لا يُدخِل الجنّة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر، فقال أحد الصّحابة يا رسول الله: إنّ أحدنا يحبّ أن تكون ثيابه حسنة، فرسه حسنة وزوجته حسنة، أمن الكبر أن تكون أمتعة الإنسان بهذا الجمال وهذا الحسن؟ 10 فقال: إنّ الله جميل يحب الجمال)) 11 ، وكان يقول أيضاً: ((لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم بالطيب والسواك عند كل صلاة)) 12 . أن تنظِّف أسنانك وتتطيب للصلاة، فإذا تطيّبت كلَّ يوم خمس مرَّات كيف ستكون رائحتك؟ خاصة في يوم الجمعة فالنبي ﷺ أمر بالاغتسال وقصِّ الأظافر والتّنظف، ويلبس أجمل الثّياب وأن تكون بيضاءً وأن يتطيّب.
((ولكن الكبر بطر الحق)): أن ترى الحقَّ فتتمرَّد عليه ولا تخضع له ((بطر الحق وغمط النّاس)): أن تحتقر النّاس وتتعالى وتتعدَّى عليهم، وتبخس حقَّهم.
ما هذا الرَّسول الكريم ﷺ حامل هذه الرّسالة في قلبه وعقله وحكمته، فصنع منها خير أمَّة أُخرِجت للنَّاس، وكانوا أميّين لا يقرؤون من حيث الكتابة والقراءة، ولكن صاروا فوق العلماء، وكما وصفهم فقال: ((علماء حكماء فقهاء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء)) 13 .
والنَّبيُّ ﷺ من هو؟ هو مهندس وصانع أمَّة راقية، وكان الأنبياء من قبله رسالتهم محدودة وفي أمور محدودة، أمَّا خاتم الأنبياء ﷺ فأتى برسالةٍ تشمل كلَّ ما يتعلق بالإنسان من حياة الفرد إلى الأسرة إلى المجتمع، ومع العدو وفي السّياسة والحرب وإلى العالَم كلِّه، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [الأعراف: 158].
فهؤلاء على أميَّتهم القرائيّة والكتابيّة، ولكن كتبوا في قلوبهم بمدادٍ وحبرٍ من النُّور ومن الرُّوح، فسرى في جوارحهم وأعضائهم أعمالاً عظيمةً وأعمالاً جبَّارةً هائلة وفي عقولهم حكمةً وفلسفةً وفي نفوسهم أخلاقاً ملائكيَّةً، فكانوا كما نقرأ في التَّاريخ بخمسين سنة وحَّدوا نصف العالم القديم.. فالقوميَّة السماويَّة وهي: يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، والقوميَّة في عصرنا قوميَّة اللّغة والأرض، إن كانت الأرض واللغة واحدة فتصير قوميَّة وطنيَّة، أمّا في القرآن فهي قوميَّة فقه كتاب الله وفقه الحكمة، وهي بأن تعرف الأمور بحقائقها وتعلم ارتباط المسببات بأسبابها، وتطبِّقها.. والحكمة: فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الشّكل الذي ينبغي، لذلك يقول نابليون كلمته مندهشاً: “كيف أنّ العرب في أقلَّ من قرن استطاعوا أن يوحِّدوا نصف العالم القديم!” فلا قوميات ولا جنسيات ولا ألوان ولا لغات، وحَّد عقولهم وقلوبهم وعقائدهم تحت ظلِّ قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، وقول النبي ﷺ: ((والمؤمنون في توادّهم وتراحمهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) 14 .
قصة سماحة الشّيخ مع الصّيني في الصّين:
ذكرت لكم بأنني كنت في الصين منذ سنتين، وكنت في أحد شوارعها مع المرافقين، وإذ برجل يتجه نحوي وعلى رأسه قبعة- طاقية بيضاء- فعرفت أنَّه يقصدني، فلمَّا صار الوجه بالوجه خاطبني باللّغة الصينية لكن بهذه اللّفظة قائلاً مستفهماً: “الله أكبر؟ الله أكبر؟” يعني: هل أنت مسلم؟ قلت له: “نعم الله أكبر”، وإذا به يعانقني ويبكي، ويقول: “الحمد لله على دين الإسلام” ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10].
وبعد خمسة عشر قرناً ومع الاختلاف بين اللّغة الصّينية واللّغة العربيّة، فما هذه اللغة التي جمعتنا؟ إنّها لغة الإيمان ولغة الحبِّ لغة كالجسد الواحد.. فهذه الشّيوعيّة ملكت نصف العالم والآن يتسوَّلون من أجل الرّغيف من الشّوارع كبارهم وصغارهم.. والإسلام رغم الحروب السياسية والحربية والاستشراقية والصهيونية وكلِّ الأنواع ولا يزال الإسلام يزحف ويهجم، بل ويختطف عظماء العالم الغربيِّ، مثل روجيه غارودي وأمثاله بالمئات والألوف، يعلنون إسلامهم ويدعون إلى الإسلام.
وقرأت مؤخَّراً في كتابٍ ألَّفه سبعة من دكاترة علماء اللاهوت الإنكليز، عنوان الكتاب “أسطورة تجسِّد الإله في المسيح” هؤلاء رجال الكنيسة وإحدى المؤلِّفات امرأة، وعُرِّب الكتاب وقرأته معرَّباً، وليس مرادي النّقد أو الهجوم، لكن مرادي بأنَّ الإسلام الذي هو مجمع أديان السَّماء، إذا قلت الإسلام فهو دين إبراهيم، وإذا قلت الإسلام فهو دين موسى، وإذا قلت الإسلام فهو دين أنبياء التوراة، وإذا قلت الإسلام فهو دين سيِّدنا المسيح عليه الصلاة والسَّلام.. فيعرض الدِّين بجوهره وحقيقته بعلمه وحكمته، وكما قال النَّبيُّ الكريم ﷺ: ((إنَّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)) 15 .
وفي هذا الأسبوع كان عندي وفدٌ أمريكيٌّ من كبار رجال الكنائس وكبار رجال الجامعات، استغرق المجلس ما يقارب ساعة وخمس وثلاثين دقيقة- كم أنتم تحبُّوني؟ وكم لكم تعلُّقٌ بي؟- لم يكن حبُّهم وتعلُّقهم في نهاية الجلسة بأقلَّ من حبِّكم وتعلُّقكم؛ لأنّ الإنسان في الشعوب الراقية يبحث عن الحقيقة، ويشعر بالجوع الروحيِّ، وبالجوع الإيمانيِّ، ولكن يُقَدَّمُ له طعام فاسد وفي حرارة الصّيف فيُؤثِر أن يجوع يومين ولا يأكله بهذا الشّكَل، أمّا أن يكون الطعام طازجاً ومطبوخاً بشكلٍ جيد، فمن رائحته الشهيَّة تأخذه أفكاره نحو ما هو بحاجةٍ إليه.
فما أحوجنا في هذا الزّمن إلى مصداق الحديث النبويِّ وإلى أن نرى واقعه: ((مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السّماء، يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم يوشك الهداة أن تضل)) 16 .
فما أحوج المجتمع إلى العالِم الإسلاميِّ: عالِم القلب والحكمة والقرآن، ليس عالِم النّطق به بل عالم الفهم له والهاضم له والمتمثل فيه علماً وحكمةً وأخلاقاً وفضائلاً وقدوةً؟ قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران:31]، يجب أن يعلِّم النّاس بأعماله وأخلاقه.
وهذا يجب على كلّ مسلم ومسلمة ولو كان طفلاً صغيراً، فالإسلام أعطى الطفل العلم والحكمة، قال تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم:15]، هذا طفل القرآن.. أمّا طفلة القرآن: مريم، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 42]، لمّا رأت جبريل عليه السلام كان قد مضى شهران على رؤيتها للعادة الشهرية، فالبنت لما ترى العادة الشهرية يكون عمرها ثلاث عشر سنة تقريباً.. فهذه طفلة القرآن وهذا طفل القرآن!
من صور جهاد الصحابة رضي الله عنهم شباباً وشيباً:
وفي معركة أُحُد في زمن النَّبيِّ ﷺ فمن الذين أرجعهم النَّبيُّ ﷺ من الجيش لمّا استعرض الجيش من كان عمره اثنتا عشرة سنة وثلاث عشر سنة ذاهبين إلى الجهاد والاستشهاد، وهؤلاء هم الأطفال.
وعمرو بن الجموح كان أعرجاً، وعمره ما يقارب تسعين سنة، وصارت المعركة وهيَّأ نفسه لاقتحامها في أحد، فأبناؤه الشباب شكوه إلى النَّبيِّ ﷺ، وقالوا يا رسول الله ﷺ: “والدنا شيخ كبير وأعرج والله تعالى قال: ﴿وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ﴾ [النور: 61]، فلو أمرته وأعفيته”، فما كان قول ابن تسعين سنة إلا أن قال: “أرجوك فإني أطمع أن أدخل الجنَّة بعرجتي هذه، فادعُ الله لي أن أدخل الجنة بعرجتي هذه”، فمعنى ذلك: أن يرزقني الشَّهادة وكان من جملة شهداء أُحُد، وقال النَّبيُّ ﷺ: ((لقد رأيته يدخل الجنة بعرجته)) 17 هكذا اشتهى.. لكن في الجنّة لا يبقى أعرجاً، وبالحال وبكلمة “كن” يصير ابن ثلاثٍ وثلاثين سنة، فهذا الإسلام وهذا القرآن وهذا الذي صنعه النَّبيُّ ﷺ وورثته من بعده.
يعلّمون الكتاب والحكمة ويزكّون النُّفوس، فما أحوج ليس المسلمون فحسب، بل ما أحوج العالَم إلى هذا العالِم، وإلى هذا النَّجم السَّاطع.. والآن أصحاب الرذائل يسمونهم “نجوم هوليود” فأين نجوم القرآن؟ وأين نجوم الإسلام الذين مهمّتهم أن يجعلوا من العالَم وطناً واحداً وقوميّة واحدة، ويطبقون حقوق الإنسان مهما اختلف دينه ولونه؟
قال ﷺ: ((ما آمن بي- ساعة من نهار- من أمسى شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم)) 18 . لذلك لا تيأسوا، وأنا أتوقع كما أراكم وترونني فإنّ هذا القرن لا ينتهي إلّا ودين الله بهذا المعنى سيعمُّ الأرض، والأمر هذا بالنسبة لله لا يكلفه شيئاً، فإذا أراد شيئاً أن يقول له: “كن فيكون”، والأسباب تتهيَّأ.
وبالعودة لقصة الوفد الأمريكي، فقال رئيس الوفد الذي زارني هذا الأسبوع: “أنا هذه المرَّة السابعة أزورك من أمريكا” فلماذا يأتي من أمريكا مع رؤساء الجامعات ورؤساء الكنائس؟ فالعالَم كلُّه متعطِّش إلى معرفة الحقيقة، والإسلام هو حقوق الإنسان وكرامته وسعادته.
حوار ربعي مع رستم قائد الفرس:
ولمّا تحاور ربعي قائد جيش المسلمين في معركة القادسية مع رستم قائد الفرس، قال له رستم: “لماذا تأتون إلى بلادنا لتحاربونا؟” قال: “نحن جئنا بأمر الله لننقل العباد من عبادة الإنسان للإنسان إلى عبادة الله” لأنَّه عندما يصير الإنسان عبداً لإنسان فهذا ازدراءٌ وتحقير للإنسانية، “ولننقل النَّاس من بؤس الفقر إلى بحبوحة الغنى، ومن بؤس الحياة إلى سعادة الدُّنيا”، معنى ذلك أنه أتينا لنسعد النَّاس ونحرِّر النَّاس من الجهل والأميَّة والظّلم والرِّق، لذلك في القرآن لا تجد آية تقول بالرّق، بل كلُّ الآيات التي تتعلق بالعبيد فيها العتق، قال تعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ [النساء: 92]، وقال أيضاً: وإذا أسرتم الأسرى ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ [محمد: 4].
ويحجب المسلمين عن القرآن قرَّاءُ القرآن خصوصاً إذا كان للأنغام والألحان؛ لأنَّهم لا يقرؤونه للعلم والفهم، ولا يقرؤونه للعلم والتَّطبيق.. فإذا أتاك أمرٌ من الدَّولة لأمرٍ ما لدفع ضريبة أو لاستلام شيء، فإذا اكتفيت بالقراءة وما نفَّذت المضمون وحضرت المحكمة في الوقت المحدَّد، بل قرأتها بأعذب الألحان وأجمل الأصوات فالنّاس ماذا يقولون عنك؟ إذا جاءك سند مصرفي أن ادفعوا لحامله مئة ألف دولار أو دينار، وأنت في أشدِّ ما تكون حاجة إلى الطّعام والشَّراب والدِّفء والكساء، واكتفيت بالقراءة وأينما قعدت تقرأ هذا السند- وأنت عريانٌ وبردانٌ وجوعان- فهل القراءة ترفع عنك البرد وتأتيك بالدفء؟ وهل تذهب بالجوع وتملأ معدتك بالطعام؟
فهكذا يُستعمل القرآن بين مجتمعنا، ولذلك لا نزداد إلّا تقهقراً وتخلُّفاً، لذلك كلُّ واحدٍ منَّا واجبٌ عليه طفلاً أو طفلةً، رجلاً أو امرأة، صغيراً أو كبيراً قبل كلِّ شيء أن يصنع له قلباً، والقلب: هو موضع الإحساس بالله، وموضع الشّعور بالله وموضع ذكره، وموضع الخشوع لعظمته، وموضع الإضاءة بنوره ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ [النور: 40].
والقرآن يقول: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ [ق: 37]، في القرآن ﴿لَذِكْرَى﴾ [ق: 37]، لموعظة ﴿لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37].
النوم سبات:
﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا﴾ [الملك: 5]، ألا يجب على الدَّولة أن تنير الشّوارع؟ فالدّولة الربانيَّة تنوِّر أرضنا بالشّمس لنعمل، ولو بقيت الشّمس ولا نستطيع النوم، فالنوم في الظلام يهدِّئ من خلايا الدِّماغ، ويعطيها من القوّة ما لا يعطيه النَّوم في الضّيِاء، ولذلك قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾ [النبأ: 10]، وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ [النبأ: 9]، ما معنى سباتاً؟ يعني راحةً، ولماذا يوم السّبت اسمه عند اليهود سبتاً؟ لأنهم يقولون: “إنَّ الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام واستراح يوم السبت” فالسّبت يوم الرَّاحة مع أنّه قد فرض الله عليهم أن يتفرَّغوا يوم السّبت لعبادة الله، فستة أيام للدُّنيا ويوم السبت لروحك ولرَّبك، وهذا اليوم يكون بطارية يساعدك في الأيام السّتّة لتنجح في كلِّ ما تعمل، راحة قلبية وحكمة عقلية وعلماً بما يجب أن تعمل وبما يجب أن تترك.. فالمسلم عليه يوم الجمعة أن يتفرغ لله ظاهراً وباطناً.
وكان شيخنا قدَّس الله روحه ورضي الله عنه يقول: “ما كنت أدخل على شيخي إلّا بوضوءٍ وأذكر الله ساعةً أو نصف ساعة حتّى يتطهَّر قلبي، حتّى إذا حصل فيضٌ إلهيٌّ فيجد القلبَ مهيَّأً لدخول ذلك الفيض وذلك النُّور الرّبّاني”.
﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ [الملك: 5]، فنسأل الله أن يجعل زينتنا في الحياة أن نمشي بمصابيح الهدى والنُّور والتَّقوى والعلم والحكمة والمعرفة، فالنّجوم للنَّظر وهذه تراها الحيوانات، فماذا تستفيد؟ قد تسير الأمور على الظّلام ضمن الاصطبل.. أما بلا نورٍ في القلب وبلا مصباحٍ يضيء لك طريق السَّعادة في الدُّنيا والآخرة فلا تسير الأمور.. اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً.
العلماء نجوم الأرض:
قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾ [الملك: 5]، فمصابيح السّماء تمنع الشّياطين من استراق السَّمع، ونجوم الأرض ((العلماء ورثة الأنبياء)) 19 كذلك هم الذين يقفون سداً وسوراً منيعاً دون شياطين الإنس من أن يخرِّبوا ويفسدوا نفوس أهل الأرض، فإذا قلَّت نجوم الأرض وقلَّ العلماء ورثة الأنبياء فكما أنّ الهداة في البرِّ والبحر إذا طمست النُّجوم ضاعوا في الصّحارى وفي البحار، وكذلك المجتمع الإنسانيُّ إذا فقد العلماء الرّبّانيّين: علماء القرآن والحكمة وفقه الحكمة، والأسباب والمسبَّبات، فإذا أراد الله أمراً هيَّأ أسبابه.. كذلك يوشك أهل الأرض أن يضيعوا إذا فقدوا العلماء، بأن يضيعوا عن الصِّراط المستقيم ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة: 7]، فيقعون إمّا في طريق المغضوب عليهم وإمّا في طريق الضالِّين، فالمغضوب عليهم من عرفوا الحق نظريّاً فلم ينقادوا إليه قلبياً وعملياً بسبب عدم تزكية النُّفوس، وقد قال الله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة: 146]، فالقراءة أو العلم قراءةً وحده لا يكفي: ﴿فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ [الجاثية: 17]، أي علم؟ العلم القرائي، أمّا العلم الربانيُّ فقد ورد في الأثر: “ما صب في صدري شيء إلّا وصببته في صدر أبي بكر” 20 . وهناك علمٌ يُؤخَذ من اللّسان إلى الآذان، وعلمٌ يؤخذ من الرُّوح والقلب، فيستنير به القلب وتحيا به الرُّوح بفضائلها وبعلومها الرّبّانيَّة.. فهؤلاء وجودهم وجود الهدى والخير، وبفقدهم يوشك الهداة أن تضلَّ.
اللهم إنا نسألك حبَّك وحبَّ من يحبُّك وحبَّ عملٍ يقرُّبنا إلى حبِّك، ونسأل الله أن يجعلنا من أصحابهم وجلسائهم والمنتفعين منهم.
﴿وَجَعَلْنَاهَا﴾ [الملك: 5]، هذه للنجوم ﴿رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾ [الملك: 5]، تبعد الشّياطين والأضاليل والجهل عن القلوب كما تبعد هذه الشّهب الشّياطين عن استراق السّمع من الملائكة.
﴿وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ﴾ [الملك: 5]، هيّئنا للشياطين، فالشّيطان هو المفسد والمخرِّب، فشيطان الجنِّ يخرِّب بوسوسته، وشيطان الإنس أخطر من شيطان الجنِّ، فهذا إذا قلت من قلبك: “أعوذ بالله” أو إذا ذكرت الله خنس وأدبر، أمَّا شيطان الإنس فإذا قلت: “أعوذ بالله من الشيطان”، فهو شيطان ورجيم، مرجوم بلعنات الله فلا يذهب، وأنت مرتبطٌ فيه! وفي علم الزّراعة لا تتلقح شجرة من شجرة إلّا بوجود تناسبٍ بينهما.
صحبة الغراب للحمامة:
يقول أحد الحكماء: “كُلُّ ولْفٍ على ولْفِهِ يِلْفِي”، فبعض أصحابه رأى غراباً وحمامة يطيران سويَّاً، فقال: “يا سيِّدنا كيف اجتمع هؤلاء مع بعضهم البعض؟” هذا غراب وهذه حمامة قال له: “لا يجتمعون إلّا بوجود تشابه وتوافق بينهما، فاصبروا” فلمّا نزلوا إلى الأرض ومشوا وإذ بالغراب أعرج والحمامة عرجاء، فقال لهم: “جمع بينهم العرج” فطائرين أعرجين مع بعضهم البعض- اللّهمّ إنا نسألك حبَّك- والإنسان يعرف من جليسه ومن صديقه ومن خلطائه، فنسأل الله أن يجعل خلطاءنا صالحين، نحبَّهم ويحبُّوننا.
﴿وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ﴾ [الملك: 5]، هيَّأنا وأعددنا للمفسدين ﴿عَذَابَ السَّعِيرِ﴾ [الملك: 5]، النّار المسعرة، سواءٌ في الدُّنيا للمفسدين والذين يمشون وراءهم، سيعذِّبهم الله عزَّ وجلَّ ليس بالنَّار التي تحرق الحطب، فهناك نارٌ تحرق القلوب، ونارٌ تحرق النُّفوس والأعصاب، ويوجد النّار الثّانية نار جهنم ﴿وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ﴾ [الملك: 5] للشياطين والمفسدين.
﴿وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الملك: 6]، تلاميذ الشّياطين وجلسائهم ﴿وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الملك: 6]، فهذا كلام الله يا بنيّ!
فالشّرطي إذا أخرج لك ورقةً وأنت سائق سيارتك، وقال لك: “أنت مخالف حسب دفتر السيارة ولم تدفع الرسم” فترى نفسك معذَّباً، فكيف ونحن نخالف الله؟ ونقول بعدها: “نحن مسلمون”! ومعنى كلمة مسلم: فالإسلام هو الاستجابة لأوامر الله، ومعنى “الطبيب”: الذي درس في كليَّة الطبِّ وقدَّم الفحوص ونجح في الفحوص، ويعطونه شهادةً بلقب “طبيب”، فأنت تأخذ لقب “مسلم” ولقب “مسلمة” فهل درستم الإسلام، وهل تفقَّهتم في الإسلام؟ يوجد إسلام العقل: الحكمة، ويوجد إسلام علوم القرآن، فهل تفقَّهت بالقرآن؟ وبعد الفقه فهل استجبت لأوامر القرآن؟ وهل وقفت عند حدود الله عزَّ وجلَّ فلا تتجاوزها إلى محارمه، وهل هاجرت؟ فالهجرة فرضٌ على المسلم وكانت من مكَّة إلى المدينة، هل لأنَّ أرض المدينة أفضل من أرض مكة؟ فالأرض كلُّها واحدة وترابها واحد؛ بل لأنّ المدينة كانت أرض العلم والنبوَّة والحكمة والتزكية، ومكة كانت أرض الكفر والشِّرك والأصنام.. والآن الهجرة فرضٌ، وعليك أن تهاجر من موطن الجهل إلى العلم، ومن رفاق الجهل إلى رفاق العلم، ومن الجهلاء إلى العلماء، ليس هجرة الجسد، بل هجرة الجسد والعقل والقلب والحبّ، وهذا ما يسمَّى أعلى شُعَب الإيمان “الحبُّ في الله والبغض في الله”.
من صور يوم الحشر كما ذكرها القرآن:
قال: ﴿إِذَا أُلْقُوا فِيهَا﴾ [الملك: 7]، في جهنّم.. وسيأتي يومٌ ونخرج من الدُّنيا وننتقل إلى عالَمٍ لا نعلمه، فالأتقياء يُدعون إلى دار السَّلام، والتّعساء إلى جهنَّم ﴿إِذَا أُلْقُوا فِيهَا﴾ [الملك: 7]، فقدِّر نفسك أنّك خرجت من الدُّنيا، وقد ذهب شبابك وحكمك وغناك وثروتك وأملاكك وزوجتك وأموالك، وما أخذت غير هذه الخرقة- الكفن- ووضعوك في القبر للتراب، والجسد من التراب وإلى التراب يعود، وروحك إذا ذهبت إلى محكمة الجنايات الإلهيَّة ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء: 14]، وأراك أعمالك في شريط الفيديو الإلهيِّ ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾ [المجادلة: 6]، إذا قال الله لك وذكَّرك بنعمه وذكَّرك برسالاته وبجهود النَّبيِّ ﷺ وبجهود العلماء، وأعرضت عن هذه وأقبلت على تلك، بماذا تجيب الله؟ يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء: 14]، إن زرعت الشّوك وتطلب من الله أن تحصد القمح فهل سيعطيك الله القمح؟ قال تعالى: ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النمل:90].
قال رسول الله ﷺ: ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وحياتك قبل موتك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك)) 21 والذي تركض وراءها سيأتي يومٌ وتخلع كلّ شيء ولا تأخذ معك إلا بعض الأمتار من القماش ثمّ يتركونك في الحفرة، ولا أحد يسأل عنك، ووصيتك لا ينفذونها.. فعلينا ألّا نضيِّع الدنيا للآخرة ولا الآخرة لأجل الدُّنيا ((وخيركم الذي يصيب منهما جميعاً)) 22 .
حال نار جهنّم:
قال تعالى: ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾ [الملك: 8]، أمّا أهل جهنم فيساقون إلى جهنّم ويقابلون ملائكة جهنّم، ولشدة غيظهم منهم يكادون يتمزَّقون من رؤيتهم.. فإذا ذهبت إلى دوائر الأمن وقد قمت بجريمة كخيانة الوطن العظمى كيف سيقابلونك؟ ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾ [الملك: 8]، يريدون أن يعضّوك بأسنانهم ويطحنوك طحناً.. وهذه ملائكة العذاب إذا كنت معرضاً عن الله.. إذا ناداك إنسانٌ عاديٌّ تقول له: “لبيك” وبائع القماش إن قال لك: “ثمن القماش كذا” تقول له: “تفضل”، وإذا قال لك الله: “ناديتك وأنعمتك عليك وأمرتك وبعثت لك الأنبياء”، وأنت بإعراض وإعراض فماذا ستجيب الله؟
وهذا كلام الله، وهذا القرآن بهذه اللغة وبهذا الأسلوب صنع عظماء العرب، وقد صنع خالداً وعمراً وصنع أبا بكر رضي الله عنهم، وذلك في دولة في الجزيرة العربية ولا يوجد بها محكمة ولا سجن ولا شرطة ولا قضاء.. والامبراطور ينام على التراب.. فأيُّ ديمقراطيةٍ في الدُّنيا تفعل ذلك؟
قصة سواد مع النبي ﷺ ((استو يا سواد)):
كان النَّبيُّ ﷺ يسوِّي الصّفوف بالقضيب، وكان أحدهم متقدِّماً فضربه النبي ﷺ بلطف بالقضيب ليتأخر، فقال: “يا رسول الله بعثك الله بالعدل، وضربتني أريد القود والقصاص” فأعطاه النَّبيُّ ﷺ القضيب، وقال له: ((اضربني كما ضربتك)) 23 ، فهل كلينتون يفعلها؟ أليس ديمقراطيَّاً؟ وإذا كان عندكم قضية في المحكمة كم يوماً حتّى تنتهي؟ هل قال له: قدِّم الاستدعاء والطّوابع وهات محامياً ووكِّله.. وأجلناها من سنة إلى سنة وإلى عشرين سنة ولا تنتهي؟ فهل الحكم الإسلامي أفضل أم الديمقراطي أفضل؟ فنحن مستورون لأنَّ الإسلام غاب عنَّا، والإسلام مَلِك الجمال، ونحن منذ أن فتحنا عيونك رأينا الغوريلا وقالوا لنا: “هذه أمُّنا وأبونا”، فعلينا أن نعود إلى الأصول، كما في المثل: “كُل فول، وارجع للأصول”، [مثل شعبي شائع] ونعتزَّ بإسلامنا من طريق دراسة القرآن: دراسة العلم والعمل، ولا بدَّ من الطبيب المعلِّم والمدرِّب، والجراحة لا تُتعَلَّم من المحاضرات، بل تُتَعَلَّم في المشافي ومن أطباء الجراحة.. فتحتاج إلى العالِم العامل الحكيم المزكِّي والمزَكّى.
فصاحب تقياً عالماً تنتفع به فصحبة أهل الخير ترجى وتطلب
وإيّاك والفسّاق لا تصحبنّهم فقربهم يعدي وهذا مجرب
كما قيل طين لاصقٌ أو مُؤَثِّرٌ كذا دود مرج خضرة منه يكسب
فهذه التربية.
ما موقفك من وارث النبي ﷺ؟:
قال تعالى: ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾ [الملك: 8]، فالنَّبيُّ ﷺ أمَا كان بشيراً ونذيراً؟ والقرآن بشيرٌ ونذيرٌ، وبعد النَّبيِّ ﷺ خلفاء النَّبيِّ ﷺ بشيراً ونذيراً.
﴿قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ﴾ [الملك: 9]، فماذا؟ قال: ﴿فَكَذَّبْنَا﴾ [الملك: 9]، أهل مكة ماذا كان موقفهم تجاه النَّبيِّ ﷺ؟ ﴿فَكَذَّبْنَا﴾ [الملك: 9]، أمّا أهل المدينة فقالوا: “طلع البدر” فأنت من أيِّهم؟ هل من أهل كذبنا أم أهل طلع البدر علينا؟ نسأل الله أن يجعلنا من أهل طلع البدر، وأن ننتفع بورثة عصرنا، وبعلماء زماننا.. والعلم ليس قراءة ولا شهادة، فالعلم كما ورد في حديث زياد بن لبيد في موضوع العلم.
قال تعالى: ﴿قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الملك: 9]، وقالوا عن الأنبياء: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ﴾ [الملك: 9-10]، لا يوجد إنسان لا يسمع الصّوت، ولكن ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ [الأنفال: 21]، فالسّماع يحتاج إلى سماع الأذن والقلب ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 179]، يعني الحق ﴿بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ﴾ [الأعراف: 179]، الحق وقبوله ﴿بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ﴾ [الأعراف: 179]، كالبهائم لا يعرفون إلّا الأكل والشّرب وحاجات الجسد، فهذا الذي يعرفه الثور والبقر والحمار والطير.. فإذا كان الإنسان لا يعرف من الحياة إلّا هذه، فهو: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الفرقان: 44].
نسأل الله ألّا يجعلنا منهم، وأن يجعلنا من الذين ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [البقرة: 285]، ومع أطعنا ﴿غُفْرَانَكَ﴾ [البقرة: 285]، على تقصيرنا ﴿رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285].
قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ﴾ [الملك: 10]، يعني سماع القبول والهداية والإيمان ﴿أَوْ نَعْقِلُ﴾ [الملك: 10]، عن الله وعن رسوله ﷺ وعن ورثته، وما يدعوننا إليه ﴿مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: 10]، النّار المسعرة الملتهبة ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا﴾ [الملك: 11]، فنهايتهم سحقاً سحقاً، هلاكاً هلاكاً، طحناً طحناً.. لأنَّ الدَّولة إذا لم يكن عندها تكريمٌ للمحسن، وعقوبة للمجرم فلن يستتب بها أمن ولا سعادة للمجتمع، كذلك بهذا القانون الإلهيِّ كيف صار العرب؟ صاروا خير أمَّة وأسعد أمَّة وأعزَّ أمَّة وأعلم أمَّة وأقوى أمّة.. ونحن صار عندنا القرآن إمّا للأموات أو للموالات [الأغاني]، وإذا كان بحياته لم ينتفع من القرآن، فبعد أن صار في القبر فهل سينتفع فيه، ومن كان طول عمره وهو حيٌّ لم يأكل البقلاوة فبعد أن مات ولو دفنَّا قبره بالبقلاوة فهل سيستفيد من البقلاوة شيئاً؟ فشرط القرآن أن تنتفع به وأنت حيٌّ.. نسأل الله أن يجعل القرآن غذاء قلوبنا، وغذاء عقولنا.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾ [الملك: 12]، فنحن لم نرَ فالجنَّة مغيَّبة عنّا وآمنا بها، وما رأينا القيامة والحساب فآمنا بها وهو مغيَّبٌ عنَّا.
﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ [الملك: 12]، إذا تابوا إلى الله وأنابوا ﴿وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الملك: 12]، لأعمالهم الصّالحة وأعمالهم الإيمانيَّة، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ [الملك: 12]، الخشية: هي عملٌ من أعمال القلب، بأن يمتلأ القلب شعوراً بعظمة الله ومن جلاله ومن إيمانه بلقاء الله، ويخشع لأوامر الله ويخضع لكلامه، ويسارع إلى مرضاته.
﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ [الملك: 12]، لذنوبهم الماضية، لأنَّ الإسلام يدعوهم إلى التّوبة منها ﴿وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الملك: 12]، بما يعملون من الأعمال الصَّالحة.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، واجعلنا اللّهمّ هادين مهديين ولا تجعلنا ضالِّين ولا مضلِّين.

مُلْحَق

الترحيب بسفير جزر القمر وسفير النمسا
تشرَّفنا هذا اليوم بزيارة سفير جزر القمر، والحقيقة أنا ما رأيتُ قمريًّا إلَّا وهو يُشبه القمر في استدارة وجهه، وجمال خِلقته وصورته، فأهلًا وسهلًا.
كما أنَّه زارنا أيضًا سفير جمهورية النمسا، وأنا كنت ضيفهم قَبل شهرين تقريبًا في مؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي، وبمذاكرة مع السيد السفير قلتُ: يجب أنْ يَتواصل هذا العمل بأنْ تُهيَّأ لجنة دائمة لوضع برنامج تكرار هذه الحوارات ضمن برنامجٍ يُشرف عليه رجال الجامعات ورجال الكنائس، ويكون هناك أيضًا قوة الدولة لتُساعد على تنفيذ هذا البرنامج مِن أجل وحدة العالَم عقيدةً وسلامًا وأُخوَّةً.
وأرجو الله عزَّ وجلَّ أنْ يتحقَّق هذا ونراه حقيقةً واقعةً.. وشيءٌ آخر: لـمَّا كنتُ في فِييَنَّا اطَّلعتُ على رعاية حكومة النمسا وعنايتها بإخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك، والسيد السفير قدَّم لي شريط فيديو عن عناية حكومة النمسا باللاجئين مِن البوسنة والهرسك، والواقع وقد لا أُبالغ إذا قلت: إنَّ النمسا في طليعة الدول التي اعتنت بنكبة هذا الشعب المضطهد والمظلوم على ضوء وجود مجلس الأمن وهيئة الأمم، وأقول: مع الأسف أنْ يكون اضطهاد الإنسان في وجود هذه المنظمة الدولية العالمية بالشكل الذي يقع، فأقدِّم شكري باسمي وباسمكم جميعًا بل وباسم المسلمين لحكومة النمسا على عنايتها ورعايتها للاجئين مِن إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك، وأرحب بالسيد السفير ترحيبًا حارًّا.
طلب إلقاء كلمة من سفير جزر القمر
السيد سفير جزر القمر إبراهيم عبد الله نرجو أن نسمع منكم كلمة “من حضر القسمة فليقتسم” وانظروا ما أعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم! هذه جزر في قلب المحيط الهادي صحراء البحار، فما أعظم هذا الرسول الكريم! إخوانكم يتكلمون العربية، فنقل إليهم العروبة والشريعة التي رفع الله بها هذه اللغة، فأهلًا وسهلًا.
كلمة سفير جزر القمر إبراهيم عبد الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الخلق أجمعين، سيِّدنا ومولانا وحبيبنا وشفيعنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم وعلى آله أجمعين، أيها الحفل الكريم
اسمحوا لي أنْ أعبِّر لكم عن تقديري لهذا الشرف الكبير الذي حظيتُ به بحضور سماحة مفتي الجمهورية العربية السورية بأنْ أتحدَّث بعده مباشرةً، وهذا تقديرٌ عظيمٌ ما بعده تقدير.
أيها الحفل الكريم يقول المولى عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران:103]، نحن في جزر القمر -أيها الإخوة الكرام- ننتمي إلى هذا العالَم الإسلامي الكبير، ونحن جزءٌ منه، يهمُّنا ما يهمُّ هذا العالَم الإسلامي، ويُصيبنا ما يُصيب هذا العالَم الإسلامي الكبير، ولقد رأيتُ اليوم ما سرَّني وشرح قلبي، وإنَّني على يقينٍ أنَّ القرن الواحد والعشرين سيكون عام الإسلام بإذن الله، وسيكون عام إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى على وجه الأرض، وإنَّ الله سبحانه وتعالى سينصر المستضعَفين مِن أهل الإسلام إنْ شاء الله.
واسمحوا لي بألَّا أطيل عليكم، وأنْ أعرِّفكم في مدَّةٍ قصيرة عن أشقائكم وإخوانكم في جزر القمر، يبلغ تعداد هذه الدولة المسلمة حوالي نصف مليون نسمة، وكلُّهم مسلمون ينتمون إلى المذهب الشافعي، ويعشقون الرسول عليه الصلاة والسلام، ومنهم من ينحدر مِن السلالة النبوية الشريفة، وقد حضرت هذه السلالة الكريمة مِن حضرموت، وحضر بعض مِن إخواننا مِن خليج عُمان، فإلى اليوم تتمسَّك جزر القمر بآداب الإسلام، ويحتفل المسلمون هناك بالأعياد الإسلامية، وهم أيضًا يمثِّلون جزءًا مِن هذا العالَم الإسلامي الكبير.
لا أريد أنْ أطيل، فهناك الكثير والكثير ممَّا يمكن أنْ يقال عن جزر القمر، لأنَّ الكثيرين مِن أبناء العالَم الإسلامي -ولا أريد أنْ أقول: مِن هذا البلد العزيز الكريم- لا يَعرفون جزر القمر، وهناك آفاقٌ بعيدة مِن العالَم الإسلامي لم نعد نسمع عنها أو نعرفها، لأنَّ الاستعمار لعب دورًا كبيرًا في طمس هويات المسلمين في العالَم أجمع.
واليوم إنَّنا على يقينٍ تامٍّ بما قاله سماحة المفتي بأنَّ الإسلام سيكون له شأنٌ عظيمٌ إنْ شاء الله تعالى، وأشكركم وأشكر فضيلة المفتي، وأشكر الحفل الكريم على إتاحة هذا الشرف العظيم الذي سوف أبلِّغه إلى شعب جزر القمر عندما أعود إليهم، وأقول لهم بأنَّ لكم إخوانًا في سوريا العربية، وأنَّ لكم إخوانًا في العالَم العربي وفي العالَم الإسلامي.. ﴿رَبنَا آتِنَا فِي الدنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار﴾ [البقرة:201]، وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، شكرًا، والسَّلام عليكم.
شكر سماحة الشيخ للسفير
شكرًا للسيد السفير السيد إبراهيم عبد الله على كلمته الأخوية الرائعة، وأسأل الله عزَّ وجلَّ السعادة لإخواننا المسلمين في جزر القمر، وللمسلمين في كلِّ بلاد العالَم، ولكل شعوب العالَم.
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- أورده ابن القيم في كتابه الجواب الكافي ص 536 ط عالم الفوائد بلفظ: عبدي كل يريدك لنفسه وأنا أريدك لك.
- مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (23536)، (5/411). ولفظه: ((ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلّا بالتّقوى)).
- القصة في كنز العمال للهندي، عن أنس: (36010). ابن عبد الحكم في الفتوح.
- حَدِيث: "من آذَى ذِمِّيّاً فَأَنا خَصمه، وَمن كنت خَصمه خصمته يَوْم الْقِيَامَة". أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (8/380) من حديث عبد الله بن مسعود واستنكره. ويقويه ما رواه أبو داود بسند لا بأس به عن عدد من الصحابة: (3052)، قَالَ: «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
- سنن أبي داود، أول كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، رقم: (3641)، سنن الترمذي، كتاب العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682)، سنن ابن ماجه، كتاب المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (223).
- أصل القصة ذكرها البخاري ومسلم ولفظ البخاري: فقال أبو ذر: إنّي ساببت رجلاً فعيرته بأمه فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية))، صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك لقول النبي صلى الله عليه وسلم إنك امرؤ فيك جاهلية، رقم: (30)، وكتاب الأدب، باب ما ينهى من السباب واللعن، رقم: (5703)، صحيح مسلم كتاب الأيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه، رقم: (1661).
وأما قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ((أمّا علمت أنّه ليس لابن البيضاء فضل على ابن السوداء إلا بتقوى الله عزّ وجلّ)) فقد قال الحافظ العراقي: "خرجه ابْن الْمُبَارك فِي الْبر والصلة مَعَ اخْتِلَاف" تخريج أحاديث الإحياء، (1/1267). البيهقي في الشعب عن أبي أمامة (4772) طبعه الرشد، وطبعة العلمية (5135)، بلفظ: ((ما لأحد على أحد فضل إلا بعمل)). - عن عوف بن مالك أنّه قال: ((بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فنظر في السماء ثمّ قال هذا اوان العلم ان يرفع فقال له رجل من الأنصار يقال له زياد بن لبيد أيرفع العلم يا رسول لله وفينا كتاب الله وقد علمناه أبناءنا ونساءنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان كنت لأظنك من افقه أهل المدينة ثم ذكر ضلالة أهل الكتابين وعندهما ما عندهما من كتاب الله عز وجل فلقي جبير بن نفير شداد بن أوس بالمصلى فحدثه هذا الحديث عن عوف بن مالك فقال صدق عوف ثم قال وهل تدري ما رفع العلم قال قلت لا أدري قال ذهاب أوعيته قال وهل تدري أي العلم أول ان يرفع قال قلت لا أدري قال الخشوع حتى لا تكاد ترى خاشعاً)). مسند الإمام أحمد بن حنبل حديث عوف بن مالك الأشجعي الأنصاري رضى الله تعالى عنه، رقم: (24036)، (6/26)، قال محققه شعيب الأرناؤوط: "حديث صحيح وهذا إسناد قوي". وأخرجه ابن حبان في صحيحه (4572).
- سنن ابن ماجه، عن أنس بن مالك، افتتاح الكتاب بالإيمان: باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (224)، «طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب».
- حديث: ((إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدي بها في ظلمات البر والبحر فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة)) مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (12600)، (3/156).
- يجدر التنبيه أن الشيخ رحمه الله في كثير من الأحيان يأتي بالحديث بالمعنى، وفي أحيان أخرى يزيد في بعض الكلمات، وذلك للتوضيح للمستمعين، ولذلك حاولنا قدر جهدنا أن نأتي بنص الحديث من مرجعه ونضعه في الهامش إذا دعت الضرورة لذلك.
- حديث: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إنّ الرّجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة، قال: إنّ الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، عن عبد الله بن مسعود، رقم: (91).
- صحيح البخاري، كتاب التمني، باب ما يجوز من اللو، رقم: (6813)، سنن أبي داود، كتاب الطهارة، باب السواك، رقم: (47)، سنن الترمذي، كتاب أبواب الطهارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في السواك، رقم: (22)، ورقم: (23)، سنن النسائي، كتاب الطهارة، باب الرخصة في السواك بالعشي للصائم، رقم: (7)، سنن ابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب السواك، رقم: (287)، موطأ الإمام مالك، كتاب الطهارة، باب ما جاء في السواك، رقم: (145).
- حديث: (علماء فقهاء حكماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء) حلية الأولياء، أبو نعيم، (9/279)، و(10/192)، البداية والنهاية، ابن كثير، (7/371)، عن سويد بن الحارث الأزدي. تخريج زاد المعاد، لشعيب الأرنؤوط: (3/587).
- عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم: (6011)، عن النعمان بن بشير، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم: (2586)، واللفظ لمسلم.
- متفق عليه عن أبي هريرة، صحيح البخاري، كتاب المناقب: باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، رقم: (3534)، (3535)، صحيح مسلم، كتاب الفضائل: باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، رقم: (2287)، واللفظ: ((إنَّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)).
- سبق تخريجه.
- القصة أخرجها البيهقي في السنن الكبرى (17821) (9/42)، وصحيح ابن حبان، رقم: (7024]، (15/494) بلفظ عن جَابِر يَقُولُ: "جَاءَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أُحُدٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ قُتِلَ الْيَوْمَ دَخَلَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي حَتَّى أَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا عَمْرُو، لَا تَألَّ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَهْلًا يَا عُمَرُ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ: مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، يخوض في الجنة بعرجته".
- أخرجه الطبراني في "الكبير" (751) (1/ 259) عن أنس. وأحمد في مسنده عن ابن عباس (8/486).
- سنن أبي داود، أول كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، رقم: (3641)، سنن الترمذي، كتاب العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682)، سنن ابن ماجه، كتاب المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (223)، عن أبي الدرداء.
- مشهور على الألسنة لكنه ليس بحديث، الفوائد المجموعة للشوكاني (ص: 354). ذكره صاحب الخلاصة. وقال: موضوع، كشف الخفاء للعجلوني (2/419).
- السنن الكبرى للنسائي، كتاب المواعظ، رقم: (11832). الحاكم (7846)، والبيهقي في الشعب عن عمرو بن ميمون.
- تاريخ دمشق لابن عساكر عن يزيد بن زياد القرشي البصري، رقم: (8276)، (65/ 197). بلفظ: ((ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه، ولكن يصيب منهما جميعاً)). وابن أبي الدنيا في إصلاح المال (50).
- القصة أخرجها ابن هشام قي السيرة عن ابن إسحاق (2/266). وكذلك أبو نعيم في معرفة الصحابة (303/1).