تاريخ الدرس: 1993/10/15
في رحاب التفسير والتربية القرآنية
مدة الدرس: 01:28:52
سورة الملك، الآيات: 1-3 / الدرس 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصّلوات والتّحيات والتسليمات على سيّدنا محمّد خاتم النّبيّين والمرسلين والمبعوث رحمة للعالمين، وعلى أبيه سيّدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيّدنا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه من النّبيين والمرسلين، وآلهم وصحبهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين، وبعد:
النهي عن تحريم الحلال وتحليل الحرام:
قد انتهى معكم تفسير سورة التّحريم، حيث عاتب الله عزَّ وجلَّ فيها نبيه الكريم ﷺ على تحريم ما أحلَّ الله له؛ من تحريمه لماريّة القبطيّة والعَسَل كما سبق شرحه في الدّروس الماضية، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَاْ أَحَلَّ اللهُ لَكَ﴾ [سورة التحريم: 1].
وقد خاطب الله عزَّ وجلَّ في مثل هذا الموضوع المؤمنين جميعاً بقوله: ﴿لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [سورة المائدة: 87] وقال أيضاً: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [سورة الأعراف: 32].
فليس من الإسلام تحريم ما أحلّ الله، ولا استباحة ما حرّمه من قول أو عمل أو بيع أو شراء أو نطق أو كلام أو أيّ تصرف من تصرف الإنسان في شؤون حياته.. كما هدّد نساء النّبيّ ﷺ لما حصل منهنّ بعض النشوز أو بعض الإزعاج لرسول الله ﷺ.
فرسول الله ﷺ منبع الإسلام والإيمان، وصانع الإيمان والإسلام في المجتمع وفي عقله وقلبه وأعماله وأخلاقه وفي بناء دولته العالميّة وفي بناء الأسرة العالميّة وفي بناء السّلام العالميّ وفي بناء الإخاء العالميّ تحت راية الإيمان، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [سورة الحجرات: 10]، وتحت راية “وحدة شعوب العالم تحت راية الإيمان”: ((إنما المؤمنون في توادّهم وتراحمهم كالجسد الواحد)) 1 .
النسب لا يقف أمام العمل:
ثم ندّد الله عزّ وجلّ بزوجات النّبيّ ﷺ بألّا ينغرّوا أنهنّ زوجات النّبيّ ﷺ، فها هي زوجة نوح عليه السلام كَفَرَت فما نفعها مع كفرها أنّها زوجة أبي الرّسل والأنبياء نوح عليه السّلام.. وأيضاً زوجة لوط نبيّ الله، لم ينفعها زوجها.. كما أنّه ما ضرّ آسيا المؤمنة كون زوجها كافراً.
فمعنى ذلك: ألّا تعتمدوا على الأحساب والأنساب والانتماء والتمنيّ ((فليس الإيمان بالتمنيّ ولا بالتحليّ)) 2 ولا بالأنساب، كان النّبيّ ﷺ يقول: ((إنّما أوليائي من أمّتي المتقون)) 3 ، وقال القرآن عن عمه أبي لهب: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [سورة المسد: 1]، وقال لنوح عن ابنه: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ [سورة هود: 46]
لأنّ النّسب إلى النّبوّة ليس نسب الأجساد؛ بل نسب الإيمان والأعمال والسّلوك والأخلاق والعمل بعمل الأنبياء من دعوة الخلق إلى الله ونقلهم من الظّلمات إلى النّور.
وقال ﷺ في حقّ سلمان الفارسيّ العجميّ: ((سلمان منّا أهل البيت)) 4 .
وبشكل عام كما تبرّأ نوح من ابنه، تبرّأ النّبيّ ﷺ من فئة من أمّته.. هل تدرون من الذين تبرّأ منهم؟ قال ﷺ: ((ليس منّي إلا عالم أو متعلّم)) 5 ، وقال ﷺ: ((النَّاسُ رَجُلَانِ؛ عَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ، وَلَا خَيْرَ فِيمَا سِوَاهُمَا)) 6 .
فأنت أيّها المسلم هل تثقَّفت بالإسلام؟ وهل درستَ القرآن دراسة علم لا تلاوة وقراءة فقط؟ فشريط الكاسيت [تسجيل الصوت] يقرأ خيراً من قراءتك، ولكنه لا يفهم شيئاً ولا يعمل شيئاً، وكذلك ينطبع العلم في الورق طبعاً، ولكنّه لا يفهم شيئاً ولا يعقل شيئاً، مع أنه قد ينفع الآخرين إذا قرؤوا تلك الصّفحات.
فقد جعل الله عزَّ وجلَّ النّسب في الإسلام؛ نسبَ الإيمان والعلم والتّقوى، وألغى نسب الجسد والدّم والأب والأمّ، قال الله لنوح عن ابنه: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [سورة هود: 46]، وقال للنبي ﷺ عن عمّه: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [سورة المسد: 1]، وقد قال النّبيّ ﷺ: ((إنّما أوليائي من أمّتي المتقون)) 7 . وقد قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [سورة المؤمنون: 101].
وقال رسول الله ﷺ في حديث آخر
((لينتهينّ أقوام عن افتخارهم بآبائهم وأنسابهم أو ليجعلنّهم الله أهون من الجُعَل يتهدهد الخراءة في أنفه)) 8
((لينتهينّ أقوام عن افتخارهم بآبائهم وأنسابهم أو ليجعلنّهم الله أهون)) أحقر ((من الجعل)) الجعل: الخنافس، فكم الخنفساء محتقرة في نظر الإنسان!.. ((يتتهده الخراءة في أنفه)) يجعل روث الحيوانات كرات ويدفعها بمنخاره حتى يوصله إلى عشّه.
فالنبي ﷺ تبرأ من الجاهل حتى يتعلّم، ومن العالم حتّى يعلّم، قال رسول الله ﷺ: ((أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه)) 9 ، وقال أيضاً: ((بلّغوا عنّي ولو آية)) 10 . ولو آية واحدة.
هذا ما يتعلّق بسورة التّحريم.
القراءة القرآنية قراءة فهم فتنفيذ لا مجرد تلاوة:
نحن الآن في تفسير سورة تبارك -الملك- فمن فضائل سورة الملك أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان لا ينام كلّ ليلة حتّى يقرأها قبل نومه، وكان يقرأ معها سورة السجدة التي مبدؤها: ﴿الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة السجدة: 1- 2].
لكنّ النّبيّ ﷺ عندما كان يقرأ القرآن يقرؤه قراءة فهم وعلم وعمل، وبذلك علّم المسلمين قراءة القرآن، فإذا قرأ قوله تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [سورة الواقعة: 79] بألّا يمسَّ جلده وغلافه جلد يدك إلّا إذا كان جلدك طاهراً، فكيف سيمَسُّ عقلك إذا كان عقلك غير طاهر؟ وكيف سيمسّ قلبَك إذا كان قلبُك غير طاهر؟ وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [سورة البقرة: 222]. وقال أيضاً: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ فهل كانت ثياب أهل البيت متسخة بالبول والغائط؟ لكنّ المراد من الرّجس نجاسة النّفس ونجاسة القلب، ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [سورة الأحزاب: 33].
فالتّوبة النّصوح الصّدوق التي كان يفقهها أصحاب وتلامذة رسول الله ﷺ مع أنّهم ما كانوا يعرفون الخطيئة، وإذا أخطأ أحدهم لم يكن يمحها بقول بلا فهم وبلا أداء لمعنى التّوبة، بل كان يفهم حقيقة التوبة، وكمثال على ذلك: أذنب أبو لبابة رضي الله عنه لمّا أرسلَهُ النّبيّ ﷺ سفيراً، فلم يؤدِّ السفارة على الوجه الصّحيح، وعلم أنّه خان الرّسالة، فأتى إلى المسجد وربط نفسه في أحد سواريه وأعمدته، وحلف ألّا يأكل وألّا يشرب وألّا ينام حتّى يموت أو يتوب الله عليه.. ففي هذا الزمان أين هذا الفقه، وأين فقهاؤه، وأين مدرّسوه، وأين معلّموه؟ فقه التّوبة، يوجد سورة من كبريات سور القرآن اسمها سورة التّوبة.. وبقي خمسة أيام لا يأكل ولا يشرب، فلم يستطع إيمانه أن يتحمّل بقاء الذّنب بلا مغفرة ولا محو من صحيفته.
ويرتكب المسلم الآن ألف ذنب؛ فلا يصلّي مع أنّ النبي ﷺ قد قال: ((الصّلاة عماد الدّين)) 11 ولا يزكّي وقال الله تعالى: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ [سورة فصلت: 6 – 7] ويستحلّ المحرّمات بلا مبالاة ولا شعور، ويترك الفرائض المجمع عليها سواء في العبادات أو المعاملات.
وقد تبرأ النبي ﷺ ممن ليس بعالِم أو متعلم، قال رسول الله ﷺ: ((ليس منّي إلا عالم أو متعلّم)) فكأن النّبيّ ﷺ يقول: أنا بريء منك ما دمت لا تفهم دينك، فالسّائق يأخذ لقب “سائق” عندما يُتقِنُ قيادة السيارة، ويأخذ النّجّار لقب “النجار” عندما يتقن صناعة النوافذ والأبواب وما إلى ذلك.
بمحبة أهل القلوب تعرف الجمال الإلهي الحقيقي:
فهل تحقق كلمة مسلم معناها فيمن يدّعي هذه الكلمة ويقول: أنا مسلم؟ فعندما تقول أنا مسلم فمعناه أنّك مستجيب لكلّ أوامر الله، إن أمر فعلت وإن نهى انتهيت، وإن أحبّ أحببت وإن كره كرهت، وإن عادى عاديت وإن رغب رغبت.
هذا هو الإيمان، وهذا لا يكون إلّا لمن كان له قلب، ولا يكون القلب إلا إذا مُلئَ بذكر الله، فلا يكون القلب ذاكراً لله إلّا إذا ارتبط برابطة الحبّ لأصحاب القلوب، وقد تضمن هذا المعنى هذان البيتان
أخي كن لأرباب القلوب ملازماً وفي قرّبهم حصّل لك القلب سالماً
وإن رُمتَ من خلّ قديم جماله فقلبك مرآة فقابله دائماً
“وإن رمت من خلّ”: من خليل أو صديق أو حبيب فالمقصود به الله، بأن ترى جماله فتحيا روحك بجمالٍ لا تدركه العقول، ولا يوجد سعادة تماثل رؤيته في كلّ هذا الوجود.
فإن أردت أن تسعد لرؤية هذا الجمال؛ فنظِّف قلبك من النُّقط السّوداء التي هي فعل المحرّمات وترك الواجبات؛ لأنّ القلب مرآة، فإذا نظَّفته من الذّنوب ومن الخطيئات سترى هذا الجمال، فالمرآة إذا تَنظَّفت وقابلت أيّ شيء فإنّ ذلك الشيء ينطبع فيها، أليس كذلك؟
قال: “وإن رمت من خلٍّ قديم جماله”: فرؤية جماله لتسعد العين بالجمال؛ فالعين يسعدها رؤية الجمال، والأذن يسعدها الأصوات الشّجيّة الجميلة والأنغام الجميلة، واللسان يسعده الطّعام اللّذيذ الجميل، والعين يسعدها المناظر البهيّة الجميلة.. ولا يوجد شيء أجمل من الله، كما قال رسول الله ﷺ: ((إنّ الله جميل يحبّ الجمال)) 12 .
أخي كن لأرباب القلوب ملازماً وفي قربهم حصّل لك القلب سالماً
قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [سورة الشعراء: 88 – 89] اسأل نفسك هل لك قلب؟ ما هذا القلب؟ القلب: هو النَّفْس والقلب المملوء بنور الله وعظمة الله وجلال الله وخشية الله، والمنعكس فيه من علوم الله وحكمه بقدر اتّساعه وصفائه.
“وإن رُمتَ من خلٍّ قديم” فهل الله قديم أم محدث؟ فالله لا أول له ولا آخر له.
فإذا أردت أن تحظى بجماله “فقلبك مرآة فقابله دائماً” كما قال تعالى: ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [سورة الأنعام: 79] فمعنى وجهي: قلبي.
القراءة القلبية للقرآن تحتاج إلى الإيمان:
درسكم الآن في تفسير سورة تبارك.
فكان النّبيُّ ﷺ يقرؤها كلّ ليلة، لكن ليس كقراءتنا، فلا يقرؤها بلسانه ولا بقلبه فقط؛ بل بكلِّ شعوره وكلِّ مداركه وكلّ أحاسيسه، وكلّ ما فيها من معانٍ يهضمها العقل والفهم والفكر، فتنعكس فيه محبّة لله وخشية له ومسارعة إلى مرضاته وخوفاً منه عزَّ وجلَّ، قال رسول الله ﷺ: ((إنّي أتقاكم لله وأخشاكم لله)) 13 فتزداد خشيته ومخافته ومحبّته ومسارعته إلى مرضاة الله وامتثال أوامر الله على الوجه الأتمّ.
فإذا لم يعطِ القرآن هذه النّتائج فإنك لم تقرأه حقيقة.. فالسّيارة إذا لم تمشِ ولم توصلك إلى ما تريد لخلل فيها فليس منها فائدة ولو كان اسمها سيّارة لكنّها معطّلة، والعروس إذا لم يكن روح فيها فاسمها ميّتة، وأسعد شيء فيما بينك وبينها أن تتخلص منها وتواريها التراب..
فقراءة القرآن تحتاج إلى الإيمان: الإيمان الذي وقر في القلب وصدّقه العمل، أمّا الإيمان السطحيُّ الذي لا يستقرّ في القلب بمعناه وأوامره وأخلاقه وآدابه ولا يظهر عملاً وسلوكاً، فهذا قلب ميّت وقراءة ميتة فينطبق على صاحبها “ربّ تال يتلو القرآن والقرآن يلعنه” 14 ، فقد يقرأ قوله تعالى: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [سورة هود: 18] وهو ظالم، وقد يكون مطفِّفاً متلاعباً في الكيل والميزان ويقرأ قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ [سورة المطففين: 1] يعني الهلاك للمطففين، وهو مطفف، وقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [سورة البقرة: 161]، وقال أيضاً: ﴿يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [سورة البقرة: 174].
فليس المهم أن تقرأ؛ بل المهم أن تفهم وتعمل، فإذا وصلت لك حوالة لتقبض من المصرف مئة ألف دولار، فلو أخذتها وقرأتها ألف مرّة لكنّك لم تنوِ أن تطبّق ما فيها بأن تذهب إلى البنك وتقبض المبلغ، فالعقلاء عندما يسمعون قراءتك ماذا سيحكمون عليك وأنت من غير لباس ولا طعام منذ يومين أو ثلاثة؟ وأينما تذهب تقرأ الحوالة، وتقول لهم: اقرؤوها لي على نغم نهاوند أو نغم حجاز كار.
وإن أخذ الحوالة آخر ففهمها ومباشرة ذهب إلى المصرف وقبض المال، فأيهما أفضل: هل الذي يقرأ الحوالة مليون مرّة ولم يقبضها، أم الذي بمجرّد ما فهمها ذهب وقبضها؟ أيهما الذي انتفع بها؟ كذلك القرآن.. فلا تغترُّوا فلو حملت شهادة ليسانس أو ماجستير أو دكتوراه، ووضعت عمامة، وقيل عنك “شيخ” فالمدار على العلم الذي يثمر العمل: عمل الجوارح والبدن مع عمل القلب والنّفس وعمل العقل والفكر، بألّا تفكّر إلّا الفكرة الصّالحة، ولا يكون في قلبك إلّا الإرادة الصّالحة، ولا يخرج منهما إلّا العمل الصّالح، فهذا هو الإيمان بمعناه النّافع الذي أراده الله وهيّأ لأصحابه الجنّة.
معنى الأماني والتمنِّي:
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [سورة البقرة: 62] إيمان العلم والعمل، أمّا إيمان التّمنّي بلا عمل فقد قال الله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [سورة البقرة: 78] فكلمة أمانيّ لها تفسيران
التّفسير الأوّل: بأنّها معنى الأمنيّة، تمنّي الشيء بلا تهيّئة أسبابه، بأن يريد ولداً ويشتهي الولد لكن لم ينوِ أن يتزوَّج، فكون رغبته أمنية، فهل تحقق الأمنية ما يتمنّاه الإنسان؟ فكذلك من أهل الكتاب وهم اليهود ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة البقرة: 78] ليس لهم حظّ من التّوراة إلّا الأمانيّ التي قال الله عنها: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ بماذا ردّ الله عليهم؟ قال: ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ [سورة البقرة: 111].
والمسلم الآن يقول: أنا- مغروراً- سأضرب باب الجنّة برجلي وأكسره، وإذا أراد أحد أن يقِفَ في وجهي سأهزمه.. هذه ليست أمنية، بل جرأة على الله وسفاهة وحماقة.. واليهود كانوا خير من هذا، فقراءتهم كانت أمانيّ، أمّا هذا فقراءة تهجُّم واحتقار وعدم تقييم لقدسيّات القرآن وقدسيّات الآخرة.
والتّفسير الثّاني لمعنى الأمانيّ: هي القراءة، كما ورد في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ [سورة الحج: 52] تمنى: يعني قرأ، وأمنيته: يعني في تلاوته، فمعنى قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [سورة البقرة: 78] يعني إلّا تلاوة.
فأكثر المسلمين الآن مثل اليهود الذين ذكرهم الله في سورة البقرة، يقرأ مجرد قراءة وتلاوة، إن سألته ماذا فهمت؟ ما فهم شيئاً، وإن فهم فيكون مثل السّيّارة فيها كلّ المعدات والآلات المشغِّلة، إلّا أنها فارغة من الوقود، فمهما حاول أن يدير مفتاح السّيّارة لتعمل فلن تعمل، فماذا استفدنا من السيارة ومن المفتاح ومن المحرك ومن أجهزة السيارة؟ لا فائدة من كلّ ذلك أبداً.
فهل ستبقون على هذا الإسلام الميّت الذي أماتنا، وأمات عزّتنا، وأمات وحدتنا، وأمات قيادتنا للعالَم قال تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [سورة البقرة: 143] لتكونوا قادة للعالم ﴿رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [سورة الأنبياء: 107]. والسّبب هو هجرُنا للقرآن، وهجرُنا لعلومه ولتطبيق علومه، ولتحويلها إلى عمل.. فإذا أكلت الطّعام “كوسا أو لحم..” وخرج كما دخل من غير هضم ولا تحوّل إلى دمّ ولا إلى طاقة فهل يستفيد جسمك من قوّته؟ وهل تستطيع أن تقوم بعمل؟
كذلك القرآن، فلا تتحوّل تلاوة القرآن إلى عمل إلّا إذا كان القارئ يحمل قلباً ذاكراً، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [سورة الأنفال: 2] ولا يمكن أن تكون نجّاراً إذا لم تدخل مدرسة النّجارين وتصحبهم من الصّباح إلى المساء خادماً وممتثلاً ومطيعاً وصابراً، فقد يسبُّك ويشتمك معلّمُ النجارة مقابل أن تأخذ لقب “نجّار” فعليك أن تصبر.. فكيف إذا كنت ستأخذ لقب “مسلم”؟ فالصّحابة حتّى أخذوا لقب “مسلم” قدّموا الأرواح والأموال والـمُهَجِ وصرفوا العمر وتحمّلوا الأخطار وناطحوا كلّ المصائب والمشكلات، وفي النّهاية اكتسبوا وغنِمُوا الدّنيا مع الآخرة.
لكنّهم فهموا القرآن كلّه: دنياه وآخرته، اقتصاده وصناعته وسياسته ودولته، فعملوا أعظمَ دولة وكوَّنَ القرآنُ لهم أعظم أمّة، قال الله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [سورة آل عمران: 110] فكان النّبيّ ﷺ عند نومه يقرأ سورة تبارك.
تبارك هي البركة والنماء:
ما معنى تبارك؟ البركة: هي النّماء والزّيادة في الأشياء النّافعة.. فما معنى إن قلت: أسأل الله أن يُبارِكَ لك في مالك؟ معناه: زاده الله لك بأسباب قد تكون غير مرئيّة، فالأسباب المرئية لا يُقَالُ لها بركة، أمّا الأسباب غير المرئيّة فيقال لها بركة، تراه بمدة سنة صار صاحبَ ملايين، فالأسباب المرئية لا تعطينا بمدة سنة ملايين، فكيف صار معه هذه الكثرة بهذه السّرعة؟ هذه اسمها النّماء بأسباب خفيّة.
أذكر لكم مثالاً صغيراً، في أثناء الحرب العالمية الثانية وزّعوا الخبز بالوثيقة للفقراء، فعرضوا عليَّ في البداية، فقلت لهم: لدينا صندوق قمح- فكنّا ندخر القمح للسّنة كلّها- فنصرف من الصندوق حتى ينفذ، فطالما لدينا قمحٌ فنحن لسنا بحاجة إلى أن نُزاحِمَ الفقير على خبزه.
والعادة أنَّ هذا الصندوق من القمح في نهاية السّنة ينتهي، فنشتري قمحاً مرة ثانية ونغسله ونجففه ثمّ نخزّنه، وإنّي أحلف لكم أنَّ تلك السنة انتهت ولم ينفد القمح من الصّندوق، وقد كفتنا لمدة أربع أو خمس سنوات ونحن نأكل من ذلك القمح المدّخر، الذي كان يكفي سنة واحدة.. فهذا اسمه: النّماء من غير أسباب ظاهرة.
وإذا أراد الله تعالى أن يعطي فإن حسبت أنك ستخسر ضعفاً فيُربِحك الله عشرين ضعفاً، وعندما يريد أن يأخذ تحسِبُ أنك ستربح ضعفاً فتخسر أضعافاً.
فـقوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ [سورة الملك: 1] فإذا قلنا البركة هي الزيادة فصفات الله وذاته وأفعاله دونها كلّ الأشياء، وذات الله وصفاته وأفعاله هي أعظم من ذوات وأفعال وصفات كلّ ما في هذا الكون.. ومن ناحية ثانية ﴿تَبَارَكَ الَّذِي﴾ فإذا باركك وأنزل عليك بركته يفتح عليك من العلم بأسباب خفيّة، فالصّحابة ماذا قرؤوا من الكتب؟ وما المدارس والجامعات التي دخلوا فيها؟ كانوا أمّيين، كما وصفهم الله عزَّ وجلَّ: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [سورة الجمعة: 2] كذلك هو كان أمّيّاً، فكيف كان أمّيّاً ويقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [سورة البقرة: 129]؟ لأنّ الإنسان الذي يحمل العلم وعنده الحكمة والأخلاق العالية، فهذه أعلى قمم العلم والعالِم.. وقد وصف النّبيّ ﷺ صحابته بقوله: ((علماء حكماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء)) 15 صاروا أباطرة وصاروا ملوكاً وهزموا الاستعمار في مشرقه وفي مغربه.
هذه اسمها: البركة، وهي: النّماء بغير أسباب عاديّة وظاهريّة.. فدعاء أحدهم لك: “الله يبارك لك في مالك” يعني الدعاء أن يزيده الله لك بأسباب تعلَمُهَا وأسباب لا تعلَمُهَا.
صاحب الملك المتصرف به سبحانه:
فقوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ عَظُمت عطاءاته وصفاته وأعماله ما ظهر منها للإنسان وما لم يظهر.
وقوله تعالى: ﴿الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ [سورة الملك: 1]. وقد سأل الله عزَّ وجلَّ سؤالاً: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [سورة يونس: 31] وقال أيضاً: ﴿أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ﴾ [سورة يونس: 31] فمن يملك عينك ومن مصمِّمُها؟
قيل: إنّ من العين إلى الدّماغ لتحقيق البصر والرؤيا يوجد ثلاثين مليون عصباً.. فمن يستطيع أن يُركِّب ثلاثين مليون عصب بين العين ومركز البصر في الدّماغ؟ ومن المهندس لصيانة هذه الآلية التي صنعت للإنسان؟ وهكذا خلايا المعدة، فالمعدة مختصّة بالهضم، فهي تفرز مواد معيّنة لهضم الطّعام، فهي تهضم وتذيب لحم الجمال والبقر والعجل، ولا تذيب جلد المعدة، فما هذه المادّة التي تُذيب الأقوى منها وهي لا تذوب؟ هل هذا عمل كيماوي.؟ من يستطيع إذا ثُقِبت معدته بالقرحة أن يستبدلها؟ هل هناك قطع تبديل؟ فعجلة السيارة إذا ثُقبت تذهب إلى بائع العجلات ترمي العجلة المثقوبة وتضع جديدة بدلاً عنها.
قال الله تعالى: ﴿الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ [سورة الملك: 1] مُلْك السماوات والأرض والعطاء والذكاء والنّجاح والنّصر، قال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ [سورة آل عمران: 26] وإذا آتى الملك من يشاء فهل يؤتيه بفوضى وبلا قانون أم بحكمة وقانون ونظام؟ قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا﴾ [سورة ص: 27] فكلّ شيء وراءه حكم وغايات ربانيّة، “فإذا أراد الله أمراً هيّأ أسبابه” 16 .
المأمورون بتلاوته قرآن العمل:
غابت كلّ هذه المعاني القرآنيّة عند المسلمين عبر القرون الماضية، وغابوا عن القرآن فاشتغلوا بالعبادات والمعاملات التي لا تتجاوز آياتها في القرآن خمسمئة آية من أصل ستة آلاف آية، أمّا بقية آيات القرآن فقرؤوها مجرد قراءة لا للعلم ولا للعمل ولا للفقه ولا للتعليم. قال تعالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [سورة الفرقان: 30].
أخذ غلادستون رئيس وزراء إنكلترا في الحرب العالميّة الأولى القرآن في البرلمان وقال: “ما دام هذا القرآن بأيدي المسلمين فلن تستطيعوا أن تهزموهم” -ليس المراد بأيدي المسلمين أصابع اليد التي تمسك الأشياء، بل المراد منها المعنى الذي قال الله عنه: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ [سورة مريم: 12]، وقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ [سورة الانشقاق: 7] لأنّ اليمين هي الأقوى.
فيجب أن تأخذ القرآن بأن تعمل به، فاليد هي القوّة.. فهل نقرأ القرآن لنعمل به بأقصى ما نملك من طاقة وقوّة؟ إن فعلنا ذلك فعند ذلك نكون مؤمنين بالقرآن.. تقول: “آمنت بالله وملائكته وكتبه” لنبدأ أولاً بالقرآن، فهل أنت مؤمن بالقرآن؟ فإذا كنت مؤمناً بأن سمّ أفعى الكوبرا يقتل من ساعته؛ فهل تمسكها وتضعها في صدرك تحت القميص، وتقول: آمنت بأنّها قاتلة، فهل أنت مؤمن بالأفعى أم كافر؟ فقولك قول مؤمن، أمّا بالعمل فكافر.. والمسلمون الآن مسلمون بالقول، أمّا بالعمل فغير مسلمين، ولذلك قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [سورة النساء: 141].
فالآن أمريكا والعالم الغربيّ كلّه متسلّط على كلّ العالم الإسلاميّ: باقتصاده وبسياسته وبسلاحه وبأكله وبشربه، أليس كذلك؟ فالقرآن يقول: أنتم لستم بمسلمين ولا بمؤمنين.. فهل سنظل على ما نحن عليه؟ وأنتم الموجودون في المسجد ألا تنوون أن تصنعوا الإسلام الحقيقي؟ أم أنكم تنوون صناعة الإسلام الكاذب؟
يقول أحدكم: “كلام الشّيخ جميل وعذب!” فهل سيقف عند الأُذُنِ أم ستدخلونه في معدة العمل وتقرؤون القرآن بالقلب، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [سورة ق: 37]
إن لم يكن لك قلب فلن ينفعك القرآن، وعن القلب قيل
أخي كن لأرباب القلوب ملازماً وفي قرّبهم حصل لك القلب سالماً
وإن رمت من خلّ قديم جماله فقلبك مرآة فقابله دائماً
وقال الشاعر
قلوب إذا منه خلت فنفوس لأحرف وسواس اللَّعين طُروس
وإن مُلِئت منه ومن نور ذكره فتلك بذور أشرقت وشموس
“قلوب إذا منه خلت”: إذا خلت القلوب من الله ومن ذكره، “فنفوس”: نفس أمّارة بالسوء، “لأحرف وسواس اللعين طروس”: يصير قلبك دفتراً للشّيطان يؤلِّف لك فيه، فيبعث لك كلّ البرقيات من طريق القلب وأنت تنفّذها من طريق العمل، “وإن ملئت”: القلوب، “منه”: من الله ومن خشيته وجلاله وعظمته، “ومن نور ذكره فتلك بدور أشرقت وشموس”.
فإذا أردتم أن تحوّلوا قرآن التّلاوة إلى قرآن العمل تحتاجون إلى قلب، والقلب لا يكون إلّا بدوام الذّكر، ودوام الذّكر لا يكون إلّا بالهجرة.. كانت الهجرة من مكّة إلى المدينة ليس من أجل المكان؛ بل لأجل السّكان؛ لأجل النّبيّ ﷺ ولصحبته، فهل صار لك مثل هذه الهجرة؟
كان هناك أناس يجالسون النّبيّ ﷺ ويسمعون منه لكن ليس بقلوبهم كما وصفهم الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ﴾ [سورة يونس: 42]، فعليك أن تُهَاجِرَ بقلبك إلى قلبه، وبحبّك إلى روحه، وبإرادتك إلى اتّباع سنّته مع كثرة ذكر الله عند ذلك يكون لك قلب، وإذا صار لك قلب فالقلب هو مكان فهم القرآن، فإذا قرأت القرآن يُهْضَم القرآن في قلبك وروحك فيتحوّل إلى أعمال وإلى أخلاق توجب لك سعادة الدّنيا والآخرة.
بيده النّصر وعليك تنفيذ شروط نواله:
﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ [سورة الملك: 1] من يملك النّصر؟ الله، ومن يملك العزّة؟ ومن يملك السماوات والأرضين وروحك وسمعك وبصرك ونفَسك؟
فإذا كنت تقود سيارة وصفّر شرطي المرور لك وأعطاك إشارة أن تقف على اليمين- فعنده قوّة تطبيق قانون السّير- تقف مجبراً مع أنّه غير قادر على أن يحييك ولا أن يميتك.
والله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ [سورة الملك: 1] فروحك بيده، وبصرك بيده، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة المنافقون: 8] هل المقصود مؤمنون بالتمنّي أم مؤمنون بالعلم وبالعمل؟
هل تربِّي ابنك وابنتك على الإيمان الحقّ بأعمالك وأخلاقك ونطقك؟ كأن تمسك بيده وتأخذه معك إلى المسجد لأداء الصّلوات الخمس جماعة، ولحضور مجالس العلم ومجالس الذكر.. كيف ستصير مسلماً إن لم تفعل ذلك؟ فالنبتة والغرسة بلا حوض ولا سقاية هل يمكن أن تورق وتزهر وتثمر؟
﴿تَبَارَكَ﴾ عَظُمت عطاءاته، وعَظُمت خيراته ما ظهر منها وما بطن، وبيده ملكوت كلّ شيء ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [سورة الملك: 1] فإن كنت تريد النّصر، فهل هو قادر على أن يعطيك النّصر؟ نعم قادر على أن يعطيك النّصر لكن بشروط، وهذه الشروط ذكرها الله عزَّ وجلَّ في كتابه قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [سورة النور: 55]، وذكر أيضاً: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ [سورة الحج: 40]، وقال تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [سورة محمد: 7].
وقال أيضاً: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [سورة البقرة: 40]. وذكر كذلك: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [سورة البقرة: 152].
وقال أيضاً: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ [سورة البقرة: 186] فيبيّن الله بذاته جل جلاله أنّهم إن أجابوني إذا دعوتهم أستجيب لهم إذا دعوني، وإذا نصروا ديني وبرنامجي نصرتهم في كلّ معاركهم، وإذا ذكروني في الرّخاء ذكرتهم في الشّدّة.
﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [سورة الملك: 1] إذا أراد أمراً بأن أراد أن يعطيك ولداً فيهيّئ لك الزّوجة، فإن لم يكن عندك زوجة فهل سيأتيك الولد؟ وقد جعل الله عزَّ وجلَّ سنن الكون قائمة على الحكمة والأسباب والمسببات، فهل تريد الأشياء بلا أسباب ولا مسببات، كما قال الشاعر
تعصي الإله وأنت تظهر حبّه هذا لعمري في الأنام بديع
خالق الوجود والعدم:
قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ [سورة الملك: 2] فقد خلق الله عزَّ وجلَّ نظام الحياة والوجود من العدم، فقد قال تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [سورة الإنسان: 1] فالذي عمره خمسين سنة قبل خمسين سنة ماذا كان؟ لم يكن شيئاً.. حتّى صار إنساناً قد اجتمعت أصناف الطّعام فهضمت في المعدة، وحوّلها جهاز الهضم إلى دم، وذهب الدم إلى الخصيتين، والخصيتان هما معمل المنيّ، فهناك صُنِع الحيوان المنوي، ثم ذهب إلى الحويصل المنويّ، وكذلك في المرأة تحوّل الطّعام إلى دم ثم إلى بويضة، قال تعالى: ﴿خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾ [سورة الإنسان: 2].. فحقيقتك قليل من أطعمة متنوعة، أتتكبر وتجعل من نفسك عظيماً وكبيراً ولا تهتم لأمر الله؟ وقد قال الله عزَّ وجلَّ لك: ﴿الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ [سورة الملك: 1]! فحياتك بيده، وبيده روحك وعزّك ونصرك، وأنت غير مبالٍ لذلك، والله تعالى يقول: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [سورة التوبة: 67]. والمنافق: هو الذي يدّعي الإسلام ولا يعمل به.. فعينك لها إسلام، وأذنك لها إسلام، ولسانك له إسلام، ويدك لها إسلام، وكذلك بيعك وشراءك ومشيك وصاحبك وسهراتك.. إن كنت مسلماً حقيقيّاً فلا يوجد حركة من حركات وجودك إلا تنطلق من الإسلام.. فإذا كنت كذلك لن تكون النتيجة إلا ربحٌ لك وسعادة لك، ففي الحروب انتصارات، وفي التّجارة أرباح، وفي الزّروع خصب وإنتاج، وفي كلّ الأعمال نجاح وتوفيق، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [سورة الطلاق: 4].
الخطاب القرآني يوجِّه دائماً نحو الأعلى:
قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ [سورة الملك: 2] خلق الله نظام الموت ونظام الحياة، حين لم نكن شيئاً مذكوراً.. لم؟ وما الغاية؟ وما الحكمة؟ قال: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ فلأجل أن تعملوا من الأعمال أفضلها، فإذا خُيِّرتَ بين العمل الفاضل والأفضل، فيريد الله عزَّ وجلَّ منك أن تعمل الأفضل، وكذلك إن خُيِّرتَ بين العمل الصّالح والأصلح بأن تستطيع أن تعمل العمل الصّالح والعمل الأصلح، فماذا يريد الله منك؟ قال تعالى: ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ﴾ [سورة الملك: 2].. وكذلك الحال بين النّافع والأنفع.
فعندما تقرؤون سورة الملك وتقرؤون هذه الجملة من هذه الآية فهل فكرتم أنَّ الله يقول لكم: أريد منكم أن تعملوا أفضل الأعمال، وأفضل الأخلاق، وأفضل العطاء، وأفضل العبادات، وأفضل العلوم.. فقراءة القرآن لأجل هذا، وليس لأجل القراءة والتّمتمة والطّرب.. فالذي يستمع للطرب فقط فإن الذين في حفل أم كلثوم يطربون أكثر منه.. وإن كان يشاهد التلفاز وكان صوت القارئ ليس جميلاً يقلب المحطة ويبحث بين المحطات، فإذا كانت إحدى المحطات تبث أغنية لأم كلثوم يقول له: دعنا نستمع.. فهذا لا يفكِّر بالله ولا بكلامه ولا بأوامره ولا بدروسه، إنّما يُفكِّر بالموَّال [الغناء].. فهل مقصود الله تعالى من الآيات الموَّالَ؟ إن كان الموّال جميلاً سمِعَهُ، وإلا فيغلقه.. من يفعل هذا هل هو مسلم؟ وإن كانت امرأة فهل هي مسلمة؟
قال تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [سورة الملك: 2] وضع الله نظام الحياة، ووضع في الدنيا حياة مؤقتة.. والموت: عبارة موت الحياة المؤقتة وتعويضها بحياة خالدة ليس لها حدود ولا انتهاء، فالموت ليس فناءً؛ بل كما قال الشّاعر
لا تظنُّ الموت موتاً إنّه لحياة وهو غايات المُنَى
لا ترعْكُم هجمة الموت فما هو إلّا انتقال من هنا
أنا عصفور وهذا جسدي كان سجني فأبيت السَّجَنَا
فالموت انتقال إلى حياة أرقى..
فعندما قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ﴾ [سورة الواقعة: 58] هل المراد الرّؤية البصريّة أم الرّؤية الفكريّة والتّفكريّة؟ المراد الرّؤية الفكريّة والتّفكريّة.
وعندما قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [سورة الغاشية: 17] فهل المراد من النّظر: نظر العين أم نظر التّفكير؟ المراد نظر التّفكير، وإلّا فالحمار يرى الجِمَال كذلك.. ولكن يجب أن نفكِّر كيف أنَّ هذا الحيوان العظيم الذي هو أقوى من الإنسان سخره الله عزَّ وجلَّ للإنسان، فطفل صغير يقودُ عشرين جملاً.. فمن سخَّره؟ ومن ذَلّـلَه؟ فالمراد أن تصل من هذا النّظر إلى معرفة الله وعظمته؛ لتسارع إلى مرضاة الله وامتثال أوامره، ولذلك قال الله تعالى: ﴿يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ فهذا عمل القلب والروح ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [سورة آل عمران: 191] وهذا عمل العقل والفكر والعلم.. والإسلام: قلب وفكر- علم في خلايا الدّماغ وعلم من خلايا الرّوح والنّفس- وبهذين الجناحين يعلو المسلم إلى المعارج العليا.
الصحابة تربُّوا في مدرسة الوحي:
قال تعالى: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ لماذا؟ ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ [سورة الملك: 2] أي ليطلب منكم أن تكونوا أحسن النّاس عملاً.. فالصّحابة على أمّيّتهم فهموا القرآن، فهل كان عندهم تفسير الرّازي؟ هذا الذي يسمّونه التفسير الكبير، وهل كان عندهم تفسير ابن جرير الطّبريّ المؤلّف من ثلاثين مجلداً؟ وهل كان عندهم تفسير البيضاوي؟ لم يكن عندهم أي كتاب من هذه الكتب، ولكن كان عندهم تفسير قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [سورة البقرة: 282]، وكان عندهم تفسير: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إيمان العمل الظاهر والباطن.. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ [سورة يونس: 9] يعلِّمهم ربهم بنور إيمانهم ليفهموا حقائق الدّنيا وحقائق الآخرة.
هل علّم الله عزَّ وجلَّ سيّدنا عمر رضي الله عنه السّياسة؟ وهل علّمه الحرب؟ وهل علّم خالد بن الوليد رضي الله عنه الحرب؟ هل تخرّج خالد بن الوليد من أكاديميّة العسكريّة سواء من لندن أو من باريس ومن موسكو؟ وهل هُزِمَ في معركة من مئات معاركه؟
فالمسلمون لمّا هاجموا الاستعمارين العالميّين الشّرقيّ والغربيّ [الفرس والروم] مع قلَّتهم، وضعف سلاحهم، وأمّيّتهم الفنية العسكريّة، وقلّة مواردهم الماليّة، وبعدهم عن مراكزهم الوطنيّة.. فالجيش إذا كان بعيداً عن بلده الأصلي يكون بعيداً عن الإمداد، فيكون أضعف من الجيش الذي يكون في وطنه وبلده.. ومع كلّ هذا ماذا كانت النّتيجة؟ كانت النّتيجة تحقق قوله تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة الروم: 47] فكان عندهم إيمان العلم والحكمة والتزكية.
الحضُّ على الإحسان في كل شيء ومنها حسن الجوار:
قال تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [سورة الملك: 2] فإذا قرأتُ سورة تبارك فيجب أن تقول إن الله عزَّ وجلَّ يطلب منّي أن أعمل أحسن ما يمكنني أن أعمل من الأعمال الصّالحة: في قولي وفي نظري وفي بيعي وفي شرائي وفي عبادتي وفي تقواي وفي أخلاقي وفي صحبتي وفي برِّي بوالديَّ وفي صلتي بأرحامي وفي صلتي بجيراني.
قصة ثمن الجوار:
يقال: إنَّ أحدهم كان تاجراً وأفلس، فاحتاج إلى أن يبيع بيته، فعرض بيته للسّماسرة، فقدِّر بمبلغ معيّن مثلاً عشرة ملايين، فقال للمشتري: “أريد عشرة ملايين أخرى”، فقال المشتري: “ولمَ؟ ” فقال البائع: “عشرة الملايين الأولى ثمن البيت، والعشرة الثانية حقّ الجار الذي سأتركه لك، مع أنَّ جاري يساوي أكثر من عشرة ملايين”، وكما يقال في المثل: الجار قبل الدار، وقد أوصى الله به بقوله: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ [سورة النساء: 36].
كان عبد الله بن عباس رضي الله عنه إذا ذبح ذبيحة يقول: “هل أهديتم إلى جارنا اليهوديّ من الذبيحة؟ “، يتفقّد جاره اليهوديّ.. المسلم الآن قد يكون جاره ابنه أو أخوه أو عمّه أو خاله أو أيّ مسلم فلا يحسن إليه.
قيل: “الجيران ثلاثة: جار له حقّ”، وهو الجار غير المسلم، فهذا له حقّ الجوار، “وجار له حقّان وهو الجار المسلم”، فله حق الجوار وحق الإسلام، “وجار له ثلاثة حقوق: الجار المسلم ذو الرحم”، بأن كان أخاك أو عمّك أو خالك أو ابن عمّك، فله حقّ الجوار وحقّ الإسلام وحقّ الرّحم والقربى.
فعندما يقرأ المسلم قوله تعالى: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [سورة النساء: 36]، فهل يقرؤها حتّى يطبّقها أم يقرؤها وهو غير واعٍ للتطبيق ولا يفكِّر بالتطبيق؟ إن كانت قراءته للتطبيق لكان من أوّل قراءة لها طبّقها ونقلها من القول إلى العمل، هذا هو الإسلام وهذا هو الإيمان.
نعود إلى قصة بيع البيت: فنظر المشتري إلى البائع وقال له: “ما هذا الجنون؟ البيت بعشرة ملايين والجوار بعشرة ملايين؟”، فرفض الشراء وذهب، وفسدت البيعة.. فبلغت القصّة جاره، فأتاه وقال له: “أريد أن أشتري البيتَ منك، فكم ثمنه؟ قال: “عشرة ملايين” قال: “هذه عشر ملايين، وهل عليَّ أيضاً ثمن حقّ الجوار؟”، قال له: “لا، لأنك أنت الجار”. فأعطى الجار للتاجر ثمن البيت، وقال له: “لا تنتقل من هذا البيت وعندما أحتاجُ إليه أخبرك”.. فعل ذلك من أجل ألا يُخجل جاره فيستحي منه، وبعد مرور أشهر ذهب البائع إلى جاره وقال له: “متى ستأخذ بيتك؟ ” فردّ عليه: “من حقّ الجوار ألا أدعك تحتاج بيع داركَ، فبارك الله عزَّ وجلَّ لك في المال وبارك لك في دارك”..
فهذا هو الذي قرأ قراءة تطبيق لقوله تعالى: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ وهذا تطبيق إسلام: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [سورة النساء: 36]، فمتى سنطبق إسلام باقي القرآن؟ ومتى سنُسلم الإسلام الصحيح؟
قال تعالى: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ﴾ [سورة الملك: 2] يعني ليطلب منكم أن تكونوا أحسن النّاس عملاً في الاقتصاد وفي السّياسة وفي الحرب وفي التّجارة وفي الجوار وفي الشراكة وفي الأرحام وفي الغضب وفي الرّضا.
قصة زين العابدين مع أحد السفهاء:
يُذكَر عن سيّدنا زين العابدين ابن سيّدنا الحسين رضي الله عنه أنَّ بعض السّفهاء تطاول عليه وهو ذاهب إلى البيت فشتمه، فقال له زين العابدين قبل أن يصل إلى بيته: “إنَّ عبيدي ومماليكي إن سمعوك سيؤذونك، فهل لك من حاجة؟ “.. فسكت الرّجل.. فأعطاه الإمام زين العابدين ألف دينار مقابل شتيمته.. هذا هو إيمان بالقرآن ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ [سورة القصص: 54] دفع السيئة بالحسنة وليس بسيّئة.. فقال له الرجل: “أشهد بأنّك ابن رسول الله ﷺ”.. وصار من أحبابه وأنصاره.
فهل غشّنا الله عزَّ وجلَّ بنصيحة من نصائحه؟ هل جرّبنا المعاملة مع الله عزَّ وجلَّ؟ فلنجرِّب مع أنَّ الله تعالى ليس بحاجة للتَّجريب..
قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [سورة الإسراء: 9] ليس للشيء القيّم، ولا للشيء الصّالح، بل للذي هو الأصلح والأنفع والأسعد.
فلمّا علمه الأميّون الذين لا يقرؤون ولا يكتبون حقّ علمه بواسطة المعلّم الحقيقيّ سيّدنا رسول الله ﷺ صاروا خير أمّة أخرجت للنّاس، وكانوا شهداء على النّاس يعني قادة النّاس، فلم يكونوا قادة استبداد وقادة تسلُّط وسلب ونهب، بل قادةً إلى العلم والحكمة والإخاء والحبّ والسّلام، هذا هو القرآن ﴿يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [سورة الإسراء: 9] للصفات والنّتائج والحياة التي هي الأقوام والأفضل والأكمل.
قال تعالى: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ﴾ ليطلب منكم وليرى منكم ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [سورة الملك: 2] مثلاً إذا قال الأبّ لابنه: سأكلفك بهذا العمل، وسأرى هل تحسنه؟ فما معنى ذلك؟ معناه: أحسن العمل..
فإذا قرأت سورة تبارك عند النّوم هل تفهم هذا الفهم؟ فإذا لم تفهمه فكيف تستطيع أن تعمل شيئاً لا تفهمه؟ فكيف ستقود السيارة وأنت لا تعرف قيادتها؟ فإذا تعلّمت وأعطوك سيارة ولم تستعملها واستعملت حمارك الأعرج، سيلومك الناس ويتكلمون عليك؛ لأنك تركت السّيّارة الحديثة ولا زلت تركب الحمار الأعرج..
وهكذا المسلمون الآن، المسلمون الذين يقرؤون القرآن وأهل الدّين يحملون المصاحف في المساجد ويقرؤون بلا فهم.. فهل نقرأ القرآن للعلم والعمل؟ وهل نأخذ السّيارة لنتعلّم قيادتها ولنستعملها؟ فإذا لم نتعلّم قيادتها ولم نستعملها فأيّ فائدة في مشتراها وبقائها ووجودها؟ نسأل الله أن يرزقنا الإيمان.
قراءة الصحابة وقراءة اليهود:
لذلك كان الصّحابة يقرؤون القرآن عشر آيات عشر آيات، ولا يقرؤون العشر الثانية حتّى يتقنوا الأولى علماً وعملاً.. عندما تقرؤون القرآن هل تقرؤونه قراءة اليهود أم قراءة الصّحابة تلاميذ النّبيّ ﷺ؟
ما قراءة اليهود؟ قال الله تعالى عنها: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [سورة البقرة: 78].
ما الأمانيّ؟ لها تفسيران: التفسير الأول: أمنيّة: طلب الشيء بلا أسبابه وموجباته، والتفسير الثاني: لا يعلَمون الكتاب إلّا تلاوة، بألّا يعرف إلّا أن يقرأ، فلا يفهم ولا يعمل ولا يعلّم، فهذه قراءة اليهود.. فهل قراءة اليهود القراءة الخامسة عشر أم القراءة السّادسة عشر؟ فهذه القراءة التي سمّاها الله تعالى قراءة الحمير قال تعالى: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [سورة الجمعة: 5] حمانا الله من قراءة الحمير وقراءة اليهود لتوراتهم.
قال تعالى: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ [سورة مريم: 58] من التّأثّر ومن الخشوع ومن دخول روح القرآن إلى القلوب ومعانيه إلى العقول.
الحكمة من الموت:
قال تعالى: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ﴾ [سورة الملك: 2] نظام الموت.. ولولا الموت لما بقي متَّسع لوقوف إنسان على وجه الأرض، لولا أنّ الجيل كلّ خمسين أو ستين سنة ما تبدَّل، بأن ينجب كلّ واحد عشرة، والعشرة ينجبون مئة، والمئة ينجبون ألفاً، فالأرض لن تسعَ، لا وقوفاً ولا جلوساً، فضلاً عن توفير الطّعام والشّراب..
والمؤمن سعيد بالموت؛ لأنّه يعتقد أنه ينتقل إلى الحالة الأفضل، قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا﴾ وضعنا نظام الموت ﴿بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ﴾ الذين مُتُّم ﴿فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)﴾ في عالم لا تعلمون نشأته ولا جغرافيته ولا قوانين حياته ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى﴾ كنتَ ذرّة لا تراها العيون وهي الحيوان المنويٌّ ﴿فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [سورة الواقعة: 62] فالذي خلقك من ذرّة، وأعطاك شارباً، وجعل لك جاهاً، وأعطاك معملاً ومصنعاً، أو جعلك وزيراً أو صاحب تجارة، فماذا كنت؟ كنت ذرّة من مني يخرج من مخرج البول، فرأس الإبرة إذا غُمِسَ في المني يعلق برأسها خمسين ألف حيوان منويّ.. فماذا كان قيمتك في ذلك الوقت؟ والآن من الذي جعل لك هذه القيمة؟ وهل الذي جعل لك هذه القيمة تنساه؟ إذن سترجع لحالةٍ أحقرَ مما كنتَ عليها وتتمنَّى الفناء.. فإذا لم يسعد الله عزَّ وجلَّ الإنسان في الدار الآخرة فسيتمنّى الفناء وألا يكون له وجود البتة.
من عمل جوزي بقدر عمله، ومن استغفر غُفِرَ له:
﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [سورة الملك: 2] وعلى ضوء العمل سيكافئ المحسن بإحسانه ويجازي المسيء بإساءته، ويغفر لمن يستغفر، ويتوب على من يتوب إليه، قال تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ﴾ إيمان العمل ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [سورة طه: 82] تطلب المزيد من العلم والهداية في مدرسة الله عز وجلَّ ومن رسالته.. ومعنى ذلك إذا لم يتب ولم يؤمن إيمانَ العملِ، ولا عَمِلَ العملَ الصالحَ، ولا طلب العلم والمعرفة في دينه فإنَّ الله تعالى لن يغفِرَ له، أليس كذلك؟
فهل تقبلون نصيحة الله أم تقبلون نصيحة إبليس؟ وهل ستمشون على الطّريق القديم الذي يمشي النّاس عليه أم تمشون على الطّريق الوعر؟ فهل نترك القطار يمشي بين الأحجار والتّراب، وكلّما دارت عجلاته يغرز أكثر في الأرض أم نضعه على السكّة ليصل؟
فإذا وضعنا قلبنا على فهم القرآن علماً وعملاً نصل إلى أكثر ممّا نريد.
العزيز على العاصي الغفور للتائب:
﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ [سورة الملك: 2] القويّ الغالب الذي لا يغالبه أحد، فمن عصاه وخالف أمره فيعامله بما يستحقه من عمل.. فهل الذي يزرع الشوك سينبت الله له الزنبق؟ ومن يزرع القُرّيص [عشبة معروفة لمسها يسبب الحكة والازعاج] أيعطيه الله الفلّ؟ قال تعالى: ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [سورة النمل: 90].
﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ على العصاة وعلى المتمرّدين وعلى الغافلين وعلى الظّالمين وعلى الفاسقين وعلى المعرضين، ﴿الْغَفُورُ﴾ [سورة الملك: 2] للتّائبين وللنّادمين وللمستدركين، وللذي يبدّل سيئاتهم بالحسنات، وجهلهم بالعلم، وأصحابهم الفسقة بأصحاب أتقياء، ومجالس اللّغو والحرام بمجالس العلم والذّكر.. قال تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ هذه مجالس المؤمنين، ﴿أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ على فقير ﴿أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ يبحث عمّن ترك فريضة وواجباً إسلامياً ﴿أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ يبحث عن متخاصمين فيصلح بينهم.. ما مجالس النّاس الآن؟ يجب أن تكون مجالس القرآن والإسلام والإيمان.. فإذا كنت مؤمناً مسلماً، سيظهر ذلك من مجَالِسِكَ ومن قرنائك وسهراتك وحديثك فيها، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ لا ليمدحه النّاس، ولا ليثنوا عليه، ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [سورة النساء: 114].
قال تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [سورة الملك: 2] كان عليه الصّلاة والسّلام يقول: ((أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرُ بَرَكَةٍ، فِيهِ خَيْرٌ يُغَشِّيكُمُ اللَّهُ فِيهِ، فَتَنْزِلُ الرَّحْمَةَ، وَتُحَطُّ الْخَطَايَا، وَيُسْتَجَابُ فِيهِ الدُّعَاءُ، فَيَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى تَنَافُسِكُمْ، وَيُبَاهِي بِكُمْ مَلَائِكَتَهُ، فَأَرُوا اللَّهَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرًا، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مِنْ حُرِمَ فِيهِ رَحْمَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)) 17
فأنتم الآن تسمعون هذه السّورة والله عزَّ وجلَّ يريد أن يرى من منكم أحسن عملاً.. فبعدما سمعتم كلام الله عزَّ وجلَّ، فالله عزَّ وجلَّ يريد أن يرى أعمالكم، فهل ستتركون السيء إلى الحسن، وتفعلون الأحسن بدل الحسن؟
هذه سورة تبارك، التي ورد في شأنها حديث النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام يقول: ((سورة تبارك شَفِعت لصاحبها وخاصمت عنه حتى غفر له وأدخلته الجنّة)) 18 ، هذا الحديث خلاصة من عدّة أحاديث.. وكان يقول أيضاً: ((سورة تبارك هي المانعة)) أي من عذاب الله ((وهي المنجية من عذاب القبر)) 19 .. فهل سنقرأ سورة تبارك تلاوة بلا علم وعمل أم بعلم وعمل؟
دعوة إلى التأمل والتفكر:
﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾ الذي بيده الملك وبيده الخلق سبحانه ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ في صنع الله تعالى في الكون من المجرّات إلى الذّرّات كلّها قائمة على النّظام والحكمة والأحكام ولغايات محدّدة.
﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ﴾ [سورة الملك: 3] فكّر وانظر في عقلك في صنع الله، وادرس البعوضة وانظر إلى أعصابها ودورتها الدموية ودماغها وطيرانها.. من أين تعلّم الأوربيّون فنّ الطيران؟ تعلّموه من الطّيور، درسوا كيف ترتفع أجسامهم بقوّة خفق الجناحين، فعملوا ما يرفع الطّائرة الثقيلة، فكان أستاذهم في صناعة الطّائرات الحيوان.
﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ﴾ في كلّ مخلوقات الله ﴿هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾ [سورة الملك: 3] هل من عيب تراه أو خلل أو نقص؟ كلّه كمال في كمال.. درسوا الكوبرا فاستخلصوا من سمّها دواءً لنوع من أنواع السّرطان، ولا يزال العلماء في الأمم المتقدّمة تدرس الذّباب والحشرات والخنافس والدّيدان وإن كانت في قيعان البحار، وبعد الدّراسة العلمية يستنتجون نتائج نافعة وحكمة ربانيّة رائعة خُلقت لمنفعة محدّدة كان يجهلها الإنسان.
قرأت في بعض المجلات أنّهم اكتشفوا في أمريكا نوعاً من الخنافس، فبعد الدّراسة تبيَّن لهم أنَّ هذه الخنافس تلتهم وتأكل حشرات وجراثيم منوَّعة تفتك بالزّروع والثّمار، وقد جعل الله هذه الحيوانات الصغيرة غذاءً لهذه الخنفساء، فأخذوا هذه الخنافس فعملوا لها حقلاً للتكثير ومصنعاً للإنتاج، وصاروا يبيعونها في القارات الخمس.
﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ [سورة الملك: 3] في أيِّ خلق من نبات أو حيوان أو ذرّة إلّا لها هدف محدّد وغاية ربانيّة حكيمة.. فمعنى ذلك: ادرسوا كلّ شيء في الوجود، فمن يعمل ويطبّق هذا المعنى؟ أمريكا واليابان وفرنسا وألمانيا، فكأنّهم يعملون بالقرآن من غير أن يقرؤوه، ونحن نقرأ القرآن من غير أن نعمل به.. فمن سينصر الله تعالى؟
الإعداد بالعمل لا بالتمني والدعاء:
فرجل طلب الولد بالدّعاء، وآخر لم يدعُ الله عزَّ وجلَّ أن يرزقه الولد لكنَّه تزوّج عمليّاً، فمن الذي سيعطيه الله الولد؟ هل طالب الولد بالقول أم طالب الولد بالعمل؟ فهم يعملون أسباب النّصر بالعمل، ونحن نطلب النّصر بالقول، فهل يعطينا الله النّصر؟ بل سيعطينا الهزائم.. وهم يطلبون النّصر بالعمل ويطبّقون قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [سورة الأنفال: 60]، وقوله: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا﴾ [سورة الأنفال: 46].
فالآن أوروبا كلّها ستتوحّد، قارّة باختلاف أجناسها ولغاتها وقوميّاتها توحّدت.. أمّا العرب فلا باسم القوميّة، ولا باسم العروبة، ولا باسم الجامعة العربيّة توحدّت.
لمّا أتى الإسلام فخالط لحمَهُم وعقلَهم ودمَهم، الإسلام المصفَّى وإسلام القرآن وإسلام النّبوة، فتوحدوا من حدود الصّين إلى حدود فرنسا.
فأنتم الذين في المسجد يكفي نصفكم إن صرتم مسلمين، فليس كلّ الصحابة كانوا يقرؤون ويكتبون، وأنتم كلُّكم تقرؤون وتكتبون، فإذا فهمتم القرآن يتحقق المراد.
الوارث المحمدي طريق العامل إلى مراده:
ولكن من المستحيل أن يتحوَّل القرآن إلى عمل من غير قلب ذاكر، ومن غير توبة صادقة عن الصّغائر والكبائر، ومن غير ارتباط قلبيّ وحبِّي للوارث المحمديّ.. فإذا لم يصِر لك الارتباط القلبيّ والحبّي للوارث المحمديّ، فخمسين عربة قطار محمّلة بكلّ البضائع لن يمشوا خطوة إذا لم يرتبطوا بالقاطرة المحركة..
ما هو الرباط؟ هو رباط الحبّ في الله، قال رسول الله ﷺ: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده)) 20 .
وإذا قال النبي ﷺ: ((العلماء ورثة الأنبياء)) 21 فهل تحبّ العالم الوارث المحمديّ كما أمرك سيّدنا محمّد ﷺ؟ وهل تحبّه أكثر من ابنك وأكثر من أبيك وأكثر من أخيك وأكثر من نفسك؟
والحبّ في الله من أعلى شعب الإيمان، فنسأل الله أن يرزقنا الإيمان بشُعَبِهِ.
فأمرك أن تدرس السّماوات والفضاء والكواكب وانظر هل من خلل في النّظام الكونيّ؟ فمن صنع هذا الكون بهذا الإتقان فهل سيكون خلل في تشريعه القرآني لأجل تحقيق سعادتك أيّها الإنسان؟
﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ﴾ شغِّل عقلك قدر استطاعتك، فهل تستطيع أن تنتقد الله في واحدة؟ وإذا انتقدت فهذا يدلّ على جهلك، ﴿هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾ من خلل ﴿ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ أعد تفكيرك ودراستك مئة مرّة ﴿يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ﴾ بصر الفكر والعقل ﴿خَاسِئًا﴾ صاغراً ذليلاً لا يرى في الكون إلّا الكمال وإلّا الإتقان ﴿وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [سورة الملك: 3 – 4] كليل وتَعِب؛ لأنّ صنع الله كلّه كمال، فنسأل الله عزّ وجلّ أن يرزقنا نور البصيرة حتى نرى حكمة الله عزّ وجلّ في كلّ شيء.
وإلى هنا نقف، ونرجو من الله عزّ وجلّ أن يجعلنا من الذين يقرؤون القرآن ويتلونه حقّ تلاوته، ونحلّ حلاله ونحرّم حرامه ونعمل بوصاياه، ويجعلنا من المعلّمين له بأقوالنا وأعمالنا وقلوبنا وإخلاصنا
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- متفق عليه؛ صحيح البخاري، كتاب الأدب: باب رحمة الناس والبهائم، رقم: (6011)، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب: باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم: (2586)، واللفظ: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى».
- الفردوس بمأثور الخطاب للديلمي، رقم: (5232)، (3/ 404) مختصراً، مصنف ابن أبي شيبة، رقم: (30988)، (15/ 985)، (36359)، (19/ 372)، الزهد لابن أبي عاصم (1/ 263). ورد الحديث مرفوعًا في أمالي ابن بشران برقم: 47 عن قَتَادَةُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: "لَيْسَ الإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي، وَلا بِالتَّحَلِّي، لَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ، وَصَدَّقَهُ الْفِعْلُ، الْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمٌ بِاللِّسَانِ، وَعِلْمٌ بِالْقَلْبِ، فَعِلْمُ الْقَلْبِ الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَعِلْمُ اللِّسَانِ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى بَنِي آدَمَ". وورد مقطوعًا عن قتادة وعن الحسن انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن ج: 9 ص: 559 ومعالم التنزيل تفسير البغوي عند تفسير سورة فاطر الآية 10. وورد في: حلية الأولياء: أبو نعيم، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: (3/272). وورد عن الحسن رضي الله عنه: ((ليس الإيمان بالتَّحلِّي ولا بالتَّمنِّي، ولكنَّ الإيمان ما وَقَر في القلب وصدَّقه العمل)) شعب الإيمان، البيهقي، رقم: (65)، (1/158).
- أخرجه أبو داود في سننه بلفظ: ((وإنما أوليائي)) سنن أبي داود، أول كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن ودلائلها، رقم: (4242). المعجم الكبير للطبراني، رقم: (241)، (20/ 120)، صحيح ابن حبان، رقم: (647)، (2/ 415).
- مسند البزار، رقم: (6534)، (13/ 139)، المعجم الكبير للطبراني، رقم: (6040)، (6/ 212)، المستدرك للحاكم، رقم: (6539)، (3/ 691)، (6541)، (3/ 691)، قال الذهبي: سنده ضعيف.
- حديث: ((ليس منِّي إلَّا عالم أو متعلِّم)) كنز العمال للهندي (28804)، وابن النجار "فر" عن ابن عمر. وأحاديث أخرى ورد فيها ما يساند هذا الحديث: الترمذي في سننه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، برقم (4/139) ونصه: "أَلاَ إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ ذِكْرُ اللهِ وَمَا وَالاَهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ". أو حديث في مسند الفردوس للديلمي، (3/419)، وفي المعجم الكبير للطبراني، عن عبد الله، رقم: (10461)، بلفظ: «الناس رجلان؛ عالم ومتعلم، ولا خير فيما سواهما». الجامع الصغير، للسيوطي، وقال: (ابن النجار والديلمي في مسند الفردوس) رقم: (10410).
- مسند الفردوس للديلمي، (3/ 419)، وفي المعجم الكبير للطبراني، رقم: (10461)، (10/201)، واللفظ: «الناس رجلان؛ عالم ومتعلم، ولا خير فيما سواهما».
- سبق تخريجه.
- أخرجه الترمذي (3955) ((لينتهيَنَّ أقوامٌ يفتخرونَ بِآبائِهِمُ الذينَ ماتُوا، إِنَّما هُمْ فَحْمُ جهنمَ أوْ ليكونُنَّ أَهْوَنَ على اللهِ مِنَ الجُعَلِ الذي يُدَهْدِهُ الخِراءَ بِأنْفِهِ.)) وقال: حسن غريب. وأبو داود (5116)، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه أحمد (2739). وابن حبان (5775). والطبراني (11/317) (11862) عن ابن عباس رضي الله عنهما. شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (4763)، (7/ 125)، بلفظ: ((إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، والفخر بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب، لينتهين أقوام عن فخرهم بآبائهم في الجاهلية، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها)).
- المعجم الصغير للطبراني، رقم: (507)، (1/ 305)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (1642)، (3/ 273)، عن أبي هريرة.
- صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم: (3461).
- شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (2550)، (4/ 300).
- صحيح مسلم، (91) عن عبد الله بن مسعود، ((لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ قالَ رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يَكونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا ونَعْلُهُ حَسَنَةً، قالَ: إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النّاسِ)). سنن الترمذي، أبواب البر والصلة: باب ما جاء في الكبر، رقم: (1999).
- صحيح البخاري، كتاب النكاح: باب الترغيب في النكاح، رقم: (5063)، صحيح مسلم، كتاب النكاح: باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه. رقم: (1401)، واللفظ: «أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له».
- إحياء علوم الدين للغزالي، من قول أنس رضي الله عنه. (1/274).
- حديث: (علماء فقهاء حكماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء) حلية الأولياء، أبو نعيم، (9/279)، و(10/192)، البداية والنهاية، ابن كثير، (7/371)، عن سويد بن الحارث الأزدي. تخريج زاد المعاد، لشعيب الأرنؤوط: (3/587).
- هو مما يجري على الألسنة كما قال العجلوني في كشف الخفاء (2/ 63)، وفي معناه: «اللهم الطف لي في تيسير كل عسير، فإن تيسير كل عسير عليك يسير، وأسألك اليسر والمعافاة في الدنيا والآخرة»، المعجم الأوسط للطبراني، رقم: (1250)، (2/ 61).
- مسند الشاميين للطبراني، رقم: (2238).
- سنن أبو داوود، أبواب قراءة القرآن وتحزيبه وترتيله: باب في عدد الآي، رقم: (1400)، بلفظ: «سورة من القرآن ثلاثون آية، تشفع لصاحبها حتى يغفر له: تبارك الذي بيده الملك».
- سنن الترمذي، أبواب فضائل القرآن: باب ما جاء في فضل سورة الملك، رقم: (2890)، بلفظ: عن ابن عباس، قال: ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا فيه إنسان يقرأ سورة تبارك الذي بيده الملك حتى ختمها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا فيه إنسان يقرأ سورة تبارك الملك حتى ختمها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي المانعة، هي المنجية، تنجيه من عذاب القبر»، قال الترمذي: «هذا حديث غريب من هذا الوجه».
- صحيح البخاري، عن أنس، في كتاب الإيمان، باب حبُّ الرَّسول صلى الله عليه وسلَّم من الإيمان، رقم: (15)، وصحيح مسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب محبَّة رسول الله.. رقم: (44)، بزيادة: ((والنَّاسِ أجمَعينَ)). وفي: تعظيم قدر الصلاة للمروزي، رقم: (469)، (1/452) بزيادة: ((ونفسه التي بين جنبيه)). وفي مسند أحمد في قصة عمر عن زهرة بن معبد عن جده (18961).
- ذكره البخاري في بَابٌ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ في المقدمة دون سند. سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (223). وأبو داود، أول كتاب العلم، باب: الحث على طلب العلم، رقم: (3641). والترمذي، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682).