تولَّى الله عزَّ وجلَّ في كتابه بيان حقوق المرأة
فنحن لا نزال في تفسير سورة الطلاق.. لقد ذكر الله تعالى فيما يتعلَّق بحياة المرأة بالعلاقات الزوجية أو غير الزوجية، فذَكَر الله عزَّ وجلَّ المرأة مدافِعًا عن حقوقها ومدافِعًا عن ظلامتها مِن غير أنْ يكون هناك جمعيات نسائية تُطالب بحقِّ المرأة، ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ الذي خَلَق المرأة وخَلَق الرجل هو الذي تولَّى الدفاع عن حقوقها والنصرة لها مِن ظلامتها.
فسورة النساء ثالث أكبر سورة، ومن أطول سور القرآن، وعنوانها سورة النساء، وكذلك سورة المجادلة التي جادلت وخاصمت في ظلامة الرجل مشتكيةً إلى رسول الله ﷺ، وهنا سورة الطلاق، لأنَّ الطلاق قبل الإسلام كان يُستعمل استعمالاً جائرًا مُجحِفًا بحقوق المرأة، وهناك سور أُخرى ذَكَرتْ ما يتعلَّق بالمرأة، وكلُّها فيها ما يدلُّ على أنَّ القرآن ليس مِن صنع إنسان، فلو كان مِن صُنع رجل فإنه سيدافع عن الرجال، أو مِن صُنع مزارع فإنه سيدافع عن المزارعين، أو مِن صُنع عامل فإنه سيدافع عن العمَّال، لكنَّ رب العالمين يُدافع عن الإنسان بغضِّ النظر عن ذكورته أو أنوثته وضعفه أو قوته، بل يدافع عن حقوق الإنسان لأنَّه إنسانٌ، مهما اختلف لونه أو جنسه أو دِينه أو قوميَّته.
عِدَّة المرأة
سبق معكم ما يتعلق بعِدَّة المرأة عند انفساخ العقد الزوجي سواء بالوفاة أو بالطلاق، فإذا حصلت بالوفاة فتُمسك المرأة عن الزواج أربعة أشهر وعشرة أيام، وإذا كانت حُبلى فتنتهي عِدتها وحرمة زواجها الأول إذا وَلدت ولو بعد ساعة، وأمَّا الطلاق فإنْ كانت المرأة مِن ذوات الحيض فعِدتها ثلاثة قروء، يعني ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار، وإنْ كانت المرأة لا تحيض كصغيرةٍ أو آيسة مِن الحيض فعِدة الواحدة منهنَّ ثلاثة أشهر، ثمَّ بالنسبة للمطلَّقة فقد فرض الإسلام عليها أنْ لا تخرج مِن بيت الزوجية ما دامت في حدود الزوجية التي هي العِدة، فتبقى المطلَّقة في بيت الزوجية، وحيث يسكن زوجها، ولا يجوز لها أنْ تخرج، ولا يجوز للزوج أنْ يُخرجها، كلُّ ذلك سياسةٌ سماوية لمصلحة الرباط الزوجي حتَّى لا ينفصل.
وفي المذهب الحنفي إذا كان الطلاق الأوَّل أو الثاني تَرجع إليه زوجةً إذا نظر إليها بشهوة، أو لامسها بشهوة، يعني لو قبَّلها وهي مطلَّقة في أثناء العِدة في الطلقة الأُولى أو الثانية فماذا تسمَّى القُبلة في المذهب الحنفي؟ وماذا تعتبر؟ تعتبر رجعة، وإذا كان هو وإياها في بيت واحد ثلاثة أشهر، فنظر إلها أو لمسها لمسةً بشهوة، فتُعتبر رجعت إلى عقد الزوجية، [الشيخ يؤكد كلامه بسؤال الشيخ رجب ديب، لأن الشيخ رجب متعمق في المذهب الحنفي:] أليس كذلك يا شيخ رجب؟
التقوى مطلوبة وبشكل خاص في العلاقات الزوجية
ثمَّ ذكر الله عزَّ وجلَّ في الآيات في نفس السورة قوله: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق:4]، ثمَّ يقول: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ [الطلاق:5].
كلمة التقوى هنا جاءت في صدد بحث الطلاق، وهي لا تدلُّ على التقوى العام فقط، بل على التقوى بخصوص ما أورده القرآن مِن أحكام ومِن أوامر ومِن وصايا، يعني اتَّقوا الله أيها الزوجان! سواءٌ كانت المرأة أو الرجل.. فتقوى الله عزَّ وجلَّ أنْ تمتثل أمره فلا تخالفه، وأنْ تقف عند نهيه وحدوده فلا تتجاوزها.
احترام حقوق الإنسان مهما كان دينه
وليس بالأمر الغريب أنْ نسمع أو أنْ نقرأ وصايا الله عزَّ وجلَّ باحترام حقوق الإنسان سواءٌ في المرأة أو اليتيم أو الأسير أو الوثني الذي يَعبد الأصنام.
فمرة أتى وثنيٌّ إلى النَّبيِّ ﷺ يطلب مساعدةً ماليةً، فقال له النَّبيُّ ﷺ: ((أنتَ لستَ على دِيني فَلا أُعطيكَ))، هذا تعصُّب دِّيني ضدَّ حقوق الإنسان، والنَّبيُّ ﷺ كما قال الله تعالى في القرآن: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَر مِثْلُكُمْ﴾ [الكهف:110]، والذي ميَّزه عن البشر الآخرين وحي الله عزَّ وجلَّ وتشريعه الذي أنزله الله عليه.
وانصرف الرجل كسير القلب حزين الخاطر، فنزل روح القدس على سيِّدنا رسول الله ﷺ مبلِّغًا له رسالةً إلهيةً يُعاتب الله عزَّ وجلَّ بها سيِّدنا مُحمَّدًا ﷺ على معاملته للوثني حيث لم يقدِّم له المعونة التي طلبها، وسُجِّلت هذه المعاتبة في سورة البقرة في قوله تعالى يخاطب مُحمَّدًا ﷺ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ [البقرة:272] أي أنتَ لستَ مسؤولاً عن عقائد النَّاس وأديانهم، لتُدِيْن هذا [وتحكم عليه] مِن أجل دِينه، فكلُّ إنسانٍ حُرٌّ فيما يعتقد في نظر الإسلام، ولا يجوز للدولة الإسلامية ولا لأية جهة أنْ تُكرهه على أنْ يترك عقيدته ولو كان وثنيًّا.
القرآن يخاطب النَّبيَّ ﷺ بهذا القصة: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ [البقرة:272]، وفي آية أخرى: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاس حتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس:99]، ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [هود:118]، فهو الدِّين الوحيد الذي نصَّ على حرِّيَّة المعتقَد، وسَجَّلها مادةً في دستوره “القرآن”، مادةً خالدةً وأبديةً ما دامت الحياة على كوكب الأرض.
﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة:272]، أي مِن حيث العقيدة، ليس لك الحق في أن تمنع مساعدته مِن أجل عقيدته، ثمَّ لم يكتفِ القرآن بهذا فقط، بل حضَّ ورغَّب ودفع المسلم -بدءًا مِن النَّبيِّ ﷺ، وانتهاءً بكلِّ مسلمٍ- على أنْ يُساعد الإنسان ولو كان وثنيًّا، فيقول القرآن في نفس الآية: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْر فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ على أساس أنَّ الإنسانية كأنَّها شخص واحد ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْر يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة:272]، فلمَّا انقضى الوحي قال النَّبيُّ ﷺ: ((رُدُّوهُ عليَّ))، فأعطاه ضِعف ما كان ينتظر ذلك الوثني العابد للصنم أنْ يُعطى .
وصية الله تعالى بالأقارب أشد
لقد وصَّى الله عزَّ وجلَّ أيضًا الإنسان بالإنسان القريب مِن مُواطِن أو مِن قريب أو مِن رحم وخصوصًا من الوالدين: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء:23]، بعد وحدانية الله عزَّ وجلَّ نصَّ مباشرةً على الوصاية بالوالدين: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ [لقمان:14].. صلة الرحم والعناية بالأقارب، فكان ﷺ يقول: ((مَن أَحَبَّ أنْ يُطالَ في عُمُرِه، وأنْ تُعمَّرَ لَه الدِّيارُ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)) ، قَرابته إنْ كانت مِن طريق أمه كأخواله وفروعهم، أو مِن طريق والده كأعمامه وفروعهم.. وأوصى الإسلام بالجار وبالرفيق وبالأسير المحارِب الذي هو العدو، أوصى به في قوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ [الإنسان:8]، لقد أوصى بالعدو الأسير كما يوصي بالمواطِن الفقير وباليتيم المواطِن، فجمع الأسير العدو المقاتل مع مَن تتأكَّد العناية بهم والرحمة لهم، فهل هذا صُنع إنسانٍ أم صُنع خالق الإنسان؟ فلا تستقيم حياة الإنسان إلَّا بقانون خالق الإنسان، الذي لا يتعصَّب لقومية ضد قومية، ولا للون ضد لون، ولا لدِين في المعاملات الإنسانية ضد دِين آخر.
هذا الذي يجب أنْ تقوم به هيئة الأمم، وأن يكون قانونًا ودستورًا لها بلا تحيُّزٍ ولا رعايةٍ لمصالِحَ محدَّدةٍ لدولة معينة، هذا يجب أنْ يكون قانون هيئة الأمم الذي ما شُرعت قوانينها إلَّا للإنسان.. ولكنْ مع الأسف فإن الإنسانَ غيرَ الرباني لا يُمكن إلا أنْ يتحيَّز لنفسه وأنانيته الشخصية أو القومية أو العِرقية أو الوطنية.. إلخ.
ذِكر أحكام الطلاق
ثم ذكر الله عزَّ وجلَّ الآن ما يتعلَّق بأمور الطلاق، ففي أول السورة قال موصيًا الزوجين: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ﴾ [الطلاق:1]، أيَّها الزوج المطلِّق لا تُخرِج زوجتك مِن بيت الزوجية، أبقها في بيتك ثلاثة قروء، يعني مقدار ثلاثة أشهر تقريبًا، فهو عندما يدخل في المساء سيراها وتراه، وفي الخروج سيراها وتراه، وقد يكون هو ليس متفرِّغًا ليطبخ، فمَن سيطبخ له؟ وزيرة الداخلية، [يُقال في العامية السورية عن الزوجة “وزيرة الداخلية” وذلك على سبيل الملاطفة والمداعبة] وإذا كانت مطلَّقة وقد حصل بينهما بُعد فهل ستخرِّب الطبخة أم سترتِّبها وتضع لها الفلفل والقرنفل والسَّلَطات والمشهيات؟ وعندما تقدِّمها له هل تقدمها مثلما كانت تقدِّمها برائحة الطبخ أم ستلبس أحسن لباسها؟ صار الأمر تحدٍّ وصراعاً، مَن الذي سيغلب؟ وربما تتعطَّر فتقدِّم له السفرة أحسن ممَّا كانت تقدِّمها له، وبلباسٍ أجملَ مِن اللِّباس قَبل الطلاق، وبرائحةٍ أحسن، وربما تضحك له، وإذا ضحكت له ربما هو يضحك لها أيضًا، ثم يقول لها: اقعدي وكلي معي.. فالله عليم حكيم.
تأكيد البقاء في بيت الزوجية
ثمَّ هنا يؤكَّد الله تعالى البقاء في بيت الزوجية فيقول: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ﴾ [الطلاق:6]، هناك قال: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ﴾ [الطلاق:1]، هذا نهي، ﴿وَلَا يَخْرُجْنَ﴾ [الطلاق:1]، وهذا نفي، وهنا يوجد أمر، ﴿أَسْكِنُوهُنَّ﴾ [الطلاق:6]، كم يؤكِّد الله عزَّ وجلَّ على الزَّوج وعلى الزوجة أن تبقى الزوجة في بيت الزوجية، ولِمَن يوجِّه الخطاب هنا؟ للرجل، ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ﴾ للرجل، و﴿أَسْكِنُوهُنَّ﴾ للرجل، ﴿وَلَا يَخْرُجْنَ﴾ خُوطبت المرأة مرة واحدة في البقاء في بيت الزوجية، وهذا مِن الفقه، فكيف يتزوَّج الرجل والمرأة وهما لا يفقهان الأحكام الزوجية التي أمر الله عزَّ وجلَّ الزوجين بها، ولا يعرفان المناهي والمحرمات؟ ولكنهما مِثل الحيوانات، فهل القط عندما يتزوج القطة يعرف أحكام الطلاق وأحكام المعاشرة وحقوق الزوجة؟ وعندما تتزوَّج الكلاب لا تعرف سورة الطلاق ولا سورة النساء ولا سورة المجادِلة.. وهذا لا يجوز شرعًا وعقلاً ومنطقًا ومصلحةً.. أنا لو كان الأمر بيدي لا أسمح قانونًا بالزواج حتَّى يُفحَص الزوجان، ويكون امتحانًا شفهيًّا وتحريريًّا واختباريًّا نفسيًّا مِن أول خطوة في الخِطبة إلى آخر نَفَس في الحياة.
اهتمام الإسلام بأحكام الأسرة
أنتِ أيَّتها الزوجة هل تعرفين كيف تُعاملين الزوج؟ وهل تعرفين حقوق الزوج؟ وأنتَ أيها الزوج هل تعرف أحكام الطلاق؟ وهل تعرف حقوق الزوجة؟ وهل تعرف كيف تُربِّي الأولاد؟ لأن الزواج ليس فقط لذَّة حيوانية كما تفعل القطط والكلاب، بل يوجد هنا بناء الإنسان، فأنتم تُنشئون مصنعًا لإنتاج الإنسان، فإذا كنتَ لا تفكِّر إلَّا بالنزوة وبالشهوة فأنتَ ما خرجتَ عن قانون الكلاب والقطط والذباب والحيوان، أمَّا التشريع الإلهي فقد جعل لك تشريعًا ليكون مِن عملية الزواج عملية صناعية تُخْرِج وتُنْجِب الإنسان الفاضل: ((إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ)) .
انظروا إلى الإسلام في تربية الإنسان، وأنْ يعمل الإنسان الخير ولو بعد موته، لم يَدْعُه الإسلام إلى أنْ يعمل الخير في حياته فقط، بل قال: إذا متَّ يجب أنْ يكون لك عملٌ بعد الموت، وعمل الخير النافع يجب أنْ يكون مستمرًّا، فالعمل النافع إمَّا أنْ يكون ماليًّا كالصدقة الجارية، فتُوقِف وقفًا لجهة علمية أو دينية أو للفقراء، أو تترك وراءك عِلمًا كأن تكون قد علَّمت طُلابًا يُعلِّمون مَن وراءهم، أو كتابًا وكتبًا تجعلها وقفًا لطلاب العلم، أو أنْ تترك ولدًا صالحًا، يعني عليك أنْ تفكِّر بالزواج ليس في حال الحياة فقط، بل عليك مسؤولية بعد الوفاة، وهي أنْ يكون ولدك صالحًا لتكسب دعاءه، وليكون عضوًا نافعًا في المجتمع.
وهنا يأمر الله تعالى تكملةً للحرص على إصلاح وترميم هدم الطلاق بأنْ يبقى الزوجان في بيت السَّكن فلا تخرج الزوجة خارجه، قال: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ﴾ [الطلاق:6] هذا الخطاب موجَّه للأزواج.
مقتضى العلم التطبيق
مَن كان منكم يقرأ سورة الطلاق ويطبِّقها فليرفع أصبعه.. [يبدو أنه لم يرفع يده إلا عدد قليل جداً من الحضور، وذلك حياءً وبُعداً عن تزكية النفس، ثم يتابع سماحة الشيخ حديثه معلِّماً وشاحذاً للهمم فيقول:] إذًا أنتم تقرؤون القرآن لا للفهم ولا للعلم ولا للعمل.. الإيمان بالقرآن لنعمل به، فإذا كنت عطشانًا فأعلَمَك رجل أنَّ في هذا الماء جرثوم الكوليرا، فهل صار عندك علم؟ نعم.. وهل يقتضي هذا العلم أن تشرب أو لا تشرب؟ أنْ لا تشرب، وإذا قالوا لك: هذا كأس نقي معقم وفيه العسل، وأنت عطشان فما مقتضى العلم؟ أنْ تشرب، فإذًا زواجكم جاهليٌّ وليس زواجًا قرآنيًّا ولا زواجًا إسلاميًّا، ولا أريد أن أقول: إنَّه الزواج بمنطلق الدافع الجسدي كما هو حال الحيوان.. إن الزواج إذا كان بزوجة عالِمةٍ ومتعلِّمةٍ ومؤمنةٍ، قد دخل العلم في أعماق قلبها حتَّى تتجلَّى فيها أحكام الشرع أعمالاً وأخلاقًا وسلوكًا، ثم أنجبتْ لك ولدًا -ولو كان أعورَ أو كان أسود- فهذا يُثمَّن بأكثر مِن وزنه ألماسًا وجوهرًا، أمّا إذا ربَّت لك ولدًا جاهليًّا لا يَعْلَم كُوْعَه مِنْ بُوْعِه! ولو كانت ملكة جمال.. لا أريد أن أقول: بئست هذه المرأة.. لكنْ عليك أن تُعَلِّمها وتأخُذها إلى مجالس العلم، وعلى أمِّها أو أختها أو صديقتها أن يأخذوها.
التشديد على سكنى المطلقة
﴿أَسْكِنُوهُنَّ﴾ [الطلاق:6]، هذه الآية أشدُّ مِن الآية الأُولى، الآية في أوَّل السورة: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ﴾ [الطلاق:1]، هذا نفي ونهي، وهنا أَمرٌ، قال تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ﴾ [الطلاق:6]، يجب عليه أن يُسكنها في المكان الذي يجده وهو في ميسوره، وإذا لم يكن عنده إلَّا خيمة فهذا ما وجده [وهناك تسكن]، وإذا كان لا يوجد عنده إلَّا غرفة فيسكنها في زاوية من الغرفة.
﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ﴾ [الطلاق:6]، من يقرأ القرآن منكم فليرفع أصبعه، [الشيخ يخاطب أحد الحضور ممازحًا:] أبا صلاح ألا تقرأ القرآن؟ لماذا لم ترفع أصبعك؟ إذن كلكم تقرؤون القرآن، فإذا أتاك مكتوب مِن صديقك أو عميلك أو ابنك فهل تقرؤه للفهم أم تقرؤه لغير الفهم؟ فهل مكتوب ابنك أعظم أم مكتوب الله عزَّ وجلَّ؟ فلماذا تقرؤون القرآن مِن غير فهم؟ ولماذا تقرؤون القرآن لئلا تنفِّذوا أوامره، ولا تعملوا بوصاياه؟ الإيمان بالقرآن هو أنْ تعمل به، أمَّا إذا كنتَ تُؤمن به وتُخالف أحكامه فأنتَ غير مؤمن، وأنت ﴿مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة:41]، فمَن منكم طلَّق زوجته وما أَخرجها مِن البيت، وامتثل أمر الله تعالى في قوله: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ﴾، وامتثل نهي الله عزَّ وجلَّ: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ﴾ [الطلاق:1]؟ أو مَن منكم استقرَّ بفهمه وبذهنه إذا طلَّقها أنَّ الله عزَّ وجلَّ وصَّى بأن لا يُخرجها، وأكَّد ذلك بأنْ يُسكنها في بيت الزوجية؟ ولكن الرجل اليوم يقول لها: اخرجي من بيتي، وهي تقول له: لن أقعد عندك لو أتى أهل الأرض كلهم.. ويأتي النَّاس إلى أبيها وأمها وأخيها يقولون لهم: اتركوها في البيت، فيقول الأب: لا أتركها له أبدًا.
فهل هذا الرجل جاهلي أم قرآني وإسلامي؟ هو وأبوه وعمه وخاله والحَمَايَة وأخت الزوجة كلهم جاهليون.
كان حقاً نصر المؤمنين العاملين بشرع الله وليس من آمنوا بأقوالهم
الخطيب على المنبر يقول: اللَّهم انصر الإسلام والمسلمين.. المسلم هو الذي استسلم وانقاد لأوامر الله عزَّ وجلَّ، فهذا إذا لم يفهم أوامر الله بعد، فكيف يمتثلها ويطبُّقها؟ فأين نحن مِن الإسلام؟ خطيب وشيخ آخر يقول: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47]، المؤمنون الذين تلقَّوا رسالة النَّبيِّ ﷺ، وهي ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ يعني درس القرآن علمًا وعملاً وأخلاقًا وسلوكًا، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ واستعمل العقل بكلِّ طاقات العقل والفكر والتَّخطيط والاتِّعاظ بالتَّاريخ، ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة:129] تزكَّت نفسه وتطهَّرت مِن رذائلها، وبدَّلت فضائلها برذائلها، هذا هو الإسلام، وهذا هو الإيمان.. وهؤلاء الذين يحملون هذه الأوصاف هم الذين أوجب الله عزَّ وجلَّ على ذاته أنْ ينصرهم على عدوهم، لأنَّ عدوهم هو الظالم الجائر المستبد المعتدي على الإنسان، والله عزَّ وجلَّ يفرض على المؤمن أنْ يحارب هذا الإنسان الوحش الظالم المعتدي كائنًا مَن كان، ومهما كانت لغته أو لونه أو ما يدَّعيه مِن دِين.
الحكمة في أمر الله عزَّ وجلَّ بسكنى المطلقة
﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ﴾ [الطلاق:6]، قال قتادة الذي يُعتبر شيخ المفسرين: “يُسكنها ولو في جانب بيته”، والبيت هو غرفة المبيت والنوم، يقول لها: أنت نامي هناك، وأنا أنام هنا.. وماذا سيأتي في فكره إذا نامت قَبله؟ وإذا هو نام قبلها ألا يخاف مِن غارة منها؟ غارة جوية سماوية من فوق، [يقول ذلك سماحة الشيخ بأسلوب فكاهي، مُوَضِّحاً أنهما سيعودان سريعاً إلى العلاقة الزوجية، وتَنْحَلّ مشكلة الطلاق بينهما] أليس الله تعالى عليمًا بشؤون خلقه؟ يقدِّم لنا وصاياه التي كلُّها حكمةٌ، وكلُّها حياةٌ وصلاح وسعادة، ونحن نقرأ ولا نفهم.. يوجد للقرآن أربع عشرة قراءة، ونحن نقرأ على القراءة الخامسة عشرة، وهي قراءة مذكورة في القرآن في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5]، إذا حمَّلنا الحمار التوراة والإنجيل والزبور والقرآن فماذا يستفيد؟ وإذا كان الحمل مئتي كيلو فيستفيد أنه يُكسَر ظهره.
وهكذا القرآن اليوم كسر ظهور المسلمين، لأنَّهم يُحاربونه ويَهجرونه: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان:30]، أولئك كانوا وثنيين وكانوا جاهليين، والمسلم اليوم يدعي الإسلام ويؤمن بـ”لا إله إلَّا الله مُحمَّد رسول الله”، يعني أنه لا يأخذ التشريع إلَّا مِن الإله الواحد ومِن طريق رسالة الرسول ﷺ التي أرسلها الله عزَّ وجلَّ إليه.. فإذا كنتَ تطبِّق القرآن فأنتَ مِن أهل “لا إله إلَّا الله مُحمَّد رسول الله”، وإنْ كنت لا تطبِّق، فتقرأ ولا تفهم، وتقرأ ولا تعلم، فأنت كالحمار إذا حمل الكتب، فهل يصير بذلك عالـمًا؟ بل يكون حاملاً فقط.
﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ﴾ [الطلاق:6]، فهل أنتم مستعدُّون لأنْ تؤمنوا بهذه الآية وتستسلموا لحُكمها؟ الذي فهمها منكم وهو مستعدٌّ للتطبيق فليرفع أصبعه! [هنا يسأل سماحة الشيخ الحضور في المسجد] هكذا يجب أنْ نعلِّم النَّاس القرآن، ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)) .. ثمَّ مهما سمعتم في جلستكم هذه، فإنّ القرآن لا يتحوَّل إلى عِلم وخُلُق وسلوك إلَّا بالمربي والمزكي والحكيم، لذلك وجبت الهجرة في زمن رسول الله ﷺ، ليدخل الإنسان المسلم تحت إشراف النبوة ووحي السماء حبًّا وروحيًّا وقلبيًّا، ولينعكس فيه كلُّ قانون السماء، ليكون الإنسان الفاضل الذي تخيَّله الفلاسفة والحكماء على أوراقهم، ولكنَّ النبوة كتبت الإنسان الفاضل، وكتبتِ الفضائل في لوحة الإنسان وعقله وحياته وسلوكه، مع أنَّه كان إنسانًا ابنَ الصحراء.. وهذا يدلُّ على صدق النبوة.
معجزة النَّبيِّ ﷺ في التشريع
النَّبيُّ ﷺ صنع ما عَجَزت عنه الفلاسفة، وكان في الوقت ذاته أميًّا.. إذا صار هذا العمود ينطق بالحِكَم، فهذا يعني أنَّ هذا أمرٌ خارقٌ وهو أمرٌ إلهيٌّ، لأنَّ العمود لا ينطق، وكذلك فإن الأمِّيّ في وسطٍ أُمِّيٍّ ووثنيٍّ وخرافي إذا استطاع أنْ يصنع دِينًا يمضي عليه خمسة عشر قرنًا وهو لا يزال في التَّوسُّع.. والشيوعية ملكت نصف العالم، ولكنها ما استطاعت أنْ تصمد سبعين سنةً، فعلى ماذا يدلُّ هذا؟ يدلُّ على أنَّ مُحمَّدًا رسولُ الله، وأنَّ رسالته مِن مصدر الخلود، فاتَّخذت صفة الخلود.. أما القوانين البشرية فقد صَدَرت مِن الإنسان الفاني فطبيعتها الفناء والتبدُّل والتغيُّر.. وتوجد في الإسلام أحكامٌ تتبدَّل وتتغيَّر بحسب مصلحة الإنسان، وهناك ثوابتُ لا تتغيَّر لأنَّ ظروفها لا تتغيَّر، مثلًا الله عزَّ وجلَّ واحدٌ، فلا يمكن أن يصير له ولدٌ أو وليّ عهد من أخ أو ابن عم، ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص:3].
النهي عن الإضرار بالزوجة
قال تعالى: ﴿وَلَا تُضَارُّوهُنَّ﴾ هذا أمرٌ ثانٍ ﴿لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ [الطلاق:6]، فإذا كانت في بيتك فلا يجوز أن تضايقها وتحضر لها شخصًا ليسكن معها في البيت، أو تقول لابنك: سبها أو اشتمها، أو أن لا تحضر لها طعامها أو تطفئ الكهرباء عليها، أو تستمر بمضايقتها لتهرب وتخرج مِن البيت.. عندما يضع الله عزَّ وجلَّ قانونًا فإنه يعمل كل الوسائل كي ينفَّذ القانون ولا يُعطَّل، لأنَّ الأنا والهوى في الإنسان أو ما تسمى بالمصلحة الشخصية موجودة، وقد تكون هناك المصلحة القومية للأمة، ففي دِين الله لا أنانية ولا شخصية، وأمَّا مصلحتك الشخصية فيجب أنْ تكون تحت الإرادة الإلهية، لأنَّ الإرادة الإلهية لا تتحيَّز لجهة دون جهة: ((الخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللهِ، وَأَحَبُّ الخَلْقِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ)) .
قال تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ يعني اعدلوا بين النَّاس ﴿شُهَدَاءَ لِلَّهِ﴾ إذا كنت شاهدًا فلا تشهد أو تمتنع عن الشهادة لمصلحتك، بل تشهد أداءً لحقِّ الله عزَّ وجلَّ كما شاهدتَ وعلمتَ ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ إذا كنتَ مذنبًا تشهد على نفسك أنَّك مذنبٌ ﴿أَوِ الْوَالِدَيْنِ﴾ إذا كان الوالدان مذنبَين فتشهد على أمك وأبيك ﴿وَالْأَقْرَبِينَ﴾.. قال: إذا كان الشخص المشهود عليه فقيرًا وشهادتك ربما تضره يجب عليك أنْ تشهد عليه، فالحق فوق الفقر، قال الله تعالى: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾، خالقه هكذا يأمر، فالله أرحم به مِن رحمتك به، ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى﴾ [النساء:135] الهوى: أي المصلحة والأنا، ودائمًا الذي يخرِّب دِين النَّاس هو الأنا، فالأنا عند الغضب تحب البطشَ وتحب التعدي، وعند الطمع تحب أنْ تأخذ ما ليس بحق لها، وفي السهرات الأنا تحب أنْ تتسلَّى ولو على حساب أعراض النَّاس وكراماتهم.. فالإيمان أنْ تتغلب التقوى على الأنا وعلى الهوى.
مَن غلبه الهوى فهو ليس مِن الموحِّدين
وإذا غلبت أناك تقواك فأنت لستَ مِن الموحِّدِين لله عزَّ وجلَّ، بل أنتَ مشركٌ، يقول الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية:23]، يقول: أنا متخرج مِن الأزهر.. ولكن أنتَ تتبع الهوى ولا تتبع التقوى، إذن فأنتَ مشركٌ، وهذا هو الشرك الخفي.. يقول: أنا معي دكتوراه بالشريعة، ما فائدة الدكتوراه بالشريعة إذا كنتَ تدوس على الشريعة؟ فإن كنت حاملاً للدكتوراه عليك أنْ تضع الشريعة فوق رأسك، وفي أعلى قمة، ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْم﴾ [الجاثية:23]، العلم إذا كان عِلم القال والقيل فلا يتغلَّب على الهوى، وأمَّا العلم الذي يغلب الهوى فهو علم القلب والعلم النافع، وهناك علمٌ يُستعاذ منه كما يُستعاذ مِن إبليس، كما تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يقول النَّبيُّ ﷺ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ)) .
لا تغترَّ لو جئت إلى الدرس، وذهبت إلى الجامع، وقرأت القرآن، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْب﴾ [ق:37]، ما هو القلب؟ القلب هو النفس والروح والعقل الذي تغلَّبت فيه محبة الله تعالى وعِشق الله وامتثال أوامر الله عزَّ وجلَّ على كلِّ ما تهوى وترغب، فإذا كان هناك بيع أو شراء ويوجد فيه ربح يجب عليك أن تقول: نفسي تطلب الربح، فهل يوافق الله عزَّ وجلَّ على هذا الربح؟ هل هو حلال؟ فإذا فعلتَ ذلك فأنت موحِّدٌ مسلم، وإذا رجَّحت الربح الحرام على حُكم الله عزَّ وجلَّ فأنت مشرِكٌ، لماذا مشرك؟ لأنك جعلتَ كلام الله عزَّ وجلَّ وراءك ظِهرِيًّا: ﴿اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان:30].
فلا تغترَّ بصلاتك! فكم مِن مُصلٍّ كما ورد في الحديث القدسي: ((لَيْسَ كلُّ مُصلٍّ يُصَلِّي، إِنَّمَا أتقبَّلُ الصَّلَاة مِمَّن تَواضَعَ لِعَظَمتي، وكَفَّ شَهَواتِه عن مَحارِمِي، ولم يُصِرَّ على مَعصِيتي، وأَطعَمَ الجائعَ، وَرَحِمَ الفَقيرَ، وَآوَى المسكِينَ))، لا ليُنشَر اسمُه بالجرائد ويُمدَح بين النَّاس، قال: ((يَفعَلُ كلَّ ذَلكِ مِن أَجلِي)) خالِصًا مُخلِصًا للهِ.. هذا هو المؤمن، وهذا هو المسلم الحقيقي، وهذا هو المسيحي الحقيقي، أمَّا إذا خرج عن هذه التعاليم فهذا يعبد نفسه وهواه: ﴿اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ ولو كان عالـمًا! ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الجاثية:23] فمَن يشرب الماء المسموم ولا يعلمه هل يكون مُعاتَبًا ومسؤولاً مِثل الذي يشرب السم ويَعْلَمُه؟ هذا اسمه منتحِرٌ، أمَّا ذاك فاسمه مخطِئٌ في شربه، ولا يَعلم وجود السم في مائه.
وصايا لأجل المرأة
قال تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ﴾، عند الطلاق ﴿لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ [الطلاق:6]، بأن تعمل كلَّ الأسباب التي تُؤذيها من قولٍ أو عملٍ أو طعامٍ أو ضياءٍ أو خدمةٍ أو غيره لِتُلْجِأَها للخروج.. ﴿وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْل فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ [الطلاق:6]، هذا كلُّه وصايا وانتصار لِمَن؟ لحقوق المرأة، أمَّا اليوم فإن المرأة الجاهلية والرجل الجاهلي يريدان أنْ يقلِّدا كلَّ شيء يفعله الغرب ممَّا أفسد على الغرب أخلاق مجتمعه، فقد ضاعت المرأة في الغرب لأنَّها لا تعرف بأنَّ لها زوجًا حقيقيًّا، والزوج لا يعرف أنَّ له زوجةً حقيقيةً.. وهم يعيبون على المسلمين تعدُّد الزوجات، مع أنَّ تعدُّد الزوجات في المجتمع الإسلامي هو ثلاثة معدِّدِين في كل ألف زواج، وذلك حسب الإحصاء [الرسمي].
عدة الحامل:
قال تعالى: ﴿وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْل﴾ [الطلاق:6]، أي المطلَّقات، انظر أيضًا إلى هذه الرعاية! قال: ﴿فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ﴾ [الطلاق:6]، مع أنَّ هذا ابنها.. وهي إن كانت حاملاً أو ترضع ولدها ولكي تعيش تحتاج إلى عمل، قال: لا تُكلَّف الحامل أو المرأة بالعمل لتُنفق على نفسها وعلى جنينها، بل على الزوج المطلِّق أنْ يُنفق عليها وعلى حَملها، حتى إذا وَلَدته: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ﴾ هذه حقوق المرأة بالرضاع ﴿فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الطلاق:6]، أي يجب أنْ تأخذ أجرته مِن الرجل، فأيُّ مناصَرةٍ للمرأة! ولكن ممَّن؟ مِن خالق المرأة، وكذلك رَحِم الله عزَّ وجلَّ الرجل، وكذلك رحم الحيوان، فقال ﷺ: ((الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ في الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)) .
وجوب المعاملة بالمعروف
﴿وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوف﴾ فإذا طلبتْ أجرة ًأكثر مِن العادة المطلوبة أو هو لم يرضَ بدفع الأجرة الطبيعية، واختلفوا في أمور الرضاعة قال: يكون الحُكم في هذه القضية بالشكل المتعارَف عليه، بحيث لا يكون إجحافٌ على الوالد، ولا إجحاف بحقوق المطلَّقة المرضِعة، وقال: ﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ﴾ لو طلبتْ أجرةً أكثر مِن العادة المطلوبة، أو طلبت الأجرة المعتدلة فأبى.. قال: ﴿فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾ [الطلاق:6]، فهي لا تُجبَر إذا لم تُعطَ حقها الكامل الشرعي.
ثم قال: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَة مِنْ سَعَتِهِ﴾ [الطلاق:7]، هنا توجَّه القرآن إلى ضمير الزوج وإلى وجدان الرجل فقال: حكِّم وجدانك أيها الرجل وحكِّم ضميرك.. هذا الضمير صوتٌ إلهي يجعله الله عزَّ وجلَّ داخل الإنسان.. والإنسان يستطيع أنْ يربِّي وجدانه وضميره بالوصايا التي جاءت مِن الذي خلق الضمير والوجدان، وإذا ما أهملتَ تغذية ضميرك ووجدانك، فلم تُغَذِّه بالوصايا الإلهية والأخلاق القرآنية، فإنّ كل شيءٍ إذا لم يغذَّ يضعف ثمَّ يموت، فالقاتل عندما يقتل أين ضميره؟ مات ضميره، والذي يغش أو يخون، أين ضميره؟ مات، لماذا؟ جسدك إذا لم تُغذِّه يموت، والشجرة إذا لم تُغذِّها تموت، والحيوان إنْ لم تُغذِّه يموت، فتغذية الضمير هي بمادة الإيمان وبمادة الوصايا الإلهية.
يقول النَّبيُّ ﷺ: ((إِذَا سَرَّتْكَ حَسَنَتُكَ)) إذا عملتَ الخير فسُررتَ وفرحتَ بما تعمل ((وَسَاءَتْكَ سَيِّئَتُكَ)) وإذا عملت السوء وانزعجَتْ نفسك مِن هذا الخطأ ((فَأَنْتَ مُؤْمِنٌ)) ، إذًا فالضمير الذي يحب الحسن والجميل ويكره القبيح والمؤذي، هو ضمير المؤمن، وإذا كان لا يفرِّق بين الخير والشر، أو يعمل الشر ويترك الخير فقد مات ضميره، لأنَّ ضميره لم يُغذَّ بالإيمان بالله عزَّ وجلَّ والإيمان بوصاياه.
الإنفاق حسب السعة
قال تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَة مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ [الطلاق:7]، “قُدِر”: يعني كان رزقه ضيقًا، كما في قوله تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء:87] “نقدر”: ليست مِن القدرة التي هي ضد العجز والضعف، نَقْدِرَ يعني نضيِّق، وهنا أيضًا ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَة مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ [الطلاق:7]، يعني ضُيِّق ﴿فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾ [الطلاق:7]، الفقير يُنفق على المطلَّقة بحسبه والغني بحسبه، فالغني إذا كان يأخذها ويحضرها بالسيارة عندما تريد الذهاب إلى مكان ما وهي مطلَّقة، فإذا رآه الناس يرسلها بالسيارة لا يطمع بها أحد، ويظنون أنه لم يطلقها، ويقولون لبعضهم: هو لم يطلقها إذن، وهذه سيارته معها.. ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَة مِنْ سَعَتِهِ﴾ [الطلاق:7].. أليس الله عزَّ وجلَّ عليمًا حكيمًا رحيمًا، يحب الإنسان؟ لكنَّ الإنسان لا يحب نفسه، وهو إذا خرج عن مخطَّط الله عزَّ وجلَّ يكون مِثل المريض إذا خرج عن مخطَّط الطبيب، واستبدل بالدواء ولو كان مُرًّا الطعام المضرَّ له وإنْ كان حلوًا، فاتَّبع شهوته وهواه، وترك العلم وتقواه.
الأحكام الإلهية كلها معقولة وكلها لمصلحة الإنسان
قال: ﴿وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ [الطلاق:7]، فأحكام الله عزَّ وجلَّ ليست ممَّا يُعجز العقلَ فهمُه، فالأحكام الإلهية كلُّها معقولةٌ، وكلُّها لمصلحة الإنسان، وهذا في الطلاق لو حدث طلاقٌ.. ولكنّ الإسلام ببرنامجه لا يصل الزوجان إلى مرحلة الطلاق حتَّى يجتازا عدة إشارات حمراء: “قف”، فإذا كانت الإشارة الحمراء، هل يمكن أنْ يجتازها الإنسان؟ لقد فرض القرآن الوقوف، وبهذا الوقوف يُعالَج أمر الزوجين بالتقريب بينهما، وعدم هدم عش الزوجية، فأين المطلِّقون مِن أحكام القرآن؟ إذا سألتَه: هل أنتَ مؤمنٌ بالقرآن أم كافر؟ يقول: أنا مؤمن، لكنْ هو ﴿مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة:41]، فهل هذا الإيمان هو الذي أوجب الله عزَّ وجلَّ نصرةَ صاحبه؟ وهل هذا الإيمان هو الذي أوجب الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق:2]؟
كلنا سنموت، فإذا متم فشهادتكم الدكتوراه والليسانس والماجستير هل تدخل معكم في القبر؟ وهل تنفعكم أو تدفع الأذى عنكم؟ وهل ينفعكم مالُكم وجاهكم وجمالكم وشبابكم وشهادتكم وعائلتكم ووظائفكم؟ كلُّ هذا متاع الحياة الدنيا، فإذا انتهت هذه الحياة [انتهت كل هذه المتع].. والدنيا يعني الصغرى الحقيرة بالنسبة للحياة الروحية الربانية، والإسلام ما شرع شيئًا لحياتك الروحية على حساب حياتك الجسدية: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة:201]، و((الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ)) .
التشريع أوجب على المسلم الغنى
التشريع الإسلامي القرآني أوجب على كلِّ مسلمٍ أنْ يكون غنيًّا، فالإسلام يُحارب الفقر حتَّى يتغلَّب عليه بالغِنى، وجعل الغِنى للمؤمن أَحد الأركان الإسلامية الخمسة، لأن أَحد أركان الإسلام، بل ركنين مِن أركان الإسلام لا يُمكن أداؤهما إلَّا بالغنى والثروة، [وهما الزكاة والحج]، فالزكاة ركنٌ ماليٌّ بحتٌ، وقد جَعَلها الله عزَّ وجلَّ ركنًا.. ما معنى ركن؟ الصَّلاة ركن، ﴿أَقِمِ الصَّلاة﴾ [الإسراء:78] يعني كن مصلِّيًا، فهل “كن مصلِّيًا” بوضوء أم بلا وضوء؟ أليس مِن شرائط الصَّلاة الطهارة؟ فإذا قال الله عزَّ وجلَّ لك: ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة:43]، “آتوا الزكاة” يعني كنْ غنيًّا لتؤدِّي الزكاة، والغنى بماذا يكون؟ يكون بالعمل ويكون بالهمة ويكون بالسلوك ويكون بالأخلاق ويكون بالجد وبالاجتهاد وبالسهر وبالتعب، أمَّا بالكسل وبالجهل وبتضييع عمر الشباب باللهو والبطالة، فهل يصير غنيًّا؟ هذا الطريق إلى الفقر وإلى الفاقة.
والغنى على قِسمين: غنًى مذموم، وغنًى محمود، فالإسلام دعا إلى الغنى المحمود، والغنى المحمود هو أنَّك إذا كنتَ غنيًّا عليك أنْ تعطف وتساعد بثروتك الإنسان الضعيف الفقير.. والإسلام دعا إلى هذا الغنى، وذمَّ ذلك الغنى الممزوج بمنع حقوق الإنسان الضعيف الفقير المحتاج، ووصفهم بقوله: ﴿ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ﴾، هل يبخلون بما يملكون أم بما لا يملكون؟ إنّ البخل لا يكون إلَّا بما تملك، ولكن هناك بخل أسوأ مِن هذا البخل، قال: ﴿وَيَأْمُرُونَ النَّاس بِالْبُخْلِ﴾ [النساء:37]، قد يكون فقيرًا لكنَّه ﴿مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيم﴾ [القلم:12]، فإذا صار النَّاس أغنياء هل قرأوا هذه الآية في ذمِّ الذين يبخلون؟ وهناك مَن إذا رأى شخصًا يُريد أنْ يعمل الخير لفقير أو لعمل خيري يصير مثل الشيطان، يقول له: لا تعمل كذا وكذا.. وماذا ينتفع بقوله؟ لا ينتفع شيئًا، وشأنه شأن الشيطان، وهو مِثل العقرب إذا قرص الإنسان ولدغه هل يستفيد العقرب شيئًا؟ فقط هو خبيث ومؤذٍ ومِن طبيعته الأذى.
قصة الضفدع وطبع العقرب
يذكرون قصةً بأنَّ عقربًا أراد أنْ يجتاز نهرًا وهو لا يعرف السباحة، فرأى ضفدعًا، فطلب منها أنْ تحمله إلى الجانب الآخر، والضفدعة تعلم بأنَّ العقرب مؤذٍ، فقالت له: أخاف أنْ تلدغني، لأنَّك مؤذٍ، فأعطاها العهود والمواثيق، وحلف لها الأيمان بأنَّه لا يؤذيها.. والشيطان مهما حلف لك بأنَّه لا يضلك وعليك أن تسمع نصائحه وأنه سيوصلك إلى الخير، فهو يعمل خلاف الطبيعة، ومُغَالِب الطبيعةِ مَغْلُوب، وهذه قاعدة فلسفية مُجمَع عليها.. فأعطاها العقرب كلَّ العهود والمواثيق والأيمان المغلظة أنْ لا يؤذيها.. ويجب أنْ لا نكون أغبياء، فالعقرب إذا حلف ألَّا يلدغ فهل تضعه في قميصك ثقةً بعهده ووعده وشرفه؟ ما شاء الله! إذاً كم تفهم وكم أنت ذكي إن فعلت ذلك! وبينما هما في منتصف النهر والضفدعة تحمل العقرب، لدغ العقرب الضفدع، ولدغة العقرب معروفة أنها تجعل الإنسان يصيح بشدة مِن الألم، فقالت له: ما هذا؟ أَمَا حلفت الأيمان؟ أَمَا أعطيت العهود والمواثيق؟ قال: لا تؤاخذيني، فالطبع غلَّابٌ، وأنا طبيعتي الأذى، والذي طبيعته الأذى يصعب أنْ يُخالف طبعه وطبيعته، فما استكمل الجواب، حتَّى غاصت الضفدع إلى قاع النهر وصار العقرب يُغالب أمواج النهر، وهو يصيح: أين العهد والميثاق؟ أما وعدتيني أنْ توصليني إلى الطرف الآخر؟ قالت له: لا تؤاخذني، فلَمَّا قلتُ لك: لماذا لدغتني؟ قلتَ لي: اللدغ طبيعة، وأنا أيضًا أقول: لا تؤاخذني، فالغوص في أعماق الأنهار مِن طبيعتي.. ودَقَّةٌ بدَقَّةٌ، ولو زدتَ لزاد السَّقّا.
لا يكلفنا الله تعالى بما لا نطيق
قال تعالى: ﴿وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾ [الطلاق:7]، ثم ذكر تبريرًا لتقبُّل أحكام القرآن فقال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ [الطلاق:7]، الله عزَّ وجلَّ لا يفرض عليك شيئًا لا تستطيع عمله، ولا ينهاك عن شيء لا تستطيع تركه، هل أمرنا الله عزَّ وجلَّ بأن لَّا نتنفس ساعتين في النهار؟ لا يمكن، هل أمرنا أنْ نمشي مغمضي العينين؟ هذا لا يمكن، كذلك لا يوجد أمر إلهي إلَّا في حدود الطاقة والاستطاعة، قال: وإذا قُدِر عليك رزقك وما استطعت أنْ تعطي الزوجة ما تتطلب حياتها في أثناء حبسها فلا تحزن -وهذا الحبس لمصلحتك- وأنتِ أيَّتُها الزوجة إذا لم ينفق زوجكِ عليك كلَّ ما ترغبين، قال: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْر يُسْرًا﴾ [الطلاق:7]، وهذا عزاء للزوج الفقير وعزاء للزوجة إذا عجز الزوج أنْ يؤدِّي لها كل ما تتطلبها حياتها.
ادِّعاء الإيمان نفاق
وهنا أدخل الله عز وجل الزوجين في مدرسة التربية والأخلاق والإيمان، هذا الإيمان الذي تنتقل به أوامر الله عزَّ وجلَّ في الإنسان إلى أعمال وأخلاق وسلوك.. وهذا هو الإيمان، أما ادِّعاء الإيمان بلا أداء الواجبات ولا ورع عن المحرمات وبلا تقيُّدٍ بوصايا الله عزَّ وجلَّ وحِكَمِه فاسمه نفاق، ومَن ادِّعى الإيمان، ولم يستجب لأوامره، ولم يقف عند حدوده، ولم يعمل بوصاياه فهل هذا اسمه مؤمن أم منافق؟ منافق، وأنتم هل آمنتم بالقرآن؟ هل آمنتم بكل آياته أم ببعضها؟ ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض﴾ [البقرة:85]؟ غدًا سيحاسبكم الله عزَّ وجلَّ، اليوم أنا أكلِّمكم ولا يتعلَّق بكلامي عطاء مني ولا عقاب، لكنْ غدًا سنقف بين يدي الله عزَّ وجلَّ، وهناك لا يوجد مَهرَب، تقول لله تعالى: “إن الله غفور رحيم”، يقول لك: أنا الله! وسأعذبك عذاباً شديداً، يا منافق ويا مدعي الإيمان كذباً، أَمَا كنت تقرأ في كلامي وقرآني: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [النحل:19]، ﴿إِنَّهُ عَلِيم بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الأنفال:43]، ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر:19]؟ كنت تستحي حتى من طفل، ولكن لم تكن تستحي مني، أَلَا تعلم أنِّي معك أينما كنتَ؟ أَلَا تعلم أنَّه لا يخفى عليَّ مِن عملك ومِن وساوس صدرك ونفسك شيء، ولا تخفى عليَّ مِن ذلك خافية؟ هل كنتَ مؤمنًا بهذا الكلام وبقرآني؟ فهل نحن آمنا بقوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق:16]؟
عندما توسوس لك نفسك أنْ تغدر أو تخون أو تغش أو تبدي في ظاهرك ما ليس في باطنك، لئلا تظهر فضائحك أمام جليسك أو أمام معارفك، فهل تؤمن بأنَّ الله عزَّ وجلَّ مطَّلِع على سرائرك؟ وإذا آمنت فهل عاملت الله عزَّ وجلَّ كما تُعامل طفلاً صغيرًا تستحي منه، أو إنسانًا عاديًّا لا يملك لك ضرًّا ولا نفعًا، ولا أنعم عليك بسمع ولا بصر ولا عقل ولا طاقة؟ الإيمان الحق والإيمان الحي أنْ تنعكس فيك كلُّ أوامره أعمالاً وأخلاقًا، وكلُّ محارمه ابتعادًا واجتنابًا، وكلُّ حِكَمه صوابًا ونجاحًا، وتنعكس في معارك الحرب انتصارًا وغلبةً على الظالم الجائر، وفي تجارتك ينعكس فيك التاجر الرابح، وفي صناعتك ينعكس فيك الإتقان والعمل الجيد، هذا هو الإيمان، وهذا هو الإسلام، وهذا ما أتى به إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السَّلام، ولكنْ نحن رجال الأديان ما أحسنَّا ترجمة رسالات الله عزَّ وجلَّ إلى أنبيائه ورسله، مثل المزرعة إذا فقدت مُزارِعها فإنّ زهورها تنقلب أشواكًا، وثمارها حطبًا، فلا تصلح إلَّا لتكون رمادًا تنتجها الحرائق والنيران.. نسأل الله عزَّ وجلَّ ألَّا يجعلنا كذلك.
عقوبة المخالف لأمر الله تعالى
قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَة﴾ يعني مِن أُمَّةٍ ﴿عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا﴾ [الطلاق:8]، عصت أوامره ولم تتقيد بشرائعه وقوانينه.. قال: لم تكن أُمَّة أو مدينة واحدة، بل مدناً وشعوباً وأمماً، خالفت أوامر الله عزَّ وجلَّ، وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ لنا منها في منطقتنا قوم نوح وقوم فرعون وقوم عاد وثمود وقوم شعيب في مدين، وكيف أهلكهم الله عزَّ وجلَّ لَمَّا عَتَوا عن أمر ربهم.
جعل الله عزَّ وجلَّ هذا التهديد هنا بعد أمور الحياة الزوجية والطلاق ليقول لك أيها الزوج: إذا أهلك الله عزَّ وجلَّ أممًا ﴿عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا﴾ [الطلاق:8] فكذلك يهلكك إذا عتيت عن أمر ربك، فظلمت المرأة وظلمت الزوجة، وهل تظنون بأنَّ الطلاق مباح؟ لا، النبي ﷺ يقول: ((أَبْغَضُ الحَلَالِ إلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ)) ، ولـمَّا طلق ابن عمر رضي الله عنهما زوجته وهي حائضٌ غضب النَّبيُّ ﷺ وتغيظ وأمره بمراجعتها ، ولـمَّا طلق أبو أيوب زوجته رضي الله عنهما، وأُخبِر النَّبيُّ ﷺ بذلك قال: ((إِنَّ طَلاقَ أُمِّ أَيُّوبَ لَهُو الحُوبُ)) ، يعني الوزر الكبير، ولَمَّا طلق النَّبيُّ ﷺ حفصة رضي الله عنها لأمور زوجية تقع في بيت الزوجية، وقد قال الله تعالى في شأن النَّبيِّ ﷺ: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَر مِثْلُكُمْ﴾ [الكهف:110]، وهل كانت حفصة رضي الله عنها ملائكة؟ حتى النَّبيّ ﷺ كان بشراً، وكان يقول: ((أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ البَشَرُ، وَأَرْضَى كَمَا يَرْضَى البَشَرُ، فأَيُّما مُسلمٍ سَبَبتُهُ أو شتَمتُهُ أو لَعنتُهُ فاجعَلْها اللَّهمَّ لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تقَرِّبُهُ بِهَا إليكَ)) ، وحفصة رضي الله عنه أيضًا تغضب كزوجة، وعائشة تغضب كزوجة، فلا عائشة معصومة، ولا حفصة معصومة، فلمَّا طلقها ﷺ نزل جبريل عليه السَّلام روح القدس يقول للنَّبيِّ ﷺ: ((رَاجِعْها فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ)) متهجِّدة قائمة الليل صائمة النهار، وهذه لا تُطلَّق، ولا يوجد مبرِّر لطلاقها، ((وَإِنَّهَا زَوْجَتُكَ فِي الْجَنَّةِ)) ، هذا النَّبيُّ ﷺ هكذا، فكيف بنا نحن؟
يجب أن ينعكس القرآن في أعمالنا
الله تعالى قال للنبي ﷺ: قف، طلاقك لا يصح أرجعها.. فكيف بنا نحن؟ ومن أنت؟ متكبر وجاهل.. ونحن لا نهتم بالله عزَّ وجلَّ ولا بالقرآن.. وفوق ذلك نقرأ القرآن، وتجد من هو هكذا قد حفظ القرآن كله! لكنْ هل فهم منه شيئًا؟ وهل انعكس فيه أخلاقًا وأعمالاً؟ فإذا لم ينعكس الطعام فيك طاقةً ودمًا ونشاطًا قد ينقلب فيك سمومًا وأمراضًا وأسقامًا.
قال ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَة﴾ يعني كثير مِن قرًى ومدن وشعوب وأمم ﴿عَتَتْ﴾ عصت وتمردَّت ﴿عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا﴾ عن أمر الله عزَّ وجلَّ ﴿وَرُسُلِه﴾ [الطلاق:8] وعن أوامر الرسل، والآن في المجتمع الإسلامي ألا يوجد فيه عُتُوّ؟ عندما يؤذِّن المؤذن يُؤْثِر أحدنا القهوة والملهى والغيبة والنميمة ولغو الكلام والسهرات على الموائد الحرام، يؤثر ذلك كله على الاستجابة إلى نداء الله عزَّ وجلَّ، أليس هذا عتوًّا؟ وتارك الصَّلاة وشارب الخمر أليس عتوًّا؟ ((الغِيبَةُ أنْ تذكرَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ وإِنْ كَانَ حقًّا)) ، قد يكون فيه نقص وذكرتَ نقصه وأنت صادقٌ فهذه غِيبة، وإذا ذكرتَ فيه نقصًا ولم يكن فيه فأنت أفَّاك وكذاب ومفترٍ، وفوق ذلك أنت مغتابٌ، ومع ذلك فإنك تقرأ في القرآن: ﴿وَيْل لِكُلِّ هُمَزَة لُمَزَة﴾ [الهمزة:1]، [ولكنك لا تبالي]، والويل يعني الهلاك.
وقد تكون نمَّامًا تنقل خبر هذا لهذا حتَّى تقع العداوة والبغضاء بين الطرفين، وكم مِن النَّاس يبلِّغ ويظن أنَّ له نيةً حسنةً! يقول: والله أنا أحبك، البارحة كنا في سهرة، وفلان قال عنك كلامًا، وأنا واللهِ انزعجت، لكنْ مِن باب قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء:58]، أنا أريد أنْ أؤدِّي الأمانة كما سمعتُ لا أزيد ولا أنقص.. هل آمن هذا بـقوله: ﴿وَيْل لِكُلِّ هُمَزَة لُمَزَة﴾ [الهمزة:1]؟ واللهِ إنه كافر بها.. وأنت عندما يبلِّغك شخصٌ بأنَّ فلانًا قال عنك كذا وكذا، واغتابك وانتقصك، فهل ستغضب أم لا وهل تتأثر أم لا؟ وهل ستنظر نظرة الحب إلى مَن بُلِّغتَ عنه أم نظرة الجفاء والقطيعة؟ هل هذا الحال إيمان أم كفر بالقرآن؟ هذا كفر، والله تعالى يقول: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ﴾ مغتاب ﴿مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ [القلم:10-11]، إذا مشى لك بالنميمة وقال لك عن أخيك أو أبيك أو عمك أو صديقك كذا، فالله تعالى يقول لك: لا تُطعه.. ونحن نجيب الله عزَّ وجلَّ فنقول له: لا، بل نريد أنْ نطيعه، يقول لنا: أنا الله خالقكم، نقول: حتى ولو كنت خالقنا! يقول: هذا قرآن ويجب أنْ تؤمنوا به لتصيروا مؤمنين، نقول: “بَلَا إيمانْ بَلَا بَلُّوْطْ”. [كلمة تستخدم في اللهجة السورية المحكية للاستحقار بشيء والاستخفاف به، والبَلُّوْط شجر معروف، ولكن الناس لا يهتمون به أبداً.. وتأتي الكلمة التي يُراد الاستخفاف بها قبل كلمة بلوط، ويكون المعنى: لا قيمة للإيمان عندي كما لا قيمة للبَلُّوط].
أليس هذا واقع النَّاس؟ تكلموا.. ثم نقول: ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:250]، مَن الكافرين؟ ألستَ أنت كافرًا بالقرآن؟ إذا كان الإيمان هو النطق، فإن شريط المُسَجِّل أيضًا مِن المؤمنين والمتقين الذين لهم جنات النعيم.. هل نحن في إيماننا أطفال أم رجال؟ هل نحن عقلاء أم مجانين؟ مرَّ مجنونٌ في مجلس النَّبيِّ ﷺ فقالوا: مجنون، قال: ((قُولُوا: مَرِيضٌ، المجنُونُ مَن يَعصِي اللهَ)) .
عاقبة العصيان والتمرد
قال الله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَة عَتَتْ﴾ [الطلاق:8]، ماذا يعني “عتت”؟ يعني عصت وتمرَّدت على أمر الله عزَّ وجلَّ، وإذا عتت يعني هل الله يرى العتو والتمرد والفسوق؟ نعم، وهل سيتركه؟ لا، إذًا لماذا لا يؤاخذ صاحبه؟ ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاس بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّة وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَل مُسَمًّى﴾ [فاطر:45]، لا تغترَّ بحلم الله عزَّ وجلَّ عنك، فإذا أتى الأمر التنفيذي، ولو كنتَ مَلِك الدنيا وملك الفضاء وصواريخه فإنه يرسل لك كُتْلَة صغيرة يسمونها سرطان، يعضك مِن شفتك أو أنفك أو يدك أو بطنك أو أي مكان، وكذلك جرثوم لا تراه العيون، وهذا هو “الإيدز”، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ﴾ [الفجر:6-7]، ثمَّ ماذا قال؟ ﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَاب﴾ [الفجر:13]، ما هو السوط؟ السوط هو الكُرْبَاج وخَيْزَرَانَة الله عزَّ وجلَّ، [الخيزرانة قضيب من خشب الخيزران يُضرَب به المذنب عادة]، فلقد أهلك عادًا وثمود ولم يكترث بهم ولم يبالِ بهم.
والآن يضرب الله عزَّ وجلَّ الإنسان بالإيدز، ومِن الثمانينات وقَبل الثمانينات وإلى الآن، خمسة عشر سنةً وما استطاعوا أنْ يتغلَّبوا على الشرطي الإلهي الذي هو الإيدز، هذا الإيدز مِن أين يأتي؟ أمِن الحلال أم مِن الحرام؟ هل يأتي للزوجين الطاهرين اللذين لا يعرف أحدهما إلا الزوج الآخر أم تأتي للشاذين واللوطيين والزناة؟ أليس هذا سوط عذاب؟ ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ﴾ [الطلاق:8] أنتَ أيضًا إذا عصيت الله عزَّ وجلَّ، بأي أمر إذا خالفته، وبأي نهي إذا ارتكبته، سواء في النظر أو في السمع أو في النطق أو في البيع أو في التجارة أو مع الجار أو مع الأهل أو مع القريب أو مع البعيد وتستعين بقوتك أو بغناك، ألا يراك الله عزَّ وجلَّ؟ ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْل إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب عَتِيد﴾ [ق:18]، فهل نحن مؤمنون بهذه الآية؟ إذا كنا مؤمنين فإنَّا لا نستطيع أن نتكلم بكلمة فاحشة، ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [النحل:19]، ولا نستطيع أنْ ننوِ نية خاطئةً أو خبيثةً أو خائنةً، ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر:19].
عظم أخلاق النَّبيّ ﷺ
لـمَّا أهدر النَّبيُّ ﷺ دم أحد المجرمين، وأُتِي به إلى النَّبيِّ ﷺ ليبايعه، فأبى أن يبايعه، فأعادوا مرةً ثانيةً وثالثةً، ثم قال: نقبله، فبايعه وآمن، فقال النَّبيُّ ﷺ: ((لِماذا لَـمَّا رَأيتُموني ساكتًا لم يَقمْ أَحدُكم إليهِ يَعلُو رأسَهُ بِالسَّيفِ؟)) فهو محكوم عليه بالإعدام، قالوا: “يا رسول الله لو أشرتَ إلينا بطرف عينك”، يعني لو أشرت لنا بغمزة، فقال ﷺ: ((إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ)) ، الله! ما أعظم أخلاقك يا رسول الله!
هل يصح أن يكون ظاهرًا قد أمَّنه ويغمز أصحابه ليقتلوه؟ بهذه صار إنسانًا بوجهين وبشكلين: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ [الأحزاب:4] قلبُ مؤمنٍ وقلبُ منافقٍ لا يصح، فإمَّا مؤمن وإما كافر، ولكن أن يكون منافقًا يدَّعي عند هؤلاء كذا وعند هؤلاء كذا فهذا لا يصح.
ضرب الأمثلة في القرآن الكريم
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَة﴾ [الطلاق:8] يعني يوجد مِثلكم كثير مِن الأمم والملوك والأباطرة والأقوياء، ولكنْ عند الله عزَّ وجلَّ لا يوجد قوي.. ﴿عَتَتْ﴾ هل أنتَ مِن العتاة على زوجتك أو على عاملك أو على جارك أو على شريكك أو على أبيك أو على أمك أو على أخيك أو على أختك؟ سواء بالجملة أم بالمُفَرَّق، [بالجُمْلَةِ أم بالمُفَرَّق: مصطلح مستخدم باللهجة العامية السورية، وهو يختص بنوعين للبيع، فهناك بيع بالجُمْلَة، حيث يبيع التاجر بضاعة كثيرة لتاجر آخر، وهناك بيع بالمُفَرَّق، وهو عندما يبيع البائع بالقطعة الواحدة أو القطعتين، والمعنى المقصود هنا: سواء كان عتوك وظلمك لكثير ممن الناس أو لشخص واحد] هل أنتم مِن العتاة؟ هل يستطيع من هو من العتاة أن يرفع أصبعه؟ لا تخافوا فأنا لن أفعل لكم شيئاً، أما الله تعالى فهو يعلم وسيعذبه عذاباً شديداً في الدنيا وفي الآخرة.. ربما الآن تستحون وتُخفون أنفسكم، لأنَّ هذا ليس شيئًا مشرِّفًا، فإذا أحضر لك الله عزَّ وجلَّ غدًا الفيلم وشريط الفيديو الذي يكشف عن سرائرك الداخلية، وأمام الأنبياء وفي العرض الأكبر، فكيف سيكون موقفك حينها؟ المتحدث في التلفزيون ألا يراه كل النَّاس؟ ماذا ستقول لربك وكيف ستعتذر؟ سيقول لك: أرسلتُ إليك الأنبياء والرسل والمشايخ والعلماء والجوامع والدروس، وكنتَ تحضر الدروس وتسمع، لكنك كنتَ من الذين ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ﴾ [الأنفال:21-22] فهل أنت رابحٌ بهذا الأمر؟
وهل جئتم لتمضية الوقت تسلية مع الشَّيخ؟ تقولون: والله درس الشَّيخ جميل جدًّا، أطال الله لنا عمره.. ولكن ماذا سيبقى معك من الدرس؟ إنك تأخذ منه بمقدار حياتك القلبية والروحية، لذلك كان شيخنا يقول لنا عن أدب المريد: لم نكن ندخل على شيخنا إلا بوضوء وبذكر الله لمدة ساعة، حتى نكون أهلًا لمجالسة شيخنا، حتى إذا أنطقه الله بشيء مِن الحكم يجد قلبنا صحيفة بيضاء فيها موضع للكتابة، والآن قبل أن تأتي إلى الدرس يجب عليك أن تجلس ساعة تذكر الله فيها، حتى إذا وُجد شيء [من الظلمات] في قلبك يمحى، فإذا كُتِب فيه ولو قليل [من النور والعلم] أفضل من أن يكون قلبك كله سَواداً، ولكن إذا أتيت إلى الدرس وقلبك صحيفة بيضاء فلا تَمُرّ كلمة إلَّا تُنْقَش في قلبك، وتَتَمَثَّل وتُهْضَم فيك عملًا وأخلاقًا وسلوكًا.. اللهم اجعلنا منهم.
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَة﴾ [الطلاق:8]، وأُمَّةٍ وشعبٍ.. فإذا أهلكهم الله عزَّ وجلَّ لعتوهم وتمردهم عليه، فأنت يا أيها المخلوق الصغير إذا عتيت أليس الله قادراً على أنْ يأخذك؟ وإذا لم يستعجل الله عزَّ وجلَّ عليك فهل هذا يعني أنَّه تركك؟ ((إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ الظَّالِمَ ولا يُهمِلُهُ، إِذَا أَخَذَهُ لا يُفْلِتْهُ)) ، فلا تغترَّ بحلم الله، ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر:14]، إذا اختبأ شخص وراء عمود، وأنت تفعل شيئًا يغيظه ويؤذيه ماذا ستكون النتيجة؟ الله عزَّ وجلَّ ليس مختبئًا، لكنْ أنتَ لا ترى.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يفتح بصائرنا لتكون أعمالنا دائمًا تحت إشراف الله عزَّ وجلَّ وتحت مراقبته وخشيته.
حساب الله شديد
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَة عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا﴾ [الطلاق:8]، فيحاسبك على الخَمِيْر والفَطِيْر، [على كل شيء] وعلى القديم والحديث، وعلى الصغير والكبير، ﴿وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا﴾ [الطلاق:8]، لا تستطيع تحمُّلَه لأنَّه منكَر فظيع، ﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا﴾ [الطلاق:9]، هذا في الدنيا “ذاقت”، وهذا مثل الذي يذوق برأس أصبعه مِن عُلْبَة السَّمْن، هل يسمى أكل السمن أم ذاقه؟ هذا بعض عذابه في الدنيا، فهو ذاق ذوقًا، أمَّا العذاب الحقيقي ففي عالَم الدار الآخرة، فهل أنت مؤمن بالآخرة، ومؤمن بالحساب، ومؤمن بأنَّ أعمالك مسجَّلة، ومؤمن بأنَّك ستعرض أمام الله عزَّ وجلَّ؟ هل يوجد محامٍ؟ أو هل توجد أموال تستطيع أنْ ترشي بها؟ نسأل الله أن يرزقنا حقَّ الإيمان.
الخسران عاقبة العتو
قال تعالى: ﴿وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا﴾ [الطلاق:9]، هذه عاقبة أمرها في الدنيا أم في الآخرة؟ لا، هذه في الدنيا، لأنَّ الله عزَّ وجلَّ قال: ﴿فَحَاسَبْنَاهَا﴾ في الدنيا ﴿حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا﴾ هذا كلُّه في الدنيا ﴿وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا﴾ في الدنيا ﴿خُسْرًا﴾ [الطلاق:8-9] وبالآخرة أيضًا يكون الأمر مضاعَفًا، فخسروا خسارة الدنيا والآخرة.
في الآخرة: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ [الطلاق:10]، أمَّا في الدنيا فيذوق برأس الأصبع، كمن يتذوق الشاي ويقول له صاحبه: انظر كيف السُّكَّر؟ [هل السُّكَّر فيه قليل أم كثير؟] هذا في الدنيا، وفي الآخرة يشرب الكأس كلَّه والإبريق أيضًا، هل تستطيعون أن تشربوا إبريق عذاب الله في الآخرة؟ في الدنيا الذبابة تزعجنا ولا تدعنا ننام.. نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإيمان.. وفي النهاية تكون بالإيمان الإنسان الفاضل.
قال: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ [الطلاق:10]، هل هذا في الدنيا أم في الآخرة؟ الذي في الدنيا ذاقوه، ﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا﴾ [الطلاق:9].
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [الطلاق:10]، يا أصحاب العقول، ويا أصحاب الفهم الذين تفهمون الأمور بحقائقها ووقائعها، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [الطلاق:10]، ما هي التقوى؟ أنْ تمتثل وأنْ تطيع أوامر الله عزَّ وجلَّ، وأنْ تجتنب وتبتعد وتترك محارم الله عزَّ وجلَّ في الأقوال والأعمال، سواءً الأعمال الفردية أو الأعمال الاجتماعية.. ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الطلاق:10]، لن تصير مِن أصحاب العقول إلَّا بالإيمان، أمَّا بلا إيمان فلستَ مِن أولي الألباب، ولو طرت في الهواء أو غصت في الماء أو ملكت أعظم الثَّرَاء، فلستَ مِن أُولي الألباب، ولستَ إنسانيًّا.
الآن في البوسنة والهرسك منذ ستة عشر شهرًا والإنسان يُذبح، وبطون النساء تُبقر، والأطفال الرُّضَّع تقتل، فأين حقوق الإنسان؟ وأين هيئة الأمم والدول العظمى مع ادِّعائهم حقوق الإنسان؟ كل هذا دَجلٌ في دَجل في دَجل، القوي يستغلُّ ويدجِّل على الإنسان [الضعيف] بهذه الأسماء التي سموها ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ [يوسف:40].
العدالة وُجدت في عهد الإيمان
أمَّا في عهد الإيمان، فلـمَّا القبطي ضربه ابن فاتح مصر، استدعى عمر رضي الله عنه حاكم مصر وابنه، وأعطى القضيب للقبطيِّ النصرانيِّ -والضارب هو ابن فاتح مصر وملكها وقائد الجيش- وقال له: “اضرب ابنه”، فضربه وضربه، قال: “ونحن نُحِبُّ أن يَضرِبَهُ” ، وما أحد مِن المسلمين قال: هذا نصراني يضرب مسلمًا.. فقد كانوا ينتصرون للحق، لا ينتصرون للقومية ولا للقرابة ولا لاتِّحاد الدين، بل ينتصرون لجوهر الدين، قال: حتَّى اشتفى، قال له: “اشتفيتُ”، قال له: “اضرب بالقضيب على رأس أبيه”، فاتحِ مصر وقائد الجيش وإمبراطور مصر.. اضرب أيها النصراني القبطي عَمْروًا رضي الله عنه فاتحَ مصر، قال له: “يا أمير المؤمنين: ضربت مَن ضربني”، أبوه ما ضربني، قال له: “والله لو ضربتَه لَمَا منعك منَّا أحد، لأنَّ ابنه ضربك بسلطان أبيه”.. أخبروني: هل يوجد في الدنيا مِن أمريكا إلى اليابان قانون حقوق الإنسان يُطبَّق في صغير الأمور وكبيرها كما طبَّقه المسلمون الحقيقيون؟ أمَّا المسلمون المزيَّفون فهؤلاء لا يمثِّلون الإسلام، لذلك لـمَّا مثَّلوه تمثيلاً حقيقيًّا نصرهم الله: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47].
ينصر الله عزَّ وجلَّ من يطيعه ويتبع أوامره
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ وأطيعوه وامتثلوا أمره وقِفوا عند حدوده ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [الطلاق:10]، إذا كان لكم عقول، وإذا لم نتقِّ الله عزَّ وجلَّ فلسنا مِن أولي الألباب، ولسنا مِن أولي العقول، ويجب أن نذهب إلى فندق “القُصَيْر” في دُوْما، أتعرفونه؟ يعني مستشفى المجانين. [دوما منطقة قريبة من دمشق فيها مشفى الأمراض النفسية].
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا﴾ [الطلاق:10] ﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى﴾ [الأعلى:10]، ﴿فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات:55].. جَعَلنا الله تعالى مِن مؤمني القلب ومؤمني الفهم ومؤمني التقوى ومؤمني العمل، ولا يَغُرُّنا الشيطان بالأهواء وبالغفلات وبالأماني.