كيد رأس المنافقين عبد الله بن أُبيِّ ابن سلول لأشرف الخلق ﷺ:
نحن في سورة المنافقون، وكلمة “سورة المنافقون” تُقرأ حسب الآية: ﴿إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ﴾ [المنافقون:1] فصارت كلمة “المنافقون” بالرفع بالواو عنوان السورة.
تقدَّم معكم سبب نزول هذه السورة، وبيان صفة فئةٍ مِن الناس في عهد رسول الله ﷺ، الذي هو خير العصور وأشرفها وأنورها، لأن خزائن السماوات أَفرغت في خزائن الأرض أقصى ما تتحمله الأرض مِن العلوم الإلهية، والحكم الربانية، والرحمات لكلِّ الخَلْق.
ومع كلِّ هذه العناية فقد اختار الله تعالى لِمن يُبلِّغ هذه العطايا الإلهية ويُوصلها أشرفَ مخلوقاته، وخيرَ ولد آدم؛ خيرَ مَن مشى على وجه هذه الأرض، كما يقول ﷺ: ((أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَلَا فَخْرَ)) أي أنا لا أقولها تفاخراً، لكن لِتعرفوا قيمة الرسالة وعِظَمها حيث انتقى الله أعظم رسولٍ لحملها.
لقد ذكر الله عزَّ وجلَّ في هذه السورة صفة فئةٍ مِن الناس، وعلى رأسهم زعيمهم عبد الله بن أُبَيِّ ابن سلول، هذا الرجل كان قَبل هجرة رسول الله ﷺ يُنظَّمُ له التاج ليكون مَلِكاً على المدينة، فلمَّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتفَّت القلوب والأرواح عليه خمدت ناره، وتحطَّمت آماله، وبقيت نفسه مُعلَّقةً بذلك الجاه الزَّائل المؤقَّت، فباع باقيَه بفانيه، وباع الخلود بالزوال، والدائم بالمؤقَّت، ولكن بعد أن قَوِيَ الإسلام، وصار دولةً؛ دولةَ القلوب ودولة الأجسام، فما وَسِعه إلَّا أنْ يخنع ويطيع ظاهراً، وأن يدبِّر مع اليهود وأعداء الإسلام كلَّ ما يُخرِّب ويهدم ما يريد الله بناءه: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ [التوبة:32].
إنّ الله تعالى إذا أراد البناء لا أَحدَ يستطيع أنْ يهدم مخطَّطه، وإذا أراد الله أنْ ينوِّر الأرض بشمسه فمهما بصق النَّاس عليها فالبصاق يرجع على وجوههم، لكن ابن أبيٍّ لم يفقه قانون الله عزَّ وجلَّ، وما استطاع أنْ يتخلَّص مِن ألوهيَّةِ أنانيَّته ونفسِه، وأنْ يتفهَّم قانون الله عزَّ وجلَّ.
فصار يُعادي النَّبيَّ ﷺ، ويتآمر عليه مع اليهود، وينشر الدِّعايات المضادَّة، ويشيع الإشاعات، وهو رأس الذين أشاعوا الفاحشة على السيدة عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك: ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور:11] وهو الذي تولَّى قيادة الاتِّهام في عرضها.
يا ترى هل نجح في مخطَّطه؟ هل تحقَّقت آماله؟ مَن ذا الذي يستطيع أنْ يُقاوم بمخطَّطاته الميتة المتهلهلة مخطط الله عزَّ وجلَّ وإرادته الرَّبَّانيَّة؟ ولكنْ هكذا صِغَرُ العقول تقود ضعفاءَ العقول إلى العمل غير الناجح وغير المحقَّق وقوعُه، وكلما مرّت [حادثة كانت تظهر منه العداوة التي يخفيها]، وكما قال عليه الصلاة والسلام: ((مَن أَسرَّ سَرِيرَةً أَلْبَسَهُ اللهُ رِدَاءَها إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ)) .
وَمَهما يَكُنْ عِندَ امرئٍ مِن خَلِيقةٍ وَإنْ خالَها تَخفَى على النَّاسِ تُعلَمِ
فالعِطر مهما خبَّأته في جيبك ستظهر روائحه.
مرَّةً تخاصم مهاجريٌّ وأنصاريٌّ، فلطم بعض المهاجرين أحد أتباع ابن أُبَيِّ ابن سلول، فثارت ثائرة ابن أُبيٍّ، وقال: “ما نحن وأصحاب محمد -ﷺ- إلَّا كما قال الأُوَل: سمِّن كلبَك يأكلك”، ثم أمر أهل المدينة أن يمنعوا عنهم مساعداتهم الماليَّة، وقال لهم: لقد أسكنتموهم دياركم، وقاسمتموهم أموالكم، فلو قطعتم عنهم لانفضُّوا عن محمد -ﷺ.
إذا أراد الله تعالى جمع شيءٍ فمَن يستطيع أنْ يفرِّقه؟ وإذا أراد الله أنَّ يُعزِّ أَحدًا فمَن يستطيع أنْ يُذلَّه؟ ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ [آل عمران:26].
الإيمان التزام بالبرنامج الإلهي:
امشِ بتيَّار الله تعالى، ولا تمشِ بتيار الشيطان، فنفسُك الأمَّارة بالسوء وهواك وأناك هم تيار الشَّيطان الذي لا ينجح، ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء:141]، فالمؤمنون هم الذين يمشون على منهاج الله تعالى، أما الكافرون فهم الذين يمشون على منهاج أهوائهم وأنانياتهم ومصالحهم الدُّنيويَّة، ولا يمكن أنْ يغلب منهاج الأنا والهوى منهاجَ الله والتقوى، ومنهاجُ الله والتقوى ليس الصَّلاة والعبادة فقط، بل منهاج الله متكامِلٌ؛ مِن العقل والعلم، والعقل يجب أن يكون بمستوى الحكمة، وهي أنْ تضع الأشياء في مواضعها وفي أوقاتها وبمقاديرها، فالسَّمن في الطعام هل تكثر منه أو تنقص؟ والهواء في عجلة السيارة هل تكثر منه أو تنقص؟ الحكمة أنْ تضع الأشياء بمقدار الحاجة، وفي وقتها وفي مكانها وفي ظروفها.
هذا هو الإيمان! والإيمان بهذا البرنامج هو علمٌ بكلِّ شيءٍ تَعْمَله وتُقبِل عليه، وتَعْرِف كلَّ أبعاده، والحكمة أن تضع الأشياء في مواضعها، والتزكية هي الأخلاق الفاضلة، وهل يمكن لإنسانٍ يحمل هذه المعاني ويأخذ لقب مؤمن بهذه المعاني أنْ يفشل أمام صاحب الأنانيَّة والغرض الشخصي والنظر القاصر والعقل الكليل؟
لا يمكن للجهل أن ينتصر على العلم، ولا للحمق أن ينتصر على العقل والحكمة.. ومفهوم الدِّين في نظر الكثير مِن الناس أنه صلاةٌ وصيامٌ وعبادةٌ، ولكن الإسلام فوق ذلك بكثير، فالعبادة [ليست كاملةً] إذا لم تكن نابعةً مِن القلب، ومتفجِّرة مِن الروح، ووصلت إلى مرتبة اليقين، وصار صاحبها يرى الغيبيات في مرآة قلبه مدرَكاتٍ ومشاهَدَاتٍ.. وهذا ما يسمَّى حقّ الإيمان، وهو ما يسمَّى أيضاً مقام الإحسان.
وكلُّ هذا لا يكفي إذا لم يكن مصحوبًا بالحكمة والعقل الحكيم الذي يرى الأشياء بأبعادها، ويربط المسبَّبات بأسبابها والنتائج بمقدماتها، ثم إلى جانب هذا أن يكون عنده مكارم الأخلاق، ((أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصْفَحَ عَمَّنْ ظلمك)) ، عند ذلك تكون مسلمًا، أمَّا أنْ تدَّعي الإسلام بمجرَّد أن تُصلِّي صلاة الجسد بلا قلبٍ وبلا ذكرٍ وبلا تدبُّرٍ وبلا عملٍ، [فهذا كما قال الشاعر:]
والدَّعاوَى إن لم تَقُم عَلَيها بَيَّناتٌ أَصحابُها أَدعِياءُ
“والدعاوى”: الادعاءات.
ويقول الشاعر
……………………….. لَيسَ التَّكَحُّلُ في العَينَينِ كَالكَحَلِ
الكَحَل هي التي تكون عيونها مكحَّلة خِلْقَةً، فهذه كُحلَةُ أعطاها الله إيَّاها، وهي كُحْلَة ثابتة، أمَّا بالتَّكَحُّل فلا يبقى للكُحْل أثر بعد أربع وعشرين ساعة.. فنسأل الله أن يثبِّتنا بقوله الثابت.
خذلان رأس المنافقين:
فهذا ابن سلول لَمَّا رأى ظهور الإسلام بمظهر القوة ما استطاع أن يُجابِه القوة بالقوة، فصار يعمل بالخفاء، ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ [التوبة:32] إذا استكملت وسائل نُور الله علمًا وحكمةً وأخلاقًا وسلوكًا عند ذلك تكون مؤمنًا.
وعند ذلك [لا يجعل الله عليك سبيلاً]: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ﴾ فإذا كانت الأُمَّة أو الدولة مؤمنة وفيها هذا الإيمان الحقيقي، ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء:141] فلا يجعل الله على هذه الدولة أو الأمة المؤمنة سبيلاً بالاستيلاء أو بالتغلب أو بالقهر.. وهذا لا يمكن! لأن قواعد القرآن والإسلام مصدرها خالق الكون وخالق نُظُمه، ولا يمكن لمصدرٍ واحدٍ أن يختلف فرعه الأول عن فرعه الثاني.
لقد حاول ابن سلول، وكانت نتيجة كلِّ محاولاته فضائحَ وذلًّا وهوانًا، حتى أنه بعد هذه الحادثة، وبعد أن حلف للنبي عليه الصلاة والسلام أنه ما قال الذي قال، قَبِل النبي ﷺ كَذِبَه.. وقد كان النبي ﷺ بمكارم أخلاقه يَقبل من المعتذر إذا اعتذر إليه، ولو كان كاذبًا، لذلك كان المنافقون يقولون عنه: إنه أُذُن، يعني يُعْطِي أُذُنَه [يستمع] لكل شخص يُكَلِّمُه ويُصَدِّقه: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ﴾ [التوبة:61] صحيح أنه يعطي أُذُنَه، لكنه يبتغي الخير، ولا تخفى عليه خافية [من أمورهم، وذلك بإذن الله ووحيه].
وبعد أن كذب ابن سلول وقَبِلَ النبي ﷺ كَذِبَهُ أنزل الله في حقِّه السورة وأنزل الوحي بفضيحته إلى يوم القيامة.. ولن أعلَّق كثيرًا على ذلك، وهذا القدر يكفي.
أقسام النفاق:
إنَّ المقصود مِن السورة الاعتبار، فابن سلول انتهى وذهب ولم يعد له أثرٌ عمليٌّ في الحياة، وقد أبقاه الله تعالى في آيات تتلى في صلواتنا وفي أورادنا وفي ليلنا ونهارنا لنتحاشى صفة النفاق.. والنفاق على قسمين
نفاق اعتقادي: [وهذا القسم من النفاق] يوجب الكفر على صاحبه، وصاحبه هو الذي يُظهر الإيمان ويُخفي الكفر، يُظهر الإيمان قولًا ويُخفي كفره في الإسلام اعتقادًا، فهذا يُعتبر كافرًا مثل ابن سلول، مع أنه كان يصلي مع النَّبيِّ ﷺ، ويأخذه معه في معاركه ويستشيره.. وهذه هي السياسة كما تسمَّى في عُرف هذا العصر، وهذه هي الحكمة، كما يقول الإمام الشافعي: “إنَّ وجوهنا لَتَبَشُّ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ” .. كان النبي عليه الصلاة والسلام يعامل كلَّ المنافقين على مستوى معاملة المسلمين، وكان في ذلك حكمة ربانية، فمعظمهم في نهاية الأمر دخلوا في الإسلام، لأنهم رأوه حقيقةً، ثم إنهم رأوا أنه لا فائدة لأنفسهم فيما يعملون مِن نفاقٍ، ولقد جَبَلَتْهُم مكارمُ أخلاق النبي ﷺ وسعة صدره حتى صاروا من خيار المسلمين.
الكذب نفاق:
وهناك نفاق أخلاقي وسلوكي عملي: [وهو القسم الثاني]، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((ثَلاَثٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا)) هذا النفاق الأخلاقي، ((مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ)) الإسلام والكذب لا يلتقيان؛ في بيعك وفي شرائك وفي جِدِّك وفي هزلك ومع الصديق ومع العدوِّ إلا في الحرب: ((فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ)) .
مرة رأى النبي ﷺ أمًّا تنادي طفلها: “تعال لأعطيك تمرًا”، فسألها: ((أَتُعطِينَه إذا أَتَى؟)) قالت: “نعم أريد أن أعطيه”، قال: ((أَلَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تَرِيدِي أنْ تَعطِيَه لَكُتِبَتْ علَيكِ عِندَ اللهِ كِذْبَة)) ، لماذا؟ لأنَّ الأمَّ بعملها تعلِّم ابنها الكذب، وفطرته ما تزال سليمة لا تعرف إلَّا الصدق، لذلك فإنَّ الأمَّ المربِّية لا تعلِّم ابنها الكذب فلا تكذب عليه، فإذا قالت له: أعطيك، يجب أن تعطيه، وإذا قالت له: آخذك، يجب أن تأخذه، والأب كذلك.
وفي مرة أخرى رأى النبي ﷺ امرأةً تفلِّي رأس أخيها، وتفرك أظافرها بشكل يلفت النظر، فسألها عن فعلها، فقالت: ليس في رأسه قملًا، فقال لها: ((إنَّ اللهَ حَرَّمَ أو نَهَى عن كَذِبِ الأَنامِل)) فالقمل غير موجودٍ، وأصابعك تكذِّب بذلك.
هذا هو الإسلام؛ فكيف الذي يكذب في بيعه؟ في شرائه؟ في عهوده؟ في معاملاته؟ مع القريب؟ مع البعيد؟ لا يصلح هذا مع الإسلام.
مُحمَّدُ هَل لِهَذا جِئتَ تَسعَى؟! وهَل أَتباعُكَ هَمَلُ مشَاعُ؟!
أَإسلامٌ وَتَهزِمُهُم يَهودٌ؟ وَآسادٌ وَتَأكُلُهم ضِباعُ!
أَيُشغِلُهُم عَن الجُلَّى نِزاعٌ وَهَذا نَزعُ مَوتٍ لا نِزاعُ
شَرَعتَ لَهم سَبِيلَ المجدِ لَكِنْ أَضاعُوا شَرعَكَ السَّامِي فَضَاعُوا
“وآسادٌ وتأكلهم ضباع”: يعني هل يغلب الضبعُ السبع؟ لا يغلب.. “أيشغلهم عن الجُلَّى”: العرب الآن مختلفون، والمسلمون متقاتلون، هل هذا إسلام؟ “شَرعتَ لهم”: الشرع هو البيان والوضوح.
الإخلاف بالوعد نفاق والإيمان أكبر من ذلك:
((مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ)) إذا وعدتَ وعدًا وشعرت أنك مغلوبٌ فيجب أن تُنفِّذ، وإلا فَلِمَ تَعِد وعدًا ثم تخلفه؟ فكِّر قبل أن تَعِدَ.. كان النبي ﷺ يصف المؤمن.. وكلمة “مؤمن” كلمةٌ كبيرة، كلمة “مؤمن” تعني ذا العقل الحكيم، لأنَّ الحكمة ثلث الإسلام: ﴿يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [البقرة:129].
فهل درست في مدرسة الإسلام وتعلَّمت الحكمة الإسلامية؟ هل دخلت مدرسة القرآن وتعلَّمت علومه وأخلاقه وسلوكه؟ إن تعلَّمت قراءة ألفاظه وحروفه فهذا وحده لا يكفي.
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ الذين أعطيناهم كتابنا السماوي ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [البقرة:121] فحقُّ التلاوة أنْ تقرأه فهمًا لتفهمه، وهدفًا لتعرف أهدافه، وتقف عند حلاله لا تتعدَّاه، وتُسارع إلى امتثال أوامره ولا تُقصِّر، وتُبتعد عن محارمه، وتَتقبَّل وصاياه، وتَتخلَّق بأخلاقه.
سُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خُلُق رسول الله ﷺ فقالت: ((كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ)) ، من السهولة أن تقرأ قرآن الوَرَق، أمَّا قرآن العمل فهو أنْ يُقرأ في أعمالك وفي أخلاقك وفي حكمة عقلك، لأنَّ النبي ﷺ ربَّى المؤمن فقال: ((لسانُ المؤمنِ من وراءِ قلبه)) .
القلب وعاء الإيمان والحب رابطته:
القلب عقلٌ ربانيٌّ، [والذي في رأسنا] عقل جسماني، يفكر ويفهم الأمور الجسدية، ويفهم الأمور الغيبية لكن إلى حدٍّ قليل، والعقل القلبي إذا أحياه الله عزَّ وجلَّ في قلب الإنسان بدوام ذكر الله والارتباط الحبِّي بمؤمن من أهل اليقين يصير عند هذا الإنسان عقلان: عقلٌ دماغيٌّ، وعقلٌ روحانيٌّ.
وهذا ما صرَّح الله به في القرآن العظيم حيث يقول: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج:46].
فلو كان المراد مِن القلب العقل لقال: “العقول التي في الرؤوس” مما يدلُّ على أنَّ هناك عقلًا ثانيًا، وكما أنَّ العقل الدماغيَّ وخلاياه لا تُدرِك إلَّا بالتغذية الدَّموية وما يحمل الدم مِن مغذِّيات، فهذا العقل الربَّاني المخبَّأ في هذا الجوف المسمَّى بالقلب لا ينمو ولا ينضج إلا بالإيمان الحقيقي؛ الإيمان الذي يَحْصل بما كان يفهمه أصحاب رسول الله ﷺ، حيث كان أحدهم يقول للآخر: “تعال نؤمن ساعةً”، فيجلسون ساعةً يذكرون الله فيها.. فكانوا يعبِّرون عن مجلس الذكر بمجلس الإيمان.
وأستاذُ الذِّكر هو الذي يُوصل إليك هذا النور بقوة روحانيته وقوة إيمانه عندما تصير بينك وبينه رابطة الحب؛ الحب الذي هو بحقيقته التقاءُ الرُّوحَين وتقاربُ الرُّوحَين، وإذا قوي يصير امتزاجَ الرُّوحَين، وهذا ما سمَّاه النبي ﷺ بمقام الإحسان: ((أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ)) وعبَّر عنه وقال: ((ولا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ)) وعندئذٍ لا يصير العبد محبًّا لله تعالى فقط، بل يصير محبوبًا لله، ويحبُّه الله تعالى.. وحبُّ الله شيءٌ جميل، أمَّا أنْ يحبّك الله تعالى [فهذا شيء أجمل]، فقد تُحب إنسانًا وهو لا يحبُّك، قد تحب خطيبتك وهي لا تحبُّك، أو تحبُّ أخاك وهو لا يحبُّك، لكن هنا فأنت تُحبُّ وهو يُحبُّك: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة:54].. ((كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ)) وكما قال قائلهم
وإنْ تَكَلَّمتُ لم أَنطِقْ بِغَيرِكُمُ وإنْ سَكَتُّ فَشُغلِي عَنكُمُ بِكُمُ
فالتعلق الحبِّي والارتباط الروحي حبًّا بإنسان ينتج عنه مثلما قال النبي ﷺ: ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِه، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)) .
الرابطة قبل الذكر:
كذلك من آداب الذِّكر أن يلحظ الذاكر قَبل الذِّكر أنه في جلسة مع الشيخ، من باب: ((أولياء أمتي من إذا رُؤوا ذُكر الله بهم)) وأثرُ المحبوب يذكِّر بالمحبوب.
هل سنجلس مع أمورنا الدنيوية أم مع الله تعالى؟ الشيخ يقول لك: ابقَ معي حتى تمحو صورتي كل هذه الصور.. وباعتبار أن للشيخ حالة قُرب مع الله فصورته تذكِّر المريد بالله وتخلِّصه من الأغيار، وتجعله مهيَّأً لأن يكون وِتْرًا: ((إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ)) ، [تكون وتراً عندما تكون بمفردك من دون الشواغل الدنيوية] ثمَّ [يقول لك الشيخ]: اترك صورتي وادخل مع الله وحدَكَ.. فالرابطة لا تعني أن تعبدَ الشيخ، لا يا بني، لأن الشيخ عبدٌ من عباد الله تعالى.
وطالب العلم اليوم مسكين لا يفهم! لم يدرس الموضوع ولم يفهمه ولم يتذوَّقه، وقد يَفْهَمه فهمًا غير صحيح، وقد يَعْرِض أيضًا مفهومه الخاطئ على الناس ويُوْقِعُهم في الخطأ.
وإذا كُنتَ بالمَدَارِكِ غِرًّا ثُمَّ أَبصرَتَ حاذِقًا لا تُمارِي
غِرًّا: يعني جهولًا لا تعرف الأشياء المدرَكة.
“ثُمَّ أَبصرَتَ حاذِقًا لا تُمارِي”: إذا رأيت العالِم بالحقيقة فلا تُجادل، وأنت جهول في الأمر الذي تبحث عنه، فلم تقرأه علمًا، ولا عرفته ذوقًا، ثم تدخل في شيء ليس لك به صلة علمية ولا ذوقية.. وهذا من باب “رحم الله امرأً عَرف قدره ووقف عنده”، هل يصح أن أتكلم أنا في الكمبيوتر؟ وإذا تكلمتُ فهذا يدلُّ على جهلي وعدم حكمتي.
عليك أن تدرس الأمر دراسة، فادرس كتب التصوف، واعرف ما معنى الرابطة.. الرابطة: معنى من معاني الحب، هل كانوا في زمن النبي ﷺ أيعرفون المبتدأ والخبر والفاعل والمفعول؟ هذه أمور اصطلاحية، والحقيقة أن الرابطة لا تخرج عن الحب في الله: ((وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ)) ، وهي وسيلة للتحقُّق بمحبة الله عزَّ وجلَّ.
“وإذا كنت بالمدارك غِرًّا”: أي جاهلًا لا تعرف ولا تفهم، فاسكت واستر جهلك.
وإذا كُنتَ بالمدارِكِ غِرًّا ثُمَّ أَبصرَتَ حاذِقًا لا تُمارِي
وإذا لم تَرَ الهِلالَ فَسَلِّمْ لِأُناسٍ رَأَوهُ بِالأَبصارِ
إذا كنت لا تفهم هذه الأشياء فعليك بالقراءة، واقرأ كتب التصوف، فهل كان الإمام وسيدنا عبد القادر الجيلاني لا يفهم؟ وهل كان شاه نقشبند لا يفهم؟ هل كان هؤلاء أميِّين أو عوامَاً؟ وهل كان الإمام الشافعي لا يفهم؟ ثمَّ إنَّ الإسلام لم ينتشر إلا بطريق التصوف.. فنسأل الله أن يرزقنا الفهم والأدب ويرزقنا الحكمة.
نرجع إلى موضوعنا
إخلاف الوعد نفاق:
((مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ)) يروى أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وعد شخصًا في الطواف أنْ يزوِّجه ابنته، ومرض بعد ذلك بمدَّة قريبة، فقال وهو في النَّزْع: “اشهدوا عليَّ أنِّي زوجت ابنتي فلانة لفلان الفلاني”، قالوا له: “أنت في ساعة لقاء الله وانتقال للآخرة، وهل هذا وقت الزواج؟” فقال لهم: “إني وعدته، وخفت أن أخلف وعدي معه، فألقى الله بثلث النفاق”.
((ثَلاَثٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا، ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ)) يا ترى المسلم والمسلمة.. أنتم أبناء المسجد ذكورًا وإناثًا هل تُحافظون على الوعد؟ هل تحافظون على العهد؟ على الصدق بالقول؟ ولو كان في الأنامل، ولو كان مع طفل بقولك له: تعال حتى أُعطيك.
بعض المحدِّثين رأى محدِّثًا ينادي مُهْرَه: تعال، يشير إلى المهر أنَّ في ذيل ثوبه شعيرًا، فقال: هل يوجد شعير في ذيلك؟ فقال: نعم، قال له: لو لم يكن شعيرٌ في ذيلك لَما رويتُ الحديث عنك، فالذي يكذب على الحيوان يكذب على رسول الله ﷺ.. هذا هو المجتمع الإسلامي الذي قال الله تعالى عنه: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء:141].
مرةً تواعد النبي عليه الصلاة والسلام مع رجلٍ أن يلتقيا في مكانٍ، فذهب النبي ﷺ إلى المكان المحدد في الوقت المحدد، فلم يأتِ الرجل إلا بعد ثلاثة أيَّام، والنبي ﷺ ينتظره، فقال له: ((يَا فَتًى، لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَيَّ، أَنَا هَا هُنَا مُنْذُ ثَلَاثٍ أَنْتَظِرُكَ)) .
يا ترى أنتم -الذين في الجامع- هل تفعلون كذلك بالوعود بين بعضكم بعضاً؟ في العطاء وفي اللقاء وفي التعاون وفي أي قضية؟ كثير من الناس يقول لي: أنا آتيك في الساعة العاشرة، تصير العاشرة والربع، والعاشرة والنصف، والحادية عشرة إلا ربعًا، والحادية عشرة، والحادية عشرة والنصف، ومنهم من يأتي بعد ساعتين ونصف، وتارة يكون هذا الشخص شيخًا أيضًا، فهل هذا شيخ؟ وهل هذا عالم؟ هذا يجب أن يوضع في الكُتَّاب حتى يتعلَّم الوفاء بالوعد، لئلَّا يصير منافقًا.
سفير سويسري مِن شهور كان على موعد أن يأتيني إلى المنزل، فتأخَّر عن المجيء دقيقتين، وكان الموعد في الساعة الحادية عشرة، فأتى في الساعة الحادية عشرة ودقيقتين، قال لي: أرجوك لا تؤاخذني، أنا تأخَّرت عن الموعد.. وأراني الساعة في يده، وهي تشير إلى دقيقتين.. هذا هو الإسلام! لذلك هل ينجحون في الحياة؟ نعم ينجحون.
والمسلم لا يهمه الوعد، يقول لك: سيأتي بعد العصر.. ما هذا الموعد؟ وإذا جاء في منتصف الليل فهذا بعد العصر.. يدقّ الباب عليه، فيقوم من نومه، فيقول له: قد أخبرتك أني سآتيك بعد العصر، وقد أتيتك بعد العصر لا قبله.. [يقول ذلك سماحة الشيخ ممازحاً وهو يضحك ويضحك معه الحضور] هل هذا إسلام؟ هذا هزءٌ بالإسلام، لقد أهنَّا الإسلام، وصار اسم الإسلام في العالم غير الإسلامي اسمًا موحِشًا، واسمًا منفِّرًا، وهذا بسبب سلوك المسلمين في عصرنا الحاضر، ولكنهم عندما يفهمون الإسلام ولو بكلمة: ﴿يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ [الإسراء:107-109]
صور من تأثر غير المسلمين بكلام سماحة الشيخ:
كنتُ في مؤتمر اليابان الذي كان تحت عنوان: “قيمٌ تتغير من أجل البقاء الإنساني”، حيث تَكَلَّم في اليوم الأول شخصان، كان أحدهما المفتي العام [أي سماحة الشيخ أحمد كفتارو] حيث كانت له الكلمة الأُولى، أقول هذا لأُفَهِّمَكم عظمة الإسلام، وكيف أن الناس عندما يرون نقطةً من بحر الإسلام يحبونه، فلمَّا انتهت الجلسة أتتني سكرتيرة المؤتمر، وهي أستاذة جامعية في أمريكا، عمرها فوق الخمسينات -لا تظنوا الظَّنَّ- [بمعنى: “لا تظنوا ظنّ السوء”، وهو يشير بذلك إلى أنها امرأة وأتت إليه وهو رجل.. يقول ذلك ممازحاً، فيضحك ويضحك المستمعون.. وإن كان قال ذلك مع ضحك، لكن في كلمته حكمة، وذلك حتى لا يظن ضعاف النفوس أن الشيخ عندما يسافر إلى البلاد الأجنبية لا يلتزم بالحدود الشرعية في تعامله مع النساء، كما يفعل كثير من الناس] جاءتني وهي باكية وقالت لي: طول مدة كلامك كنت أبكي.. وأتاني أحد قادة الأديان البوذيين، وكان أيضاً يبكي، وقال لي: لا يوجد ترجمة لمحاضرتك، لكنني من سماع صوتك كنت أبكي، وأحسّ أنّ قلبي يدخل فيه شيء، يدخل فيه رُوْحٌ.. هذا هو الإسلام.
رئيس طائفة الأموتو سمع محاضرتي في الكرملين في نفس المؤتمر التابع لهيئة الأمم، فقال: كنت أجد نورًا يخرج من فمك.. ومن ذلك تَعَلَّق [قلبه بالشيخ]، وكان سبب إسلامه مع كبار طائفته.
فنحن نُهين الإسلام بانتسابنا إليه، ويجب أن نُعلِنَ أننا لسنا مسلمين حتى نرفع المهانة ونرفع هذا العار عن الإسلام، فمسلمو هذا الزمان شيءٌ والإسلام شيءٌ آخر.
خيانة الأمانة نفاق:
المنافق: ((مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ))، إذا تحدث إليك أحدٌ بحديث فلا يجوز أن تفشي حديثه للناس إذا كان إفشاء الحديث يسوؤه أو يؤذيه، لأنَّ النبي ﷺ كان يقول: ((الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ)) .
إذا سبَّ شخص رفيقه أو أخاه أو عمَّه، أو يريد أنْ يبيع بيعةً أو يشتري سلعةً، أو يتزوَّج، فهل تُفشي سرَّه؟ ((الْمَجَالِسُ بِالأَمَانَةِ إِلاَّ ثَلاَثَة مَجَالِسَ: سَفْكُ دَمٍ حَرَامٍ، أَوْ فَرْجٌ حَرَامٌ، أَوِ اقْتِطَاعُ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ)) فمن أجل التَّحذير لا بأس في ذلك، أمَّا من أجل الشيطان وتصير نمَّامًا وينقل الأحاديث فتخرج حينها مِن الإيمان إلى مدرسة ابن سلول: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ﴾ [المنافقون:1] فابن سلول نفاقه نفاق كفر، وهذا نفاقه نفاق الأخلاق.
النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((ثَلاَثٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا))، فإذا كذبت وقال لك شخص: يا منافق، فلا تنزعج، قل له: واللهِ صدقت، قد وصفتني بالحقيقة الواقعة.. وإذا أخلفت بالوعد، وبأيِّ وعدٍ كان؛ في لقاء أو في بيع أو في شراء أو في عطاء أو في زيارة.. ((مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)) ، هذا من جهة.
النفاق: مخالفة العمل للقول:
ومن جهة ثانية: فالنفاق هو بحسب الحقيقة كما يُروى عن بعض أصحاب رسول الله ﷺ أظنُّه حذيفة رضي الله عنه حيث كان يقول: النفاق هو أن تنتسب إلى الإسلام، وأن تَقُولَ بِقَوْلَة الإسلام، وأن تَصِفَ الإسلام.. مثل الخطيب على المنبر يقول: الإسلام كذا وكذا.. الصدقة والحلم ومكارم الأخلاق والجيران وبرُّ الوالدين وأن نقابل السيئة بالحسنة.. لكن هو لا يعمل بما يقول وبما يدعو إليه.. وهذا اسمه نفاق العمل والأخلاق.
فمن المنافق؟ كان سيدنا حذيفة رضي الله عنه يقول: “هو الذي يَصِفُ الإسلام ولا يعمل به”.. وهؤلاء شرٌّ من المنافقين في زمن رسول الله ﷺ، فإنَّ المنافقين في عهد رسول الله كانوا يُخفون نفاقهم، وأما هؤلاء فإنهم يُظهرون نفاقهم ولا يكتمونه، بل يتباهون به.
علينا إذا قرأنا سورة المنافقون أن نفقهها: ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)) ليس المقصود أن تتعلَّم النطق به، فشريط التسجيل ينطق بألفاظ القرآن أحسن من نطقك، هل هذا الشريط صار “خيركم”؟ إذا كنت لا تعمل به فوالله هو “خيركم”، فإذا كانت الخيرية في إجادة نطق الحروف فهو “خيركم”، فنطقه خيرٌ من نطق الكثير من المسلمين.
((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ)) مَن تعلَّم علومه؛ العلوم التي توجب العمل، أما العلم الذي لا يوجب العمل فهو حُجَّة الله على صاحبه، وهو سائقه إلى نار جهنم، ((أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ)) .. اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، وأيضًا ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ)) .
البناء الإيماني للنفس والأمة يحتاج إلى الإخلاص:
فالعلم إذا لم يَصِر عملاً، والعمل إذا لم يَصِر إخلاصاً، فإنّ: “الناس هلكى إلا العالمين، والعالمون هلكى إلا العاملين” العلم بالعمل “والعاملون هلكى إلا المخلصين، والمخلصون على خطر عظيم” يقع في العُجب وفي الأنانية مثلما وقع إبليس، فقد كان عالمًا وعاملًا ومخلصًا خمسين ألف سنة، لكن بلحظة من اللحظات وقع في العجب وقال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ [الأعراف:12] فلحظةٌ أحبَطَت عمل خمسين ألف سنة، “والمخلصون على خطر عظيم”.
لَمَّا توفي عثمان بن مظعون رضي الله عنه قالت زوجته: “هنيئًا لك عصفورٌ مِن عصافير الجنة”، فسمعها النبي ﷺ وقال لها: ((وَما يُدرِيكِ؟)) قال ذلك بشيءٍ مِن الغضب وعدم الرِّضى عن هذه الكلمة، ثم قال: ((أَما أَنا فَلا أَدرِي ما يَفعَلُ اللهُ بي!)) .
فيا أيها الإخوان والأخوات، اليوم نحيا في هذا الجسد، والحقيقة أننا محبوسون في هذا الجسد كما يُحبَس الأطفالُ في مدرستهم لنتعلَّم ولنترشَّح لنكون مِن مواطني الجَنَّة وفردوسِها الأعلى.
فإذا كنا في قفص هذا الجسد وسجنه ومدرسته وما أحسنَّا ثقافة السماء وثقافة الإيمان فلن ننجح، والمسلمون لما تثقفوا بثقافة الإسلام الكاملة كانوا أسياد العالم، وكانوا هم مجلس الأمن، وهم هيئة الأمم، وهم الذين قهروا الاستعمار الشرقي منه والغربي وهزموه وحطَّموه، ونحن اليوم مع شُذَّاذ الآفاق -كما سميناهم- ومنذ خمسين سنة، ما هو موقفنا تجاههم؟
أَإسلامٌ وَتَهزِمُهُم يَهودٌ؟ وَآسادٌ وَتَأكُلُهم ضِباعُ!
أَيُشغِلُهُم عَن الجُلَّى نِزاعٌ وَهَذا نَزعُ مَوتٍ لا نِزاعُ
المسلمون يتنازعون، والله يقول لهم: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا﴾ [الأنفال:46].
إن الإنسان [يحتاج إلى من يَبْنِيْه]، وهذا البناء من حديد وإسمنت ورمل وماء، لكن أيصير بلا مهندس وبلا بَنَّاء؟
قُم لِلمُعلِّمِ وَفِّهِ التَّبجِيلا كَادَ المعلِّمُ أنْ يَكُونَ رَسُولا
أَرَأَيتَ أَعظَمَ أَو أَجَلَّ مِنَ الذي يَبنِي وَيُنشِئُ أَنفُسًا وَعُقُولا
وكما قال الشاعر
يَبنِي الرِّجالَ وَغَيرُهُ يَبنِي القُرَى شَتَّانَ بَينَ قُرًى وَبَينَ رِجالِ
النبي عليه الصلاة والسلام ماذا بنى؟ بنى أبا بكر رضي الله عنه.. بعد وفاة رسول الله ﷺ انهارت الدولة الإسلامية، وانهار نصف الإسلام الذي هو دولة بوفاة رسول الله ﷺ، وارتدَّ العرب حتى خاف أهل المدينة أن يفاجَؤوا بالهجوم والغارات مِن أهل الردة، ولكنه بإيمانه وعقله الحكيم، وبصموده الإسلامي استطاع أنْ يُطفئ نيران الرِّدَّة، وفي نفس الوقت أعلن الحرب على الدولتين العالَميَّتَين الأعظم، وهل انهزم كما انهزم صدام؟ [صدام حسين رئيس العراق عند الاحتلال الأمريكي] لأنَّ سيدنا أبا بكر رضي الله عنه كان المسلم الحقَّ؛ مسلم العلم ومسلم الحكمة ومسلم التزكية، المسلم الكامل.. والمسلم بهذا المعنى لا يَصْدُر عن أمرٍ إلا بإذنٍ مِن الله.. لهم قلوبٌ مع الله لا يفارقونها ولا تفارقهم.
شيخنا رضي الله عنه كثيرًا ما كنت أسمع منه يقول: دعوتُ الله عند الملتزم بثلاث دعوات، ولم أفارق الملتزم حتى علمتُ استجابة دعواتي الثلاث
أحدها: أنْ يوسِّع الله الجامع أكثر مما هو عليه، فقد كانت مساحته ستينَ مترًا، والآن صارت مساحته أكثر من أربعة آلاف متر.. رضي الله عنه وأرضاه.
ثانيها: أن يجعل خليفته من صلبه.
وثالثها: أن يَحْشُر الله أحبابُه معه في الدار الآخرة مع رسول الله ﷺ.
فالله تعالى حقَّق له الاثنتين، ونرجو الله أنْ يجعلنا مِن رفقائه تحت لواء سيدنا رسول الله ﷺ.
الأنانية والعناد تحرم من الجائزة:
نرجع إلى سورة المنافقون، ابن سلول ذهب، لكن احذر أن تكون أنت ابن سلول زمانك، لأنَّ كل مَن يخرِّب الإسلام ويخرِّب بناء الدعاة إلى الله وإلى الإسلام بأي شكلٍ من الأشكال، فهو سَلُوْلِيٌّ من أتباع ابن سلول، فمنهم من يخربون على الدعاة بالأكاذيب وبالأهواء وبالأنانيات وبالمصالح الدنيئة الحقيرة، قال الشَّاعر
كُلُّ عَصرٍ فِرعَونُ فِيهِ وَمُوسَى وَأَبو الجَهلِ في الوَرَى وَمُحمَّدُ
هل هناك أعظم من عِلم النبي ﷺ وحكمته ونور طلعته وعظيم أخلاقه وتواضعه وسخائه وحلمه؟ ومع ذلك فإن أبأ جهل الذي كان من أذكياء قريش وسادتهم، لم تَقْبَل نفسُه وهواه ومصلحته الدنيوية الدنية من الجاه أنّ يتيمَ أبي طالب يتزعمهم! وقد رأى أنَّ النبي ﷺ يريد أنْ ينازعه زعامته، وما رآه رسولَ الله، فعاداه، حتى سماه النبي ﷺ فرعون هذه الأمة، ولَمَّا أُتي برأسه في معركة بدرٍ، سجد النبي ﷺ سجدة الشكر وقال: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قتل فِرْعَوْنُ هَذِهِ الأُمَّةِ)) .
العمل لا النسب هو المعتبر في ميزان الله:
أبو لهب عمُّ النبي ﷺ ما رأى النبيَّ ﷺ، ولا رأى الرسالة، بل رأى ابن أخيه، [ما كان ينظر أن محمداً ﷺ هو رسول الله، بل هو مجرد فتى وأنه ابن أخيه لا أكثر، وعليه أن يتبع عمَّه أبا لهب] وكان عقله الأعوج لا يتناسب مع عقل النبوة.. والله تعالى ما ذكر كافرًا في القرآن من هذه الأمة باسمه إلا عمّ النبي عليه الصلاة والسلام: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد:1].
أشقى الشقاء أن يُحرَمَ الأقارب بركات النبوة أو الولاية أو الدعوة، والمسألة ليست متعلقة بالبُعد أو القُرب، فسلمان الفارسي: ((سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ)) وهو فارسيٌّ، وأبو لهب عمُّ النبي ﷺ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد:1] فنسأل الله ألا يجعلنا لَهَبِيِّين، بل أن يجعلنا سبحانه سَلْمانِيِّين.
وإذا كنا أيضًا ضمن قرابة جسدية مثل سيدنا علي وسيدنا الحسن والحسين رضي الله عنهم؛ قرابة جسدية مع النبي ﷺ، فحينها نصير: “اللهم صل على محمدٌ وعلى آل محمد”، نحن لا نقول: اللهم صلِّ على فرعون وآل فرعون ولا على ابن نوح: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [هود:46] ولا على آزر أبي إبراهيم أبي الأنبياء، فأبو الأنبياء كان أبوه وثنِيَّاً عابد صنمٍ.
الحاجة إلى المعلِّم المربِّي:
نرجع إلى موضوعنا.. فلنحذر أن نتسمَّى بالإسلام قولًا وتمنيًّا وتوهُّمًا، الإسلام علمٌ وعملٌ وأخلاقٌ ومعلِّمٌ ومربٍّ وحكيمٌ، هل تتعلَّم العمل على الكمبيوتر من سائق السيارة؟ وإذا أردت تَعَلُّم اللغة الإنكليزية وذهبت إلى صينيّ، فهل تتعلم الإنكليزية؟
المسلمون حُرِمُوا العالِم الحكيم المزكِّي الذي يصنع الإنسان المسلم.. إنك لا تصير مسلماً بمجرد أن يكون أبوك مسلماً أو أمك مسلمة، بدليل أنَّ ابن نوح كان أبوه عليه السلام من أولي العزم، وأبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام كان أبوه كافراً.
فالنسب لا يشرِّف ولا يدنِّس، والذي يشرِّف ويدنس هو العمل لا القرب ولا النسب ولا الانتماء ولا الادعاء، كذلك لنكون مسلمين ونكسب عزة الإسلام [علينا بالعمل].
إنّ المسلم اليوم في الحقيقة مُعَزَّزٌ، والإسلام معزَّزٌ، وحين تكون مسلمًا في سُوقِك، صادقًا بنطقك، وفيًّا بوعدك، أمينًا بمعاملتك، آمرًا بالمعروف [تصير مُعَزَّزاً ومحبوباً].
الولاية بين المؤمنين توجب إحياء ثقافة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة:71] فإذا لم يكن المسلمون أولياء بعض فقد خرجوا مِن صفة الإيمان الحقيقي الكامل، والمؤمن يألف ويُؤلَف، لأنَّه يتخلَّى عن هواه وأناه إلى رغبات الله ووصاياه.
واللهِ إن رغبات الله ووصاياه كلَّها لمصلحتك، لأنَّ الذي يمشي على رغبات الله ويَألف ويُؤلَف ويُؤثِر جانب الله على جانب نفسه، هل يخسر في آخر الطريق؟ من مشى منكم مع الله على هذا المنهاج بشكل صحيح ثم خسر، فليرفع يده لأراه.. واللهِ إنَّ الله يخرق له العادات، ويقرِّب له البعيد ويُهوِّن عليه المشاق، ويجعل له المستحيل ممكنًا وجائزًا والبعيد قريبًا.
﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [التوبة:71] أينما كنت إذا رأيت شخصًا تاركًا واجبًا عليك أن تأمره بالمعروف؛ سواء الواجب لربه أو الواجب للناس أو الواجب لأهله أو لوالديه أو أرحامه أو جيرانه أو أجيره أو دائنه أو مدينه، أو مقصِّراً، فإذا كنت مؤمنًا [تأمر بالمعروف] بلا خيار، الشمس هل لها خيار في إيصال نورها إلى الأرض؟ هل تستطيع الشمس أن تمنع نورها؟ مستحيل، الشحرور [طائر صغير أسود، معروف بعذوبة صوته] هل يمكن أن يجعل صوته مثل صوت الغراب؟ لا يمكن؛ كذلك المؤمن لا يستطيع أن لا يتخلَّق بأخلاق الإيمان.
((من أَمر بِمَعْرُوف فَلْيَكُن أمره بِمَعْرُوف)) كيف تَدَّعي الإيمان وفي أهلك تاركٌ للصلاة ومانعٌ للزكاة وغير ذلك؟ هل في يوم من الأيام تذكَّرْتَ أن الإيمان يوجب عليك الأمر بالمعروف؟ عليك أن تدعوهم لسهرة أو تذهب إليهم وتكلِّمهم بحكمة وبلطف وبإيناس وبأسلوب من الأساليب، ((لَأنْ يهديَ اللهُ بكَ رجُلًا واحدًا خيرٌ لكَ مِن حُمْر النَّعَمِ)) .
﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [التوبة:71] هؤلاء هم المؤمنون.. وكيف بك إذا كنت تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف، فهل هذا اسمه إيمان؟ وهل أنت مؤمن؟ ففتش في نفسك.. إذا كنت تعرف أنّ جارك تاركٌ لواجب، هل فكرت -لتُثْبِتَ أنك مؤمن وتظهر فيك صفة الإيمان- أن تذهب إليه وتطرق عليه الباب، أو تدعوه إلى فنجان قهوة، وتكلمه بأسلوب مناسب لطيف.. فإن كان لا يصلي لا تقل له: أنت لا تصلي.. فإنْ كان لا يصلِّي تجعله بأسلوبك مصلِّياً، وإنْ كان غير مزكٍّ تجعله مُزَكِّياً، وإنْ كان لا يحضر الجماعة تجعله يحضر الجماعة، وإن كان جاهلًا تأخذه إلى مجلس العِلم.. وهل مجلس العلم معروفٌ أم منكَرٌ؟ وهل ترك العلم والغرق بالجهل معروفٌ أم منكر؟
خطب النبي ﷺ فقال: ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ لَا يُعَلِّمُونَ جِيرَانَهُمْ، وَلَا يُفَقِّهُونَهُمْ، ولا يفطنونهم، وَلَا يَأْمُرُونَهُمْ بالمعروف، وَلَا يَنْهَوْنَهُمْ عن المنكر؟)) النبي ﷺ يقول: ما بالهم؟ هل هؤلاء مسلمون؟ هل هؤلاء مؤمنون؟
كيف لو كان النبي عليه الصلاة والسلام حيّاً وعرف أننا لا نسأل عن الآخرين وعن جيراننا وعن أقاربنا وعن أصحابنا في السوق وفي السكن! أليس هؤلاء جيرانًا؟ النبي ﷺ ألا يقول ذلك؟ والله تعالى ألا يقول ذلك؟ يا ترى هل نفهم كلام الله؟ لا نفهمه.. هل نفهم كلام النبي ﷺ؟ لا.. لأنه: ﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد:24] وكذلك: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق:37] فالطاقة الدافعة تأتي من القلب، وفيه الطاقة المُصَوِّرة والمُفَكِّرة، فإذا لم يكن مع الخريطة مهندسٌ منفِّذ فالخريطة لا تفيد، والورق لا يجعلك مؤمنًا.. هل كان في زمن النبي ﷺ مصحف مثل هذا؟ [يمسك سماحة الشيخ بيده مصحفاً مطبوعاً ويرفعه ويشير به] هل كان موجوداً؟ كان هناك مَن يحفظ عشر آيات، ومَن يحفظ خمس آيات، لكنهم كانوا مِن الدَّاخل مصحفًا، وأعمالهم كانت المصحف ببركة المعلِّم المربِّي الحكيم المزكي ﷺ.
﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر﴾ ثم قال: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ [التوبة:71] ((وَمَا بَالُ أَقْوَامٍ لَا يَتَعَلَّمُونَ مِنْ جِيرَانِهِمْ؟))، إذا رأيت جارك فقيهًا ذاكرًا مؤمنًا فاذهب إليه، هذا هو التضامن، والضمان العلمي والضمان التربوي والضمان الأخلاقي.
ألا يقولون: الضمان الاجتماعي؟ فما هذا التضامن الذي أوجده سيدنا رسول الله ﷺ؟ هو أنَّ يجعل من المجتمع لا مجتمع العلم؛ لا مجتمع العلم النظري الكلامي، بل مجتمع العلم العملي الأخلاقي العقلاني الحكيم.
((وَمَا بَالُ أَقْوَامٍ)) إذا قصَّر المعلِّم في المجيءِ فالمتعلِّم كما يقول الأثر المشهور: “العلم يُؤْتَى ولا يأتي” فالمريض يأتي إلى الطبيب، لكن إذا كان عاجزًا فالطبيب يجب أنْ يذهب إليه، ((وَمَا بَالُ أَقْوَامٍ لَا يَتَعَلَّمُونَ مِنْ جِيرَانِهِمْ، وَلَا يَتَفَقَّهُونَ، ولا يَتَفَطَّنُونَ ولا يأمرون ولا ينهون؟ ثم قال: والله ليُعلِّمُنَّ أقوامٌ جيرانَهم وليفقِّهُنَّهُم وليُفَطِّنُنَّهُم، وليأمُرُّنَّهم وليَنهُوَنَّهم، وَلَيَتَعَلَّمْنَ قَوْمٌ مِنْ جِيرَانِهِمْ، وليتفقَّهُنَّ وليتفطَّنُنَّ أَوْ لَأُعَاجِلَنَّهُمُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا)) ، فالتقصير في التعلُّم للجاهل، والتقصير في التعليم للعالِم يُحال إلى محكمة الجزاء أو الجنايات.
إنّ الإسلام جعل التعليم إجباريًّا عقائديًّا دِينيًّا حكوميًّا، والدولة ملزَمةٌ بالتعليم والتعلُّم، والمجتمع العالِم ملزَمٌ بالتعليم، وهل يوجد أجرة؟ هل يوجد راتب؟ ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام:90] هذا مفهوم الدِّين! وهل يا ترى هو موجودٌ في نفس المسلم والمسلمة في وقتنا الحاضر؟ فكيف سندخل الجنة؟
أتى النعمان بن بشير رضي الله عنه لَمَّا أسلم إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: علِّمني الإسلام.. فعلَّمه، ومِن جملة ما قال له: ((والصَّلاَةَ والصَّوم والحجَّ والزَّكَاةَ والجِهَادَ))، قال: “يا رسول الله أما الزكاة فليس عندي مال كثيرٌ”، يريد أن يعتذر عن أداء الزكاة، ثم قال له: “وأما الجهاد فإني رجلٌ جبان”.. أراد أنْ ينسحب مِن الجهاد ومن الزكاة.
فقال له النبي ﷺ: ((فَلاَ جِهَادَ وَلاَ صَدَقَةَ، فَبِمَ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِذًا؟)) فكيف إذا كان لا صلاة ولا صوم ولاحج ولا فكر ولا معلِّم ولا مربٍّ ولا مرشِد، وكان سبَّاب دِينٍ آكل حرامٍ زانٍ فاسق! فهذه سورة المنافقون، وهذا هو المنافق! وهو يقول: أنا مسلم.. يصف الإسلام ويدعي الإسلام ولا علم عنده ولا عمل: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء:145].
اتهام النفس بالنفاق ورع:
((مرَّة الصديق رضي الله عنه سأل سيدنا حَنْظَلَة رضي الله عنه قال له: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ قال له: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قال له: وكيف؟ قال: إذا كنَّا مع رسول الله ﷺ صَفَت قلوبنا حتى كأننا نرى الدار الآخرة))، ويصير ذلك إما بما يسمعونه ويدخل في أعماق مشاعرهم وأحاسيسهم، وإمَّا بصفاء قلوبهم وروحانيتهم، حيث كانوا يرون في مرآة القلوب صورَ الدار الآخرة جنَّتَها ونعيمَها.
وكما حدث مع حارثة رضي الله عنه عندما قال للنبي ﷺ: كأنني أرى أهل الجنة في نعيمهم، وأهل النار في جحيمهم، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، فقال له: ((عَبْدٌ نَوَّرَ اللهُ قلبه بالإيمان)) ، ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ [يونس:9] فبعد أن تؤمن يقول الله لك: ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:41] فالذكر الكثير يجعلك تنتقل مِن مقام الإيمان الغيبي إلى الإيمان الشهودي المسمى بمقام الإحسان وبعلم اليقين.
“قال: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قال له: نَافَقَ حَنْظَلَةُ! قال: كيف؟ قال: إذا كنَّا مع رسول الله ﷺ صفت قلوبنا حتى كأننا نرى الدار الآخرة، فإذا فارقنا مجلسه وعافسنا الأهل والولد أنكرنا قلوبنا” قلوبنا تتغير علينا.. وبعضهم قال: “والله مَا نَفَضْنَا أيدينا من تراب قبر رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا” .
“قال له: وأنا كذلك”، فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فقال لهم: ((لَو بَقِيتُم على ما أَنتُم عَليهِ عِندي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ))، تنتقلون إلى الحياة الملائكية، وتلتقون بعالَم الروح، تصعدون وتعرُجون إلى عالَمِ الروح وعِلْمِ الروح: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ [القدر:4].
((وَلَكِنْ سَاعَةً وَسَاعَةً)) ، جيد أنْ تكون “ساعةً وساعةً”، فكيف إذا لم تكن له مِن الساعة الثانية دقيقة لا في اليوم ولا في الجمعة ولا في السنة ولا طول العمر! وليس له لقاءٌ وجلسة مع وراث رسول الله ﷺ: ((الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)) الوارث الذي يرث عِلم النبوة، وحكمة النبوة وقوة تزكية النبوة، ولا ريب أنه لا يصل إلى مقام النبوة، لكنه يشرب مِن ذلك المَعِيْن ويَسْتَمِدُّ طاقته من تلك الطاقة النبوية المتَّصِلة بالحضرة الإلهية.
فإذا لم يكن لك معلِّم النجارة فكيف ستصير نجَّارًا؟ وإذا ما جلست مع الحدَّادين وتلَّوث وجهك وثيابك مِن الفحم الحجري وداوَمتَ في مدرسة الحدَّاد كيف ستصير حدَّادًا؟ وإذا كانت زوجتك بالمشرق وأنت بالمغرب فهل تُرزق الأولاد؟ لذلك كانت الهجرة فرضًا على المسلم في زمن النبي ﷺ.
الهجرة معناها الالتحاق بمدرسة القرآن ومدرسة الإسلام، والمعلم فيها هو سيدنا رسول الله ﷺ، وبعد النبي عليه الصلاة والسلام هل انتهت الأمور؟ لا، قال ﷺ: ((الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)).. وعلى كلٍّ منا أن يجتهد ليعرف حقائق الإيمان حتى يخرج من دائرة النفاق.. فإذا كان حنظلة وأبو بكر رضي الله عنهما يتهمان أنفسهما بالنفاق، فماذا نقول نحن عن أنفسنا؟
والنبي ﷺ يقول: ((ثَلاَثٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا، ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ)) .
النفاق طبع في المنافق:
فكيف إذا كان نفاقنا سَلُوْلِيًّا ونحاول أن نَصدَّ عن سبيل الله من آمن؟ فإذا رأينا إنساناً ذهب إلى مجلس ذكر أو إلى مجلس علم أو إلى مجلس دعوة وإرشاد نصدّه عنها، وذلك بحظِّ النفس أو هوى النفس أو الطبيعة.. فطبيعته دائمًا يحب العداوة، وطبيعته أنه يحب الضلال والإضلال.
[الجدير بالذكر هنا أن هذا الصدّ عن مجالس العلم والذكر كان معاناة يومية يعيشها سماحة الشيخ وتلامذته، فإذا ما أتى أخ جديد إلى المسجد وصار يسمع دروسه تتكالب عليه شياطين الإنس والجن ليصدوه، وكان الناس يخترعون لذلك الإشاعات ويلفقون الأكاذيب، والتي كان كثير منها غير معقول ولا يُصدَّق، وكان أكثرُهم يلبس ثوب الناصح الواعظ المحب.. وكان من الأشياء التي رأيناها أن طفلاً قد يكون في العاشرة أو أكبر بقليل، لا أحد يلتفت إليه في عائلته، ولا أحد منهم يرى له وزناً، فإذا جاء مع أصدقائه إلى مجلس الشيخ وبدأ يتعلق قلبه بالمجلس تأتي إليه كبار الشخصيات في عائلته، بدءً من الأب والأعمام والأخوال والأجداد، وحتى بعض أصدقاء الأقارب، ممن لم يكن يتخيل أنه يمكنه الجلوس معهم والحديث إليهم، ويُكَلِّمُونه وكأنه رجل كبير ليقنعوه بترك الشيخ وترك المسجد.. فإذا كان هذا الاهتمام من المجتمع المسلم لصدّ طفل صغير لا يُؤبَه له عن الالتزام بالمعلِّم المربي، فما بالك بمن كان كبيراً واعياً.. كان بعض الأهالي يرضون لأبنائهم أن يفعلوا الموبقات من الزنا وشرب الخمور وغيرها ولا يرضون لهم أن يذهبوا إلى الشيوخ وأن يُصَلوا ويلتزموا بدينهم.. ومن هنا يمكن أن نتصور حالة العداء للإسلام التي كان يقوم بها المسلمون في هذه الآونة.. وهذا يُذَكِّرنا بأن ما يصيبنا نحن المسلمين اليوم هو نتيجة طبيعية لما كسبت أيدينا].
يُقال: إنَّ عقربًا أراد اجتياز نهرٍ فخاف مِن الغرق، فترجى ضفدعاً ليحمله على ظهره إلى الطرف الثاني، فقال الضفدع: أخاف أن تلدغني؟ قال له العقرب: لك عهد الله وميثاقه ألا ألدغك، فوثق الضفدع بالعهد والميثاق ممن لا عهدَ له ولا ميثاقَ، وفي وسط النهر لدغه العقرب مكافأة على المعروف، فقال له: ويحك أين العهد والميثاق؟ قال: لا تؤاخذني فهذا طبعي، والطَّبْعُ تحت الرُّوح، وطبيعتي الأذى.
فغاص الضفدع عميقاً في النهر، فطفى العقرب على وجه الماء وأشرف على الغرق، فناده مستغيثًا: أما عاهدتني أن توصلني إلى الشاطئ الآخر؟ قال له: لا تؤاخذني فإنَّ الغوص بأعماق الماء كذلك طبعي.. فما دام أذاك طبعٌ فيجب أن يُقابَل الطَّبْع بالطَّبع.
أيها الإخوة: علينا أن نقرأ هذه السورة لنتعلم منها ونحذر ألا نكون على طريقة ابن سلول، فكفانا هدمًا للإسلام! كم مِن مسلمِين ومصلِّين وصائمِين وحجَّاج يُهَدِّمون للإسلام ولا يشعرون؟ إذا رأوا شخصًا يريد أن يذهب إلى مجلس علم أو شخصاً متصلاً بمرشد وداعٍ إلى الله تعالى يستخدمون معه كل الوسائل ليقطعوه، حسدًا وأنانية وطبيعةً، مِثل طبيعة العقرب، فطبيعته أنه لا يعمل الخير، ولا يأمر بالمعروف وينهى عن المعروف ويأمر بالمنكر ويدَّعي الإسلام، وهذا هو النفاق! ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ تسأله: من أنت؟ يقول: أنا مسلم أنا مؤمن، ولكن الله يقول: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون:1].
النفاق الأخلاقي:
فلنقرأ القرآن على هذا المستوى، ولا نقول: إن السورة نزلت في ابن سلول.. لا، فحُكمها قائم على الناس إلى يوم القيامة، فمِن الناس مَن يكون سَلُوْلِيًّا.. واليوم لا حاجة للسَّلُوْلِيَّة في العقيدة، لأنه إذا أظهر كفره أو إلحاده لا خوف عليه، لكنه في زمن النبي ﷺ كان الإسلام والدولة بيد النبي عليه الصلاة والسلام، والآن صار الإلحاد حراً، وإذا لم يوجد الإلحاد فهناك النفاق الأخلاقي؛ النفاق في الأعمال والنفاق في المعاملات، والنفاق بأن نَدَّعِي الإسلامَ ولا تَظْهَر فينا أخلاقُه ولا أداءُ فرائضه ولا اجتناب محارمه.
مِن الإسلام أنْ يكون جليسك صالحًا، لأنَّ النبي ﷺ حرَّض على الجليس الصالح، وحذَّر من الجليس السوء، فقال: ((مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ)) ماذا يعني؟ يعني تطيَّبوا وتعطَّروا وتمسَّكوا، ((والْجَلِيسِ السَّوْءِ كنَافِخِ الْكِيرِ، إما أن يحرقك وإما أن يؤذيك وأما أن تشم منه رائحةً خبيثة)) ، ما معنى هذا؟ يعني احذر جليس السوء.. فإذا نطقت بهذا الحديث ورويته وما عملت به، ماذا تكون؟ تصف الإسلام ولا تعمل به، وتكون كما سُئِل أمينُ سِرِّ النبي ﷺ على المنافقين حذيفةُ رضي الله عنه: من المنافق؟ قال: “الذي يصف الإسلامَ ولا يعمل به”.
إذا سألته عن الإسلام وعن أحكام الإسلام وعن تفسير القرآن وعن الأحاديث تراه عالِمًا، وإذا بحثت عنه في ميدان العمل والتطبيق لا تجد له مكانًا بذلك الميدان، إذًا ما هذا؟ هل هو عالِمٌ أم منافقٌ؟
فأكثروا مِن ذكر الله! ((وحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْل أَنْ تُوزَنُوا)) واذكروا الموت، ففي كل لحظة يمكن أن نلقى الله تعالى، فإذا لقينا الله لا ينفعنا المال ولا الجاه ولا المنصب ولا الثروة ولا الألقاب: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء:47] ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ﴾ كتابك؛ كتاب سجلات أعمالك ﴿فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ﴾ [الكهف:49] فالفاسقُ الضَّالُّ المرتَكِب الظالم المتعدِّي الآكل للحرام الفاسق تكون كلُّ أعماله مسجَّلة في كتاب ﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف:49]، لا يغادر: لا يترك.
لا تقل: أنا شابٌّ، لا تقل: أنا مشغول، فإذا أتى ملك الموت لا يسأل: هل أنت مشغول أو غير مشغول، وإذا قلت له: أنا مشغول ولست فارغاً، فهل يُقبَل ذلك؟ وإذا قلت له: أنا وزير أو أنا أمير فهل يَقبَل؟
فنسأل الله تعالى أن يرزقنا الاستعداد للقاء الله، ((أَكْثِرُوا من ذكر الموت، فإنه ما ذكر في قليلٍ)) من الإيمان ومن الأعمال الصالحة ((إلا كثَّره، ولَا فِي كَثِيرٍ)) من المعاصي أو الذنوب أو الغفلات ((إِلَّا قَلَّلَهُ)) .. سيدنا عمر رضي الله عنه نقش على خاتمه: “كفى بالموت واعظًا يا عمر
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبِعُون أحسنه.