عناية الإسلام بالمرأة
فنحن في تفسير بعض آياتٍ مِن سورة الطَّلاق.. لقد اعتنى الله عزَّ وجلَّ بالمرأة عند نزول الإسلام، وكانت المرأة في كلِّ شعوب العالم قد بلغت الهوَّة السَّحيقة مِن امتهانها واضطهادها والظُّلم لحقوقها، حتى صارت مِثل الحيوان في نظر الرَّجل، فأتى الإسلام بلا طلبٍ منها، وبلا تأليف جمعيَّاتٍ وأحزابٍ نسائيَّةٍ، وبلا ثورةٍ نسائيَّةٍ، وثارت دولة السَّماء لها، مناصِرةً لحقوقها، ومكرِّمةً لها، فلم يفضِّل الإسلام بين إنسانٍ وإنسان لا مِن حيث جنسه، ولا مِن حيث لونه، إلَّا مِن حيث ثقافته السَّماويَّة وحكمته وأخلاقه التي يُعبَّر عنها بالتَّقوى، لذلك يقول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ﴾ لم يقل: “يا أيُّها المؤمنون”، فكلمة الناس تشمل كلَّ الإنسان، ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾ هذا الإنسان كفرد، ومِن حيث الإنسان كجماعات قال: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا﴾ أتراكًا وعربًا وفرنسيِّين وألمانيِّين وصينيِّين.. ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ﴾ لا لينظر أحدكم أنَّه أفضل مِن الآخر بقوميَّته أو بلونه ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا﴾ جعلنا هذه الأسماء: الشَّعب الفلاني والشَّعب الفلاني لا لتتفاضلوا ويتعالى بعضكم على بعض، ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ فلو لم يكن اسمي أحمد، والآخر اسمه خالد، والثَّالث اسمه بشير فلن يكون تعارفٌ بين الأفراد، وكذلك بين الشُّعوب صار هناك أسماء للتَّعارف لا للتَّفاضل، أمَّا التَّفاضل والتَّمايز فلا يكون بالشُّعوب ولا بالقوميَّات ولا بالأنساب ولا بالأحزاب، بل التَّفاضل في نظر الله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:13] لم يقل: الرِّجال أفضل، ولم يقل: النِّساء أفضل، لكن مدير المعمل قد يكون أفضل في إدارة المعمل مِن العمَّال لكفاءاته وإمكاناته، وقد يَفضُل الرَّجل على المرأة في ناحية، وقد تَفضُل المرأة على الرَّجل في ناحيةٍ أُخرى.
سبق معكم في صلح الحديبية لَمَّا أمضى النبيّ ﷺ المعاهدة أنَّ أصحاب رسول الله ﷺ كلّهم استعصى عليهم حلُّ الأزمة، حتَّى إنها استعصت على النَّبيِّ ﷺ، لما طلب إليهم أنْ يحلُّوا إحرامهم، فلم يحلُّوا إحرامهم غضبًا على كرامتهم، لأنّ المعاهدة كانت تحوي شروطًا مُذلَّةً للمسلمين، فدخل ﷺ خيمته مغضَبًا، وكانت معه أمُّ سلمة رضي الله عنها، فسألته عن سبب غضبه فأخبرها، فقالت: “يا رسول الله أخرج مِن خيمتك، واذبح هديك وأضحيتك، ولا تكلِّم أحدًا، واحلق شعرك”، وهذا عبارة عن فكِّ الإحرام، فلمَّا فعل ما أشارت عليه أمُّ سلمة رضي الله عنها بعقلها وفِكرها ورأيها، فكَّ المسلمون كلُّهم إحرامهم، واستجابوا لأمر رسول الله ﷺ ، فهل هذه المرأة بنصف عقل؟
وعندما أجمع عمر رضي الله عنه والصَّحابة كلُّهم على تحديد مهور النِّساء.. وفي الحكم الدِّيمقراطي فإن الحكم للأكثريَّة، فإذا وُجِد الإجماع فهذا فوق الأكثرية، ومع ذلك خالفت امرأة واحدة، وقالت: “ليس لك ذلك يا ابن الخطَّاب”، ليس لك أنْ تحدِّد مَهر المرأة بمبلغٍ معيَّن، فقال لها: “ولمَ؟”.. هل هذه ديمقراطية؟ وهل قال لها: أنتِ امرأة بنصف عقل، وكيف تريدين أن تُبدي رأيك؟ وهل هؤلاء كلُّهم لا يفهمون وأنت فقط تفهمين؟ قالت له: أَمَا سمعتَ الله يقول: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ [النساء:20] أتدري كم هو القنطار؟” .
القنطار: مئتان وخمسون كيلو غرام، فالإسلام دائمًا وراء الحقيقة، ولو كان قائلها طفلًا صغيرًا.
فأتى الإسلامُ بثورةٍ على المجتمع ليُناصر حقوق المرأة، وسورة الطَّلاق هي في شأن المرأة، والسُّورة التي تليها سورة التَّحريم في شأن المرأة ومناصَرتها، ثم سورة المجادِلة -سورة قد سمع- المجادِلة: هي المرأة التي تُجادل وتُدافع عن حقوق المرأة، فقد أيَّدتها دولة السَّماء، وأنزلت هذه السُّورة في مناصرتها على الرَّجل، وسُمِّيَت السورة باسم المجادِلة، يعني المرأة التي جادلت سيدنا رسول الله ﷺ في ظُلمها وظلامتها مِن قِبل الرجل، وهناك سورة النساء الكبرى؛ سورة النساء، سورة المرأة، وهي مِن كُبريات سور القرآن، ومعظم ما فيها لمناصَرة المرأة وإنقاذها مِن ظُلامتها واضطهاد الرجل لها.
مِن آداب الطّلاق
ممَّا مرَّ معكم آداب الطلاق، فالإسلام أباح الطلاق، ولكنها ليست إباحةً مطلَقةً، بل جعل لها قيودًا وشروطًا وآدابًا، فإذا طلَّق الرجل مِن غير مراعاة آداب سورة الطَّلاق وأحكامها فيكون طلاقه غيرَ إسلاميٍّ، وقد سمَّاه العلماء “الطلاق البِدعي” يعني الخارج عن حدود الإسلام وقوانينه.
وسبق معكم بأنَّ الرجل إذا أراد الطلاق [لا يطلق إلا] بعد أنْ تتشكَّل المحكمة العائلية مِن العائلتَين للتقريب بين الزوجين، وقَبل هذه المحكمة هناك تعاليم للزوجين يجب أن يتعلَّماها قَبل الزواج، فهل يمكن لشخص أنْ يتسلَّم قيادة سيارة قَبل أنْ يتعلَّم قيادتها؟ وهل يمكن لطبيب أن يطبِّب الناس قَبل أن يشهد له أساتذة الطب بأنه صار كفءًا؟ كذلك لا يجوز أنْ يتزوَّج الرجل أو المرأة حتى يتفقَّها ويتثقَّفا بالآداب والتعاليم الإلهية في قوانين الحياة الزوجية، فيجب أن تعرف الزوجة ما لها مِن حقوق، وما عليها مِن واجبات، والزوج قَبل الزواج يجب عليه أن يعلم ويتعلَّم ماذا فرض الله عليه مِن حقوقٍ له على زوجته، ومِن واجباتٍ عليه لزوجته، فإذا كان الزواج مبنيًّا على الثقافة السماوية فلا يحتاجان إلى طلاقٍ مهما عاشا، ولذلك كان النبي ﷺ يقول: ((أَبْغَضُ الحَلَالِ إلَى اللهِ الطَّلَاقُ)) ، ((تَزَوَّجُوا وَلا تُطَلِّقُوا)) .
ومرَّ معكم أنَّ مِن شروط الطلاق أن لا يطلِّقها في حالة الحيض، فهذا ممنوع، وإذا طهرتْ مِن الحيض ووطئها واقترب منها جنسيًّا ثم أراد أن يطلِّقها كذلك لا يَسمح له الإسلام بالطلاق بعد أن مسَّها في حال طهرها، فلعلَّها تكون حاملًا فيَضِيْع الولد، ولقد طَلَّقَ عَبْدُ اللهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما زوجته وَهِيَ حَائِضٌ، فغضب النبي ﷺ وأَمره أن يُراجعها، واعتبر هذا الطلاق مخالفًا للقانون الإسلامي، لأنه طلَّقها في وقت العادة الشهرية المسماة بالحيض، فقال له: ((أرجِعْهَا حَتى تَطْهُرَ، ثُم تَحِيضَ، ثُم تَطْهُرَ، فإِنْ شِئتَ طَلَّقتَ، وإنْ شِئتَ أَمسَكتَ)) .
ثم أمر الإسلام أن تبقى المطلَّقة قرابة ثلاثة أشهر في بيت الزوجية لا تخرج منه.. وأنا أريد أن أسألكم: أي رجل منكم إذا بقيت الزوجة في بيته ثلاثة أشهر.. يا ترى بالمئة كم زوج وكم زوجة يستطيعان أن يبقيا مطلَّقَين وهما مع بعضهما في بيت واحد؟ لذلك يقول القرآن: ﴿لَا تُخْرِجُوهُن﴾ أي المطلَّقات ﴿مِنْ بُيُوتِهِن﴾ [الطلاق:1] فالرجل لا يجوز له أنْ يُخرجها مِن بيتها، ولا يجوز أن يقول لها: اذهبي إلى بيت أهلك، ﴿وَلَا يَخْرُجْنَ﴾ [الطلاق:1] فلو لم تُخرجها أنت، وقالت: أنا لن أقعد عندك، فهذه مرتكبةٌ للمعصية وللإثم، ومخالفةٌ للقرآن وللإسلام ولهدي النبيِّ عليه الصلاة والسلام، ولو قال لها: “أخرجي”، يجب عليها أنْ تقول له: “أنا لا أخرج”، كما إذا قال لها: “اتركي الصلاة” تقول له: “لا أتركها”، لأن الصلاة أمرٌ مِن الله، وأنتَ تقول لي: “أخرجي” والله عز وجل يقول لي: “لا تخرجي”.
فعلى الزوجين أن يتثقفا بالثقافة الإسلامية في الحياة الزوجية وفي تربية الأولاد وفي المعاشرة الزوجية التي منها قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((خَيْركُمْ خَيْركُمْ لِأَهْلِه)) يعني لزوجته ((وَأَنَا خَيْركُمْ لِأَهْلِه)) ، ومنها قوله ﷺ: ((اسْتَوْصُوا بِالنسَاءِ خَيْرًا)) ، ومنها: ((لا يَغلِبُهُنَّ إلَّا لَئيمٌ، وَلا يَغلِبنَ إلَّا الكَرِيمَ)) ، فكريم النفس والأخلاق والطبع يكون مغلوبًا للزوجة.
كما أنَّه أَمَر الزوجة فقال ﷺ: ((لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ المرأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا)) .
ثم إذا حصل الطلاق بعد المحكمة العائلية وبعد كلِّ هذه الثقافات فمعنى ذلك أنَّ هذا الزواج فاشلٌ غير ناجحٍ، وإذا كان الزواج مبنيًّا على الفشل فمجيء الأولاد لا يكون لمصلحة الزوجين ولا لمصلحة الأولاد، ويكون الحُكم: ﴿وَإِنْ يَتَفَرقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ [النساء:130].
أمَّا طلاق الغضب أو طلاق الحمق أو طلاق الظلم أو طلاق الجهل والجاهلية فهذا ليس طلاقًا إسلاميًّا، والإسلام لا يقرُّه بل يحاربه.. أُتي برجلٍ إلى عبد الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهما وقد طلَّق زوجته مئة طلقة، [فقال له: “طَلُقَتْ مِنْكَ لِثَلاَثٍ، وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ اتَّخَذْتَ بِهَا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا”] .
في الإسلام لا يجوز للرجل أنْ يطلِّق إلَّا طلقةً واحدةً، أمَّا أن يطلِّق طلقتَين أو ثلاثًا فهذا لا يجوز أبداً أبداً، وهذا عمل الجاهليين وعمل الفسقة، قال الله تعالى: ﴿الطلَاقُ مَرتَانِ﴾ [البقرة:229] ما المعنى إذا قلتُ: “أنا أكلت مرتين؟” يعني أكلتُ وَقْعَتَين، أليس كذلك؟
وأُتي برجلٍ إلى رسول الله ﷺ وقد طلَّق ثلاثًا، فغضب رسول الله ﷺ غضبًا شديدًا حتى ظهر الغضب عليه وقال: ((أَتَلْعَبُونَ بِكِتَابِ اللهِ وَأَنا حَيٌّ بَين أظْهركُم!))، حتى قام رجل وقال: “يا رسول الله ألا أقتله؟” .
ضرورة وجود اختباراتٍ للزوجين قَبل الزواج
المسلم عندما يستعمل أحكام الإسلام على غير حقيقة الإسلام يشوِّه الإسلام، ويجعل وجه الإسلام وجهًا غير جميل، ثم يكون مردود ذلك عليه، فتكون الخسارة للزوجَين بمقدار بُعْدِهما عن ثقافة الإسلام في الحياة الزوجية، فلذلك يجب على كلِّ مَن يتزوَّج مِن رجل أو امرأة أن يدخل مدرسة الثقافة الزوجية، لذلك أنا سأطلب مِن بعض إخوانكم أنْ يؤلِّفوا كتابًا في الثقافة الزوجية، فإذا خَطب الخاطب يجب أن يُمتحَن مِن قِبل اللجنة الفاحصة، فإذا كان يُحسن معرفة الحياة والآداب والأخلاق والواجبات والمحرمات الزوجية وأخذ علامة جيدة [نزوِّجه]، وإذا أخذ علامة خمسين لا نزوِّجه، لأنَّ السيارة إذا كانت نسبة جاهزيتها خمسين بالمئة، فقد توصلك إلى المدينة الأخرى بنسبة خمسين بالمئة، وقد تنقطع بنسبة خمسين بالمئة، وربما تغلب الخمسون الثانية، ونحن لسنا مستعدِّين لأن ننقطع في الصحراء، فإذا لم ينجح الرجل بدرجة تسعين بالمئة لا نزوِّجه، والمخطوبة أيضًا إذا لم تنجح بدرجة تسعين بالمئة يجب أن لا تتزوَّجها، لأنها هي التي ستصنع عقل ابنك، وستصنع إيمانه وأخلاقه وعقليته.
الأمُّ مَدرَسةٌ فإنْ أَعددتَها أَعددتَ شَعبًا طَيِّبَ الأَعراقِ
“الأمُّ مَدرَسةٌ فإنْ أَعددتَها”: إذا اخترت الأمَّ الصالحة “أعددتَ شعبًا طيِّب الأعراق”: طيِّب الأصول.
أكثر زواج الناس اليوم مِثل زواج الدَّوابِّ؛ شهوةٌ حيوانية ونزوةٌ جسدية، ولا يعرف إلا إطفاءها كما هو شأن القطط وشأن بقية الحيوانات، أمَّا الرجل أو المرأة اللَّذَان يبتغيان مِن الزواج أن ينجبا الجيل الصالح، وأن يُنجبا العقول والنفوس الطيبة، وينجبا الجيلَ العالِمَ الفاضل الإنساني الرباني، فهذا هو الزواج الحقيقي الإنساني الرباني.
الإشهاد على الطلاق
بعدما ذكر الله عزَّ وجلَّ في أول السورة بعض أحكام الطلاق قال:
﴿وَأَشْهِدُوا﴾ عند الطلاق
﴿ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [الطلاق:2] ففي المذاهب الأربعة الإشهاد على الطلاق سُنَّةٌ، أما في مذهب سيدنا جعفر الصادق فالإشهاد واجبٌ، وأنا إذا كان لي مِن الأمر شيءٌ أعمل بمذهب سيدنا جعفر الصادق، لأننا نسأل: لماذا اشترط الله تعالى الشهود؟ ليس فقط لإثبات الطلاق، بل ليصيروا وسطاء خير، يوصونه بالحِلم والصبر،
﴿ذَوَيْ عَدْلٍ﴾ يعني أتقياء صلحاء،
﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشهَادَةَ لِلهِ﴾ [الطلاق:2] إذا دُعيت للشهادة لا تشهد لمصلحتك ولفائدتك، بل عليك أن تُقيم الشهادة للمشهود له أو عليه بلا أي هوًى أو مصلحةٍ،
﴿إِن يَكُنْ غَنِيًا أَوْ فَقَيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ [النساء:135] عليك أن تشهد بالحقِّ والحقيقة، لأنّ تحمُّل الشهادة أمانةٌ، وأداؤها أداء للأمانة:
﴿إِن اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء:58].
الالتزام بأوامر الله عز وجل في الطلاق
﴿ذَلِكُمْ﴾ هذه الأحكام وهي: أن لا تُخرَج المطلَّقة مِن بيتها، وأن لا تَخرُج هي، وإشهاد ذوَي عدلٍ منكم، وحَكَمًا مِن أهله وحَكَمًا مِن أهلها، وقوله ﷺ: ((خَيْركُمْ خَيْركُمْ لِأَهْلِه)) ، قال: كل هذه الوصايا والتعاليم هي تعاليم الله ودروسه للإنسان، ﴿ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ﴾ يَعمَل به ويتفهَّمه ويستعمله ﴿مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ [الطلاق:2]، فإذا طلَّق المطلِّق، أو طلبت المرأة الطلاق مِن غير موجِبٍ ربانيٍّ، فالنبي ﷺ يقول: ((ما مِن امْرَأَةٍ تَطلُبُ الطَّلاَقَ مِن غَيْرِ مُوجِبٍ إلَّا لم تُرِحْ رَائِحَةَ الْجَنةِ)) ((وإنَّ رائِحَتها لَتُشمُّ مِن مَسيرةِ خَمسِ مئةِ عامٍ)) ، فالرجل اليوم يطلِّق ولا يُراعي الشرط الأول، ولا الثاني ولا الثالث ولا الرابع ولا الخامس، والله تعالى يبين أن الذي يلتزم بهذه الشرائط هو المؤمن، وإذا لم تلتزم بها فإنك تُخرِج نفسك مِن دائرة الإيمان.
﴿ذَلِكُمْ﴾ هذه الوصايا ﴿يُوعَظُ بِهِ﴾ يتَّعظ بها ويعمل بها وينفِّذها ﴿مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وإذا لم يلتزمْ بها، وهي لم تلتزم بها.. وبمجرد أن يغضب أو تغضب هي، أو تجمح النفس يمينًا أو يسارًا، أو لمصلحةٍ شهوانيةٍ أو ماديةٍ أو نفسيةٍ يميل حيث تميل أهواؤه، فهذا ليس عبدًا لله، بل هذا عبدٌ لأهوائه وأنانيته، لأن عبد الله هو الذي يتقيَّد بأوامر الله عزَّ وجلَّ، وأوامر الله ليست لمصلحة الله، بل هي لمصلحتك أنت أيها الإنسان.
﴿ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتقِ اللهَ﴾ في طلاقه ﴿يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق:2] فتقوى الله في الطلاق أن لا يُخرجها مِن دارها، وأنْ يعطيَها كامل حقوقها، وأنْ يمتِّعها: ﴿وَمَتعُوهُن عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ [البقرة:236] لأن الطلاق فيه جَرحٌ لنفسية المرأة، والنبي ﷺ شبه المرأة بالزجاج الرقيق فقال: ((رفقًا بِالْقَوَارِيرِ)) ، القارورة هي “القَنِّينَة” [الزجاجة] الرقيقة، فأقل شيء يكسر خاطرها، والطلاق هدمٌ لنفسيتها، وإذا كان بعد كلِّ هذه المعالجات السابقة ما وجدوا محيصًا إلَّا الطلاق -لأن اللقاء غير ناجحٍ- فقد قال الإسلام للرجل: قدِّم لها هديةً، قل لها: هذه خمسون ألفًا، أو هذه عشرون ألفًا، وكلُّ واحد على حسبه، أو خذي هذه السيارة، وإذا كان فلاحًا يُعطيها حمارة أو سَلَّة مشمش أو نصف كيس باذنجان.. إلخ. [يقول ذلك سماحة الشيخ ويضحك].
والمُتْعَة تعني جبر الخاطر، يقول لها: هذا قَدَر الله “يا بنت الحلال”.. وكذا وكذا.. إلخ، [يا بنت الحلال: كلمة تُقال غالباً للزوجة، تُستخدَم في اللهجة السورية، وتحمل معانٍ من المودة والألفة والاحترام]، سبحان الله! هل يوجد أرحم مِن الله بالإنسان؟ وأحكام الله كلُّها رحمات، فمَن الذي أودع الرحمة في قلب الذِّئبة والحيوان نحو صغاره، والطير نحو أفراخه؟ النبي ﷺ يقول عن هذه الرحمة التي ظهرت في الحيوان والإنسان والوحش: ((جزءٌ مِن مِئَة رَحْمَةٍ، وتسعة وتسعون يَرحَمُ اللهُ بها عِبادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) ، أَلَا يجب أن نحبَّ الله عزَّ وجلَّ؟ أنزل لنا الأديان لا لتكون سبب تخلُّفنا، فإذا صار التخلُّف مِن الأديان فذلك ليس مِن جوهر الأديان، ولكن مِن رجال الأديان، لأنهم أساؤوا الفهم، فأساؤوا الشروح والتعليم والترجمة، أمَّا لو أنهم أحسنوا ترجمة رسالات السماء والأديان وترجموها الترجمة الحقيقية لكان الإنسان كمَلَكٍ يمشي على وجه الأرض، لا تجد فيها تباغضًا ولا تحاسدًا ولا ظلمًا ولا عدوانًا.
سيدنا موسى أتى ليبشِّر بسيدنا عيسى عليهما السلام، وسيدنا عيسى أتى ليبشِّر بسيدنا محمد ﷺ، وهكذا الأنبياء كما يقول النبي ﷺ: ((نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ إِخْوَةٌ، دِينُنَا وَاحِدٌ)) الدِّين هو ما يتعلَّق بالعقائد، ((وَشَرائِعُنا شَتَّى)) الشرائع هي الطقوس، يعني اختلفت الطقوس، ولكن الأهداف مِن الطقوس ومِن العقائد لا يختلف بعضها عن بعض.. وتجد الآن أبناء الدِّين الواحد قد تفرَّقوا مذاهبَ يُعادي بعضهم بعضًا، ويُحارب بعضهم بعضًا، فالمسيحيون عشرات الطوائف، واليهود كذلك والمسلمون كذلك، فهذا ليس مما أتى به سيدنا موسى ولا سيدنا المسيح عليهما السلام، ولا سيدنا محمد ﷺ، ولكن أتى وظهر مِن رجال الأديان الذين ما عَرفوا الدِّين المعرفة الناضجة الكاملة.
الفرَج والرزق جزاء لمَن يتق الله
قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتقِ اللهَ﴾ [الطلاق:2] يعني في طلاقه، ويُراعي الله عزَّ وجلَّ في كلِّ أحكام الطلاق ﴿يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق:2] فإذا وقع في ضيق لتقواه في الطلاق [يجعل له مخرجًا]، أو: ومَن يتَّق الله في كلِّ شؤونه [كذلك يجعل له مخرجاً]، وتقوى الله: أن تمتثل أوامر الله عز وجل فلا تخالفها، وأن تجتنب محارم الله فلا ترتكبها، فإذا اجتنبت المحارم، وأديت الواجبات، فماذا تأخذ مِن الألقاب؟ تأخذ لقب التقوى والتَّقيِّ، قال الله عز وجل: ﴿وَمَنْ يَتقِ اللهَ﴾ [الطلاق:2] يعني مَن يمتثل أوامره، ففي الزواج إذا كان على تقوى ﴿يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق:2] وتقواه في الزراعة أن يمتثل أوامر الله عز وجل في الزراعة، وكذلك في التجارة وفي غضبه وفي رضاه وفي قضائه وفي حربه وفي غناه وفي فقره.. فهو يمشي على المخطط الإلهي بحسب الحالة التي هو فيها ﴿يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق:2] فإذا وقع في ضيق يوسِّع الله عز وجل له هذا الضيق، ويفتح له منفذًا ليخرج منه، كما قال النبي الكريم ﷺ: ((مَنْ أَكْثَرَ مِنَ الاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)) يأتيه رزقٌ لا يخطر على باله مِن أين يأتيه، يظنُّ أنه سـيأتي مِن الشرق فيأتيه مِن الغرب.
معنى الاستغفار وحقيقته
الاستغفار كمعظم المعاني الإسلامية التي شُوِّهت عن حقيقتها، وصارت تُعطي عكس نتائجها، فليس الاستغفار أنْ تقول: “أستغفر الله، أستغفر الله”.. ما معنى “أستغفر الله”؟ يعني: أطلب منك أنْ تغفر لي ذنبي يا الله.. وما معنى أستعطيك؟ يعني: أطلب منك أن تعطيني، وما معنى أستطعمك؟ يعني: أطلب منك أن تطعمني، فإذا ذهبتَ إلى المطعم وقلتَ لصاحب المطعم: أطلب منك غداءً، فهل بمجرَّد القول وبلا ثمنٍ يقدِّم لك الغداء؟ وإذا طلبت سيارةً، وقلت: بِعني سيارتك، ماذا سيقول لك البائع؟ سيقول: أعطني ثمنها.. فليس بمجرَّد قول: أعطني أو أطعمني [يتحقق طلبك].
وكذلك إذا قلت لله عزَّ وجلَّ: “اغفر لي”، فهل الله تعالى يغفر لك بمجرد القول؟ المغفرة لها ثقافتها وشروطها، وقد قال الله تعالى: ﴿وَإِني لَغَفارٌ لِمَنْ تَابَ﴾ [طه:82] ربما أحدهم يشرب المخدرات أو المسكرات، ويقول: رب اغفر لي، ويأخذ الكأس الثانية، ويقول: يا ربِّ اغفر لي، ويأخذ الكأس الثالثة، أو ربما تعدَّى على إنسانٍ وقال: “رب اغفر لي” لكن حقوق الناس لا يغفرها الله عزَّ وجلَّ إلَّا بعد أنْ يُسامحك المظلوم، أو بعد أنْ تردَّ له ظُلامته، فإذا أكلتَ ماله وقلت: رب اغفر لي، فهل الله عز وجل طفل صغير؟ الله تعالى يقول لك: أعد إلى صاحب المال ماله حتى أغفر لك، قال الله تعالى: ﴿وَإِني لَغَفارٌ لِمَنْ تَابَ﴾ [طه:82] يعني عليه أن يُقلع عن المعصية التي كان عليها، وبعد “تاب” ﴿وَآمَنَ﴾ عليه أنْ يؤمن بأنَّ الله معه، وبأنَّ الله سيحاسبه، وبأنَّ الله عز وجل يُراقبه، عليه أن يؤمن بكتاب الله وبأحكام الله، ويقف عند حدود الله.. ﴿لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ﴾ [طه:82] وبعد ذلك ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [طه:82] عليه أنْ يبدِّل بأعماله السيئة الأعمال الصالحة، لا يكفي ذلك، بل قال: ﴿ثُم اهْتَدَى﴾ [طه:82] عليه أنْ يطلب الزيادة مِن معرفة أحكام الله عز وجل في شؤون حياته.
فالتوبة تكون بعد هذه الشروط الأربعة، القرآن هكذا يقول، والله عزَّ وجلَّ هكذا يقول للمستغفر، والإنسان يقول: “أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله”، وهو مستدين مِن شخص مالًا ولا يريد أن يرجعه له، فهل سيغفر الله عزَّ وجلَّ له؟ أو هو متعدٍّ على إنسانٍ في عِرضه وفي بدنه أو قد آذاه بعض الإيذاء، أو قلع له عينه، أو تعدَّى عليه في ماله وفي عرضه، فهل كلمة “أستغفر الله” تعني أنَّ الله عز وجل سيعفيه؟ وإلا سيكون الله عز وجل مشجِّعًا على الظلم وعلى العدوان.
التوبة مِن حقوق الناس وحقوق الخَلْق أنْ تُعيد لصاحب الحقِّ حقَّه، أو إذا كان عدوانًا غير مالي أنْ يُسامحك، أو أنْ تُزيل مِن قلبه ما أصابه مِن إيذاء.. إلخ.
من فوائد الاستغفار
فمَن استغفر الله عز وجل يعني طَلَب مغفرته بثمنها، وهل يعطيه الله عز وجل أم لا؟ سيعطيه، وفوق هذا: ((جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُل هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُل ضِيقٍ مَخْرَجًا))، فالاستغفار أنْ تعود عن خطئك إلى صوابك، وعن ظلمك إلى العدل، وعن عدوانك على المعتدي إلى أن تستسمحه، أو إنْ أخذتَ ماله أنْ تردَّ إليه ماله، أو إذا غَصَبْتَ له أرضًا أو ملكًا أنْ تردَّ له ما غصبتَ، فالاستغفار: هو طلب المغفرة، فإذا طلبتَ أنْ يَذهب الجوع، وقلتَ للجوع: “اذهب أيها الجوع” فهل يذهب؟ لكن برغيفَين ونصف كليو من اللحم ومِن غير أنْ تقول للجوع: اذهب، يذهب الجوع.
الناس اليوم تفهم الدِّين بشكلٍ غير صحيح، ولذلك تأتي النتائج معهم أنهم كلَّما استغفروا الله أكثر ينزل البلاء عليهم أكثر، لأن استغفارهم استغفار جاهليٌّ كاذب، كان المسلمون في زمن النبي ﷺ عندما يُسيء المسيء منهم يفعل مِثل أبي لبابة رضي الله عنه، فإنه لَمَّا خان الرسالة عندما أرسله النبي ﷺ إلى اليهود، وعلم أنه أذنب رجع إلى المسجد فربط نفسه في أحد سواري المسجد وأعمدته وقال: “والله لا آكل ولا أشرب ولا أنام حتى أموت أو يتوب الله علي” .
هكذا ربَّاهم الإسلام، على أن لا يحمل أحدهم خطيئةً واحدةً، الآن يحمل المسلم مليون خطيئة، وإذا قلت له: هذا حرام، يقول لك: “أنا أستغفر الله”، هل يضحك على الله بهذا الكلام؟ [يضحك على الله: مصطلح عامي، بمعنى يستهزء بالله]، إذا كان عليك دَين مئة ألف، وقلتَ للدَّائن: أنا أعطيتُك مئة ألف، هل بقي لك عندي شيء آخر؟ فإنه سيقول لك: أين المئة ألف؟ تقول له: أنا أعطيك المئة بالكلام، فسيقول: وهل أنا سلَّمتك إياها بالكلام؟ هل نحن نضحك على الله عز وجل أم نهزأ بدِين الله؟ في قولك بعد الصلاة: “أستغفر الله” هل تطلب المغفرة بشرائطها التي طلبها الله عزَّ وجلَّ منك؟ إذا كانت عليك حقوقٌ للناس، أو كنت قد ضربتَ أحدًا، أو أكلت ماله، أو سببته أو شتمته أو أكلتَ عليه حقًّا مِن حقوقه يجب عليك أنْ تُرجع الحقوق إلى أصحابها، المال بالمال، والتعدي بالمسامحة، وكلُّ شيء بحسبه، وبعد ذلك قل: يا ربِّي إني أطلب منك المغفرة وأستغفرك، وعند ذلك: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبكُمْ﴾ اطلبوا المغفرة بشرائطها ﴿إِنهُ كَانَ غَفارًا (10) يُرْسِلِ السمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾ [نوح:11].. إلخ.
تقوى الله تعالى في كل نواحي الحياة
االله تعالى يقول: ﴿وَمَنْ يَتقِ اللهَ﴾ [الطلاق:2] في طلاقه، ومَن يتَّقِ الله في زواجه، ومن يتَّقِ الله في غضبه وفي رضائه وفي حبه وفي عداوته وفي قتاله للعدو ﴿يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق:2] وينصره، قال الله عز وجل: ﴿وَعَدَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [النور:55] يجعلهم خلفاءه على الشعوب والأمم.. هؤلاء آمنوا وعملوا الصالحات.
المسلمون الأُول لَمَّا فهموا الإسلام بمعناه الحقيقي استخلفهم الله عزَّ وجلَّ على نصف شعوب العالم استخلافَ رحمة، فعلَّموا الشعوب كلَّها، فلم يكن هناك فرقٌ بين عربيٍّ وغير عربيٍّ في الثقافة والعلم، أما الاستعمار فلَمَّا فتح البلدان التي استولى عليها هل ساوى في التثقيف والتعليم بين الدولة الفاتحة والشعوب المفتوحة بلادهم؟ بل بالعكس، فقد أفسد أخلاقهم، ومنعهم العلم، ومنعهم الثقافة إلَّا بمقدار ما يكونون خَدَمًا له أو مروِّجين لبضائعه، ومحقِّقين لمصالحه، أمَّا في الإسلام فكثيرٌ مِن العلماء الفحول الفطاحل كانوا مِن غير العرب، لأن الإسلام لا يحتكر العلم، بل يفرض على العالِم أنْ يعلِّم الجاهل مِن غير أنْ يأخذ منه أجرةً، فالتعليم في الإسلام فرضٌ ومجانيٌّ، أمَّا الآن فهل الشعوب المتقدِّمة في العلم تُعامل الشعوب المتخلفة علميًّا هذه المعاملة الإسلامية؟ ولذلك تجد الإمام البخاري والإمام مسلم والترمذي وابن ماجه والفيروزآبادي والنَّسائي كلّهم ما كانوا عربًا، وكانوا فطاحل علماء المسلمين.
تقوى الله تعالى في الدَّين
﴿وَمَنْ يَتقِ اللهَ﴾ [الطلاق:2] في بيعه وفي شرائه وفي دَينه.. إذا صرت مديونًا واتَّقيت الله وأنت مديون يجعل لك مخرجًا، إذا كان الإنسان مديونًا يجب أن لا يُسرف في مصروفه، بينما ترى بعضهم ما إن يصير المال معه يُقيم الولائم ويبذخ فيها ويذهب في النزهات، وأما وفاء الدين فلا يخطر في باله.. لقد كان شيخنا قدس الله روحه عندما يكون مديونًا إذا كانت حاجة البيت من اللحم كيلوين يقول: أحضروا كيلو واحد، نقول له: سيدي الكيلو قليل، فيقول: يا ابني هذا مال الناس، ويجب أن نُقَتِّر على أنفسنا، حتى نؤدِّي الأمانة إلى أهلها، ونكافئ المحسن الذي أحسن إلينا وفكَّ أزمتنا، فهل ننسى ولا نبالي!.. فاللحم يصير نصف المقدار، ويقتصد في كل شيء، وقد قال النبي ﷺ: ((الاقْتِصَادُ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ)) ، تستطيع أيها الإنسان أن توفر نصف مصروفك سواء ٌفي الأزمات أو في غير الأزمات، كم مِن أناس ينفقون أموالًا بلا مردودٍ ولا فائدة؟ يبذخ في أمور كماليات وليس فيها ضرورة، وقد يكون مديونًا، وهذا مِن أموال الناس، فهل سيوفي الله عزَّ وجلَّ عن هذا دَينه؟ لا، لأنه ما اتَّقى الله في دَينه، أمَّا إذا اتقى الله في دَينه فإنه يستطيع أن يوفِّر مِن مصروفه في أكله وفي شربه وفي كهربائه وفي مائه وفي كلِّ شيءٍ نصف المصروف، وبذلك ﴿يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق:2-3] فإذا اعتنى الإنسان بأمر الله عز وجل، فإن الله تعالى يعتني بأمره، وإذا لم يبالِ بأوامر الله عز وجل فإن الله تعالى لا يبالي بشؤونه، فإذا أخذت دَينًا فإن الله تعالى قال: ﴿يَاأَيهَا الذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمى فَاكْتُبُوهُ﴾ [البقرة:282] هذا أمر إلهي، فالتقوى أن تمتثل أمر الله عزَّ وجلَّ، فإذا استدنتَ أو أدنتَ فقل له: أخي اكتب لي سَنَدًا: ﴿يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق:2-3] ييسر الله عز وجل أموره بطريقٍ لا تخطر على باله، وينصره بطريقة لا يفكِّر بها، ويفرِّج همَّه وغمَّه بطريقةٍ لا يفكِّر بها، ويتولى أمره ويدبِّر له شأنه [من دون أن يُشغِل بالَه بالتفكير]، “من صحَّ في الله تَلَفُه كان على الله خَلَفُه” .
حقيقة التوكل على الله تعالى
﴿وَمَنْ يَتَوَكلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق:3] التوكُّل على الله ليس كما يفهمه بعض الناس بأن نترك التفكير، وأن نعطِّل التدبير، وأن نترك الأسباب والمسبَّبات.. هذا خطأ في الإسلام وتشويهٌ لحقيقة الإسلام، ولكن التوكُّل كما إذا وكَّلت محاميًا قديرًا أمينًا مخلصًا في قضيتك، فإذا طلب منك أن تحضر الجلسة في اليوم الفلاني، أو طلب منك الطوابع، أو طلب منك البيِّنات، فلثقتك به تعطيه كلَّ ما يطلبه منك، لأنك متَّكِلٌ على عِلمه وأخلاقه وواثق به، كذلك التوكُّل على الله تعالى هو أنْ تتَّكل على تعاليم الله عز وجل، فتعمل بها وتنفذها، في كلِّ عملٍ وكلِّ قضيةٍ بما يناسبها، كما قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [النور:55] هل الصحابة اتَّكلوا على هذه الآية؟ وهل حقَّقوها؟ إذا حقَّقوها فيما يجب عليهم مِن عمل فسيحقق الله لهم ما وعدهم به مِن نصرةٍ وعزَّةٍ وكرامة، فلمَّا وفَّوا هل وفَّى الله لهم؟ ولَمَّا أدَّوا ما عليهم هل أدَّى الله عزَّ وجلَّ ما وعدهم؟ ولَمَّا نصروا دِين الله هل نصرهم الله تعالى أم أهملهم وتركهم؟ ولَمَّا نسوا الله ونسوا دِينه أَمَا نسيهم، يعني أَمَا أهملهم؟ ﴿نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة:67] وقال الله تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ﴾ [محمد:7] تنصر دِينه وتعاليمه وتحوِّلها مِن التعلُّم والقراءة إلى العمل والتطبيق والأخلاق، فما وعدك الله به فهذا وعد الله عز وجل و﴿لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ﴾ [الروم:6] في حياة الإنسان الفردية، وفي الحياة الزوجية والتجارية والصناعية والحربية والسياسية.. فبعد أن كانوا أضعف أمم الأرض جعلهم الله تعالى أقوى أمم الأرض، لأنهم توكَّلوا على تعاليم الله، وتوكَّلوا على الله عزَّ وجلَّ؛ على وعده وعلى شرعه وعلى قانونه، وكما ذَكر لهم فإنّ النتائج تحققت حسب ما وعد.
أثر التوكل على الله تعالى في حياة الإنسان
كان النبي ﷺ والصحابة في أشد الأزمات، وفي أعظم الامتحانات تحت العذاب وتحت الخوف والرعب ويقول لهم: ((سَتُفتَحُ لَكُم فَارِسُ)) ، ((سَتُفتَحُ لَكُم مِصْرُ)) ، ((سَتُفتَحُ لَكُم الْيَمَنُ.. سَتُفتَحُ لَكُم الشَّامُ)) .
فالتوكُّل على الله هو أن تثق بوعد الله عز وجل، وأن تثق بكلام الله، وأن تحقِّقه عملًا، وتنتظر المكافأة والمثوبة والنتيجة لعملك الصالح، وهل يمكن أن يخلف الله وعده؟ ﴿إِن اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [آل عمران:9] فقد نصر عبده، وأعز جنده وهزم الأحزاب في معركة الأحزاب، وهزم الأحزاب وحده بلا قتال، قال الله تعالى: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ [الأحزاب9-10] عندما يخاف الإنسان فمِن كثرة خفقان قلبه يشعر أن قلبه سيخرج مِن حلقه، ﴿وَتَظُنونَ بِاللهِ الظنُونَا﴾ [الأحزاب:10] يا ترى هل يفي الله بوعده وينصرنا! لكنه مع كل هذه الأخطار المحيطة فإنّ الله نصرهم، وقال: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ [الأحزاب:9].
وكذلك وعد الله لا يتغيَّر لا الآن، ولا بعد ألف سنة، ولا بعد مليون سنة إذا اتَّقى المؤمن ربه في شؤونه وفي بيعه وشرائه وغضبه وزواجه وطلاقه وحربه وسياسته، فالنبي ﷺ غيَّر العرب بثلاثٍ وعشرين سنة، والعرب لم يكونوا أُمَّةً ولا دولةً، كانوا قبائل في الصحارى يقتل بعضهم بعضًا، ويأكلون الميتات والفطائس والدم مِن فقرهم وجوعهم، ولذلك قال الله عز وجل لهم: ﴿حُرمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة:3] يعني لا تأكلوا فطائس، لِمَن يوجَّه هذا الكلام؟ هل تقول للزبائن في مطعم الأمراء: لا تأكلوا الفطائس؟ إن قلت لهم ذلك سيضربونك، هذا الكلام يُقال للذي يأكل الفطائس، “ولا تأكلوا الدم” يقال: لِمَن يأكل الدم، هكذا كان فقرهم، فلمَّا مشَوا على وعد الله جعلهم الله عز وجل ملوك الأرض، لكن لم يكونوا ملوك استبداد ولا ملوك استغلال، بل كانوا ملوك تعليم وتثقيف ومؤاخاة ومواساة وعدل، حتى كان النبي ﷺ يُقاصِص مِن نفسه إذا أخطأ مع أحدٍ مِن الناس.
((اقتص لنفسك يا سواد))
مرةً ضرب النبي ﷺ شخصًا بقضيبٍ وهو يسوِّي الصفوف، فبسبب معرفتهم بالإسلام قال هذا الصحابي: “يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق، فأُريد منك القصاص”، يعني لقد ضربتني بغير حقِّ، والنفس بالنفس والعين بالعين والقضيب بالقضيب والصفعة بالصفعة.. فسلَّمه ﷺ القضيب وقال له: ((اقتَصَّ لِنَفسِكَ يَا سَوادُ)) هل يوجد قائد جيش مع جندي عادي إذا ضربه فقال له: لماذا ضربتني أعطيني القضيب لأضربك حتى يتحقَّق العدل؟ لا يستطيع أن يقولها جندي مع رقيبٍ، أليس كذلك؟ [الرَّقِيْب: رتبة متندية في الجيش السوري، ولكنها أعلى من الجندي أو المُجَنَّد بقليل]، ولا الأجير مع معلمه، ولا الضعيف مع القوي، أمَّا في الإسلام فلا يوجد قوي ولا ضعيف، إنما القوة الحق، والضعيف هو الباطل، فأعطاه ﷺ القضيب، فقال له: “يا رسول الله ضربتني وبدني مكشوف” وأنتَ تلبس الثياب، وحتى يكون قصاصًا عادلًا لا بدَّ من أنْ يكون هناك تساوٍ.. هذا الإسلام الديني السياسي؛ رجل الدين ورجل الدولة الممثَّلَين في شخص النبي ﷺ، وهكذا كان أبو بكرٍ وهكذا عمر وهكذا عثمان وهكذا سيدنا علي رضي الله عنهم أجمعين.
وبعد هذا بدأ الإسلام بالتناقص إلى عصرنا هذا، كما قال سيدنا عَلِيٌّ رضي الله عنه: “لَا يَبْقَى مِنَ الإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ، وَلا يَبْقَى مِنَ القُرْآنِ إِلَّا رَسْمُهُ” ، أمَّا في حياتهم فقد كان القرآن يُقرأ في صحائف أعمالهم وأخلاقهم ومعاملاتهم، ولا يوجد فرق بين الإمبراطور وأدنى شخصٍ في المجتمع.
فَكَشَفَ النبي ﷺ عَنْ بدنه، وأقبل ذلك الصحابي المسمَّى سواد، فالتزم النبيَّ ﷺ، وصار يقبِّل بَدَنه، والمعركة مع الوثنيين، فقال له ﷺ: ((مَا هَذَا يَا سَوادُ؟)) فقال: يا رسول الله حضر ما ترى، والآن سيبدأ الهجوم، ولعلِّي أستشهد وألقى ربي فأموت، فأحببتُ أنْ أودِّع الدنيا بأنْ أجعل آخر عهدي بها أن يمسَّ جلدي جلدك ، يعني قال له: أنا أودِّع الحياة.. وجَعَلها مِن طريق طلب القصاص، لكن هل النبي ﷺ امتنع؟ لم يقل له: أنا نبي الله، أو أنا رسول الله، لم يقل له: أنا قائد الجيش.. فالحقوق في الإسلام لا يوجد فيها امتياز لإنسانٍ على إنسان.
من فوائد التوكل على الله تعالى
﴿وَمَنْ يَتقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق:2-3] التقوى في الرزق: أنْ تعمل وأن تسعى، فالنبي ﷺ قال: ((لَو تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللهِ حَقَّ التَّوكُّلِ لَرَزَقَكُم كَمَا يُرْزَقُ الطيْرُ تَغْدُو)) في الغداة أي في الصباح ((خِمَاصًا)) بطونها فارغة ((وَتَرُوحُ)) ترجع ((بِطَانًا)) في الرَّواح، فسمَّى التَّوكُّلَ الثقةَ بالله مع العمل والسعي [فحقيقة التوكل على الله كما في هذا الحديث هو الثقة بالله ويرافقها تقديم الأسباب والعمل والسعي للرزق، ولا يعني ترك الأسباب].. ومع الأسف عَبْر كثيرٍ مِن الكتب الدينية فسَّروا التقوى بترك الأسباب؛ بأن تجلس في مغارةٍ أو تترك العمل وتلتزم البطالة، باسم التوكُّل على الله ليرزقك الله عز وجل.
قصة البومة العمياء والعصفور الدوري
يذكرون في هذا الموضوع أنَّ رجلًا رأى بومةً عمياء، فصار ينظر ويتفكَّر فيها: مِن أين تأكل؟ وقد فَقَدت بصرها وهو دليلها في اكتساب رزقها، قال: سأراقب هذا الطائر كيف يعيش؟ وإذ بعد لحظات أتى عصفور دوري، وهو الذي يسكن في البيوت والدُّور، وفي فمه شيء مِن خبزٍ أو توت، وأصدر صوتًا، ففتحت فمها، ووضع العصفور الغذاء في فم البومة العمياء، وهنا قال: “الله أكبر! الله عز وجل ما نسي بومة عمياء! وأنا أفضل مِن البومة العمياء”، فذهب إلى مغارةٍ في الجبل وجلس يتعبَّد الله عزَّ وجلَّ ليرزقه كما يرزق البومة العمياء.. مع أنَّه لم يُصَب بالعمى، فلو قُلعت عيناه وقعد وأصبح مثل البومة فالقياس صحيح، لكن [لا يصح] أنْ تكون عيناه موجودتان، ويأخذ دور الأعمى.. فبعد يومَين أو ثلاثة أُغمي عليه مِن الجوع، ومرَّت قافلةٌ، ودخل أحدهم المغارة، ورأى الرجل مغمًى عليه، فأسعفوه حتى رجع لوعيه، قالوا له: ماذا حدث لك؟ وأثر الجوع ظاهر على جسده.. فحكى لهم قصة البومة العمياء، فقال له أحدهم: أيها الحيوان، أيها الأحمق لقد أعطاك الله درسًا، لكنك فهمته بالعكس، لماذا جعلت نفسك بومة عمياء وما قمتَ بدور العصفور الدوري؟ الله عز وجل أعطاك السمع والبصر والقوة والعقل، فاعمل وابحث عن عاجزٍ وكن مِثل ذلك العصفور الدوري الذي رأى البومة العاجزة فأعانها، أنت جعلت نفسك أعمًى وأنت بصير، فكيف تريد أنْ يرزقك الله عز وجل؟ هكذا وصل مفهوم الدِّين إلى هذه المعاني العكسية في كل الشؤون.. فالدين مشوَّه.
طَلَعَ الدِّين مُستَغِيثًا إلى الله
وَقالَ: العِبادُ قَد ظَلَمُونِي
يَتَسَمَّونَ بي وَحَقِّكَ لا أَعرِفُ
مِنهُمُ أَحدًا وَلا يَعرِفُونِي
آه آه على الدِّين! في حياتك الشخصية الذاتية إذا حصل لك الإيمان القلبي الروحي فأنتَ أسعد إنسانٍ على وجه الأرض، وإذا عرفتَ الدِّين عقليًّا فسيملأ عقلك ويُشبعه إقناعاً وبرهانًا ودليلًا، وإذا عرفتَ الدِّين عمليًّا شبعتَ إنتاجًا وربحًا وسعادةً ونجاحًا وتوفيقًا.
الغنى ركن من أركان الإسلام
﴿وَمَن يَتَوَكلْ عَلَى اللهِ﴾ على تعاليم الله، فيمشي على مخطَّطها ﴿فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق:3]. فتعليم الله عز وجل يكفي، وتعليم الله في القرآن هو دستور، ولا يحوي كلّ الأمور التفصيلية، فالأمور التفصيلية شرحها النبي عليه الصلاة والسلام، وهناك أمورٌ تتجدَّد في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، لها قواعد عامة [في القرآن والسنة] يشرحها ويفصلها الأكفاء مِن حكماء الإسلام، فتكون النتائج: ﴿وَمَنْ يَتَوَكلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق:3].
﴿مَن يَتقِ اللهَ﴾ يعني يمشي على هدي الله وعلى تعاليم الله، ويمتثل أوامره ويجتنب محارمه ﴿يَجْعَل لهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق:2] مِن كلِّ ضيقٍ ﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق:3] فيبقى المؤمن مطمئنًّا، ولا يصير مشوَّشًا لا في رزقه ولا في همومه ولا في حروبه ولا في سياسته ولا في ديونه، حتى ولو كان مديونًا وصار معسرًا وصار فقيرًا.. ومِن الناس مَن إذا كان فقيرًا يظنُّ أنَّ الله عز وجل سيزرقه مِن السماء بالقفَّة، هذا ليس إسلامًا! يقول سيدنا عمر رضي الله عنه: “اعملْ لِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَدًا، وَاعْمَلْ لِآخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَدًا” ، والقرآن يقول: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنْيَا﴾ [القصص:77] ويقول: ﴿رَبنَا آتِنَا فِي الدنْيَا حَسَنَةً﴾ [البقرة:201].
لقد جعل الله عز وجل المال أحد أركان الإسلام الخمسة، فالزكاة عمل ماليٌّ بحت، فإذا أمرنا الله تعالى بالصلاة فمعنى الأمر بالصلاة الأمر بالوضوء، أليس كذلك؟ والأمر بستر العورة والأمر باستقبال القبلة، وهي مِن شرائط الصلاة، فإذا أمرك الله عز وجل بالزكاة فمتى تستطيع أن تصير مزكِّيًا؟ إذا صرتَ غنيًّا، ومتى تصير غنيًّا؟ إذا كنتَ عاملًا مُجدًّا مستقيمًا ذا أخلاقٍ وذا تقوى وذا استقامةٍ، فإذًا الإسلام يعني بكلمة “الزكاة ركن الإسلام” أنَّ الغنى للمسلم أَحَد أركان الإسلام، وبالمقابل قال: ((كَادَ الفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا)) فكلام النبي ﷺ، وكلام القرآن هل هو ترغيبٌ في الغنى أم في الفقر؟ تكلموا.. ورجال الدين الإسلامي هل رغَّبوا بالغنى أم بالفقر؟ تكلموا.. لقد فسَّروا الزهد بأن تترك الدنيا وتترك العمل، وفسَّروا التوكُّل بأن تترك العقل وتترك الأسباب، فكيف ستكون النتائج؟ هل اثنان واثنان تكون النتيجة خمسة عشر؟ فالنتائج كما هو معلوم.
والحج كذلك لا يقوم إلَّا بالمال، فالفقير هل يستطيع أن يشتري بطاقة طائرة بخمسين ألفًا؟ هو لا يستطيع أن يشتري الخبز، إذًا الفقير له مِن أركان الإسلام الخمسة ثلاثةٌ فقط، وهو قد عمَّر ثلاثة وهدم اثنين، فكم أركان إسلامكم الآن؟ خمسة أم ثلاثة أم أربعة أم اثنان أم واحد؟
“لا إله إلا الله” هل هذه كلمة تقال فحسب؟ هذه كلمة عملٍ، وكلمة عقيدة، “لا إله إلا الله” يعني لا يوجد هوى، ففي أيِّ قضية مِن القضايا إذا طلب الله عز وجل منك وقال لك: افعل كذا، ونفسك وهواك ومصلحتك تقول لك: افعل كذا، فإذا كنتَ مِن أهل “لا إله إلا الله” فإنك تفعل ما يأمرك الله عز وجل، وإذا كنتَ مِن المشركين فمرة تفعل ما يأمرك به الله ومرة ما تأمرك به نفسك، وإذا كنتَ مِن الكفار تعمل لنفسك ولا تعمل لربك، بل تمتثل هواك، وتُطيع رغبات نفسك.. ثم بعد ذلك تقول: أنا مسلم! وأعمالك كلُّها مُخزِية ومعِيْبة، وأنت تمثِّل الإسلام بأقبح الصور، حتى صار الإسلام عارًا على المسلمين، أيُّ إسلام هو عار؟ إنه إسلام هؤلاء الجهلاء والحمقاء والأهوائيين والأنانيين.
مرة أتاني شخصان يحملان الدكتوراه مِن جامعة إسلامية كبيرة، وفي أثناء الحديث قلتُ لهما: الغنى مِن أركان الإسلام، نظر أحدهما للآخر وقال: أستاذ، سماحة المفتي، هل في هذا حديث؟ قلت له: نعم، قال لي: هل الحديث صحيح؟ قلت له: نعم، حديث صحيح رواه البخاري، [هنا يضحك سماحة الشيخ] قال: قرأنا البخاري ومسلم والصحاح الستة وما رأينا أنَّ الغنى مِن أركان الإسلام، قلت له: وفي القرآن موجود أيضًا، قال: كيف هو موجود في القرآن؟ قلت لهما: مَن الذي يُقيم الزكاة؟ ومَن الذي يؤدِّي فريضتها؟ هل الفقير؟ قالا: لا، قلت: إذن مَن؟ قال: الغني، قلت: فعندما يقول الله عز وجل لك: كن مصلِّيًا، يعني قَبل ذلك كن متوضِّئًا، أليس كذلك؟ واستقبل القبلة واستر عورتك وكن طاهرًا.. وكن مزكِّيًا يعني كن غنيًّا، فإذا كنتَ فقيرًا هل يقول لك: زكِّ؟ على ماذا تزكي؟
أتى بَشِير بنُ الخَصَاصِيةِ إلى النبي ﷺ عند إسلامه فعلَّمه النبي ﷺ الصلاة والزكاة والجهاد، فقال بشير: “يا رسول الله أمَّا الجهاد فإني رجل جبان”، يعني أنا أخاف ولست رجل حرب.. ففي الجهاد يجب عليك أن تبذل روحك ودمك مِن أجل إنقاذ هذا الإنسان الجاهل الذي يُحارب العلم والثقافة والأخلاق ووحدة الأمة ووحدة العالَم، ويريد أنْ يخرِّب هذا البناء الإلهي الذي فيه سعادة الإنسان مِن فردٍ إلى أسرةٍ إلى مجتمع ٍإلى عالَمٍ.
وقال له: “والزكاة، فليس عندي إلا بضع جمال وأنا بحاجة لها”، يعني سامحني بالزكاة أيضًا، فقال النبي ﷺ: ((يا بَشيرُ لا زَكاةَ وَلا جِهادَ، فَبِمَ تَدْخُلُ الْجَنةَ؟)) .
أما كثير من الناس اليوم يقول [عملياً]: أنا صرت الله، وأنا أكتب حالاً “الله غفورٌ رحيم”، فأغفر ذنوبي، وانتهت المسألة، وهذا من غير أن يغفر الله لي.. ألا يفعل الناس ذلك؟ تسأله: لماذا لا تصلي؟ يقول: “الله غفورٌ رحيم” كيف عرفت أنَّ الله قد غفر لك؟ والله عز وجل يقول: ﴿وَإِني لَغَفارٌ لِمَنْ تَابَ﴾ [طه:82] فهل تبتَ؟ ﴿لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ﴾ [طه:82] هل آمنتَ الإيمان الذي يدفعك إلى العمل؟ ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [طه:82] ولكنك لم تغير أعمالك.. وهذا كلُّه أماني وكلُّه جهل وكلُّه جاهلية، وصفاتنا اللاأخلاقية واللاسلوكية نجعلها هي الإسلام، ولذلك صار الإسلام ممقوتًا ومبغوضًا لكلِّ مَن لا يعرف حقيقته، سواء كان أصله مسلمًا أو أصله غير مسلم، والإسلام هو سعادة الإنسان والمجتمع والشعوب والعالَم.. في البوسنه والهرسك لو كان شعب البوسنه والهرسك مسيحيًّا، والإسلام يملك ما تملكه أمريكا، فهل يرضى الإسلام أن يُضطهَد إنسانٌ مسيحيٌّ أو يهوديٌّ أو بوذيٌّ أو مِن أيِّ دِينٍ كان؟ ﴿إِن اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ هل للمسلمين فقط أم لعموم الخلق أجمعين؟ ﴿إِن اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل:90].
العدل واجب حتى مع غير المسلمين
أتى يهوديٌّ إلى النبي ﷺ، وكان النبي ﷺ يستدين مِن اليهود ولا يستدين مِن المسلمين ليعلِّم الناس كيف نعامل الأقلية غير المسلمة، فأتى اليهودي وأمسك النبي ﷺ مِن صدره، وشدَّه حتى ظهر أثر الشّدّ على عنق النبي ﷺ وقال له: “أنتم يا بني عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مُطُلٌ” لم تدفع لي حقِّي، [ولم يحن موعد السداد بعد]، فقام إليه عمرُ أو بعض الصحابة ليضربوه أو يؤذوه لاعتدائه على كرامة النبي ﷺ، فماذا قال الإسلام المتمثِّل بالنبي الحاكم القوي ﷺ؟ قال: ((هَلَا كُنتُمْ مَع صاحِبِ الحَقِّ؟)) مَن صاحب الحقِّ؟ هل هو مسلمٌ؟ لا، بل يهودي، وليس له حقٌّ أن يقابل المديون بهذا الشكل، ومَن المديون؟ رجل الدولة ورجل الدِّين وخاتم النبيين ﷺ، قال: ((هَلَا كُنتُمْ مَع صاحِبِ الحَقِّ؟ إِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا)) حتى ولو اعتدى عليَّ، لكنَّه على كل حال أعطاني وساعدني، ولو تجاوز عليَّ يجب عليَّ أن أتحمله، ((قُم إلَيهِ يا عُمرُ، فَأدِّ إلَيهِ حَقَّهُ وَزِدْهُ عَلَى حَقِّهِ لأنَّكَ رَوعْتَهُ)) .
هذا هو الإسلام، وهذا هو العدل، وهذه هي الإنسانية، وهذه هي الأخلاق، وبهذا يتحقَّق السلام، وبهذا تُضمَن حقوق الإنسان، أمَّا هذه العناوين الحديثة فكلُّها وراءها الأغراض الاستعمارية، وقد يكون معها أمور إنسانية لكن لا للتطبيق، بل يطبَّق منها نصف واحد بالمئة، وتسعة وتسعون لأهدافٍ سياسيةٍ أو استعمارية غير سياسية.. إلخ.
﴿وَمَنْ يَتقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق:2-3] هل يرزقه الله بالبطالة أم بالعمل؟ وهل بالأسباب والمسبَّبات أم بلا أسبابٍ ولا مسبَّبات؟
﴿وَمَن يَتَوَكلْ عَلَى اللهِ﴾ على منهاجه وعلى تخطيطه وعلى شرعه وعلى ما أوجب وفرض ﴿فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق:3] يكفينا تشريع الله عزَّ وجلَّ المشروح والمفصَّل بأعمال رسول الله ﷺ وأقواله، وما يستجدُّ مِن أمور مستجَدَّة نُعمِل فيها عقلنا، وحيث ما كانت المصلحة العامة فثَمَّ شرع الله تعالى ودِينه.. ((لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ)) .
كل شيء يسير حسب قوانين الله تعالى
﴿إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾ [الطلاق:3] لله عز وجل قوانين كونية، وهذه القوانين الكونية نافذةٌ، فشروق الشمس قانون، وغروبها قانون، والشتاء والصيف وكيفية الخلق مِن نطفة ثم تطورها، والزرع، كل هذا قوانين.. ﴿إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾ في قوانينه أنه مَن اتَّقى وآمن وعمل صالحًا ونصر دِين الله عز وجل فسينصره، ومَن أهمل دِين الله وقوانينه، ولم يمتثل أوامره فسَيَكِله إلى نفسه فيُخْذَل في الحياة، وسيكون شقيًّا في الحياة وبعد الممات، وأمَّا أن يصل الإنسان إلى ما يتمنَّى بالأماني فالقرآن يقول: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيكُمْ وَلَا أَمَانِي أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [النساء:123].
وقال الله تعالى: ﴿قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُل شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق:3] قدَّر الله عز وجل الأمور، فقدَّر بأن الولد يأتي إذا تزوَّجت، وأنك تحصد إذا حرثتَ وبذرتَ، وتشبع إذا أكلتَ وشربتَ، وتتعلَّم إذا تعلَّمتَ، ﴿قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُل شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق:3] فكل شيء بنظام؛ الكون بنظام والهواء بنظام والشمس بنظام، والكواكب بنظام، والحياة السعيدة بنظام، والنجاح بنظام، والفشل بترك النظام، فإذا مشيتَ على التخطيط الإلهي واتبعتَّ النظام في كل شيءٍ بحسبه فقد نَصرتَ دِين الله عزَّ وجلَّ وستكون ناجحًا منتصرًا في كل شؤونك.
عِدة المرأة التي لا تحيض
لَمَّا نزلت الآيات في سورة البقرة عن عِدَّة المرأة إذا تُوفِّي عنها زوجها أنها يجب أن تُمسك عن الزواج أربعة أشهرٍ وعشرًا، وقال في المطَّلقات في سورة البقرة: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبصْنَ بِأَنْفُسِهِن ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة:228] يعني ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار، قالوا: يا رسول الله ﷺ فإذا كانت المرأة لا تحيض، إما لبلوغها سن اليأس أو لصغرها؟ قال: ﴿وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ المتقدِّمة في السن ﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾ إذا ما عرفتم حُكمها الشرعي مِن حيث العِدَّة ﴿فَعِدتُهُن ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ والصغيرات كذلك حُكمها ثلاثة أشهرٍ إذا طلَّقها زوجها، ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ﴾ إذا كانت حُبلى يمكن أن تتزوَّج إذا طلِّقت أو مات زوجها إذا وضعت حملها، حتى ولو طُلِّقت الآن أو مات زوجها الآن وولدت بعد ساعة أو بعد يوم فعدتها انتهت بولادتها: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُن أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُن وَمَنْ يَتقِ اللهَ﴾ [الطلاق:4] أعاد الله تذكيرنا بالتقوى في موضوع الطلاق في سورة الطلاق، والتقوى بالشكل عام، وهنا بشكلٍ خاص في معاملة المرأة مِن طرف الرجل بأن لا يعتمد على قوة رجولته أو عضلاته أو غناه أو سلطانه، كأن يكون حاكمًا أو سفيرًا أو ما شابه، فالله تعالى أقوى.
مفهوم الإيمان بالقضاء والقدر
أعاد الله عز وجل وقال: ﴿وَمَنْ يَتقِ اللهَ﴾ يعني في شأن المرأة وفي صورة خاصة المطلقة، وبشكلٍ عام التقوى في كل الشؤون ﴿يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق:4] فإذا كنتَ مديونًا واتقيت الله بالدَّين فسيوفي الله عز وجل عنك دَينك، وإذا كنت واقعًا في همٍّ واتَّقيت الله ورضيتَ بقضاء الله وقَدَره، أو أصابتك مصيبة وآمنت بالقضاء والقدر فيُخفِّف الله عزَّ وجلَّ عليك تحمُّل العناء والبلاء والهمِّ.. وأكثر الناس الآن إيمانهم بالقضاء والقدر يكاد يكون مفقودًا.
فالإيمان بالقضاء والقدر يكون إذا وقعت عليك مصيبة بأن تقول: إنَّ الله عَلِم في عِلمه الأزلي القديم بأن هذا الأمر سيقع، وإذا وقع لا يعني هذا أنَّ الله أكرهني على أنْ يقع عليَّ، بل يقع لخطئي ولسوء تصرُّفي، وليس معنى القضاء والقدر أنَّ الله يُجبر الإنسان على أن يعمل هذا العمل الذي يكون عليه وفيه مصيبةٌ أو كارثة، فالقضاء والقدر عِلم الله الأزلي بأنه سيموت ولدك أو تخسر تجارتك أو تموت أغنامك، ويكون هذا بسبب من الأسباب، قد يكون بتقصير أو بشكل وبائي أو بشكلٍ مِن الأشكال، فالله عز وجل يعلم أنَّ هذا الأمر سيكون، كما أنَّ الشمس ستطلع، وأنت مصاب بالرمد، لكنك تعرف أنَّ الشمس لا بدَّ مِن أن تطلع، والشمس تؤذي عيونك، فهل تغضب إذا طلعت الشمس؟ لا، لماذا؟ لأنك قد وطَّنت نفسك بأن هذا الأمر لا بدَّ مِن أن يقع، فإذا كان الوقت أربعينية الشتاء وصارت درجة الحرارة صفر، واشتدَّ البرد، فهل تغضب؟ لا، لأنك تعرف أنَّ هذا الأمر لا بدَّ منه ولا مَفرَّ منه، سواء كان عندك مدفأة أو لم يكن عندك مدفأة، فقد وطَّنت نفسك أنك ستَقبل هذا الشيء.
فالإيمان بالقضاء يكون إنْ مات لك عزيز، أو خسرت تجارتك، أو ماتت أغنامك، أو صقع زرعك، أو انقلبت سيارتك بحادث، أو فقدتَ مَن فقدتَ، فإنك تعلم أنَّ الله قدَّر هذا قَبل أن يخلقك، وهو يعلم أنه سيقع في الوقت الفلاني وبالشكل الفلاني بسبب خطئك أو خطأ غيرك، لا أنَّ الله يفرضه عليك وأنت عملُك مصيبٌ، فلا يحدث شيء إلَّا بأسبابٍ ومسبِّبات، وكما ورد: ((إذا أَرادَ اللهُ أَمرًا هَيَّأَ أَسبَابَهُ)) ، فاستعمال الأسباب من الواجبات الدينية.
﴿قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُل شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق:3] نظامًا، فالأمور الإلهية في الخَلْق قائمة على القوانين، وفي التشريع الإلهي قائمة على القوانين، والإيمان قائم على القوانين، وكل هذا لمصلحة الإنسان وسعادته إذا أحسن فهمه، فإذا أحسنتَ فهم استعمال السيارة تكون لك سعادةً، وإذا أسأتَ استعمالها أو جهلتَ استعمالها فبدل أنْ تُوصلك إلى “المَصَائِف” تُوصلك إلى الآخرة، [المصَائِف: جمع مَصيف، وهو مكان النزهة في الصيف] فهل الحقُّ عليها أم الحقُّ على جهلك؟ وكذلك الناس إذا أَعرضوا عن الدِّين فهو لسوء فهمهم لحقائق الدِّين.. ولا سعادة للإنسان إلَّا بأن يتَّصل قلبه بالله عزَّ وجلَّ، وعقله بقوانين الله، وأن تكون حياته تطبيقًا لهذه القوانين، وبذلك تكون السعادة للجميع، مِن مستوى العالَم إلى مستوى الفرد، كما خاطب الله سيدنا محمدًا ﷺ بقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107].