يوم الجمعة وبعث العرب بالإسلام من الظلام النور:
فنحن الآن في تفسير بعض آيات من سورة الجمعة.. وكلمة الجمعة هذه أو يوم الجمعة هذا اسم من أسماء الإسلام، لم يكن قبل الإسلام، وكان هذا اليوم يُسمَّى في الجاهلية قبل الإسلام “يومَ العُروبة”، فالعروبة في الجاهلية والجمعة في الإسلام، وكانت عقول العرب وأرواحهم جاهليةً فأحياها الله بروح الإسلام، فالعروبة جسدٌ والإسلام روحها، فإذا تخلَّت العرب والعروبة عن الإسلام فهي كأجسادٍ لا أرواحَ فيها: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾[المنافقون:4] لكنهم قد فقدوا روحانيتهم فصاروا: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾.. أبو جهل عروبة، وأبو لهب عروبة، وأبو سفيان زعيم قريش قبل الإسلام عروبة، فماذا أفادوا العروبة؟ فلما دبَّت روح الإسلام في العرب والعروبة صاروا رحمةً للعالمين، وما وحَّدوا أنفسهم فقط، بل وحَّدوا معهم مئات الشعوب وعشراتها، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وكانوا البَعْثِيِّين؛ حيث بعثوا العلوم المدفونة في طيِّ النسيان والإهمال، وبعثوا العقول من قبور خُرافاتها وباطلِها وتخلُّفها، وبعثوا الِهمم والعزائم من رَقْدَتِها حتى صاروا كما قال الشاعر
لهم هِمَمٌ لا منتهى لكِبارِها وأصغرُ همَّتِهم أسمى من الدَّهر
فالله عزَّ وجلّ أرسلَ سيدنا مُحمَّداً ﷺ باعثاً وليُحقق البعثَ، والبعثُ هو نقلةٌ من الجهل إلى العلم، فبعثهم الله ليعلِّمهم الكتاب وعلوم القرآن، وبعثَهم من الخُرافات والأوهام إلى الحكمة، وهي العقل في قمة كمالِه ونُضجِه: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [الجمعة:2] والبعثُ نقلةٌ من رذائلِ الأخلاق إلى فضائِلها ومكارِمها كما في قوله تعالى: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ﴾ البعثُ الذي بعثَ الله محمَّداً ﷺ وجعلَ المسلمين بَعْثِيِّين في ظلِّ قول القرآن: ﴿بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ﴾[الجمعة:2] يعني نقلهم من الأمُّيِّة إلى العلم والحكمة والأخلاق الملائكية، فهذا هو البعثُ العربي الذي هو البعثُ القرآني، والذي هو بعثُ السماءِ الربَّاني.. نسأل الله أن يجعلنا بَعْثِيِّين بفضلِه وكرمه.
[يجدر التنويه هنا أن سماحة الشيخ يؤكد على كلمتي “العروبة والبعث” لأن العروبة شعار بعض الحكومات في البلاد العربية في زمن إلقاء الدرس، وخاصة سوريا، وكذلك كلمة البعث، فالحزب الحاكم في سوريا هو حزب البعث العربي الاشتراكي.. ولا يخفى عن أهل الدعوة إلى الله أن استخدام الداعي للكلمات المؤلوفة عند المدعوِّين له أثر إيجابي كبير في نفوسهم، ولهذا وغيره من الأسباب كان سماحته يكثر في دروسه من كلمة العروبة خاصة، مُبَيِّناً بشكل غير مباشر أنه لو الإسلام لما كانت عروبة، وأن البعث الحقيقي هو البعث الإسلامي الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأن البعث العظيم هو يوم البعث حين يبعث الله الناس من قبورهم إلى حصاد أعمالهم]
وسببُ نُقْلَة اسم يوم الجمعة من العروبة إلى يوم الجمعة، أنه لَمَّا هاجر النّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وبُعِثَ العرب ورُدَّت إليهم شخصيتهم؛ شخصيةُ العلم والحكمة والأخلاق والفضائل، رأوا اليهود يَتَجَمَّعون يومَ السبتِ في معابِدهم ليعبدوا الله عز وجل، والنصارى يتجمَّعون في يوم الأحد ليقوموا بصلواتهم، فطلبوا من النبيِّ ﷺ أن يُخصِّص لهم يوماً يجتمعونَ فيه ويتفرَّغون فيه لربهم؛ تتفرغُ أرواحهم لعبادةِ الله عز وجل، فكان يوم العروبة هو اليومُ الذي يجتمعون فيه على ذكر الله لصلاة الجمعة ومدرسة سيدنا رسول الله ﷺ في خُطبته ووعظهِ وإرشاده، وسُمِّيَ يومُ العروبة باسمِ يوم الجمعة.
من آداب يوم الجمعة:
ثم هذا اليوم له آداب في الإسلام، ولعلَّ كثيراً من المسلمين حتى الكثير منكم لا يذكر هذه الآداب، أو يعلَمُها ولكن لا يعمل بها، فمنها قول النبيِّ ﷺ: ((مَنْ غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ)) ومنها حديث ((غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ)) يعني أنه يجب على المسلم في أقلِّ الدرجات في الأسبوع أن يَغسل كل بدنِه، ويجعل الغُسْلَ في أشرف مُجْتَمَعاته، وهو صلاة الجمعة ومدرسة الجمعة، حيث يأتي إلى المسجد، ويكون إمام المسجد مُعلِّماً له ومُذكِّراً له ومُزكِّياً له، يُعلِّمه الكتاب والحكمة ويزكي المُزكَّى، ولذلك صار هذا اليوم يوماً عظيماً؛ يوم العلم ويوم الحكمة ويوم التزكية، يوم طهارة العقل بالحكمة، وطهارة النفس بالتزكية، وطهارة الإنسان من الجهل والجاهلية، فينبغي أن يُستقبَل هذا اليوم بطهارة الجسد ونظافة الجسد، هذا من ناحية الجسد: ((غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ)).
وطلب النبيُّ ﷺ من المصلي أن يلبَس أحسن ثيابه، فلا يأتي إلى المسجد بثياب العمل أو ثياب العرق أو بثياب وسخة.. إخواننا المسيحيون عندما يذهبون إلى الكنائس يذهبون بأجمل ثيابهم، وبأحسن هيآتهم؛ تكريماً وتقديساً واحتراماً للمكان وللعمل الذي يُعمَلُ، وللتعليم الذي يُعلَّمُ في ذلك المكان، و((الحكمة ضالَّة المؤمن)) كلّ شيء نافع ((أينما وجدها التقطها)) وإذا كان النبيُّ ﷺ يقول: ((غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ)) ففي مذهب الإمام أحمد: غسلُ الجمعة واجبٌ ومفروض، وفي بقية المذاهب مُستَحَبٌّ ومسنونٌ، فالنبيُّ ﷺ يقول للتنويه بآداب يوم الجمعة: ((أن يلبس أَحْسَنَ ثِيَابِهِ)) وفي حديث: ((الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ، فَإِنَّهَا من أحسن ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ)) وإذا لم يكن عنده أبيض فيلبس أحسنَ ثوبٍ، وإلى آخره.
((مَنْ غَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ)) إذا لم يكن عنده ثوبٌ جديدٌ فيغسلُ ثيابَه ويغسل بدنَه ((وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ)) يُبكِّر في قضاء حوائِجه البيتية والحياتية حتى يقضيها يوم الخميس ليُفرِّغ نفسه ليوم الجمعة، فالذي يريد أن يعمله يوم الجمعة متى يعمله؟ يوم الخميس، فيوم الجمعة يوم لِيَجْمَع قلبه على الله، ويجتمع بعلوم القرآن، ويستمع إلى دروس السماء في مدرسة السماء، ((وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ)) فالتبكير في قضاء حوائجه من يوم الخميس، حتى يكون يوم الجمعة مفرَّغاً كله لله، ((وَابْتَكَرَ)) ويأتي إلى المسجد كذلك مُبكِّراً، ((وراح في الساعة الأولى)) إذا راح إلى المسجد من أول ساعة يعني من طلوع الشمس، وما الذي في طلوع الشمس؟ الله تعالى قال: ﴿ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة:9] فإذا أتى من الصباح وهو نظيفُ الثياب طيِّب الرائحة خالي الذهنِ من مشاكل الدنيا وأعمالها، وجلسَ في المسجدِ وجلسَ مع الله عزّ وجلّ، حيثُ يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي)) فإذا قَعَد من أول ساعة مع العطَّار وهو يبيع العطر، فإن لم يتعطَّر فمن غازاتِ العطر تمتلئ ثيابه بالروائح الطيِّبة، ((ورَاحَ فِي السَّاعَةِ الأولى فَكَأَنَّمَا تصدَّق ببَدَنَةً)) إذا أتى إلى المسجد وقد غسل ثيابه واغتسل، أي: بدنه، وبكَّر إلى المسجد وابتكر، حتى يجيء إلى المسجد وهو نظيف الفكر من أيِّ مَشغَلة من مشاغل الدنيا.
آداب المسجد ومجالس العلم والعلماء:
ولماذا يجب أن يبكِّر؟ هل حتى يلعب بالشطرنج؟! أم كي يلهو في بيت الله؟! اللهو ليس في المسجد! فالمسجد له آدابه وله قُدسيَّته.. وإذا كان هذا مع المسجد الذي هو جدران وسقف، فكيف بروحانية المسجد وكيف بإمام المسجد! هل يصح أن يكون لغو في مجلس النبيِّ ﷺ؟ القرآن نهى أن يُرفَع صوتٌ فوق صوتِ رسول الله ﷺ.
وهناك بعض الإخوة يكون الشيخ جالساً ويتكلمون بصوت عالٍ كأنَّهم نِسْوَة في الحمام، وهذا لا يليقُ بآداب المسلم حسب القرآن وحسب السنة.. ولو كانت هذه الآيات والأحاديث التي ذَكَرَت هذه الأمور خاصة بزمن النبي ﷺ والصحابة لوجب أن نستغني عن تلك الآيات والأحاديث، بل هي باقية إلى قيام الساعة، فبعدَ النبيِّ ﷺ مَن يخلُفه؟ أبو بكر.. مرّةً النبيُّ ﷺ رأى أبا الدرداء رضي الله عنه يمشي أمام أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال له النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: ((أَتَمْشِي أَمَامَ مَنْ هُوَ أفضل مِنْكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟)) .
الأدب يا بُنيَّ! فالإسلام كله أدب، والطريق إلى الله كله أدب، وصحبةُ الشيخ كلها أدب، فالأدب يأتي من الحبِّ، والحب يأتي من المعرفة، والمعرفة تأتي من المُعرِّف.. هناك بعض الناس يجالسون الشيخ خمسين سنة ويبقون عُمْيَاً، كالأعمى إذا تزوج ملِكة جمَال، لا يستفيد من جمالها شيئاً، أو تزوج بأم كلثوم [المغنية المصرية المشهورة] وأخذوه إلى كل حفلة وهو أصم فلا يسمع شيئاً، لكنه يمتلئ غيظاً، والناس حوله يمتلؤون سروراً، وهو يمتلئ مللاً ويتمنى أن تنتهي، وهم يتمنون أن أم كلثوم تبدأ ولا تنتهي.
فإذا المريد لم يحصل له من يُعرِّفه على حقيقة الشيخ من وراء رؤية الجسد، ومن وراء رؤية النطق.. هناك شيء في الشيخ من وراء الوراء، فإذا رزق الله عز وجل المريد هذه المعرفة [يصير عنده الحب]، والحب يعلُّمنا الآدب، “ومن لم يُفقِّهه الهوى فهو في جهلِ”.. ((فاللهم إنا نسألك حبَّك وحبَّ من يحبُّك، وحبَّ عمل يقرِّبنا إلى حبِّك)) ، وفي الحديث الشريف: ((لا إيمان لمن لا محبَّة له)) ثم يكرِّرها ثلاثاً: ((لا إيمان لمن لا محبَّة له، لا إيمان لمن لا محبَّة له)) كيف تريد أن تصير مؤمناً وأنت لا تحب النبيَّ ﷺ؟ وكيف تريد أن يصير لك إيمان في هذا الزمان وأنت لا تحب وارث النبيِّ ﷺ؟ وكيف تريد أن تصير نجاراً إذا كنت لا تحبُّ معلِّمك؟ لا يمكن.
فضل التبكير إلى المسجد يوم الجمعة:
((مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ واغْتَسَلَ، وبكَّر وابتكر)) ((وراح في الساعة الأولى فكأنما تصدَّق ببدنة)) وتقرَّب بها إلى الله، والبدنة: الجمل أو الناقة ((وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا تصدَّق ببقرة)) والبقرة عند العرب أقل، ((وفِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ بغنمة)) بشاة ((وفي الرابعة بدجاجة وفي الخامسة ببيضة، فإذا صعد الخطيب المنبر طوت الملائكة الصحف)) ، ولا يُكتب الداخل بعد ذلك ولا بثواب بيضة.. ففي هذه الساعات الخمس إذا جاء إلى الجامع ماذا يريد أن يعمل فيها؟ يقول لصاحبه: دعنا نأتي بإبريق شاي ونتسلى بشرب الشاي، وليكن شاياً نتمتع بشربه.. أو يجلس مع رفيقه يثرثر.. والأفضل لهذا أن لا يأتي إلى الجامع، كالذي يأتي إلى الحمَّام كي يغتسل، لكنه جاء بماءٍ قذر بدل الماء النظيف ويريد أن يغتسل، فالأفضل أن لا ينزل بهذا الحوض ولا ينزل بهذا النهر.
كنت أسمع من شيخنا رضي الله عنه أنه كان لا يدخل على شيخه في الزيارة الخاصَّة إلا ويذكر الله قبل ذلك ساعة، حتى يدخل وقلبه نقيٌّ نظيف مُهيَّأ للفيوضات الإلهية التي تُفاض على شيخه، وليكون أهلاً للاستقبال وأهلاً للقبول، رزقنا الله الفقه في الدين.. فمن أجل الوضوء والاستنجاء وشروط الصلاة الجسدية كتب العلماء كثيراً، والحقيقة فإنها كلها خاصة بالجسد، أما الذي هو خاصُّ بالقلب وبالروح وببناء العقل وببناء النَّفس فكما يقال
يَبْنِيْ الرجالَ وغيرُهُ يَبْني القُرى شَتّانَ بينَ قُرىً وبينَ رِجالِ
يبني الرجال: يبني العقول ويبني القلوب، وغيره يبني القرى، شَتَّانَ بين قرى وبين قلوب ورجال.
أدب الاستماع للخطبة:
وكان عليه الصلاة والسلام يقول: ((مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا)) ، إذا كان النبيُّ ﷺ يخطب، أو نائب النبيِّ ﷺ يتكلَّم.. وإذا كان النبيِّ ﷺ في مجلسه يتكلم فهل يصح أن تتكلم؟ وهل هذا جهل أم علم؟ يا ترى كيف حال المسلمين في كلِّ زمان وفي كلِّ مكان؟ عليك أن تعرف من ينوب عن النبيِّ ﷺ بعده.. فإذا الخبَّاز مات واستلم الفرن رجل آخر ولم تتعرَّف على وارثه تموت من جوعك، وإذا الخياط الأول مات ولم تتعرَّف على الخياط الوارث له في المحل تبقى عرياناً ومكشوف العورة، فنسأل الله أن يوفِّقنا.. فالنبيُّ عليه الصلاة والسلام قال: ((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي)) هل “سنتي” فقط؟ بل قال: ((وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ من بَعْدِي)) و((الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)) ((وإنَّ الملائكة في السماء، والطير في الهواء، والسمك في الماء، ليصلُّون على مُعلِّم الناس الخير)) ألا نقول: اللهم صلى على سيدنا محمد؟ وهم يقولون: اللهم صلِّ على فلان.. مَن القائل؟ الملائكة والغربان والعصافير.. وهناك أناس يؤذون مُعلِّم الناس الخير، ويسبُّونه ويشتمونه وينتقصونه، فهل هؤلاء مسلمون؟! هل هؤلاء مؤمنون بأن مُحمَّداً ﷺ هو رسولُ الله؟ لو آمنوا بأنه رسول الله لآمنوا بأحاديثه ولآمنوا بكلامه، والإيمان أن يحوِّلوا الكلام إلى أعمال، وإلى حقائق منظورة في الأعمال والأخلاق والصِّفات.
المحافظة على الجمعة فيه حصن للمؤمن سائر أسبوعه:
فيوم الجمعة يومٌ كان يقول عليه الصلاة والسلام فيه: ((إذا سَلِمَت الجمعةُ سلمت الأيامُ كلها)) إذا استطعت يوم الجمعة أن تُؤدِّيَ آدابه وحقوقه كما علَّمنا النبيُّ ﷺ فباقي أيام الأسبوع يحفظك الله فيها من أن تَزِلَّ بك قدمٌ، أو ينطق لسانك بهفوة، أو تتجه عينك إلى حرام ولو لحظة، أو تستمع أذنك إلى زورٍ ولو كلمة، ((إذا سَلِمَت الجمعةُ سلمت الأيامُ كلها، وإذا سَلِمَ رمضانُ سَلِمَت السنةُ كلها)) المؤونة والتخزين الأسبوعي في يوم الجمعة، والتخزين السنوي في رمضان، فأين المسلمون من مُحمَّد رسول الله ﷺ؟ تقول: مُحمَّد رسول الله ﷺ وترمي رسالته وأحاديثه وتعاليمه!
فرسولُ الله ﷺ وتعاليمه في هذه الرسالة، ولكنك ترميها وراء ظهرك! فهل أنت مؤمن برسول الله عليه الصلاة والسلام؟ بل أنت أول الكافرين برسول الله ﷺ.. إذا كنت تعرف الألماس وتحفظ اسمه غيباً ولا يوجد عندك ألماس، فماذا استفدت من الألماس؟ وإذا كان كل منا يسمع بملكة الجمال أو يراها في المجلَّة فماذا يستفيد منها؟ فنسأل الله أن يجعلنا من المؤمنين حقاً.. ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنفال:2] هل لك قلب؟ المسلم الذي لا يحيا ولا ينشأ بغيثِ ذكرِ الله ولا يكون فلاَّحَ تربة قلبه أحبابُ الله، فطول حياته ليس له قلب.. ﴿لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق:37] يعني ذلك أن هناك كثير من الناس لا قلوب لهم، ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر:22].
سورة الجمعة ونقل العرب من الأمية والضلال إلى العلم والرشاد:
فيوم الجمعة سُمِّيت السورة باسمه، والله تعالى ذكر فيها ما أنعم به على الإنسان، وأوَّل الإنسان المخاطب كان الإنسان العربي، والعرب كانوا بنظر شعوب عالم ذلك العصر في منتهى التخلُّف، كانوا أمِّيين لا يقرأون، كما يقول النّبيُّ عليه الصلاة والسلام: ((إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ)) لكن هذا قبل الإسلام ((لا نقرأ وَلَا نَحْسُبُ ولَا نَكْتُبُ)) فمن الذي دفعهم أن يفتحوا كل مكتبات العالم في الهند وفي فارس وفي اليونان ويستخرجوا كل هذه العلوم؟ علوم الدنيا: العقل والفلسفة والكيمياء والفيزياء وغيرها.. وهم نقلوها إلى الأوربيين، ثم جمدت فئة من العلماء وحرَّموا علوم الدنيا وأبقوا العلوم على الفقه وما شابه، فتخلَّفوا في ميادين الحياة، ثم رجال السياسة الذين كانوا خلفاء وأمراء، تولَّوا الخلافة وهم غيرُ جديرين بها، فالخلافة تحتاج إلى علم وحكمة وتزكية، فصاروا يتصارعون على الحكم، وتمزَّق العالم الإسلامي إلى دول وإلى دويلات.. الأندلس كان فيها اثنان وعشرون دولة، بعد أن كان الإسلام من الأندلس إلى الصين دولة واحدة، فكانت الأندلس ممالك، مثل العرب اليوم، كم دولة؟ اثنان وعشرون دولة، قال
أسماءُ مَمْلَكَةٍ في غير مَوضِعِها كالهرِّ يحكي انتفاخاً صولةَ الأسدِ
القطط عندما يتقاتلون ينفِشُ كل واحد شعره عند رقبته وينظر إلى خصمه مثل السباع، وهل القطُّ مثل الأسد! فنسأل الله عز وجل أن يُحقِّقَ فينا الإيمان، ويُحقِّق فينا فقه القرآن، ويُحقِّق فينا البعث القرآني، بَعْثَ سيدنا مُحمَّد ﷺ، ويجعلنا ويجعلكم ويجعل الأمة كلها بَعْثِيين، نساءً ورجالاً.
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ﴾ يا عيني! هل يوجد أجمل من هذه الكلمة؟ لكن نسأل الله أن يجعلها حقيقية، ويجعل إسلامنا حقيقياً.. ﴿فِي الْأُمِّيِّينَ﴾ فكم يجب على العرب عندما يقرؤون القرآن أن يشكروا الله؟.. كان كسرى وقيصر لا يقابلون العرب، ومَن العرب؟ كانوا بدواً في الصحراء بين الوحوش يقتلون بعضهم.. ﴿رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ﴾ من قبل هذا البعث السماوي الرباني المحمَّدي، ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ﴾ تائهين في صحراء الضلال والجهل والعداوات، والتمزُّق والأهواء والأنانيات، ﴿لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة:2] واضح مثل وضوح الشمس في رابعة النهار.
مما فعلته قريش في الحبشة لطرد المسلمين منها:
يُبيِّن هذا الضلال أو بعضه سيدنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أخو سيدنا علي كرَّم الله وجهه، فعندما هاجر المسلمون إلى الحبشة أغاظت هجرتهم كفار قريش، فأرسلوا إلى النجاشي سفيرين، ليسترجعوا المهاجرين إلى مكة، فأرسلوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد، وبعثوا معهما هدايا، وقدَّموا رشوة لكل حاشية النجاشي؛ يعني يريدون أن يضعوا الزيت على الآلة قبل أن يشغلوها.. [يُزَيِّت الآلة قبل تشغيلها: يضع عليها الزيت لتكون صالحة للعمل، وهو مثل عامي يُضرَب لتهيئة أمر ما وجعله صالحاً لما يريد، فهم يقدمون الهدايا لتكون الحاشية موافقة لما يريدون] وأحضروا للنجاشي هدية وقالوا له: “أيها الملك قدِم إلى بلدك منَّا غلمان سفهاء”، يسمون الحكماء سفهاء! لأن السفيه ماذا يقول عن الحكيم: سفيهاً، والمجنون ماذا يقول عن العاقل؟ مجنوناً! وهل يقول عنه نفسه: مجنوناً؟ قال: “سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك”، انظروا إلى الإثارة! “وجاؤوا بدين مبتَدَع، لا نعرفه نحن ولا أنت، جاءهم به رجل كذَّاب”، انظروا ماذا يُسمَّى النبيُّ ﷺ! انظروا إلى الظلم والتزوير والباطل! “ويزعم أنّه رسول الله، ولم يتِّبعه منا إلا السُّفَهاء” السخيفون والفقراء وأوساخ الناس.
“وقد بَعثنا إليك فيهم -أي من أجلهم- أشرافُ قومهم من آباءٍ وأعمامٍ وعشائر، لتردَّهم إليهم، وهم أعلم بما عابوا عليهم”، والعيوب هم يعرفونها، ولكنك أنت لا تعرفها.. فعرضوا الأمر على النجاشي، فقال البطارقة: “صَدَقوا أيها الملك، قومُهم أعلم بهم”، ماذا نريد نحن من هذا الأمر؟ “فأسْلِمهم إليهما ليردُّاهم إلى بلادهم”، فغضِب النجاشيُّ وقال: “لا والله لا أُسلمهم ولا يُكادُون من قومهم -فينتقم قومهم منهم- إنهم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي، والتجئوا إليَّ، حتى أدعوهم”، يعني إذا سمعتَ خبراً فلا تُصدِّق بسرعة وتهتاج وتنتفخ من فورك مثلما ينفخوا بالمنفاخ عجلة السيارة، اصبر حتى تتبيَّن، ﴿فَتَبَيَّنُوٓاْ﴾ [الحجرات:6].. إذا سمعتَ أيَّ خبر عن أيِّ إنسان من أيِّ جهة في أيِّة قضية، تقول: حتى أسمع الطرف الثاني، قال: “إذا أتاك خصم يشتكي وقد قُلِعت عينُه فلا تحكم له حتى ترى خصمه، فلعل خصمه قد قُلِعت عيناه “.. الآن يقول أحدهم لشخص عن “المُجَمَّع” الإشاعة الفلانية فيسرع في الحكم ويبدأ بالشتائم، [المجمع هو مجمع أبي النور الإسلامي وهو المجمع الذي أنشأه سماحة الشيخ كفتارو في دمشق] فهل هذا فيه عقل؟ هذا لا عقل له ولا إيمان.
قال: “لا والله حتى أدعوهم فأسألهم عمَّا يقول هذان عن أمرهم”، مَن هذان؟ عمرو وعمارة بن الوليد، “فإن كان كما يقولان سلَّمتُهم إليهما وإلا منعتُهم عنهما وأحسنتُ جوارهم ما جاوروني”، قال جعفر رضي الله عنه: “فأرسل إلينا ودعانا فلمَّا دخلنا سلَّمنا، فقال من حضر: ما لكم لا تسجدون للملك؟ قلنا: لا نسجد إلا لله”، انظر كم كرَّم الإسلام الإنسان! لما كان الإنسان بلا إسلام كان يعبد الإنسان، ويجعله إلهاً عليه ويسجد له، وهذا السجود من شعائر الألوهيَّة للمسجود له، “فقال النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من الملوك؟ قلنا -أي جعفر-: أيها الملك كنا قوماً” ، وهنا شاهدنا: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ﴾ [الجمعة:2] اسمعوا إلى الضَّلال! ومَن يتكلم عن ضلال العرب قبل الإسلام؟ [العرب المتمثلون بجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه]، فكيف إذا ترك العرب الإسلام بعد أن كانوا مسلمين ورجعوا إلى الضلال؟ وأي ضلال؟ الضلال المبين.. إذا لم يكن عندهم القرآن وضلُّوا كما إذا ضاع أحدهم في الصحراء وليس معه دليل فهو معذور، أمَّا إذا كان معه دليل ونور وترك الدليل وترك النور ومشى في الظلمات وبلا دليل، فهلك فلا ردَّه الله، لأنّه هو الذي يطلب الضلال ويطلب الهلاك، كما كان النبيُّ ﷺ يقول: ((إِنِّي ممسكٌ بِحُجَزِكُمْ وأنتم تتَهَافَتُون على النار كَتَهَافُتِ الْفَرَاشِ)) “بحجَزِكم”: أي بأحزمتكم، “تتهافتون على النار”: كما يلقي الفراش بنفسه على النار.. فإذا فُقِد الإسلام يتهافت الناس في الضلال والتخلُّف والضياع، وكما هو حال العالم الإسلامي اليوم! فهذه فلسطين منذ خمسين سنة، هل استطاع العالَم الإسلامي والعربي أن يفعلوا شيئاً؟ لكن عندما أتى الروح وهو الإسلام إلى عرب الجسد ما المدة التي أخذوها لتحرير فلسطين؟ وكان الرومان أقوى من اليهود بألف مرة، وكان حكمهم من الفرات إلى إنكلترا، وكانوا أعظم امبراطورية في العالم.. فَبِكَمْ حرَّروا فلسطين وبلاد الشام منها؟
بالإسلام الحقيقي؛ بجوهره وحقيقته حرَّروها بشهور أو بسنة واحدة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهل كان معه دكتوراه أو ماجستير أو أستاذية؟ كانوا أمِّيين، لكنهم كانوا مثقفين بثقافة السماء؛ ثقافة خالق المجرَّات والكون فاطر السماوات والأرض، فأين جامعة الله من بقية الجامعات؟ مع أن ثقافة السماء تحضُّ على علوم الدنيا كما تحضُّ على علوم الآخرة.
“قلنا: أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام”، فنجعل الأحجار آلهة لنا، فهي مصدر التشريع ومصدر الألوهية، وأكثر من هذا؛ كيف كانت عقولهم؟ كان أحدهم إذا أراد أمراً مُهمَّاً سفراً أو تجارةً أو غير ذلك، يذهب إلى خارج البلد ويأخذ الرأي والمشورة والأمر الصحيح من الغربان، أيسافر أم لا يسافر؟ أيزوج ابنته أم لا يزوجها؟ أيبيع أم لا يبيع؟ ويشاور مَن؟ يأخذ الرأي والتعليمات والتخطيط مِمَن؟ من الحيوان! يأخذ حجراً ويضرب على الغراب، فإذا طار نحو اليمين يعني أن الغراب سمح له بالزواج والسفر والقتال والتجارة وبكل شيء، وإذا طار نحو اليسار والشمال يتشاءم.. وهذا هو التطير والتشاؤم.. فهذه هي العروبة بلا إسلام، حيث كانوا يعبدون الأحجار، في حين أن الحيوان لم يَتَنَزَّل إلى عقل الإنسان.. فالإنسان عنده قابلية أن يكون أحطّ من الحيوان وأفسدُ من الشيطان.
العروبة جسد والإسلام روحها:
أحد أهل المدينة أسلم أولاده وهو لم يسلم، وكان مرتبطاً بصنمه، فأصبح ذات يوم وهو يريد أن يصلِّي لصنمه، فرأى ثعلباً صاعداً على رأس الصنم ويبول على رأسه.. فالإنسان يعبد الصنم بينما الثعلب يبول على الصنم فأيهما أفهم؟ ومَن عنده عقل أكثر؟ فلو أن الثعلب يخاف من الصنم أن يؤذيه لا يبول عليه! يقولون: العروبة! فهذه هي العروبة بلا إسلام.. فأيهما أحسن: العروبة بلا إسلام أم العروبة بإسلام؟ لكن أي إسلام؟ هل هو الإسلام الميِّت أم الإسلام الحيّ؟ الإسلام الميِّت أن تسمي ابنك “إسلام”، وابنتك “إيمان”، يا سلام! ولكن لا تكون عندهم صلاة ولا صيام ولا علم ولا فقه ولا تقوى ولا خشية من الله، ولا مُعلِّم لهم ولا مُزكٍّ ولا حكمة، فماذا استفدت من “إيمان وإسلام”؟ سمِّ نفسك إمبراطوراً، وأنت سمّ نفسك رئيس جمهورية أو رئيس الوزراء أو دكتوراً يا مجنون أفندي.. إن المجتمع في: ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَاهُمْ بِسُكَارَى﴾ [الحج:2] نسأل الله أن يحمينا من سكرة الجهل وسكرة حب العيش.. فقال
أربٌّ يبول الثعلبان برأسه لا خير فيمن بالت عليه الثعالب
جاء أولاده ونصحوه فدخل في الإسلام، ولكن مَن كان أستاذه الذي نبَّهه إلى جهله وجاهليته؟ الحيوان.. فالإنسان قبل الإسلام انحطَّ دون درجة الحيوان.
قال: “نقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف”، هذا هو مجتمعهم.. وهذا تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ﴾ [الجمعة:2] مِن قِبلِ الإسلام والقرآن، كانوا في ضلال.. مَن الذي يُفسِّر ما كان عليه العرب قبل الإسلام؟ هم العرب، ومنهم سيدنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.
الإسلام الحق يجذب القلوب إليه:
فالذي يَبْعُد عن الإسلام من جهله بالإسلام، أو يرى الإسلام السطحي -الجانب المتزمِّت المتخلِّف البعيد عن علوم القرآن والحكمة والتزكية- فيظن أن هذا هو الإسلام فيبتعد عنه، فكثير من المتدينين شَكْلاً يقومون بأكبر إيذاء للإسلام، وهو إبعاد الجاهلين عنه، أمَّا الإسلام بمعناه الحق فلا يستطيع إنسان إلا أن يعشقه، وإلا أن يخرَّ لعظمته.. فإذا وضعتَ على رأس ملكة الجمال رأس خنزير من بلاستيك، ورفضها الناس وابتعدوا عنها فهم معذورون، فهي تحتاج لمن يكشف هذا الرأس المزوَّر حتى يظهر الرأس الحقيقي ﴿يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعَاً﴾ [الإسراء:109] فنسأل الله أن يرزقنا معرفة الإسلام؛ إسلام القرآن والحكمة والتزكية، وهذه المعاني الثلاث هي رسالة سيدنا رسول الله ﷺ التي بُعِث بها.
صفات الرسول وقواعد سعادة المجتمع:
قال: “فكنا على ذلك حتى بعث الله لنا رسولاً، كما بعث الرُسلَ إلى من قبلِنا؛ وذلك الرسول منا نعرِف نسبه وصدقَه وأمانتَه وعفَّته، فدعانا إلى الله تعالى”، وأن نترك الأصنام ونعبد فاطر السماوات والأرض، “لنعبده ونوحِّده، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من دونه من أحجار وأوثان، وأمرنا بالصلاة وبالزكاة وبالصيام، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الأرحام وحسن الجوار”.. انظروا: إن كانت واحدة من هذه الخصال لا تنفع ولا فائدة منها فاذكروها كي نرفضها! هل هناك واحدة لا تنفع؟ وهل هناك خصلة يمكن أن يقوم المجتمع السعيد بدونها؟ “وأمرنا بالكفِّ عن المحارم -نبتعد عن محارم الله- وسفك الدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات -أي التكلَّم في أعراض الطاهرات- فصدَّقناه”، تقبلنا منه هذه الأمور، وهل عندك اعتراض على أية خصلة منها؟ “وآمنا به واتبعناه على ما جاء به، فَعَدَى علينا قومنا” عشائرنا اعتدوا علينا، وصاروا يضربوننا ويعذبوننا ويشرِّدوننا ويسجنوننا، “فخرجنا إلى بلادك لاجئين، واخترناك على من سواك، ورجونا أن لا نُظلَم عندك أيها الملك.”
فقال النجاشي لجعفر رضي الله عنه -هل أُكمل لكم تتمة القصة أم يكفيكم إلى هنا؟ [أجاب الحضور: نعم أكملها]– فقال النجاشي لجعفر رضي الله عنه: “هل عندك شيء مما جاء به؟” قال: “نعم”.. ﴿وَلَا يَحِيقُ ٱلۡمَكۡرُ ٱلسَّيِّئُ إِلَّا بِأَهۡلِهِ﴾ [فاطر:43].. الآن انتهوا من الكيد والمكر، وانتهوا من الضرر والأذى، ويريد الله الآن أن يعطيهم النفع والفائدة والثمرة.. قال: “فاقْرأ علينا”، قال: “فقرأتُ صدراً من سورة مريم، فبكى واللهِ النّجاشي”.. لا تخافوا إذا كنتم مع الله، لكن ليس مع الله بلا عقل، وليس مع الله بجهل، ليس مع الله بلا استقامة، وإلا كان أمانيّاً وتمنِّياً.. يجب أن نكون مع الله؛ مع كتاب الله المفسَّر بسنَّة رسول الله ﷺ الظاهر في أخلاقنا وسلوكنا وعقلنا ونُطْقِنا ودعوتِنا إلى الله، وهذا كي نكون مع الله! وإلا فإن كلمة “مع الله” مجرد كلمة في الهواء من الفم [يمكن أن تُقال من دون حقيقة تصحبها] قال: “فبكى واللهِ النّجاشي حتى اخضلَّت لحيته، وبكى أساقفته”.
ظهور الحق يحتاج إلى الإخلاص وإلى الحكمة:
﴿وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ﴾ إذا جاءت الشمس ذهب الظلام ﴿إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقَاً﴾ [الإسراء:81] فقال: “هل عندك شيء غير ما قرأت؟” يعني زدنا، “قال: نعم، قال: فاقرأ عليَّ، قال: فقرأت عليه: سورة العنكبوت وسورة مريم ففاضت عيناه أيضاً وعيون أساقفته، قال: زدنا يا جعفر”.. ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْر ُالسَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر:43] ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر:51] إذا كنت صادق الإيمان: إيمان القلب وإيمان الحكمة وإيمان القرآن؛ إيمان العمل وإيمان الفقه هل يخذلك الله؟ هذا مستحيل، مستحيل.. وكما قيل: “ما كلُّ من صفَّ الصَّوَاني يصير حُلْوَاني” [مثل عامي سوري، والصواني هي الآنية الخاصة لعرض الحلويات، والحلواني هو صانع الحلوى الماهر بها]، هناك أناس اليوم يدعون إلى الإسلام، لكن بلا حكمة، يدعون إلى الإسلام بجمود، ويدعون إلى الإسلام بأهواء وأنانيات.. وهؤلاء لا ينجحون أبداً، لكن أن تفقَه الإسلام قلباً وعلماً وقرآناً وسنةً وسلوكاً وأخلاقاً [فستنجح في أي مكان].
إن كلمة السنَّة ليست بأن تُرخي [تعفو] لحيتك، فهذه من السنَّة وهذا عمل سهل، أو السِواك، وهو أيضاً سنَّة سهلة، لكن يا ترى هل عندك سُنَّة الحكمة؟ وهذه ليست سُنَّة فقط، بل هي ثلثُ الإسلام؛ الثلث الأول: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾، والثلث الثاني: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾، والثلث الثالث: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة:129]، فالإسلام لا يمكن أن يَفْشَل ولا أن يُهزَم.. في معركة أُحد ما ترك الصحابة الصّلاة ولا شربوا الخمور حتى هُزِمُوا، لكنهم خالفوا أمراً عسكرياً تكتيكياً، فلم يشفع فيهم أنَّ النبيَّ ﷺ قائدهم، ولم يشفع فيهم أنَّهم خير القرون، ولم تشفع فيهم تزكية الله لهم في قوله: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [المائدة:119] فإذا خالفتَ يُخالَفُ بك مهما كنت.. قال: فقرأ عليهم سورة الكهف، فقال النجاشيُّ: “هذا واللهِ الذي جاء به موسى، إنهما ليخرجان من مشكاة واحدة”، يعني من طاقة واحدة.. وانتهى الأمر، وقال لهم: “كونوا في حمايتي وفي جواري”، وردَّ رسل الكفر ردَّاً قبيحاً.. والشاهد: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ﴾.
رسالة النبيِّ ﷺ لجميع الأزمنة:
﴿بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّۧينَ﴾ يعني العرب ﴿رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ من العرب، فقد كانت النبوَّات في بني إسرائيل، فلمَّا لم يحافظوا على شرف النبوَّة والرسالة وصاروا يحرِّفون ويبدِّلون ويغيِّرون، نقل الله تعالى النبوَّة والرسالة من بني إسرائيل إلى العرب، وهم أميُّيون.. وعند الله لا يوجد فرق، فالألماس حجر والذَّهب حجر، والله تعالى يجعل في كل واحد خصائص.
﴿وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة:2] ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ﴾ قال: هذا الرسول ليس فقط للعرب الأمّيين، بل هناك ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ [الجمعة:3] لم يدركوا زمانهم، فهذا يشمل العرب الذين لم يدركوا زمن النبوة، ويشمل غير العرب الذين أدركوا والذين لم يدركوا زمن النبوَّة.. ولما نزلت سورة الجمعة وتلا النبيُّ ﷺ هذه الآية: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ﴾ سألوا النبيَّ عليه الصلاة والسلام عن هؤلاء الآخرين ثلاث مرات، فأجابهم في المرة الثالثة، وكان في المجلس سلمان الفارسي رضي الله عنه فوضع النبيُّ ﷺ يده على كتفه وقال: ((إن كان الإيمان مُعلَّقاً بالثُّريَّا لتناوله رجل أو رجال من أبناء هؤلاء)) ، يعني أن الإيمان ليس محصوراً بالعرب ولا بالعجم ولا بالباكستان، ويمكن أن يخرج في أميركا أو في روسيا أو في فرنسا: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمَاً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد:38]
العالَم متعطش للإسلام الحقيقي المتمثل بالأقوال والأفعال:
لقد شَوَّه المسلمون جمال الإسلام، ونحن المسلمون حجَّة على الإسلام، فمفهوم الإسلام اليوم في العالم هو أعمال المسلمين وصفاتهم وأخلاقهم وواقعهم، زد على ذلك التشويه من الأعداء، فصار الإسلام مُشَوَّهاً في نظر الأمم المتقدِّمة.. وبالرغم من كل هذا ففي أقلِّ تعريف لحقيقة الإسلام وجوهره يخرُّ أعظمُ رجال العالم للإسلام سُجَّداً يبكون ويزيدهم خشوعاً.. ذكرت لكم في الأسبوع الماضي عن إسلام سفير ألمانيا الإتحادية في المغرب، وإسلام الناطق الرسمي للحزب الديمقراطي الحاكم في ألمانيا، وبلغني أيضاً عن مثل هذه المستويات.. والإسلام سيستمر، لكن ليس بقوتنا، بل بفضل الله، لأنَّ المسلمين مقصِّرون، وملوكهم مقصِّرون قبل الجميع، ورؤساؤهم قبل الجميع، وكذلك أغنياؤهم وعلماؤهم.
والتعليم يلزمه تغيير، ويحتاج إلى برنامج يقوم على القرآن والسنَّة والحكمة والتزكية، التي هي التربية الأخلاقية والتربية السلوكية والتربية الربانية من مدرسة: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة:282] ((ومن عمل بما عَلِم أورثه الله علم ما لم يعلم)) .. كم مكتبة كانت في زمن أبي بكر رضي الله عنه؟ وكم مصحفاً؟ وكم تفسيراً؟ كانت مكتباتهم وكتبهم ومصاحفُهم قلوبَهم، وكان القرآن الذي يحفظونه كلاماً ينقلب فيهم أعمالاً ظاهرةً وباطنةً، أخلاقاً وحكمةً، مثل بذرة النوى إذا وضعتها في الأرض، فماذا تقلبها الأرض؟ تقلبها نخلة.. وأنت عندما تحفظ القرآن هل يقلبك من أُمِّيٍّ إلى: ((حُكَمَاءُ عُلَمَاءُ فقهاء كَادُوا مِنْ فِقْهِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ))؟ لا تستطيع أن تحفظ القرآن كله وأنت على ما أنت عليه، لماذا؟ لأنه ليس لك قلب، والله قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق:37]، ما هو هذا القلب؟
معاهد تحفيظ القرآن اليوم شيء حسن وجميل وجزى الله القائمين عليها كل خير، [معاهد تحفيظ القرآن كانت منتشرة في كثير من المساجد في سوريا، أنشأتها وزارة الأوقات تحت رعاية الحكومة، حيث كانت الوزراة تعطي رخصة لبعض المشايخ في مساجد معينة للسماح لهم بتحفيظ القرآن للناس وخاصة الأطفال] لكن إذا أخذت من الكمبيالية [الشّيك] حِفظَ كلماتها وذهبت إلى البنك، وقرأت لهم الكمبياليّة، وأحضرت أم كلثوم وقلت لها: إقرئي لنا هذه الكمبياليّة لأن صوتك أجمل، يا ترى هل يصرفون لك الكمبيالية؟ وكذلك إذا أحضرت عبد الوهاب، [أم كلثوم وعبد الوهاب مغنيان مصريان مشهوران بجمال صوتهما] حتى لو أحضرت كُورَس الموسيقا كله، وعزفت لهم بالموسيقا.. الكمبيالية يجب أن تكون موقَّعة حسب الأصول وتسلِّمُها لأمين الصندوق [لا أن تُغَنِّيَ بها].. فنسأل الله أن يردَّنا إلى صراط الله، وإلى كتاب الله وسنَّة رسوله ﷺ ردَّاً جميلاً.. ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمَاً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد:38] فيمكن أن يخرج الإسلام من اليابان، ويمكن أن يخرج من غيرها.. لا تعلمون.. فطائر الإيمان يحوم.. إلا وأن يهبط في أمة من الأمم في هذه السنوات العشر الآتية، وهذه لحيتي! [هذه لحيتي: مصطلح عامي، حيث يقبض الرجل الذي يَعِدُ بوعدٍ على لحيته، ويقول: “هذه لحيتي!” وهي لتأكيد الوعد، وبمعنى أنني أؤكد لكم أنكم سترون ما أعدكم به] قلت لكم في سنة الثمانين [1980م]: “هذه لحيتي! اصبروا عشر سنوات وستنتهي الشيوعية”، وهذا لا وحي ولا شيء، بل هو شيء ألهمنيه الله في قلبي، وواللهِ نسيت هذا القول، وبعد ذلك ذكَّرني الإخوة به، والآن أقول لكم: عشر سنوات والإسلام سيظهر، فإذا كنتم رجال الإسلام كونوا جنوده، لكن بالحكمة والموعظة الحسنة، كونوا أطباء مع الناس لا قضاة عليهم، وإذا رأيتم الجاهل علِّموه بحكمة، ودُلُّوا الفاسق على الله وإلى التوبة بالحكمة والرأفة، فقد قال الله تعالى للنبيِّ ﷺ: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحجر:88] وقال له: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّك َبِالْحِكْمَةِ﴾ [النحل:125] بالحكمة: بالإقناع والحوار.. الآن بعض الإسلاميين دعوتهم بالقتل وسفك الدماء! ليس بهذا قام سيدنا رسول الله ﷺ، ولا بهذا دعا إلى القرآن: ((مَا دَخَلَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، ولاَ الْخُرْقُ فِي شَيْءٍ إلاَّ شَانَهُ)) .
النبي ﷺ رفع مكانة من اقتدى به من بعده:
﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ﴾ [الجمعة:2-3] ﴿بَعَث َفِي الْأُمِّيِّينَ﴾ وفي: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ [الجمعة:3] لم يدركوا زمن النبي ﷺ.. فإذا صدق من يأتي بعد الصحابة في الإيمان فإن منزلتهم وعطاء الله لهم بَيَّنه النبيُّ ﷺ في قوله: ((وَدِدْتُ لو أنّي أرى إِخْوَانِي، قالوا: أَوَلَسَنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أَنْتُمْ أَصْحَابِي، إِخْوَانِي الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَلَمْ يَرَوْنِي)) وفي حديث آخر: ((العامل بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي)) بسنَّتي، ما هي سنَّة النبيِّ ﷺ؟ وما هي طريقة النبيِّ ﷺ في الإسلام؟ في حقِّ نفسه: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَو ْزِدْ عَلَيْهِ﴾ [المزمل:2-4] هذه “سنَّتي”! في عبادته في ذكره في استغفاره في حِلْمِه في أخلاقه في دعوته في تحمُّله للمشاق والأذى، وهذا: ((ما كنت عَلَيْهِ أَنَا وَأَصْحَابِي)) وأصحابه ماذا كانوا؟ كانوا على طريقه ومُتَرَسِّمين خطواته صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ((مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي)) .
تحتاج إلى تشميرٍ، وتحتاج إلى شدِّ الهمم، وإبعاد الأماني والغرور، والتماس الإمام والدَّاعي إلى الله بإذنه وبالحكمة والموعظة الحسنة، فنسأل الله عز وجل أن يؤهِّلنا أن نكون من الدُّعاة إليه، وقبل كل شيء ندعوا أنفسنا من أهوائها إلى تقوى الله عز وجل، من جاهليتها إلى كتاب الله وسنَّة نبيه ﷺ قولاً وعملاً وخُلُقاً ودعوة إلى الله عز وجل لجيراننا وإخواننا وأهلينا وعشائرنا.. وهذا هو ما كان عليه رسول الله ﷺ وما كان عليه أصحابه، رضوان الله عليهم.
﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ هذه نحن، فنحن “لَمَّا” نلحق بهم، لكن هل تنوون أن تلحقوا بأعمالهم وأخلاقهم ودعوتهم وتعبُّدهم وذكرهم؟ ﴿لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ﴾ [الجمعة:3-4] فضل الله بالحكمة وبعلوم القرآن وبالتزكية، [تَفَضَّل الله عليكم بأن أعطاكم ذلك] وهذا الفضل من زمن النبي ﷺ ويصل إلى آخرين.
﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن ْيَشَاءُ﴾ [الجمعة:4] ومَن يَشَأ الله أن يعطيه فضله؟ ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورَاً﴾ [الإسراء:19] فلا تظن أن المشيئة قائمة على صدفة، وأن هداية الله قائمة على صدفة، فأفعال الله كلّها قائمة على الحكمة وعلى الأسباب والمسبَّبات، وهناك أمور وإن لم يدركها العقل لكنها كلّها قائمة على حكمة الله عز وجل وعدله وحِكمةِ تَصَرُّفِه.. ﴿ذَلِكَ﴾ بَعْثُ النبيِّ ﷺ بالحكمة إلى الناس وبكتاب الله عز وجل وبتزكية النُّفوس ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ﴾ فاللهم آتنا علم الكتاب وآتنا علم الحكمة وزكِّ نفوسنا، ((اللهم آت نفوسنا تقواها وزكِّها))، يعني طهرها من النقائص والرذائل وزينها بالكمالات والفضائل، ((وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليها وأنت مولاها)) ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة:257] نسأل الله أن يتولّانا، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد:11].
فضل الله ورحمته لا يكون بالأماني لكن بالعلم والعمل:
﴿يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ ومَن الذي يشاء؟ مَن يتعرَّض ((إنَّ لله في دهركم نفحات، ألا فتعرَّضوا لها)) العلماء الورثة للأنبياء هم من نفحات الله، ومجالس العلم والذِّكر هي من نفحات الله، وقراءة القرآن بالتدبُّر وطهارة القلب والتعقُّل هو من نفحات الله: ((ألا إنَّ لله في دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، ألا فَتَعَرَّضُوا لَهَا)).. ﴿يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ و((لَيْسَ الإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَلا بالتَّحَلِّي، ولكن الإِيمَانَ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ)) .. وبعد أن بيَّن الله تعالى الطريق إلى البعث القرآني والبعث المحمَّدي والبعث السماوي قال: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا﴾ [الجمعة:6] وقال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5] فهذا درسٌ للمسلمين أن الله بعث لكم النبيَّ ﷺ وكنتم أمِّيين وكنتم أذلَّاء وفقراء، كما وصف سيدنا جعفر رضي الله عنه للنجاشي حال العرب قبل الإسلام، ثم صاروا ملوك الأرض وعظماءها وحكماءها وعلماءها، وكان هذا بسبب هذا البعث القرآني النبويِّ.
فإذا غاب عنا جسد النبيّ ﷺ وشخصه، فإن رسالة الله التي أنزلها عليه لم تغب عنا، فإياكم أن تأخذوا رسالة الله أخذاً ميِّتاً؛ فتقرؤون القرآن للتلاوة، تقول: “أنا قرأت ختمة وفي رمضان عشر ختم”، ماذا فهمت وماذا علمت؟ مَن يعلم الأفعى هل يضعها تحت قميصه؟ ما الذي يمنعه من ذلك؟ العلم، هل يقبضها بيمينه؟ وهل يجعلها مثل ربطة العنق؟ يمنعه من ذلك ماذا؟ العلم.. أمَّا الطفل فيضع يده على النار، لكن علماً أم جهلاً؟ ويمدُّ يده إلى العقرب والأفعى علماً أم جهلاً؟ فما عصى الله من عصاه إلا بجهله، وما أطاع الله من أطاع إلا بعلمه.. اللهم ارزقنا العلم النافع، ونعوذ بالله من علم لا ينفع.
العلم النافع لا يكون إلا بالعمل والإخلاص:
فهذه الآيات الآتية تُحذِّرنا من أن نقرأ الكتاب -القرآن- القراءة الحِمارية.. والقراءات كم قراءة؟ أربعة عشر، وهناك القراءة الخامسة عشر، وقد ذكرها الله في القرآن، وهي القراءة الحِماريَّة أو القراءة اليهوديَّة، قال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ حَمَلُوها، حفظوا ألفاظها، وقرؤوها في توراتهم، ﴿ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾ في أفهامهم حتى تصير علماً دافعاً لِمَا يدعو إليه العلم ومُبعِداً عما يُبعد عنه العلم، فعندما يقول لك العلم: هذا عقرب والاقتراب منه خطر ولدغته قاتلة مميتة.. فهذا هو العلم، وهو يكشف لك الحقائق على ما هي عليه في واقعها، فإذا تقبَّلتَها تَقَبُّلَ القبول، فالعلم يقتضي أن يُباعِدَك عن لمسها والاقتراب منها، وهذا هو العلم النافع، وإذا سمعت وقرأت ولم تفهم فهذا علم لا ينفع، لكن إن قرأت وفهمت وغلبك هواك وشهواتك وأنانيتك وقدَّمت الهوى على التقوى وقدَّمت الشهوات على العقل والحقيقة [فهذا العلم حجة عليك].. اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، فكم مِمَن يقرؤون الكتب ويأخذون الشهادات العليا يعملون بعكس ما قرأوا ويعملون على هدم ما علموا! وما الفائدة من هذا العلم؟ قال
لو كان بالعلم من دون التُّقى شرفٌ لكان أفضل خلق الله إبليسُ
إبليس لم ينقصه علم، لكن نقصه تقوى، فلا توجد عنده التقوى.. نسأل الله أن يحمينا ممن أضلَّه الله على علم، لأن الذي يضلُّ على علم إذا نصحته يرفض النصيحة وإذا دعوته إلى الخير يرفض الخير، وهذا هو الجاهل المركَّب، أما الجاهل البسيط فإذا نُصح صاحبه يقبل النصيحة.. اللهم احمنا من الجهلَيْن.. والجهل المركَّب أشرس وأخطر من الجهل البسيط.. قال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ يعني حملوا ألفاظها، وقرؤوها، وحفظوا ألفاظها وكلماتها، لكن لم تصل بهم إلى مستوى العلم النافع الذي تتأثر به النفس.
كان شيخنا رضي الله عنه من كبار العلماء، لكنه كان قد قرأ العلم قراءةً وحفظ الكُتب حفظاً، ولم تدخل في القلب، حتى جمعه الله بأستاذ العلم والحكمة والتزكية.. وكانت الوالدة رحمها الله وغفر لنا ولها تحكي لي وتقول: “يا بُنيّ لا أعرف ماذا عمل الشيخ بوالدك! فما هي إلا أسابيع قليلة وإذ بذاك الإنسان تتغيَّر كل أخلاقه الناقصة وكل صفاته وسرعة غضبه إلى مَلَك كريم”.. مع أنه ما قرَّأه كتاباً ولا حفَّظَه متوناً ولا أعطاه شهادات، هذا: ((الجليس الصالح كحامل المسك، إما أن يبيعك وإما أن يعطيك وإما أن تشُمَّ منه رائحة طيبة)) ، رزقنا الله صحبة أحباب الله.. ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ فأحبار اليهود كانوا حافظين للتوراة وحافظين لتفاسيرها وعندهم المكتبات أشكالاً وألواناً، وعندهم التلمود حوالي عشرين مجلداً، وهو تفسير للتوراة.. هناك أناس كلما كثرت كتبهم كلما ازداد ضلالهم وبُعدهم عن التقوى، وقَويت فيهم الأنانيات والشهوات والضلال، وعلى عِلْم.
الانحراف بعد العلم من الضلال المبين:
ومثل هؤلاء كمثل تلك النكتة، يُقال: إن شخصاً من هذا النوع، من الذين قرأوا العلم ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5] رأى أعرابياً بدوياً يبول إلى القِبلة، وكانت عند هذا البدوي زوجة جميلة، فهذا الذي يسمُّوه شيخاً لكنه ليس بشيخ -هذا نسأل الله العافية- قال له: يا بدوي لماذا أنت تبول إلى القبلة؟ لقد طلقت امرأتك؛ لأن الذي يبول إلى القبلة تطلق امرأته، وهذا البدوي صدَّق، لأنّ هذا شيخ ولا يكذب، ويجب عليه أن يسمع كلام العلماء وإلى آخره، فترك امرأته.. ولَمَّا انتهت عدَّتها تزوجها الشيخ، وفي يوم من الأيام رأى البدوي الشيخ يبول إلى القبلة، فقال له: ما هذا يا شيخي؟ أنت تبول إلى القبلة، قال: لا، أنا أعرف وأحْرِف.. [أحرِف البول عن القبلة] هل فهمتم؟ نسأل الله أن لا يجعلنا من هذا النوع، وأن يجعلنا من الذين قال فيهم: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر:28] ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق:37] فإذا لم يكن لك قلب يجب أن يكون لك عقل وفِكْرٌ وتدبُّر، فالعقل والفكر والتدبّر إذا دام مع ذكر الله يَفْتَح أقفال القلوب، فتصير تَعْبُد الله في مقام الإحسان: ((أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)) ، رزقنا الله هذا الإيمان.. مقامُ الإحسان الذي هو علم اليقين، وما أقلَّ أساتذته! وقد اندثرت مدارسه، والبرامج في الكليات الشرعية ومثيلاتها كلها علوم لفظية.. نسأل الله أن يجعل علومَنا مع اللفظ علومَ القلب، وعلومَ العقل بالحكمة، والنفسِ بالتزكية.
وجوب العمل بما أنزل الله تعالى والتخلق بأخلاقه وآدابه:
قال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ حملوا قراءتها وتفسيرها وكتبها ومكتباتها ﴿ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾ [الجمعة:5] يعني عملاً وخلقاً وسلوكاً وتطبيقاً ودعوةً إلى الله وأمراً بمعروف ونهياً عن منكر.. إن أردتَ أن تحملها عليك أن تحمل أعباءها وتحمل واجباتها، وقد أتيتَ إلى الدرس.. ألا يُعلِّمُكم الشيخ على حساب قلبِه؟ [على حساب قلبه: مصطلح عامي، بمعنى أن تعليمكم يأخذ من صحته وقلبه وهو يبذل ذلك لكم، وهو في خطر بسبب ذلك.. وهنا يتكلم سماحة الشيخ عن نفسه، ولم يكن يَمُنّ على أحد في معروف، لا في تعليم ولا غيره، لكنه يقول ذلك شحناً لهمة التلميذ المحب، ومما يجدر ذكره هنا أن أكثر إخوانه يعرفون ما يقول الأطباء له، ويعرفون من الأطباء أنه كان بالتدريس يضحي بحياته وصحته، حيث كان الأطباء يمنعونه منعاً قوياً من الجلوس على كرسي التدريس ومن الكلام، ومن يسمع هذا الدرس يعرف من خلال صوته أنه كان متألماً ويتكلم بصعوبة.. وفي بعض الأحيان يكون ممنوعاً من الكلام ولو لخمس دقائق ومن ركوب السيارة ولو لبضع دقائق أيضاً، لكنه مع ذلك يأتي ويلقي الدرس لمدة ساعة ونصف مع إجهاد كبير فيه، وبعده يجلس أكثر من ساعة لصلاة الجمعة، ثم يجلس مع الضيوف، وقبل الدرس وبعده يحتاج إلى أكثر من ساعة في الطريق للوصول في السيارة إلى بيته] ثم بعدها تغادر وانتهى! لا، صار الدرس أمانة في عنقك، ويجب أن تبلِّغ كل ما تسمعه إلى مَن لم يسمعه، وإلى كل مَن لا يعلمه من جيرانك وأهلك وأصدقائك وتعلِّمه.. ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ (1) ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون:1-3] عن اللغو معرضون: هذه الآية القصيرة هل فقهتها؟ وهل قرأتها قراءة الحمير أم قراءة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ إلى ﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ [فاطر:29] ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [البقرة:121]؟ هل قرأت القرآن حق تلاوته؟
﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ﴾ مجلس اللغو، ما هو اللغو؟ الذي ليس فيه غيبة ولا نميمة، فقط أكلنا وشربنا، وذهبنا ورجعنا وما شابه، فلا نفع فيه ولا ضرر، هذا اسمه: مجلس لغو، والله تعالى وصف المؤمنين: ﴿عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون:3] فكيف مجالسنا وسهراتنا ونزهاتنا ومع أهلنا! كل ذلك غيبة ونميمة وطعن بالأعراض، فتخرج من المجلس وقد خسرت كل حسناتك، وزاد عليك سيئات فوقها، فهل أنت مؤمن؟ والله تعالى يبيِّن أنك إن كنت مؤمناً [مُدَّعِياً] فأنت لست فالحاً ولا ناجحاً، بل أنت مؤمن مخذول: ﴿مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن ْقُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة:41] يا بُني هناك موت وغداً سنلقى الله، وأعمالنا كلها مسجلة علينا، ودقائقنا وساعاتنا وأيامنا كلها سنُسأل عنها، ماذا فعلتَ في هذا اليوم وفي تلك الساعة؟ ﴿مَايَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب ٌعَتِيدٌ﴾ [ق:18].
فإذا كنت حافظاً للقرآن على السبعة وعلى الأربعة عشر ولا تعمل بأيّ قراءة، فأنت تقرأ وتعمل بالقراءة الخامسة عشر التي ذكرها الله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ يعني قرؤوا التوراة وقرؤوا الإنجيل، وكذلك مثلهم إذا قرؤوا القرآن، ﴿ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾ [الجمعة:5] لم يفقهوها.. فيجب أن تقرأ القرآن للعلم ويكون العلم للعمل، لا أن تقرأه للتلاوة دون علم ودون عمل.. وبعد العمل عليك أيضاً أن تقرأه للتعليم والدعوة إلى الله، حتى تصير بذلك مسلماً ومؤمناً.
﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ ماذا حملوا منها؟ ألفاظها قراءةً أو سماعاً أو حفظاً، أو كتباً أو مكتبةً أو شهادةً، ﴿ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾ يعني تطبيقاً وعملاً وأخلاقاً وسلوكاً، وتعليماً لِمَن لا يعلم، ودعوةً للبعيدين عن الله لتهديهم الصراط المستقيم، قال: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5] فإذا حمَّلنا الحمار حِمل كتب يكون قد حمل أمراً ثقيلاً، لكنه لا يستفيد منه ولا بحرف واحد.. أنت إذاً هل عندك علم الحمير أم علم العلماء الذين ذكرهم الله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر:28]؟ وهل عِلْمُك علمُ: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة:282]؟ وهل دخلت في مدرسة ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة:282]؟ مدرسة “يُعَلِّمُكُمُ اللهُ” هي: تقوى الله في السرِّ والعلن، في الجوارح والجوانح والظاهر والباطن.
﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5] وماذا يستفيد الحمار من حمل الكتب؟ هل يستفيد شيئاً؟ غير أنه يُكسَر ظهرُه ويعرق ويتعب من غير أن يستفيد ولو من حرفٍ واحدٍ.. وأنت يا شيخي ماذا استفدت من مكتبتك ومن شهاداتك؟! حدِّثنا.. فهناك عَوام أخلاقهم أحسن من أخلاقك، ويخافون من الله أكثر منك، ويتقون الله أكثر منك، ويدعون إلى الله أكثر منك، ويهدون الناس من الضلالة أكثر منك.. ماذا استفدنا من تحصيل العلم والمكتبة والشهادات والدكتوراه وأنه صار أستاذ جامعة أو رئيسها؟ ما وزنها في ميزان الله؟ فهنا قال الله: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ﴾، وقال فوق ذلك في آية أخرى: ﴿أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف:179] الغافلون عن ذكر الله، أين ذكرك لله؟ ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامَاً وَقُعُودَاً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران:191] أين هذا؟ ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه:14] أين؟
العلم والتقوى من العوامل المهمة في الدعوة إلى الله تعالى:
عندك تفسير الرازي وتفسير الطبري وتفسير ابن كثير وتفسير الظلال وأين العمل؟ يجب على حسب ما عندك من كتب أن تكون تقواك أكثر من كل أهل البلد، تُعلِّم الناس بتقواك وتُعلِّم الناس بسلوكك، تُعلِّم الناس بأعمالك وتُعلِّمهم بالنظر إليك، ((النظر إلى وجه العالم عبادة)) ، إذا نظر أحدهم في وجه إنسان من أحباب الله وأتقياء الله، يسري نور الإيمان إلى قلب الناظر، كما أن الأمر يكون بالعكس، فنظرة إلى فاسق نظرة حبٍّ قد تطمس نور القلب وتُباعِد عن الحق والرب.
قال: ﴿بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ [الجمعة:5] الذي يقرأ العلم ويقرأ كتب السماء من توراة أو إنجيل أو قرآن لا للعمل بها، وإنما من أجل أن يأخذ ورقة يأخذ بها لقب “ليسانس” [الشهادة الجامعية].
سيدنا أبو بكر رضي الله عنه هل أخذ هذا اللقب؟ بل أخذ لقب الصِّديق، وأخذ لقب: ((لَوْ وُزِنَ إِيمَانُ أَبِي بَكْرٍ بِإِيمَانِ الناس لَرَجَحَ)) هذه هي الشهادة! نسأل الله أن يرزقنا الحقائق المقرِّبة إلى الله، أن يرزقنا حقائق الإيمان، ويحمينا من الغرور، ويحمينا من الأماني، ويحمينا من القراءة الخامسة عشر: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾.. إذا قرأت سورة النبأ، والقراءة العادية معروفة.. ما هي علومُها؟ احكِ لي ما خلاصة سورة النبأ؟ مَن منكم قرأ سورة النبأ يرفع إصبعه؟ أنت ألم تقرأها؟ فلماذا لم ترفع؟ وأنت “يا نذير”؟ [يسأل سماحة الشيخ إخوانه ويخص بالسؤال بعض الإخوة القريبين من مجلسه، ليُرِيَهم جدية الأمر وكيفية قراءة القرآن] إِذَنْ ما هو العلم الذي استفدتمونه من سورة النبأ؟ وهذا كي لا تصيروا كالحمار يحمل أسفاراً.. لقد حمَلتم ألفاظها نطقاً، لكن هل حفظتم معانيها علماً؟ وهل حفظتم تطبيق العلم بالعمل؟
إنكار الجاحدين للبعث بعد الموت جهل وغرور:
الله تعالى يقول: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾ [النبأ:1] عن ماذا يسأل هؤلاء؟ وهم كفارُ قريش، ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ [النبأ:2] النبأ: الخبر العظيم الذي له نتائج خطيرة في الخير أو في الشرِّ، في السعادة أو في الشقاء، ﴿الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾ [النبأ:3] كل واحد منهم يقول عن القيامة شيئاً.. ﴿النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ هو أن الله يُحيِي الناس بعد موتها، وهو يوم القيامة، هذا هو: ﴿النَّبَأِ الْعَظِيمِ﴾.. ﴿كَلَّا﴾ لا يختلفوا ﴿سَيَعْلَمُونَ﴾ [النبأ:4] الحقيقة، والحقيقة ليس فيها اختلاف، ﴿ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ [النبأ:5] سيعلمون أن الحقيقة -وهي القيامة- آتية وأن الحساب أتٍ، وأن فيها مما ورد في القرآن: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18] ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7-8] لماذا ينكرون القيامة؟ كانوا يقولون: ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابَاً وَعِظَامَاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ [الصافات:16]
الله تعالى ردَّ عليهم: فهل أنتم تظنون أن الله عاجز أو أنه فقدَ قدرته؟ فهو الذي خلق الكون وخلق السموات وخلق الأرض، وإذا صرتم تراباً أفلا يستطيع أن يعيدكم كأوَّل مرة؟ وكيف كنتم أول الأمر؟ ألم يَخْلُق أدم من تراب؟ ألم يخلقه من طين؟ وأعشاب الأرض التي تنبت في الربيع، ألم تكن كلها ميتة وتراباً قبل أن ينزل المطر؟ وعندما ينزل الماء تعود وتصير ربيعاً وحشائش وزهوراً ووروداً وأرضاً سندسية.. ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادَاً﴾ [النبأ:6] فالذي عنده هذه القدرة ألا يستطيع أن يُعيدك يا أيها الصعلوك، أنت الذي تحمل شهادة الدكتوراه وغيرها.. وقد نَفَخُوا فيك، وكل هذا هواء بهواء، [هنا بعض الكلمات العامية، لكن لها أهميتها وقوة تعبيرها، فقوله: “نفخوا فيك” تشبيهاً للنفخ بالبالون، حيث أن حقيقة البالون صغيرة وتافهة، لكنه بعد نفخه بالهواء يصير كبير الحجم عظيماً، لكنه ليس في داخله غير الهواء، فلا قيمة له.. والمعنى الذي لا يخفى أنك يا من تنكر عظمة الله وقدرته وتتكبر بشهاداتك، فإن تلك الشهادات ملأتك غروراً وعجباً وجهلاً لا علماً ولا نفعاً] وليت هذا الهواء يكون أوكسجين، بل قد يكون هواءً من تحت ذنب الحمير.. أبعدوك بهذه الكلمة “دكتور” عن دينك وعن ربك، عن قرآنك وعن إسلامك، عن العقل الحقيقي.. ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا﴾ مَن جعل الأرض مثل حُضن أمِّك تنام فيها وعليها؟ مثل الفِراش ومثل السرير أينما تريد تنام.. هل تريدون أن تكونوا من الذين يتلونه حق تلاوته؟ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرَّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ [فاطر:29]
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.. وكان عليه الصلاة والسلام يقول: ((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آية)) ولو حديثاً واحداً، ولو سمعت كلمة واحدة بلِّغها لغيرك، ولأن يهدي الله على يدك إنساناً واحداً، النبيُّ ﷺ يقول: ((لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بك رجلاً واحداً خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ)) اللهم اجعلنا هادين مهديين، ولا تجعلنا ضالِّين ولا مُضلِّين ولا مَخزِيِّين.