رسالة الله تزرع الحبَّ والتراحم في قلوب البشر:
نحن الآن في تفسير بعض آياتٍ مِن سورة القمر.. كان عليه الصلاة والسلام يقول: ((شَيَّبَتْنِي هودٌ وأَخَواتُها)) ، “هود”: أي سورة هود، لأنَّ الله تعالى ذَكر فيها هلاك الأُمم الماضية لَمَّا كذَّبوا أنبياءهم، ورفضوا الاتِّباع والعمل والاستجابة لرسالة ربهم.. إن الله تعالى أنزل شريعته مِن السماء لا مِن المجلس النيابي السماوي، بل مِن الواحد الأحد الفرد الصمد الذي خلق الإنسان، وهو يَعْلَم ما يُصلِحُه وما يُسْعِدُه وما يُشقِيْه وما يُتْعِسُه، فأنزل الله له التشريع السماوي مثل “كتالوج”، [كتالوج أو كتالوك: كلمة عامِّيَّة، تعني الكتاب الدليل المرشد لتشغيل آلة أو سيارة وما شابه ذلك، أو كتاباً يشرح مُنتَجاً تجارياً أو صناعياً أو مكاناً ما، يكون مُرفَقاً بالصور والخرائط] أو مثل السِّكَّة بالنسبة للقطار، فالقطار تتحقَّق منافعه، ويتحقَّق مسيره إذا مشى على سِكَّته، والسيارة تُوصِل إلى المطلوب إذا التزَمت الطريق المعبَّد، وأما إذا حادت يمينًا أو يسارًا في الوَعْر أو بين الجبال فإمَّا أنْ تتعثَّر وإمَّا أنْ تندثر، وكذلك الإنسان، فقد أنزل الله تعالى قانونَه مِن السماء لِيَسْلُك قطارُ حياتِه على سِكَّةِ قانون الله عزَّ وجلَّ، ليصل الإنسان بركوب هذا القطار إلى حيث يهوى، وإلى حيث يرضى.
وليس لله في شرائعه منفعةٌ أو مصلحةٌ مِن الإنسان إذا أطاع واتَّقى، وليس على الله مضرَّةٌ أو أذيَّةٌ مِن الإنسان إذا كفر وعصى، بل كله لمصلحة الإنسان، والدليل على ذلك أنَّ العرب لَمَّا مشى قطارُ حياتِهم وعقولِهم وأخلاقِهم ومعيشتهم على سِكَّة رسالة السماء أين أَوْصَلتْهم وأوصلتْ قطارَهم هذه السِّكَّة؟ أوصلتْهم إلى العِزِّ وإلى المجد وإلى قيادة العالَم، وإلى وحدة الشعوب والأمم، وإلى جَعْل العالَم أُسرةً وعائلةً واحدةً.. والمؤمنون تَقبَّلوا هذه الرسالة، ومشوا على الصراط المستقيم- سواء [في مِثالِنا] الطريق المعبَّد أو السكة الحديدية- كما علَّمَهُم الله تعالى بقوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6] فصاروا في توادُدِهم وتراحمهم كالجسد الواحد.
فرسالة الله تعالى جاءت لتزرع الحُبَّ والتراحم في قلوب البشر؛ لِيرحم قويُّهم ضعيفَهم، وغنيُّهم فقيرَهم، وحاكِمهم محكومَهم.. ولَمَّا مَشوا على الصراط المستقيم [صاروا سادة العالَم]، وقد كانوا -كما كُلُّنا يعلم- بلا دولة، ولم تكن هناك أُمَّةٌ اسمها الأمة العربية قبل القرآن، فقد كانوا قبائل في الصحراء، وكانوا عند الجوع يأكلون الفطائس والْمَيْتَات، لذلك قال القرآن: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة:3] فإذا كان شخص لا يأكل لحم الكلاب هل يقال له: حرام عليك أكل لحم الكلاب؟ بل يُقال له ذلك إذا كان يأكل، أمَّا إذا كان لا يأكل فلا أحد يقول له: لا تأكل لحم الكلاب، أليس كذلك؟ وهم كانوا يقولون: كنا قبل الإسلام نأكل الفطائس والميتات.. هم بذاتهم كانوا يقولون ذلك، وليس هذا مِن عندي وليس باستنباطٍ وبحثٍ وتحرٍّ واجتهادٍ.
كان النبي ﷺ يقول: ((شَيَّبَتْنِي هُودٌ)) ، ولَمَّا نزلت كان يقرؤها ويقوم معظم الليل في تلاوة القرآن باكيًا وخاشعًا ومُنفعِلاً ومُتفاعِلًا ومُتجاوِبًا مع ما يسمعه مِن كلام الله عزَّ وجلَّ، فكانت تلاوته كمَن يُدْخِل الطعام في فمه، فالمرحلة الأولى هي الهضم في الفم، لأن المواد الصلبة تُطحَن، ثم تختلط بالإفرازات الْمَعِديَّة حتى تصير مائعًا، وعندما تصير مائعةً تذهب إلى الأمعاء فتمتصُّها الأمعاء.. كذلك القرآن، فهو غذاء للعقل ليكون حكيمًا، وللقلب ليكون نُورانيًّا، وللنفس لتكون ملائكيةً، فإذا تلوتَ القرآن وهضمتَه بعقلك وبقلبك يتحوَّل إلى حُبٍّ لله، وإلى إعظامٍ لأمر الله، وإلى خشوعٍ بين يدي الله، وتتحول هذه المعاني وفهمُها إلى أخلاق وإلى أعمال وإلى واقع.
وقد كان ﷺ وحدَهُ، وعليه أنْ يقوم بتوحيد العالَم، وهو فوق ذلك أُمِّيٌّ.. إذا علَّمك إنسانٌ مثلك بالحقوق أو بالطب أو بالهندسة تصير مُثقَّفًا، فكيف إذا كان الأستاذ ربّ الكون وربّ المجرَّات والشموس والأقمار.. وآخر مجرَّتَين اكتشفتْهما أمريكا الآن تَبعدان عن الأرض ثمانية عشر مليار سنة ضوئية، وسرعة الضوء بالثانية ثلاث مئة ألف كيلومتر، وهذه تَوَصَّل لها إنسان أمريكي، ولكن هل يا ترى هذا كون الله كله؟ إنّ المجرة عبارة عن مجموعات الشموس والأقمار والأراضي، وهي بعدد ذرات الرمال في الأرض، والمجرات تُعَدّ بالمليارات.. وخالقها سبحانه وتعالى يُنْزِل لك منهاجًا لحياتك.. ثم إنَّ هذا المنهاج قد جُرِّب.. ومتى يُستعمَل الدواء عادةً؟ بعد أن يُجرَّب ويَنْجَح يرسلونه إلى الأسواق، فهل جُرِّب الإسلام؟ نعم جُرِّب، وهل نجح؟ نعم نجح، ففي ميدان العلوم صاروا أعلم أمم الأرض- ولَمَّا دخلتْ أوربا في مدرسة المسلمين نهضتْ نهضتها ذات الخمس مئة سنة- وفي ميدان القوة هَزموا الاستعمارين الفارسي الشرقي والروماني الغربي، وصاروا هُم هيئة الأمم ومجلس الأمن، ومجلس الأمن الموجود اليوم ليس مجلس الأمن، بل هو مجلس الظلم، ليس مجلس القانون، بل مجلس استغلال القانون والضَّحك على الذُّقُون -ذقون الشعوب الضعيفة- [الضحك على الذُّقون أو اللِّحَى: مصطلح عامي يُقصَد منه الاستغلال والاستهزاء والاستخفاف، فإذا قال أحدهم: “فلان ضَحِك على لحية فلان” أي استحقره واستخفَّ به وظلمه وأكل حقه] إنَّ القانون طُبِّق على العراق وفعلوا به ما فعلوا، بينما قوانين مجلس الأمن وقراراته ومنذ أربعين سنة [على إسرائيل لم يُطَبَّق منها شيء]، وكلُّها يأكلها العثُّ، وتُدْفَن في الغبار، أمَّا مجلس الأمن في الإسلام، فلمَّا ضَرب ابنُ عمرو الرجلَ القبطيَّ وقال له: “أنا ابن الأكرمين” رفع ظُلامَتَه إلى مجلس الأمن -سيدنا عمر رضي الله عنه- فأَحضر القبطيَّ وابنَ عمرو مع عمرو رضي الله عنه فاتح مصر، وأعطاه القضيب، وقال له: “اضربه على رأسه، اضرب ابن الأكرمين”، فضربه والصحابة أعضاء مجلس الأمن قالوا: “ونحن نُحبُّ أن يضربه” ، لم يقل أحد منهم: كيف لنصراني أن يَضرب مسلمًا وفوق ذلك فإن أباه فاتح مصر!.. ولم يكن أحد مع الباطل أو مع الجَورِ والظلم، فقد كانوا كلُّهم مع الحقّ والعدالة والمساواة بلا تفريقٍ بين مسلمٍ وغير مسلم.
كانت الشعوب المسيحية عندما يأتي الجيش الإسلامي تثور على الدولة الرومانية المسيحية، لأنهم كانوا يرون الظلم والجَور من الدولة المسيحية بلا حساب، ويرون في الدِّين الإسلامي العدل والرحمة والمساواة.. والشعب ماذا يريد؟ الإنسان ماذا يريد؟ يريد حريته وكرامته وحقوقه، وهم ما وجدوها إلا في ظلال الإسلام.
القصص في القرآن الكريم للفهم والعبرة:
لم يذكر الله تعالى لنا قصة نوح عليه السَّلام في سورة القمر مِن أجل التسلية، فسيدنا نوح عليه السَّلام ذهب، وقومه هلكوا في الغرق، والقصة لم تعد تنفعهم، وقد قصَّ علينا أيضًا قصة عاد قوم هود عليه السَّلام، وهم أيضًا هلكوا ومات نبيُّهم، وأيضًا ثمود قوم صالح عليه السَّلام، ولوط عليه السَّلام مات وهلك قومه، لقد كانت كلُّ هذه الأحاديث وحياة الأنبياء مع أقوامهم موعظةً لقريش، ودروسًا لقريش، لكن الكتاب وحده هل يجعل منك طبيبًا؟ فإذا أخذتَ كُتب الابتدائي والإعدادي والثانوي والجامعي وكتب الطب فهل ستصير طبيبًا بالكتب؟ بل إنك تحتاج إلى الأساتذة مع الكتاب، والآن القرآن موجود بيننا كتابًا، لكن لا يوجد الأستاذ، لذلك فإن المسلمين يقرؤون ولا يفهمون، لأنه ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق:37] “لذكرى”: لَفَهْم.. والقلب يحتاج إلى أستاذ القلوب، كما أنه هل يمكن أنْ تتعلَّم الطيران أو أن تُطلق المدافع بالكتب؟
وهنا ربنا يذكر لنا قوم لوط عليه السَّلام فيقول: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ﴾ [القمر:33].. أولًا قال: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ [القمر:9] قبلهم يعني قبل قريش، وقَبل العرب، فماذا كانت نتيجة تكذيب قوم نوح؟ ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ [القمر:12]، أهلكهم الله عزَّ وجلَّ بالغرق، وجعل الأرض عليهم كالبحار، ثم قال: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر:18] ماذا كانت النتيجة؟ ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ﴾ [القمر:19]، فقوم نوح عليه السَّلام غرقوا بالطوفان، الذي يقال عنه اليوم: إنه “عوامل طبيعية”، وكذلك أهلك الله تعالى قوم عاد بالريح الصرصر والعواصف والزوابع مع البرد فأصبحوا كما أخبرنا الله تعالى: ﴿تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾ [القمر:20]، وثمود أرسل عليهم صيحةً مِن السماء، فالصاعقة سماها الله “صيحة” ﴿فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾ [سورة القمر:31] عندما يجمع الراعي العشب ويُكوِّمه، فمع كثرة المشي عليه يصير مِثل التّبْن، فكانوا مثل هشيم المحتظِر، والمحتظِر هو الذي يقيم الحظيرة لأغنامه.
الله تعالى يمهل ولا يهمل:
والآن يذكر الله تعالى قوم لوط عليه السَّلام: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ﴾ [القمر:33]، الله عزَّ وجلَّ لم يبعث لهم إنذارًا واحدًا، ولا إنذارين، ولا ثلاثة، ولا أربعة، ولا خمسة، لأن الله لا يعجَل: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ [الطارق:17]، فمثلًا أبو جهل كم أمهله الله عزَّ وجلَّ؟ لم يعاقبه الله تعالى مِن اليوم الأول لكفره وإيذائه للنبي ﷺ، بل أنْظرَه سنةً وسنتين وثلاثًا وأربعًا وخمسًا.. وقوم نوح عليه السَّلام أنظرهم الله ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا، وأبو جهل بعد خمس عشرة سنة قطع الله رقبته.
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ﴾ [القمر:33] بنذر الله بأنه سيُهلكهم، فقالوا: ها نحن أحياء لم يحصل لنا شيء، وفي اليوم التالي لم يحصل لنا شيء، فاغترُّوا بحِلم الله عزَّ وجلَّ، ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ [فاطر:45]، فالناس في غفلة، وفي موت الشعور عن إنذارات الله عزَّ وجلَّ، وعن تهديدات الله، لأن القلوب ماتت.. ليس عند كل الناس لكن الكثير منهم يتجرَّأون على معصية الله، ويتباهون بها، ويتفاخرون بها، على الرغم مِن أن القرآن اليوم ينتشر في الإذاعة والتلفزيون والمطابع وخُطب المنابر، لكن إذا ذهب أبلغ البلغاء إلى المقبرة، وألقى محاضرة ليُخيفهم أو ليبشِّرهم بها فهل يتأثَّرون؟ ولو أحضر لهم “طبق بقلاوة” وقال لهم: هذه البقلاوة بالسمن البلدي، والفستق والجبن الحموي، فهل سيأكلون؟ وهكذا إذا ماتت القلوب لا تنفذ إليها العِظة، ﴿فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ﴾ [الروم:52]، ما كانوا صُمَّ الآذان، لكن كانوا صُمَّ القلوب، وما كانوا عُمي العيون، بل عُمي القلوب.
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ﴾ [القمر:33] ليس بالإنذار ولا بالإنذارين بل بالنُّذُر، وهذا مِن رحمة الله عزَّ وجلَّ بأن يرسل لك إنذارًا، ولكنك لا تهتم به، ثم يرسل الإنذار الثاني أيضًا ولا تهتم، والإنذار الثالث، والرابع والخامس، والله تعالى مِن أسمائه الحليم، وهو أرحم الراحمين.
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ﴾ [القمر:33] الدولة هل ترسل نُذُرًا؟ بل تُرسل لك إنذارًا واحدًا، والبلدية أو المحافَظَة أو المحكمة تُرسل لك إنذارًا واحدًا، أليس كذلك؟ مثلًا: يجب عليك أن تَحضر في الساعة الفلانية، وإذا لم تَحضر تَحكم عليك، ولكن مِن رحمة الله تعالى أنه يرسل إنذارات كثيرة، فهو أرحم الراحمين.
عقاب مَن يتمرَّد على إنذارات الله عزَّ وجلَّ:
لَمَّا أصرَّ قوم لوط على كفرهم، وتمرَّدوا ولم يرفعوا لإنذارات الله رأسًا، ولم يستجيبوا لنبيِّهم عليه السَّلام: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا﴾ [القمر:34]، ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا﴾ [النمل:58]، أنزل الله تعالى عليهم مطرًا، هل كان ثلجاً؟ لم يكن المطر المعروف، ولم يكن ماء السماء، ﴿أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا﴾ [القمر:34]، فبدل المطر أنزل عليهم حجارة مِن السماء ملء الكف، واقتلع جبريل عليه السَّلام قُراهم، ورفعها في الفضاء، وضرب بها بعد أنْ أمطرهم الله عزَّ وجلَّ حجارةً مِن السماء، ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا﴾ [القمر:34]، هذه الآيات ليست لقوم لوط عليه السَّلام، ولقد قرأتها قريش حقَّ قراءتها، وببركة المعلِّم الأول سيدنا رسول الله ﷺ أعانهم الله على حياة قلوبهم وضمائرهم ووجدانهم وإحساسهم، فوَعَوها حقَّ الوعي، وفَهِموها حقَّ الفهم، فصار منهم أبو بكرٍ وعمر وسعد وعمرو رضي الله عنهم خير أمةٍ أُخرجت للناس، أخذوا حظَّهم منها.. والآن القرآن يُعرض علينا، فهل نأخذ حظَّنا منه كما أخذوا حظَّهم منه؟ فعلينا أنْ نأخذ مِن القرآن حظَّنا الكامل.. إن آيات لوط عليه السَّلام موجَّهةٌ إلينا، وقد كانت معصيتهم هي الشذوذ الجنسي وأموراً أُخرى، وقوم صالح عليه السَّلام كانت لهم معاصٍ مِن نوع آخر، فقد عقروا الناقة، وقد قال لهم رسولهم: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف:59]، فما عبدوه، ﴿وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾ [الأعراف:68] ما تقبَّلوا نُصحه، واتَّهموه بالكذب.. لقد كانوا أنبياء ورسل، ولكنهم كذبوهم.. وهل يوجد أعظم مِن النبي ﷺ عقلًا وحكمةً وأخلاقًا ومِن كل النواحي؟ فهل استفاد منه أبو جهل؟ هذا كما إذا أحضرنا خمسة آلاف حمار، وأحضرنا لهم المغنيَّة أم كلثوم، وغنَّتْ لهم، ولم يَطربوا، فهل العلة من أم كلثوم؟ قال بعض الشعراء
سَقَوني وَقالوا: لَا تُغَنِّ وَلَو سَقَوا جِبالَ سُلَيمَى مَا سَقَوني لَغَنَّتِ
“سقوني” أي مِن خمر حبهم، وأروني نور جمالهم، ومتى يغني الإنسان؟ عندما يكون مُسرورًا، ولكن هل يغنِّي عندما يكون ابنه ميتًا؟ لا، بل يولول
وَمَن سَمِعَ الغِناءَ بِغَيرِ قَلبٍ وَلَم يَطرَبْ فَلا يَلُمِ الْمُغَنِّي
كيفما غنَّى لك محبوبك ترقص له، ولكن إذا كان بغير حب وبغير عشق، هل ترقص الحمير لمَوَّالِ أم كلثوم؟ لماذا لا ترقص؟ هل لأن صوتها غير جميل؟ لا، بل لأنهم حمير، أمَّا إذا غنَّت حمارة لخمس مئة حمار فهل سيُغنون لها أم لا؟ كلُّهم سيتجاوبون معها بصوتٍ واحد.
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ﴾ [القمر:34]، الله عزَّ وجلَّ قال: ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ (82) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ﴾ كلُّ حجرٍ مكتوبٌ عليه اسم صاحبه، ﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ [هود:81-83]، فكلُّ مَن سلك مسلكهم، وكُلُّ مَن عصى نبيَّه، وكُلُّ مَن عصى شرع الله عزَّ وجلَّ، وسلك مسلك قوم لوط عليه السَّلام مع نبيِّه، وسلك مسلك ثمود مع نبيِّهم صالح عليه السَّلام فإن حسابه: ﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ [هود:83].
وأنتَ عندما تقرأ قصة قوم لوط، أو قوم صالح، أو قوم هود عليهم السَّلام هل تفكِّر أنَّ هذه الآيات موجهةٌ لك؟ فإذا فعلتَ كفِعلهم، وعصيتَ الله كمعصيتهم فإن الله تعالى سيرسل إليك الإنذار الأول، والإنذار الثاني والثالث والرابع، وعندما تنتهي الإنذارات يأتي العقاب.. عندما أنذر الحلفاء صدام حسين كم إنذارًا أنذروه؟ عدَّة إنذارات، [تحالفت الأمم الغربية على صدام حسين ودولته العراق بعد هجومه على الكويت، وتحركوا إليه بعد يومين فقط] ثم هل نفذوا أم لا؟ فهل الله تعالى أقوى أم الحلفاء؟
القراءة الحقيقية للقرآن الكريم:
هذه المصائب التي تنزل بالعرب والمسلمين اليوم هل يفكِّرون بأنها إنذارات مِن الله تعالى، وتعذيب مِن طرفه سبحانه: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر:30]، كيف كانت عاقبة الإنذارات لِمَن لا يسمع ولِمَن لا يقنع ولِمَن لا يفهم عن الله عز وجل؟ هل الله ولد صغير أو درويش؟ لا، الله عزَّ وجلَّ هو جبَّار السماوات والأرض: ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه:7]، وقد وضع لك ملائكةً يسجِّلون عليك أعمالك كلها: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18]، رقيبٌ: يُراقبك، وعتيد: حاضرٌ لا يُفارقك أبدًا.. كلُّ هذه الآيات عندما تقرؤها هل تُنقَش في قلبك وقوفًا على حدود الله، واستقامةً على طاعة الله، وابتعادًا عن معصية الله وغضب الله عزَّ وجلَّ؟ فإذا لم تُعطِ هذه الآثار فأنتَ لا تقرأ القرآن.
رُبَّ تَالٍ يَتلُو القُرَانَ بِفِيهِ وَهُو يُفضِي بِه إلى الخذلَانِ
يعني كلَّما يقرأ أكثر يقع في الخذلان أكثر، قال رسول الله ﷺ: ((رُبَّ تَالٍ يَتلُو القُرآنَ وَالقُرآنُ يَلعَنُهُ)) ، فإذا قرأ: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود:18] وهو ظالم فهو يلعن نفسه بتلاوة القرآن.
قال الله تعالى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ [البقرة:61] لماذا؟ إنّ اليهود ذهبوا وانتهوا، ولكن الله تعالى ذكر لنا قصتهم حتى لا تُضرَب علينا الذِّلَّة والمسكنة إذا أتينا بأسبابهما، وما هي أسباب الذلة والمسكنة؟ قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ [البقرة:61] الآن المسلمون أَلَا يكفرون بآيات الله؟ ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ [المؤمنون:5]، هل هم كافرون بهذه الآية أو مؤمنون؟ قوم لوط وعمل الشذوذ الجنسي هل هو أمر واقعٌ أم لا؟ إقامة الصلاة، هل المسلمون كلُّهم يُصلُّون؟ إيتاء الزكاة وطلب العِلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر، هل المسلمون يقومون بهذه الأعمال؟ قال النبي ﷺ: ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً)) ، أكثر مِن سبعين وأقل مِن ثمانين، فهل تعرف أسماء هذه الشُّعَب؟ الأسماء فقط هل تعرفها؟ إذا عرفتَ أسماءها فهل اتَّصفتَ بها؟ وهل تخلَّقتَ بها؟ حتى -على الأقل- تموت على الإيمان، كيف بك وأنت لا تعرفها.. إن الإنسان مُركَّب مِن رأس وعيون وآذان وأسنان وأنف.. إلخ، فإذا لم يكن فيه آذان ولا رأس ولا يدان ولا أقدام فكيف يُسمى إنسانًا؟ والإيمان كذلك.. ومَن أستاذك بالإيمان؟ مِن أيِّ مدرسة إيمان تخرَّجتَ؟ وإلى أيِّ مستوى وشهادةٍ وصلتَ؟ المسلم اليوم ليس له مُذكِّر ولا مُعلِّم ولا مُربٍّ، وليس له مَن يُعلِّمه الحكمة، ولا مَن يُزكِّي له النفس، ولا مَن يُعلِّمه علوم القرآن.
الشكر منجاة من الهلاك:
قال تعالى: ﴿إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ﴾ [القمر:34] يقولون: إن البلاء يَعمُّ، والرحمة تخصُّ، ولكن البلاء يخصُّ أصحابه، والرحمة أيضًا تخصُّ أصحابها، وإلَّا فلماذا لم يُهلك الله عزَّ وجلَّ لوطًا عليه السَّلام وابنتيه؟ ويُقال: وأصهاره معه أيضًا، ﴿نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾ [القمر:35] نجَّيناهم بفضلٍ مِن عندنا ﴿كَذَلِكَ﴾ ليس فقط نُنجِّيهم، فليس النجاة للعدد القليل بين المجموعة الكبيرة المختصة بآل لوط قال: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ﴾ [القمر:35]، وكُلّ مَن يشكر الله.. وما الشكر؟ الحمد باللسان، والطاعة بالأعضاء والجوارح والأركان، وامتلاء القلب مِن خشية الله ومحبتِه بأنوار الإيمان.
العبرة ليست بالقرابة الجسدية بل بالقرابة الأخلاقية السلوكية:
﴿وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا﴾ [القمر:36] قال لهم: سوف يبطش الله عزَّ وجلَّ بكم، ولكن هذا يهزأ، وهذا يضحك، وهذا يقول: مجنون.. أليس كذلك يفعل بعض الناس إنْ قلتَ لهم: اتَّقوا الله؟ وهناك أناس تغضب: ﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ [البقرة:206]، يقول [متهجِّماً متكبِّراً]: هل تقول لي أنا: اتَّقي الله؟ أنتَ اتَّقِ الله.. فيرفض النصيحة، والآخر يهزأ بالنصيحة.
﴿وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ﴾ [القمر:36] هَزئوا ولم يكترثوا ولم يتيقَّنوا، لأنهم يظنُّون أنَّ كلام الله عزَّ وجلَّ ككلام شخص مجنون، فالمجنون إذا تكلَّم معك بشيء هل تَكْتَرِث؟
فلمَّا دقَّت الساعة، ساعة التنفيذ -والله تعالى إذا أراد أمراً فإنه يعمله على أكمل وجه- أرسل لهم ملائكةً بصورة مُردان، ومِن أجمل الشباب الصغار، منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملائكة السماء، ولكن بصورة أولاد أعمارهم خمس عشرة سنة، زد على ذلك أنهم ملائكة!.. والناس عندما يرون إنسانًا جميلًا يقولون عنه: مَلَك، لأن الجَمال مِن صفة الملائكة.. وزوجة لوط العجوز المنحوسة كانت مِن جماعة قوم لوط، فأرسلتْ إليهم أنْ قد جاءكم شيءٌ عظيم جدًّا، أولادٌ لا يوجد أجمل منهم.. نسأل الله العافية.. زوجته ورفيقته كانت كافرة مثل زوجة سيدنا نوح عليه السَّلام.. يوجد زوجة نبيٍّ كافرة، ويوجد أبٌ كافر كأبي سيدنا إبراهيم عليه السَّلام، ويوجد ابن كافر كابن نوح عليه السَّلام، والإخوة كإخوة يوسف عليه السَّلام، ما كفروا لكن فعلوا الذي فعلوه، والعم مثل عمِّ النبي ﷺ قال الله تعالى عنه: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد:1].
والعبرة ليست بالقرابة الجسدية، العبرة بالقرابة الروحية والقرابة العلمية والقرابة الأخلاقية السلوكية، قال
وَما يَنفَعُ الأَصلُ مِن هاشِمٍ إذَا كَانَتِ النَّفْسُ مِن بَاهِلَـة
ويقول الشاعر
أتفخر باتصالك من عليّ وأصلُ البَوْلَةِ الماءُ القَرَاحُ
وليس بنافعٍ نسبٌ زكيٌّ يدنِّسُه صنائعُك القباحُ
وأصل البولة الماء القَرَاحُ: لكن ماذا يَخْرُج؟ بول، فالأصل أن العِبرة بعملك وإيمانك واستقامتك وأخلاقك، فسلمان الفارسي رضي الله عنه أعجميٌّ، قال عنه النبي ﷺ: ((سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ)) .
وأبو لهب عمُّ النبي ﷺ ماذا قال الله تعالى في شأنه؟ ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد:1]، وماذا قال في حق ابن نوح عليه السَّلام؟ ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [هود:46] لماذا؟ هل كانت أمُّه خائنة وهو ابن زنا؟ لا، قال: ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ [هود:46]، فإذا كان عمله لا يتناسب مع عمل أبيه في النبوة فإن النسب يُعتبَر مُنقطعًا.
نعود إلى قوم لوط.. فإنهم لَمَّا ركضوا نحوه أغلق لوط عليه السَّلام دونهم الباب، فصاروا يدفعون الباب مِن الخارج، وهو يدفع مِن الداخل، والأكثر سيكسب عادة: ﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً﴾ [هود:80] لأنه وحدَه، فما آمن معه غير ابنتَيه، ﴿أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ [هود:80] لا يوجد أحد يُؤازرني ويُعينني وينصرني، سبحان الله! هو نبيٌّ ورسولٌ وابتُلي بقوم كهؤلاء، وأيُّ قوم! عندما يُقال: قوم لوط، معروف مَن هم.
فلمَّا كادوا يكسرون الباب أَخرجت الملائكة هوياتهم، وظهرت بصورتها الملائكية التي عَرَفهم بها، وفتحوا الباب، وضربهم جبريل عليه السَّلام بجناحه، فأعمى الله عزَّ وجلَّ أبصارهم جميعًا، فصاروا يتلمَّسون الجدران، وعادوا وقالوا: سنرجع إلى قومنا لنقتل لوطًا، لأنه هو كان سبب العمى.. وهذا يسمَّى العمى على العمى، وهذا بدلاً من أنْ يتوبوا، لأنهم رأوا انتصار الله، ورأوا نجدة الله عزَّ وجلَّ، وتصديق ما أنذرهم به لوط عليه السَّلام، لكن “المنحوس منحوس لو وضعوا بين عينيه خمس مئة ألف فانوس” [مَثَل يقال لمن يفشل في أي شيء يفعله ولا يُرجى منه خير].
ومَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ يَجدْ مُرًّا بهِ الماءَ الزُّلالا
المريض عندما تسقيه ماءً يقول: هو مُرٌّ، مع أنه عذبٌ، فهل العلَّة منه أم مِن الماء؟ نسأل الله عزَّ وجلَّ أن لا يجعل قلوبنا مرضى، لأن مرض الأجسام إن صبر الإنسان واحتسب يؤجر عليه، أمَّا مرض القلوب: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة:10].
الحياة منام، والشباب منام، والصحة منام، والحُكم منام، فإذا مشيتَ على طريق الله عزَّ وجلَّ فإنك ستكسب الدنيا والآخرة.. وما الشقاء؟ الشقاء هو أنْ يسلك الإنسان طريق الشقاء ولا يعلم أنه شقيٌّ سائر في طريق الشقاء: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ [فاطر:8].
الابتعاد عن الغفلة ومرض القلوب:
أوحى الله عزَّ وجلَّ إلى لوط عليه السَّلام أنِ اخرج مِن القرية، فلمَّا خرج أرسل الله تعالى عليها حاصبًا ومطرًا مِن الحجارة، والحصباء تملأ الكف، وكلُّ شخص منهم حجره على حجمه وباسمه، فأهلكهم الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر:37]، أرادوا أن يفعلوا الفاحشة بالملائكة الذين جاؤوا بصورة الأولاد المراهقين، وهم ملائكة غاية في الجمال! فطارت عقولهم.. وهذا هو الفخّ والكيد الإلهي، فإذا أراد الله أنْ يمكر بأحد فإنه يأتيه من حيث لا يشعر، يُحضر له البقلاوة ويضع فيها السم الزؤام، يُرسل له المردان بصورة الملائكة، ويكون وراء ذلك الهلاك والحطام، وهذا مِن الغرور: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206( مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)﴾ [الشعراء:205-207]، يمتِّعه الله تعالى بالقوة وبالبِناء وبالنُّفوذ وبالاستعلاء.. نسأل الله أن يحميَنا مِن الغفلة، وأنْ يحميَنا مِن موت القلوب، ومِن مرض القلوب.. ﴿فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر:37]، كأنه يقول لهم: هل تعتقدون أنه لا يوجد عذاب؟ وهل إنذاراتي صادقة أم لا؟ ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾ [هود:81]، ﴿وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ﴾ [القمر:38] عذاب مستمرٌّ لا يوجد فيه انقطاع، حتى يهلكوا عن بُكرة أبيهم وعن آخرهم.
﴿فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر:39-40] الله تعالى يقول لنا: نحن لا نكلِّمكم بغير لسانكم أيها العرب، بل باللسان العربي، فهل فهمتم؟ هل تفعلون كما فعل قوم لوط عليه السَّلام؟ هل تكفرون بنبيِّكم وتعادونه وتؤذونه وتُعرِضون عنه؟ العرب مع كونهم عابدي أصنام، ومع كونهم أهل جاهلية، ولكن بالتكرار وبالتكرار صاروا أصحاب رسول الله ﷺ، وصاروا مِن المهاجرين والأنصار، وصاروا مِن السابقين الأوَّلِين، وصاروا خير أمةٍ أُخرجتْ للناس، ولم تكن هذه الإنذارات وحدها، بل كان معها صحبة النبي ﷺ، فالمستشفى ومع وجود كلِّ الأدوية فيها لا تفيد بلا طبيبٍ، فهل تستطيع أن تدخل إلى الصيدلية وتأخذ أي دواء، وتقول: هذه العبوة أفضل أو هذه أكبر؟ قد يكون سمًّا للفئران، فهل تستطيع أنْ تأخذ الدواء مِن غير طبيبٍ وصيدليٍّ؟ والصحابة رضي الله عنهم هل صاروا بالقرآن وحده، أم صاروا بالقرآن مع النبي ﷺ؟ وبعد النبي ﷺ قال: ((الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ)) ، العلماء بالله، ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر28]، العلماء الذين يعلِّمون الناس الخير، ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [ابراهيم:1]، وإذا كان الوارث لا يحمل هذه المواصفات فعليك أنْ تبحث عمَّن يحمل صفات الوراثة مع القرآن، وبذلك تصير الإنسان الفاضل، والإنسان الكامل، والمسلم الحقيقي، والمؤمنة الحقيقية، أمَّا لو قرأتَ القرآن مئة ألف ختمة فكما قال النبي ﷺ: ((رُبَّ تَالٍ يَتلُو القُرآنَ وَالقُرآنُ يَلعَنُهُ)) ، الناس الذين يقرؤون عن قوم لوط هل يفهمون أنَّ هذا الكلام موجَّهٌ لهم؟ وقد تكون أنتَ تعمل عملًا أكثر مِن عمل قوم لوط بعشرين مرة.
قال لهم نبيهم: “اعبدوا الله واتقوه” وقد لا تكون أنت عبدَه، ولا تتقيه بامتثال أوامره، واجتناب محارمه، فماذا استفدتَ مِن “اتقوا الله واعبدوه” التي قالها نوح عليه السَّلام لقومه؟
بعض أحوال المسلمين اليوم:
إن المسلمين اليوم في البرد والعراء في فلسطين وفي بنغلاديش وفي كشمير، ويحتاجون للمساعدات الخارجية.. والمسلمون في زمن الخلفاء الراشدين هل كانوا يحتاجون إلى معونة مِن الأعداء أو مِن الغُرباء أو مِن البُعداء؟ صرنا الآن موضِع رحمة البُعداء والأعداء والغرباء، ولكن هل نفهم ونعي هذا؟ ها نحن قد أكلنا السمك وشربنا اللبن ودخلنا الحمام يوم الأربعاء، وماذا صار بعد ذلك؟ [إشارة إلى قصة يقصها الشيخ كثيرًا في دروسه، وهي أن رجلًا سمع أن مَن يأكل السمك ويشرب اللبن يوم الأربعاء ويدخل الحمام يُصاب بالجنون، فأراد أن يُثبت للناس عدم صحة هذه المقولة، فأكل سمكًا وشرب لبنًا ودخل الحمام يوم الأربعاء، ثم خرج بدون ملابس، وصار يمشي بين الناس ويقول: ها أنا قد أكلتُ السمك وشربتُ اللبن واليوم الأربعاء ودخلتُ الحمام، والحمد لله لم أُجَن، وما أصابني أيُّ شيء] فهذه هي المصيبة.. أن تكون عورته مكشوفة من الأمام والخلف، ثم يسأل: هل حدث شيء؟ ولا يرى أن هناك أي مصيبة.. نسأل الله أن يحمينا مِن عمى القلوب، وأن يحمينا مِن جهل القلوب، ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ [الأعراف:179]، ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج:46].
﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر:32]، فهل مِن متذكِّر؟ هل مِن مُتَّعظ؟ ومَن المتَّعِظ؟ المتَّعِظ هو مَن ﴿كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق:37]، يقرأ بالتفكُّر وبالتدبُّر وبالمعلِّم وبالمربِّي وبالمرشِد، المسلمون اليوم هل عندهم تدبُّر؟ هل عندهم مُرشِد؟ هل عندهم مُعلِّم؟ هل عندهم وراث نبوي؟ المسلمون ضائعون في الصحراء.. المجنون هل يظن نفسه مجنونًا؟ أو هل يُدرك جنونه؟ بل يرى نفسه عاقلًا، والحشاش هل يُدرك بلاءه؟ مرة كان حشاش يمشي في منتصف الليل أمام الجامع لما كان هناك حراس ليليون، وكان الجوّ ماطراً، فوقف أمام غرفة الحراسة، ولم يتجاوزها، فقال له الحارس: لماذا لا تمشي؟ قال له: كيف أمشي وأنت تسد الطريق بأنفك؟ هل يستطيع الحارس أن يسدّ الطريق بأنفه؟ لكن الحشاش كان حقيقةً يرى -وحسب عقله- أن الحارس كان يسدُّ الطريق بأنفه.. [يروي الشيخ هذه القصة الواقعية وهو يضحك] نسأل الله أن يحمينا مِن حشيش الشقاء والخذلان، لأن حشيش التدخين يصحو منه الحشاش بعد ساعة أو ساعتين، ولكن حشيش الشقاء والخذلان ربما يستمرُّ إلى يوم القيامة، ولا يوقفه إلا عذاب الله إذا نزل، أو ملك الموت إذا أتى لقبض روحه، أو ملائكة العذاب لتأخذه في السلاسل بالأعناق والنيران: ﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ [الأنفال:50].
مرض القلب مهلك لصاحبه:
﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ﴾ [القمر:32] لقد جعلنا القرآن مفهومًا غير مُعقَّد، وليس بلغة غير عربية، ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [يوسف:2] لا تكفي الكتابة واللفظ، كذلك لا يكفي الطعام الطيب؛ كدجاج مشوي ومطبوخ ومحشو، لكن نحتاج إلى معدة وصحة قوية، فإذا أحضرتَ لإنسان مريض كلَّ أنواع الطعام فإنه يقول: لا أستطيع أنْ آكل، ولا أشتهيه.. وإذا أكله فإن معدته ترفضه ويتقيَّأه، ومرض القلب هو المرض الذي يُهلك صاحبه.. نسأل الله أن يحمينا مِن مرض القلوب، وأن يوفِّقنا لنلتزم أطباء القلوب حتى نظلَّ في عافيةٍ وصحةٍ في دنيانا وفي أُخرانا.
﴿وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ﴾ [القمر:41] هل أهلك الله فرعون فورًا مِن غير إنذارات؟ بل أرسل له تسع معجزات من العصا وغيرها: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ﴾ [الأعراف:133] رأوا المعجزات ورأوا الآيات ورأوا فصاحة الأنبياء.. أبو جهل لم يستفد شيئًا من نبيِّنا ﷺ، فهل العلة من النبي ﷺ أم من أبي جهل؟ وأبو لهب وهو عمُّ النبي ﷺ، والعم أبٌ، ولكن نسأل الله العافية، كان إذا جلس النبي ﷺ للدعوة إلى الله كان أبو لهب يقول: لا تصدِّقوه، فإنه مجنونٌ يهذي، ومَن هو؟ هو عم النبي ﷺ، وكذلك آزر أبو النبي إبراهيم عليه السَّلام، وابن نوح قال الله فيه: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾[هود:46]، وزوجة نوح ولوط قال عنهما: ﴿كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا﴾ [التحريم:10] ليست الخيانة الزوجية، بل الخيانة الإيمانية، هؤلاء عذابهم مضاعَف، لأنه بحسب القُرب يجب أن يكون إيمانهم أقوى، واستجابتهم أسرع، ولكن نسأل الله أن يحمينا مِن الشقاء، ومِن العمى، ومِن موت القلوب.
لكل زمان فرعون:
﴿وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ﴾ [القمر:41] النُّذُرُ، وليس إنذارًا واحدًا، بل إنذارات، ﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا﴾ [القمر:42] ولم يفهموا كل الدلائل وكل البراهين وكل الأشياء التي يفهمها حتى الجدار.. والآن المسلمون هل يفهمون القرآن؟
قال تعالى: ﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا﴾ [القمر:42] مَن؟ فرعون وآل فرعون وأنصار فرعون وجيش فرعون، قال: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ﴾ [القمر:42] أخذة ماذا؟ هل أخذة دعوة إلى طعام؟ هل أخذة عرس ووليمة؟ بل أخذة هلاك وفناء وغضب وانتقام: ﴿أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر:42]، هذه الآيات ليست لفرعون، وليست لآل فرعون، أنتَ عليك أن لا تكون فرعونًا، وأن لا تكون مِن آل فرعون، ففرعون هو كل ظالم وكل معتدٍ وكل مَن يتجاوز حدود الله على مخلوقات الله، فإذا كنتَ الظالم المعتدي فأنتَ فرعون، وإذا كنتَ مِن أنصاره فأنتَ مِن آل فرعون، وإذا كانت الآية لفرعون وجماعته فلا حاجة لها الآن، فهم قد ذهبوا: ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر:46] وصلوا لعقوبتهم، والآن هذه الآيات لي ولك مِن زمان النبي ﷺ إلى أن تقوم الساعة، فهل أنتَ مِن جماعة موسى عليه السَّلام أم مِن جماعة فرعون؟
كُلُّ عَصْرٍ فِرعُونُ فِيهِ وَمُوسَى وَأَبو الجَهلِ في الوَرَى وَمُحَمَّدُ
فهل أنتَ في هذا الزمان مِن جماعة نائب سيدنا محمد ﷺ أم مِن جماعة أبي جهل؟ وهم كل مَن وقف في طريق الدعوة، وفي طريق الإرشاد، وفي طريق الإسلام، وفي طريق العِلم والتعليم والتربية.. فالناس اليوم هذا أبو جهل، وهذا فرعون، وهذا مِن ثمود قوم صالح عليه السَّلام، وهذا مِن عاد قوم هود عليه السَّلام، وهذا مِن قوم نوح عليه السَّلام، ثم سيهلك بالطوفان، أو بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، أو بصيحة مِن السماء، أو بغرقٍ في البحر كما أغرق الله تعالى فرعون، أو بقطع الرأس كما قطع الله عزَّ وجلَّ رأس أبي جهل، وأُحضِر رأسه إلى النبي ﷺ وألقي أمامه كالبطيخة، فلمَّا رآه سجد سجدة الشكر، وقال: ((الحَمدُ للهِ الذِي أَهلَكَ فِرعَونَ هَذِهِ الأُمَّةِ)) ، فرعون هذه الأمة في زمان النبي ﷺ، لكن بعد زمان النبي ﷺ كل زمان له فرعون وله آل فرعون.
﴿وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ﴾ [القمر:41] هناك فرعون، وهناك آل فرعون، وأنصار فرعون، وجماعة فرعون، والمظاهِرون المساعِدون له، ولو كان فرعون وحده لكان موسى عليه السَّلام قضى عليه، لكن هناك آل فرعون، وجيش فرعون، وأنصار فرعون، وقد أهلك الله تعالى الكُلَّ: ﴿وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر:41-42] فأخذناه أم “فأخذناهم”؟ أخذناهم يعني فرعون وأنصاره وجنوده وأعوانه، لكن هل كان هذا في يوم واحد؟ يقال: لَمَّا دعا عليهم سيدنا موسى وهارون عليهما السَّلام قال تعالى: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا﴾ [يونس:89] كان بين استجابة الدعوة وبين هلاكهم أربعون سنة، فكم الله حليم!
مرة اعتدى شخص على جحا وآذاه، فرفع يديه ودعا عليه، وقال: أسأل الله أن يكسر رجلك بعد أربعين سنة، فضحك الناس، لماذا هذا الانتظار وقد تعدَّى عليك؟ فقال لهم: أنتم لا دخل لكم، لا دخل لكم بيني وبين ربي.. ومضى نصف دقيقة، فداس الظالم على قشرة موز، فوقع وكُسرتْ رجله، فقالوا: يا جحا أنتَ دعوتَ عليه أن تُكسر رجله بعد أربعين سنة، لكن الآن كُسرتْ رجله؟ قال لهم: لا، هذه ليست دعوتي، أحدهم دعا عليه مِن قَبل، وبسببه كُسرت رجله، وبسببي ستُكسَر رجلُه الثانية بعد أربعين سنة.
لكلِّ أُمَّةٍ أجل، ولكلِّ أجل كتاب:
ما هو الإيمان؟ مِن شُعب الإيمان مخافة الله تعالى، ومِن شُعب الإيمان خشية الله، ومِن شُعب الإيمان أن لا نأمن مكر الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف:99] والآن ترى نفسك شبابًا ورياضة وعضلاتٍ ومالًا وجاهًا وحُكمًا وسلطانًا.. شخص مِن إخوان شيخنا رحمه الله وصل إلى رتبة عسكرية في زمن تركيا، وصل إلى رتبة عميد أو جنرال، ولَمَّا ذهبت تركيا بقي على راتب خمس ليرات سورية، فكان في بعض الأوقات يشكو لشيخنا الفقر، فيقول له شيخنا: الحقُّ عليك، لأنك عندما كنتَ تذهب إلى القرية وتنزل عندهم ماذا كنتَ تطلب منهم؟ قال: كنتُ أطلب منهم الخراف والعجول وكذا.. قال له: لو أنك خبَّأتَ عددًا مِن الخراف والعجول لِكِبَرك لَمَا كنتَ ستجوع، [هنا يضحك الشيخ قليلاً] لكن أنتَ أخذتها، وظننتَ أن العُمر يومًا واحدًا، والعمر ليس يومًا واحدًا.. وإذا عملتَ ذنبًا ولم يؤاخذك الله عزَّ وجلَّ فليس معناه أن الله مات، وليس معناه أن الله نائم ولم يشعر بك، وليس معناه أن الله مشغول وليس فارغاً، لكن لكل أمة أجل، ولكل أجل كتاب: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف:34].
قوانين الله تسري على الناس في كل زمان:
﴿وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ﴾ [القمر:41] هذا الكلام موجَّه لِمَن؟ هل هو لفرعون وآل فرعون؟ لا، هو موجَّه الآن لنا، وفي زمان النبي ﷺ كان موجَّهًا لكفَّار قريشٍ، فهل أنتَ الآن فرعون الذي تُخرِّب الدِّين أو تُعاون الذي يُخرِّب الدِّين؟ فلا تغترَّ بحِلم الله عزَّ وجلَّ عنك.. عندما يأتي الوقت كما قال سبحانه: ﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر:42] أخذَ عزيزٍ لا يُقهَر، مُقتَدِرٍ لا يَعْجَز.
وبعد أن قصَّ الله عزَّ وجلَّ القصص التفت إلى قريش فقال: ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ﴾ [القمر:43] هل أنتم أفضل من كفار نوح وكفار قوم هود وكفار قوم صالح وكفار موسى -فرعون وجنوده- وكفار قوم لوط؟ هل أولئك يهلكهم الله عزَّ وجلَّ على كفرهم ومُعاداة أنبيائهم ورفضهم لرسالة السماء، وأنتم لكم ميزة؟ هل هم يهلكهم وينتقم منهم، وأنتم لكم امتياز واختصاص ولن يُعاقبكم الله؟ ﴿أَكُفَّارُكُمْ﴾ الموجودون في زمانكم.. وهل الذين يكفرون في زماننا اليوم أفضل مِن قوم فرعون؟ هل الله يهلك أولئك، وهؤلاء لهم امتياز فهم مقرَّبون مِن الله؟ ﴿أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ﴾ أي هل أخذتم براءةً مِن كتابٍ سماوي أن تكفروا وتلحدوا وتُفسدوا في الأرض وتُخرِّبوا وتُدمِّروا وتعتدوا؟ هل أُنزل عليكم صكٌّ مِن السماء مِن طرف الله عزَّ وجلَّ أن اعملوا ما شئتم فأنتم معفوٌّ عنكم؟ ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ﴾ لا، الاثنان بالكُفر سواء، ﴿أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ﴾ الزُّبر الكتب السماوية، فهل عندكم براءة مِن السماء بأنْ تعملوا ما شئتم وأنتم معفوٌّ عنكم؟
﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ﴾ [القمر:44] نحن أقوياء متَّحدون ضد النبي، ضد هذا النبي الضعيف والذين حوله من العبيد والأطفال الصغار، ﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [القمر44-45]، الدُّبُر: الأدبار.. لَمَّا نزلتْ هذه الآية قال سيدنا عمر رضي الله عنه: ما كنتُ أعلمها ولا أفهمها، فقد كانوا مضطهَدِين ومُعذَّبِين ومُطارَدِين ومُشرَّدِين، لا يجرؤون أنْ يظهروا بصلاتهم، فكيف سيُهزم الجمع ويولون الدبر؟ فلمَّا كانت معركة بدر، وبدأ الهجوم دخل النبي ﷺ قُبَّته، وكان الكفار ألفًا، والصحابة ثلاث مئة وثلاثة عشر، ولم يخرجوا بسلاح المعارك، بل بسلاح المسافر كالسيف وما شابه، أي لا يوجد تكافؤ لا في العَدد ولا في السلاح، وبدأتِ المعركة، فدخل النبي ﷺ قُبَّته، وبعد صلاة ركعتين رفع يديه إلى السماء حتى ظهر بياض إبطيه وهو يدعو الله عزَّ وجلَّ قائلًا: ((اللَّهُمَّ أُنشِدُكَ عَهدَكَ وَوَعدَكَ)) ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47]، النبي ﷺ والمؤمنون والذين معه هل فيهم تارك صلاة؟ هل فيهم شارب خمر؟ هل فيهم أحد مِن قوم لوط؟ هل فيهم أحد يسب الدِّين؟ هل فيهم أحد عاقٌّ لوالديه؟ هل فيهم مانع زكاة؟ هل فيهم شارب خمر؟ هل فيهم آكل ربا؟ كلُّهم خير الناس كما قال رسول الله ﷺ: ((خَيرُ القُرونِ قَرْنِـي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)) ، خير القرون وخير العصور، ما العصر؟ ليس طلوع الشمس وشروقها، بل الفضل لجيلها وللموجودين في ذلك الزمن.
((اللَّهُمَّ أُنشِدُكَ عَهدَكَ وَوَعدَكَ، اللَّهُمَّ إنْ شِئتَ لَن تُعبَدَ بَعدَ اليَومِ في الأَرضِ أَبَدًا، اللَّهُمَّ إنْ تُهلِكْ هَذِهِ العِصابَةَ فَلَنْ تُعبَدَ في الأَرضِ أَبَدًا))، قال: فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده، وهو رافعها وقال له: حسبك يا رسول الله! يكفي، لقد ألححتَ على ربك.. رضي الله عنه وأرضاه، والظاهر أن النبي ﷺ أخذ الجواب؛ جواب البرقية وجواب الهاتف والتلكس، قال: فخرج يَثِبُ في دِرعه وهو يقول: ((سَيُهزَمُ الجَمعُ)) جاء الأمر الإلهي بالنصر الربَّاني: ﴿إذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بلى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران:124-125]، حتى لو حدث هجوم مُباغت وأنتم مع الله عزَّ وجلَّ لا تخافوا، لكن الله لا ينصركم بلا أسباب، وبلا قانون الحكمة، فالإسلام يطلب الأسباب مع الارتباط بالله عزَّ وجلَّ طاعةً وإيمانًا وامتثالًا وثقةً ويقينًا.. أسباب ومُسبَّبات.. “اجعل مع الدعاء قطرانًا” .
النصر حليف من ينصر دين الله ويقيم شرائعه:
﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [القمر:44-45] كان بين نزول هذه الآية وبين معركة بدر سبع سنوات، بين الوعد وتنفيذ الوعد، بين التهديد وتنفيذ التهديد، بين الإنذار وتنفيذه سبع سنوات، فأطفال العقول أو مَن لا عقول لهم يسمعون كلام الله ولا يُبالون، يريدون أن يروا الآن.. يُقال: “الهوا لا يُصَدِّق حتى يرى” [مثل عامي شائع بين الناس.. وكلمة “الهوا” حرَّفها الشيخ قليلاً حتى لا يأتي بالكلمة التي يقولها الناس، لأنها ليست لطيفة، وفيها يكون حرف الخاء بدل الهاء والراء بدل الواو] نسأل الله أن يحمينا.. ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ [الروم:6]، ولَمَّا دخل النبي ﷺ مكة فاتحًا قال: ((الحَمدُ للهِ وَحدَهُ، نَصَرَ عَبدَهُ، وَأَعَزَّ جُندَهُ، وَهَزَمَ الأَحزَابَ وَحدَهُ، لَا شَيءَ قَبلَهُ وَلَا شَيءَ بَعدَهُ)) ، واليوم يصعد الخطيب على المنبر ويقول: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47]، يعني نحن يجب أن ننتصر، وهل نحن مؤمنون أم كافرون؟ النبي ﷺ مِن أجل صلاة الجماعة قال: ((لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ فِتْيَتِي أَنْ يَجْمَعُوا حُزَمَ الحَطَبِ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامُ، ثُمَّ أُحَرِّقَ عَلَى أَقْوَامٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ)) ، فكيف بالذي لا يُصلِّي أبدًا؟ كيف بالذي هو جاحدٌ للصلاة وغير مؤمن بها؟ كيف بالذي يهزأ بالصلاة والمصلِّين؟ كيف بالذي يمنع الزكاة، وإذا رأى أحدًا يُزكِّي يقول له: أمجنون أنت؟ كيف بمَن إذا رأى مَن يفعلون المعاصي مثل الجبال ومثل أمواج البحار يُؤاكلهم ويُشاربهم ويُناكحهم ولا يتمعَّر وجهه؟ أقلُّ الدرجات أن لا نكون شركاء، أيُّ مؤمنين سينصرهم الله؟ هل الله طفل صغير؟ قانون الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ﴾ [محمد:7] هل يعني أن الله في معركة ويحتاج مددًا؟ لا، بل المعنى إنْ تنصروا دِينه، إن تُقيموا شرائعه، إن تنصروا دِينه على أهوائكم، وتنصروا توبتَكم على معاصيكم، وإيمانَكم على فسقِكم ﴿يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد:7]، يجعل النصر ثابتًا غير زائل.
﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ﴾ [القمر:44] هذا هو الغرور؛ غرور بالله! يظنون أن الله غير موجود، ويظنون أنه لا يوجد غير محمد وحوله بعض الرجال مِن الدراويش المساكين، فقال لهم الله: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ﴾ [القمر:45] الذين يغترُّون بجمعِهم وقِلَّتك، بكثرتهم وقلَّة عددك، وبقوتهم وضعف المؤمنين، ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ هذا في الدنيا، وفي الآخرة ماذا يوجد؟ قال: ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ﴾ [القمر:46] الساعة القيامة، وهو تعني العذابَ عذابَ القيامة، وعذاب جهنم، ﴿وَالسَّاعَةُ أَدْهَى﴾ [القمر:46] الداهية هي الأمر الفظيع الذي لا يُستطاع ردُّه ولا الخلاص منه، فهزيمتهم داهية، قال: أمَّا عذاب يوم القيامة فهو أدهى، وهل قال: وأحلى، أو مُرٌّ؟ بل قال: ﴿وَأَمَرُّ﴾، أَمرُّ مِن هزائمهم ومِن قتلهم، فقد قُتل أشرافهم وزُعماؤهم وعُظماؤهم، والنبي ﷺ أَمَر برمي جثثهم في بئرٍ جافَّة، ووقف على طرف البئر وقال لهم: ((هَل وَجَدتُم مَا وَعَدَكم رَبُّكم حَقًّا؟ فإنِّي قَد وَجَدتُ ما وَعَدَني رَبِّي حَقًّا؟)) قالوا: يا رسول الله أتُكلِّم أجسادًا لا أرواح فيها؟ قال: ((ما أَنتُم بِأَسمَعَ مِنهُم لِمَا أَقُولُ، غَيرَ أَنَّهُم لَا يَستَطِيعُونَ رَدَّ الجَوابِ)) ، فجهاز سمعكم لا يستطيع التقاط موجة أصواتهم.
ترك الفرائض وانتهاك المحارم إجرام في حقِّ دِين الله:
بعد أن ذكر الله عزَّ وجلَّ قصص الأمم التي كذَّبتْ أنبياءها، ورفضتْ شرائع ربها، وذكر ما أنزل الله بها مِن خزيٍ ودمارٍ وعذاب قال: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ﴾ [القمر:47] في الماضي قَبل النبي ﷺ، وفي الحاضر في زمن النبي ﷺ، وفي المستقبل بعد النبي ﷺ، وإلى قيام الساعة.
﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ﴾ [القمر:47] الذين يرتكبون الجرائم بترك فرائض الله، وبانتهاك محارم الله، وبالجرأة على معاصي الله، وبمؤازرة أعداء الله -وهذا كله إجرام في حق دِين الله عزَّ وجلَّ والإسلام- قال: ﴿فِي ضَلَالٍ﴾ هم ضائعون عن طريق السعادة، وعن طريق العزِّ والمجد، ﴿وَسُعُرٍ﴾ السُعر تارةً تُفسَّر بالسعير والنيران، وتارةً تُفسَّر بالجنون وفَقْد العقل.. والضلال هنا قلة العقل وفقد العقل الذي يُدرِك الحقائق بِوَاقِعِها، فما معنى السُّعُر هنا؟ يعني هم في الدنيا في متاهةٍ وضياعٍ عن الصراط المستقيم، وفي الآخرة في نيران جهنم، وهل هذا شيء جيد؟ هل هذا ربح؟ هل هذا عزٌّ؟ هل هذا مجد؟ هل هذا نجاح؟ هل هذا توفيق؟
لكن.. واللهِ إنَّ الناس بخير، الناس مِن ساحل أمريكا الغربي إلى اليابان وما بينهما.. واللهِ ما رأيتُ إنسانًا لا خيرَ فيه، فالأراضي كلُّها مُنبِتةٌ إلا النادر مِن الأرض السبخة التي قال الله عنهم: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة:6]، أمَّا الكثرة الكاثرة فكلها قابلةٌ للإنبات، ولكنْ لو وُجِد المُزَارِع والبِذار والمطر، والآن البذار موجودٌ، والمطر موجودٌ، لكن المُزَارِع غير موجود، فالحَبُّ يأكله الدود، والأرض تبقى بُورًا، والسبب فَقْد المزارِع: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ [الرعد:41].
ضرورة التأدُّب بآداب الروحانيين والتخلُّق بأخلاق الصِّدِّيقين:
أعظم ما يَحدث في الأرض فَقْدُ العلماء، وقد قال النبي ﷺ: ((إنَّ اللهَ لا يَقبضُ العِلمَ انتِزاعًا يَنتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ الرِّجالِ)) ، قال: صدور الرجال، أين جُعل العِلم؟ العلم ليس في الرأس، فالذي يُقرأ في الكتب يكون في الرأس وفي الفكر وفي الدماغ وفي الذاكرة، لكن قال عن العِلم الحقيقي: إنَّه الذي في الصدور، وهذا هو العِلم الذي يحتاج إلى ذِكر، ويحتاج إلى توبة وإنابة، وإلى صحبة الشيخ العارف بالله، الوارث لرسول الله ﷺ، وإلَّا فإنك لا تستفيد حتى لو قرأتَ كتب الدنيا مِن أولها إلى آخرها، لأن كل العلوم موجودة في الورق، كما أن المُسَجِّل [آلة التسجيل] يُسجِّل كلَّ هذا الكلام، لكن هل يَفهم منه شيئًا؟ فالقرآن موجودٌ، لكن المهم أنْ يكون القرآن هنا [في القلب]، قال: “ليس العِلم في السماء فتحتاج إلى عروجٍ لتصل إليه، ولا في أعماق البحار تغوص لتصل إليه، ولا في أعماق الأرض لِيَخْرُج إلى سطحها، إنما العِلم مخبوءٌ في الصدور، ومدفونٌ في القلوب”، ثم يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((فَتَأَدَّبُوا بِآدابِ الرُّوحَانِيِّينَ، وَتَخَلَّقُوا بِأَخلاقِ الصِّدِّيقِينَ، أُنزِلْ عَلَيكُمُ العِلْمَ فَأَغمُرْكُمْ بِهِ)) ، ويكون مُحيطًا بكم مِن كل الجهات، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة:282]، ((مَنْ عَمِلَ بما عَلِمَ أَورثَهُ اللَّهُ عِلمَ ما لَم يعلَمْ)) .
هذه هي علوم الأنبياء وعلوم الأولياء، وبهذا النور وبهذا العِلم يحيا العِلم الظاهر، أما العِلم الذي على ظواهر الجسم وأعمال الأعضاء، مثل الركوع والسجود والتحيات، إذا لا يوجد فيها روح مِن القلب لا تفهمها، فركوعك لا تفهمه، وما هي إلا حركات جسدية، وحركات لسانية مِن غير أنْ يكون لها أثرٌ.. قال النبي ﷺ: ((شَيَّبَتنِي هُودٌ وأخواتُها)) ، ولا تُشيِّب إلا إذا كان للإنسان قلب حي، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق:37].
﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ [القمر:48] ذوقو: أول الدخول مثل من يذوق شيئاً، ويذوقه عادة باللَّحْسِ بطرف الإصبع، أمَّا عندما يصير في الأسفل فهذا هو المسُّ.
كل شي خُلِق بقدر:
﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:49] خَلَق السماوات بقدر، وصَنَع الأرض بقدر، وصَنَع الإنسان بقدر، وصَنَع شريعته بقدر، فكلها قائمة على الحكمة، وكلها قائمة على الحقائق، وكلها قائمة على العِلم، ومِن أجل أنْ يكون الإنسان سعيدًا، والعائلة سعيدةً، والمجتمع سعيدًا، والدولة سعيدةً، والعالَم سعيدًا كله، لذلك فقد أُرسل النبي ﷺ إلى الناس كافة: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف:158].. والإعلام اليوم يصل إلى مشارق الأرض ومغاربها، والقرآن يصل إلى مشارق الأرض ومغاربها، لكنه يحتاج إلى رجال، والقرآن وحده لا يكفي، ولو كان يكفي لَمَا كان يلزم وجود النبي ﷺ.. النبي ﷺ مات ولم يُجمَع القرآن، فقد كان مكتوبًا على الحجارة وعلى العظم، والآن القرآن مجموعٌ بأحسن طباعة، ويتباهون بالطباعة الجميلة المذهَّبة، وكذا، لكن هل يفكِّرون بالمعاني وبإحياء القرآن بالعمل؟
﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:49] عذابنا بقدر، وشرائعنا كلها بقدر، وعلى نصاب كامل يُحقِّق السعادة للإنسان في الدنيا والآخرة، ووَعْدنا بقدر، ووعيدنا بقدر، وثوابنا بقدر، والعقوبة بقدر.. وعندما نُنفِّذ الشيء الذي نُريده: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ﴾ [القمر:50] كلمةٌ واحدةٌ: “كُن”، ﴿كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ عندما يريد الله تعالى تنفيذ أَمْره وقَدَره الذي قدَّره ورتَّبه وكتب الإضبارة فيه والبلاغ والتنفيذ فهو ﴿كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾.
الذلة والمسكنة عاقبة من ترك شرع الله:
﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ﴾ [القمر:51] أشياعكم يعني أشباهكم مِن قوم نوح إلى قوم لوط إلى قوم صالح إلى قوم هود، فيا قريش ماذا تنتظرون؟ هل فهمت قريش هذا الكلام؟ وأنتم هل تفهمون؟ إذا فهمتم فإنّ الله سيجعل من كل واحد منكم أُمَّةً أو جماعةً، لكن هذه تحتاج إلى ذِكر، فالسيارة “كاديلاك” بلا بنزين هل لها فائدة؟ لا، بل الحمار أحسن منها، [سيارة كاديلاك: كانت وقت هذا الدرس حديثة وفارهة] والدراجة العادية أحسن منها، وكذلك الطائرة “بوينغ” التي تتسع لخمس مائة راكب، لكن لا يوجد فيها وقود، أو يوجد وقود ولكن دون طيار، فالطُنْبُر أحسن منها، أليس كذلك؟ [الطُنْبُر: العربة التي يجرها حيوان كالحمار أو البغل].
إحدى مُريدات شيخنا رأوها بعد وفاتها -رحمها الله- اسمها أم شاكر، كانت حمامة المسجد، باعتْ دُنياها بآخرتها، وباعتْ كل شيء في الدنيا في محبة الله عزَّ وجلَّ، رآها بعضهم في منامه ووجهها مثل الشمس، قال لها: مِن أين هذا يا أم شاكر؟ قال: فأخرجت له المَسبَحة مِن جيبها وقالت له: مِن هذه.. الأمر يحتاج إلى ذِكر، ولا يوجد شيء أَلَحَّ اللهُ عليه وكرَّره وأكَّد عليه مِثل الذِّكر، ولماذا نسميه نقشبنديًّا وشاذليًّا وقادريًّا ورفاعيًّا؟ قل: قرآن وانتهت المسالة.. وهل القادري أو النقشبندي يُخالف القرآن؟ إذا خالفوا القرآن فنحن نُخالفهم.
﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ﴾ [القمر:51] فإذا كنتم مِن أشياعهم فسنهلككم كما أهلكناهم، وسنذلُّكم مثلما أذللناهم، وسنسلِّط عليكم العدو كما سلَّطنا عليهم العدو: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ [البقرة:61] الذلة تعني تسلُّط العدو، والمسكنة تعني الفقر، والآن المسلمون بماذا مُضْرَبُون؟ بالاثنتين، هل العالَم الإسلامي فقير أم غني؟ فقير، وإذا كان عند بعضهم مال فالمال لا يتحقَّق منه الهدف السامي الذي يتحقَّق في الدول الغنية والقوية.. والذِّلَّة تسلُّط العدو.
الآن صنعوا هيئة الأمم وهو كذب ودجل، ومجلس الأمن هو “فيتو”.. مِن قَبل كانت الشيوعية والرأسمالية، والآن بقيت الرأسمالية، وفي قضية ليبيا فإن المتهم شخصان، وقد طلبوا أنْ يُحيلوهم إلى محكمة العدل الدولية، فلو كانوا واثقين مِن إدانتهم، ولو كانوا واثقين مِن محكمة العدل لحَوَّلوهم، فإذا كان الذين صنعوا محكمة العدل ليس لديهم ثقة بها، فلماذا صنعوها؟ صنعوها لمصالحهم، فإذا عرفوا أن مصالحهم غيرُ مؤمَّنة لا يَرضون بمحكمة العدل، وإلَّا لماذا لم ينفِّذوا قرارات مجلس الأمن بشأن فلسطين بالقوة العسكرية؟ وفي بغداد مع أن صدام ليس ظالِمًا ومُعتديًا، بل هو أكثر مِن هذا بكثير، لكن إذا قابلنا قضيته وعدوانه بقضية إسرائيل لوجدنا الازدواجية والقانون فيه “ابن السيدة وابن الجارية” [مَثَل يقال عن العنصرية في التفريق بين اثنين في الحقوق دون سبب]، وهذا ظلم واضح.. وهذه الأمم مساكين.. وهذه الشعوب التي يُسمُّونها النائمة أو النامية، وفي الأصح أن يكون اسمها النائمة، وهم يضحكون عليها باسم النامية، وندعو الله أن لا تصير الميتة.
﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ﴾ [القمر:51] أي إذا سلكتم مسلكهم أيضًا فسنُهلككم، ونحن نكون مِن أُمَّة محمد ﷺ إذا استجبنا لقرآن الله وسنة محمد ﷺ، أما إذا استجبنا لقوم لوط وقوم هود وقوم صالح وقوم فرعون فإن الله سيُهلكنا كما أهلكهم، فاليهود لَمَّا كفروا بالله عزَّ وجلَّ سلَّط عليهم الفرس، وسلَّط عليهم الرومان، فشتَّتوهم في شتى بقاع الأرض، وإخواننا في فلسطين الآن أليس هذا ما يحدث لهم؟ فإذا نظرنا ما هي أعمالنا نحن العرب والمسلمين.. ألسنا في كشمير والصومال يقتل بعضنا بعضًا، إنها جاهلية، لكنها جاهلية بأسلحة فتَّاكة، وأين القرآن؟ ﴿اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان:30] والسبب أنه لا يوجد شيخ.. وكُلِّية الدعوة وكلية الشريعة والأزهر إذا لا يوجد فيها تربية، ولا يوجد تزكية، ولا يوجد قلب، ولا يوجد نور فكلُّها: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾ [الجمعة:5] قرؤوا التوراة بألسنتهم وذاكرتهم، ثم لم يحملوا أنوارها في قلوبهم ووجدانهم، ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5]، ما الأسفار؟ القرآن أجزاء، والتوراة أسفار، كل مقدار منه يسمونه سفرًا، فالحمار إذا كان حاملًا للقرآن بسُوَره والتوراة بأسفارها هل يستفيد منها عِلمًا أو حكمةً أو تزكيةً؟
أعمال الإنسان كلها مسجلة عليه وسيحاسب عليها:
﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ﴾ [القمر:52] كل شيء يفعلونه مُسجَّل عليهم، أين؟ في الزُّبر، في صحائف الملائكة التي تُرفَع إلى الله عزَّ وجلَّ، كيف ستُرفع أعمالك اليوم؟ تسوِّد الوجه، وكيف هي في اليوم الثاني والثالث والرابع والخامس وما بعدهم؟ والله يُرسل لك إنذاراتٍ في المذياع والقرآن والمصحف والدرس وغيرها كثير، وماذا بعد ذلك؟ ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ [القمر:53] مِن أعمالك الصغيرة، ومِن الذنوب الكبيرة، والذنوبُ كلُّها مُسطَّرةٌ عليك، فسارع بالتوبة قَبل أنْ يُسارع الله عزَّ وجلَّ إليك بالعقوبة، ولا تغترَّ بحِلم الله، فالله حَلِم على قوم نوح، وحَلِم على قوم صالح، وعلى قوم هود، وعلى أبي جهل، لكن ماذا بعد ذلك؟ فالحِلم له حدود.
مرتبة المتقين يوم القيامة:
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾ [القمر:54] ما النَّهَر؟ يعني الأنهار: ﴿فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ [محمد:15]، والله يُخاطبنا بِلُغة الدنيا، لكن أنهار الجنة غير أنهار الدنيا.
﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾ [القمر:55] في مقعد الرضى، في مقعد الإقبال، في مقعد المحبوبية إلى الله عزَّ وجلَّ، في مقعد القُرب مِن الله عزَّ وجلَّ، ﴿عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾.. آيات الترغيب آيتان في آخر السورة، والسورة كلها في الترهيب والتحذير والتنبيه، يتَّعظ بها حتى السكران بسكرة الجهل وسكرة الغرور، كما قال ﷺ: ((غَشِيَتْكُمُ السَّكْرَتَانِ: سَكرَةُ الجَهلِ، وسَكرةُ حُبِّ العَيشِ، فَعِندَ ذَلِكَ لَا تَأمُرونَ بِمعرُوفٍ، وَلَا تَنهَونَ عَنِ مُنكَرٍ)) ، وقال في حديث آخر: ((لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُسَلِّطَنَّ اللَّهُ شِرَارَكُمْ عَلَى خِيَارِكُمْ، فَيَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ)) .
أنتَ مُكلَّفٌ ومحاسَب عن عائلتك وعن صديقك وعن أخيك وعن أمك وعن أبيك وعن جارك، فالأمر بالمعروف فرضٌ وركنٌ مِن أركان الدِّين، ففي بعض الأحاديث تُعدُّ أركان الإسلام خمسةٌ، وفي بعضها تعدُّ ثمانية، ويُعدُّ الأمر بالمعروف مِن أركان الإسلام، أين هذا الركن في أعمالنا؟ وإذا أمرتَ ونهيتَ فليكن ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة: ((لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)) .
والسَّاعي في الخير كفاعله، وفاعله في الجنة: ((الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ)) .
نسأل الله أن يجعلنا مِن أدواتِ الخير، ومِن الدعاة إلى الخير، ومِن الدعاة إلى الله عزَّ وجلَّ، ومِن العاملين بما ندعو.
حقٌّ عَلَى مَن يَصعَدُ المنبَر أنْ يَترُكَ الفَحشَاءَ وَالْمُنكَر
وَيَفعَلَ القَولَ الذي قَدْ قَالَهُ وَيُحسِنَ السِّرَّ الذي أَضمَر
وأنْ تكون نيَّته صحيحة.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعل سرائرنا خيرًا مِن علانيتنا، وأن يجعل علانيتنا صالحة.. اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.
التوبة سببٌ لقَبول الدعاء:
ادعوا لإخواننا في ليبيا، فهم يواجهون تسلُّط المتسلِّطِين مِن الدول الاستعمارية الكبرى، وهو تسلُّط جَورٍ واعتداءٍ، ليبيا تقول: حاكِموا المتَّهَمَين في المحكمة الدولية التي تعتبَر حيادية، لكنهم يريدون أن يحاكِم الغريم غريمه، فهل يجوز أنْ يكون الخصم هو الخصم والقاضي بآن واحد؟ هذا هو زمان القرن العشرين!
[تُعرَف هذه المسألة بقضية لوكربي، والتي سقطت فيها طائرة ركاب أمريكية عام 1988م فوق مدينة لوكربي، واتهمت أمريكا فيها ليبيا]
نسأل الله أن يردَّ المسلمين جميعًا إلى دِينه.. وعلينا أن نرجع إلى الله تعالى أفرادًا وجماعاتٍ، ذكورًا وإناثًا، حُكَّامًا وشعوبًا.. حَدَث قَحطٌ في زمان سيدنا موسى عليه السَّلام، فخرجوا للاستسقاء، وكلما دعَوا تظهر الشمس أكثر، وتشتدُّ حرارتها، ولا يوجد المطر، فقال سيدنا موسى عليه السَّلام: “يا ربي هؤلاء بنو إسرائيل، وأنا نبيُّهم ولا ينزل المطر؟ فأوحى الله إليه: كيف أستجيب لكم وأتقبَّل استسقاءكم وفيكم رجلٌ نمَّام؟”، يا لطيف! وأنتم الذين في المسجد أليس فيكم نمَّام؟ النَّمَّام الذي يَنقل الحديث ويكون صادقًا بخبره، فإذا شتم فلانٌ فلانًا بأمه أو بعِرضه، يقول له: فلانٌ شَتَمك بعِرضك وبأمك، هل هذا صادقٌ أم غير صادق؟ النَّمَّام هو الصادق في نقل الخبر الصحيح، ولكن ينتج منه الإفساد، وهذا المفسِد لو نَقَل الخبر بشكلٍ غيرِ صحيح، وقال له: لقد دعا لك، وهو يحبك ويتمنَّى أنْ يراك، وهو بقوله هذا كاذبٌ، فإنه يُكتب كذبه صِدْقًا، ولا يسمَّى كاذبًا، قال النبي ﷺ: ((لَم يَكذِبْ مَن نَمَى بَينَ اثنَينِ لِيُصلِحَ)) ، وفي لفظٍ: ((لَيْسَ بالْكَاذِبِ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَقَالَ خَيْرًا، أَوْ نَمَى خَيْرًا)) .. أَلَا يوجد فيكم مُغتاب؟ أليست الغِيبة مِن الذنوب؟ النبي ﷺ يقول: ((الغِيبَةُ أَشَدُّ مِنَ الزِّنا، قِيلَ: وكَيفَ؟ قال: الرَّجلُ يَزْنِي ثُم يَتوبُ، فَيَتُوبُ اللهُ عَلَيهِ، وإنَّ صاحِبَ الغِيبةِ لا يُغفَرُ لَهُ حَتَّى يَغفِرَ لَهُ صَاحِبُهُ)) ، أليس فيكم مانع زكاة؟ نسأل الله أنْ يحمَينا مِن المعاصي، وأن يوفِّقنا للطاعات.
جاهدوا أنفسكم! وقد كان النبي ﷺ يقول: ((رجَعْنا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ)) الجهاد مع العدو هو الجهاد الأصغر، ((إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ جِهادِ النَّفْسِ)) ، أنْ تغلب نفسك، وقال أيضًا: ((ليسَ الشَّدِيْدُ بالصُّرعَة)) الذي يَصرع الرجال ولا تصرعه الرجال، فالنبي ﷺ قال: هذه ليست رجولة، ((إنَّما الشَّدِيدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ)) .
نسأل الله أن يثبِّتنا بالقول الثابت، وأن يؤيِّدنا بمددٍ وبروحٍ مِن عنده.