جوانب الرّحمة عند النبيّ ﷺ في تخفيف عقوبةِ بني النّضير:
فنحنُ الآن في تفسير بعضِ آيات من سورة الحشر، هذه السورة التي ذكَرَ الله فيها قصَّةَ فئةٍ من اليهود؛ وهم في الحقيقة ليسُوا مِن اليهود، وإنّما اتخذوا الاسم شعارًا لهم وجعلوا رسالةَ سيِّدنا موسى وتوراتَهُ التي نزلَتْ عليه مِن السّماء خلفَ ظهورِهم، والتوراة: -كما هو شأن القرآن والإنجيل وكلّ رسالات السّماء- هي كتابُ الله الأصيل قبل أن يُحرَّفَ، التي لا تأمرُ الإنسان إلا بخيرِهِ وسعادتِهِ ولا تُحرّم عليه إلا ما فيه شقاؤُهُ وتعاستُهُ.. فهؤلاء المنتسِبونَ إلى سيدنا موسى -وموسى عليه السلام منهم براءٌ- قاموا بمؤامرة لاغتيالِ النّبيّ محمَّدٍ ﷺ الذي يُمثِّلُ النبوّة والرسالة، وهو رسول السّماء، رحمة مِن الله سبحانه للعالم، وفي الوقت نفسه يُمثّل رجل الدولة.
فحاكُوا مؤامرةً لاغتيالِهِ والقضاء على الدولة فكُشِفَ الأمر، ومِثْلُ هؤلاء وفي كلّ قوانين دولِ العالم يُحكَم عليهم بالإعدام، ولكن الإسلام لم يَقتلْهُم، سوى أنّ النّبيّ ﷺ أعلمَهُم أنْ ((لا تُساكنوني في بلدي)) ؛ عفوتُ عن إعدامكم وعن سجنكم وعن معاقبتكم وتغريمكم بالمال وعن كلّ أنواع العذاب، ولكنهم خونة قتلة غدَّارون، فهل تُقرُّهم الدّولة في بلدها؟ وكذلك فَعَلَ زملاؤهم من بني قُرَيظَة؛ تحالفوا مع عرَبِ البادية ومع كفّار قريش، وشكّلوا جيش الحلفاء، وحاصَرُوا المدينة بعشرة آلاف مقاتل ليَقضُوا على الإسلامِ وعلى نبيِّ الإسلام، وكانَ المنافِقونَ المسمَّونَ بالمسلمين وينتسبون إلى الإسلام وهم أعداؤُهُ وهم كاذبونَ ومخرِّبُونَ ومُهدِّمون، وهؤلاء موجودونَ في كلّ دين، والآن يُقال في الأديان: هذا يهوديّ، ولكن سيّدنا موسى عليه السلام منه براء، وهذا مسيحي ولكن الإنجيل منه براء، وهذا مسلم ولكن القرآن منه براءٌ.
الإسلام قائم على ثلاثة أركان: العلم والحكمة والتزكية:
الأديان تَدعُو إلى الإيمانِ والخيرِ وتَنهَى عن الشرِّ، تَدعُو إلى الحبِّ والإخاء، وأتى الإسلام فوق هذه المعاني يدعو إلى الحياة ويَدعُو إلى عالمية العِلْمِ، فالعِلْمُ لكلِّ شعوبِ العالم، والرُّوحانية لكلّ شعوب العالم، والإخاءُ مع أبناءِ كلِّ شعوب العالم، والعقلانيّة -وهي تحكيم العِقل في الأمورِ للقضاء على الخرافات وعلى الوثنية- لكلِّ شعوب العالم، ثم صار العالم كلّه تحتَ قوميّة واحدة، فالقومية في العالَم: القوميّة الفرنسية تشمل مَن يتكلَّمُ الفرنسيّة وولد على أرضِها، فلا أرض الفرنسي تجعلُ منه قدّيسًا، ولا اللغة الفرنسيّة تجعَلُ منهُ إنساناً فاضِلًا، أمّا قوميّة الإسلامِ فليسَت نابعة من التراب، وليسَت نابِعَة من اللفظِ والكلام، وإنما قوميّة الإسلام قائمةٌ على ثلاثة أركانٍ ومواد
العلم: كما يقول القرآن عن رسالة النّبيّ ﷺ: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ [الجمعة:2] تتعلم القرآن ليس قراءَتَهُ وتلاوتَهُ وحفظَهُ عن ظهر قلبٍ وفقط، بل أن تَعْلَم أنّ هذا العسل شفاءٌ ودواءٌ لتستعملَهُ، وأن هذا سُمّ قاتل لتتركَهُ وتجتنبَهُ، هذا هو القرآن ويُقرأ لهذا، وإذا قرأتَهُ وحفظتَهُ عن ظهر غيب وقرأتَهُ بالقراءات الأربع عشرة ولم تُحقّق هذه الغاية، فأنتَ منافقٌ ولستَ بالمسلِم، لأنّكَ تدَّعِي الإسلام ولا تحمِلُ حقيقته العِلْمِيّة، فالعِلْمُ ثلثٌ.
﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ الحكمةُ: هي العقلُ المُرَشَّح مِن معرفةِ الأسباب والمسبَّبات، فالأفعى والسمُّ سببٌ للموت، فإذا عرفتَ أن الأفعى سبب ويَتسبَّب عن لدغِها الموت، فهذه هي الحكمة، فماذا تُثمرُ الحكمة؟ أن تجتنبَ الأفعى.. أنت عطشانٌ وتعلَم أنّ الماء يُذهِب العطش، فالماء والشرب سبَبٌ، والريّ وذهابُ العطشِ مسبَّبٌ، وأن تَعرِفَ الأسباب والمسبَّبات وتعملَ بها هذه هي الحكمة، وهي الثلثُ الثّاني لِتكون مسلماً، فتكون عاقلاً حكيماً، تعرِف المقدّمات ونتائجها، فتعرف البذار وحَصِيْدَته عند الحصاد.
﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ويُزكّيهم﴾ يُطهّرُ النفسَ مِن كلّ رذائل الأخلاق وكلِّ ما يُؤذيها في عقلها أو بدنِها أو حياتها أو تعامُلِها مع الإنسانِ أو الحيوان أو الأعداء أو الأصدقاء، وتصيرُ النفس مزكّاةً من غير ظلمٍ ولا كذبٍ ولا غشٍّ ولا عدوانٍ، وكلها رحمةٌ وحنان وحبٌّ وإخاء.
كذِب المنظمات الدولية:
وبمجموع هذه الأشياء الثلاث يكون الإسلام، ويُضاف إليها عالَميّة هذه المعاني في كلِّ شعوبِ العالم، وذلك عكسَ ما فعلَهُ الغربُ، فالغرب استعمَرَ شعوبَ العالَم وبلدانها، لكنه حرَمَها العِلْمَ والثقافة، واحتكَرَ التكنولوجيا والتقدّم العلميّ لنفسِهِ، وحارَبَ اقتصادها فأفقرها وجَهّلها وأفسدَ أخلاقها وأبعدها عن التزكية.
[في هذه اللحظة يدخل ضيف إلى المسجد، فيرحب به سماحة الشيخ قائلاً: “أهلاً وسهلاً ومرحبًا سماحة المفتي؛ مفتي بلغاريا الشيخ نديم]
فهذا هو الإسلام الذي جعل العِلْم للعالم كله، فأيقظ العقل وحارب الأوهام والخرافات وبعث العقلانية في كل الشعوب، وزكى النفوس وآخى بين كل الشعوب، وهيئة الأمم تفكيراً ولم تصل إلى هذا المعنى، أمّا واقعيًا فكلّها كذب ودجل وأدواتٌ بأيدي القُوى الاستعماريّة لتستغلَّها لِنَفسِها، فتأخذ ثلاثة وعشرين قيراطًا لها وتعطي نصفَ قيراط لبقيةِ الشُّعوبِ، مِثل حقوقِ الإنسان الكاذبَةِ حيث يَستخدمُونَها لمصلحتِهم، ونادرًا ما يعطونها إلا إن كان للحيوان أو إنسانِهم، أمَّا مع إنسان الشُّعوبِ الأخرى فهم كذّابون ودجَّالونَ، ففي حرب العراق انتصَرُوا للكويت لأجل أن يُسيطِروا على البترول، والمسلمونَ في البوسنة والهرسك وفي قَلْبِ أوروبا تُدَمَّرُ بيوتُهُم ومساجدُهُم ونساؤُهُم وتُذبَحُ أطفالُهُم ويَموتُونَ جوعًا! وهم في أوروبا! فأين حقوقُ الإنسانَ؟
تحريض المنافقين لليهود:
ولَمَّا أمَرَ النّبيّ ﷺ بإجلاء بني النضير -نتيجة الخيانة العُظمَى التي جزاؤها الإعدام، إلا أن النّبيّ ﷺ لم يعدمهم ولم يسجنهم ولم يضربهم وإنما قال لهم: ((اخرجُوا مِن بَلَدي))– وكان هناك من يدّعون الإسلام وهو كاذبون، ويُصلّون ويصومون وهم كاذبون، فقالوا لليهود: لا تخرجوا، وإذا أُخرجتُم بالقوّة لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ، وإن قُوتلتم لنُقاتلنّ معكم -هؤلاء اسمهم في العُرف المعاصر الطابور الخامس أي المواطنون الخونة الذين يتحالفون مع أعداء الوطن- فالمنافقون حرّضوهم على عدم الخروج ووعَدُوهم بالنصر، وحين أُخرِج اليهود أخلف المنافقون الموعد، وفضح الله عزّ وجلّ المنافقين الذين يتستَّرون ظاهرًا وادّعاءً بالإسلام، وباطنًا هم أعداؤه، فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [الحشر:11]، لم يَقل للكافرين، ولم يقل لأهل الكتاب فقط، فأهل الكتاب على قسمين: منهم المؤمنون ومنهم الكافرون.
وجودُ اسم النبيّ ﷺ في التوراة:
كان أهل الكتاب يجدُونَ اسم النبيَّ ﷺ في التوراة وفي الإنجيل، وتحدّاهم الله في القرآن فقال: ﴿الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ [الأعراف:157]، ولو لم يكن في ذلك الوقت اسم محمّد ﷺ موجوداً لكانوا تحدّوا النبي ﷺ وأتوا له بالتوراة، وقالوا له: هذه التوراة فأرِنَا اسمك.
دَخَلَ النّبيّ ﷺ عليه الصلاة والسّلام على يهوديّ وابنه يحتضِرُ في الموت ويقرأ على ابنه التوراة رجاء التخفيف أو يتعزَّى بذلك، فقال النبيّ ﷺ لوالد الولد: ((أنشُدُكَ بالتوراة التي أنزَلَها الله على موسى ألا تجِدُ اسمي في التوراة؟ فاليهوديّ رفَعَ رأسَهُ أن لا، فكان ابنُهُ يَقرَأُ التوراة فقال له: بلى والله، إنّا لَنجدُ اسمَكَ في التوراة وأنا أشهَدُ أن لا إله إلا الله وأنَّكَ رسولُ الله)) ، ثمّ انتهَى الاحتضار بموتِهِ فأخذَهُ النّبيّ ﷺ وغسَّلَهُ وصلَّى عليه ودفنَهُ في مقابر المسلمين.
وأخيرًا طُبِعَ كتابٌ لأحدِ رؤساء الكنائس باسمِ “محمَّد في الكتاب المقدّس”، وفيه إثبات وجود اسمِ محمَّد ﷺ في التوراة والإنجيل، والذي ألَّفَهُ مِن كبارِ رجال الكنيسة وباللغة الإنكليزية وتُرجِمَ إلى العربية، وهو يُباعُ وموجود في أسواق ومكتبات دمشقَ، حيث اكتشفوا في إحدى المغارات في الجبال المطلَّة على البحرِ الميّتِ في الستيناتِ نسخةً مِن التوراة تذكرُ اسم النّبيّ محمد ﷺ، وأنه يفتح مكّة بجيش فيه عشرة آلاف قدّيس، فسيَظهَرُ الإسلام ولو كَرِهَ الكارهون، وهذا عصر الإسلام شاء مَن شاءَ وكرِهَ مَنْ كرِهَ ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [الصف:9].
المسلمون والكافرون والمنافقون موجودون في كل الأديان:
فالمنافقون يَدَّعُونَ الإسلامَ ويُصلُّونَ مع النبيّ ﷺ في المسجد، والنبيُّ ﷺ يَستشيرُهُم.. قالوا لهم: لا تخرجُوا، لئن قوتلتُم لنقاتلنَّ معَكُم ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ﴾، قال الله سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾، انظُرْ ما أعظَمُ دقَّةَ القرآن؛ لم يَقُلْ عن اليهودِ أنهم “كفّار” قال: يُوجَد منهم كافِرونَ: ﴿ليْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران:113] منهُم المهتدون ومنهم الفاسقون، تارَةً يَمدحُ اليهودَ والنّصارى أي السَّابقينَ الحقيقينَ، وتارة يذُمّ منهُم المنافقين الكاذبين، وهكذا المسلمون فيهم المسلِمُ الحقيقيّ وفيهِم المسلِمُ الكاذِبُ المسمَّى بالمنافِق، فإذا اجتمَعَ المنافِقُ المسلِمُ معَ المنافِقِ اليَهوديّ، يَصيرانَ إخوانَ بعضهم البعض، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾، لم يقل: “إخوانهم مِن أهل الكتاب، بل الذين كفروا منهم، أمَّا المؤمنونَ مِن أهلِ الكتاب فهُمْ والمسلمون إخوة.
موقفُ المنافقين من إجلاء يهود بني النّضير:
يقول المنافقون لليهود ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ﴾ أي من المدينة، ﴿لنخرجن معكم﴾ إنْ أنتُم خرجتُم مِن المدينة فلن يبقى منا أحد ﴿وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا﴾ سنُقاتِلُ محمَّدًا بكلّ قوّة ولا نُطيعُهُ ﴿وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُون﴾ [الحشر:11]؛ يورّطون اليهود ويريدون أن يَتَخلَّوا عنهُم، كما حصَلَ واقعيًا وعمليًّا، ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ﴾ [الحشر:12]، اللام: لام القسم، إنْ: هذه شرطية، أي تجزمُ فعْل الشَّرط وجوابَهُ، فينبغي أن يكون الجواب بعدَها مجزوماً بحذْفِ النون، لكن النون موجودة، لأنّ القاعدة عند النحويين
وَاحذِف لَدَى اجتِماعِ شَرطٍ وَقَسَم
جَوَابَ مَا أخَّرتَ فَهوَ مُلتزَم
فإذا اجتمَعَ الشَّرط والقَسمُ، فالقسمُ يَحتاجُ إلى جوابٍ، والشّرطُ يحتاجُ إلى جواب، فيُكتَفى بجواب أحدِهما، وهنا الجواب ليس جواب الشرط، بل جواب القسمِ، وجواب القسم لا يُجزَم، ﴿وَلَئِنْ قُوتِلُوا﴾ أيضاً مثلها ﴿لَا يَنْصُرُونَهُمْ﴾ لو انجزمَتْ لصارت “لا يَنصُروهم”، ﴿وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ﴾ لو قاتلُوا معَهُم، ﴿لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾، لأن الباطل: ﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء:81].
﴿لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ﴾ [الحشر:12]، العربُ قبلَ الإسلامِ كانُوا معَ الوحوش في الصّحراءِ، وفي مكّة والمدينة بوادٍ غير ذِي زَرْعٍ، والبلادُ العربيّة كلّها مستعمَرةٌ: كان الأحباش والأفارقة يَستعمرون اليمن، والفُرسُ يُنازِعُونَهم عليها، والشمال كان بيدِ الفُرس والرومان، مَن الذي حرّرها ووحّدها وأحيا اللغة العربية؟ إنه الإسلام، فهل يجوز لهذا الإسلام أن يَعُقَّه المسلمون أو أن يجهلَه المسلمون وهو سلاحُهُم الذي جعلَهُم أمّةً عالميّة وخلَّدَ لغتَهُم وعرَّفَهُم إلى كلِّ العالم، ولكن لو عرفُوا الإسلام لَما حاربُوهُ، ولَما تباعَدُوا عنه، ولَفدَوهُ بأرواحهم ومُهجهم ودمائِهِم، ولبذَلُوا في سبيل تجديدِهِ وعودتهِ أموالَهُم وما يَملِكُون، وإن بَقِيَ المسلمون على هذا الشكل فاللهُ ليس بحاجة إليهم؛ يَستبدلُهُم بقومٍ آخرين كما يَقولُ القرآن: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمّد:38].
الفقيه هو من يخشى الله عز وجل:
فقال: ﴿لأَنْتُمْ﴾ أيُّها العربُ، لكن بالإسلام، أمَّا قبلَ الإسلام لم يكن هناك أهمية للعرب، ﴿لأَنْتُمْ﴾ أيُّها العربُ المسلمون إسلامَ العِلْمِ والحكمة والتزكية الأخلاقية، ﴿أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ﴾ يدّعون أنهم يؤمنون بالله، لكنَّهم يخافون منكم أكثر مما يخافونَ مِن الله، هل يَخافُ اليهود الآن منا أكثر ممّا يخافون من الله سبحانه؟ نحن أصبحنا غثاءً، وهم يُسخِّرونَ دول العالم لمصالحهم، والاستعمارُ في رِكَابِهِم، لأنَّنا تخلَّينا عن روحنا التي هي جوهر الإسلام وحقيقتُهُ، ولأننا بَعُدنا عن علومِ الإسلام وحكمتِهِ وتربيَتِهِ وتزكيته، فمالم نَعُدْ إلى الإسلام مجدَّداً ومطهَّراً من الغبار الذي عَلِقَ به والجمود والتزمّت والتمذهُب الذي يُفرِّق المسلمين بعضَهُم عن بعضٍ ﴿إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد:11]، و كما ورد: ((عبدِي حرِّك يَديكَ أنزل عليكَ الرِّزقَ)) احرثْ وابذُر، وأنا أنزِلُ لك المطر، فيَنبُتُ الزرع.
قال: ﴿ذَلِكَ﴾ نسيانهُم لله وخوفهُم منكم، وأنهم لا يَحسبونَ حسابَ الله ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ فالآية تُشيرُ إلى أنَّ الفقيهَ هو مَن يخافُ الله ويَخشاه، وإذا كان هناك مَن يدعي الفِقْهُ ويَحمِلُ الشّهادة ولا يَخافُ الله ولا يخشى الله فالقرآن يقول له: لستَ بفقيه لأنك تخافُ الناسَ أكثر مما تخافُ من الله، وربّما تخافُ مِن الدبور ومن “الزلقطة” [الدبور الأصفر] أكثَرَ مما تخافُ مِن الله، فمَن فقدَ مخافة الله فهذا دليلٌ على جهلِهِ.
الفرقة وعدم الوحدة في حياة أعداء الإسلام:
﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا﴾ لم يكن عندَهم جرأةٌ أن يُقاتِلُوا المسلمين وجهاً لوجه، بِقدرِ ما جَعَلَ الإسلامَ عند المسلمِ مِن الشّجاعة والتّضحية واللا مبالاة بالموت حتى أرعبُوا كلَّ أعدائِهِم، فجَبُنَ الأعداء عن مقاتلة المسلمين وجهًا لوجه، ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ﴾، أمّا أن يَنزلُوا إلى المعركة فلا، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الحشر:14]، الجبن مِن فَقدِ العقلَ، والعاقل الحقيقي هو مَن يَعقِلُ عن الله أمرَهُ وشريعتَهُ ويَعقلُ دروسَهُ في مدرسة الله التي هي المسجد، وتكون مدرسة الله إذا وُجِدَ فيها العالم الحقيقيّ والوارثُ النبويّ، ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ فمع قوتهم لكنَّهُم مُتَفرِّقُون، فقد جَعَل الله الفِرقةَ مع الجماعة الظاهرة والكَثرة العدديّة دليلًا على قلّة العقل، والعرب الآنَّ تحسَبُهم جميعًا، فهل هم متوحِّدون في الأمور ذات الشأن؟ ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ﴾ لماذا لا يتَوحَّدونَ ولا يشكُّلونَ دولةً واحدةً؟ لِماذا لا يَتحدونَ مثل الولايات المتحدة الأمريكية، كلُّ ولاية لها برلمانُها وحاكمُها، ولكن تجمَعُهُم الدّولة الفيدرالية، فلم نتعلّم في القرن العشرين لا من القرآن ولا مِن محاسِنِ الأمم المتقدّمة في وحدتها وفي اقتصادها وفي علومها وفي تكنولوجيتها.
كذلك المسجد ميّت، لأنّ المسجد ليس بجدرانه ولا سقفه ولا زينته، المسجد بعالِمه وإمامه، المسجدُ مستودع العلم والحكمة وتزكية النفوس، هذا هو المسجد، وأمَّا إذا فَقَدَ هذه المعاني فهو مسجدٌ لا روحَ فيه، مَن منكم يَقبلُ عروسًا فقدت روحها، وكفنُها معها أيضًا فليرفع يده؟ لا أحد منكم! وإذا أعطيناكم المهر وفوقه خمسون ألف ليرة كهدية لكم فهل تتزوَّجُونها لليلة واحدة أو سبعة ليال؟ أو هل تقبلن أيتها النساء بهذا الزوج الميت؟ والمسجد الميت والصديق الميّت الذي لا صداقةَ له، فهو في الظاهر صديق أمّا في الحقيقة فليس بصديق، وهناك الأخ الميّت والمريد الميّت والتلميذ الميّت والسيّارة الميّتة والراديو الميّت.. فاللهمَّ لا تُمتْ قلوبنا ولا عقولنا.
عمَلِ المنافقين مع اليهود يشبه عمل الشيطان مع الكافرين:
فاليهود خابت آمالهم في انتصارِهِم على النّبيّ ﷺ وعلى الإسلام، والمنافقون قد خذلوهم، بل هُزِموا وأخزاهُمُ الله وسوَّدَ وجوهَهُم، فكانت النتيجة أنّ مَثَلَ المنافقين مع اليهود: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ﴾ [الحشر:16] قالوا لليهود اثبُتُوا وحاربُوا محمَّدًا ﴿فلَمّا كَفَرَ﴾ لَمّا ثبتوا لم يحارب معهم المنافقون، قالوا لهم: نحن لا دخلَ لنا ولا نُورِّطُ أنُفسَنا ﴿قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحشر:16]، الآن أظهَرَ نفسَهُ أنَّهُ يَخافُ مِن الله وأنّهُ مِن الأتقياء والصّالحين، كذّابٌ ملعونٌ، لكن حتى يُبرِّرَ موقفَهُ الكاذبَ الخائن الغشَّاش الغادر للآخرين، وحتى يُبرّر عملَهُ لليهود ويَلتمِسَ العذر في انسحابِه مِن وعودِهِ وعهودِهِ قال: ﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾، فكانت النتيجةُ أنه لم يَتحقّق هدفُ اليهود في القضاءِ على الإسلام ولم يَتَحقّق أملُ المنافقين في القضاء على الإسلام.. هذا في الدنيا.
﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ﴾، قال المنافقون لليهود: لا تخرجوا، ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ﴾، ﴿وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ﴾، لكنّ الله ماذا يَرَى في هذا الادّعاء؟ ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾، وهكذا كانُوا، فلم يَخرجُوا معَهُم، ولم يُناصِرُوهم ولم يُقاتِلُوا معَهُم، بل خذَلُوهُم في أحلِكِ أوقاتهم وأوقَعُوهُم في ورطة، والله قال عنهم: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ﴾ مَن الذي قال عنه: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ﴾؟ المنافقون وعلى رأسِهِم ابن أبي سلول، ﴿إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ﴾ والمقصود من الإنسان هنا اليهود، قال لهم: اكفرُوا واصمُدوا وحارِبُوا النّبيّ ﷺ والإسلام، فلَمّا أعلنُوا الحربَ كان موقف المنافقين كموقف الشيطان: ﴿قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ﴾ هل الشيطان يخاف من اللَّهَ؟
﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا﴾ في الآخرة ﴿أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا﴾ وفي الدّنيا الخزي والخذلان والهزيمة وخسران الدنيا ومنافعها وسعادتهم وطمأنينتهم بعدما عامَلَهُم النبيّ ﷺ كمواطنين كما يُعامل المسلمين؛ “لهم ما لنا” فالمواطِنُ في ظلِّ الدّولة الإسلامية ولو كان غيرَ مسلمٍ لهُ مِن حقوق الحياة ما للمسلمين، وله مِن حقوق الدين؛ الحرية الدينية وسلامة كنائسِهِم وحريَّتهم في عقائدهم، ويُعامَلُون في أمور الحياة كما يُعامَلُ أي مسلم، وتأكيدًا على ذلك وزيادة كان النّبيّ ﷺ يقول: ((من آذى ذِمِّيًا..)) الذمِّي هو المواطن غير مسلم في ظلّ الدولة الإسلامية، وسُمّي ذمّيًّا لأنّ له الذّمّة والعهد والشرف، وأعطيناه ذمَّتَنا وعهدَنا وشرفَنا أن نُعاملَهُ كما نُعامل أنفُسنا، لذلك سُمّي ذميًا، والنبي ﷺ يقول: ((مَن آذى ذمّيًا)) ولو بكلمةٍ ((فأنا خصمُهُ يوم القيامة، ومَن كنتُ خصمَهُ فقد خصمْتهُ)) والذي يكون النبيُّ ﷺ خصمَهُ لا يَنتصِرُ في المعركة وفي المحكمة.
الإيمانُ شيءٌ عظيم فيه عِزُّ الدُّنيا والآخرة:
بعد ذلك قال الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحشر:19]، كلمة آمنوا وكلمةُ الإيمان؛ كلُّ مسلمٍ يظنّ نفسهِ مؤمناً، والإيمان شيءٌ عظيمٌ، والإيمانُ فيه عِزّ الدنيا والآخرة، لكن ((ليس الإيمان بالتّمنّي))؛ أن تدَّعي الإيمان أو تتخيّل الإيمان أو تظنَّ نفسَكَ مؤمناً ((ليس الإيمان بالتمنّي ولا بالتحلّي)) تلبِسُ لباس المسلمين ((إنّما الإيمان ما وقَرَ في القلب))؛ يمتلئُ قلبُكَ بمحبّة الله وخشيته وجلاله وعظمته، ((وصدقه العمل)) ، يظهرُ إيمانُكَ في مرآة أعمالِكَ وسلوكك وفي المعاملاتِ مع الناس؛ وتؤدّي الحقَّ لصاحبه ولا تفعل الحرام أخذًا ولا نظرًا ولا سمعًا ولا لسانًا، وتكون الإنسان الفاضل مع الناسِ تَرَشُّحًا [فيترشح من إيمانك الحقيقي وينتج عنه أن تصير إنساناً فاضلاً]، لأنكَ الإنسان المؤمن الذي عرَفَ ربَّهُ ودستورَهُ وقانونه، وتثقّفَ وتخرَّجَ مِن مدرسة الله التي هي المسجد، ذلك المسجدُ الذي فيه المعلِّمُ الوارث النائبُ عن رسول الله ﷺ في تعليم الناس القرآن؛ أي علومه وأخلاقه ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ بالعقلانية وبالأسباب والمسبَّبات.
خطورة إهمالِ الأسبابِ والمسبَّبات والاعتقاد بالجبريّة:
والمسلمون قد مرَّت عليهم مئاتُ السنين أهملوا فيها الأسبابَ والمسبَّباتِ باسم التوكّل على الله، وأبدلوا التوكُّل بالتواكُل، وصارُوا يَعتقدونَ بالجبريّة، وهي أنَّ الإنسان مُسيَّرٌ لا مخيَّرٌ.. هذا العمود وهذه الطاولة فاقدان للاختيار، فهل جاءا إلى هنا باختيارهما؟ ولكن أنا لَمَّا أتيتُ إلى هنا أتيتُ بإرادتي واختياري، فمرَّت قرونٌ على المسلمين ولا يزال بعضهم يقول عندما يُسأل لماذا تشرَبُ خمرًا؟ يقول لك: هكذا أراد الله، والله أجَبَرَني على هذا، “كاساتٌ معدودة بأماكن محدودة”.
((أتى رجلٌ إلى النبي ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ عَلَيَّ الشِّقْوَةَ، فأنا مدرِكٌ ذلك لا محالة))، ليس بيدي وأنا مجبر على ذلك وهكذا أرادَ الله؛ ((جعَلَ رِزقي بضَربِ كفّي على دفّي)) كان يعمل رقّاصاً يدقّ على الدربكة في الحانات والمراقص، هل قال الله له: اذهب وتعلّم الرَّقصَ والدبكة وشُرب الخمر والسفالة، هل هكذا أمرَهُ الله؟! أم هو الشيطان؟ هل أرسَلَ إليه سيَّدَنا جبريل عليه السلام، بأن الله أمره بهذا؟ أو هل بعَثَ إليه النبيَّ ﷺ يقولُ له بأن الله أمره بهذا؟ والشيطان يَعرفُه، قالوا: “الدّبّان يعرِفُ وجْهَ اللَّبّان”؛ [الدُّبّان: كلمة عامية وهي الذُّباب] الذي أصابَ وجهَهُ باللبن؛ هذا الذي يَأتِي الذبابُ على وجهِهِ، وأمَّا الوجهُ النظيفُ المعطَّرُ بالكولونيا [الكولونيا: نوع مشهور من العطر] هل يَنزِلُ عليه ذبابٌ؟ فقال له: ((كَذَبْتَ، أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ))، تقول: كتَبَ الله عليكَ، يعني فرَضَ عليك ذلكَ وأفقدَك حرّيتَك واختيارك ((إنّ الله خلَقَ لك رزقًا طيبًا مباركًا فاخترتَ)) انتبهوا إلى هذه الكلمة “فاخترتَ” فأنت مخيَّر ((ما حرَّمَ الله عليكَ مِن الرزق بدَلَ ما أحلَّ الله لك، ولئن عُدتَ إلى مقالتِكَ)) إذا سمعْتُ منكَ هذه الكلمة مرَّةً ثانية ((مرَّة أخرى لأجعلنَّك نكالاً للناس)) ؛ سأُربّي الناسَ فيك سِجنًا أو ضرباً أو نفياً أو ما يتناسب مع إصلاح المجتمع واقتلاع جرثومة الفساد والإفساد.
المسلم الحق يتَعلَّم ويُعَلِّم:
هذا الإسلام! أين هذا مِن فَهْمِ المجتمعِ الإسلاميّ، وإذا وجدنا أن المسألة هي الفهم فبعد الفَهْمِ يُوجَد عمَلٌ، وبعد انتهاء العمَلِ يُوجَد إنتاجٌ، فمعَ العِلْمِ والعمَلِ يُوجَد تعليمٌ، والمسلمُ الحقيقيّ مُسلِمٌ كالجمرة، لا يَحترِقُ لوحده فقط بل يَحترِقُ ويُحرِق، مثل “لـمْبَة” [مصباح] الكهرباء لا تَتنوَّرُ، بل تتنوَّرُ وتُنيرُ للآخرين، فالمسلمُ يَنفَعُ نفسَهُ وغيرَهُ، يتعلّم ويُعلّم غيرَهُ، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة:71] كتلةٌ واحدة، وأنصارُ بعضِهِم، وبعد الوحدةِ والاتحاد واليد الواحدة ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾، مَن هؤلاء؟ هل هم الرجال أم المسلمون والمسلمات؟ فهذه المرأة والرجل وهذه المساواة.. والذين ينادون بالمساواة بين الرجل والمرأة أيُّ مساواة يريدون؟ يريدون المساواة بالرقص وأن يصير الرجل راقصة، يُريدونَ المساواة بشُربِ الخمر وكشْفِ العورات، أمَّا المساواةُ بتحمُّل الأعباء والواجبات والتّعليمِ والفضائل والعقل وما يَرفَعُ مِن شأن المجتمع فلا يريدون، “عند الغنائم أنطون نائمٌ وعند جلي الصّحون أيقِظُوا أنطون” هكذا نُريدُ أن نتحايل على الله ونضحَكَ على أنفسنا، فنتيجة لذلك جعلَنَا الله مَهْزَأةً للعالم وسُخرية أمام شعوب العالم، ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5].
أهميّة وجود المرشد المربّي والحكيم:
إذا ما صار المسجد هو الإمام المعلِّم والحكيم والمربِّي والمرشِد فلا مسجدَ، وهذا مسجدٌ ميِّتُ، هل تَرضى لنفسِكَ بعروسٍ أن تكون في جنازتها وفي كفنِها وفي قبرِها! ما الفائدة مِن مسجدٍ هو قبرُ الإسلام؟ لا إسلامَ فيه، فقبلَ المسجد هناك إمامُ المسجدِ، وإذا وُجِد الإمام الحقيقيّ فلو فديناه بأرواحنا وبسواد أعيُننا فنحن الرابحون، وأسأل الله عز وجل أن.. أنا لمّا أدعو أستحي من الله، لأن هناك شرط مع الدعاء، ومِن شرطِ الدُّعاء أن تبذُلَ ما تملِك لتحقيقِ دعائك، فإذا طلبتَ مِن الله أن يرزُقَك ولدًا، “اللهم ارزقني ولداً”، فمِن واجباتِ الدُّعاءِ أن تتزوَّجَ، وإذا لم يكن معَكَ مال أن تجمَعَ المال، أمَّا أن تطلب مِن الله سبحانه وأنت لا تَشتغل ولا تجمَع المال ولا تخطب المرأة ولا تقوم بالعقد ولا بالعرس وتطلُب بعدها مِن الله ولدًا، فهذا اسمُهُ اعتداءٌ في الدعاء.
وكلُّ دُعاء اليوم المسلمين اعتداء، قال الله تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ مِن أعماق قلوبكم وبكلّ ذلّ ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف:55]، يَعني المعتدين في الدعاء؛ الذي يطلب في الدعاء ويملك الأسباب التي تُوصِله إلى ما يَدعو ويَطلُبُ، ثم لا يَستعمل الأسباب، فكيف سيستجيب الله له؟ والله يَقولُ له أعطيتُكَ الأسبابَ والوسيلةَ، فهذا طولَ عمرِهِ مثله كمثل الذي يدعو ويقول: “اللهُمَّ أوصِلني إلى حلب”، وعنده سيارة وسائق ولا يَركَبُ في السيارة، فمتى سيوصِلُه الله؟ سيبقى في مكانه، يقول: “اللهمَّ أنبتْ أرضي قمحًا وشعيرًا” ولا يحرثها ولا يبذرها، فماذا سيُخرج له الله سبحانه؟ حتى جرذان لا يُنْبِت له! بل ينبت له شوكًا.. فالمسلمون في جهل وفي تخلُّف إسلامي وتخلُّفٍ عقلانيّ، وفي تخلُّف أخلاقيّ وتَربَويّ، والسببُ أنه إذا فُقِد المعلّم فُقِد العِلْمُ، وإذا فُقِدَ الطبيبُ فُقِدت الصِّحة والطبّ، فالطبّ هو الأطباء، والنوافذُ والأبواب [المصنوعة من الحديد والخشب] هي الحدّادون والنَّجَّارون، وإذا فُقدوا فلا نِجارة ولا حِدادة.
اللهمّ أيقِظِ المسلمين أو أعِدْ إليهم حياتَهُم، لأنَّ الكثير منهم كالموتى، وليس المسلمون فقط، بل [أَهلُ] كلّ الأديان، هل هذه المسيحيّة هي المسيحيّة؟ المسيح في الإنجيل يقول: “لا تزُنوا، ومَن نظرَ إلى امرأة أجنبية، واشتهاها لنفسِهِ فقد زنا”، يا ترى في فرنسا أليسوا مسيحيّين؟ وكذلك في ألمانيا وإيطاليا وأمريكا، يا تُرى ألا يزنون؟ ألا يَشتهون النساء في نفوسِهِم؟ كلُّهُم زناة، وصاروا لوطيين، وجاء مرضُ الإيدز يَحصُدُهم مثل الطاعون، ولا يَرجِعُون إلى كلمة من كلماتِ السَّيد المسيح عليه السّلام، وهؤلاء كفّار بالمسيح، والمسيحي لا يَزنِي، ولا يَنظُرُ إلى امرأة غيرِ زوجته كما يَنظُرُ الزوج إلى زوجته.
إخفاق قانون تحريم الكحول في أمريكا ونجاح الإسلام في تحريمه:
في اليهوديّة شُرب الخمر؟ مع أنَّهُ ذُكِر في الإنجيل أنَّ سيَّدَنا عيسى عليه السلام كان في حَفْلٍ وكانُوا يُوزِّعونَ فيه خمرًا وانتهى الخمْرُ، وخجِلَ صاحبُ الدعوة والعرس، فقال سيّدنا عيسى عليه السلام: لا تضطرب، أحضِرِ الجرّة واملأها ماءً ودعا وخلطَها، فانقلَبَ الماء خمرًا، يعني صار سيّدنا عيسى عليه السلام خمَّارًا حسب زعمهم! فبَعد هذا كيف لا يَشربَ المسيحيون خمرًا؟ والخمر الآن علميّاً وطبيّاً وصحيّاً أضرارُهُ تُصنَّف تحتَ أضرارِ المخدِّراتِ، والمخدّرات حُرِّمت عندهم، ولكن عجَزَتِ الحكومات عن أن تُحرِّم الخمر، أمريكا سنة 1920م حرَّمَتِ الخمر وصار قانوناً إلى سنة 1933م يعني حوالي ثلاث عشرة سنة، وفشلت في التحريم، لأن الناس صاروا يَستعملون الخمورَ الرديئة مما زادَ في الضرَرِ على الشعب أكثر، لذلك تراجعتْ عن التحريم لأنها فشلت في تطبيقه.
أمّا في الإسلام لَمّا أنزل الله آية واحدة أو آيتين، وقال: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة:90] كُسِرت الجِرار في الحال، حتى سالَتْ أزقَّةُ المدينة كالسّواقي تسيلُ بالخمور وانتهى الخمر، وهذه خمسة عشر قرناً مضَت على المسلمين، هل يوجَد أحد منكم يشرب الخمر؟ فليرفع إصبعه؟ من يشربُ منكم سيجارة فليرفعْ إصبعَهُ؟ ارفعوا لا بأس، إذا قال المريض للطبيب: أنا مريض، فهل هذا عيبٌ؟ [لم يرفع أحد يده من الحضور فقال:] دعونا على الخيار الثاني أن الذي لا يَشرَبُ يرفع إصبعهُ؟ فهذه بركةُ الإسلام، [يقول الشيخ: هذه بركة الإسلام لأنه يرى أن المدخنين في مجلسه شبه معدومين، وقد كنتُ مرةً في درسه العامّ يوم الجمعة، وسأل هذا السؤال، فلم يكن فيهم إلا ثلاثة أشخاص من المدخنين، وكان الحضور أمامه أكثر من ألفين، وهؤلاء الثلاثة يكونون ضيوفاً أو التزموا حديثاً في دروس الشيخ رحمه الله، ولا يخفى أن نسبة المدخنين في سوريا عالية، ولا يتخيل أحد وجود هذه الآلاف مجتمعة في بيئة سورية من دون مدخنين، وهذا الامتناع عن التدخين بين أبناء المسجد نعمة من النعم العظيمة التي أكرم الله بها من التزم بالشيخ رحمه الله تعالى] أنتم تعرفونني هل يمكن أن أوافِقَكُم على شُرب السجائر؟ وأنتم تربَّيتُم في المسجد أنه لا يُوجَد في المسجد سيجارة، لأنه: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف:157].
تعدُّد الزوجات بين الإسلام المنضبط والغرب المتفلِّت:
هل حرّم الله البقلاوة [نوع من الحلويات]؟ أو هل حرّم المرأة؟ أباح المرأة وأوجَبَ النكاح، لكن ضِمْنَ النّظامِ والقانونِ، وحرَّمَ اتصال المرأة مع الرَّجُلِ في ظلِّ الفَوضَى وضياعِ الأنسابِ وضياعِ المرأة، ويَعيبُ الأوروبيون على الإسلامِ تعدُّد الزُّوجاتِ، وكان هناكَ إحصاءٌ في العالم الإسلاميّ قبل خمسين سنة، فكان في كلُّ ألف رجلٍ ثلاث حالات تعدّد، أمّا الآن فأَعتقدُ أنهُ لا يُوجَد في كلِّ ألفِ رجلٍ سوى حالة ونصف حالة تعدُّد، لكنَّهُم هُم المنافقون، إذا سمِحَ الإسلام بأربعة فلا يُوجَد واحدٌ منكُم عندَهُ أربعَة، والذي عندَهُ أربع زوجات فليَرفَع إصبعَهُ لأرى؟ لا يوجد، والذي عندَهُ ثلاث فليَرفع؟ الذي عندَهُ اثنتانِ فليَرفَع؟ لا يَستحي، حتى نعرفَ النَّسبة، أأنتم خائفون مِن نسائِكُم؟ [يضحك الجميع].
يُقال: إنّ ملكًا مِن الملوك، قال في البرلمانِ: ليقف الذي يَخافُ مِن امرأتِهِ، كلُّهم وقفُوا إلا واحدٌ بقي جالساً، فقال الملك: مجتمعٌ لا يُوجَد فيه إلا رجلٌ واحدٌ لا يخافُ مِن امرأتِهِ، قالُوا له: يا سيَّدِي هو يَخافُ، قال لهم: لا يَخافُ لأنّهُ لم يَقمْ، قالوا له: اسأله، قال: لماذا لم تقمْ؟ قال: يا سيَّدي أخافُ مِن امرأتي، ولَمَّا قلتَ لي: قُمْ، فمِن شدة خَوفِي قدماي لم تَعُدْ تَحملُنِي لذلك لم أستطع القيام.. إذن أنتم جميعاً ليس فيكم تعدُّد، وهم يَعيبونَ علَينا التعدُّدِ ولا وجودَ له، وهم المنافقون لا يُعدّدونَ بالأربعة ولا بالعشرة ولا بالعشرين، كلُّ واحد منهم يُعدِّدُ وله مئات النّساءِ تعدُّدًا غير قانونيّ؛ ويُضيِّعُ الولدَ وقُدسيَة الأم وتَنتشِرُ الأمراض.. والإسلام وإن سمَحَ بالتعدُّدِ -على ندرتِهِ وشروطه القاسية- لكنه حفِظَ الأمّ والولد، وجَعَلَ مِن شروطِ التعدُّدِ ما يَصعُبُ اقتحامها، لذلكَ عمليًّا لا يُوجَد تعدّد.
أهميّة نداء الله لعباده المؤمنينَ:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ما اسمُكَ أنت؟ “مؤمن”، هل أنتَ مؤمِنٌ بالاسم أم بالكذب؟ أسأل الله أن يجعلَكَ بِصدقِ، إذا ناداكَ رجلٌ “يا مؤمِن” ماذا تقول له؟ “لبيكَ”، والله يقولُ لَكُم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ هل تَقولُونَ له: لَبيكَ؟ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، [يجيب الحضور في المسجد بصوت عال: لبيك يا الله!] وإذا قلْنا: “لبيكَ”، يَعني ماذا تأمُرُ حتّى نعملَ، وإذا قلنا لبيك ثم أَمَرَنا ولم نعمل صِرنا كاذبينَ، فالأحسَنُ أن نسكُتَ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ كان أحدُ الصَّحابَة رضي الله عنه يقول: “إذا سمعتَ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فافتحْ سمعَكَ وفكرَكَ، لأنَّ وراءَها أمرًا إلهياً، وهو خير تُدعَى إليهِ، أو شرٌّ لِتَجتَنِبَهُ وتحذرَهُ” .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ والله جلّ في عُلاه يُنادينا.. إذا قال لك رئيس الجمهورية الآن: يا فلان، ماذا تَقولُ له؟ أمْرك سيدي، يقول لك مثلاً: اذهَبْ إلى حلبَ وقُمْ بالعمَلِ الفلانيّ، تقول له: “تحت أمرِكَ سيديّ”، تنفِّذ الأمر فوراً، وهل تؤخِّرُها إلى الغد؟ فهل رئيس الجمهورية أعظم أم الله؟ وهل الموظّف عندَهُ أحوجُ إليه أم حاجتُنا إلى الله أكثر؟ إذا ترَكَ الموظف الوظيفة يَستطيعُ أن يعمل عملاً آخر، لكن نحن إذا أعرَضَ الله عنا هل نُفلح؟ ها هم المسلمون مُعرِضون عن الله، يا ترى من إندونيسيا إلى المغرب هل نجَحُوا؟ لا يوجَد دينٌ وإسلام بالمعنى الحقيقيّ، الدينُ الإسلامي بالمعنى الحقيقي اقتصادٌ قويّ، وعلومٌ بأوسعِ مداها، والعقلانية بأقوى معانيها، والعملُ لسعادة الإنسان وحقوق الإنسان.
لَمَّا فتَحَ الإسلام نِصفَ العالم لم يعمَل تمييزًا عنصريًّا كما فعَلَ الإنكليز في جنوب إفريقيا، ولا كما يَفعَلُهُ اليهود في فلسطين، ولا كما فعلَهُ الأوربيّون عندما فتحُوا أمريكا، حيث قتلُوا كلَّ الشُّعوب الأمريكية من الهنود الحُمْرِ واستأصَلُوهُم، ولكن لَمّا فتَحَ الإسلامُ هذه البلاد لم يستأصل شعوبها؛ وإنما كانت متخلّفة فعلَّمَها، وكانت فقيرةً فأغناها، كانت منحطَّةً فرفَعَ مستواها العلميّ والعقليّ والثقافيّ، ثم قال: ((لا فضْلَ لعربيّ على أعجمَيِّ ولا لأبيضَ على أسود)) ثم قال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:10] فهل فعَلَ الغربُ في القرن العشرين ما دعا إليه الإسلام في قرآنه العظيم؟
الغنى ركنٌ من أركان الإسلام لأنهُ شرطٌ في الزكاة والحجّ:
أيُّها الإخوة وأيّتُها الأخوات! الإسلامُ هو عِزُّ الإنسان فرداً وأسرةً وصداقة، وإذا كانَت الصداقة قائمةً على الإسلام وعائدة إلى الإسلام [تنجح وتدوم].. فأنتَ تعيشُ بالإسلام علمًا وعملاً وأخلاقًا وفهماً وعقلانيةً وحكمةً، ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47]، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحتَسِب﴾ [الطلاق:2-3]، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق:4]، إذا دخل في المعركة فالانتصار يَنتَظِرُه، ولا يَعرِفُ الإسلامُ الهزيمة، وإذا كان في الحياة لا يكون فقيرًا، لأنّ القرآن جعَلَ الفقرَ مِن علائِمِ الكُفْرِ ((كاد الفقرُ أن يكون كفرًا)) هذا من كلام النّبيّ ﷺ، أمّا في القرآن فقال عن اليهود في زمَن النبيّ ﷺ: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ [البقرة:61]، والمسكَنَة: هي الفقرُ، فقيرٌ ومسكين، والذلّة: تسلّط العدو؛ كانوا أذلاء بتسلّط الأقوياء عليهم مع الفقر، فمعناه أن هؤلاء غضِبَ الله عليهم، اليهود ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة:7]، هذا في الدنيا ذُلّ وتسلُّط العدوّ وفي الحياة فقرٌ وحاجَةٌ وإملاقٌ.. والغِنى أحدُ أركان الإسلام الخمسة.
مرّة زارني ثلاثةُ علماء حاصلينَ على دكتوراه من الأزهر، كنتُ أقولُ لهم هذا الكلام، فنَظرَ بعضُهم إلى بعض يعني ما هذا الكلام! فقال لي أحدُهُم: هل يُوجَد حديث نبويّ؟ قلت له: أكيد، قال لي: هل هو صحيح؟ قلتُ له: بالتأكيد صحيح، وهو موجود في القرآن، أليس صحيحًا؟ قال لي: لا يُوجَد في القرآن، فنحن قرأنا القرآن، قلت له: يَظهَرُ أنَّكَ لم تقرَأ القرآن بعد، قال لي: وأينَ ذلك في القرآن؟ قلت له: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة:43]، ما معنى الصلاة إذا قال الله ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾؟ يعني توضَّؤوا قبلًا ثمّ صلّوا بعد الوضوء، أليس كذلك؟ وإذا قال: ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة:43] ما معنى آتوا الزكاة؟ يعني هل يُقال للمُتَسَوِّلين ﴿آتُوا الزَّكَاةَ﴾؟ لا، لأنه ليس عندَهُم ثَروة ولا غنى حتى يقومُوا بهذا الواجب، يعني صِيروا أغنياء لِتُقيمُوا هذا الركْنَ من أركان الإسلام الخمسة.
المشايخ والعلماء -سامحَهُمُ الله- صاروا يَتباهَون بكلمةِ فقير، هل يَجرؤ أن يكتب الشيخ “الغنيّ”؟ [لما يُؤلِّف الشيخ كتاباً يكتب “الفقير” أو “الفقير إلى الله” قبل اسمه، ولا يكتب “الغني” أو “الغني بالله”] والمشايخ هكذا عَلَّموا الناس أيضاً، فصارُوا إذا رَأَوا شيخاً عنده القليل من الحياة الكريمة ويعيش كما يعيش الناس يرون كأنه أتى أمرًا إدًّا، الإسلام ممسوخٌ في أفهام الناس.. الغِنى والاقتصاد أحَدُ أركانِ الإسلام، لأنه متى تستطيعُ أن تُزكّي؟ إذا صرتَ غنيًّا، وكلّما صِرت أغنى كانت الزكاة أكثر -وهي ركنُ الإسلام- وكان قُطْرُ عمودِها أكبر، أليس كذلك؟ الحجّ هل يَكون بلا مالٍ؟ إذًا ركنَان من الإسلام: الزّكاة والحجّ أحدُهما ركنٌ ماليّ بَحت، والنصفُ الثّاني نصفُهُ مالِي ونصفُهُ تعبُّدِي، والقرآن يقول: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ [البقرة:201]، ما الحسَنَةُ في الدنيا؟ أن تكون صحّتُكَ حسنَةً، وكرامتُكَ حسنَةً وحياتُكَ حسنَةً، وهل حياةُ الفقير حسنَةً؟ كان النّبيّ ﷺ يقول: ((اللهمّ إني أَعوذُ بِكَ من الجوع، فإنه بئسَ الضجيع)) الذي يَنامَ مع امرأتِهِ هي له ضجيع، فهل هذا نعم الضجيع أم بئس الضجيع؟ نِعمَ الزوجةُ الضجيعُ، ونعْمَ الزوجُ الضجيع، أما إذا كان ضجيعك الفقر أو الجوع فالنبي ﷺ قال: ((الجوع، فإنه بئسَ الضجيع)).. ((كاد الفقرُ أن يكون كفرًا))، والفقرُ أقوى مِن الذلّ والاستعمار.
محاربةُ النبيّ ﷺ للفقر:
هل علّمَ العلماءُ المسلمين هذا العلم؟ وكيف يَصير الغنى؟ رأى النّبيّ ﷺ رجلاً يتسوّل يَمدّ يده للناس فقال له: ((لِمَ؟ قال: ليس عندي شيء، قال له: أليس في بيتكَ شيءٌ من المتاع؟ قال: بلى، قال: ماذا فيه؟ قال له: يُوجَد معجَن أو إناء، قال له: أحضِرْ إحداهما، فـأحضرَ له إحداهما فأخَذَ النبيّ ﷺ الإناء بيدِهِ وهو في المسجد، فأخذها بيده وقال: مَن يشتري؟)) يعني صار مسجد النبيّ ﷺ سوقَ هالٍ وسوق دِلالَة أو سوق العتيق [أسماء أسواق شعبية في دمشق] ((فأحدُ الصحابة قال: عليَّ بدرهم))، انقلَبَ الجامعُ إلى سوق تجاري إلى بيع وشراء لتنمية الثروة، وإنشاءِ الشعب الغني والقضاء على الفقر، ((قال مَن يزيد؟)) من الذي يمسِكُ “الطنجرة”؟ [إناء الطبخ] ومَن الذي يُدلّل؟ ((حتى باعَها بدرهمين، قال له: خُذْ درهماً فاشترِ به طعامًا لعيالِكَ، والدرهم الآخر اشترِ به فأسًا وأتِ به إليّ، فأحضر الفأس، والنبي ﷺ نجّر عصا الفأس بيده الشريفة، وأدخل العصا بالفأس، وقال له: اذهَب إلى الغابة واحتطِبْ، ولا تأتنِي إلا بعدَ أيام، وبعد أيّامٍ أتى، قال له كيف الحال؟ قال: أغناني الله مِن فضلِهِ يا رسولَ الله)) .
والشيخ يُعلّمُ الوضوء فقط، والقِطَطُ تعرفُ الوضوء، وتَعرِفُ الاستنجاء، والوضوءَ هو للنظافة، وانظر إلى القط فثيابُهُ كلُّها نظيفة، حتى بين فخذيه نظيف مثل رقبتِهِ -مكان ربطة عنُقِهِ-، والشيخ يُعلِّمُ الوضوء والاستنجاء! ومن ثم نُعيدُ ونكرر خمسة عشر قرناً ونحن نشتغل بالوضوء والاستنجاء، لماذا لم نُعلّمهم الغنى والاقتصاد والصناعة؟
لقاء سماحة الشيخ كفتارو برئيس باكستان أيوب خان:
كنتُ مرّة في باكستان بدعوة رسمية من أيوب خان رحمَهُ الله [رئيس الجمهورية الباكستانية بين (1958 – 1966م)]، وبعد نهاية البرنامج كان لي لقاء معه، وهذا عَقِبَ انتصارِهِ على الهند في قضية كشمير، وباكستان فيها مئةُ مليون، وأولئك سبع مئة مليون وانتصر عليهم، كم هذا أمرٌ عظيم! قال لي: كيف وجدْتَ الإسلام في باكستان؟ وماذا يُنتَظر أن يكون الجواب؟ أنه لا يُوجَد أعظَمُ منهُ، أليس كذلك؟ والحقيقة أنّ الباكستانيين متديِّنون ومُصلُّونَ.. قلتُ له: مع الأسف، وجدتُ الإسلام ضعيفًا، ولَمّا قلت له: ضعيفًا اهتزّ بدنُهُ، وأنا أُريدُ أن أهزَّهُ، قال لي: كيف وجدتَهُ ضعيفًا؟ قلتُ له: أنا أتيتُ إلى هنا وليست هذه أوّل مرّة التي أَزورُ فيها باكستان، قلتُ له: في كلّ الزيارات السابقة كنتُ أجِدُ المساجِدَ ممتلئةً بالمصلّين والمآذن شاهقةً إلى السماء، وكنتُ أنتظرُ بعد الاستقلالِ أو بعد سنوات أن أجِدَ معَ كلِّ مسجدٍ مصنعًا، وأن تُعانِقَ كلّ مئذنة مدخنةٌ، فلو وجدتُ ذلك لقلتُ لك: إنّ الإسلام قويّ، أمّا أن يكون هناك مساجد ولا مصانع، ومآذن ولا مداخن وأقول لك: “الإسلام قويّ” فأنا أكونُ لك غشّاشًا، وإذ أخونا بالله لم يَفهم الجواب، وإذا به هكذا ثانية أو ثانيتين يتأمّلُ ويَلتفتُ.. وليس مُرادِي يا بُني أن أمدحَ نفسي، فنفسي وضعْتُها بين نعالِكُم، لكن حتى تعرفوا كيف أنّ الإسلام الحقيقيّ يَكونُ مرفوعَ الرأس في كل مكان وفي كلّ معركة.. قال لي: هذا أوّلُ يومٍ في حياتي أجِدُ فيه الشيخ الذي أُريدُهُ، ثم قال لي: هذه جامعاتُ باكستان كلُّها مفتّحة لك لتُلقيَ ما شئتَ من محاضرات في أيّ وقتٍ تشاء، وإلى آخره.. وقدّم لي ميدالية النجمة الذهبية لباكستان، ومؤخّرًا بعثوا لي “دكتوراه فخرية”.
الإسلام يُقدّم رفاهَ الدنيا مع الآخرة:
وسوكارنو [أحمد سوكارنو أول رئيس لإندونيسيا بعد الاستقلال: حكمَ بين (1945- 1967م)] قدّمَ لي دكتوراه فخريّة، وستأتيني دكتوراه ثالثة، ماذا أصنعُ بالدكتوراه؟ [بمعنى أنه لا يهتم بالدكتوراه أبداً، ولا يلتفت إليها] هذا بأي شيءٍ؟ هذا بالإسلامِ وبِفِقْهِ الإسلام، ولا يُوجَد أحد منكم دَخَلَ إلى مدرسة أبي النور وعَرَفَ كيف يَتَعَلَّمُ الإسلامَ إلا نجَحَ وسيَنجح في دينهِ ودنياهُ، وليس مُرادي مسجد أبي النور، بل مُرادي الإسلام في أيّ مكان ولو في الصحراء أو في الجبل، أو في الشرق أو في الغرب، فالإسلامُ هو سعادة الإنسان وتقدّمُه ورفاهُهُ ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة:201].
وسبب الدكتوراه في إندونيسيا أنني كنتُ رئيس الوفد السوري في مؤتمر باندون الآسيوي الإفريقي لعلماء المسلمين، فلَمّا ألقيتُ الكلمة قرأتُ في أثناء المحاضرة، “ربنا آتِنا في الآخرة حسَنَةً وفي الدُّنيا حسنة” ولم أقل: قال الله تعالى، وإذ بالعُلَماء كلّهم قاموا يطرقون على الخشب [على الطاولات التي أمامهم]، قلتُ لهم: خيراً؟ قالوا: أخطأتَ في تلاوة الآية، قلتُ: بأيّ شيء أخطأتُ؟ قالوا: “قلتَ: ربَّنا آتنا في الآخرة، وقدّمت الآخرة على الدنيا”، قلتُ لهم: لا تؤاخذُوني.. فأعدتُها بحسَبِ التلاوة الأولى عكس الترتيب، وكذلك في المرّة الثالثة، وبعدَها قلتُ لهم: يا علماء المسلمين أنا أولاً ما قلتُ لكم قال الله تعالى، أنا أطلبُ أولًا الآخرة لأنّ الآخرة أهمُّ مِن الدُّنيا، ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ﴾ [الضحى:4]، فأنتم قامَت قيامتُكُم، والقرآن يقدِّمُ الدُّنيا على الآخرة، فهل قدّمتُمْ للمسلمين أن يَتعلَّمُوا دُنياهم كما يَتَعلّمون آخرتهم، “سوكارنو” كان موجودًا فاقترَحَ أن تُقدّم لي دكتوراه فخرية من جامعة جاكرتا الحكومية.
الخلاصة أن الإسلام هو الماء للعِطاش، وهو الغذاء الجميل الشهيُّ للجياع، وهو ملِكَةُ الجمال للشابّ المحتاج إلى الزواج، وهو الأوكسجين لمن يُريدُ الحياة، وأمّا اسم الأوكسجين فلا يعطي الحياة، واسمُ الزوجة لا يُعطي الأولاد، واسم الطعام لا يُذهِبُ الجوع.. فأسأل الله أن يجعلنا مِن المسلمين والمؤمنين حقًا.
استجابة المؤمنِ لأمر الله بالتقوى:
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ [الحشر:18]، هل نسيتم؟ [فقال الحضور بصوت عال: لبيك اللهم لبيك] الله يقول لكم: يا أيها الذين آمنوا، ﴿يا أيها الذين آمنوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [الحشر:18]، ففي الأولى “يا أيها الذين آمنوا”: لبيك اللهمّ لبيك، وفي الثانية ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾: يا تُرى هل تلبّون الله وتتقُونه؟ رأسُ التقوى أن تُغَلِّبَ رغبة الله على رغبتك، ومرادَ الله على مرادِكَ، وفريضةَ الله وواجبَهُ على أنانيَّتِكَ ومصلحتِكَ، وأن تُطيعَ أوامِرَهُ، وأن تجتنبَ محارمَهُ في ظاهركَ وباطنكَ، وفي انفرادك واجتماعِكَ ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ﴾ [المجادلة:7]، ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4] هل تتقّي الله سبحانه وتعالى إذا بِعتَ وإذا اشتريتَ؟ أو إذا صرتَ غنيًا، أو إذا صرتَ حاكمًا، أو إذا صرتَ عالِمًا؟ ومن تقوى العالم أن يُعلِّمَ بلسانِهِ وقلبِهِ وعقلِهِ وليلِهِ ونهارِهِ، وبهذا يكون قد اتّقى الله، وهذا هو العالم التقيّ، أما إذا كان لا يُعَلِّم، أو كان يُعلّم بلسانه ولا يُعلِّمُ بأعمالِه وسلوكِهِ فهو منافق.
﴿يا أيها الذين آمنوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ يعني اجعَلُوا وقايةً بينَكُم وبينَ عذابِهِ، وقايةً بينَكُم وبينَ غضبِهِ، وقاية بينَكُم وبينَ مخالفةِ قانونه وأمرِهِ، لأنّ مَن لا يسلُكُ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6] كالقطار إذا خرج عن السِّكّة، هل يمشي؟ يَبقَى في أرضِهِ، ولو أحرَقَ ألف طنٍّ من المازوت، وكلّما أحرق أكثر تغرز عجلاتُهُ في الأرض أكثر، وإذا وُضِعَ على السكّة مشى.. فأَسألُ الله أن يَضعَ قلوبَنا وعقولَنا على سكّة الصِّراطَ المستقيم.
﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [الحشر:18] المقصود من “غدٍ” الآخرة، فلا تستبعِدْها، والدّنيا يومُكَ والآخرة غدُكَ، فغدًا يمكن أن تكونُ أنتَ في الآخرة وتترك مالَكَ وحُكمَكَ وسُلطانَكَ ووزارتَكَ ورئاستَكَ ومشيختَكَ، فماذا حضَّرْتَ للقاء الله؟ ثم قال تأكيدًا مرّةً ثانية: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أعادَهُ مرّتين للتأكيد، هل نفهَمُ نحن هذا التأكيد؟ فنسأل الله أن يرزقنا التَّقوى.
﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران:102] قال: “أن تعبُدَه فلا تعصيَه، وأن تذكُرَه فلا تنساهُ، وأن تشكر نعِمَهُ فلا تجحدها”، ﴿إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ﴾ هناك خبير وهناك عليم؛ الخبير هو الذي يَعرفُ دقائق الأمور، ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه:7] ﴿يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [النحل:19] لا تظنّن أنك تُحاسَب على أعمالك الظاهرة فقط، بل تُحاسَبُ على نواياكَ ومكرِكَ وخداعِكَ وغشّك وعُجبك وكِبرِك، ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ﴾ يتذكّرُ مصلحتهُ وفائدتهُ وغناه وجسمهُ وصحَّتهُ وهواه، وينسى فرائضهُ وواجباتهُ ودِيْنهُ، ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ [الحشر:19] إذا نسيتَ الله سبحانه فأنتَ بحسَبِ الحقيقة نسيتَ نفسَكَ؛ ونسيتَ مصالحها ومستقبلها، لأنّ مَن يمشي على صراط الله عز وجل فله المستقبلُ السعيدُ، ومَن يمشي على صراط الله عز وجل فهو الرابح في الدّنيا قبل الآخرة، لأن صراط الله سبحانه عِلْمٌ وعقلٌ وأخلاق، وقولوا لي أي شخص يَحملُ هذه المعاني الثلاث ويكون فاشلاً في الحياة؟
عاقبة الاستجابة لأمر الله وعاقبة نسيان أمر الله:
كان الصحابة رضي الله عنهم أُمِّيينَ وأبناءَ الصّحراء، فلَمّا حمَّلَهُمُ الإسلامُ المعانيَ الثلاثة صاروا خير أمّة أُخرجت للناس، ونحن الآن هل نحمِلُ العِلْمَ؛ علوم القرآن؟ هل نحمِلُ الحكمة؟ هل تزكّت منّا النفوس؟ السببُ أنه لا تكونُ طاولةٌ بلا نجّار، ولا يكونُ مكتوبٌ بلا كاتب، ولا تكونُ معالجةٌ بلا طبيب، هل تذهبُ إلى الطبيب لتتخلَّصَ مِن مرضك؟ هل تذهَبُ إلى النجَّارِ ليصنع لك الطاولة؟ كذلك إذا لم يكن لك شيخ، فمَن لا شيخ له فشيخُهُ الشيطانُ وأهواؤُهُ وأنانيَّتُهُ، وإلى آخره.
قال: وإذا نسوا الله ونسوا دينهم وواجباتهم نحوَه، قال: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون﴾ [الحشر:19]، فَسَقَت العجلة عن سكّتها يعني خرَجت عنها، والفسق خروجٌ عن صراط الله المستقيم إلى طريقِ الأهواءِ والشّهوات والفِسْق ومخالفة أمر الله.
انتهى درسكم إلى هنا، فاللهمَّ اجعلْنا مِنَ الذين يَستمِعُون القولَ فيَتَّبِعونَ أحسنَهُ.
معنى قوامة الرجل على المرأة:
البارحة كان عندي أحدُ إخوانِكُم جاء مِن مركز إسلاميّ في أمريكا، ومعَهُ إحدى الأمريكيّاتِ ومِن العالِماتِ المؤمنات، والدكتوراه التي حصلَت عليها هي في “التصوُّف الإسلاميّ في شخصيّة الشيخ عبد الغنيّ النابلسيّ”، ودخلَت في الإسلام ليس عن طريق المسلمين الذين من الواجب أن يبلّغوها دعوة الإسلام، بل دخلَت بالإسلام بدراستها ومتابعتها للتعرّف على الإسلام فأسلمَت، البارحة أنا لأوّل مرّة أرى السيدة سحر، وسألتنِي عن موضوع المرأة، وما ذَكَرَت الآن عن مفهوم المرأة في الإسلامِ في نظَرِ الأمريكيين أو الأمريكيّات.
وسألَتنِي بشكلِ أخصّ عن معنى قول الله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ [النساء:34] فقلتُ لها: “قوّامون” هذه لها ألفاظٌ في أحاديث تشرحُها، يقولُ النّبيّ ﷺ عليه الصّلاة والسلام: ((إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا جعلَه قيّمَ مسجد)) ، قيم يعني يَقومُ بخدمات المسجد، ويَقومُ بالواجبات التعليميّة الإرشاديّة بكلّ ما يُحقّق للمسجد روحانيّته والغاية مِن بنائه، ويقول القرآن: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ حتى لا تضيعَ تبذيرًا وإسرافًا، وتعني جَعَلَ القرآنُ المالَ قوامَ الحياة ولا تكون الحياة إلا بالمال، ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾ [النساء:5]، لا تُعطُوهُمُ إياها بل أنتم أنفِقُوها عليهِم، فمعنى قوَّامُونَ: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ يعني قوَّامُونَ على شؤونِهِم، هم يُقدّمون لهم كلّ حاجياتِ الحياة مِن مطعَمٍ ومسكَنٍ وملبَسٍ ودواء، وهم المسؤولون عن المرأةِ في الواجبات البيتيّة من النفقات ومن الأموال؛ لأنّ للمرأة عملًا آخر، والإسلام اختصاصيّ، خصّصَ للرجل أعمالاً، وهي القوام على نفقاتِ البيت والأسرة، وترَكَ للمرأة القوام على إنشاء الأولاد جسدياً وعقلياً وعلميًا وأخلاقياً وثقافيًا، ولم يُحمِّلْها العبأين: عِبء المال وعبء البيت، ولكن لو أرادَت أن تعملَ فلها الحريّة، وتتملّك المالَ لنفسها من غير أن يَفرِضَ عليها الإسلام أن تُنفقَ المال على أولادها أو على زوجها.
فمعنى ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ على النساء﴾ قوّامون على تأمين حياتِهِم وكلّ حاجات الحياة، ﴿بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ لأنّ الرجلَ أقوى على الأعمال الخارجية مِن المرأة، فهو أولى بأن يَتحمَّلَ هذه المسؤولية الخارجية، واكتفى بتحميلِ المرأة الأمور الدّاخلية إلا إذا اختارَتْ أن تجمَعَ بين العملينِ، ثم هي تملك أجرَةَ ما تعمَلُ مِن غير أن تُكلَّفَ بإنفاقها على أسرتِها، أهذه القوامة تكريم أم تحقيرٌ؟ وهل هذا رفعٌ لشأنِ المرأة أم خفْضٌ لها؟ وهل هذا ظلم لها أم إحسانٌ لها؟ ﴿بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ القوامة: بإنفاق المال على الأسرة.
إذا أضفنا إلى ذلك أحاديثَ كثيرة، كقول النبيّ عليه الصّلاة والسّلام: ((اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا)) ((لا يَغلبُهنّ إلا لئيمِ)) الحقيرُ مِن الرجال هو الذي يُحاول أن يَتغلّب ويَتقوَّى على المرأة ((ولا يَغلِبنَ إلا الكريم)) ، فالإسلام يقول للرجل: كن مغلوبًا مع زوجتك ولا تكن غالبًا لها، وثمّة أمور كثيرة، والوقت ليس فيه مجال.. فما كان منها إلا أن قالت لي: أنا لأول مرّة أَسمَعُ تفسير هذه الآية بهذا الشكل الذي أَسمعُهُ منك.
فالإسلام كما يقول القرآن: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ [النحل:90] بين الأحباب والأعداء وبين القريبين والبعيدين، ﴿وَالْإِحْسَانِ﴾ إنّ العدل أن ترُدّ للشخص حقَّهُ، أمّا الإحسان فأن تزيدَهُ على حقّه، ﴿يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ الأرحام ﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ والحمدُ لله ربّ العالمين.
فاعلم أنهُ لا إله إلا الله …[التهليلة] مُحمَّد رسولُ الله ﷺ، اللهُمَّ تقبَّلْ منّا هذه التَّهليلة المباركَة، وأوصِلْ ثوابَها إلى حضرة نبينا مُحمَّد ﷺ، ثم إلى روح شيخِنا وأستاذنا وإلى روحِ والدتنا وولدِنا زاهر، وإلى أرواحِ والدينا ومشايخنا والمسلمين أجمعين، اللهمّ ردّنا والمسلمين جميعًا إلى صراطِكَ المستقيم رَدًّا جميلاً، واهدِ عبادك أجمعين إلى صراطك المستقيم، ووفّق ولاة أمورنا لِما تُحبّه وترضاه، واجعَل على يديهم خيرَ هذه الأمة في دينها ودنياها، واغفِر لنا ولوالدينا ومشايخنا والمسلمين أجمعين، وصلَّى الله على سيدنا مُحمَّد، وعلى آله وصحبِهِ وسلَّم.
بشرى انتشار الإسلام في العالم الغربي:
أُبَشّرُكم بهذا الذي أقولهُ لكم، أنّه إن شاء الله لا يَنتهي هذا القرن إلا والإسلام سيُحيطُ ويَضُمُّ بجناحيهِ العالم الغربيّ، أنا في أمريكا منذ سنة ثمان وثمانين وحتى سنة التسعين، أخبروني أن عدد المسلمين في سنة ثمانِ وثمانين كان ستة ملايين، وفي سنة التسعين حدّثني رئيس الجامعة الكاثوليكية في واشنطن بعد أن أَلقَيتُ فيها محاضرة أن عدد المسلمين بلغ ثمانية ملايين، وهكذا ينتشِرُ الإسلام الآن في فرنسا وألمانيا وبلجيكا وسويسرا.. وجاءت مع الأخت سحر رفيقتُها وهي سيّدة أسترالية أيضاً، حضَرَت إلى المسجد وسمعت محاضرتكم المترجمة إلى اللغة الإنكليزية بوجود الترجمَة الدائمة.. كلّ هذه المحاضرات تُترجَم وتُرسَل إلى إخوانكم في أوروبا وفي أمريكا، ولذلك النّبيّ ﷺ قال: ((سيَبلُغُ الإسلام مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ)) الآن بَدَأَ هذا الحديث بالظهور.
ظهور أحاديث أخبَر بها النبيّ ﷺ:
ويوجَدُ أحاديث أخرى ظهَرَت كما قال النبيُّ ﷺ: ((لا تقومُ السَّاعَةُ حتى تَعُودَ بلادُ العربِ مُروجًا وأنهارًا)) الآن إذا ذهبتَ إلى الكويت تجد الحدائق والنوافير، وكذلك في أبو ظبي وفي السعودية وفي الرياض وإلى آخره.
ثم رأيتُ حديثًا من مدّة لَمّا صار زلزال أرمينيا، أتذكرون؟ منذ أربع سنوات تقريباً، والاتحاد السوفييتي طلب المعونةَ مِن العالم ليُعين على إغاثة المنكوبين، فرأيتُ في ذلك الوقت -وقبل ذلك كنت أعلَمه- قول النبيّ عليه الصّلاة والسّلام: ((إنَّ مِن أشراطِ السّاعة خراب أرمينية)) يَعنِي من علامات قيام السّاعَة خرابُ أرمينية، لكن تكمِلَةَ الحديث هذا الذي استغربتُهُ أنا في ذلك الوقت قبل أربع سنواتٍ ((خرابُ أرمينية ثمّ مِصْر))، هذه أرمينيا خربَت بالزلزلة، وماذا عن شأنِ مصْر في الحديث؟ لكنَّ الغريبَ أنه في يومٍ مِن الأيام شكَكتُ يا ترى هل النبيّ ﷺ قدَّمَ أرمينيا على مصر؟ وهل قال: “خراب أرمينية ومصر” أو “مصر وأرمينية”؟ رجعْتُ للحديث وإذا بالنص ((خرابُ أرمينية ثمّ مصر)) أليس محمّد هو رسول الله ﷺ؟
ذكرتُ لكم حديثًا ((أسرعُ الأرض خرابًا يُسراها))، العالَمُ اليساريّ، هل كان في زمان النبيّ ﷺ شيءٌ اسمُهُ عالَم يساري وعالَم يميني، هذا مِن مئة سنة فقط تقريبًا، ((أسرعُ الأرض خرابًا يُسراها))، هل خَرِبَ الاتحاد السوفيتي والشيوعية؟ ((ثم يُمناها)) الآن بَلَغَ عددُ المصابينَ بالإيدز في العالمِ الغربيّ وخاصَّة في أمريكا حوالي سبعة عشر إلى ثمانية عشرَ بالمئة، ويَتوقَّعُ المتوقّعونَ أنه بنهايةِ عام الألفين سيَفنَى ثمانون بالمئة من الشّعب الأمريكيّ، يعني أكثر من مئتي مليون، لأنهُ وإلى هذه اللحظة عجزَ عِلْمُهم ولأكثَر مِن عشر سنوات عن أن يَتوصّلوا إلى دواء يَقضِي على الجرثومة، والجرثومة تَنتقِلُ بالهواء وبالثياب، ويَنتقِلُ بالدّمِّ على الجلدِ السّليم غير المجروح، ويَدخُلُ في المسام، ويَخْرُقُ مسام القفَّاز، يعني الكفوف الطبية في أثناء الجراحة.
[يجدر التنويه أن كلام سماحة الشيخ هنا عن مرض الإيدز كان عند بداية ظهور المرض، حيث لم يكن معروفاً والنادر من الناس من سمع به، وكان الشيخ كعادته يأخذ معلوماته من مصادر علمية كثيرة، ولم يكن حينها كِتاب باللغة العربية في ذلك، ولكن كان له عدد لا بأس به من تلامذته الأطباء في أمريكا وفي أوربا الذين كانوا عادة ينقلون له المعلومات أولاً بأول.. لذلك لا نقول اليوم إن هذا هو الكلام الطبي النهائي، بل هذا ما كان متداولاً في ذاك الوقت، ونحن في سنة 2023م في تاريخ تدوين هذا الدرس، أي بعد أكثر من ثلاثين سنة من تاريخ إلقاء هذا الدرس لم تصل البشرية أيضاً إلى دواءٍ شافٍ لمرض الإيدز].
عجْز العالَم الغربيّ عن مكافحة الإيدز والمخدّرات:
فالذي سمعتُموهُ مِن السّيدِ عزيز عابدين أنهم يدعون دُعاةً إسلاميين، [السيد الدكتور عزيز عابدين من دمشق ومن تلامذة سماحة الشيخ الذين درسوا من طفولتهم في مجمعه الإسلامي “أبي النور”، وقد أرسله مع غيره من الشباب للعمل في الدعوة في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو لا يزال قائماً على عمله في الدعوة إلى الله تعالى في تاريخ تدوين هذا الدرس 2023م] لأنّهم عجزُوا عن مكافحة المخدّرات بكلّ الوسائل التي يَملكونها عِلْمًا ودولة، وعجزُوا عن مكافحة الإيدز، لأنّهُ يَصيرُ بسببِ الزنا واللواطة وما يتبَعُ ذلك، وإبرِ المدمنينَ بالمخدَّرات الملوّثة، فلعلّهم رأوا بأنّ الإسلام هو القوّة التي تستطيعُ أن تقضيَ على الزِّنا وعلى اللواطةِ وعلى المخدّرات، وفي سنة 1966م كان لي دعوة رسمية لأمريكا ترجّاني السفير الأمريكي في دمشق أن أُقدّم مساعدتي في أمريكا لمكافحة المخدّرات، هذه في سَنَةِ 1966م، وفي ذلك الوقت لم يكن هناك “إيدز”.
لذلك يا أيها الإخوان كونوا مسلمِي العِلْم وتعلّموا، وكونوا مُسلمِي الحكمة واستعمَلُوا العقل، ومُسلِمي الأخلاق وزكُّوا أنفسكم بمجاهدتِها وبذكْرِ الله.. أليس غريبًا أنَّ أعظمَ دولة في العالم تطلبُ معونة الإسلام لِتَتخلَّصَ مِن الأوبئة ومِن الأشياء المهلِكَة في بلادِها، بينما المسلمونَ في بلادِ الإسلام بعضُهُم يُحارِبُ الإسلام وبعضُهُم يَجهَلُ الإسلام، وبعضُهُم يَتَنَقَّصُ الإسلام! ومَن يَتعلّم قد يَتعلَّمُهُ بجمود وتزمُّت! وهذا ليس لصالح الإسلام ويتنافى مع حقيقة الإسلام.
ليس كلُّ مَن ادَّعَى الطبَّ يَكونَ الطبيبَ الحاذق، ولا كلُّ مَن درسَ الحقوق يَكون المحاميّ الناجح، فاللهمّ هيئْ للمسلمين العلماءَ العاملين والحكماءَ المخلِصين؛ لأنّ مهمَّةَ المسلمين أن يَنشروا لا السّلام في العالمِ فقط، بل أن يَنشروا الحبّ والرحمة والإخاءِ في العالم ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107].