أسباب النفاق والطبع على القلب:
فنحن الآن في تفسير سورة المنافقون، يقول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ أي سِتَارَةً يُخفون وراءها كفرهم ونفاقهم ﴿فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ كانوا أعداءً للإسلام، يحاولون تهديمه بكل ما يملكون من طاقات، ولكن تحت ستار إظهار الإسلام وادِّعائه.. ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ﴾ أي هذا النفاق، ﴿بِأَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ﴾ يعني بألسنتهم، ﴿ثُمَّ كَفَرُواْ﴾ بقلوبهم وأعمالهم وسلوكهم ومعاداتهم لرسول الله ﷺ ولرسالته، ﴿فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ﴾ [المنافقون:1-3].
إن الاستمرار على المعصية والاستمرار على محاربة الله ورسوله ﷺ ودِينه والانهماك في المعاصي والخوض في الآثام والحرام يُمِيت القلب، ويتحقق الطابع والأقفال على القلوب، فتصير لا تعي ولا تفهم ولا تسمع الحقَّ ولا تُدرِكُ الحقيقة، بل تُعادي الحقائق وتُعادي العلم والنور والإيمان، والسبب هو الاستمرار في المعاصي، أو صحبة الكفرةِ والفسقةِ والمطبوعِ على قلوبهم: ((والْجَلِيسُ السَّوْءُ كَنَافِخِ الْكِيرِ إنْ لم يُحرِقْكَ بنارِه يُؤذِكَ بِشَرارِه أو تشمَّ منه رائحةً خَبِيثَةً)) .
﴿ذَلِكَ﴾ هذا النفاق مصدره وسببه: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾ آمنوا الإيمان الكاذب وعملوا أعمال الكفر، من أقوال وأعمال ومعاندةٍ لرسول الله ﷺ وتخريب لدعوته، ﴿فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ﴾ [المنافقون:3]، ﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد:24] وهذا ما يُشار إليه بموت القلب، فيصير القلب لا يُدرِك الحقَّ، ويُحجَب عقله عن إدراكه، ولا يفهم الحقيقة، فيرى الحق باطلًا والباطل حقًّا، ولذلك كان سيدنا رسول الله ﷺ يقول: ((اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اِتِّبَاعه، وَأَرِنَا الْبَاطِل بَاطِلًا وَارْزُقْنَا اِجْتِنَابه)) ، أما إذا حصل موت القلب فلا تؤثِّر في صاحبه المواعظ، ويرفض قلبُه الحقائق ويتعشَّق الباطل والإفك والافتراء.
كما يقول الله عز وجل: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا﴾ يعني بآذانهم ﴿وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ﴾ يعني لا يُدركون الحقيقة بقلوبهم وبعقولهم، ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ﴾ ليس الصُّمُّ عن الأصوات، بل الصُّمُّ عن سماع الحقيقة وعن سماع الإيمان، ﴿الْبُكْمُ﴾ فلا يتكلَّم بالحق، ولا يُناصِر الحقَّ، ويحبُّ الباطل ويناصره، ويُشغل وقته بالنطق بالباطل، وصمٌّ عن الحق وعن الدعوة إلى الخير، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ﴾ ليست الكلاب ولا الخنازير ولا البغال ولا الحمير ولا الثعابين ولا الوحوش، ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ﴾ لا يسمع الحق ويُعرِض عنه، ﴿الْبُكْمُ﴾ الذي لا يَنْطِق بالحق ويُحارِبه، ﴿الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الأنفال:21-22] لا يعقلون الحقيقة ولا يعقلون الإيمان، وإلَّا فقد كانوا يعقلون أمور دنياهم وخصائصهم وما ينفع أجسادهم يحرصون عليه، وما يضرُّ ذواتهم فيبتعدون عنه.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا﴾ يعني بأفواههم ﴿ثُمَّ كَفَرُوا﴾ يعني بقلوبهم، ﴿فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ﴾ [المنافقون:3]، فإذا صار الرّان على القلب، وصار الطبعُ عليه فلو أتى سيدنا محمد ﷺ بما أُوتِي من جوامع الكلم ومن حِكم فسترى المطبوع على قلبه لا يفقه كلامه، كما أن فرعون رأى الآيات: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ [الإسراء:101]، وكذلك رأى الكفار انشقاق القمر، ورأوا نبع الماء بين أصابع رسول الله ﷺ، والكثير من الْمُغَيَّبات، ورأى فرعون انشقاق البحر وانقلاب العصا حيَّةً، لكن إذا وُجِد الطبع على القلب: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة:6]، وكما قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾ النبي ﷺ ما كان يُخاطِب الموتى ﴿وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ﴾ فإنك مهما ناديت الأصم لا يسمع، والنبي ﷺ ما كان ينادي الصُّمَّ ليتحدث إليهم ﴿وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ﴾ [النمل:80-81]، ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج:46].
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [المنافقون:3] هذا ما يسمى الرَّان والطبع على القلب، وهذا يحدث بتكرار المعاصي، وبصحبة أهل القلوب القاسية والغافلة والفاسقة، ومجالس الرذائل والأرذال والمنافقين، فيموت القلب شيئًا فشيئًا حتى لا يشعر بجوعه الإيمانيِّ، ولا يشمّ رائحة جِيَف النفاق والمنافقين في قلوبهم ﴿فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [المنافقون:3]، هل هناك أعظم من النبي ﷺ حكمة ونورًا وإيمانًا وعقلًا وأخلاقًا وسلوكًا؟ مع ذلك ما أفاد أبا جهل شيئًا.
سورة المنافقون في حياتنا اليوم:
سورة المنافقون سورة من السور العظيمة لِمن يفقه القرآن: ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)) ، وليس المقصود من عِلم القرآن وتَعلُّمه وتعليمه قراءة ألفاظه وآياته للناس، إنما المقصود فهم آيات القرآن والفقه فيها للعمل بها، ثم تعليم الناس القرآن علمًا وعملًا وأخلاقًا وسلوكًا وإيمانًا، فالمنافقون ما كان لهم وجودٌ ولا يكون لهم وجود في حال ضعف الإيمان، لذلك لم يكن للمنافقين وجود في مكة قبل الهجرة، إنما وُجدِوا لـمَّا قَوِيَ الإسلام وصار له ما يُشبِهُ الدولة أو الدولة العظمى، الدولة الأرضية السماوية الربانية، الدولة التي تعتني بالإنسان وبحقوق الإنسان لا لتنقذه مِن ظالم يظلمه، بل أكثر من ذلك، لتُنقِذه من الجهل إلى العلم، ومن الأوهام إلى الحقيقة وإلى الحكمة والنور والأخلاق والفضائل، وإلى الإنسان العظيم.. فلمَّا حصل للإسلام دولته في المدينة، وظهرت قوَّته لم يستطع أموات القلوب وأصمَّاء الآذان وبُكمُ النطق أنْ يُظهِروا كفرهم وعِداءَهم للإسلام، فأخفوا الكفر وأظهروا الإيمان، وصاروا يحاربونه بالخفاء، فكانوا كما يسمَّى في عصرنا الحاضر بالطابور الخامس، وهو من يعمل ضد الدولة.
من أعمال المنافقين إظهار المودة للنبي ﷺ وإخفاء العداء له:
ومن جملة نفاقهم أنهم حين يُتَّهمون بشيء أو يخشون فضيحتهم كانوا يأتون إلى النبي ﷺ ويُقسِمون الأيمان المغَلَّظة كما يقول القرآن: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ إنّك: في علم البلاغة “إنَّ” تؤكِّد المعنى، “لَرسول الله” وهذه الكلمة أيضًا للتأكيد.. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ الله تعالى لا ينتظر شهادة المنافقين حتى يُثبِت أنك رسوله.. فأنت رسولُه وهو أرسلك، ولا يحتاج إلى المنافق ليُثَبِّت الرسالة عنده، ثم قال: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ﴾ هم شهدوا، والله أيضًا يشهد.. هم شهدوا نفاقًا لرسول الله ﷺ، لكنَّ الله يشهد عليهم حقيقةً: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ [المنافقون:1-2] أي وقايةً، كما أنَّ الدِّرع تقي الإنسان مِن السِّهام وغيرها، كذلك اتَّخذوا النَّفاق وقايةً لهم، حيث صار للإسلام دولةٌ، وصارت له القوة، والعدوُّ لا يستطيع أن يَظهَر في الميدان أمام الإسلام، فصاروا يتستَّرون بالنفاق.
﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ [المنافقون:2] لماذا؟ ليصدُّوا عن سبيل الله وليخرِّبوا الإسلام في الخفاء ويطعنوا بالنبي ﷺ وبنبوَّته وبالقرآن، يقولون “افتراه”: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ [هود:13] يتَّهمونه أن القرآن ليس من عند الله، وتارة يقولون: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ ويعنون به صهيبًا الروميَّ، فردَّ الله عليهم فقال: ﴿لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل:103] ثم طعنوا في السيدة عائشة رضي الله عنها ليكون طريقةً للطعن بمقام النبوة، وتارةً كانوا كما قال الله عنهم: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ﴾ أي يُعطِي أُذُنه لكلِّ متحدِّثٍ ويُصَدِّقه، يعني هو بسيط وساذج، ﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة:61].. إلى آخر الآيات.
وسُمِّيت سورة “براءة” سورة الفاضحة، لأنها فضحت المنافقين في أعمالهم وتكتيكهم ومخططاتهم ومؤامراتهم، فسُمِّيت الفاضحة كما أنَّها سميت سورة التوبة وسورة السيف، لأن فيها براءةً من المشركين، وتطهيرًا للدولة الإسلامية مِن بقاء الوثنية أو بقاء أيِّ مشركٍ كان ضمن أربعة أشهر، قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا﴾ [التوبة:4].
فمع وجود الدولة والقوة فإن النفاق سيظهر، لأن النفاق يظهر عند القوة، فما كان موقف النبي ﷺ تجاه هؤلاء المنافقين بعد أن وصفهم الله تعالى فقال: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ﴾ كانوا من وجهاء المدينة، ورأسهم عبد الله بن أُبيِّ ابن سلول.. ﴿وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ كانوا فصحاء في البيان والبلاغة والخطاب، ولهم مكانتهم في مجتمعهم، قال: لكنهم من حيث القلوب ومن حيث الإيمان والإسلام هم أموات القلوب: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ كانوا دائمًا يخشون نزول القرآن بفضائحهم وكشف مؤامراتهم ومحاولاتهم تخريب الإسلام، ﴿فَاحْذَرْهُمْ﴾ [المنافقون:4] انتبه يا محمد! وانتبهوا أيها المؤمنون من دسائسهم وتخريبهم!
وجوب التفكُّر في مخلوقات الله والآيات التي تحثُّ على ذلك:
قال تعالى: ﴿فَاحْذَرْهُمْ﴾ [المنافقون:4] الحذر واليقظة والأخذ بالأسباب وكلُّ شيء بحسبه هو أمرٌ قرآني، وهذا يدخل تحت عنوان الحكمة التي هي معرفة الأمور بحقائقها، ومعرفة ارتباط المسبَّبات بأسبابها قَدَرًا وشرعًا، ومعرفة حكمة الأقدار وحكمة التشريع خَلْقًا وأمرًا، وهي أنْ تعرف حكمة الخَلْق وحكمة الأوامر الإلهية، وهذا ما تفعله الشعوب المتقدِّمة، فهم يدرسون ما في الأرض وما في السماء، ويدرسون ما في قاع البحار من الديدان والحشرات الصغيرة وما يُستفاد منها، يعني كأنه إجابة على السؤال: لماذا خلقها الله عز وجل؟ وكما يقول القرآن: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [يونس:101] ابحثوا في كل شيء؛ في السماء والفضاء والنجوم والكواكب.. من يعمل بهذه الآية الآن؟ أمريكا وأوروبا وروسيا واليابان، أما نحن المسلمون فنقرأ: ﴿قُلِ انْظُرُوا﴾ نفهم من الآية أن النون الساكنة بعدها ظاء، وهذا اسمه إخفاء، ﴿قُلِ انْظُرُوا﴾ انظروا: هذا مدٌّ طبيعي، ﴿مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [يونس:101]، الضاد ساكنة وفيها استطالة.. وصدق الله العظيم.. [قوله هنا: “وصدق الله العظيم” إشارة إلى انتهاء قراءة القرآن، ويعني بذلك انتهاء الفائدة منه] وهذه هي مهمة الشيخ كلُّها اليوم!
وأولئك اخترقوا طبقة الأوزون، ويدورون حول زُحل والمشتري وعطارد والزُّهرة والمريخ، واكتشفوا في قيعان البحار بالأقمار الصناعية مخازن المياه تحت طبقات الأرض، ويكتشفون الأنهار العميقة، واكتشفوا مؤخَّرًا نهرًا عظيمًا في الجزيرة العربية يُعتبر مِن أعظم أنهار العالم، وهذا امتثالٌ لقول الله تعالى: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [يونس:101]، صاروا يكتشفون المعادن في باطن الأرض بالأقمار الصناعية.. هؤلاء أخذوا هذه الآية القرآنية، فقطفوا ثمارها، وأحسنوا فهمها مِن غير أن يسمعوا لفظها، فقطفوا أحسن الثمار منها، كما يقول الله تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾ جعلها الله تعالى عامَّة للمسلمين ولغير مسلمين ﴿فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ فإذا أحسنت النظر والعلم في أمور الحياة وفي أمور الدنيا تُثمِر لك محاسن النتائج وأطيب الثمار: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾، وإذا أحسنت في الأمور الأخروية: ﴿وَلدارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ﴾ [النحل:30]، أما المؤمن الحقيقي فهو الذي ينظر بالعينين، وهو الذي يكسب الحسنتَين: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة:201]، ثم يقول الله تعالى: ﴿وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتّقِينَ﴾ [النحل:30].
هذا الإسلام المجهول! هذا الإسلام المزهود فيه! هذا الإسلام الذي بَعُدَ عنه المسلمون، وهو إسلام القرآن، فنحن نهتم بالقراءات السبع.. والقراءات السبع لهجاتٌ للعرب، ومن قرأ بأيِّ لهجة قُبِل منه، لكن هل فهمنا القرآن كما فهمه أصحاب رسول الله ﷺ ففتحوا به مشارق الأرض ومغاربها، ووحَّدوا نصف العالم القديم من الصين إلى فرنسا في أقل من نصف قرن؟
مرَّةً كنتُ في الصين فسألت بعض الصينيِّين المسلمين عن تاريخ وصول الإسلام إليهم، فقالوا: وصل الإسلام إليهم في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، يعني بعد وفاة النبي ﷺ بعشرين سنة، وكذلك نزل الجيش الإسلامي في إسبانيا أيضًا في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولكنه كان نزول استكشاف واستعلام.. فما هذا القرآن! كتاب واحد في نصف قرن [فعل كل هذا]، كما يقول نابليون [عن النبي محمد ﷺ]: “كيف استطاع أن يوحِّد نصف العالم القديم [بأقل من نصف قرن!]“، رفع حواجز القوميات، ورفع الجهل والجاهليَّات، ورفع الخرافات والأوهام، وكافح الفقر وناصَرَ حقوق الإنسان، واقتصَّ من ابن عمروٍ مِن أجل قبطيٍّ مسيحيٍّ وقال له: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا!”.. إلى آخر الموضوع.
بعض صفات المنافقين:
قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ كانوا يخشون نزول الوحي بكشف فضائحهم ومخازيهم، وكان إذا دعا داعي الجهاد يهربون ويختفون حتى لا يذهبوا إلى الجهاد، لأنهم لا يؤمنون بالإسلام ولا بالجهاد مِن أجله.. ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ عليك أن تَحذَر مِن كلِّ ما يضرُّك، سواء كان عدوًّا أو مرضًا أو فقرًا أو جهلًا.. ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [المنافقون:4] كيف يُصرَفون عن إدراك هذه الحقيقة التي هي مثل الشمس الساطعة! الشمسُ ساطعةٌ والعيون مُبصِرةٌ، فكيف لا يرون الشمس في رابعة النهار! أنَّى يُصرفون! قاتلهم الله ولعنهم الله وأهلكهم الله!
“أَنَّى”: بمعنى كيف.. ولكن إذا طُبِع على القلب، وصارت النفس تعبد هواها وتجعل إلهها حظوظها وأنانيَّتها وأهواءها فستُحجب عن عشق الحقيقة وتَطَلُّبِها ومحبتها.. وقد وصف القرآن من يحمل هذه الأوصاف بقوله تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الفرقان:44]، ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ﴾ [الجاثية:23]، عندما يغلب الهوى والأنا فالعلم لا يفيد والعقل لا يفيد، لذلك إنَّ مِن شرائط الإيمان أن يكون الله ورسوله ﷺ أحبَّ إليك ممَّا سواهما ، وأنْ تُحبَّ الله ورسوله ﷺ أكثر مِن محبتك لنفسك ، وأن يكون هواك تابعًا لِما جاء به الله ورسوله ﷺ .. وهذه تحتاج إلى هجرة.
الهجرة في زمن النبي ﷺ كانت إلى الله ورسوله، والله ليس له مكانٌ، لكن كان الـمُهاجَر إلى رسول الله ﷺ والمصاحِب له والمحبُّ له يجد في صحبته لرسول الله ﷺ قلبَه مع الله تعالى، فيجد قلبه مع الله عندما يكون قلبه مع رسول الله ﷺ، وبعد ذهاب رسول الله عليه الصلاة والسلام عليك أن تهاجر إلى عاشقٍ لله ورسوله، حتى إذا جالسته تتشَّرف بمجالسة ومحبة الله ورسوله.
سبب نزول سورة المنافقون:
سبب نزول هذه السورة أنَّ النبي ﷺ كان في بعض غزواته، فاختصم رجلان: أحدهما مِن الأنصار والآخر من المهاجرين، أي أحدهما مِن أهل مكة والآخَرُ مِن أهل المدينة، وانتصر لكلِّ واحدٍ من الرَّجلَين جماعتُه وأنصارُه حتى كاد يحصل الاقتتال والمضاربة، فصار الأنصاريُّ يستنصر بجماعته: يا معشر الأنصار، والآخر يستنصر بجماعته: يا معشر المهاجرين، وبعد ذلك حُلَّت المشاجرة، ووصل الأمر إلى رأس المنافقين عبد الله بن أُبيِّ ابن سلول، فقال: “لقد ثَاوَرَنا المسلمون في بلادنا”، أي يريدون أنْ يُقِيموا ثورةً علينا.. “والله ما مَثَلُنا وجَلابيبُ قريش..” يعني أن هؤلاء المهاجرين هم أوباش العرب، ونحن الزعماء والعظماء.. “والله ما مَثلنا وجلابيب قريش هذه إلَّا كما قال الأُوَل: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ”.. ويعني ذلك أنَّ محمدًا ﷺ وجماعته جاؤوا جائعين عارين، فآويناهم وأطعمناهم ودلَّلناهم مِثل الذي يُدلِّل الكلب الجائع، ثُمَّ جاؤوا ليعضُّونا.. قال الشاعر
لَقَد رَبَّيتُ جَروًا طُولَ عُمرِي
فَلَمَّا صَارَ كَلبًا عَضَّ رِجلِي
هذا الشاعر لَمَّا قال هذا القول خرجت الكلاب في مظاهرة يحتجُّون عليه: إنَّك لكاذبٌ أيُّها الشاعر، ليس مِن شأن الكلاب أن يُسيئوا إلى مَن أحسن إليهم، والمشهور عن الكلاب هو الوفاء للمُحسِن إليهم، أمَّا هذا العمل فهو مِن شأن كلاب الناس، لا مِن شأن كلاب الحيوانات، ولذلك ربحت كلاب الحيوانات على كلاب بني آدم في هذا الشأن. [يقول ذلك سماحة الشيخ بأسلوب فكاهي ممازحاً الحضور].
حادثة زعيم المنافقين وخُلُق النبي ﷺ معه:
قال: “ما مَثلنا ومَثلهم إلا كمَثل ما قال الأُوَل: سَمِّنْ كَلْبَكَ يأكلك”.. وهذا خطأ، فهذا الخُلق هو خُلُق الكلب الإنساني البشري، أمَّا الكلب الحيواني فإذا سمَّنته يموت بين قدمَيك ويفدي حياتك بروحه.. نسأل الله ألا يجعلنا دُون الكلاب.
“وَاَللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ -وكانوا في سفر في إحدى الغزوات- لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ” أي علينا طَرْدُ هؤلاء، وأن نُخرِجهم مِن المدينة لأننا دلَّلناهم وكرَّمناهم.
يذكرون في القصة المشهورة عن أحدهم أنه كان يركب دابَّةً فرأى رجلًا ضعيفًا في الطريق، فنزل عن دابَّته وأركبه عليها، فبَعد مسافة قال هذا الضعيف لصاحب الدابَّة: ما أحسن دابَّتك! ثم مشى قليلًا فقال له: ما أحسن دابَّتنا وحمارنا! فقال له: انزل، لأنك بعد قليل ستقول: ما أحسن حماري هذا! فهناك أناسٌ لِئام يُنكِرون الفضل لأهل الفضل.
المنافقون لم يُقدِّموا شيئًا للنبي ﷺ ولأصحابه الكرام، بل على العكس، إذ إن النبي ﷺ أقام لهم دولةً، ورفع لهم الشأن، وأغناهم وأعزَّهم وجعلهم سادة العرب في حياة الرسول ﷺ.
“لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ -وكانوا في إحدى الغزوات- لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ” يعنون أنهم هم الأعزَّة والنبي ﷺ وأصحابه هم الأذلَّة، ثم قال ابن أبي ابن سلول للأنصار أهل المدينة: “هذا ما صنعتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أَمَا والله لو كَفَفْتُم عنهم لَتَحَوَّلوا عنكم من بلادكم إلى غيرها”.
قال: فسمعها زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ رضي الله عنه، وكان مِن شباب الصحابة، فأخبر بها رسول الله ﷺ وهو غُليم، يعني ولد صغير، وعنده عُمَر رضي الله عنه، فقال عمر: “يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق” أي عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول.. والنبي ﷺ يُمثِّل في هذه الساعة رجل الدولة؛ دولة الأجسام إلى جانب دولة القلوب؛ دولة الأرواح ودولة الأشباح، فأيُّ رجلِ دولةٍ يستطيع أن يملك القلوب والعقول والأجسام والسلاح والجيش والجنود؟ إن أعظم رجل هو مَن يملك هذه الأمور، ويسمع شتيمته: “سمِّن كلبك يأكلك، ولَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ” [ثم يحلم].. “والمخابرات” [سُلْطات الأمن] بلَّغته أنه هكذا قيل في حقَّك، وأنهم قالوا عنك: كلباً، وأنك كنت جائعًا وهم أشبعوك ويريدون أن يُخرِجوك، وكذا وكذا.. فلو أنَّ رجل دولة الآن بَلَغَه مثل هذا القول، ماذا يفعل بالقائل؟
تطبيق هذا الآية في الحياة العملية:
إنّ هذه الآية تَصْلُح لتعليم سياسة الدولة تجاه أعدائها، وتُعَلِّم كلَّ مسلمٍ كيف يُعامل أعداءه المتآمرين في الخفاء، وكيف يُنفِّذ قوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ [مؤمنون:96]، وقد وصف الله تعالى المؤمنين فقال: ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَة﴾ [الرعد:22] وهذه الآيات ليست للمغنى والموسيقى، وليست للمدود وإجادة النطق بالحروف، هذه الآيات للفقه والثقافة والعلم والحياة والعمل والأخلاق.
هنا قال سيدنا عمر رضي الله عنه وهو بمنزلة وزير الدفاع: “دعني أضرب عنق هذا المنافق”.. أليس هذا شيئًا مغيظًا؟ تصوَّر لو أن إنسانًا قال لشخصٍ عادي: يا كلب، أو إنك فقير لا قيمة لك، أو لقد كنت مِثل الكلب، وتربيت بيننا حتى كبرت وصرت بهذه المنزلة.. ألا يقاتله ويشاتمه؟ فكيف بالنبي ﷺ الذي مَلَك القلوب والعقول والجيش والسلاح وكلَّ شيء! وهنا قال سيدنا عمر رضي الله عنه -وما أدراك ما ثورة عمر!-: “دعني أضرب عنقه، أو مُرْ أحد زعماء المدينة ليقطع عنقه”، فبماذا أجابه النبي ﷺ؟ قَالَ: ((يَا عُمَرُ كَيفَ إذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ؟)) .
الناسُ ناسٌ، والشارِعُ [المجتمع] لا يفهم الحقائق، إنما يفهم الإشاعات والإذاعات مِن غير أن يفهم تحليلها وحقائقها وأسبابها ومقدِّماتها وأبعادها، فما هذا الفقه في سياسة الدولة!
هذه الآية تنطبق على كل شخص، من رجل الدولة إلى الإنسان العاديِّ، فإذا أساء اليه مسيءٌ عليه أن لا يُقابِل السيئة بمِثلها.. والقرآن في ذلك على ثلاث مراحل
المرحلة الأُولى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى:40].
والمرحلة الثانية: ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَة﴾ [الرعد:22]، هذه مرتبة أعلى، فإذا سبَّك لا تَسُبَّه، بل تقابله بالحسنى.. كما ذكر لي أحد الشباب من إخوانكم وكان في مجلسٍ فسمع نقدًا على شيخه، يعني نقداً عليَّ.. فسكت حتى انتهى المتحدِّث، فبعد أنْ أنهى حديثه قدَّم له زجاجةً مِن العطر، وقال له: أنا تلميذ فلان [أي الشيخ الذي تنتقده] وهو أوصاني إذا سمعنا مَن يسيء إلينا أن نُقابِل سيئته بالحسنة، فأقدمها لك امتثالًا لأمر القرآن وتعاليم شيخي، حيث إنك انتقصت من شيخي أمامي وأنا مأمورٌ بالقرآن ومِن شيخي أن أقابِل سيِّئتك بالحسنة.
سلاح القرآن لا يُفل! وجيش الإيمان لا يُهزَم.. نسأل الله تعالى أنْ يرزقنا الفقه في الدين.. ونحن في هذا العصر خصَّصنا الفقه بالوضوء، لكن الوضوء يمكن أن يتعلَّمه الإنسان من المتوضِّئ أمامه مرة واحدة، ونحن ألَّفنا كُتُبًا مثل الجبال عن الوضوء، ولماذا لم نجعل هذه الكتب في أخلاقيَّات القرآن وفي سياسة القرآن ورجل الدولة، وفي سياسة العلم وفي السياسة الاجتماعية والعائلية؟ وإلى آخره.
المرتبة الأعلى: وهي فوق أنْ تقابل السيئة بالحسنة، وقد ذكرها القرآن فقال: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ [المؤمنون:96]، فإذا كانت الزجاجة تساوي مئة ليرة، وقابلت بها مسبته فهذه حسنة، وإذا كانت عندك زجاجة تساوي ألف ليرة فهذه ليست حسنة، بل أحسن: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ [المؤمنون:96]، ادفع السيئة بالتي هي أحسن.. فيا ترى هل يعمل الشافعيَّة أو الأحناف أو الأشاعرة أو الماتريدية بهذه الآيات؟ إنّ معاني القرآن هذه مفقودةٌ في مجتمعنا ومعاملاتنا، وهذه المعاني تحتاج إلى المعلّم المربِّي المزكِّي، تحتاج إلى الوارث النبويِّ الذي يعلِّم بأقواله وأعماله وسلوكه وحاله وروحانيَّته، وإلَّا إذا كان بالأقوال فالله تعالى يقول: ﴿الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة:41].
فنسأل الله أن يرزقنا حقَّ الإيمان ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ فقهًا وفهمًا وعملًا ومسارعةً ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ على قرآنه وتعاليمه ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ لا اعوجاج فيها إلى أهوائهم، بل إلى أوامرها وإلى وصاياها ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال:3-4] هل نسأل الله أن يجعلنا منهم؟ هذا يا بني تمنٍّ، وعليك أنْ تفكِّر بأن تكون منهم بالعمل والفهم، وبكثرة الذكر وبربط قلبك بوارثٍ محمديٍّ برابطة الحب: ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِه، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)) .. فهل ربطت قلبك برابطة الحبِّ بوارثٍ محمديٍّ حتى تكون على دِين مَن تخالل؟ هذه تكاد تُفقد في مجتمعنا.
الدعاء ليس بالأماني:
نسأل الله تعالى أن يهيِّئ الأسباب.. وإذا دعونا فعلينا بعد الدعاء أن نُباشر الأسباب للوصول إلى ما نطلب ونشتهي، أما دعاءٌ بِلا مباشرة للوصول إلى ما دعونا فهذه أماني، والأماني لا تُوصِل إلى شيء.
إذا تَمنَّيتُ بِتُّ اللَّيلَ مُغتَبِطًا
إنَّ الْمُنَى رَأسُ أَموالِ المفالِيسِ
“إذا تَمنَّيتُ بِتُّ اللَّيلَ مُغتَبِطًا”: يدعو ويدعو ويدعو، ويَفرَح ويُسَرّ بأنه دعا، كالذين يقرؤون في كتاب “دلائل الخيرات”.. “إنَّ الْمُنَى رَأسٌ أَموالِ المفالِيسِ”: والآن كثير من المشايخ لا يوجد عندهم إلا الدعاء: “اللهم، اللهم”.. ولكن بعد هذا الدعاء ماذا عمل؟ يقول: اللهم ارزقني ولدًا، فهل عزم على أن يتزوج؟ لا، لماذا لا يريد أن يتزوَّج؟ يقول: إن الله على كلِّ شيءٍ قدير، وهو قادر على أن يرزقني ولدًا من غير زواج.. هذه أماني! والله تعالى قال: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [النساء:123]، مفهوم الفقه في الدين عند الكثير من الناس اليوم ليس حسب المصطلح الذي عناه النبي ﷺ، وهو فقه القرآن المشروح بسُنَّة رسول الله ﷺ في أقواله وأعماله وحياته وسلوكه.
حكمة النبي ﷺ في إماتة الفتنة في وقتها:
قال ﷺ لعمر رضي الله عنه: ((فَكَيْفَ يَا عُمَرُ إذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)) .. انظر إلى هذا الوعي والإدراك والسياسة في بناء المجتمع وفي بناء الدولة والأُمَّة والإسلام! ((وَلَكِنْ نادِ يا عُمرُ بالرَّحِيلِ))، لأن الحادثة كانت في إحدى الغزوات، وكان الجيش قد نزل للاستراحة في بعض المحطات وسط صحراء الجزيرة العربية وقت الظهيرة في شدة الحَرِّ، وليس هناك مجالٌ للسير والمشي.. ((وَلَكِنْ نادِ يا عُمرُ بالرَّحِيلِ))، فبلغ ابن أبي ابن سلول أنّ رسول الله ﷺ قد بَلَغَهُ ما قاله فاعتذر إليه، وحلف بالله ما قال -وهو كاذبٌ في حلفه وادِّعائه- وكانت لهُ مكانةٌ في قومهِ، فقد كان مُهَيَّأً لِأن يكون مَلِك المدينة، ولكن لـمَّا جاء الإسلام انفرط عِقد زعامته.. وأتى مَن يُدافع عنه عند رسول اللّه ﷺ، ولكن النبي ﷺ أمَر الجيش بالرحيل مُهَجِّرًا، يعني وقتَ شِدَّة الحَرِّ، حيث كان الجيش أو المسافر دائماً يجلس حتى يحين وقت العصر، [ثم يتابع سفره، ولذلك سأله بعض الصحابة: لقد سرتَ في وقتٍ] ما كنتَ تروح فيها، فقال النبي الكريم ﷺ: ((أَمَا بَلَغَكَ مَا قَالَ صَاحِبُكُ ابن أُبيٍّ؟)) لقد كاد أنْ يُحدِث فتنةً في الجيش بين الأنصار والمهاجرين، ولذلك أمر النبي ﷺ برحيل الجيش حتى تضيع الفتنة في الرحيل، ولا تصير اجتماعاتٌ يكون فيها القيل والقال، وماذا قال فلانٌ وماذا قال غيره، ولينشغل كلٌّ منهم بأمر السَّيْر.
ما هذه السياسة في الدولة في إطفاء الفتنة ودفن بِذْرَتِها عند نزولها قبل أن تستفحل وتُعمِّق جذورها وأغصانها! ((قال: أَمَا بَلَغَكَ مَا قَالَ صَاحِبُكُ ابنُ أُبيٍّ؟ زَعَمَ أَنَّهُ إنْ قَدمَ الْمَدِينَةَ سَيُخرِجُ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ))، “قَالَ: فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْعَزِيزُ وَهُوَ الذَّلِيلُ” أنت تُخرِجه وليس هو الذي يُخرِجك، ثُمَّ قَالَ: “يَا رَسُولَ اللَّهِ، ارْفُقْ بِهِ، لَقَد جاءَ اللَّهُ بِكَ، وإنا لنُنظم له الْخَرَزَ لنتوِّجَهُ مَلِكًا علينا، وإنَّه لَيَرى أنَّك قد سَلَبتَه مُلْكَهُ” .. هذا هو الحسد والأنانية.
إنّ أمور الدِّين لا تُقاس بأمور الدنيا، فإذا جاء الأمر الإلهي السماوي فينبغي أن لا نُقابله بالأمر الدنيويِّ الشخصي الأناني.
“فسار النبي ﷺ طيلةَ النهار حتى أَمْسَوْا، وليلتَه حتى أصبحُوا، وصَدْرَ يومهِ حتى اشتدَّ الضحى”، أي ما يُقارب أربعًا وعشرين ساعةً سيراً متواصلاً بلا استراحة، ثم نزل بالناس ليشغلهم عمَّا كان مِن حديث ابن أُبيٍّ، ولا يكون انقسامٌ وتحمُّسٌ، وتصير فئتان يتقاتلون ويدافعون عن بعضهم، وعن عشائرهم وأمورهم، “فَلَم يأمن الناسُ أَنْ وَجَدُوا مَسَّ الْأَرْضِ حتى ناموا، وَنَزَلَتْ سُورَةُ الْمُنَافِقِينَ” .
هذه القصة والسورة ما أشدَّ حاجة رجال السياسة إليها! كنت أسمع مثل هذا عن الملك عبد العزيز وغيره من الرجال ورئيسنا أيضًا أنه كانت فيهم هذه الخصلة، فرجل الدولة عليه أن يغضَّ النظر عن أمورٍ كثيرةٍ ويغضي، ويتظاهر أنَّه لم يسمع شيئًا.. وكذلك لـمَّا خاض المنافقون في عِرضِ رسول الله ﷺ، واتَّهموا عائشة رضي الله عنها وكثيرٌ منهم كان يؤذيه أشدَّ الإيذاء، وكان النبي ﷺ يُعامِلهم أحسن المعاملة وعلى رأسهم ابن أبي ابن سلول، فما كان يذهب في معركةٍ إلا ويجعله مستشاره ورفيقهُ، وفي معركة أُحد خذلَ ابن سلول النبيَّ ﷺ عند المعركة، وكان المسلمون ألف رَجلٍ، وابن أُبيٍّ كان يرأس ثلاث مئة، فانسحب بالثلاث مئة في معركة أُحد أخطر معركةٍ على الإسلام.. هذا مع قوله: “سمَّن كلبك يأكلك، ولئن رجعنا إلى المدينة ليُخرِجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ”، ومع ذلك كان النبي ﷺ يُعامله كمستشار، ويَعلم أنَّه رأس الأعداء ورأس المنافقين.. ﷺ.
ولَمَّا وصلوا إلى المدينة، كان لابن سلولٍ ابنٌ مِن فضلاء الصحابة اسمه عبد الله، فأتى إلى النبي ﷺ بعد أنْ شاع الخبر وامتلأت قلوب المسلمين على ابن سلول بالغيظ، وربما يقتله أحدهم، فأتى ابنُه “فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ والدي فِيمَا بَلَغَكَ عَنْهُ، فَإِنْ كُنْت فَاعِلًا فمُرني به، فَأَنا أَحمِل إليكَ رأسَه، فواللهِ لَقَدْ عَلِمَتْ الْخَزْرَجُ” -وهو مِن قبيلة الخزرج- “مَا كَانَ لَهَا مِنْ رَجُلٍ أَبَرَّ بِوَالِدِهِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ غَيْرِي بقتله فَيَقْتُلَهُ، فَلَا تَدَعُنِي نَفْسِي أَنْظُرُ إلَى قَاتِلِ أَبِي يَمْشِي فِي النَّاسِ فأقتُله، فأكون قد قتلت مُؤْمِنًا بِكَافِرٍ، فَأَدْخُلَ النَّارَ”، أي فإذا أردتَ أنْ تقتله فلا تدع أحدًا غيري يقتله.. “فإذا عزمت على القتل فَمُرْنِي أنا آتيك برأسه”، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: ((بَلْ نَتَرَفَّقُ بِهِ، وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا)) .
فلمَّا وصلوا إلى المدينة وقف ابنه على باب المدينة، ولـمَّا وصل والده ليدخلها قال له: “ارجع وراءك، والله لن تدخلها حتى يأذن لك رسول الله ﷺ”، فلمَّا دخل الناس، وأراد أن يدخل قال له ابنه أيضاً: “لا تدخل حتى تقول: رسولُ الله ﷺ هو الأعزُّ، وأنت الأذلُّ”.. رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.
أثر الإيمان في حياة الصحابة:
في سبيل الله وفي سبيل الإسلام وبقوة الإيمان كان الله ورسوله ﷺ أحبَّ إليهم مِن آبائهم وأمَّهاتهم وأبنائهم وأوطانهم وحياتهم وأرواحهم، وبهذا الحبِّ الربَّاني، وبصحبتهم لرسول الله ﷺ، وبإحياء لياليهم لتتجافى جنوبهم عن المضاجع، وبذكر الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، وبمدرسة القرآن التي تُعلِّمهم الكتاب والحكمة وتزكِّيهم، صاروا أعلم أهل الأرض وأعظم أهل الأرض، وهَزموا الدولتين الأعظم في عصرهم وزمانهم: الاستعمار الفارسيَّ والاستعمار الرومانيَّ في عشرة أيام، ففي معركة اليرموك كان عدد الرومان والمتنصِّرة مِن العرب مئتين وخمسين ألف مقاتل، يُقابِلهم مِن العرب المسلمين ستٌ وثلاثون أو أربعون ألف مقاتل، وانتهت المعركة في ستة أيامٍ.. واليوم يتباهى اليهود بأنهم هزموا العرب في معركة الأيام الستة.
لقد انتصر العرب بإسلام مدرسة رسول الله ﷺ وبإسلام القرآن فقهًا وفهمًا لا إسلام الوضوء والصلاة والتجويد فقط، وهذا [الوضوء والصلاة] جزءٌ من الفقه، وهو يشمل الفقه الجسديَّ والفقه الكلامي، ولكن هناك الفقه القلبيُّ وفقه الحكمة والحياة وفقه الأسباب والمسبَّبات، وفقه: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة:201]، وفقه: ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ [النساء:71]، وفقه: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال:60]، وفقه: ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال:46]، وبهذا كلِّه استطاعوا أنْ يقضوا على أعظم إمبراطورية في معركةٍ واحدة في ستة أيام، حيث كانت هذه الإمبراطورية تشكل الاستعمار الغربي، وأما الاستعمار الشرقي وهو إمبراطورية الفُرس التي كانت مستعمِرةً للشرق، فقد أنهوها في معركة القادسية في أربعة أيامٍ، فأين أيامنا من أيامهم؟ وأين زماننا من زمانهم؟ وأين ثقافتنا من ثقافتهم؟ وأين مسجدنا من مسجدهم؟ وأين إمامنا وخطيبنا من إِمامهم وخطيبهم؟
الخرائط -واللهِ- كلُّها موجودة، ولكن التعليم الشرعيَّ والتثقيف الإسلاميَّ في المدارس والكليَّات الإسلامية ناقص، لأنها ينقصها البرنامج التربوي الروحي والأخلاقي، وينقصها البرنامج العقلاني الفكري الذي هو الحكمة.. اليوم يتخرج طالب العلم يحمل الليسانس أو الماجستير أو الدكتوراه ولا يُنتِج شيئًا، إلا أنه ينتظر وظيفةً ليأخذ راتبًا ليعيش أدنى معيشةٍ في أوساط المجتمع، حتى سمعتُ مِن بعضهم وهو يحمل خمس شهادات دكتوراه، وهو صديقي ولا يزال حيًّا، قال لي: إنَّ بائع الفلافل أفضل مني.. [بائع الفلافل من أدنى طبقات المجتمع مالياً، وهو الذي يبيع سندويش الفلافل على عربة في طريق المارّة].. إنَّ العالـِم الحقيقي لا يرى بائع الفلافل، ولا يرى أغنى الأغنياء خيرًا مِن العالـِم الحقيقي.
فيجب علينا أن نُنجب العالِـم الحقيقيَّ الذي يصنع القلوب والنفوس، ويصنع العقول والهِمم والعزائم، ويستمدُّ قوَّته مِن قوة الله تعالى، وحكمته من حكمة القرآن، ويصبح قرآنَ العمل، كما أنَّ المصحف قرآن الكتابة والخط والحبر الأسود على الورق الأبيض، فالقرآن الحقيقي هو أنْ يكون القرآن مكتوبًا بالمِداد النوراني على صفحات القلوب السوداء، حتى تستنير صفحات القلوب وصفحات العقول، وتنتقل مِن الجهل إلى العلم وإلى الحكمة وتزكية النفس، وإلى الاستمداد مِن الله عز وجل فيُمدَّها الله تعالى ويُلهِمها الحكمة والصواب.
حال أهل الله وقصتان مع الشيخ أمين كفتارو:
لـمَّا أراد الصديق رضي الله عنه أن يُهاجر، قَالَ له النَّبِيُّ ﷺ: ((اصبر حتى يأذن الله لي لعلَّك تهاجر معي))، فقال: يا رسول أَوَتَرجو أن يأذن الله لك بالهجرة؟ فكانت الهجرة بإذنٍ إلهيٍّ، والقتال أيضًا كان بإذنٍ إلهيٍّ، والله تعالى يقول: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ﴾ [الحج:39]، “أُذِنَ.. أُذِنَ”.
كنت أسمع من شيخنا رضي الله عنه يقول: دعوتُ الله عند الملتزم بثلاث دَعَوات، ولم أفارق الملتزم حتى علمتُ أنَّ الله تعالى قد استجاب دعواتي الثلاث.
ما معنى كلمة: حتى علمتُ؟ ومن علَّمه؟ هذا كان فيما بينه وبين الله عز وجل.
الدعوة الأولى: أن يجعل الله تعالى خليفته من صلبه، وأرجو الله تعالى أن أكون أهلًا لذلك.
والثانية أنْ يُوسَّع هذا المسجد الذي كانت مساحته ستين مترًا مربعًا، وكان ممدودًا بحُصُر سوداء، وكانت توجد قبَّةٌ شرقي المسجد، والنهر جنوب المسجد، فدعا الله تعالى أنْ تصل حدوده إلى القبة وإلى النهر، فتجاوزت حدود المسجد القبة والنهر، وصار بستَّة طوابق. [طوابق جمع طابق، وهو الدَّوْر في البناء]
والدعوة الثالثة: أنْ يجعل الله تعالى كلَّ مَن صدق في صحبته رفيقه في الجنة.
ويروي النبي ﷺ لتأييد هذا المعنى في الحديث القدسيِّ: ((ولا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ)) ، أنْ تكون محبًّا لله هذا شيء حسن وعظيم، ولكن الأعظم مِن أن تكون محِبًّا أن تكون محبوبًا لله، وأن يكون الله محبَّك كما أنت محبُّه.. ((لا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ فبي يَسْمَعُ، وَبَصَرَهُ فبي يُبْصِرُ، وَيَدَهُ فبي يَبْطِشُ، وَرِجْلَهُ فبي يَمْشِي)) ، وقس على ذلك.
في ليلة ولادتي أخبر شيخُنا شيخَه بولادتي -وأنا أذكر لكم هذا لا مِن أجلي، فأنا بين نِعالكم ولا أُخرِج نفسي مِن العَتَبَة، وقد وضعتُها بين النِّعَال- أخبر شيخه بولادتي، شيخه المربِّي الربَّاني والذي كان مِن كبار علماء دمشق، وكان يسمى بالشَّافعيِّ الصغير، فأغمض عينيه قليلًا ثُمَّ فتحهما وقال: اعتنِ بمولودك هذا، فإن له شأنًا.. أيُّ كتابٍ قرأ؟ وأيُّ مصدرِ سأل؟ ولكن: ((اتَّقُوا فَرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ)) ، فيجب على الكلِّيات أنْ تضمن بأن يخرج المتخرِّج مؤمنًا ذا فراسة ينظر بنور الله، وإذا نطق ينطق بالله، وإذا سمع يسمع بالله ويسمع عن الله.
فَإنْ تَكَلَّمتُ لم أَنطقْ بِغَيرِكُمُ
وإنْ سَكَتُّ فَشُغلي عَنكُمُ بِكُمُ
أَخَذتُمونِيَ منِّي في مُلاطَفةٍ
فَلَستُ أَعرِفُ غَيْرًا مُذْ عَرَفتُكُمُ
عَرَفَه بالحكمة، عَرَفَه بالنور الإلهي وبالعلم الربَّاني.
نعود إلى سورة المنافقون.. هذه السورة يحتاجها رجال الدولة، ليعرفوا كيف يعامِلون أعداءهم، ويحتاجها ربُّ الأسرة، ويحتاجها الإنسان في مصاحبته ومصادقته للناس، وأخذًا من قوله تعالى في صفة المؤمنين: ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ [الرعد:22]، إن أساءت زوجتك فأحسن إليها، وهكذا الزوجة مع زوجها، والجار مع جاره، والقريب مع قريبه، والإنسان مع أعداءه: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [المؤمنون:96].. قال رسول الله ﷺ: ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ)) ، فهل تعلَّمت هذه الآية لتكون لك خُلُقًا وسجيَّةً، ولتكون لك سلوكًا وطبيعة؟ ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي﴾ [المؤمنون:96] قراءةً تعلَّمناها، وتجويدًا لحروفها أتقنَّاها، ونغمةً كذلك تغنَّينا بها، ولكن فقهًا عمليًّا وإيمانًا تطبيقيًّا هل فقهناها؟
الإيمان فوق الهوى والأنانية:
قد تغضب مِن أقلِّ شيء، وتُحارِب مِن أجل أتفه شيء، ولا تعفو ولا تصفح.. والنبي ﷺ كان يقول: ((أَفْضَلُ الإيمان أَنْ تُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ)) ، هل أنت مؤمن؟ نعم، إنك حين تشتري الخبز تأخذ أحسن الأرغفة لأجل أن تغذِّي جسدك، وحين تشتري الفاكهة تنتقي أطايبها، وهكذا في الثياب، وهكذا في كلِّ شيء، وكيف الحال في إيمانك؟ يجب أيضاً أنْ يكون إيمانك أفضل الإيمان، وأن تتقبَّل الحديث النبوي، وأن تعطي مَن كان غنيًّا فحرمك ولم يسعفك ولم يساعدك، فإذا عكس الله تعالى الأمر فأراد أن يمتحنك فأغناك وأفقره، وأتى إليك محتاجًا، فهل تقول: هذا الكلب وهذا كذا وكذا [من الأوصاف المشينة]، حين كان غنيًّا وكنتُ فقيرًا كان يصدُّني عن الأبواب؟.. هذه الطبيعة والهوى والأنا، أمَّا الإيمان والتقوى فهو أن تُعطِي من حرمك، فهل تقدرون على هذا؟ من يقدر أن يفعل ذلك ويؤمن بها فليرفع أصبعه.. ولكنْ لا يكون جوابكم كما قال تعالى: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [المنافقون:167]، وهذه لحيتي! [“وهذه لحيتي أو ذقني” كلمة تُستخدَم في العامِّيَّة السورية لتأكيد الوعد الذي يقوله، بمعنى: أؤكد لكم أن قولي هذا سيقع وأنا واثق من ذلك] إنَّ الله لا يغشُّ أحدًا، فحين يأمرنا الله تعالى بوصية لنعملها، واللهِ إنَّها لِمصلحتنا، ونحن الرابحون في “العُمْلَة” والنَّقْد الإلهي. [العُمْلَة: النُّقُود].
((أَنْ تُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ))، سبحان الله! يا تُرى هل يُعلِّمنا الله تعالى ورسوله ﷺ شيئًا نكون به خاسرين غير رابحين؟ هل يعلِّمنا ما نُذَلُّ أم ما نُعَزُّ به؟ هل يعلِّمنا ما يُسعِدنا أم ما يُشقِينا؟ إذًا لماذا لا نفقه؟ نحن نقرأ الآيات: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف:199]، سألوا النبي ﷺ: ماذا تعني هذه الآية؟ قال: ((أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ)) ، هذا هو الإيمان، فلا تغتروا أنكم تقرؤونها وتحفظون سندها ومصدرها، إنَّما المهم أن تفهمها بقلبك وبكلِّ خلايا وجودك لتحوِّلها من كلامٍ مكتوب ولفظٍ منطوق إلى عملٍ منظور ومشهود، وبذلك تكون مؤمنًا وبذلك تكون مسلمًا.
النبي ﷺ وهو رجل الدولة.. طلب منه بنُ أبيّ ابن سلول أنْ يأتيه زائرًا لـمَّا حضره الموتُ وهو في مرض موته -وهذا مِن نِفاقه، فهو منافق حيًّا وميتًا- أي رجاء أن يُخفِّف الله عنه، فأتى النبي ﷺ إليه واستجاب له، وهذا: ((أنْ تَصِلَ مَن قَطَعَكَ)).. ومما قال له: ((لَقَد أَهلَكَكَ حُبُّ اليَهُودَ)) ، لأنه كان حليفًا لليهود، فقال: “يا رسول الله ما دعوتك مؤنِّبًا وموبخًا، دعوتك لتزورني”.
((أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ))، وعندما دخل النبي ﷺ مكة فاتحاً عفا عن أعدائه، وكان مِن الذين عفا عنهم الرَّجلُ الذي قتل ابنتَه ﷺ عندما نَخَز بها جملها عند هجرتها وكانت حاملًا، فسقطت فأجهضت وماتت.. ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:4]، ((فَازَ حَسَنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ)) .
المقصود مِن سورة المنافقون إذا قرأناها أن لا نكون منافقِين.. والنبي ﷺ غير موجود الآن، ولكن القصة تتكرَّر في كلِّ مراحل الحياة، فعليك أن تتعامل مع الأعداء ومع الأشقياء بالأخلاق النبوية التي وصف الله تعالى بها النبي ﷺ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:4]، ((وفاز حَسَنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ))، و((كَادَ الْحَلِيمُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا)) ، وعلينا أن نفتِّش أنفسنا، هل فيها نفاقٌ؟ النفاق أن ندَّعي الإسلام ولا نعمل به؛ في فرائضه وعباداته وأخلاقيَّاته وعلومه، والنبي ﷺ كان يقول: ((لَيسَ مِنِّي إلَّا عالِمٌ أو مُتَعَلِّم)) ، يعني أن المسلم لا يمكن أن يدخل في دائرة الإسلام وهو في مدرسة الجهل.
وجوب التعلُّم والتعليم:
مرَّةً صعد النبي ﷺ المنبر، وكان فيما خطب أن قال: ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ لَا يُفَقِّهُونَ جِيرَانَهُمْ، وَلَا يُعَلِّمُونَهُمْ، ولا يفطِّنونهم، وَلَا يَأْمُرُونَهُمْ بمعروفٍ، وَلَا يَنْهَوْنَهُمْ عن منكَرٍ؟)) ما بالهم ولماذا يفعلون ذلك؟ ((وَمَا بَالُ أَقْوَامٍ لَا يَتَعَلَّمُونَ، وَلَا يَتَفَقَّهُونَ ولا يتفطَّنون؟ لَيُعلِّمَنَّ أَقوامٌ جِيرانَهم وَلَيُفَقِّهُنَّهم وَلَيُفَطِّنَنَّهم وَلَيَأمُرَنَّهم وَلَيَنهَوَنَّهم، وَلْيَتَعَلَّمَنَّ قَوْمٌ مِنْ جِيرَانِهِمْ وَيَتَفَقَّهُون، وَيَتَفَطَّنُونَ، أَوْ لَأُعَاجِلَنَّهُمُ الْعُقُوبَةَ في الدُّنيا)) .
فإذا علمتَ شيئًا مِن الدِّين؛ مِن أخلاق أو إيمان أو ذِكرٍ أو سلوكٍ فعليك أن تعلِّم جيرانك فضلًا عن أهلك، وفضلًا عن أولادك وأمك وأبيك، وإذا رأيتَهم على منكَرٍ فعليك أن تنهى، أو رأيتَهم تاركين فريضةً فعليك أن تأمر، وكذلك إذا لم يكونوا مُتفطِّنِين لأمرٍ من أمور الدِّين.. قال ﷺ: ((أَوْ لَأُعَاجِلَنَّهُمُ الْعُقُوبَةَ في الدُّنيا))، فالتعليم إلزاميّ، لكن ليس التعليم المجرَّد عن التربية وتزكية النفس.. والضمان الاجتماعي والضمان العلمي والتربوي والأخلاقي [في الإسلام] يعني أنَّ كلَّ إنسانٍ مسؤولٌ عمَّن حوله في أسرته أو جيرانه أو أصدقائه: ((وَلَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بكَ رجلًا واحدًا، خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ)) ، و((ليسَ منِّي إلَّا عالِمٌ أو مُتعلِّمٌ)) .
فعلينا جميعًا أنْ نفقه القرآن.. وإذا قرأنا مِثل هذه السورة أو غيرها -ابن سلول ذهب- فاحذر أن تكون ابنَ سلول زمانك، واحذر أنْ تكون معاديًا لمصدر العلم والحكمة والتزكية في زمانك كما قال الشاعر
كُلَّ عَصرٍ فِرعَونُ فِيهِ وَمُوسَى وَأَبو الجَهلِ في الوَرَى وَمُحَمَّدُ
اللهم اجعلنا مِن أحباب نبيِّك المقتفين لآثاره، العاملين بسُنَّته، المتفقِّهين والمفَقِّهِين لإخواننا.