تاريخ الدرس: 1991/11/29
في رحاب التفسير والتربية القرآنية
مدة الدرس: 01:29:48
سورة الذاريات، الآيات: 38-50 / الدرس 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل التّحيّات والتّسليمات على سيّدنا محمد المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى أبيه سيدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيدنا موسى وعيسى، وجميع إخوانهم من النبيّين والمرسلين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
مبدأ الثواب والعقاب
فنحن الآن في تفسير بعض آيات من سورة الذّاريات، يدور كل موضوع سورة الذاريات على توجيه الإنسان إلى مدرسة الله، وإلى أن يتربَّى بالتربية الإلهية.. والقوانين إذا لم تحمل الترغيب للمحسن والترهيب للمجرم تكون ناقصةً، ودواءً غير شاف لأمراض المجتمع.
لذلك وُضِعَت الأديان السماوية لعموم الناس على قاعدة الترغيب للمحسن والعقوبة للمسيء، أمّا إذا بلغ المؤمن قمة الإيمان وصار قلبه وروحه مرآةً نقيةً فيتجلَّى وينعكس فيه نور الله، وبمقدار اتساع مرآة قلبه وروحه تنعكس فيه أخلاق الله وعلمه وحكمته.
فلا يعمل الفضائل طمعاً في ثوابها، ولا يترك الرذائل خوفاً من عقابها، بل تصير له نفس لا تعشق إلا الفضائل والرحمة والحبَّ لكل الخلق، ولا تفكر في الرذائل أو الظلم أو الجور أو العدوان، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [النساء:40]، فتصير طبيعة هذا المؤمن ترفض أن يَظلِم أيَّ مخلوق كان ولو مثقال ذرة، وهذا هو المؤمن الكامل، ولذلك كان النبي محمد عليه الصلاة والسلام لا ينتقم لنفسه، وإذا جهل عليه جاهل فلا تزيده جهالته عليه إلا زيادة حلم وتحمّلٍ وعفو وصفح، وهكذا كان الأنبياء، وبمقدار علو مقامهم كانت أخلاقهم.
والإنسان كم يذنب مع الله وكم يحلم الله عليه؟ وكم يقابل خطيئاته بنعمه عليه؟ فيعطيه الحياة والسمع والبصر والزوجة والأولاد والزهور والورود والشمس والقمر والهواء، مع أنه يعلن جحوده لوجود الله ولا يقابله الله عز وجل إلا بصفة الحلم والحليم، ولكن هذا في الناس نادر، فعموم الناس لا بد لهم من وجود الثواب والعقاب، والمكافأة على الإحسان والعقوبة على الإساءة.
وأول ما بدأ الله عز وجل في سورة الذاريات بحلف الأيمان بأنّ وَعْد الله لصادق فقال: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ [الذاريات:5]، يعني أن الثواب للمحسن والعقوبة للمسيء وعد صادق، ﴿وَإِنَّ الدِّينَ﴾ يعني المجازاة للمسيء والمكافأة للمحسن، ﴿لَوَاقِعٌ﴾ [الذاريات:6] لا يشترط أن يكون حالاً، فالقاتل يَقْتُل، لكن من الممكن ألا يقتصوا منه إلا بعد عشر سنوات.
الإيمان يربِّي ثقافة المحكمة الوجدانية في النفس
فهذا حكم المحكمة البشرية، أمّا حكم المحكمة الإلهية، فقد تعجِّل وقد تؤخِّر وقد تؤخِّر إلى يوم القيامة، أمّا أن يفلت ظالم من محكمة الله فالقرآن لا يقول بهذا، بل يقول: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ﴾ يعني كما تدين تدان؛ المحاسبة والمكافأة ﴿وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾.
فهذه التربية الدينية تجعل المجتمع لا يحتاج إلى شُرْطة ولا إلى قضاة ولا إلى سجون ولا إلى قانون العقوبات، بل تصير محكمة الإنسان في وجدانه وفي عقيدته وفي إيمانه، ولذلك وحَّدوا في زمن سيدنا محمد ﷺ الجزيرة العربية، حيث كانت كلها قبائل فصارت بهذا القانون وبهذه المدرسة الإلهية في أرقى ما يكون من الأخلاق والأمن والتحابب والتعاون.
والآن تجد في المجتمع الغشاش، فلو كان يؤمن بالقانون الإلهي لا يَغُشُّ، والكاذب لو آمن بأنَّ: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ [الذاريات:6] لا يكذب، وكذلك المغتاب والنمام، والذي يأكل الحرام والذي ينظر للحرام والذي يسمع إلى الحرام والذي ينطق بالحرام والذي يفكر بالحرام؛ لأنّ القرآن يقول: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: 7]، ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [النحل:16]، فمعنى ذلك: أنَّ الله سيحاسبك على وجدانك وضميرك من الداخل.
فهذا هو الإيمان، وإذا وُجِدَ في الإنسان يُسمَّى مؤمناً، أما إذا كان يدَّعي الإيمانَ وما وجدت فيه هذه الأوصاف فهذا: ﴿مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ﴾ [المائدة:41] ولو صلَّى.. فصلاته صلاة جسدية، ولم يصلِّ بقلبه ولم يكن مع الله، فإذا صلَّى مصلٍّ وظهره للكعبة فهل صلاته تصح؟ لا تصح، وإذا صلى وظهره لله! فأيُّ القبلتين أعظم؟ هل الكعبة أم ربُّ الكعبة؟ ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة:144] يعني إلى الكعبة، وهذا تَوَجُّهُنَا بأجسادنا، أما توجهنا في قلوبنا فقال الله فيه: ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [الأنعام:79]، ففي صلاتك تستقبل القبلتين؛ قبلةَ الجسد إلى الكعبة، وهذا لأجل المظهر الجسدي، أما الحقيقة فهي: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة:144]، وهي: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة:115].
فمع الأسف أستاذ هذا الفقه يكاد أن يُفقَد في مجتمعنا، ولذلك صارت الأمور الدينية طقوساً جسدية ميتة الفكر وميتة القلب والشعور والوجدان، ولهذا صار الإنسان أوحش الوحوش وأخطر شيء على الإنسان، فالبوارج الحربية والدبابات وقاذفات القنابل والصواريخ العادية وغير العادية هل للذئاب أم للضباع أم للأسود أم للأفاعي أم للإنسان؟
فما هذا الوحش الذي تُعَدُّ هذه الوسائل لصدِّ أذاه؟ هذا هو الإنسان الذي بَعُدَ عن مدرسة الله، وليس الذي تخرج من مدرسة الإيمان الحقيقي، والإيمان الحقيقي عقل وحكمة ولأجل سعادة الإنسان، فالدّين لأجل الإنسان وليس الإنسان لأجل الدّين.
وهذا يكادُ أن يُفقَد أساتذتُه ومعلِّمُوه وصُنَّاعه ومنتجوه، ولذلك فإن الإنسان وحش ولكن بعقل كبير، والأسد وحش لكن عقله صغير، وطاقته أيضاً ضعيفة، فإذا صنعت له حفرة وسترتها بالقصب يمرُّ من فوقها ويقع فيها، وذلك من قلّة عقله، أمّا الإنسان فلا يقع مثله.. والإنسان يصنع صاروخاً يحرق الحياة والأحياء، وهذا لم يفكر به لا الثعابين ولا الذئاب ولا الضباع ولا كل الوحوش من خلق آدم إلى أن تخرب الدنيا.
فأيُّ مخلوق هذا؟ ويَعتقِدُ أنه إنسان متقدِّم، لماذا؟ لأنَّ أظافره أصبح طولها آلاف الكيلومترات وأنيابه صار طولها ملايين الكيلومترات، وصار فمه الوحشي يستطيع أن يضع فيه كلّ الناس ليقضمهم قضمة واحدة فيجعلهم عدماً بعد الوجود.
الاستدلال على الخالق
فبعد أن ذكر الله لكم في سورة الذاريات أنه لا بدَّ من الإدانة والحساب إمّا في الدنيا وإمّا في عالم الدّار الآخرة، وذكر أدلةً عقليةً وحلف أيماناً ﴿وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً﴾ [الذاريات:1-2]، فمن الذي خلق الخلق ووضع القوانين والنظم لهذا الوجود؟
وبعدها قال: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ [الذاريات:20] تدلُّ على قدرة الله وأنَّ الله قادر.. وبعد أن تخلع روحُكَ الجسدَ وترميَهُ ستذهب إلى الحساب، قال: وهل يوجد بعد الموت حياة؟ فالله عز وجل قال: إنّ الذي خلق السماوات وخلق الأرض [أليس قادراً أن يعيد خلقهم؟] وثبت الآن علمياً أنَّ هذه النجوم والشموس والأقمار والمجرَّات تفنى، ثم بعد فنائها تعود مرةً أخرى ومرات ومرات، أليست إعادة الإنسان إذا فني جسده أصغر من ذلك؟ فبذرة القمح عندما تَفنَى في الأرض هل يخرُج بدلاً عنها بذرة واحدة أم يخرج سنبلة؟ وبذرة المشمش لمّا تفنى في الأرض ويذهب وجودها فماذا يخرج عوضاً عنها؟ تتحوَّل إلى حياة أعظم، كذلك فناء جسدك حيث تتحول بروحك إلى حياة أعظم، وهناك المحكمة والمحاكمة.. وقد يُعجَّل حكمُ الله على الإنسان في الدنيا، وقد ذكر الله لكم قصة قوم لوط عليه السلام.
الشذوذ الاجتماعي والجنسي وعقوبته
ذكر الله لكم في الآيات السابقة قصة قوم لوط الذين شاع بينهم الشّذوذ الجنسي، فلماذا حرَّمه الإسلام؟ لأنَّه ظهر الآن لكلّ من له عقل أنَّ السبب الأكبر للابتلاء بمرض الإيدز هو الشّذوذ الجنسي، فمرض الإيدز يقتل في الإنسان الدّرع الذي يحميه من الأمراض وهو جهاز المناعة.
فالهواء مليء بالجراثيم، والماء فيه جراثيم، والأكل فيه جراثيم، فما إن يتلف هذا الجهاز تتجمع كلّ الأمراض والآلام على المريض، ويشتهي حينها الموت ولا يجده، وليس له دواء.. ويُعذَّب بالعذاب سنيناً؛ لأنه خالف أمر الله بسبب الشذوذ، ثمّ بسبب الزنى والاختلاط مع غير الزوجة والزوج، فالمرأة أو الرجل إن كانوا يحملون هذا المرض ينقلونه إلى غيرهم.. وكلّ علماء الأرض من شرقها إلى غربها إلى الآن أيديهم مشلولة في مكافحة هذا السوط الإلهي.
فبعد أن ذكر الله كيف أهلكهم بعذاب من عنده، فرجمهم بحجارة من السماء وقلب قراهم، فجعل عاليها سافلها، ودفنهم بزلزال وعوامل، أي نزول الأحجار من السماء، فتنزل في بعض الأوقات صخورٌ وزنها مئات الأطنان يسمونها النيازك، حيث تنفصل من بعض الكواكب أو من بعض النجوم في السماء.
وإن أراد الله الذي وضع نظام الكون كله أخذ عصىً من هذه العصي ليؤدِّب به أمة أو يؤدب أمماً، فهل هو عاجز عن أن يُؤدِّبَ من يريد تأديبه أو من يريد معاقبته؟
الله هو الإله الحق الخالق
بعد أن ذكر الله قوم لوط، ذكر فرعون لمّا بغى وطغى وادعى الألوهية، ألم يقل الله من قبل: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ [الذاريات:20]؟ يعني علامات على وجود الله وعلامات على قدرته.. فاستعمل عقلك، فإذا لم تستعمل السيارة تبقى في مكانك، وإذا استعملتها تذهب حيث تريد، وإذا استعملت عقلك في التفكير وفكرتَ هل الله موجود؟ لكنه موجود بالصفات الإلهية.. فمن البديهيات التي في عقلك أنَّ هذه المسبحة لها صانع، وهذا المذياع له صانع، وهذا الكتاب له طابع، وهذا الكون مع نظامه من الذّرّة إلى المجرّة أليس له صانع؟ هذا مُحَالٌ.. وإذا وُجِدَ صانع؛ فالذي صنع العقل ألا يكون له عقل؟ والذي وضع قانوناً لكلّ الوجود، ألا يضع قانوناً للإنسان؟ فقانون الإنسان هو الأديان كما نزلت من السّماء، ولكن بعد ذلك حرّفها الإنسان، واختلفت بالترجمات عن جوهرها حتى يكاد الإنسان يضيع عن الله ويضيع في هذه الحياة.
ذكر الله فرعون الذي ادَّعى الألوهية وظلم بني إسرائيل فأرسل له موسى عليه السلام، ودعاه إلى حقوق الإنسان وإلى العمل بالقانون الإلهي ودعاه إلى الإيمان، فأبى وطغى وظلم وتعدى.
قال الله من قبل: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ [الذاريات:20] وهنا يذكر سبحانه آية من هذه الآيات الدالة على وجوده فيقول: ﴿وَفِي مُوسَى﴾ [الذاريات:38]، يعني وكذلك في موسى مع فرعون آيات للموقنين، فهذا من جملة الآيات.
﴿إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ [الذاريات:38] يعني بقوة عقلية إقناعية، مثل اثنين واثنين يساوي أربعة، فمنهج الأنبياء والدّين الذي يَدْعُون إليه إذا لم يكن بهذا الوضوح والقبول العقلي يكون انحرافاً في الدين نفسه.
﴿بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)﴾ بدليل واضح بيِّنٍ مقنع عقلانيٍّ ﴿فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ﴾ أعرض عن الله وعن القبول وعن العدل وعن قبول الرسالة السماوية.
﴿وَقَالَ﴾ عن معجزات سيدنا موسى ﴿سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ [الذاريات:38]، قال: إن معجزاته سحر، ووصفه بالجنون عندما دعاه ليصير كبقية الشعب، ففرعون يريد أن يكون إلهاً وأن يكون النّاس كلهم له عبيداً.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ [الذاريات:6] فعجَّل الله له الإدانة في الدنيا، وهذه الإدانة البدائية البسيطة، قال: ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ﴾ كيف تأخذ الشرطةُ والأمنُ المجرمَ من بيته إلى حيث يستحق ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ﴾ مع جيشه وكل قواه ﴿فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾ النّبذ: أن تخرج من فمك الأشياء الحقيرة، مثل قِشرة في فمك أو شيء لا ينفع أو بصقة، فهذا اسمه النبذ، يعني صارت قيمته مثل قيمة البصقة، فالله نبذه ورمى هذه البصقة في اليم.
﴿وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ عَمِل أعمالاً يُلام عليها ويؤاخذ عليها وتخالف القانون الإلهي.. فهذا كان درساً لقريش، فأنتم أيضاً يا قريش ويا قادة العرب إذا كنتم مع النبي محمد ﷺ كما كان فرعون مع موسى فهذه نهايتكم.
﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ [الذاريات:5-6] فمع الله لا يوجد كبير؛ لا أمريكا ولا إنكلترا ولا الصين ولا روسيا ولا موسكو، فكرتنا الأرضية كلّها بالنسبة لمخلوقات الله مثّل ذرة، فماذا تشكل هذه الذرة بما فيها من قوة أمام عظمة خالق الكون سبحانه وتعالى؟
وأنت يا إنسان ماذا تشكِّل؟ وهل تستعمل عقلك وهل تبحث عن الله؟ إن ضاعت منك محفظة أو ضاع مالك أو غرض من أغراضك تبحث عنه، وإن ضاع عنك إيمانك هل تبحث عنه؟ فإن كنت بلا إيمان فالحيوان أفضل منك، لأن الحيوان ليس عليه حساب ولا محاكمة، فإذا ما مات انتهى، أما أنت فأمامك محاكمة.
قصة عن رؤية الإنسان جميع أعماله بسرعة
زهير الملاح [أحد الحضور] رحم الله والده، صار مع أخيه حادث سيارة، وقلبت السيارة عدة قلبات، ففقد وعيه، وفي أثناء ذلك كان يرى كل أعماله التي عملها من حين بلوغه إلى تلك السّاعة بشريط سينمائي وبثوانٍ؛ كلّ الذي فعله من خير وشرّ، وعرف أنّه صار في العالم الثاني، وصار يقول: يا رب أرجوك أرجعني حتى أصحِّحَ عملي، يا رب أرجعني حتى أصحِّحَ عملي!
كان الأنبياء يرون هذه الأمور في أنفسهم وفي كل الناس بقوة الروح، لأنه صار لروحهم بعض الانقطاع عن الجسد فأقبلت على عالَم الروح وعالَم ما وراء المادة.. رآها الأنبياء وأخبروا عنها وأعلموا الناس بها لأجل أن يكون المجتمع فاضلاً.
صنع سيدنا محمد ﷺ المجتمع الفاضل شعباً ودولةً، وأُمَّةً وشعوباً، ورفع كل الحواجز الجغرافية والقومية واللونية والدينية من حدود الصين إلى حدود فرنسا، وجعل منهم أسرةً واحدة متآخيةً بدافع الحب والإيمان لا بدافع الخوف ولا بدافع القوة ولا بدافع البطش، حتى صاروا ((كالجسد الواحد)) 1 .
وفي زمن النبي ﷺ وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما لم يكن هناك محكمة ولا قاضٍ ولا سجن ولا شرطة، فقد صار كل واحد على نفسه القاضي والشرطة والسجن، فهو القاضي وهو السجَّان وهو المعاقِب إذا عمل ذنباً.. والذين أذنبوا في زمن النبي ﷺ في الدولة الإسلامية والجزيرة العربية قد لا يصل عددهم إلى عدد أصابع اليدين.
هل تُحصى الجرائم الآن في القرن العشرين في أعظم البلاد رقياً بأصابع اليدين؟ لقد حصل هذا في مدة النبوة، ومدة النبوة في المدينة عشر سنين، ومدة خلافة سيدنا أبي بكر وعمر اثنتا عشرة سنة.. فخمس وعشرون سنة بلا قاضٍ ولا محكمة ولا شرطة ولا سجون!
هذا هو الدين الإسلامي، وهو الذي يجمع الأديان كلها، ويقدِّسها كلها، ويقدِّس أنبياءها، ولكن بعد أن يجدِّدها ويعيد إليها شبابها، ويفصِلَ عنها كلَّ ما أُلصِق فيها من أخطاءِ الإنسان القديم، ومن أخطاء وتأويلات الترجمات، فيقدِّم تشريعاً سماوياً عقلانياً إنسانياً روحانياً ربانياً.
قال: ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ﴾ وما فرعون بالنسبة إلى الله؟ بالنسبة للشعب أمر بسيط، أمّا أمام الله؟ قال: ﴿فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾ مثل البصقة في اليم، ما اليم؟ في البحر، أغرقناه وجنوده ﴿وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ [الذاريات:38] فهو مذنب مجرم يُحاسَب على ما فعل.. وهذا في “التَّوْقِيْف” [التوقيف: مدة يُوقَف بها المجرم ويُحبَس قبل المحاكمة، وهذا المصطلح في المحاكم في الدنيا]، أما العذاب الحقيقي والمحاكمة الكبيرة ففي الدار الآخرة.. فيا قريش احذروا أن يصيبكم ما أصاب فرعون وجنوده.
تمرُّدُ عادٍ وعقوبتُهم
ثم قال تعالى في آية ثانية: ﴿وَفِي عَادٍ﴾ [الذاريات:41]، وقد قال: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ [الذاريات:20] ففي قصة موسى عليه السلام آيات، وكذلك في عاد لما طغوا وتمرَّدوا على أمر نبيهم هود عليه السلام، وأصرُّوا على أن يكونوا وحوشاً في صورة الإنسان.
فالقوي يأكل الضعيف، والغني ينسى الفقير، ففي الأخلاق لهم أخلاق الوحوش والحيوانات، والدّين عكس هذه المعاني، فهو سعادة في القلب وفي الروح وفي الجسد وفي الأخلاق وفي القانون وفي المجتمع.. فلمّا رفضوا هذه المدرسة الإلهيّة واستمروا أمهلهم الله، ثم أرسل عليهم جندياً واحداً.. هذا الجندي ماذا يسمونه في هذا الزمان؟ الإعصار، بعث لهم جندياً من الهواء، والإعصار له أسماء على حسب سرعته، فإذا كانت سرعته مئة اسمه كذا، وإن كانت أكثر يطلق عليه اسم كذا، وهكذا.. منذ أسبوع رأيت في بعض الصحف أنَّ عاصفة أتت على بيت “بوش” [رئيس أمريكا حينها] وفيه كل التحف الثمينة الغالية، ومدمرٌّ تدميراً كاملاً.. القليل من الهواء زاد عِياره قليلاً فدَمَّر.
هذا إنذار للناس! فإذا حصل لبوش هكذا، فهل أنت أكبر من بوش أم أصغر؟ وهل بوش كبير عند الله؟ فكرتنا الأرضية ذرة بالنسبة لمليارات المليارات ممّا خلق الله من عوالم في هذا الفضاء.
﴿إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيم﴾ [الذاريات:41]، والريح أنواع: فهناك ريح ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ [الحجر:22] تُلَقِّحُ السّحابَ السّالب بالموجب والذكر مع الأنثى، وباجتماعهما ينزل المطر.
﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ فهل هذه اللواقح منتجة ومثمرة ونافعة أم غير ذلك؟ لكن الله أرسل على عاد ريحاً عقيماً من الفوائد ومن المنافع، وجعلها سوطاً إلهياً وشرطياً ربانياً لمّا أصروا على رفض قانون الله، القانون الذي يجعل الإنسان فاضلاً، ويجعل الإنسان أخا الإنسان، والإنسان الرحيم، والإنسان الذي يساعد الإنسان، ولا يتعدى على أخيه الإنسان، وهذا مُسْتَمَد من مدرسة الله ومن روحه وأخلاقه.
لقد رفضوا وأصرُّوا على رفضهم.. والطّالب الذي لا ينجح في السنة الأولى والثانية والثالثة، ماذا تفعل معه المدرسة في السنة الرابعة؟ يطردونه، لأنه لا يستحق أن يحيا حياة العلم، وكذلك في المدرسة الإلهية إذا بعث الله لك الدرس وبعده عدة دروس ورفضت، فلا تعد تصلح للحياة أو للوجود، فيأخذك أخذ عزيز مقتدر.
فعند الله لا يوجد بوش وغورباتشوف وغني وفقير، أين رؤساء جمهورياتنا الذين كانوا؟ وأين رؤساء الجمهوريات في كل العالم؟ أين ستالين؟ وأين رؤساء فرنسا وملوك إنكلترا ورؤساء أمريكا؟ أين هم الآن؟ كان لأبي العلاء المعري رحمه الله قصيدة يقول فيها
صاحِ: يعني يا صاحبي، هذا في النّحو اسمه ترخيم، وهو حذف الحرف الأخير، وعن مالك يقال: يا مالِ، وعن الصاحب يقال: يا صاحِ.
صَاحِ هَذِي قُبُورُنا تَمْلأ الرُّحْـ ـبَ فأينَ القُبُورُ مِنْ عَهدِ عادِ رُبّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْداً مراراً ضَاحِكاً مِنْ تَزَاحُمِ الأضْدادِ وَدَفِينٍ عَلى بَقايا دَفِينٍ من قديم الآباء والأجداد خَفّفِ الوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ الـ أرْضِ إلاّ مِنْ هَذِهِ الأجْسادِ
صَاحِ هَذِي قُبُورُنا تَمْلأ الرُّحْبَ: تملأ الأرض.. “رُبَّ لحدٍ” اللحد هو القبر، “قد صار لحداً مراراً” وضعوا ميتاً فوق ميتٍ فوق ميت فوق ميت، “ضاحكاً”: القبر واللحد من تزاحم الأضداد، فقد يُدفَنُ أعلم العلماء فوق أشقى وأجهل الجهلاء، أو واحد من أفاضل الناس يدفن فوقه واحد من أشقى الناس.
رُبَّ لحد قد صار لحداً مراراً، واللحد يضحك من تزاحم الأضداد، “ودفين” واحد يُدفن “على بقايا دفين من قديم الآباء والأجداد” طول الحياة ميت فوق ميت.. قال: فإذا مشيت على الأرض “خفِّف الوطء”، فعندما تمشي امش ببطء على رؤوس أصابعك، لماذا؟ قال: “ما أظن أديم الأرض” يعني وجه الأرض “إلا من هذه الأجساد”، فكم أتت أمم وشعوب؟ أين هم؟ أجسامهم صارت تراباً، أمّا أرواحهم ففي عالم الروح، وسيأتي وقت تعاد إليهم أجسادهم غير هذه الأجساد، ثلاث مراحل، وهناك المصير الخالد الأبدي الذي يكون على حسب نفسك إن كانت مُزكَّاة أو كانت مُدَسّاةً، وعلى حسب أعمالك إن كانت صالحةً أو كانت طالحةً.
هذا المستقبل الحقيقي الذي يجب على الإنسان أن يجعله بفكره، ولا يغيب عنه لحظةً من اللحظات، وهذا لا يعني أن يهمل أمور الحياة والدّنيا، لا، بل يكون مثل جناحي الطائر، فتكون حياة الإنسان مراعاة للحياة الجسدية والحياة الروحية، وهذا هو الإسلام!
قال: ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيم﴾ [الذاريات:41]، هل هذه الريح لاستنشاق الهواء [والمتعة]؟ رياح استنشاق الهواء [النسيم] تأتي لطيفة ظريفة جميلة، أما إذا قلعت الأشجار وهدّمت البيوت، وجعلت الجِمَال تطير خمس مئة متر إلى الأعلى وتنزع الرجال من فوقها، ﴿تَنْزِعُ النَّاسَ﴾ تضربهم بالأرض ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾ [القمر:20]، مثل جذور النخل القديم، فإن ضربتها ضرباً ماذا يحدث لها؟ تتناثر نثراً.. فهكذا فعل الله بعاد قوم هود في جنوب البلاد العربية.
وعلى من يقص الله القصص؟ على قريش.
هذه الريح العقيم قال عنها: ﴿مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ﴾ [الذاريات:42]، مثل الميت إذا صارت عظامه بالية وصارت تراباً، فهكذا صار بعاد قوم هود لمّا تمرَّدوا على أمر الله، ورفضوا دينه في معاملتهم مع الله وفي معاملتهم مع مخلوقات الله.
تمرُّد ثمود وجزاؤهم
﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ [الذاريات:20] قال: وفي ثمود قوم صالح أيضاً آية: ﴿وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ﴾ [الذاريات:43] لما أصرُّوا على الكفر ورفضِ رسالة نبي الله صالح عليه السلام، فقد بقي يدعوهم سنيناً لكنهم كانوا يرفضون ويقولون: “دع الله يُرينا الذي تُخَوِّفنا به” فقال لهم الله: ﴿تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ﴾، ((اللَّهَ يُمْهِلُ ولا يهمل))، يعطيك مهلة لكن لا يتركك ((إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ)) 2 .
فلما أصرُّوا على الضّلال والتّمرُّد على أمر الله ومعاداة دينه، وآثروا أعمالهم الشّيطانيّة على الأعمال الرّبّانيّة الملائكيّة قال: ﴿فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾ [الذاريات:44] وبقوا مصرِّين وغير مبالين ومستهزئين ومتواصلين في أعمالهم.
قال: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44)﴾ أتت صيحة من السماء أو صاعقة ﴿فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ﴾ بصعقة واحدة كلهم صاروا جثثاً هامدة ﴿وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ﴾ [الذاريات:45] على المعلّم الإلهي، فقد كانوا يقاومونه ونشبت المعركة بين الحق والباطل، وبين العلم والجهل، وبين الأخلاق الفاضلة والرذائل، وبين الظلم والعدل، وبين الإنسانية والوحشية.. وبعد أن يبعث الله الرسول والرسالة، ويصرُّ الجهول وقاسي القلب والإنسان الحيوان.. فقد جعل الله عزَّ وجلَّ مدَّة محددة، فلكل أمة أجل، ولكل أجل كتاب، فلمّا تحين الساعة المحددة يرسل الله صاعقة أو يقلب الأرض أو يبعث الريح العقيم أو يبعث صيحة، أو يبعث لك نوعاً من الثآليل اسمها السرطان، أو يبعث لك نقطة دم صغيرة تتجمد [جلطة] فيأخذك، والموت لا يخيف، لكنَّ الخوف مما بعد الموت.. أو يبعث لك ضربة وأنت حي، فيعذِّبك كل حياتك بفقر أو بمرض أو ببلاء أو بتسلُّط، فلنتقِ الله ونتُبْ إليه قبل أن يخرج الحكم التنفيذي الإلهي.
فالله يُهدِّد ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ [الذاريات:6] وهل يوجد عند الله كبير؟ سواء رجل دولة أو فرعون أو بوش أو غورباتشوف أو كسرى أو قيصر؟ فعند الله لا يوجد كبير، ومَن نحن؟ فهل فكَّرت بنفسك وضعفك عندما كنت حيواناً منوياً؟ فرأس الإبرة إذا غمستها في المني يعلق بها خمسون ألف حيوان منوي.
من الذي نقلك من ذلك الخلق إلى هذا الخلق؟ فعندما جعلك كبيراً تريد أن تتكبّر على الله وعلى أوامره وعلى قانونه، وتنسى قدرة الله التي حولتك هذا التحويل ولا تحترم أمره.. أنت تحترم أمر شرطي أكثر من أمر الله! فإذا عاملك كما عامل وعاقب قوم لوط أو عاد أو فرعون! وعلى عظمة فرعون قال عنه: ﴿فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾ [الذاريات:38] إلى أين؟ ذاك نبذه في اليم، أما أنت فمن الممكن أن ينبذك في المجاري أو نهر من المجاري [المجاري: مجرى المياه النجسة التي تأتي من بيوت الخلاء] أو يبعث لك من البلاء من فقر أو مرض أو ذل أو تسلُّط، وإلى آخره.
تمرُّد قوم نوح وجزاؤهم
قال: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ﴾ أيضاً كم صبر عليهم؟ ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ [الذاريات:46] فماذا كانت النهاية؟ فأغرقهم الله أجمعين.
فهذه الدّروس هي المقصود من دراسة سورة الذاريات، وذلك بأن تخاف عقوبة الله وأن تتوب من معصيته وأن تصحو من غفلتك، وأن تذكر الله في رضاك وغضبك، وأن تذكر الله في عدوّك وصديقك، وأن تذكر الله عند أوامره فتمتثلها وعند محارمه فتجتنبها، وهذا لمصلحتك، فقد حرم الله الخمر هل ليشرب هو هذه الخمور؟ وهل حرّم المخدرات ليستخدمها؟ فقد حرم الله في الإسلام كل ما هو ضار، حتّى إن لحم الخنزير اكتشف العلم الآن في هذا القرن ما فيه من أضرار، فحرَّمه العلم، وقد حرمته الأديان من عهد موسى عليه السلام إلى عهد سيدنا محمد ﷺ.
قرأت في كتاب ألماني ترجمه الدكتور عدنان حلبي -وقد درس في ألمانيا- بأنّه ينشأ من أكل لحم الخنزير أكثر من ستين مرضاً، لذلك بدأوا الآن في النّمسا وفي ألمانيا وفي أمريكا يستبدلون تربية الخنازير بتربية الغنم، أمّا سيدنا موسى عليه السلام فقد أدرك تحريمه بالوحي السماوي، ألا يعلم الله عز وجل ما هو الخنزير؟ فقال له: هذا حرام.. فالمؤمن قَبِلها إيماناً، أما إنسان هذا العصر فيقبلها علماً، وإن كان جاهلاً ويريد أن يأكل فتصيبه الأمراض.
نصف الإسلام بناء الحياة
هذه السّورة “الذاريات” لـمّا تُلِيَت على عبدة الأصنام من مُعلِّم مُؤَهَّل متخرج من مدرسة الله؛ من غار حراء، [جعلت منهم المجتمع الفاضل].. ولما خيّر سيدُنا جبريل النبيَّ ﷺ وقال له: ((إن الله يخيّرك أن تكون مَلِكاً نَبِيّاً أو عَبْداً نَبِيّاً، فقال: بل عَبْداً نَبِيّاً)) 3 فما أعظم المـَلِك أن يأخذ لقب العبد! وليس العكس بأن يأخذ العبد صفة الملك.
فسيدنا عمر وأبو بكر رضي الله عنهما وكل الخلفاء والملوك الذين مروا ونجحت بهم الأمة كانوا خريجي مدرسة القرآن.. والإنسان الفرد أنتج أُمَّة.. ولا تظنوا أن القرآن أو الإسلام فقط دين وصلاة وروح، لا؛ فالإسلام نصفه بناء الحياة على هذا الكوكب؛ الحياة القائمة على العلم وعلى التقدم وعلى السعادة وعلى الغنى وعلى الاقتصاد الجيد وعلى العلوم؛ كل العلوم، وهذا نصف الإسلام، أما النصف الثاني والجناح الثاني فهو قائم على الحياة الروحية.
ولذلك كان سيدنا عمر رضي الله عنه رجل دين وإمام المسجد، وفي نفس الوقت كان إمبراطوراً، وكان أبو بكر رضي الله عنه إمبراطوراً وفي نفس الوقت كان إمام المسجد، وكذلك سيدنا عثمان وكذلك سيدنا علي رضي الله عنهما، وكان سيدنا محمد ﷺ مَلِكاً ونبياً، وتنازل عن لقب الملك.
وقد انتشرت لغة العرب من إندونيسيا إلى دول الباسفيك، وهل انتشرت اللغة العربية بالقومية أم بالقرآن؟ فنسأل الله تعالى أن يُرجِعَنا ويرجع العالَم كله إلى مدرسة الله.
القدرة الإلهية
بعد ذلك قال الله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ يعني بقوّة، فهو يخاطبنا بحسب عقلنا، فعندما تريد أن تعمل عملاً فإنّك تعمله بيدك، أما الله تعالى فليس مثل الإنسان، والمراد بالأيدي بالقوّة، قال: ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات:47] السّماء بما فيها من كواكب.. وهذه الكواكب لها مدارات مثل سكة القطار، فهل القطار يخرج عن السكة؟ كذلك الأرض تدور حول الشمس، والقمر يدور حول الأرض، والشّمس تدور حول شمس أكبر منها، وكلّها تدور بمدارات محدّدة، وبسرعات محدّدة، فهل هذه تدل على قوَّة ونظام ومدبِّر ومشرِف وصانع وخالق أم لوحدها تصير؟ فهل السّيارة صارت لوحدها؟ وهل الدراجة الهوائية صارت لوحدها؟ وهل الطائرة لوحدها صارت؟ فكم كيلومتر تطير أعظم طائرة في الساعة؟ طائرة الكونكورد سرعتها ثلاثة آلاف كيلو متر في الساعة، وهل هناك طائرة تمشي مئة ألف كيلو متر في الساعة؟
وأكبر طائرة كم حمولتها؟ طائرة البوينغ تحمل خمس مئة رجل مع متاعهم، لكن هل هناك طائرة تحمل ست مليارات إنسان مع جبل هملايا ومع أواني المطبخ وبيت المونة والحمير والبغال والجرارات وتمشي بسرعة مئة وثمانية آلاف كيلو متر في الساعة؟ وهي سرعة الأرض حول مدارها حول الشّمس.
وهي تعتبر من الطائرات “الموديل” [الطراز] القديم الصّغار جداً، وكوكب المشتري أو زحل يكبر الأرض بآلاف المرات، وله من الأقمار ما يقارب خمسة عشر قمراً، [عدد الأقمار هذا كان معروفاً فلكياً في زمن إلقاء هذا الدرس] أما الأرض فكم قمر لها؟ قمر واحد، وزحل له من عشرة إلى ستة عشر قمراً يدورون حوله، فهذه الطائرات بأيِّ طاقة تمشي؟ هل بالبترول أم بالذَّرَّة؟ ومن الذي يقودها بمدارها فلا تنحرف يميناً ولا شمالاً، ولا يصطدم بعضها ببعض؟ ألا تسمعون عن اصطدام طائرات وسيارات وقطارات؟
فهذه السيارات الإلهية هل سمعتم أنه اصطدم نجم بنجم أو كوكب بكوكب؟ فالقطارات لها نظام حتى لا تصطدم، والسيارات لها شرطة سير، فهل هذا الكون بلا مدبِّر وبلا منظِّم؟! فمن نظامه أرسل لنا قانوناً، وأرسل لنا أساتذة، لكنّ أستاذاً سماوياً واحداً أفضل من مئة مليون أستاذ من أساتذة الأرض.
فالذي دخل مدرسة السماء وتعلَّم من أستاذ السماء صار سعيداً في الأرض وفي السماء؛ عقلاً وجسداً وروحاً.
فهذا الكتاب الذي لا يزال كما كُتِب وكما أُنزِل منذ زمن سيدنا محمد ﷺ وليس فيه تحريف ولا تبديل ونجد فيه إنجيل عيسى عليه السلام، ولكن عيسى العقلاني وليس عيسى ابن الله، لأنَّ الابن يكون مثل أبيه، فالله قادر، وهل يستطيع أن يغلبه أحد؟ فكيف يكون ابن الله ثم بعد ذلك يأتي بعض اليهود فيقتلونه ويصلبونه؟!
يقولون: “من أجل أن يغفر الله خطايا الناس”، والواحد يفدي ابنه عندما يعجز عن نجاته، ويقدِّمُ ابنه فداءً من أجل العائلة، أي: يا بني دعهم يذبحونك لتسلم العائلة، لكن لو استطاع أن ينجِّي ابنه ألّا ينجِّيه؟ فبدلاً من أن يُهَان ابنه.. وإهانة الابن تلحق الأب أيضاً، ألا يستطيع أن يعفوَ عن الناس ويغفر لهم؟! ولذلك ألحد الإنسان، لأنّه عُرض عليه دين يرفضه العقل، فإذا وضعت الطعام في فمك وكان مرّاً أو حارّاً ألا يرفضه فمك؟ وإذا سمعت صوت الحمير ألا تسد أذنيك؟ وإذا سمعت صوت أم كلثوم [مغنية مصرية مشهورة] وكانت أذناك مسدودتان ألا تفتحهما؟ كذلك الدِّين الحقيقي؛ دين الله وقانونه ومدرسته.. وهل خلق الله شيئاً في الكون عبثاً أو ليس وراءه حكمة نافعة؟
الإبداع والإعجاز في خلق السماء
قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات:47] والسماء تُطلق على كلّ ما فوق رأسك، فكل ما فوقه اسمه سماء، فالأوزون سماء، وكم المسافة بينه وبين طبقة الأرض؟ ما يقارب ثلاثين كيلو متر، وكم تبلغ سماكته؟ قرابة عشرة أو عشرين سنتمتر.. جعله الله درعاً يقي سكان الأرض من الإشعاعات القاتلة التي تأتي من النجوم، ولم يُعرَف هذا إلّا من جديد.
والفضاء والنجوم أيضاً كلها اسمها سماء، قال: ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ ثبت علمياً الآن بأنَّ النّجوم والشّموس والأقمار والمجرات تتوسَّع في الفضاء ويتباعد بعضها عن بعض، ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة كالألعاب النارية عندما تُضرَب وتتوسع في السماء.
والقرآن أشار إلى هذا المعنى قبل أربعة عشر قرناً فقال: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ يعني ما خلقنا في السماوات من أجرام ومجرات وكواكب وأقمار وشموس، وهل المساحة بين الشموس والأقمار تتسع أم لا تتسع؟ قال: ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات:47].
فالذي يملك هذه القدرة ألا يملك القدرة على محاسبتك؟ فإذا فارقت روحك جسدك أتفلت من الله يا مجرم؟ وهل يضيع ثواب أعمالك يا محسن ويا مؤمن؟ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)﴾ فإذا عملت مثقال ذرة من الخير فسترى المكافأة ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7-8].
هذا قانون الله وهذه محكمة الله، ولا يوجد هناك محامٍ، ولا تستطيع الكذب على الله وأنت في محكمته! قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس:65] يأتيك بشريط أعمالك عندما كنت تظلم وتخون وتخالف أمر الله، [شريط أعمالك: تشبيهاً بشريط الفيديو الذي يُصَوِّر ويُسَجِّل كل شيء] ويقول الله تعالى لك: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء:14].
بين القانون الإلهي والقانون الإنساني
﴿وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ﴾ [الذاريات:48] جعلناها مثل المهد والسّرير وحضن الأم بالنّسبة للإنسان، فالأرض كأم ونحن عليها كأننا في حضنها، وهذا يسمونه الجاذبية الأرضية.
ما الجاذبية الأرضية؟ إلى الآن لا يعرفون ما هي، لكن قل القانون الإلهي.. لا يقولون ذلك لأنّهم عرضوا عليهم الإله مصلوباً فرفضوه.. واللهِ أنا لا أقبل إلهاً يُبصَقُ بوجهه، والعقل لا يقبل، وقد رأيت الكنائس في أوروبا، ورأيت في روما كل كنيسة بحجم الجامع على مرات ولا يوجد فيها مصلٍّ واحد، وقد صارت نصف إيطاليا شيوعية، فهؤلاء ملحدون، إضافة إلى الملحدين غير الشيوعيين!
ليس الحق على سيدنا المسيح، فالمسلمون بعد المسيح لما كانوا مسلمين حقيقيين كانوا أسياد العالم، لا سيادة الاستعلاء، بل سيادة التّعليم والتّهذيب والمؤاخاة وسيادة العدل والإنصاف والمساواة.
صور من معاملة المسلمين لأهل الأديان
لمّا عمل سيدنا خالد رضي الله عنه معاهدة مع نصارى هذه البلاد كان من جملة نصوص المعاهدة: أنَّ أيَّ نصراني إذا تعطَّل عن العمل فراتبه على بيت مال المسلمين -على الدولة الإسلامية- حتى يجد العمل.
هل يوجد هذا القانون الآن؟ حتى في أوروبا وأمريكا يعطونه ثلث الراتب أو نصفه، أمّا في الإسلام فيعطى العامل إذا تعطل عن العمل راتبَه بما يكفيه، فلعل راتبه لا يكفيه.. والمديون إذا عجز عن الدّين فعلى الدّولة الإسلامية أن تُوفِي دينه، هذا هو الإسلام! ورجال الدين من كل الأديان -يهود ونصارى ومجوس- معفيون من الضرائب.. هذا قانون من بعض القوانين الإسلامية.
لما ابن عمرو بن العاص ضرب نصرانياً قبطياً بالقضيب على رأسه وقال له: أنا ابن الأكرمين.. وعمرو بن العاص رضي الله عنه فاتح مصر! فاشتكى القبطي لسيدنا عمر رضي الله عنه، ولما عرف سيدنا عمر أنَّ النصرانيَّ مظلوم أحضر القضيب وأعطاه القبطيَ وقال له: اضرب على رأس ابن الاكرمين؛ على ابن فاتح مصر.. فابن غورو لو فعلها مع شخص هنا فهل هناك أحد يستطيع أن يشتكي إليه؟ [غورو: جنرال فرنسي كان المندوب السامي للانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان بعد الحرب العالمية الأولى] ولو أنَّ يهودياً ضرب عربياً مسلماً في فلسطين فهل يُنصف “شامير” [إسحاق شامير رئيس وزراء إسرائيل سابقًا] المسلمَ من اليهودي كما أنصف الإسلام القبطيَ من المسلم؟
وبعد أن ضربه قال له: اضرب بالعصى على رأس أبيه؛ فاتح مصر والقائد الأعظم! وكان هذا انتصاراً للنصراني على القائد الإسلامي الأعلى! فكان النصراني منصفاً وقال: يا أمير المؤمنين أنا استوفيت حقي وضربت من ضربني، فقال له: والله لو ضربته ما منعك منا أحد.
هذا الإسلام، وهذا قانون الدولة في الإسلام، وهذا قانون حقوق الإنسان في الدولة الإسلامية، ولم يكن على الورق، بل على الواقع، ثم قال سيدنا عمر كلمته التاريخية لفاتح مصر: “متى استعبدتم الناس” هؤلاء النصارى تجعلونهم عبيداً! “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟”.
هل هذا بالقرن العشرين موجود؟ فهل حقوق السود اليوم في أمريكا مثل حقوق البيض وكذلك في جنوب أفريقيا؟ لا يزال الجنس البشري يحكمه قانون الغاب، فالقوي يتسلط على الضعيف، والقوي يأكل الضعيف، وسنبقى هكذا ما لم يصِر القانون ديناً ويكون القانون إلهياً، وكما قال ﷺ: ((الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللهِ)) فالخلق ليس المسلمين ولا اليهود ولا النصارى ولا الإنسان، بل الخلق، يعني حتى الحيوان: ((وَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ)) 4 .
لذلك علينا أن نعود إلى الدستور الإلهي وندرسه دراسة عقلانية، وإذا وُجِدَت أخطاء دخلت على الدّين من الإنسان نَعزِلُها من الدّين.. والدّين صار مشوَّهاً حتى الإسلام، فالإسلام الذي عليه المسلمون اليوم ليس الإسلام الذي كان عليه النبي ﷺ وأصحابه، ولا الذي كان عليه في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم، بل هو إسلام بالاسم، وهو الإسلام المشوَّه والمنفِّر، فأن يصلي ويكذب لا يصح، وأن يصلي ويغتاب لا يصح، وأن يصلي ويرى مظلوماً ويستطيع نصرته ويسكت لا يصح، وأن يرى جائعاً وعنده ما يساعده ولا يعطيه، ففي الإسلام هذا لا يصح، فأين الإسلام؟ إنّ الإنسان الحقيقي ليس بالجسد، [وكذلك الإسلام الحقيقي ليس بالشكل] فقد يكون الجسد جسد إنسان أمّا من الداخل فثعبان، ومن الداخل ذئب وكلب مَسْعُور لا يعرف إلّا العضَّ والإيذاء.. يسنُّون قوانين لا يطبقها إلّا الأقوياء لمصالحهم على الضّعفاء.
التدبُّر في آيات الله
﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ هذه من آيات الله، وهي من الآيات السماوية، وقد كنَّا نقرأها ونؤمن بها، أمّا الآن فالعلم قال: ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات:47] فالكون يتمدَّد في الفضاء ويتوسع، مصداق قول القرآن: ﴿وَالسَّمَاءَ﴾ بما فيها من نجوم وكواكب ومجرات في توسُّع في الفضاء.
﴿وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا﴾ [الذاريات:48] جعلناها لكم مثل الفراش والسرير، فهل تستحقون؟ وهل الله “مُنَجِّد” يفرشها لكم؟ [الـمُنَجِّد: في اللهجة العامية هو من يصنع الفراش] فكم الله رحيم! وكم هو كريم! وكم يحب الإنسان! يقول النبي ﷺ: ((إنَّ الله خلق مئة رحمة أودع منها في هذه الأرض رحمةً واحدة، فبهذه الرحمة ترفع الفرس حافرها عن مهرها)) والضّبع لا يأكل ولده بهذه الرحمة، فهل الضبعة تأكل أولادها؟
((وادخر تسعةً وتسعين رحمةً ليرحم بها عباده يوم القيامة)) 5 ويضيف إليها رحمة الدنيا، والمحروم الذي لا يناله شيء من هذه المئة رحمة؛ لأنه هو من رفضها، فإذا رفض المريض الدواء فهل يشفى من الداء؟ وإذا رفض الجائع الغذاء فمات جوعاً فهل الله ظلمه؟ وإذا وضع أحدهم يده في فم الأفعى ولدغته وقتلته، أيكون الله قد ظلمه لأنَّ الله خلق الأفعى؟ لقد خلق الله الأفعى لمنافع، ولذلك صار اليوم الحفاظُ على البيئة والحيوان والأفاعي قانوناً دولياً وقانوناً عالمياً، فالخنافس التي تراها كلُّها لمنافع ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا﴾ [ص:27]، وأمريكا الآن تصدّر خنافس للعالم؛ لأن هذه الخنافس تأكل بعض الحيوانات التي تتلف الزراعة، وهي ضدّ الجراثيم والطّفيليات التي تتلف الزّرع، ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون:14].
الإبداع في خلق طرفين لكل شيءٍ لحكمة الإثمار والإنتاج
قال: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾ [الذاريات:49] من كلّ شيء: فالذكر والأنثى ليس فقط من الإنسان أو الحيوان أو الشجر، بل السحاب فيه ذكر وأنثى، فيوجد سالب وموجب، وإذا لم يلتقِ الذكر والأنثى فلا ينزل المطر، وهناك ليل ونهار كزوجين، وهناك حار وبارد، وعلم وجهل، وعقل وحكمة، وجنون وحمق.
التذكُّر والتنبُّه لعظمة الخالق يقتضي إيماناً وامتثالاً
﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الذاريات:49] لتعرفوا قدرتنا ولتعرفوا مقام الألوهية، فتمشوا على منهاجها وتتقيدوا بقوانينها الكاملة لتكونوا كاملين، ولأنَّ هذه القوانين ما وُضِعَت إلا من أجل سعادتكم.
أنا سمعت كلمة لــ”ريغن” لـمّا كان في رئاسة الجمهورية يقول فيها: “إنَّ أفضل دواء ضد الإيدز هو العفة وعدم الزنى”، فقلت: هذا ما نطق به القرآن: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ [الإسراء:32].
لماذا قال: “ولا تقربوا الزنى” ولم يقل “ولا تزنوا”؟ فلا تزنوا معروفة بمعنى لا تزني، أما لا تقربوا الزنى يعني لا تحُمْ حول حمى الزنى، فتكلِّم امرأةً أجنبية وتختلي بها وتذهبا معاً وما شابه، فهذا من حام حول الحمى، وهل قال الله في تحريم الخمر: “لا تشربوا الخمر” أم قال: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة:90]؟ يعني ابتعدوا عنه، فأيهما أبلغ إن قال لا تشربوا الخمر أم ابتعدوا عنه؟ ابتعدوا عنه أبلغ، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة:90] اجعله بجانب وأنت في الجانب الآخر، وابتعد، فأيهما أبلغ: ولا تقربوا الزنى أم ولا تزنوا؟ وأيهما أبلغ: ولا تشربوا الخمر أم اجتنبوه؟ وهناك أناس ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ [النساء:86] جاهل، ترى أحدهم جاهلاً أعمى يريد أن يفسِّر القرآن ويعمل قرآناً على أهوائه وكما يشاء بلا علم ولا فهم ولا دراسة.
وهل يستطيع أحد أن يُطبِّبَ العيون من غير اختصاص؟ فالطبيب العادي لا يطبِّب، وهذا ليس له أستاذ ولا تعلَّم ولم يدرس التفسير ولا اللغة ولا أي شيء ويريد أن يُفسِّرَ القرآن كما يهوى! ((أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ)) 6 .
بسط الأرض أكبر دليل على الخالق
﴿وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ﴾ [الذاريات:48] إذا صنع المنجِّد لك الفراش كما ترغب والسرير كما تشاء ألا تقول له: شكراً؟ فلمّا تمشي على الأرض التي جعلها الله لك مهاداً مثل حضن أمك، أتشكر الله؟ وقد جعل لك الجاذبية الأرضية ولولا هذه الجاذبية لكان الآن كل واحد منكم بمكان، فواحد فوق الثريا، وثانٍ يرتطم رأسه بالسقف، والثّالث في مكان آخر، وهكذا.. [يضرب سماحة الشيخ أمثلة مما حوله في المسجد، والثُرَيّا مصابيح متعددة تُشَكِّل بمجموعها قطعة واحدة يُزَخْرَف بها المكان، وغالباً ما تُعَلَّق في قباب المسجد أو وسطه]
فمن الذي يمسكك ويلصقك بالأرض؟ ومن الذي خلق الجاذبية؟ ومن صنع ووضع قانونها؟ وهل يحدث هذا الشيء بنفسه؟ قال الشّاعر
هل في عيون الملحدين عماءُ أم في عقول الملحدين غباءُ أيصح عقلاً أن عقلاً مبدعاً قد أنتجته طبيعةٌ عمياءُ وإذا الطبيعة أوجدت وتصرفت قلنا الطبيعةُ والإلهُ سواءُ
“أيصح عقلاً” في شرع العقل.
“وإذا الطبيعة أوجدت وتصرفت”: إذا كان للطبيعة عقلها وإدراكها ونظامها “قلنا الطبيعة والإله سواء”، يريدون أن يقولوا: “الطبيعة” ولا يقولوا “الله” حتى ينفلتوا ويفعلوا كما تشاء أهواؤهم ويقعون في الهلاك.
فالدول الآن كلّها بكلّ طاقاتها لا تستطيع أن تحرِّم المسكرات أو المخدرات، أمّا الإسلام استطاع ذلك بالمدرسة والتربية الإسلاميّة وفي أربعة عشر سنة وفي أُمَّة بدويّة صحراويّة تعيش مع الوحوش، وقد نزل التحريم بعد أن هُيِّأت النّفوس والعقول، فذهب كلّ واحد إلى بيته وكسر الجرار في الأزقة، حتى صارت الأزقة سواقي من الخمر، وانتهى الأمر.
﴿فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة:90] ((نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ كُلِّ مُخَدِّر وعَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ)) 7 .
هل يوجد أحد منكم يستعمل المخدرات؟ من يستعمله يرفع لنا إصبعه، والذي يشرب منكم الدخان يرفع إصبعه، لا تخجلوا.. إنّ كل ضار في الإسلام حرام، وهذا هو الحكم الشرعي، وأنتم لا تشربون التبغ بفضل التربية الإيمانية، وهل يوجد حشاش بينكم أو من يشرب الخمر؟ [يسأل سماحة الشيخ هذا الأسئلة وأمامه أكثر من ألفين من الحضور في المسجد، حيث لا يكون بينهم واحد يتعاطى المخدرات أو يشرب الخمر، ومن العادة أنه حين يسأل عن التدخين، يرفع واحد أو اثنان أو ثلاثة فقط أيديهم أنهم يدخنون، وهؤلاء قد يكونوا ضيوفاً أو ممن أتى حديثاً إلى المسجد ولم يلتزم بعدُ بمجالس العلم، لكنه وبفضل الله تعالى فإنه لا يوجد مدخن واحد من تلامذة الشيخ الذين التزموا في مدرسته، وهم يُعَدون بالآلاف] نسأل الله ألا يجعلنا نسكر بنسيان الله والدار الآخرة، ونسكر بحب المادة ولا نرى سواها ولا نرى لنا قِبلةً في الحياة غيرها، وهذا هو السّكر بحب الدنيا، فالإسلام لا يقول لك: اترك الدنيا، بل يقول لك: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص:77]، لكنه كذلك يقول لك: “وآتنا في الآخرة حسنة”.
الفرار منه إليه تعالى
ثمّ قال الله تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ [الذاريات:50] فإذا بقيتم على كفركم.. وبقاؤكم على الكفر وحوشٌ قاتلة لسعادتكم، وإذا خرجتم عن صراط الله ستقعون في الهلاك، وسيجتذبكم الأخطبوط ويمصّ دماءكم، فليس لكم نجاة إلّا أن تفرُّوا إلى الله وتلتجؤوا إلى دينه علماً ومعلّماً، تربيةً ومُرَبِّياً.
كانت الهجرة إلى النبي ﷺ فرضاً، فتهاجر المرأة مسافة خمس مئة كيلو متر في الصّحارى وحدها، ولماذا كانت تهاجر؟ كي تدخل في المدرسة الإسلاميّة، فأين مدرسة المسلم الإسلامية اليوم علماً وتربيةً وعقلاً وحكمةً وسعادةً؟ وإذا لم يصر لك لصوق روحي وحُبِّيّ وقلبي بالمربي كالتصاق الروح بالجسد، ولم يصر حبك له أكثر من حبِّ أكبر حبيب لك من مال وأهل وولد فلن تستفيد شيئاً.
أنا لا أقول لكم ذلك [لنفسي]، فأنا لا أحتاج لأي أحد منكم على الإطلاق لا بالمال ولا بالجاه ولا بشيء، [يقول سماحة الشيخ هذا الكلام ليعلِّم الناس الطريق الصحيح ليكونوا مسلمين على شاكلة الصحابة رضي الله عنهم، وقد كان هذا الكلام أيضاً حقيقة وواقعاً، فقد أغناه الله تعالى ورفعه، وكان عظيم الجاه، وكانت مكانته الأعلى في أي مكان حضر، سواء أكان بين علماء المسلمين أو غيرهم، أو مع الحكام والرؤساء، وذلك ليس على مستوى سوريا والبلاد العربية فحسب، بل على مستوى العالم، وخاصة في العالم المتَقَدِّم الذي كان يذهب إليه لتبليغ رسالة الإسلام] وإذا أحببنا الله فهل يستفيد الله منّا شيئاً؟ وإذا أحببنا النبي ﷺ فهل يستفيد منّا شيئاً؟ لكن من الذي يستفيد؟ لكن على شرط أن لا يكون حبُّنا حبّ التَّمنِّي، بل حبّ العمل والحقيقة.
أستاذ الطريق أهم من الطريق
لما عرف شيخُنا شيخَه المربي، وقد كان شيخنا قبل ذلك من كبار العلماء، لكن علماء اللّسان وعلماء الطقوس لا علماء القلب والروح، فلمّا عرف شيخه المربي الروحي والنفسي والأخلاقي والتربوي، وعرفه المعرفة الحقة، وكان شيخنا فقيراً، قال: “فكرت بماذا أكافئ شيخي؟ ووجدت نفسي عاجزاً، فقلت: سأكافئ الذي دلَّني على شيخي”، وكان سبباً لتَعَرُّفِه على الشيخ، قال: “كنت أملك عباءة وَبَر” [مصنوعة من وَبَر] وهذه أغلى شيء، فقدَّمَها للذي دلّه على الشيخ.
فأتى إلى شيخه وقال له: “يا سيدي بماذا يكافئ المريد شيخه؟ قال له: “بالخدمة الصادقة”.. فمتى ما عرف الإنسان -يا بُني- الشّيخَ المعرفة القلبية أو حتى المعرفة العقلية.. لكن نسأل الله ألا يجعل الغشاوة على أعيننا، كما قال تعالى: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف:198]، وكما قال: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ [الأنفال:28]، وقال: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ فقد كانوا في المجلس، لكنهم قالوا لأولئك الذين أخذوا العلم: ﴿مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾ ما تعلَّمنا شيئاً، فقال الله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ ليس لهم قلوب ﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم﴾ [محمد:16] أنانياتهم ومصالحهم وشهواتهم الدّنيئة.. والقلب لا يصير إلّا بالتوبة الصادقة، لذلك في بلاد الأكراد وغيرها يسمون الطريق “التوبة”، فيتوب عند الشيخ ويعاهد الشيخ على الاستقامة وعلى امتثال أوامر الله واجتناب نواهي الله وعلى دوام ذكر الله.. وليس هناك حاجة أن نسميه “طريقاً”، فدعونا نسميه بالأسماء القرآنية، وعلماؤنا لم يقولوا لنا: “قولوا تصوفاً أو قادرياً أو نقشبندياً”، بل كانوا معلِّمين ومربِّين وعلماء وفضلاء ومتَّقين، وبعد ذلك تحرّفت الطرق أيضاً وخرجت عن أصالتها.. فلنرجع إلى القرآن، ولا بد من المعلم، وهل كتاب الهندسة يجعلك مهندساً أم تحتاج لأستاذ مع الكتاب؟ وهل كتب الطب تجعل منك طبيباً؟ بل تحتاج لأستاذ مع كتاب الطب، وهل القرآن يصنع إسلاماً؟ القرآن صنع إسلاماً لما كان النبي ﷺ موجوداً، والآن يوجد القرآن، فلا يوجد بيت إلا فيه مصحف أو مصحفين أو أكثر، لكن هل صاروا مسلمين؟ وهل الورق يصنع الإنسان المسلم؟ وهل الحبر الأسود يصنعه؟ إنما يصنع الروحَ الروحُ، وإنما يصنع العقلَ الصغيرَ العقلُ الكبير.
التحذير من الضلال
﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ يعني: فرُّوا مما يحقق شقاءكم ويبعدكم عن الله إلى طاعة الله ﴿إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذاريات:50] لقد أنذركم، فإذا لم تمتثلوا أوامره وتجتنبوا محارمه فستكونون في الشقاء والبلاء.. والعالم اليوم يعيش في الرعب، فهل أمريكا مطمئنة؟ ولو كانت مطمئنة لما صنعت قنابل نووية وصواريخ تحت الأرض، وكذلك روسيا، فالأساطيل من الغواصات النووية في قيعان البحار، وهل هذا لأنَّ الإنسان إنساني أم لأن الإنسان شريرٌ وأوحش الوحوش؟ ولا يصير إنساناً إلا بالإيمان الحقيقي السماوي، كماء المطر عندما ينزل من السماء ينزل معقماً، ولما يختلط بأوساخ الإنسان يصير قاتلاً.
كذلك الدين لما اختلط بتأويلات وأخطاء وتعصُّبات وجمود أهل الدّين فقدَ حيويته وروحانيّته وجماله فابتعد الإنسان عنه، أمّا لـمّا يراه بأصالته وطهره ونقائه، فلا حياة له بدونه.
﴿وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ من صنمٍ أو إنسان أو هواك وأنانيتك ﴿إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذاريات:50].
الحاجة إلى طمأنينة مدرسة الله
فهذه السورة وأمثالها.. كان الإنسان العربي يسمع عشر آيات من القرآن من النبي ﷺ، وكان بمجلس النبي ﷺ وقوّة روحانيته ينقلب من وحش ضارٍ إلى مَلَك كريم، ومن حيوان لا يعرف إلا بطنه وفرجه إلى إنسان عليم حكيم، وإلى أخلاقِ مَلَكٍ كريم.
فإذا ما صار للمسلم والمسلمة وللإنسان من ذكر أو أنثى المعلم والكتاب الصحيح فإنّ الشهادات لا تجعله إنساناً حقيقياً ولا الثروة ولا القوة.. فما أحوج إنسان هذا العصر إلى مدرسة الله وقانونه وتعاليمه، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أنا لم أكمل لكم من قصيدة أبي العلاء المعري
وَدَفِينٍ عَلى بَقايا دَفِينٍ من قديم الآباء والأجداد خَفّفِ الوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ الـ أرْضِ إلاّ مِنْ هَذِهِ الأجْسادِ سِرْ إنِ اسْطَعتَ في الهَوَاءِ رُوَيداً لا اخْتِيالاً عَلى رُفَاتِ العِبادِ
“سِرْ إن اسطعت في الهواء”: يعني احتراماً لجثث الأموات الذين صاروا تراباً، فهذا التراب الذي تمشي عليه ماذا كان أصله؟ جماجم الملوك ورؤوس القوّاد ورؤوس أصحاب الملايين والعلماء وغيرهم.
يقول: قدّس وتذكر الموت فأنت يوماً من الأيام أيضاً ستصير تراباً، هذا كجسد، أما كروح فستنتقل إلى عالم آخر، حيث أعمالك كلها مسجَّلة.
“سِرْ إن اسطعت في الهواء”: احتراماً للبشر الذين صاروا رفاتاً وتراباً، و”رويداً” قليلا ً قليلاً، بالإضافة إلى سيرك بالهواء، لأنك فوقهم، سِرْ هكذا احتراماً للميت “لا اختيالاً على رؤوس العباد”.
القصيدة أطول من هذه لكن يكفي هذا القدر في هذا الموضوع.
فاللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعلنا اللهم هادين مهدين ولا تجعلنا ضالين ولا مضلِّين.
مُلْحَق
الإسلام غلب غيره بحكمته لا بسطوته
إن عمل اليهود الآن [في فلسطين] خاطئ، لأنَّ مُغَالِبَ الطبيعة مغلوب، والإنسان كثيراً ما يكون في بعض الأوقات قاصر النظر، فلوا رَضُوا بالسلام وتعايشوا بالحق والإنصاف فهذا الذي يدوم، أما الظلم فلا يدوم، ولا بد أن يأتي يوم يتغير وضع المظلوم ويتغير وضع الظالم.
وقد حكمت الدّولة الرومانية ألف سنة، لكنّ لـمّا فتح العرب بالإسلام هذه البلاد وكان الشعب مسيحياً صاروا مع المسلمين، لأن الدولة البيزنطية كان مذهبها أرثوذكس، وكانت مُتَجَبِّرة على كل المذاهب المسيحية؛ الكاثوليك والسريان واليعقوبية، فقد صادرت كنائسهم وأوقافهم وأديرتهم، وأرادت أن تجعلهم كلهم أرثوذكس، ورأت الطوائف المسيحية أن الإسلام يعطي الحرية لكل إنسان بحسب دينه وحسب مذهبه، فلذلك انقلب الشعب النصراني مع الحكومة الإسلامية ضد الحكومة النصرانية، ورأوا إنجيلهم في القرآن، ورأوا عيسى عليه السلام مقدساً كمحمد ﷺ، فمن لا يؤمن بقدسية المسيح يعتبر في الإسلام كافراً.. ولما دخلوا في الإسلام لم يفقدوا مسيحيتهم، ولم يفقد اليهودي توراته؛ بل وجدها ملخصةً مطهرةً مجددةً في القرآن، ووجد فيه وحدة الأديان ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ [البقرة: 285].
ولذلك دخل الناس في الإسلام لا بالسيف، فقد كان السيف ضد الاستعمار فقط، وضدّ من استلب حرّية الإنسان، وضد من ظلم حقوق الإنسان، ثمّ نشر الإسلامُ العلمَ، ولم ينشره بين العرب فقط، ويمنعه عن الشعوب المفتوحة بلادهم، بل جعل العلم واجباً على كل شعوب العالَم في الدولة الإسلامية.
لذلك كان العلماء من الهند إلى الأندلس كلّهم في الثّقافة سواء، ولما فتحت أوروبا أفريقيا هل هكذا عملت؟ وهل صار الأفارقة في العلم سواء مثل الأوربيين؟ فهذا فتح وهذا فتح، وهذا حكم وهذا حكم.
أسأل الله أن يُوفِّقنا أن نُظْهِر الدين بحقيقته وجوهره.
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.
Amiri Font
الحواشي
- متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم: (5665)، (5/ 2238)، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم رقم: (4685)، (12/ 468)، عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، بلفظ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
- متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك..}، رقم: (4686)، (6/ 74)، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم: (2583)، (4/ 1997)، بلفظ: ((إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ))، عن أبي موسى رضي الله عنه.
- السنن الكبرى للنسائي، كتاب الوليمة، باب الأكل متكئا، رقم: (6743)، (4/171)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (1452)، (2/167)، عن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي الله عنه، بلفظ: أن الله تبارك وتعالى أرسل إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بين أن يكون عَبْداً نَبِيّاً أو مَلِكاً نَبِيّاً فأشار إليه جبريل عليه السلام أن تواضع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل عبداً نبياً»، قال: فما أَكَلَ بَعْدَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ طَعَامًا مُتَّكِئًا.
- المعجم الكبير للطبراني، عن عبد الله رضي الله عنه، رقم: (10033)، (10/86)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (7045)، (9/521)، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه.
- متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب جعل الله الرحمة مائة جزء، رقم: (5654)، (5/ 2236)، صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، رقم: (2752)، (4/ 2108)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، بلفظ: ((جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِئَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ))، وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (24121)، (5/ 439)، عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه، بلفظ: ((إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ مِئَةَ رَحْمَةٍ، فَمِنْهَا رَحْمَةٌ يَتَرَاحَمُ بِهَا الْخَلْقُ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوُحُوشُ عَلَى أَوْلاَدِهَا ، وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
- سنن الدارمي، باب الفتيا وما فيه من الشدة، رقم: (157)، (1/ 69)، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى جَعْفَرٍ مرسلاً.
- سنن أبي داود، كتاب الأشربة، باب النهي عن المسكر، رقم: (3686)، (2/ 354)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (26676)، (6/ 309)، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، بلفظ: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفْتِرٍ)). وأخرجه مسلم (2003) بلفظ مقارب.